حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

ج45.وج46. تفسير اللباب في علوم الكتاب

 

ج45.وج46. تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني


ج45. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
قوله تعالى : { والله أَنْزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } الآية اعلم أنَّ المقصود الأعظم من هذا القرآن العظيم تقرير أصول اربعة : الإلهيَّات ، والنبوات ، والمعاد ، وإثبات القضاء والقدر ، والمقصود الأعظم من هذه الأصول الأربعة : تقرير الإلهيَّات ، فلهذا السَّبب كلَّما امتد الكلام في فصل من الفصول ، عاد إلى تقرير الإلهيَّات ، فههنا لمَّا امتد الكلام في وعيد الكفار ، عاد إلى تقرير الإلهيَّات ، فقال : { والله أَنْزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } وقد تقدَّم تقرير هذه الدَّلائلِ .
وقال تعالى : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } سماع إنصاف وتدبُّر؛ والمراد : سماع القلوب لا سماع الآذان .
والنوع الثاني من الدَّلائلِ : الاشتدلالُ بعجائب أحوالِ الحيواناتِ .
قوله تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ } والعِبرةُ : العِظةُ .
قرأ ابن كثير ، و أبو عمرو ، وحفص عن عاصم ، وحمزة والكسائي « نُسْقِيكمْ » بضمِّ النون هنا ، وفي المؤمنين ، والباقون بفتح النون فيهما .
وهذه الجملة يجوز أن تكون مفسِّرة للعبرة ، كأنه قيل : كيف العبرة؟ فقيل : نسقيكم من بين فرثٍ ، ودم لبناً خالصاً ، ويجوز أن يكون خبراً لمبتدأ ، [ مضمر ] ، والجملة جواب لذلك السؤال ، أي : هي ، أي : العبرة نسقيكم ، ويكون كقوله : « تَسْمعُ بالمُعيْديِّ خَيرٌ مِنْ أن تَراهُ » .
واختلف النَّاس : هل سَقَى ، وأسْقَى لغتان بمعنى واحدٍ ، أم بينهما فرقٌ؟ .
خلافٌ مشهورٌ ، فقيل : هما بمعنى واحد ، وأنشد جمعاً بين اللغتين فقال : [ الوافر ]
3333- سَقَى قَومِي بَنِي مَجْدٍ وأسْقَى ... نُمَيْراً والقَبائِلَ من هِلال
دعى للجميع بالسقي ، والخصب ، و « نُمَيْراً » هو المفعول الثاني ، أي : ما نميراً ، وللداعي لأرض بالسقيا وغيرها : أسقى فقط .
وقال الأزهري - رحمه الله- : العرب تقول لكلِّ ما كان من بطُونِ الأنعام ، ومن السَّماء ، أو نهر يجري أسقيته ، أي : جعلته شرباً له ، وجعلت له منه مسقى ، فإذا كان للمنفعة قالوا : « سَقَى » ، ولم يقولوا : « أسْقَى » .
وقال الفارسيُّ : « سقيْتهُ حتَّى رَوِيَ ، وأسْقَيتهُ نَهْراً جَعَلتهُ لَهُ شرباً » .
وقيل : سقاهُ إذا ناوله الإناء؛ ليشرب منه ، ولا يقال من هذا أسقاه .
وقرأ أبو رجاء « يُسْقِيكُمْ » بضمِّ الياء من أسفل ، وفي فاعله وجهان :
أحدهما : هو الله - تعالى- .
والثاني : أنه ضمير النَّعم المدلول عليه بالأنعام ، أي : نعماً يجعل لكم سقياه .
وقرئ : « تَسْقِيكُمْ » بفتح التاء من فوق . قال ابن عطيَّة : وهي ضعيفةز
قال أبو حيَّان : « وضعفها عنده - والله أعلم - أنه أنَّث في : » نُسقِيكُم « وذكر في قوله : » ممَّا في بطُونهِ « ، ولا ضعف من هذه الجهة؛ لأنَّ التَّذكير ، والتَّأنيث باعتبارين » .
قال شهابُ الدِّين : وضعفها عنده من حيث المعنى ، وهو أنَّ المقصود الامتنان على الخلقِ ، فنسبة السقي إلى الله هو الملائمُ لا نسبته إلى الأنعام .
قوله : { مِمَّا فِي بُطُونِهِ } يجوز أن تكون « مِنْ » للتبعيض ، وأن تكون لابتداء الغاية وعاد الضمير ها هنا على الأنعام مفرداً مذكراً .
قال الزمخشريُّ : ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال ، كقولهم « ثَوْب أسْمَال » ، ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً ، وأمَّا { فِي بُطُونِهَا } [ المؤمنون : 21 ] في سورة المؤمنين ، فلأنَّ معناه الجمع ، ويجوز أن يقال في « الأنعام » وجهان :
أحدهما : أن يكون جمع تكسير : « نَعَم » كأجْبَال في جَبَل .
وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمعِ ، فإذا ذكر ، فكما يذكر « نَعَم » في قوله : [ الرجز ]
3334- في كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ يَحْوُونَهُ ... يُلْقِحهُ قَومٌ ويَنتِجُونَهُ
وإذا أنَّث ففيه وجهان : أنه تكسير نعم ، وأنه في معنى الجمع .
قال أبو حيَّان : أمَّا ما ذكرهُ عن سيبويه ، ففي كتابه في هذا الباب ، ما كان على مثال مفاعل ، ومفاعيل ما نصُّه : « وأمَّا أجمال ، وفلوس فإنَّها تنصرف ، وما أشبهها؛ لأنها ضارعت الواحد ، ألا ترى أنك تقول : أقْوَال ، وأقَاوِيل ، وأعْرَاب ، وأعَارِيب ، وأيْدٍ ، وأيَادٍ فهذه الأحرف تخرج إلى مثال : مفَاعِل ، ومفَاعِيل كما يخرج إليه الواحد ، إذا كسر الجمع ، وأما مفاعل ، ومفاعيل ، فلا يكسر؛ فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا البناء؛ لأنَّ هذا البناء هو الغاية فلما ضارعت الواحد صرفت » .
ثمَّ قال : وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس؛ لأن يجمع جمعاً لأخرجته إلى فَعائِل كما تقول : جَدُود ، وجَدائِد ، ورَكُوب ، ورَكائِب ، وركاب .
ولو فعلت ذلك بمفاعل ، ومفاعيل ، لم يجاوز هذا البناء ، ويقوي ذلك أنَّ بعض العرب تقول : « أُتي » للواحد فيضم الألف ، وأمَّا أفعال؛ فقد تقع للواحد ، من العرب من يقول : « هو الأنعامُ » ، قال - الله عزَّ وجلَّ- : { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } . وقال أبو الخطَّاب : سمعت من العرب من يقول : هذا ثوب أكياش .
قال : والذي ذكره سيبويه : هو الفرق بين مفاعل ومفاعيل ، وبين أفعال وفُعول وإن كان الجميع أبنية للجمع من حيث إنَّ مفاعل ، ومفَاعِيل لا يجمعان ، وأفعالٌ وفعولٌ قد يخرجان إلى بناء شبه مفاعل ، أو مفاعيل فلما كانا قد يخرجان إلى ذلك انصرفا ، ولم ينصرف « مفاعل » و « مفاعيل » لشبه ذينك بالمفرد من حيث إنه يمكن جمعها وامتناع هذين من الجمع ، ثمَّ قوي شبههما بالمفرد بأن بعض العرب يقول في « أَتى » « أُتى » بضم الهمزة ، يعني أنه قد جاء نادراً فعول ، من غير المصدر للمفرد ، وبأن بعض العرب قد يوقع أفعالاً للمفرد من حيث أفرد الضمير فيقول : هو الأنعامُ ، وإنَّما ذلك على سبيل المجاز؛ لأنَّ الأنعام في معنى النعم والنَّعَم يفرد؛ كحما قال الشاعر : [ الوافر ]
3335- تَركْنَا الخَيْلَ والنَّعََ المفدَّى ... وقُلْنَا للنِّساءِ بها : أقِيمِي
ولذلك قال سيبويه : طوأمَّا أفعال فقد يقع للواحد « فقوله : » قد يقع للواحد « دليلٌ على أنه ليس ذلك بالوضع ، فقول الزمخشريُّ : » إنَّه ذكره في الأسماءِ المفردةِ على أفعال « تحريف في اللفظ ، وفهم عن سيبويه ما لم يرده ، ويدلُّ على ما قلناه : أنَّ سيبويه حين ذكر أبنية الأسماء المفردة نص على أنَّ أفعالاً ليس من أبنيتها .
قال سيبويه في باب ما لحقته الزِّيادة من بنات الثلاثة : » وليس في الكلام أفعيل ، ولا أفْعَول ، ولا أُفْعَال ، ولا أفْعِيل ، ولا أفعالُ إلا أن تكسِّر عليه اسماً للجمع « ، قال : » فهذا نصٌّ منه على أنَّ أفعالاً لا يكون في الأسماء المفردة « .
قال شهاب الدِّين : الَّذي ذكره الزمخشريَّ ، وهو ظاهر عبارة سيبويه ، وهو كافٍ في تسويغ عودِ الضمير مفرداً ، وإن كان أفعالاً قد يقع موقع الواحد مجازاً ، فإنَّ ذلك ليس بصائرٍ فيما نحن بصدده ، ولم يحرِّف لفظه ، ولم يفهم عنه غير مراده لما ذكرناه من هذا المعنى الذي قصده .
وقيل : إنَّما ذكر الضمير؛ لنه يعود على البعض ، وهو الإناثُ؛ لأنَّ الذُّكور لا ألبان لها ، والعبرة إنَّما هي في بعض الانعام .
وقال الكسائي - رحمه الله - : » أي في بطون ما ذُكِر « .
قال المبرِّد : وهذا سائغ في القرآن ، قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } [ عبس : 11 ، 12 ] اي : هذا الشيء الطَّالع ، ولا يكون هذا إلاَّ في التَّأنيث المجازي .
ولا يجوز : جاريتك ذهب ، وغلامك ذهبت ، وعلى هذا خرج قوله : [ الرجز ]
3336- فِيهَا خَطوطٌ من سَوادٍ وبَلقْ ... كأنَّهُ في الجِلْدِ تَوليعُ البَهَقْ
أي : كأن المذكور .
وقيل : جمع التكسير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة ، ومعاملة الجمع .
ففي هذه السورة اعتبر معنى الجمع ، وفي سورة المؤمنين ، اعتبر معنى الجماعة ، ومن الأوَّل قول الشَّاعر : [ الرجز ]
3337- مِثْلُ الفِراخِ نُتفَتْ حَواصِلُه ... وقيل : لأنه يسدُّ مسدَّ الواحد يُفهم الجمع فإنه يسد مسده نعم ، ونعم يفهم الجمع؛ ومثله قول الشاعر : [ الرجز ]
3338- وطَابَ ألبَانُ اللِّقاحِ وبَرَد ... لأنه يسد مسدَّها » لبن « .
ومثله قولهم هو أحسن الفتيان ، وأجمله أي : أحسن فتى إلاَّ أنَّ هذا لا ينقاس عند سيبويه وأتباعه .
وذكر أبو البقاء ستَّة أوجهٍ تقدم منها في غضون ما ذكر خمسة ، والسادس : أنه يعود على الفحل؛ لأنَّ اللبن يكون من طرق الفحلِ الناقة ، فأصل اللَّبن من الفحل .
قال : » وهذا ضعيف؛ لأنَّ اللبن ، وإن نسب إلى الفحل ، فقد جمع البطون وليس في فحل الأنعام إلاَّ واحداً ، ولا للواحد بطون ، فإن قيل : أراد الجنس ، فقد ذكر « .
يعني أنه قد تقدَّم أنَّ التَّذكير باعتبار جنس الأنعام ، فلا حاجة إلى تقدير عوده على فحلٍ المراد به الجنس ، وهذا القول نقله مكي عن إسماعيل القاضي - رحمه الله - ولم يعقبه بنكير .
قال القرطبي : واستنبط القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير أن لبن الفحل يقبل التَّحريم .
وقال : إنَّما جيءَ به مذكَّراً؛ لأنَّه راجع إلى ذكر النِّعم؛ لأنَّ اللَّبن للذَّكرِ محسوب ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ اللبن محرِّمٌ حين أنكرته عائشة - رضي الله عنها - في حديث : « أفْلحَ أخي أبِي القعيس فلِلمَرْأةِ السَّقيُ وللرَّجُلِ اللِّقاحُ » .
أحدها : أنَّه متعلق بالسّقي على أنَّها لابتداء الاية ، فإن جعلنا ما قبلها كذلك ، تعين أن يكون مجرورها بدلاً من مجرور « من » الأولى ، لئلا يتعلَّق عاملان متَّحدان لفظاً ومعنى [ بمعمول ] واحد ، وهو ممتنع إلا في بدل الاشتمال؛ لأنَّ المكان مشتملٌ على ما حلَّ فيه ، وإن جعلتها للتَّبعيض هان الأمر .
الثاني : أنَّها في محل نصبٍ على الحالِ من « لَبناً » ، إذ لو تأخَّرت ، لكانت مع مجرورها نعتاً . قال الزمخشريُّ : « وإنَّما قدِّم؛ لأنه موضع العِبرة ، فهو قمنٌ بالتَّقدم » .
الثالث : أنَّها مع مجرورها حالٌ من الضمير الموصول قبلها .
والفَرْثُ : فضالة ما يبقى من العلفِ في الكرشِ ، وكثيفُ ما يبقى من الأكل في الأمعاء ، ويقال : فرث كبده ، أي : فتَّتها ، وأفرث فلانٌ فلاناً؛ أونقعه في بليَّة يجرى مجرى الفرث .
روى الكلبيُّ عن أبي صالح عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أنه قال : « إذا استقرَّ العلف في الكرش ، صار أسفله فرثاً ، وأعلاه دماً ، وأوسطه لبناً ، فيجري الدَّمُ في العروقِ واللبن في الضَّرع ، ويبقى الفرث كما هو » .
قوله : « لَبَناً » هو المفعول الثاني للسَّقي .
وقرئ : « سَيِّغاً » بتشديد الياءِ ، بزنة « سَيِّد » وتصريفه كتصريفه . وخفف عيسى بن عمر ، نحو « مَيْتٍ » ، و « هَيْنٍ » ، ولا يجوز أن يكون فعلاً ، إذ كان يجب أن يكون سوغاً كقول .
ومعنى : « سَائغاً للشَّاربينَ » ، أي هنيئاً يجري بسهولة في الحلق ، وقيل : إنه لم [ يشرق ] أحدٌ باللَّبن قطُّ .
فصل
قال ابن الخطيب : اللَّبنُ والدَّم لا يتولدان ألبتَّة في الكرشِ ، والدَّليلُ عليه الحسُّ ، فإنَّ هذه الحيوانات تذبحُ ذبحاً متوالياً ، وما رأى أحدٌ في كرشها لا دماً ، ولا لبناً ، ولو كان تولد الدَّم ، واللَّبن في الكرش؛ لوجب أن يشاهد ذلك في بعض الأحوال ، والشيء الذي دلَّت المشاهدة على فساده؛ لم يجز المصير إليه ، بل الحق أنَّ الحيوان إذا تناول الغذاء ، ووصل ذلك العلف إلى معدته إن ك ان إنساناً ، وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها ، فإذا طبخ ، وحصل الهضمُ الأول فيه ، فما كان منه صافياً انجذب إلى الكبد ، وما كان كثيفاً ، نزل إلى الأمعاء ، ثمَّ ذلك الذي يحصل منه في الكبد ينطبخ فيها ، ويصير دماً ، وذلك هو الهضم الثاني ، ويكون ذلك الدم مخلوطاً بالصَّفراءِ ، والسَّوداء ، وزيادة المادة المائية ، أمَّا الصفراء ، فتذهب إلى المرارة ، والسَّوداءُ إلى الطحالِ ، و الماء إلى الكلية ، ومنها إلى المثانة ، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة ، وهي العروقُ النابتة من الكبدِ ، وهناك يحصل الهضمُ الثالث ، وبين الكبد ، وبين الضَّرع عروق كثيرة ، فينصبُّ الدَّم من تلك العروق إلى الضَّرع والضرع لحمٌ غدديٌّ رخو أبيض ، فيقلب الله - تعالى - الدم عند إصبابه إلى ذلك اللَّحم الغددي الرَّخو الأبيض ، من صورة الدَّم إلى صورة اللَّبن فهذا هو القول الصحيح في كيفية تولد اللبن .
فإن قيل : هذه المعاني حاصلةٌ في الحيوان الذَّكر ، فلم لم يحصل منه اللَّبنُ؟ قلنا : الحكمة الإلهيَّة قد اقتضت تدبير كلِّ شيءٍ على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته ، فمزاج الذَّكر من كلِّ حيوان يجب أن يكون حاراً يابساً ، ومزاج الأنثى يجب أن يكون بارداً رطباً ، والحكمة فيه أنَّ الولد إنَّما يتكوَّن في داخل بدن الأنثى؛ فوجب أن يكون بدن الأنثى مختصاً بمزيد الرطوبات لوجهين :
الأول : أنَّ الولد إنما يتولَّد من الرطوبات ، فوجب أن يحصل في بدن الأنثى رطوبات كثيرة لتصير مادة لتولد الولد .
والثاني : أنَّ الولد إذا كبر ، وجب أن يكون بدن الأم قابلاً للتَّمدد؛ حتى يتسع لذلك الولد ، فإذا كانت الرُّطوبات غالبة على بدنِ الأم ، كان بدنها قابلاً للتَّمدد؛ فيتسع للولد ، فثبت بما ذكرنا أنه - تعالى - خصَّ بدن الأنثى من كل حيوانٍ بمزيد الرُّطجوبات لهذه الحكمة ، ثم إنَّ تلك الرطوبات التي كانت تصير مادة لازدياد بدن الجنين حين كان في رحم الأم ، فعند انفصال الجنين ، تنصب إلى الثَّدي ، والضرع ، ليصير مادَّة لغذاءِ ذلك الطفل الصَّغير ، فظهر أنَّ السبب الذي لأجله يتولَّد اللَّبن من الدَّم في حق الأنثى غير حاصل في حق الذَّكر ، فظهر الفرقُ .
وقد تقدَّم ما نقل عن ابن عباس - رضي الله عنه - في أنَّ الفرث يكون في أسفل الكرش ، والدم يكون في أعلاه ، و اللبن يكون في الوسطِ ، وبيَّنَّا أنَّ هذا القول على خلاف الحس والتجربة .
واعلم أنَّ حدوث اللَّبن في الثدي ، واتِّصافه بالصِّفات الموافقة لتغذية الطفل مشتمل على حكم عجيبة ، يشهد صريح العقل بأنَّها لا تحصل إلاَّ بتدبير الفاعل الحكيمِ والمدبر الرحيم ، وبيانه من وجوه :
الأول : أنه - تعالى - خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثقل الغذاءِ فإذا تناول الإنسان غذاء ، أو شربة رقيقة؛ انطبق ذلك المنفذُ انطباقاً كليًّا ، لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول ، والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة ، وينجذب ما صفا منه إلى الكبد ، ويبقى الثقل هناك ، فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ ، وينزل منه ذلك الثقل ، وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم؛ لأنه متى كانت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم من المعدة انفتح فحصل الانطباق تارة ، و الانفتاح أخرى ، بحسب الحاجة ، وتقدير المنفعة ممَّا لا يتأتَّى إلا بتدبير الفاعل الحكيم .
الثاني : أنه - تعالى - أودع في الكبدة قوةً ، تجذب الأجزاء اللطيفة الحاصلة في ذلك المأكول ، والمشروب ، ولا تجذب الأجزاء الكثيفة ، وخلق في الأمعاءِ قوَّة تجذب تلك الأجزاء الكثيفة التي هي الثقل ، ولا تجذب الأشياء اللطيفة ألبتَّة ، ولو كان الأمر بالعكس ، لاختلفت مصلحة البدن ، ولفسد نظامُ هذا التركيب .
الثالث : أنه - سبحانه وتعالى - أودع في الكبد قوَّة هاضمة طابخة ، حتَّى إنَّ تلك الأجزاء اللطيفة؛ تنطبخُ في الكبد ، وتنقلب دماً ، ثمَّ إنه - تعالى - أودع في المرارة قوَّة جاذبة للصَّفراء ، وفي الطحال قوَّة جاذبة للسَّوداء ، وفي الكلية قوة جاذبة لزيادة المائيَّة ، حتى يبقى الدم الصَّافي الموافق لتغذية البدن ، وتخصيص كلِّ واحد من هذه الأعضاء بتلك القوَّة الحاصلة ، لا يمكن إلا بتدبير الحكيم العليم .
الرابع : أنَّ في الوقت الذي يكون الجنين في رحم الأم ينصب من ذلك الدم نصيب وافر إليه حتى يصير مادة تنمي أعضاء ذلك الولد ، وازدياده ، فإذا انفصل ذلك الجنين عن الرَّحم ينصب ذلك النَّصيب إلى جانب الثَّدي ليتولد منه اللبن الذي يكون غذاء له ، فإذا كبر ذلك الولد لم ينصب ذلك النَّصيب لا إلى الرَّحم ، ولا إلى الثدي ، بل ينصبُّ على مجموع بدن المتغذي ، فانصبابُ ذلك الدَّم في كلِّ وقتٍ إلى عضوٍ آخر انصباباً موافقاً للمصلحة ، والحكمة لا يتأتَّى إلاَّ بتدبير الفاعل المختار الحكيم .
الخامس : أنَّ عند تولد اللَّبن في الضرع أحدث - تعالى - في حلمة الثَّدي ثُقوباً صغيرة ومسامًّا ضيِّقة ، ولما كانت هذه المسامُّ ضيِّقة جدًّا ، فحينئذ لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصَّفاء ، واللَّطافة ، وأمَّا الأجزاء الكثيفة فإنَّه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيِّقة فتبقى في الدَّاخل ، والحكمة في إحداث تلك الثُّقوب الصَّغيرة والمنافذ الضيِّقة في رأسِ الحلمة؛ لكي تكون كالمصفاة ، فكل ما كان لطيفاً خرج ، وما كان كثيفاً؛ احتبس في الدَّاخلِ ، فبهذا الطريق يصير ذلك اللَّبن خالصاً موافقاً لبدن الصَّبي « سَائِغاً للشَّاربين » .
السادس : أنه - تعلى - ألهم ذلك الصبي إلى المص؛ فإنَّ الأم إذا ألقت حلمة الثَّدي في فم الصبي ، فذلك الصبيُّ في الحال يأخذ في المص ، ولولا أنَّ الفاعل المختار الرحيم قد ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص ، وإلا لم يحصل تخليق ذلك اللبن في الثَّدي .
السابع : أنَّا بيَّنا أنه - تعالى - إنَّما خلق اللَّبن من فضلة الدَّم ، وإنما خلق الدَّم من الغذاء الذي يتناوله الحيوان ، فالشَّاة لمَّا تناولت العشب ، وتولَّد منه الدم ، وتولَّد اللبن من بعض أجزاء ذلك الدَّم ، ثمَّ إنّ اللبن حصلت فيه أجزاء ثلاثة على طبائع متضادة ، فما فيه من الدهن يكون حاراً رطباً ، وما فيه من المائيَّة يكون بارداً رطباً ، وما كان فيه من الجبنية يكون بارداً يابساً ، وهذه الطبائع ما كانت حاصلة في العشب الذي تناولته الشَّاة ، فظهر بهذين أنَّ هذه الأجسام لا تزال تنقلب من صفة غلى صفة ، ومن حالة إلى حالة ، مع أنَّه لا يناسب بعضه بعضاً ، ولا يشاكل بعضه بعضاً ، وعند ذلك فإنَّ هذه الأحوال إنما تحدث بتدبير فاعل مختار حكيم رحيم ، يدبِّر أحوال هذا العالم على وفق مصالح العبادِ .
قال المحققون - رضي الله عنهم- : اعتبار حدوث اللَّبن كما يدلُّ على وجود الصَّانع المختار ، فكذلك يدل على إمكان الحشر والنشر؛ لأنَّ العشب الذي يأكله الحيوان إنَّما يتولد من الماء والأرض ، فخالق العالم دبَّر تدبيراً آخر ، فقلب ذلك العشب دماً ، ثم دبَّر تدبيراً آخر فقلب ذلك الدَّم لبناً خالصاً ، ثمَّ أحدث من ذلك اللبن الدهن والجبن ، وهذا الاستقرار يجل على أنه - تعالى - قادرٌ على تقليب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ، ومن حالة غلى حالة ، وإذا كان كذلك ، لم يمتنع أيضاً أن يكون قادراً على قلب أجزاء ابدان الموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك ، فبهذا الاعتبار يدلُّ من هذا الوجه على أنَّ البعث والقيامة أمرٌ ممكنٌ غير ممتنع .
قوله : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه متعلق بمحذوف ، فقدَّره الزمخشري : ونسقيكم من ثمرات النَّخيل والأعناب ، أي : من عصيرها؛ وحذف لدلالة « نُسْقِيكُمْ » قبله عليه قال : « وتتَّخِذون بيان وكشف عن كيفية الإسقاء » .
وقدَّره ابو البقاء : خلق لكم أو جعل لكم وما قدَّره الزمخشري أليقُ .
لا يقال : لا حاجة إلى تقدير نسقيكم ، بل قوله : « ومِنْ ثَمراتِ » عطف على قوله : « ممَّا في بُطونهِ » فيكون عطف بعض متعلقات الفعل الأوّل على بعض؛ كما تقول : سَقيْتُ زيْداً من اللَّبنِ ومن العسَلِ ، فلا يحتاج إلى تقدير فعل قَبْل قولك : من العسل .
لا يقال ذلك؛ لن « نُسْقِيكُمْ » الملفوظ به وقع تفسير ل « عِبْرَة » الأنعام ، فلا يليق تعلُّق هذا به؛ لأنه ليس من العبرة المتعلِّقة بالأنعام .
قال أبو حيان : وقيل : متعلق ب « نُسْقِيكُمْ » فيكون معطوفاً على ممَّا في بُطونهِ « أو : ب » نسقيكم « محذوفة دلَّ عليها » نُسْقِيكُمْ « انتهى .
ولم يعقبه تنكير ، وفيه ما تقدَّم .
الثاني : أنه متعلق ب » تتَّخذُونَ « ، و » مِنْهُ « تكرير للظرف توكيداً؛ نحو : زيْدٌ في الدَّار فيها ، قاله الزمخشري - رحمه الله تعالى - وعلى هذا فالهاء في » مِنْهُ « فيها ستَّة أوجه :
أحدها : أنها تعود على المضاف المحذوف الذي هو العصير؛ كما رجع في قوله تعالى :
{ أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] إلى الأهل المحذوف .
الثاني : أنها تعود على معنى الثمرات؛ لأنها بمعنى الثَّمر .
الثالث : أنها تعود على النَّخيل .
الرابع : أنها تعود على الجنس .
الخامس : أنها تعود على البعض .
السادس : أنها تعود على المذكور .
الوجه الثالث من الأوجه الأول : أنه معطوف على قوله : « فِي الأنعَام » فيكون في المعنى خبراً عن اسم إنَّ في قوله - عز وجل- : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً } التقدير : وإن لكم في الأنعام ومن ثمرات النخيل لعبرة ، ويكون قوله : « تَتَّخِذُون » بياناً وتفسيراً للعبرة ، كما وقع « نُسْقِيكُمْ » تفسيراً لها أيضاً .
الرابع : أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف ، فقدَّره الطبري : ومن ثمرات النَّخيل والأعناب ما تتَّخذون .
قال أبو حيان : « وهو لا يجوز على مذهب البصريِّين » .
قال شهاب الدين : وفيه نظر؛ لأنَّ له أن يقول : ليست « ما » هذه موصولة ، بل نكرة موصوفة ، وجاز حذف الموصوف والصِّفة جملة؛ لأنَّ في الكلام « مِنْ » ، ومتى كان في الكلام « مِنْ » اطرد الحذف ، نحو : « مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقَامَ » ؛ ولهذا نظَّره مكيٌّ بقوله - تعالى - : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] ، أي : إلاَّ من له مقام معلوم ، قال : فحذفت « مَنْ » لدلالة « مِنْ » عليها في قوله : « ومَا منَّا إلاَّ لهُ » .
ولمَّا قدَّر الزمخشري الموصوف ، قدره : « ثمر تتَّخذون منه » ؛ ونظَّره بقول الشاعر : [ الرجز ]
3339- يَرْمِي بكفَّي كان مِنْ أرْمَى البَشرْ ... تقديره : بكفَّي رجلٍ ، إلا أنَّ الحذف في البيت شاذٌّ؛ لعدم « مِنْ » .
ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجه؛ قال : « وقيل : هو صفة لمحذوفٍ تقديره : شيئاً تتخذون منه بالنصب ، أي : وإن من ثمرات النَّخيل وإن شئت » شيءٌ « - بالرفع - على الابتداء ، و » مِنْ ثمراتِ « خبره » .
قال الواحدي : « و » الأعْنابِ « عطف على الثَّمرات لا على » النَّخيل « ؛ لنَّه يصير التقدير : ومن ثمرات الأعناب ، والعنب نفسه ثمرة وليس له ثمرة أخرى » .
والسَّكرُ : بفتحتين فيه أقوال :
أحدها : أنه من أسماء الخمر؛ كقول الشاعر : [ البسيط ]
3340- بِئْسَ الصُّحَاةُ وبِئْسَ الشَّرْبُ شَرْبُهُم ... إذَا جَرَى فِيهِمُ المُزَّاءُ والسَّكرُ
الثاني : أنه في الأصل مصدر ، ثم سمِّي به الخمر ، يقال : سَكرَ يَسْكَرُ سُكْراً وسَكَراً؛ نحو : رَشِد يَرشَدُ رُشْداً ورَشَداً؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
3341- وجَاءُونَا بِهمْ سَكَرٌ عَليْنَا ... فأجْلَى اليَومُ والسَّكرانُ صَاحِي
قاله الزمخشري .
الثالث : أنه اسم للخلِّ بلغة الحبشة؛ قاله ابن عبَّاس .
الرابع : أنه اسم للعصير ما دام حلواً؛ كأنَّه سمِّي بذلك لمىله لذلك لو ترك .
الخامس : أنه اسم للطعم ، قاله ابو عبيدةح وأنشد : [ الرجز }
3342- جَعَلتُ أعْراضَ الكِرامِ سَكَرَا ... أي : تنقلتُ بأعراضهم .
وقيل في البيت بأنه من الخمر ، وأنه إذا انتهك أعراض النَّاس كان يخمر بها .
وقال الضحاك والنَّخعي ومن يبيحُ شرب النبيذ : السَّكر هو النبيذ؛ وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتدَّ ، والمطبوخ من العصير .
ومن حرَّمه يقول : المراد من الآية : الإخبار لا الإحلال .
قوله : { وَرِزْقًا حَسَنًا } يجوز أن يكون من عطف المتغايرات ، وهو الظاهر؛ كما قال المفسرون : إنه كالزَّبيب والخلِّ والدِّبس ونحو ذلك وأن يكون من عطف الصِّفات بعضها على بعضٍ ، أي : تتَّخذون منه ما يجمع بين السَّكر والرِّزق الحسن؛ كقوله : [ المتقارب ]
3343 ... - إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمام
.. فصل
ذهب ابن مسعود ، وابن عمر ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد إلى أن السَّكر الخمر ، والرزق الحسن الخلُّ والربُّ والتَّمر والزَّبيب .
قالوا : وهذا قبل تحريم الخمر؛ لأن هذه السورة مكية ، وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة .
قال بعضهم : ولا حاجة إلى التزام النَّسخ؛ لأنه - تعالى - ذكر ما في هذه الأشياء من المنافع ، وخاطب المشركين بها؛ لأنها من أشربتهم ، فهي منفعة في حقِّهم .
ثم إنه - تعالى - نبَّه في هذه الآية أيضاً على تحريمها؛ لأنه ميَّز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر ، فوجب أنَّ السَّكر لا يكون رزقاً حسناً؛ وهو حسن بحسب الشَّهوة ، فوجب أن يقال : بأن الرجوع عن كونه حسناً بحسب الشَّريعة ، وإنَّما يكون كذلك إذا كانت محرَّمة .
ثم إنه - تعالى - لمَّا ذكر هذه الوجوه الَّتي هي دلائل على التَّوحيد من وجه ، وتعديد للنِّعم العظيمة من وجه آخر - قال - جل ذكره- : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : من كان عاقلاً ، علم بالضرورة أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله تعالى - ، فيحتجُّ بأصولها على وجود الإله القادر الحكيم .
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
قوله تعالى { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } الآية لما بيَّن أن إخراج الألبان من النَّعم ، وإخراج السَّكر من ثمرات النَّخيل والأعناب دلائلٌ قاهرة على أنَّ لهذا العالم إلهاً قادراً مختاراً حكيماً فكذلك إخراج العسل من النحل دليلٌ قاطع على إثبات هذا المقصود .
اعلم أنه - تعالى - قال : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } يقال : وحَى وأوْحَى وهو هنا الإلهام ، والمعنى : أنَّه - تعالى - قرَّر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر ، وبيانه من وجوه :
الأول : أنها تبني البيوت مسدَّسة من أضلاع متساوية ، لا يزيد بعضها على بعض بمجرَّد طبائعها ، والعقلاء من البشر لا يمكنهم بناء مثل تلك البيوت إلا بآلات وأدوات مثل : المسطرة والبيكار .
الثاني : أنه ثبت في الهندسة أنَّ تلك البيوت لو كانت مشكلة باشكال سوى المسدَّسات ، فإنه يبقى بالضَّرورة فيما بين تلك البيوت فرجٌ خالية ضائقة أما إذا كانت تلك البيوت مسدسة ، فإنه لا يبقى فيها فرج خالية ضائقة فاهتداء ذلك الحيوان الضَّعيف إلى تلك الحكمة الخفيَّة الدَّقيقة اللَّطيفة من الأعاجيب .
الثالث : أن النَّحل يحصل فيما بينها واحد يكون كالرَّئيس للبقيَّة ، وذلك الواحد يكون أعظم جثَّة من الباقي ، ويكون نافذ الحكم على البقيَّة وهم يخدمونه ويحملونه عند تعبه ، وذلك أيضاً من الأعاجيب .
الرابع : أنها إذا نفرت وذهبت من وكرها مع الجماعة إلى موضع آخر ، فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ، ضربوا الطبول وآلات الموسيقى ، وبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردِّها إلى أوكارها ، وهذه أيضاً حالةٌ عجيبةٌ ، فلمَّا امتاز هذا الحيوان بهذه الخواصِّ العجيبة الدالَّة على مزيد الذَّكاء والكياسة ، ليس إلا على سبيل الإلهام ، وهي حالة شبيهة بالوحي ، لا جرم قال - سبحانه وتعالى - في حقِّها : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } .
فصل
قال أبو العباس أحمد بن علي المقري - رحمه الله- : الوحي يردُ على ستَّة أوجه :
الأول : الرِّسالة؛ قال - تعالى- : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } [ النساء : 163 ] ، أي : أرسلنا إليك .
الثاني : الإلهام؛ قال - تعالى - : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } [ النحل : 68 ] .
الثالث : الإيماءُ ، قال - تعالى - : { فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ } [ مريم : 11 ] أي : أومأ إليهم .
الرابع : الكتابة ، قال - تعالى - : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } [ الأنعام : 121 ] أي : يكتبون إليهم .
الخامس : الأمر ، قال - تعالى - : { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 5 ] ، أي : أمرها .
السادس : الخلق ، قال - تعالى - : { وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } [ فصلت : 12 ] ، أي : خلق .
قال القرطبي : الإلهام هو ما يخلقه الله - تعالى - في القلب ابتداء من غير سبب ظاهرٍ؛ قال - تعالى - : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [ الشمس : 7 ، 8 ] ومن غير ذلك البهائم وما يخلقه الله فيها من إدراك منافعها ، واجتناب مضارِّها ، وتدبير معاشها ، وقد أخبر الله - تعالى - عن الأرض فقال :
{ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 4 ، 5 ] .
واعلم أن الوحي قد ورد في حقِّ الأنبياء؛ قال - تعالى - : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } [ الشورى : 51 ] ، وفي حقِّ الأولياء؛ قال - تعالى - : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } [ المائدة : 111 ] وبمعنى الإلهام في حقِّ بقية البشر؛ قال - تعالى- : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى } [ القصص : 7 ] وفي حقِّ سائر الحيوانات بمعنى خاصّ .
قال الزجاج : يجوز أن يقال : سمِّي هذا الحيوان نحلاً؛ لأن الله - تعالى - نحل النَّاس العسل الذي يخرج من بطونها .
وقال غيره : النَّحل يذكَّر ويؤنث على قاعدة أسماء الأجناس ، فالتأنيث فيها لغة الحجاز ، ولذلك أنثها الله - تعالى - وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلاَّ الهاء .
وقرأ ابن وثَّاب : « النَّحَل » بفتح الحاء ، فيحتمل أن يكون لغة مستقلة ، وأن يكون إتباعاً .
قوله « أن اتَّخذِي » يجوز أن تكون مفسِّرة ، وأن تكون مصدريَّة .
واستشكل بعضهم كونها مفسِّرة ، قال : لأنَّ الوحي هنا ليس فيه معنى القول؛ إذ هو الإلهام لا قول فيه .
وفيه نظر؛ لأن القول لكل شيء بحسبه .
و « مِنَ الجِبَالِ » « من » فيه للتبعيض؛ إذ لا يتهيَّأ لها ذلك في كل جبلٍ ولا شجر ، وتقدَّم القول في « يَعْرِشُون » ومن قرأ بالكسر والضم في الأعراف .
والمراد ب « ممَّا يَعْرِشُونَ » ما يبنون لها من الأماكن التي تأوي إليها ، وقرئ : « بِيُوتاً » بكسر الباء .
فصل
اعلم أن النَّحل نوعان :
أحدهما : ما يسكن الجبال والغياض ولا يتعهَّدها أحد من النَّاس .
والثاني : ما يسكن البيوت ويتعهَّدها الناس ، فالأول هو المراد بقوله عز وجل : { أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر } .
والثاني هو المراد بقوله - عز وجل - { وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } وهو خلايا النحل ، واختلفوا فيه .
فقال بعضهم : لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول مخصوصة ، بحيث يمكن أن يتوجَّه عليها أمر الله ونهيه .
وقال آخرون : المراد منه أنه - تعالى - خلق غرائز وطبائع توجبُ هذه الأحوال ، وسيأتي الكلام على ذلك في قوله - تعالى - : { ياأيها النمل } [ النمل : 18 ] إن شاء الله - تعالى- .
ثم قال - تعالى - : { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات } « مِنْ » هنا للتبعيض؛ لأنها لا تأكل من كلِّ الثمرات؛ فهو كقوله : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النحل : 23 ] أو لابتداء الغاية .
قال ابن الخطيب : رأيتُ في كتب الطبِّ أن الله - تعالى - دبًَّر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طلٌّ لطيف في الليل ، ويقع ذلك الطّلُّ على أوراق الأشجار ، وقد تكون الأجزاء الطليَّة لطيفة صغيرة متفرِّقة على الأوراق والأزهار ، وقد تكون كثيرة بحيث يجمع منها أجزاء متساوية محسوسة كالترنجبين ، فإنه طلٌّ ينزل من الهواء يجتمع على أطراف أوراق الشَّجر في بعض البلدان ، وذلك محسوس ، فالقسم الأول : هو الذي الهم الله - تعالى - هذا النَّحل ، حتى أنَّها تلتقط تلك الذرات من الأزهار والأوراق والأشجار بأفواهها ، وتأكلها وتتغذى بها ، فإذا شبعت ، التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئاً من تلك الأجزاء ، ثم تذهبُ بها إلى بيوتها وتضعها هناك كأنها تدَّخر لنفسها غذاءها ، فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير ، فذلك هو العسل .
ومنهم من يقول : إنَّ النَّحل تأكل من الزهار الطَّيبة والأوراق العطرة أشياء ، ثم إنه - تعالى - يقلِّب تلك الأجسام في داخل أبداناه عسلاً ، ثمَّ إنها تقيء مرَّة أخرى؛ فذلك هو العسل .
والأول أقربُ ، ولا شكَّ أنه طلٌّ يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار ، فكذلك ههنا ، ونحن نشاهد أن النَّحل إنَّما يتغذَّى بالعسل؛ ولذلك إذا أخرجوا العسل من بيوت النَّحل تركوا لها بقية من العسل لأجل أن يتغذى بها ، فعلمنا أنها تتغذَّى بالعسل ، وأنَّها إنما تقع على الأشجار والأزهار؛ ليتغذى بتلك الأجزاء الطلِّية العسليَّة الواقعة من الهواء ، وإذا كان ذلك ، فقوله : « مِنْ كلِّ الثَّمراتِ » أن « مِنْ » هنا لابتداء الغاية لا للتبعيض .
قوله : { فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ } أي : إذا أكلت من كل الثمرات ، فاسلكي سبل ربك الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل ، أو اسلكي في طلب تلك الثَّمرات سبل ربك .
قوله تعالى : « ذُلُلاً » جمع ذَلُول ، ويجوز أن يكون حالاً من السبل ، أي : ذلَّلها لها الله - تعالى -؛ كقوله - عز وجل - : { جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً } [ الملك : 15 ] وأن يكون حالاً من فاعل « اسْلُكِي » ، أي : مطيعة منقادة ، بمعنى أنَّ أهلها ينقلونها من مكانٍ إلى مكانٍ ولها يعسوب إذا وقف وقفت وإذا سار سارت .
وانتصاب « سُبُل » يجوز أن يكون على الظرفية ، أي : فاسْلُكِي ما أكلت في سبل ربك ، أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النوار ونحوه عسلا ، وأن يكون مفعولاً به أي : اسلكي الطُّرق التي أفهمك وعلَّمك في عمل العسل .
قوله : { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } التفات وإخبار بذلك ، والمقصود منه أن يحتجَّ المكلف به على قدرة الله وحكمته وحسن تدبيره .
واعلم أنَّا إذا حملنا الكلام على أنَّ النَّحل تأكل الأوراق والثَّمرات ثم تتقيَّأ ، فذلك هو العسل فظاهرٌ ، وإذا ذهبنا إلى أنَّ النحل يلتقط الأجزاء الطلية بفمه ، فالمراد من قوله : { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } ، أي : من أفواهها ، فكل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً ، كقولهم : بُطونُ الدِّماغِ ، أي : تجاويف الدماغ ، فكذا قوله - تعالى - { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } أي : من أفواهها .
قوله : { شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } أنَّه تارة يشرب وحده ، وتارة نتَّخذ منه الأشربة ، و { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } أبيض وأحمر وأصفر .
وقوله - تعالى- : { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } ، أي : في العسل .
روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : « جَاءَ رجلٌ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنَّ أخِي اسْتطلقَ بَطْنهُ ، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : اسْقِه عَسَلاً ، فَسَقاهُ ، ثمَّ جَاءَ فقال : إني سَقيْتهُ فَلمْ يزِدهُ إلاَّ اسْتِطلاقاً ، رسُول الله صلى الله عليه وسلم : » صَدَقَ الله وكَذبَ بَطْنُ اخِيك ، فَسقاهُ فَبَرأ « .
وقال عبد الله بن مسعود : » العَسلُ شِفاءٌ من كُلِّ داءٍ « .
فإن قيل : كيف يكون شفاء للناس وهو يضرُّ بالصفراء ويهيج المرار؟ .
فالجواب : أنه - تعالى - لم يقل : إنه شفاءٌ لكلِّ الناس وشفاء لكل داءٍ في كلِّ حال ، بل لمَّا كان شفاء للبعض ومن بعض الأدواء ، صلح بأن يوصف بأنه فيه شفاءٌ؛ والذي يدل على أنه شفاء في الجملة : أنه قلَّ معجون من المعاجين إلا وتمامه وكماله إنما يحصل بالعجن بالعسل ، والأشربة المتَّخذة منه في الأمراض البلغميَّة عظيمة النَّفع .
وقال مجاهد - رحمه الله- : المراد بقوله - تعالى - : { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } القرآن؛ لقوله - تعالى - : { وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 57 ] .
وقال - صلوات الله وسلامه عليه- : » عَلَيكُم بِالشِّفاءَيْنِ : العَسلِ والقُرآنِ « .
وعلى هذا تمَّ الكلام عند قوله : { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } ، ثم ابتدأ وقال : { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } أي : في هذا القرآن .
وهذا القول ضعيف؛ لما تقدم من الحديث؛ ولأنَّ الضمير يجب عوده إلى أقرب مذكور وهو الشَّراب ، وأما عوده إلى غير مذكور ، فلا يناسب .
فإن قيل : ما المراد بقوله - صلوات الله وسلامه عليه- : » وكَذبَ بَطْنُ أخِيكَ «
؟ . فالجواب : لعلَّه - صلوات الله وسلامه عليه - علم بالوحي أنَّ ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك ، فلمَّا لم يظهر نفعه في الحال - مع أنه - عليه الصلاة و السلام - كان عالماً بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك - كان هذا جارياً مجرى الكذب ، فلهذا أطلق عليه هذا اللفظ .
ثم إنه - تعالى - ختم الآية بقوله - تعالى- : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : ما ذكرنا من اختصاص النَّحل بتلك العلوم الدقيقة والمعارف الغامضة؛ مثل بناء البيوت المسدَّسة واهتدائها إلى جمع تلك الأجزاء الواقعة من جو الهواء على أطراف أوراق الأشجار بعد تفرُّقها ، فكل ذلك أمور عجيبة دالَّة على أنَّ إله هذا العالم رتَّبه على رعاية الحكمة والمصلحة .
قوله - تعالى - : { والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ } الآية لمَّا ذكر - تعالى - عجائب أحوال الأنهار والنَّبات والأنعام والنَّحل ، ذكر بعض عجائب أحوال الناس في هذه الآية .
واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع مراتب :
أولها : سنُّ النشوء والنَّماء .
وثانيها : سن الوقوف وهو سنُّ الشباب .
وثالثها : سن الانحطاط القليل ، وهو سنُّ الكهولة .
ورابعها : الانحطاط الكبير ، وهو سن الشيخوخة .
فاحتجَّ - تعالى - بانتقال الحيوان من بعض هذه المراتب إلى بعض ، على أن ذلك النَّاقل هو الله - تعالى - ثم قال : { ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ } عند قضاء آجالكم صبياناً ، أو شباباً ، أو كهولاً أو شيوخاً .
{ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } ، أي : أردأه لقوله - عزَّ وجلَّ- : { واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ] وقوله - تعالى- : { إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا } [ هود : 27 ] .
قال مقاتل : يعني الهرم . وقال قتادة : تسعون سنة .
وقيل : ثمانون سنة .
قيل : هذا مختصٌّ بالكافر؛ لأن المسلم لا يزداد بطول العمر إلا كرامة على الله ، ولا يجوز أن يقال إنه رده إلى أرذل العمر؛ لقوله - تعالى- : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ التين : 5 ، 6 ] ، فبيَّن أن الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات ما ردُّوا إلى أسفل سافلين .
وقال عكرمة : من قرأ القرآن ، لم يردَّ إلى ارذل العمر .
قوله : « لِكَيْلا » في هذه اللاَّم وجهان :
أحدهما : أنَّها لام التعليل ، و « كَيْ » بعدها مصدرية ليس إلا وهي ناصبة بنفسها للفعل بعدها ، وهي منصوبة في تأويل مصدر مجرور باللام ، واللام متعلقة ب « يُرَدُّ » .
قال الحوفيُّ : إنها لام « كَيْ » ، و « كَيْ : للتأكيد .
وفيه نظر؛ لأنَّ اللام للتَّعليل و » كَيْ « بعدها مصدريَّة لا إشعار لها بالتَّعليل والحالة هذه ، وأيضاً فعملها مختلف .
والثاني : أنها لام الصَّيرورة .
قوله : » شَيْئاً « يجوز فيه التنازع؛ لأنه تقدمه عاملان : يعلمُ وعِلْم ، أي : الفعل والمصدر ، فعلى رأي البصريِّين - وهو المختار - يكون منصوباً ب » عِلْمٍ « وعلى رأي الكوفيين يكون منصوباً ب » يَعْلمَ « .
وهو مردود؛ إذ لو كان كذلك لأضمر في الثاني ، فيقال : لكيلا يعلم بعد علم إيَّاه شيئاً .
ومعنى الآية : لا يعقل بعد عقله الأوَّل شيئاً ، إن الله عليم قدير .
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : يريد بما صنع أولياؤه وأعداؤه ، » قَدِيرٌ « على ما يريد .
فصل
هذه الآية كما دلَّت على وجود الإله العالم القادر الفاعل المختار ، فهي أيضاً تدلُّ على صحَّة البعث والقيامة؛ لأنَّ الإنسان كان معدوماً محضاً ، ثمَّ أوجده الله ، ثم أعدمه مرَّة ثانية ، فدلَّ على أنَّه لمَّا كان معدوماً في المرة الأولى ، وكان عوده إلى العدم في المرَّة الثانية جائزاً؛ فلذلك لمَّا صار موجوداً ثم عدم ، وجب أن يكون عوده إلى الوجود في المرَّة الثانية جائزاً ، وأيضاً : كان ميّتاً حين كان نطفة ، ثم صار حيًّا ، ثمَّ مات فلما كان الموت الأوَّل جائزاً ، كان عود الموت جائزاً؛ وكذلك لمَّا كانت الحياة الأولى جائزة ، وجب أن يكون عود الحياة جائزاً في المرَّة الثانية ، وأيضاً الإنسان في أول طفولته جاهلٌ لا يعرف شيئاً ، ثم صار عالماً عاقلاً ، فلما بلغ أرذل العمر ، عاد إلى ما كان عليه في زمان الطفولة؛ وهو عدم العقل والفهم فعدم العقل والفهم في المرة الأولى عاد بعينه في آخر العمر ، فكذلك العقل الذي حصل ثمَّ زال ، وجب أن يكون جائز العود في المرَّة الثانية ، وإذا ثبتت هذه الجملة ، ثبت أنَّ الذي مات وعدم فإنه يجوز عود وجوده ، وعود حياته ، وعود عقله مرَّة أخرى ، ومتى كان الأمر كذلك ، ثبت أن القول بالبعث والحشر والنَّشر حقٌّ .
قوله : { والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق } الآية هذا اعتبار بحال أخرى من أحوال الإنسان؛ لأنَّا نرى أكيس النَّاس وأكثرهم عقلاً يفني عمره في طلب القدر القليل من الدنيا ولا يتيسَّر له ذلك ، ونرى أجلاف النَّاس وأقلهم عقلاً وفهماً ينفتح عليه أبواب الدنيا ، وكلُّ شيءٍ خطر بباله أو دار في خياله ، فإنه يحصل له في الحال ، ولو كان السَّببُ هو جهد الإنسان وعقله ، لوجب أن يكون العاقل أفضل في هذه الأحوال ، فلمَّا رأينا أن الأعقل الأفضل أقلُّ نصيباً ، والأجهل الأخس أوفر نصيباً - علمنا أنَّ ذلك بسبب قسمة القسام؛ كما قال - تعالى- : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا } [ الزخرف : 32 ] وهذا التفاوت غير مختصٌّ بالمال ، بل حاصل في الذَّكاء والبلادة ، والحسن والقبح ، والعقل والحمق والصحة والسقم وغير ذلك .
قوله : { فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } فيه قولان :
الأول : أنَّ المراد من هذا الكلام تقرير ما تقدَّم من أن السَّعادة والنُّحوسة لا يحصلان إلا من الله - تعالى - ، والمعنى : إنا رزقنا الموالي والمماليك جميعاً ، فهم في رزقي سواء ، فلا يحسبنَّ الموالي أنَّهم يرزقون مماليكهم من عندهم شيئاً ، وإنما ذلك رزقي أجريته على أيديهم إلى مماليكهم .
والحاصل : أن الرَّزاق هو الله - تعالى - ، وأن المالك لا يرزق العبد؛ وتحقيق القول فيه : أنه ربما كان العبد أكمل عقلاً ، وأقوى جسماً ، وأكثر وقوفاً على المصالح والمفاسد من المولى؛ وذلك يدلُّ على أن ذلَّة العبد وعزة ذلك المولى من الله؛ كما قال جل ذكره- : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } [ آل عمران : 26 ] .
الثاني : أن المراد من الآية : الرد على من أثبت شريكاً لله - عزَّ وجلَّ- ، وعلى هذا القول ففيه وجهان :
الأول : أن يكون هذا ردًّا على عبدة الأصنام؛ كأنه قيل : إنَّه - تعالى - فضَّل الملوك على مماليكهم ، فجعل المملوك لا يقدر على ملكٍ مع مولاه ، فإذا لم يكن عبيدكم معكم سواءً في الملك ، فكيف تجعلون هذه الجمادات معي سواء في العبودية .
والثاني : قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه- : « نزلتْ هذه الآية في نصارى نجران ، حين قالوا : إنَّ عيسى ابن مريم ابن الله » ، والمعنى : أنكم لا تشركوني عبيدكم فيما ملكتم فتكونوا سواء ، فكيف جعلتم عبدي ولداً وشريكاً لي في هذه الألوهية؟ .
قوله : { فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } في هذه الجملة أوجه :
أحدها : أنَّها على حذف أداة الاستفهام ، تقديره : أفهم فيه سواء ، ومعناه النفي ، أي : ليسوا مستوين فيه .
الثاني : أنها إخبار بالتَّساوي ، بمعنى أنَّ ما يطعمونه ويلبسونه لمماليكهم ، إنَّما هو رزقي أجريته على أيديهم فهم فيه سواءٌ .
الثالث : قال ابو البقاء : إنَّها واقعة موقع الفعل ، ثم جوز في ذلك الفعل وجهين :
أحدهما : أنه منصوب في جواب النَّفي ، تقديره : فما الَّذين فضَّلوا برادِّي رزقهم على ما ملكتْ أيمانهم ، فيستووا .
الثاني : أنه معطوفٌ على موضع « بِرَادِّي » فيكون مرفوعاً ، تقديره : فما الذين فضِّلوا يردُّون ، فما يستوون .
قوله : { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } [ فيه وجهان :
أحدهما : لا شبهة في أن المراد من قوله { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } الإنكار على المشركين الذين أورد الله تعالى هذه الحجة عليهم .
الثاني ] : الباء في قوله : { أَفَبِنِعْمَةِ الله } يجوز أن تكون زائدة؛ لأنَّ الجحود لا يتعدَّى بالباء؛ كما تقول : خُذِ الخِطامَ وبالخِطَام ، وتعلَّقت زيداً وبِزَيْدٍ ، ويجوز أن يراد بالجحود الكفر ، فعدي بالباء لكونه بمعنى الكفر .
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر : « تَجْحَدُونَ » بالخطاب؛ لقوله : « بَعضَكُم » و « خَلقَكُمْ » ، والباقون بالغيبة؛ مراعاةً لقوله - عزَّ وجلَّ- : { فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ } وقوله : { فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم؛ لقرب المخبر عنه ، وأيضاً فظاهر الخطاب أن يكون مع المسلمين ، والمسلمون لا يخاطبون بجحد النّعمة ، وهذا إنكار على المشركين .
فإن قيلك كيف يصيرون جاحدين بنعمة الله عليهم بسبب عبادة الأصنام؟ .
فالجواب من وجهين :
الأول : أنَّه لمَّا كان المعطي لكل الخيرات هو الله - تعالى- ، فالمثبت له شريكاً ، فقد أضاف إليه بعض تلك الخيرات ، فكان جاحداً لكونها من عند الله ، وأيضاً فإنَّ أهل الطبائع وأهل النجوم يضيفون أكثر هذه النِّعم إلى الطبائع وإلى النُّجوم ، وذلك يوجب كونهم جاحدين لكونها من عند الله .
الثاني : قال الزجاج : إنه - تعالى - لمَّا بين الدلائل ، وأظهرها بحيث يفهمها كل عاقل ، كان ذلك إنعاماً عظيماً منه على الخلق ، فعند ذلك قال : { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } في تقرير هذه البيانات وإيضاح هذه البينات « يَجْحدُونَ » .
قوله : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } الآية هذا نوع آخ رمن أحوال الناس استدلَّ به على وجود الإله المختار الحكيم ، وتنبيهاً على إنعام الله على عبيده بمثل هذه النعم ، وهذا الخطاب للكلِّ ، فتخصيصه بآدم وحوَّاء - صلوات الله وسلامه عليهما - خلافٌ للدَّليل ، والمعنى : أنه - تعالى - خلق النِّساء ليتزوج بها الذُّكور ، ومعنى « مِنْ أنْفُسِكُمْ » كقوله - تعالى- :
{ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 54 ] وقوله : { فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ } [ النور : 61 ] ، أي : بعضكم بعضاً؛ ونظيره : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } [ الروم : 21 ] .
قال الأطباء وأهل الطبيعة : المنيُّ إذا انصبَّ إلى الخصية اليمنى من الذَّكر ، ثم انصبَّ منه إلى الجانب الأيمن من الرَّحم ، كان الولدُ ذكراً تامًّا ، وإن انصبَّ إلى الخصية اليسرى ، ثمَّ انصبَّ منها إلى الجانب الأيسر من الرَّحم ، كان الولد أنثى تامًّا في الأنوثة ، وإن انصبَّ منها إلى الخصية اليمنى ، وانصبَّ منها إلى الجانب الأيسر من الرَّحم ، كان ذكراً في طبيعة الإناث ، وإن انصبَّ إلى الخصية اليسرى ، ثم انصبَّ إلى الجانب الأيمن من الرَّحم ، كان هذا الولدُ أنثى في طبيعة الذُّكور .
وحاصل كلامهم : أن الذُّكور الغالب عليها الحرارة واليبوسة ، والغالب على الإناثِ البرودة والرطوبة ، وهذه العلَّة ضعيفة ، فإنَّا رأينا في النِّساء من كان مزاجه في غاية السُّخونة ، وفي الرِّجالِ من كان مزاجه في غاية البرودة ، ولو كان الموجب للذُّكورة والأنوثة ذلك ، لامتنع ذلك؛ فثبت أنَّ خالق الذَّكر والأنثى هو الإله القادر الحكيم .
قوله : « وَحفَدةً » فيه أوجه :
أظهرها : أنه معطوف على « بَنِينَ » بقيد كونه من الأزواج ، وفسِّر هذا بأنَّه أولاد الأولاد .
الثاني : أنه من عطف الصفات لشيء واحد ، أي : جعل لكم بنين خدماً ، والحفدة : الخدم .
الثالث : أنه منصوب ب « جَعَلَ » مقدَّرة ، وهذا عند من يفسِّر الحفدة بالأعوان والأصهار ، وإنما احتيج إلى تقدير « جَعَلَ » ؛ لأن « جَعَلَ » الأولى مقيَّدة بالأزوا ، والأعوانُ والأصهارُ ليسوا من الأزواج ، والحفدة : جمع حافدٍ؛ كخادمٍ وخَدم .
قال الواحدي - رحمه الله- : « ويقال في جمعه : الحفد بغير هاءٍ؛ كما يقال : الرَّصد ، ومعنى الحفدة في اللغة : الأعوان والخدم » .
وفيهم للمفسِّرين أقوال كثيرة ، واشتقاقهم من قولهم : حَفَدَ يَحْفِدُ حَفْداً وحُفُوداً وحَفَداناً ، أي : أسرع في الطَّاعة ، وفي الحديث : « وإليك نَسْعَى ونَحْفِدُ » ، أي : نُسرع في طَاعتِكَ؛ وقال الآخر : [ الكامل ]
3344- حَفَدَ الوَلائِدُ حَوْلهُنَّ وأسْلِمَتْ ... بأكُفِّهِنَّ أزِمَّةُ الأجْمالِ
ويستعمل « حَفَدَ » أيضاً متعدياً؛ يقال : حَفدنِي فهو حافدٌ؛ وأنشد أيضاً : [ الرمل ]
3345- يَحْفدُونَ الضَّيْفَ في أبْيَاتِهِمْ ... كَرماً ذلِكَ مِنهُمْ غَيْرَ ذُلْ
وحكى أبو عبيدة أنه يقال : أحفد رباعيًّا ، وقال بعضهم : الحَفدةُ الأصهارُ؛ وأنشد : [ الطويل ]
3346- فَلوْ أنَّ نَفْسِي طَاوعَتْنِي لأصْبحَتْ ... لهَا حَفدٌ ممَّا يُعَدُّ كَثِيرُ
ولَكنَّهَا نَفْسٌ عليَّ أبيَّةٌ ... عَيُوفٌ لإصْهَارِ اللِّئامِ قَذُورُ
ويقال : سَيفٌ مُحْتَفِدٌ ، أي : سريعُ القطع؛ وقال الأصمعي : أصل الحفد مقاربة الخُطَى .
قوله : { وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات } ولمَّا ذكر إنعامه على عبيده بالمنكوح وما فيه من المنافع والمصالح ، ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطبية ، و « مِنْ » في « مِنَ الطَّيباتِ » للتبعيض .
ثم قال { أفبالباطل يُؤْمِنُونَ } قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - يعني : بالأصنام وقال مقاتل : يعني : بالشيطان ، وقال عطاء : يصدِّقون أن لي شريكاً وصاحبة وولداً .
{ وَبِنِعْمَةِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ } أي : بأن يضيفوها إلى غير الله ولا يضيفونها إلى الله ، وقيل : يكفرون بالتَّوحيد والإسلام .
وقيل : يحرِّمون على أنفسهم طيِّباتٍ أحلَّها الله لهم؛ مثل : البَحيرَة والسَّائبةِ والوَصِيلَة والحَامِ ، ويبيحون لأنفسهم محرَّمات حرمها الله عليهم ، وهي الميتة ولحم الخنزير { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } [ المائدة : 3 ] ، أي : يجحدون ويكفرون إنعام الله في تحليل الطيِّبات وتحريم الخبائث ، ويحكمون بتلك الأحكام الباطلة .
قوله - تعالى- : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً } الآية لمَّا شرح الدَّلائل الدالة على صحَّة التَّوحيد ، وأتبعها بذكر أقسام النِّعم العظيمة ، أتبعها بالردِّ على عبدة الأصنام؛ قال { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات } يعني : المطر والأرض ، ويعني النَّبات والثِّمار .
قوله تعالى : { مِّنَ السماوات } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه متعلق ب « يَمْلِكُ » ، وذلك على الإعرابين الأولين في نصب « شَيْئاً » .
الثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة ل « رِزْقاً » .
الثالث : أن يتعلق بنفس « رِزْقاً » إن جعلناه مصدراً .
وقال ابن عطية - بعد أن ذكر إعمال المصدر منوناً- : والمصدر يعمل مضافاً باتِّفاق؛ لأنه في تقدير الانفصال ، ولا يعمل إذا دخله الألف واللاَّم؛ لأنه قد توغَّل في حال الأسماء وبعد عن الفعليَّة ، وتقدير الانفصال في الإضافة حسن عمله؛ وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قول الشاعر : [ المتقارب ]
3347- ضَعِيفُ النِّكايَةِ أعْدَاءَهُ ..
وقوله : [ الطويل ]
3348- . . . . فَلمْ أنْكُلْ عَنِ الضَّرْبِ مِسْمَعَا
قال أبو حيَّان : أما قوله : « باتِّفاقٍ » إن عنى به من البصريين ، فصحيحٌ ، وإن عنى به من النَّحويين ، فليس بصحيح؛ إذْ قد ذهب بعضهم غلى أنَّه وإن أضيف لا يعمل ، فإن وجد بعده منصوب أو مرفوع قدَّر له عاملاً ، وأما قوله : « في تقدير الانفصال » فليس كذلك ، إلا أن تكون إضافته غير محضة؛ كما قال به ابن الطراوة وابن برهان ، ومذهبهما فاسد؛ لأن هذا المصدر قد نعت وأكد بالمعرفة ، وقوله : « لا يعمل . . . إلى آخره » ناقضه بقوله : « وقد جاء عاملاً . . . إلى آخره » .
قال شهاب الدِّين : فغاية ما في هذا أنَّه نحا إلى أقوال قال بها غيره ، وأمَّا المناقضة ، فليست صحيحة؛ لأنه عنى أولاً أنَّه لا يعمل في السَّعة ، وثانياً أنه قد جاء عاملاً في الضرورة ، ولذلك قيَّده فقال : « في قول الشَّاعر » .
قوله : « شَيْئاً » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : انه منصوبٌ على المصدر ، أي : لا يملك لهم ملكاً ، أي : شيئاً من الملك .
والثاني : أنه بدلٌ من « رِزْقاً » أي : لا يملك لهم رزقاً شيئاً ، وهذا غير مقيَّد؛ إذ من المعلوم أن الرزق شيء من الأشياء ، ويؤيِّد ذلك أن اببدل يأتي لأحد معنيين : البيان أو التَّأكيد ، وهذا ليس فيه بيان؛ لأنه أعمٌّ ، ولا تأكيد .
الثالث : أنه منصوب ب « رِزْقاً » على أنه اسمُ مصدر ، واسم المصدر يعمل عمل المصدر ، على خلاف في ذلك .
ونقل مكِّي : أن اسم المصدر لا يعمل عند البصريين إلا في شعر ، وقد اختلف النقلة عن البصريِّين؛ فمنهم من نقل المنع ، ومنهم من نقل الجواز .
وقد ذكر الفارسي انتصابه ب « رِزْقاً » كما تقدَّم .
ورد عليه ابن الطراوة : بأن الرِّزق اسم المرزوق ، كالرِّعي ، والطحن . وردَّ على ابن الطراوة؛ بأنّ الرزق بالكسر أيضاً مصدر ، وقد سمع فيه ذلك ، وظاهر هذا أنه مصدر بنفسه لا اسم مصدر .
قوله تعالى : { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } يجوز في الجملة وجهان :
العطف على صلة « مَا » ، والإخبار عنهم بنفي الاستطاعة على سبيل الاستئناف ، ويكون قد جمع الضمير العائد على « مَا » باعتبار معناها؛ إذ المراد بذلك آلهتهم .
ويجوز أن يكون الضمير عائداً على العابدين .
فإن قيل : قال - تعالى - : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ } فعبَّر عن الأصنام بصيغة « ما » وهي لغير العاقل ، ثم جمع بالواو والنون فقال : « ولا يَسْتَطِيعُون » ، وهو مختص بأولي العلم .
فالجواب : أنه عبَّر عنها بلفظ « مَا » اعتباراً باعتقادهم أنَّا آلهة ، والفائدة في قوله : « ولا يَسْتَطِيعُونَ » أنَّ من لا يملك شيئاً قد يوصف باستطاعته أن يمتلكه بطريقٍ من الطرق فبيَّن - تعالى - أنَّ هذه الأصنام لا تملك وليس لها استطاعة تحصيل الملك .
ثم قال - تعالى - : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال } يعني : الأشباه فتشبهونه بخلقه وتجعلون له شريكاً؛ فإنه واحد لا مثل له - سبحانه وتعالى- .
ثم قال : { إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } يعني : أن الله يعلم ما عليكم من العقاب العظيم ، وأنتم لا تعلمون خطأ ما تضربون من الأمثال ، وحذف مفعول العلم اختصاراً أو اقتصاراً .
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
ثم ضرب مثلاً للمؤمن والكافر؛ فقال - تعالى- : { ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ } ، هذا مثل الكافر رزقه الله مالاً فلم يقدم فيه خيراً .
قوله : { وَمَن رَّزَقْنَاهُ } يجوز في « مَنْ » هذه أن تكون موصولة ، وأن تكون موصوفة ، واختاره الزمخشري رحمه الله ، قال : « كأنه قيل : وحرًّا رزقناه ليطابق عبداً » ومحلها النصب على « عَبْداً » ، وقد تقدَّم الكلام [ إبراهيم : 24 ] في المثل الواقع بعد « ضَرَب » .
وقوله : { سِرّاً وَجَهْراً } يجوز أن يكون منصوباً على المصدر ، أي : إنفاق سرْ وجهر ، ويجوز أن يكون حالاً .
وهذا مثل المؤمن من أعطاه الله مالاً ، فعمل فيه بطاعةِ الله وأنفقه في رضاه سرًّا وجهراً ، فأثابه الله عليه الجنَّة .
قوله تعالى : { هَلْ يَسْتَوُونَ } إنَّما جميع الضمير وإن تقدَّمه ثنان؛ لأنَّ المراد : جنس العبيد والأحرار المدلول عليهما ب « عَبْداً » وب « مَن رزقنَاهُ » .
وقيل : على الأغنياء والفقراء المدلول عليهما بهما أيضاً ، وقيل : اعتباراً بمعنى « مَنْ » فإنَّ معناها جمع فراعى معناها بعد أن راعى لفظها .
فصل
قيل : المراد بقوله : { عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ } هو الصَّنم؛ لأنَّه عبد بدليل قوله : { إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً } [ مريم : 93 ] وهو مملوك لا يقدر على شيء ، والمراد بقوله : { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً } : عابد الصَّنم؛ لأن الله - تعالى - رزقه المال ، فهو ينفقُ منه على نفسه وعلى أتباعه سرًّا وجهراً فهما لا يتساويان في بديهة العقل ، بل صريح العقل شاهدٌ بأن عابد الصَّنم أفضل من الصَّنم ، فكيف يجوز الحكم بأنه مساوٍ لربِّ العالمين في المعبوديَّة؟ .
وقيل : المراد بالعبد : المملوك عبد معيَّن ، قيل : أبو جهل ، وب { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً } أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - .
وقيل : عامٌّ في كل عبد بهذه الصفة ، وفي كل حرٍّ بهذه الصفة .
فصل
دلَّت هذه الآية على أن العبد لا يملك شيئاً .
فإن قيل : دلَّت الآية على أنَّ عبداً من العبيد لا يقدر على شيءٍ ، فلم قلتم : إن كل عبد كذلك؟ .
فالجواب : أنه ثبت في أصول الفقه : أن الحكم المذكور عقيب الوصف المناسب يدلُّ على كون ذلك الوصف علَّة لذلك الحكم ، وكونه عبداً وصفٌ مشعرٌ بالذلِّ والمقهورية وقوله : { لاَ يَقْدِرُ على شَيْءٍ } حكم مذكور عقيبه ، وهذا يقتضي أنَّ العلَّة لعدم القدرة على شيءٍ ، هو كونه عبداً ، وأيضاً قال بعده : { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً } [ فميز هذا القسم الثاني عن القسم الأول ، وهو العبد بهذه الصفة ، وهو أنه رزقه رزقاً حسناً ] فوجب ألا يحصل هذا الوصف للعبد ، حتَّى يحصل الامتيازُ بين الثاني وبين الأوَّل ، ولو ملك العبد ، لكان الله قد آتاهُ رزقاً حسناً؛ لن الملك الحلال رزق حسن .
ثم اختلفوا؛ فروي عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - وغيره التشدد في ذلك ، حتى قال : لا يملك الطَّلاق أيضاً .
وأكثر الفقهاء على أنَّه يملك الطلاق ، واختلفوا في أنَّ المالك إذا ملكه شيئاً ، هل يملكه ام لا؟ وظاهر الآية ينفيه .
فإن قيل : لم قال : { عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ } وكل عبدٍ فهو مملوك وغير قادر على التصرُّف؟ .
فالجواب : ذكر المملوك ليحصل الامتياز بينه وبين الحرِّ؛ لأنَّ الحر قد يقال : إنه عبد الله ، وأما قوله : { لاَ يَقْدِرُ على شَيْءٍ } للتَّمييز بينه وبين المكاتب والعبد المأذون؛ لأنهما يقدران على التصرُّف .
قوله { الحمد لِلَّهِ } قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه- : على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتَّوحيد .
وقيل : المعنى أنَّ الحمد كلّه لله ، وليس شيءٌ من الحمد للأصنام؛ لأنها لا نعمة لها على أحدٍ .
وقوله عزَّ وجلَّ- : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، أي : أنهم لا يعلمون أنَّ كل الحمد لي ، وليس شيء منه للأصنام .
وقال القاضي - رحمه الله- : قال للرَّسُول - صلوات الله وسلامه عليه- : { قُلِ الحمد لِلَّهِ } [ النمل : 59 ] .
وقيل : هذا خطاب لمن رزقه الله رزقاً حسناً أن يقول : الحمد لله على أن ميَّزه في هذه القدرة على ذلك العبد الضعيف .
وقيل : لما ذكر هذا المثل مطابقاً للغرض كاشفاً عن المقصود ، قال بعده : { الحمد لِلَّهِ } يعني : الحمد لله على قوَّة هذه الحجَّة وظهور هذه البيِّنة .
ثم قال : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، أي : أنَّها مع غاية ظهورها ونهاية وضوحها ، لا يعلمونها هؤلاء الجهَّال .
قوله - تعالى - : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ } الآية وهذا مثل ثانٍ لإبطالِ قول عبدة الأصنام؛ وتقريره : أنَّه لما تقرَّر في أوائل العقول أنَّ الأبكم العاجز لا يساوي في الفضل والشَّرف النَّاطق القادر الكامل مع استوائهما في البشرية فلأن يحكم بأنَّ الجماد لا يكون مساوياً لربِّ العالمين في المعبوديَّة أولى .
قال الواحدي : قال أبو زيد : الأبكم هو العَيِيُّ المفحم ، وقد بكم بكماً وبكامةً وقال أيضاً : الأبكمُ : الأقطع اللسان ، وهو الذي لا يحسن الكلام .
روى ثعلب عن ابن الأعرابي : الأبكم الذي لا يعقل . وقال الزجاج : الأبكم المطبق الذي لا يسمعُ ولا يبصر .
ثم قال : { لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ } إشارة إلى العجز التَّام والنُّقصان الكامل .
وقوله : { كَلٌّ على مَوْلاهُ } الكلُّ الثَّقيلُ ، والكلُّ العيال ، والجمع : كلُول ، والكلُّ : من لا ولد لهُ ولا وَالِد ، والكلُّ أيضاً : اليَتيمُ . سمِّي بذلك؛ لثقله على كافله؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
3349- أكُولٌ لمَالِ الكُلِّ قَبْلَ شبَابهِ ... إذَا كانَ عَظْمُ الكَلِّ غَيْرَ شَديدِ
قال أهل المعاني : « أصل الكلِّ من الغلط الذي هو نقيضُ الحدَّة ، يقال كلَّ السِّكينُ : إذا غلظت شفرته فلم تقطع ، وكلَّ اللسانُ : إذا غلظ فلم يقدر على الكلام ، وكلَّ فلانٌ عن الأمْرِ : إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه ، فمعنى » كلٌّ على مولاهُ « ، أي : غليظٌ وثقيلٌ على مولاه أهل ولايته » .
قوله : { أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ } شرط وجزاؤه ، وقرأ ابن مسعود ، وابن وثَّاب ، وعلقمة : « يُوَجِّهْ » بهاء واحدة ساكنة للجزم ، وفي فاعله وجهان :
أحدهما : ضمير الباري - تعالى - ، ومفعوله محذوف؛ [ تقديره كقراءة العامة ] .
والثاني : أنه ضمير الأبكم ، ويكون « يُوجِّهْ » لازماً بمعنى « يَتوَجَّهُ » .
يقال : وجَّه وتوجَّهَ بمعنًى ، وقرأ علقمة أيضاً وطلحة كذلك ، إلاَّ أنه بضم الهاءِ ، وفيها أوجه :
أحدها : أنَّ « أيْنَمَا » ليست هنا شرطيَّة ، و « يُوَجِّهُ » خبر مبتدأ مضمر ، أي : أيْنَمَا هو يوجه ، أي : الله - تعالى- ، والمفعول محذوف ، وحذفت الياء من قوله : « لا يَأتِ » تخفيفاً؛ كما حذفت في قوله : { يَوْمَ يَأْتِ } [ هود : 105 ] و { إِذَا يَسْرِ } [ الفجر : 4 ] .
والثاني : أن لام الكلمة حذفت تخفيفاً لأجل التضعيف ، وهذه الهاء هي الضمير ، فلم يحلها جزم ، ذكر هذين الوجهين أبو الفضل الرَّازي .
الثالث : أن « أيْنَمَا » أهملت حملاً على « إذَا » ؛ لما بينهما من الأخُوَّةِ في الشرط؛ كما حملت « إذا » عليها في الجزم في بعض المواضع ، وحذفت الباء من « يَأتِ » تخفيفاً أو جزم على التوهُّم ، ويكون « يُوجِّهُ » لازماً بمعنى : « يَتوجَّهُ » كما تقدَّم .
وقرأ عبد الله أيضاً : « تُوَجِّههُ » بهاءين بتاء الخطاب ، وقال أبو حاتم - وقد حكى هذه القراءة- : « إنَّ هذها لقراءة ضعيفة؛ لأن الجزم لازم » وكأنه لم يعرف توجيهها ، وقرأ علقمة وطلحة أيضاً : « يُوجَّهْ » بهاء واحدة ساكنة للجزم ، والفِعْل مبني للمفعول؛ وهي واضحة .
وقرأ ابن مسعود أيضاً : « تُوَجِّههُ » كالعامة إلا أنه بتاء الخطاب ، وفيه التفاتٌ ، وفي الكلام حذف وهو حذف المقابل؛ لقوله : { أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ } كأنه قيل : والآخر ناطقٌ متصرف في ماله ، وهو خفيف على مولاه { أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ } ، ودلَّ على ذلك { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } .
ونقل أبو البقاءِ - رحمه الله - أنه قرئ : « أيْنَمَا تَوجَّه » بالتَّاء وفتح الجيم والهاء فعلاً ماضياً فاعله ضمير الأبكم .
قوله : { وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } الرَّاجح أن يكون مرفوعاً؛ عطفاً على الضمير المرفوع في « يَسْتَوِي » ، وسوَّغه الفصل بالضمير ، والنصب على المعيَّة مرجوح ، والجملة من قوله : { وَهُوَ على صِرَاطٍ } إمَّأ استئنافٌ أو حال .
فصل
لمَّا وصف الله أحد الرَّجُليْن بهذه الصِّفات الأربع ، وهذه صفات الأصنام وهو أنَّه أبكم لا يقدر على شيءٍ ، أي : عاجز كلٌّ على مولاه ، ثقيل ، أينما يرسله لا يأت بخير؛ لأن أبكم لا يفهم ، قال : هل يستوي هذا الموصوف بهذه الصفات الأربع ، وهذه صفات الأصنام لا تسمع ولا تعقل ولا تنطق ، وهو كلٌّ على عابده يحتاج إلى أن يحمله ويخدمه ويضعه ، { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } يعني : الله قادر متكلِّم يأمر بالتَّوحيد ، { وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .
قال الكلبي : يدلكم على صراط مستقيم .
وقيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقيل : كِلا المثلين للمؤمن والكافر ، يرويه عطيَّة عن ابن عباس رضي الله عنه .
قال عطاء : الأبكم : أبيُّ بن خلف ، { وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } : حمزة ، وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون - رضي الله عنهم- .
وقال مقاتل : نزلت في هاشم بن عمرو بن الحارث بن ربيعة القرشي ، وكان قليل الخير ، يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقيل : نزلت في عثمان بن عفَّان ومولاه ، كان مولاه يكره الإسلام .
وقيل : المراد كل عبد موصوف بهذه الصفات الذَّميمة ، وكل حرٍّ موصوف بتلك الصفات الحميدة ، وهذا أولى من القول الول؛ لأن وصفه - تعالى - إياهما بكونهما رجلين يمنع من حمل ذلك على الوثن ، وكذلك وصف الآخر بأنه على صراط مستقيم يمنع من حمله على الله - تعالى- .
قوله - تعالى- : { وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض } الآية لما مثَّل الكافر بالأبكم العاجز ، ومثَّل نفسه بالذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ، ومعلومٌ أنه لا يكون آمراً بالعدل وهو على صراط مستقيم إلاّ إذا كان كاملاً في العلمِ والقدرةِ فذكر في هذه الآية بيان كونه كاملاً في العلم والقدرة .
أمَّا بيان كمال العلم ، فقوله - تعالى - : { وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض } أفاد الحصر بأنَّ العلم بهذه الغيوب ليس إلا لله - تعالى- .
وأما بيان كمال القدرة ، فقوله - عز وجل- : { وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر } والسَّاعة : هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة ، سمِّيت ساعة؛ لأنَّها تفجأ الإنسان في ساعة يموت الخلق كلهم بصيحة واحدة أي إذا قال له : { كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] والمراد ب « لَمْحِ البَصرِ » : طرفةُ العين وهو النظر بسرعة ، يقال : لَمحَهُ بِبصَرِه لَمْحاً ولَمحَاناً ، وقيل : أصله من لَمحَانِ البَرْق ، وقولهم : لأرينَّك لَمْحاً بَاصِراً ، أي : أمْراً وَاضِحاً ، والمراد بيان كمال القدرة .
وقوله : { أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } ليس المراد منه الشَّك ، بل المراد : بل هو أقرب .
قال الزجاج : المراد به : الإبهام على المخاطبين أنه - تعالى - يأتي بالسَّاعة إما بقدر لمح البصر ، أو بما هو أسرع؛ لأنَّ لمح البَّصر عبارة عن انتقال الطَّرف من أعلى الحدقةِ إلى أسفلها ، والحَدقةُ مركبة من أجزاء لا تتجزَّأ ، فلمح البصر عبارة عن المرور على جملة أجزاءِ الحدقةِ ، ولا شكَّ أنَّ تلك الأجزاء كثيرة ، والزَّمانُ الذي يحصل فيه لمحُ البصر مركب من أزمانٍ متعاقبةٍ ، والله - تعالى - قادرٌ على إقامة القيامة في زمان واحد من تلك الأزمان؛ فلهذا قال - تعالى - : { أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } تنبيهاً على ذلك ، فقوله : { أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } ، أي : أمره ، فالضمير للأمر ، والتقدير : أو أمر الساعة أقرب من لمح البصر .
{ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } نزلت في الكفَّار الذين استعجلوا القيامة استهزاءً .
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
قوله - تعالى- : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } لما بين كمال القدرة والعلم ، عاد إلى الدلائل الدالة على وجود الصانع المختار ، فقال : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } .
قرأ حمزة والكسائي : « إمَّهاتِكُمْ » بكسر الهمزة ، والباقون بضمِّها ، وأصل « أمَّهاتِكُم » : إمَّاتكُم ، إلا أنه زيدت الهاء فيه كما زيدت في « أراق » فقيل : أهراق ، وشذَّت زيادتها في الواحدة في قوله : [ الرجز ]
3350- أمَّهَتِي خِندِفُ واليَاسُ أبِي ... والجملة من قوله : { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } حالٌ من مفعول « أخْرَجَكُمْ » غير عالمين و « شَيْئاً » إمَّا مصدر ، أي : شيئاً من العلم ، وإمَّا مفعول به والعلم هنا العرفان ، وتقدَّم الكلام في « أمَّهَاتِكُمْ » في النِّساء .
فصل
خلق الإنسان في مبدأ الفطرة خالياً عن معرفة الأشياء .
ثم قال تعالى - : { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة } والمعنى : أن النَّفس الإنسانية ك انت في أول الخلقةِ خالية عن المعارف والعلوم ثم إن الله تعالى أعطاها هذه الحواس؛ لتستفيد بها المعارف والعلوم ، وتحقيق الكلام فيه أن يقال : التَّصوُّرات والتَّصديقات إمَّا أن تكون كسبيَّة أو بديهيَّة؛ والكسبيَّة لا يمكن حصولها إلا بواسطة تركيبات البديهيَّات ، فلا بد من سبق العلوم البديهيَّة .
فإن قيل : هذه العلوم البديهية إمَّا أن يقال : كانت حاصلة منذ خلقنا ، أو ما كانت حاصلة؛ ولأول باطل؛ لأنا بالضرورة نعلمُ أنَّا حين كنَّا جنيناً في رحم الأمِّ ما كنَّا نعرفُ ن النَّفي والإثبات لا يجتمعان ، وما كنَّا نعرف أن الكلَّ أعظم من الجزء .
وأما القسم الثاني : فإنه يقتضي أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنَّها ما كانت حاصلة ، وحينئذٍ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب ، وكلُّ ما كان كسباً فهو مسبوق بعلوم أخرى إلى غير نهاية ، وذلك محال .
فالجواب : أن هذه العلوم البديهيَّة ما كانت حاصلة في نفوسنا أولاً ، ثم إنها حدثت ، وحصلت ، أما قوله : فيلزم أن تكون كسبية ، فهذه المقدمة ممنوعة ، بل نقول : إنها إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها ، بواسطة إعانة الحواسِّ التي هي السَّمع والبصر ، فإن النفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم ، إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر فإذا أبصر الطفل شيئاً أو سمعه مرة بعد أخرى ، ارتسم في خياله ماهيَّة ذلك المبصر والمسموع؛ وكذلك القول في سائر الحواسِّ ، فيصير حصول الحواسِّ سبباً لحضور ماهيَّات المحسوسات في النَّفس والعقل .
ثم إنَّ تلك الماهيَّات على قسمين :
أحدهما : ما يكون حضوره مزجباً تاماً في جرم الذِّهن ، بإسناد بعضها إلى بعض بالنَّفي أو الإثبات ، مثل أنه إذا حضر في الذِّهن أن الواحد ما هو؟ وأن نصف الاثنين ما هو؟ كان حضور هذين التَّصوُّرين في الذهن علَّة تامة في جرم الذِّهن؛ بأنَّ الواحد محكوم عليه بأنَّه نصلف الاثنين ، وهذا القسم هو العلوم البديهيَّة .
والقسم الثاني : ما لا يكون كذلك ، وهو العلوم النَّظريَّة؛ مثل أنَّه إذا حضر في الذِّهن بأنَّ الجسمَ ما هو؟ والمحدث ما هو؟ فإن مجرَّد هذين التصوُّرين في الذِّهْن لا يكفي في جزم الذهن بأنَّ الجسم محدث ، بل لا بدَّ فيه من [ دليل ] منفصل وعلوم سابقة .
والحاصل أن العلوم الكسبيَّة إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهيَّة ، وحدوث العلوم البديهيَّة إنما تكون عند حدوث تصوُّر موضوعاتها ، وتصوُّر محمولاتها ، وحدوث التَّصورات إنَّما كان بسبب إعانة هذه الحواس على إحداثها؛ فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النُّفُوس والعقول هو أنَّه - تعالى - أعطى هذه الحواس .
فلهذا قال - تعالى- : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة } ليصير حصول هذه الحواس سبباً لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطَّريق المذكور .
وقال المفسرون : « وجَعلَ لَكُمُ السَّمْعَ » لتسمعوا مواعظ الله تعالى ، « والأبْصَارَ » لتبصروا دلائل [ آلاء ] الله ، « والأفْئِدةَ » لتعقلوا عظمة الله .
و « الأفْئِدَة » جمع فُؤادِ؛ نحو : أغْرِبة وغُراب ، قال الزجاج : ولم يجمع « فُؤاد » على أكثر العددِ ، وما قيل : « فِئْدَان » كما قيل : « غُرَاب وغِرْبَان » .
ولعلَّ الفؤاد إنَّما جُمِع على جمع القلَّة؛ تنبيهاً على أنَّ السَّمع والبصر كثيران ، وأن الفؤاد قليلٌ؛ لأن الفؤاد إنَّما خلق للمعارف الحقيقيَّة ، والعلوم اليقينيَّة ، وأكثر الخلق ليسوا كذلك ، بل يكونوا مشغولين بالأفعال البهيميَّة والصِّفات السبعية ، فكأن فؤادهم ليس بفؤادٍ؛ فلهذا جمع جمع القلَّة قاله ابن الخطيب .
وقال الزمخشري - رحمه الله تعالى- : « إنَّه من الجموع التي استعملت للقلَّة والكثرة ، ولم يسمع فيها غير القلَّة ، نحو : » شُسُوع « ، فإنَّها للكثرة ، وتستعمل في القلَّة ، ولم يسمع غير شسوع . كذا قال وفيه نظر فقد سمع فيهم » أشساع « فكان ينبغي أن يقال : غلب » شسوع « .
فإن قيل : قوله - عز وجل- : { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار } ، عطف على قوله : » أخْرَجَكُم « وهذا يقتضي أن يكون جعل السَّمع والبصر متأخِّراً عن الإخراج من البطن؛ وليس كذلك .
فالجواب : أنَّ حرف الواو لا يوجب التَّرتيب ، وأيضاً إذا حملنا السمع على الإسماع والبصر على الرؤية ، زال السؤال ، هذا إذا جعلنا قوله - تعالى- : » وجَعلَ « معطوفاً على » أخْرَجَكُم « فيكون داخلاً فيما أخبر به عن المبتدأ ويجوز أن يكون مستأنفاً .
فصل
قيل : معنى الكلام : لا تعلمون شيئاً ممَّا أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم ، وقيل : لا تعلمون شيئاً ممَّا قضى عليكم به من السَّعادة والشقاوة ، وقيل : لا تعلمون شيئاً ، أي : من منافعكم .
قال البغوي - رحمه الله- : « تمَّ الكلام عند قوله - تعالى- : { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } ثمَّ ابتدأ فقال : { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة } ؛ لأنَّ الله - تعالى - جعل هذه الأشياء لهم قبل الخروج من بطون الأمَّهات ، وإنَّما أعطاهم العلم بعد الخروج » .
وسيأتي الكلام في حكمة ذكره السمع بلفظ المصدر ، والأبصار والأفئدة بلفظ الاسم في سورة السَّجدة إن شاء الله - تعالى- .
وقوله - تعالى- : { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع } ، أي لتسمعوا به الأمر والنهي ، « والأبْصَارَ » أي : لتبصروا بها آثار منفعة الله ، « والأفْئِدةَ » لتصلوا بها إلى معرفته - سبحانه وتعالى - وقوله : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، أي : نِعَمه .
قوله - تعالى- : { أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مُسَخَّرَاتٍ } الآية هذا دليلٌ آخر على كمال قدرة الله وحكمته .
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي : « ألَمْ تَروْا » بالتاء من فوق ، والباقون : بالياء على الحكاية لمن تقدَّم ذكره من الكفَّار .
قوله : { مَا يُمْسِكُهُنَّ } يجوز أن تكون الجملة حالاً من الضمير المستتر في « مُسخَّراتٍ » ، ويجوز أن تكون حالاً من الطير ، ويجوز أن تكون مستأنفة .
ومعنى « مُسخَّراتٍ » : مذللات ، « في جوِّ السَّماءِ » وهو الهواءُ بين السَّماء والأرض؛ قال : [ الطويل ]
3351- فَلسْتُ لإنْسيٍّ ولكِنْ لمَلأكٍ ... تَنزَّلَ من جوِّ السَّماءِ يَصُوبُ
وقيل : الجوُّ ما يلي الأرض في سمت العلوِّ واللوح والسُّكاك أبعد منه .
قال كعب الأحبار - رضي الله عنه- : إنَّ الطير يرتفع اثنا عشر ميلاً ولا يرتفع فوق هذا ، وفوق الجوِّ السُّكاك ، وفوق السُّكاك السماء ، و { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله } تعالى ، أي : في حال القبض ، والبسط ، و الاسطفاف ينزلهم كيف يعتبرونها في وحدانيَّته .
{ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } خصَّ هذه الآيات بالمؤمنين؛ لأنَّهم هم المنتفعون بها .
فصل
جسد الطائر جسم ثقيل ، يمتنع بقاؤه في الجوِّ معلَّقاً بلا علاقة ولا دعامة ، فوجب أن يكون الممسك له في الجوِّ هو الله - تعالى- ، والظاهر أن إبقاءه في الجوِّ فعله باختياره ، وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد خلق الله - تعالى- .
قال القاضي - رحمه الله- : إنَّما أضاف - تعالى - هذا الإمساك إلى نفسه؛ لأنه - تعالى - هو الذي أعطى الآلات التي يمكن الطير بها من تلك الأفعال ، فلما كان - تعالى جلَّ ذكره - هو المسبب لذلك ، صحَّت هذه الإضافة .
والجواب : هذا تركٌ للظاهر من غير دليل .
قوله - تعالى- : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً } الآية وهذا نوعٌ آخر من دلائل التوحيد .
قوله : « سَكَناً » يجوز أن يكون مفعولاً أولاً ، على أنَّ الجعل تصيير والمفعول الثاني أحد الجارين قبله ، ويجوز أن يكون الجعل بمعنى الخلقِ فيتعدَّى لواحدٍ ، وإنَّما وحد السكن؛ لأنه بمعنى ما يسكنون فيه ، قاله أبو البقاء .
وقد يقال : إنه في الأصل مصدر ، وإليه ذهب ابن عطية ، فتوحيده واضح إلا أن أبا حيَّان منع كون مصدراً ولم يذكر وجه المنع ، وكأنه اعتمد على قول أهل اللغة : إن السكن « فَعْل » بمعنى « مَفْعُول » : كالقَبْضِ والنقْضِ بمعنى المَنْقُوض والمَقْبُوض؛ وأنشد الفراء فقال : [ البسيط ]
3352- جَاءَ الشِّتاءُ ولمَّا أتَّخِذْ سَكَناً ... يَا وَيْحَ نَفْسِي مِنْ حَفْرِ القَرامِيصِ
والسَّكنُ : ما سكنتَ إليه وما سَكنْتَ فيه ، قال الزمخشري : « السَّكن ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلفٍ » .
واعلم أنَّ البيوت الَّتي يسكن فيها الإنسان على قسمين :
أحدهما : البيوت المتَّخذة من الحجر والمدر ، وهي المرادة من قوله : { جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً } وهذا القسم لا يمكن نقله بل الإنسان ينتقل إليه .
والثاني : البيوت المتَّخذة من القباب والخيام والفساطيط ، وهي المرادة بقوله : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا } وهذا القسم يمكن نقله مع الإنسان .
قوله : { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ } قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو بفتح العين ، والباقون بإسكانها ، وهما لغتان كالنَّهْر والنَّهَر .
وزعم بعضهم أن الأصل الفتح ، والسكون تخفيف لأجل حرف الحلق؛ كالشَّعْر والشعَر « .
والظَّعنُ مصدر ظعن ، أي : ارتحل ، والظَّعينةُ : الهوجد فيه المرأة وإلا فهو محمل ، ثم كثر حتى قيل للمرأة : ظعينة .
فصل
والمعنى : جعل لكم من جلودِ الأنعام بيوتاً ، يعني : الخِيَام ، والقِبَاب والأخبية ، والفَساطِيط من الأنطاع والأدم : ، » تَسْتَخِفُّونَها « أي : يخف عليكم حملها { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ } رحلتكم في سفركم ، والظَّعْنُ : سير [ البادية ] لنجعة أو لحضور ماء أو طلب مرتع ، والظَّعْنُ أيضاً : الهَوْدَج؛ قال : [ الهزج ]
3353- ألاَ هَلْ هَاجكَ الأظْعَانُ إذ بَانُوا ... وإذْ جَادتْ بِوشْكِ البَيْنِ غِرْبَانُ
{ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ } في بلدكم لا يثقل عليكم في الحالتين ، و » مِنْ « راجعة إلى الحالتين { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ } يعني : أصواف الضَّأن ، وأوبار الإبل ، وأشعار المعز ، والكنايات راجعة إلى الأنعام ، وذكر الأصواف والأوبار ولم يذكر القطن والكتاب؛ لأنهما لم يكونا ببلاد العرب .
قوله : » أثَاثاً « فيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب عطفاً على » بُيُوتًا « أي : وجعل لكم من أصوافها أثاثاً ، وعلى هذا يكون قد عطف مجروراً على مجرورٍ ، ومنصوباً على منصوب ، ولا فصل هنا بين حرف العطف والمعطوف حينئذ .
وقال أبو البقاء - رحمه الله- : » وقد فصل بينه وبين حرف العطف بالجار والمجرور ، وهو قوله عز وجل : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا } وهو ليس بفصل مستقبح كما زعم في الإيضاح؛ لأنَّ الجارَّ والمجرور مفعول ، و تقديم مفعول على مفعول قياس « .
وفيه نظر؛ لأنه عطف مجروراً على مثله ، ومنصوباً على مثله .
والثاني : أنه منصوب على الحال ، ويكون قد عطف مجروراً على مثله تقديره : وجعل لكم من جلود الأنعام ، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتاً حال كونها أثاثاً ، ففصل لالمفعول بين المتعاطفين ، وليس المعنى على هذا ، إنما هو على الأول .
والأثاث : متاع البيت إذا كان كثيراً ، وأصله : مِنْ أثَّ الشعرُ والنَّباتُ؛ إذا كشفا وتكاثرا؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
3354- وفَرْعٍ يُغَشِّي المَتْنَ أسْودَ فَاحمٍ ... أثِيثٍ كَقِنْوِ النَّخلَةِ المُتعَثْكِلِ
ونساءٌ أثائِثُ ، أي : كثيرات اللحم كأنّ عليهن أثاثاً ، وفلان كثر أثاثهُ . وقال الزمخشري : الأثاث ما جدَّ من فرش البيت ، والخُرثيُّ : ما قدم منها؛ وأنشد : [ البسيط ]
3355- تَقادمَ العَهْدُ من أمِّ الوليدِ بِنَا ... دَهْراً وصَارَ أثَاثُ البيتِ خُرثِيَّا
وهل له واحدٌ من لفظه؟ فقال الفراء : لا ، وقال أبو زيد : واحده أثاثة وجمعه في القلَّة : أثثة؛ ك « بَتَات » و « أبتَّة » ، وقال أبو حيَّان : وفي الكثير على أثث ، وفيه نظر؛ لأن « فعالاً » المضعَّف يلزم جمعة على أفعلة في القلَّة والكثرة ، ولا يجمع على « فُعُل » إلا في لفظتين شذَّتا ، وهما : عُيُن وحُجُج جمع عيَّان وحجَّاج ، وقد نص النحاة على منع القياس عليهما ، فلا يجوز : زمام وزُمُم بل أزمَّة وقال الخليل : الأثاث والمتاع واحد ، وجمع بينهما لاختلاف لفظهما؛ كقوله : [ الوافر ]
3356- . . ... وألْفَى قَوْلهَا كَذِباً ومَيْنَا
وقوله : [ الطويل ]
3357- . . ... وهِنْدٌ أتَى من دُونِهَا النَّأيُ والبُعْدُ
وقيل : متاعاً : بلاغاً ينتفعون به ، « إلى حين » يعني : الموت ، وقيل : إلى حين البِلَى .
قوله - تعالى- : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً } الآية فالإنسانُ إما أن يكون مقيماً أو مسافراً ، والمسافر إمَّا أن يكون غنيًّا يستصحب معه الخيام أو لا .
فالقسم الأول أشار إليه بقوله : { جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً } ، وأشار إلى القسم الثاني بقوله : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً } وأشار إلى القسم الثالث بقوله تعالى : { جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً } فإن المسافر إذا لم يكن له خيمة يستظل بها ، فإنَّه لا بد وأن يستظلَّ إما بجدار أو شجرٍ أو بالغمامِ؛ كما قال - سبحانه- : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام } [ الأعراف : 160 ] .
قوله تعالى : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً } جمع « كِنّ » ؛ وهو ما حفظ من الرِّيحِ والمطرِ ، وهو في الجبل : الغار ، وقيل : كلُّ شيءٍ وقَى شيْئاً ، ويقال : اسْتكن وأكَنّ ، إذا صار في كنٍّ .
واعلم أ بلاد العرب شديدة الحرِّ ، وحاجتهم إلى الظلِّ ودفع الحرِّ شديدة؛ فلهذا ذكر الله - تعالى - هذه المعاني في معرض النِّعمة العظيمة ، وذكر الجبال ولم يذكر السهول وما جعل لهم من السهول أكثر؛ لأنهم كانوا أصحاب جبال ، كما قال - تعالى- : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ } ؛ لأنَّهم كانوا أصحاب وبر وشعر ، كما قال - عز وجل- : { وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } [ النور : 43 ] وما أنزل من الثلج أكثر لكنهم كانوا لا يعرفون الثَّلج . وقال { تَقِيكُمُ الحر } وما يَقِي من البرد أكثر؛ لأنهم كانوا أصحاب حرٍّ .
ولمَّا ذكر الله - تعالى - أمر المسكن ، ذكر بعده أمر الملبُوسِ؛ فقال - جل ذكره- : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } والسَّرابيل : القُمص واحدها سربال .
قال الزجاج - رحمه الله- : « كل ما لبسته فهو سِرْبال ، من قميصٍ أو دِرْعٍ أو جَوشنٍ أو غيره » ؛ وذلك لأن الله - تعالى - جعل السَّرابيل قسمين :
أحدهما : ما يقي الحرَّ والبرد . والثاني : ما يتقى به من البأسِ والحروب .
فإن قيل : لم ذكر الحرَّ ولم يذكر البرد؟ .
فالجواب من وجوه :
أحدها : قال عطاء الخراساني : المخاطبون بهذا الكلام هم العرب ، وبلادهم حارَّة [ يابسة ] ، فكانت حاجتهم إلى ما يدفع الحرَّ أشدَّ من حاجتهم إلى ما يدفع البرد : كما قال - سبحانه وتعالى - { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ } وسائر أنواع الثياب أشرف ، إلا أنه - تعالى - ذكر هذا النَّوع؛ لأن عادتهم بلبسها أكثر .
والثاني : قال المبرِّد : ذكر أحد الضِّدَّين تنبيه على الآخر؛ كقوله : [ الطويل ]
3358- كَأنَّ الحَصَى من خَلْفِهَا وأمَامِهَا ... إذَا حَذفَتْهُ رجْلُهَا خَذفُ أعْسَرَا
لمَّا ثبت في العلوم العقليَّة أن العلم بأحد الضِّدين يستلزم العلم بالضدِّ الآخر ، فإنَّ الإنسان إذا خطر بباله الحر ، خطر بباله البرد أيضاً وكذا القول في النُّور والظلمة ، والسَّواد والبياض .
الثالث : قال الزجاج : « وما وقَى من الحرِّ وقى من البرد ، فكان ذكر أحدهما مغنياً عن الآخر » .
فإن قيل : هذا بالضدِّ أولى؛ لأن دفع الحرِّ يكفي فيه السَّرابيل التي هي القُمص دون تكلُّف زيادة ، أما البرد فإنَّه لا يندفع إلا بزيادة تكلُّف .
فالجواب : أن القميص الواحد لمَّا كان دافعاً للحر ، كانت السَّرابيل التي هي الجمع دافعة للبرد .
قوله : { كَذَلِكَ يُتِمُّ } ، أي : مثل ذلك الإتمام السابق ، { يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } في المستقبل .
وقرأ ابنُ عباس - رضي الله عنهما - : « تَتِمُّ » بفتح التاء الأولى ، « نِعْمَتُهُ » بالرفع على الفاعلية ، وقرأ أيضاً : « نِعَمَهُ » جمع نعمة مضافة لضمير الله - تعالى - ، وقرأ أيضاً : « لعلكم تَسْلَمُونَ » بفتح التاء واللام مضارع سَلِمَ من السلامة ، وهو مناسب لقوله : « تَقِيكُم بَأسكُمْ » ؛ فإنَّ المراد به الدُّروع الملبوسة في الحبب ، أو تؤمنوا فتسلموا من عذاب الله .
قوله : « فإنْ تَولَّوا » يجوز أن يكون ماضياً ، ويكون التفاتاً من الخطاب المتقدِّم ، وأن يكون مضارعاً ، ولأصل : تتولَّوا ، قحذف نحو : « تَنزَّلُ وتَذَّكرُونَ » ولا التفات على هذا ، بل هو جارٍ على الخطاب السَّابق .
ومعنى الكلام : فإن أعرضوا ، فلا يلحقك في ذلك عتب ولا تقصير ، وليس عليك إلاَّ ما فعلت من التَّبليغ التَّام .
قوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } هو جواب الشَّرط ، وفي الحقيقة جواب لشرط محذوف ، أي : فأنت معذور ، وأتى ذلك على إقامة السَّبب مقام المسبب؛ وذلك لأن تبليغه سبب في عذره ، فأقيم السَّبب مقام المسبب ، ثمَّ ذمَّهم بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ، وذلك نهاية في كفران النِّعمة ، وجيء ب طثُمَّ « هنا للدَّلالة أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة؛ لأنَّ من عرف النِّعمة حقُّه أن يعترف لا أن ينكر ، وفي المراد بالنِّعمة وجوه :
قال القاضي : هي جميع ما ذكر الله تعالى في الآيات المتقدِّمة ، ومعنى إنكارهم : أنهم ما أفردوه - تعالى - بالشُّكر والعبادة ، بل شكروا غيره وقالوا : إنما حصلت هذه النعمة بشفاعة الأصنام .
وقيل : المراد بالنِّعمة هنا : نُبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم عرفوا أنَّها حق ثمَّ أنكروها ، ونبوته نعمة عظيمة؛ كما قال - تعالى- : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] .
وقيل : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } ، أي : لا يستعملونها في طلب رضوان الله ، ثم قال جل ذكره : { وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون } .
فإن قيل : ما معنى قوله : { وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون } مع أنَّهم كلهم كافرون؟ .
فالجواب من وجوه :
الأول : إنما قال - عز وجل - { وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون } ؛ لأنه كان فيهم من لم تقم عليه الحجَّة؛ كالصَّبي وناقص العقل ، فأراد بالأكثر؛ البالغين الأصحاء .
والثاني : أن المراد بالكافر : الجاحد المعاند ، فقال : « وأكْثَرهُم » ؛ لأنه كان فيهم من لم يكن معانداً ، بل جاهلاً بصدق الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ولم يظهر له كونه نبيًّا حقًّا من عند الله .
الثالث : ذكر الأكثر وأراد الجميع؛ لأن أكثر الشيء ، يقوم مقام الكل؛ كقوله : { الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ لقمان : 25 ] .
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
قوله : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً } الآية لما بيَّن أنهم عرفوا نعمة الله ثمَّ أنكروها ، وذكر أن أكثرهم كافرون أتبعه بذكر الوعيد؛ فذكر حال يوم القيامة .
قوله : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ } فيه أوجه :
أحدها : منصوب بإضمار « اذْكُرْ » .
الثاني : بإضمار « خوفهم » .
الثالث : تقديره : ويوم نبعث ، وقعوا في أمر عظيم .
الرابع : أنه معطوف على ظرف محذوف ، أي : ينكرونها اليوم ويوم نبعث .
والمراد بأولئك الشهداء : الأنبياء - صلوات الله عليهم؛ كما قال - سبحانه وتعالى- : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] .
قوله : { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } قال الزمخشري : « فإن قلت : ما معنى » ثُمَّ « هذه؟ قلت : معناه : أنهم يُمْنَعُونَ بعد شهادة الأنبياء عليه السلام بما هو أطمّ منه ، وهو أنهم يمنعون الكلام ، فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا [ إدلاء ] حجة : . انتهى .
ومفعول الإذن محذوف ، أي : لا يؤذن لهم في الكلام؛ كما قال - تعالى- : { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 36 ] أي : في الرُّجوع إلى الدنيا .
وقيل : لا يؤذنُ لهم في الكلام أصلاً ، { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أي : لا تزال عتابهم وهي ما يعتبون عليها ويلامون؛ يقال : اسْتَعْتَبْتُ فلاناً بمعنى : أعْتَبْتُه ، أي : أزلت عُتْبَاه ، و » اسْتَفْعَل « بمعنى : » أفْعَلَ « غير مستنكرٍ ، قالوا : اسْتدنَيتُ فلاناً وأدْنَيتهُ بمعنًى واحد .
وقيل : السِّين على بابها من الطَّلب ، ومعناه : أنهم لا يسألون أن يرجعوا عما كانوا عليه في الدُّنيا ، فهذا استعتاب معناه طلب عتابهم .
وقال الزمخشري » ولا هم يسترضون ، أي : لا يقال لهم : أرضوا ربكم؛ لأن الآخرة ليست بدار عمل « . وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله - تعالى - في سورة حم السجدة؛ لأنه أليق لاختلاف القراء فيه . ثم إنَّه - تعالى - أكَّد هذا الوعيد فقال : { وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب } أي : أن هؤلاء المشركين إذا رأوا العذاب ووصلوا إليه ، فعند ذلك { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } ولا يؤخِّرون ولا يمهلون؛ لأن التوبة هناك غير موجودة .
قوله : » فَلا يُخَفَّفُ « هذه الفاء وما حيِّزها جواب » إذَا « ، ولا بدَّ من إضمار مبتدأ قبل هذه الفاء ، أي : فهو لا يخفف؛ لأن جواب » إذا « متى كان مضارعاً ، لم يحتج إلى فاء سواء كان موجباً؛ كقوله - تعالى - : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ } [ الحج : 72 ] أم منفيًّا؛ نحو : » إذَا جَاءَ زَيْدٌ لا يكرمك « .
قوله تعالى : { وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ } وهذا من بقيَّة وعيد المشركين ، وفي الشركاء قولان :
الأول : أن الله - تعالى- : يبعث الأصنام فتكذِّب المشركين ، ويشاهدونها في غاية الذُّلِّ والحقارة ، وكل ذلك مما يوجب زيادة الغمِّ والحسرة في قلوبهم .
والثاني : أن المراد بالشركاء : الشَّياطين الذين دعوا الكفَّار إلى الكفر؛ قاله الحسن - رضي الله عنه - ، وإنَّما ذهب إلى هذا القول؛ - لأنه - تعالى - حكى عن الشركاء أنَّهم كذَّبوا الكفار ، والأصنام جمادات فلا يصحُّ منهم هذا القول .
وهذا بعيد؛ لأن الله - تعالى - قادرٌ على خلق الحياة في الأصنام وعلى خلق العقل والنُّطق فيها .
قوله : { وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم } العامة على فتح السين واللام .
وقرأ أبو عمرو في رواية بسكون اللام ، ومجاهد بضمِّ السين واللام ، وكأنَّه جمع سلام؛ نحو : قُذال وقُذُل ، والسَّلَمُ واحد ، وقد تقدَّم الكلام عليهما في سورة النساء .
فصل
والمعنى : أن المشركين إذا رأوا تلك الشُّركاء ، { قَالُواْ رَبَّنَا هؤلاءآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِك } ، وفائدة هذا القول من وجهين :
الأول : قال أبو مسلم - رحمه الله- : « مقصود المشركين إحالةُ الذَّنب على الأصنام؛ ظنًّا منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله ، أو ينقص من عذابهم ، عند هذا تكذِّبهم تلك الأصنام » .
قال القاضي : « هذا بعيدٌ؛ لأن الكفار يعلمون علماً ضروريًّا في الآخرة أنَّ العذاب ينزل بهم ، ولا ينفعهم فدية ولا شفاعة » .
والثاني : أن المشركين يقولون هذا الكلام تعجُّباً من حضور تلك الأصنام ، مع أنه لا ذنب لها ، واعترافاً بأنَّهم كانوا مخطئين في عبادتها .
ثم حكى - تعالى - انَّ الأصنام يكذبونهم ، فقال : { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ } ، والمعنى : أنه - تعالى - يخلق الحياة والعقل والنطق في تلك الأصنام فيلقوا إليهم ، أي : يقولون لهم : « إنَّكُم لكَاذِبُونَ » .
فإن قيل : إن المشركين لم يقولوا ، بل أشاروا إلى اًنام ، فقالوا : هؤلاء شركاؤنا الذين كنَّا ندعو من دونك ، وقد كانوا صادقين في كلِّ ذلك ، فكيف قالت الأصنام طإنَّكم لكَاذبُونَ « ؟ .
فالجواب من وجوه :
أصحها : أن المراد من قولهم : » هؤلاء شُركاؤنَا « ، أي : أنَّ هؤلاء هم الَّذين كنَّا نقول : إنهم شركاء الله في المعبودية ، فالأصنام كذَّبوهم في إثبات هذه الشركة .
وقيل : المراد : إنَّهم لكاذبون في قولهم : إنَّا نستحقُّ العذاب بدليل قوله - تعالى - { كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ } [ مريم : 82 ] .
ثم قال : { وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم } قال الكلبي : استسلم العابد والمعبود ، وأقرُّوا لله بالرُّبوبية وبالبراءة عن الشركاء والأنداد .
وقيل : استسلم المشركون يومئذ إلى الله تعالى وإنفاذ الحكمة فيهم ولم تغنِ عنهم آلهتهم شيئاً ، { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } : زال عنهم ما كانوا يفترون من أنَّها تشفع لهم عند الله ، وقيل : ذهب ما زيَّن لهم الشيطان من أن لله صاحبة وشريكاً .
وقوله : { الذين كَفَرُواْ } يجوز أن يكون مبتدأ ، والخبر » زِدنَاهُم « وهو واضح ، وجوَّز ابن عطية أن يكون » الَّذينَ كَفروا « بدلاً من فاعل » يَفْترُونَ « ، ويكون » زِدْناهُم « مستأنفاً .
ويجوز أن يكون « الَّذينَ كَفرُوا » نصباً على الذَّمِّ أو رفعاً عليه ، فيضمر النَّاصب والمبتدأ وجوباً .
فصل
لما ذكر وعيد الذين كفروا ، أتبعه ب « وعيد » من ضمَّ إلى كفره صدَّ الغير عن سبيل الله ، وهو منعهم عن طريق الحقِّ .
وقيل : صدهم عن المسجد الحرام ، { زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب } ؛ لأنهم زادوا على كفرهم صَدَّ الغير عن الإيمان .
قال - عليه الصلاة والسلام - : « مَنْ سَنَّ سُنَّة سَيِّئةً فعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ من عَمِلَ بِهَا
» . « قال ابن عباس - رضي الله عنه - [ ومقاتل ] : » المراد بتلك الزيادة خمسة أنهار من صفر مذابٍ؛ تسيل من تحت العرش ، يعذَّبون بها ثلاثة بالليل واثنان بالنَّهار « .
وقال سعيد بن جبير : زدناهم عذاباً بحيّات كالبخت ، وعقارب كالبغال تلسعهم ، وقيل : يخرجون من حرِّ النار إلى زمهرير .
وقيل : يضعَّف لهم العذاب بما كانوا يفسدون ، أي : بذلك الصَّد .
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
قوله تعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } الآية .
وهذا نوع آخر من التَّهديد ، والأمة عبارة عن القرن والجماعة ، والمراد أن كلَّ نبيٍّ شاهدٌ على أمَّته؛ لأن الأنبياء كانت تبعث إلى الأمم من أنفسهم لا من غيرهم .
وقيل : المراد أن كل جمع وقرن يحصل في الدنيا ، فلا بدَّ وأن يحصل فيهم واحداً يكون شهيداً عليهم ، أمَّا الشَّهيد على الذين كانوا في عصر الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - فهو الرسول؛ لقوله - تعالى - : { وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] وقوله : { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاءآء } .
وقال الأصم : المراد بالشَّهيد هو أنَّه - تعالى - ينطق عشرة من أعضاء الإنسان تشهد عليه ، وهي : الأذنان ، والعينان ، والرجلان ، واليدان ، والجلد واللسان .
قال : والدَّليل عليه أنه قال في صفة الشّهيد أنَّه من أنفسهم ، وهذه الأعضاء لا شكَّ أنها من أنفسهم .
وأجاب القاضي عنه : بأنه - تعالى - قال : { شَهِيداً عَلَيْهِمْ } ، أي : على الأمَّة ، فيجب أن يكون غيرهم ، وأيضاً قال : « مِنْ كل أمةٍ » فيجب أن يكون ذلك الشَّهيد من الأمَّة ، وآحاد الأعضاء لا يصح وصفها أنها من الأمة ، وأما حمل الشهداء على الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - فبعيد؛ لأن كونهم مبعوثين إلى الخلق أمر معلوم بالضَّرورة ، فلا فائدة في حمل هذه الآية عليه .
قوله : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً } يجوز أن يكون « تِبْيَاناً » في موضع الحال ، ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله ، وهو مصدر ولم يجئ من المصادر على هذه الزِّنة إلا لفظتان : هذا والتِّلقاء ، وفي الأسماء كثيراً ، نحو « التِّمساح والتِّمثال » وأما المصادر فقياسها فتح الأول؛ دلالة على التكثير ك « التَّطوافِ » و « التَّجْوالِ » .
وقال ابن عطية : إنَّ « التِّبْيَان » اسمٌ وليس بمصدر والنحويُّون على خلافه .
قال شهاب الدين - رحمه الله- : وقد رَوَى الواحديُّ بإسناده ، عن الزجاج أنه قال : « التِّبيان » اسمٌ في ممعنى البيان .
وجه تعلُّق هذا الكلام بما قبله : أنه - تعالى - قال : { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاءآء } أي : أنه أزاح علتهم فميا كلِّفوا ، فلا حجَّة لهم ولا معذرة .
وقال نفاةُ القياس : دلَّت هذه الآية على أنَّ القرآن تبْيَانٌ لكل شيءٍ ، والعلوم إمَّا دينية ، أو غير دينية ، فالتي ليست دينية ، لا تعلُّق لها بهذه الآية؛ لأنَّا نعلمُ بالضرورة أنه تعالى إنما مدح القرآن بكونه مشتملاً على علوم الدين ، وأمَّا غير ذلك ، فلا التفاتَ إليه ، وأما علومُ الدِّين : فإمَّا الأصول ، وإما الفروع .
فأما علم الأصول : فهو بتمامه موجوٌ في القرآن .
وأما علم الفروع : فالأصل براءة الذِّمَّة ، إلا ما ورد على سبيل التفصيل في هذا الكتاب ، وذلك يدلُّ على أنه لا تكليف من الله إلاَّ ما ورد في هذا القرآن ، وإذا كان كذلك ، كان القول بالقياس باطلاً ، وكان القرآن وافياً بتبيان كل الأحكام .
قال الفقهاء : إنَّما كان القرآن « تِبياناً لكل شَيْءٍ » ؛ لأنه دلَّ على أنَّ الإجماع حجةٌ ، وبر الواحد ، والقياس حجة ، فإذا ثبت حكم من الأحكام بأحد هذه الأصولِ ، كان ذلك الحكم ثابتاً بالقرآن ، وقد تقدمت هذه المسألة في سورة الأعراف .
قال المفسرون : « تِبْياناً لكُلِّ شَيْءٍ » يحتاج إليه الأمرِ ، والنهيِ والحلالِ ، والحرامِ ، والحدودِ ، والأحكامِ ، « وهُدًى » من الضَّلالةِ ، « ورحْمَةٌ » و « بشرى » وبشارة « للمسلمين » ، قوله : « للمسلمين » متعلق ب « بشرى » ، وهو متعلق من حيث المعنى ب « هدى ورحمة » أيضاً .
وفي جواز كون هذا من التنازع ، نظر ، من حيث لزوم الفصل بين المصدر ، ومعموله بالظرف ، حال إعمالك غير الثالث؛ فتأمَّلهُ .
وقياس من جوَّز [ التنازع ] في فعل التعجب ، والتزام إعمال الثاني؛ لئلاَّ يلزم الفصل أن يجوم هذا على هذه الحالة .
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
قوله تعالى : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } الآية لما شرح الوعد ، والوعيد ، والتَّرغيب ، والتَّرهيب ، أتبعه بقوله : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } فجمع في هذه الآية ما يتصل بالتكاليف؛ فئضاً ، ونفلاً ، وما يتصل بالأخلاق ، والآداب : عموماً وخصوصاً .
روى ابن عباس - رضي الله عنه- : أن عثمان بن مظعون الجمحيَّ قال : ما أسلمتُ أولاً إلاَّ حياء من محمد - صلوات الله وسلامه عليه - ولم يتقرر الإسلام في قلبي فحضرته ذات يوم ، فبينما هو يحدِّثني ، إذ رأيت بصره شخص إلى السماءِ ، ثم خفضه عن يمينه ، ثم عاد لمثل ذلك؛ فسألته - صلوات الله وسلامه عليه - فقال : « بينما أنا أحدِّثك إذ بجبريل - صلوات الله وسلامه عليه - ينل عن يميني ، فقال : يا محمد ، إنَّ الله - تعالى - يأمرك بالعدل : شهادة أن لا إله إلا الله ، والإحسان : القيام بالفرائض ، وإيتاء ذي القربى ، أي : صلة القربى ، وينهى عن الفحشاء : الزِّنا ، والمنكرِ : ما لا يعرف في شريعة ، ولا سنة ، والبغي : الاستطالة » . قال عثمان : فوقع الإيمان في قلبي ، فأتيت أبا طالب؛ فأخبرته ، فقال : يا معشر قريش ، أتَّبعُوا ابن أخي؛ ترشدوا ، ولئن كان صادقاً أو كاذباً ، فإنه ما يأمركم إلا بمكارم الأخلاق ، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم من عمه اللِّين قال : يا عمَّاه ، أتأمر الناس أن يتَّبعوني ، وتدع نفسك! وجهد عليه؛ فأبى أن يسلم؛ فنزل : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - « إنَّ أجمع آيةٍ في القرآن لخيرٍ وشرٍّ هذه الآية » .
وعن قتادة : ليس في القرآن من خلقٍ حسنٍ ، كان في الجاهلية يعمل ، ويستحسن ، إلاَّ أمر الله - تعالى - به في هذه الآية ، وليس من خلقٍ سيِّءٍ ، إلاَّ نهى عنه في هذه الآية .
وعن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه قال : طأمر الله - تعالى - نبيَّهُ أن يعرض نفسه على قبائل العرب؛ فخرج ، وأنا معه وأبو بكرٍ - رضي الله عنه - فوقفنا على مجلسٍ عليهم الوقارُ ، فقال أبُو بكر - رضي الله عنه- : ممَّن القوم؟ فقالوا : من شيبان ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشهادتين إلى أن ينصروه؛ فإنَّ قريشاً كذَّبوه ، فقال مقرون بن عمرو : إلام تدعونا ، أخا قريش؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } الآية فقال مقرون : دعوت والله ، إلى مكارم [ الأخلاق ] ومحاسن الأعمال ، ولقد أفك قومٌ كذَّبوك ، وظاهروا عليك « .
فصل
قال ابن عباسٍ - رضي الله عنه- : العدلُ : التوحيدُ ، والإحسانُ : أداءُ الفرائضِ ، وعنه : العدلُ : الإخلاصُ في التوحيد ، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم :
« أنْ تَعْبُدَ الله كأنَّكَ تَراهُ » وسمِّي هذا إحساناً؛ لأنه محسن إلى نفسه .
وقيل : العدلُ : في الأفعال ، والإحسان : في الأقوال؛ فلا تفعل إلاَّ ما هو عدلٌ ، ولا تقل إلاَّ ما هو إحسانٌ .
قوله : { وَإِيتَآءِ ذِي القربى } مصدرٌ مضافٌ لمفعوله ، ولم يذكر متعلقات العدلِ والإحسان والبغي؛ ليعمَّ جميع ما يعدل فيه ، ويحسن به وإليه ويبغي فيه ، ولذلك لم يذكر المفعول الثاني للإيتاء ، ونصَّ على الأول حضًّا عليه؛ لإدلائه بالقرابة ، فإنَّ إيتاءه صدقة وصلة . قال - صلوات الله وسلامه عليه- : « إنَّ أعجلَ الطَّاعةِ ثَواباً صِلةُ الرَّحمِ » .
وقوله : { وينهى عَنِ الفحشاء } قيل : الزِّنا ، وقيل : البُخل ، وقيل : كل [ ذنب ] صغيرة كانت أو كبيرة ، وقيل : ما قبح من القول أو الفعل ، وأما المنكر فقيل : الكفر بالله ، وقيل : ما لا يعرف في شريعة ولا سنة ، والبغي : التَّكبر والظُّلم .
فصل
قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - كلاماً حاصله : « إنَّ في المأمورات كثرة ، وفي المنهيَّات كثرة ، وإنتما يحسن في تفسير لفظ بمعنًى إذا كان بين ذلك اللفظ والمعنى مناسبة ، وألا يكون ذلك التفسير فاسداً ، فإذا فسَّرنا العدل بشيء مثلاً ، وجب أن يتبيَّن مناسبة العدل لذلك المعنى ، وألاَّ يكون مجرَّد تحكم ، فنقول : إنه - تعالى - أمر في هذه الآية بثلاثة أشياء؛ وهي : العدل والإحسان وإيتاءِ ذي القربى ، ونهى عن ثلاثة أشياء؛ وهي : الفحشاء والمنكر والبغي ، فوجب أن يكون كل ثلاثة منها متغايرة؛ لأن العطف يوجب المغايرة ، فنقول : العدل عبارة عن الأمور المتوسِّطة بين طرفي الإفراط والتَّفريط ، وذلك واجب الرِّعاية في جميع الأشياء ، فنقول : التَّكليف إمَّا في الاعتقادات وإما في أعمال الجوارح .
أما الاعتقاد فنذكر منه أمثلة :
أحدها : ما قاله ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : إن العدل هو قولنا : لا إله إلاَّ الله ، وتحقيقه : أنَّ نفي الإله تعطيلٌ محضٌ ، وإثبات أكثر من إله واحد إشراك وتشبيه ، وهما مذمومان ، والعدل هو إثبات إلهٍ واحد .
وثانيها : أن القول بأنَّ الإله ليس بموجود ولا شيء تعطيل محضٌ ، والقول بأنه جسم مركب ومتحيِّز تشبيه محضٌ ، والعدل : إثبات إلهٍ واحدٍ موجودٍ منزَّه عن الجسميَّة والأجزاء والمكان .
وثالثها : أن القول بأنَّ الإله غير موصوف بالصِّفات من العلم والقدرة تعطيل محضٌ ، و القول بأنَّ صفاته حادثة متغيِّرة تشبيه محض ، العدل : إثبات أن الإله عالم قادرٌ حيٌّ ، وأن صفاته ليست محدثة ولا متغيرة - سبحانه وتعالى- .
ورابعها : أن القول بأن العبد ليس له قدرة ولا اختيار جبر محضٌ ، والقول بأن العبد مستقلٌّ بأفعاله قدر محضٌ؛ وهما مذمومان ، والعدل أن يقال : إن العبد يفعل الفعل بواسطة قدرة وداعية يخلقهما الله فيه .
وأما رعاية العدل في أفعال الجوارح فنذكر منه أمثلة :
أحدها : قال قوم : لا يجب على العبد شيء من الطَّاعات ، ولا يجب عليه الاحتراز عن شيء من المعاصي ، ونفورا التَّكاليف أصلاً .
وقال المانويَّة وقوم من الهند : إنه يجب على الإنسان أن يجتنب الطيِّبات ، ويحترز عن كل ما يميل الطَّبع إليه ، ويبالغ في تعذيب نفسه ، حتى إن المانويَّة يخصُّون أنفسهم ويحترزون عن التزوج ، ويحترزون عن أكل الطَّعام الطيِّب ، والهند يحرقون أنفسهم ، ويرمون أنفسهم من شاهق الجبل ، فهذان الطريقان مذمومان ، والعدل هو شرعنا .
وثانيها : قيل : إنه كان في شرع موسى - صلوات الله وسلامه عليه - في القتلِ العمد استيفاءُ القصاص لا محالة ، وفي شرع عيسى - صلوات الله وسلامه عليه - العَفو ، وأمَّا في شرعنا : فإن شاء استوفى القصاص ، وإن شاء عفا عن الدِّية ، وإن شاء عفا مطلقاً .
وقيل : كان في شرع موسى - صلوات الله وسلامه عليه - الاحتراز العظيم عن الحائض؛ حتَّى إنَّه يجب إخراجها من الدَّار ، وفي شرع عيسى صلى الله عليه وسلم حلُّ وطئها ، والعدل ما حكم به شرعنا؛ وهو تحريم وطئها فقط .
وثالثها : قال - تعالى- : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [ البقرة : 143 ] وقال - جل ذكره- : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] وقال - جل ذكره- : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } [ الإسراء : 29 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : « خَيْرُ الأمُورِ أوْسَطُهَا » .
ورابعها : أن شريعتنا أمرت بالختان ، والحكمة فيه : أن رأس الذَّكر جسم شديد الإحساس ، فلو بقيت القلفة ، لبقي العضو على كمال قوَّته ، فيعظم الالتذاذ ، أمَّا إذا قطعت الجلدة ، بقي العضو عارياً ، فيلقى الثياب وسائر الأجسام ، فيتصلب فيضعف حسُّه ويقل شعوره ، فيقلُّ الالتذاذُ بالوقاع ، فتقلُّ الرغبة فيه ، فأمرت الشريعة بالختان؛ سعياً في تقليل تلك اللذة ، حتَّى يصير ميلُ الإنسان إلى الوقاع معتدلاً ، وألاّ تصير الرَّغبة فيه داعية غالبة على الطَّبع .
فالذي ذهب إليه المانويَّة من الإخصاء وقطع الآلات مذموم؛ لأنه إفراطٌ ، وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة ، والعدل الوسط هو الختانُ .
واعلم أن الزِّيادة على العدل قد تكون إحساناً ، وقد تكون إساءة؛ فالعدل في الطاعات هو أداءُ الواجبات ، والزيادة على الواجبات طاعاتٌ ، فهي من جملة الإحسانِ؛ ولهذا قال - صلوات الله وسلامه عليه - لجبريل - صلوات الله وسلامه عليه - حين سأله عن الإحسان : « أنْ تَعْبُدَ الله كأنَّك تَراهُ فإن لَمْ تَكُنْ تَراهُ فإنَّه يَراكَ » .
وسمِّي هذا المعنى بالإحسان؛ لأنه بالمبالغة في الطاعة ، كأنه يحسن إلى نفسه بإيصالِ الخير والفعل الحسن ، ويدخل في الإحسان التعظيم لأمر الله ، والشَّفقة على خلق الله ، ويدخل في الشَّفقة على خلق الله أقسامٌ كثيرة ، وأعظمها : صلة الرحم؛ فلهذا أفرده - تعالى - بالذِّكر ، فقال - تعالى - : { وَإِيتَآءِ ذِي القربى } وأما الثَّلاثة التي نهى الله عنها؛ وهي : « الفحشاء والمنكر والبغي » فنقول : إنه - تعالى - أودع في النَّفس البشرية قوى اربعة؛ وهي : الشَّهوانيَّة البهيميَّة ، والغضبية والسبعيَّة ، والوهميَّة الشيطانية ، والعقلية الملكية .
فالعقلية الملكيَّة لا يحتاج الإنسان إلى تهذيبها؛ لأنه من جوهر الملائكة .
وأما القوَّة الشهوانية فرغبتها في تحصيل اللذَّات الشهوانية ، وهذا النَّوع مخصوص بالفحشاءِ ، ألا ترى أنه - تعالى - سمى الزنا فاحشة؛ فقال - جل ذكره - : { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء : 32 ] ، وقوله - تعالى- : { وينهى عَنِ الفحشاء } المراد منه : المنع من تحصيل اللذات الشهوانيَّة .
وأما القوَّة الغضبية السبعية : فهي أبداً تسعى في إيصال الشرور والأذى إلى سائر النَّاس ، وهذا ممَّا ينكره الناس ، فالمنكر عبارةٌ عن الإفراطِ الحاصل من آثار القوَّة الغضبيَّة .
وأما القوة الوهمية الشيطانية : فهي أبداً تسعى في الاستعلاء على الناس ، والترفع وإظهار الرِّياسة والتكبُّر ، وذلك هو المراد من البغي؛ فإنه لا معنى للبغي إلا التَّطاول على الناس والترفُّع عليهم .
قوله : « يَعِظُكمْ » يجوز أن يكون مستأنفاً في قوَّة التعليل للأمر بما تقدم ، أي : أن الوعظ سبب في أمره لكم بذلك ، وجوَّز أبو البقاء أن يكون حالاً من الضمير في « يَنْهَى » .
وفي تخصيصه الحال بهذا الفاعل فقط نظر؛ إذ يظهر جعله حالاً من فاعل « يَأمرُ » أيضاً ، بل أولى؛ فإنَّ الوعظ يكون بالأوامر والنَّواهي ، فلا خصوصية له بالنَّهي .
ثم قال تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } قال الكعبي : دلَّت الآية على أنَّه - تعالى - لا يخلق الجور والفحشاء من وجوه :
الأول : أنه - تعالى - كيف ينهاهم عما يخترعه فيهم ، وكيف ينهى ويريد تحصيله فيهم؟ ولو كان الأمر ما قالوه ، لكان كأنَّه - تعالى - قال : إنَّما يأمركم بخلاف ما خلقه فيكم ، وينهاكم عن أفعال خلقها فيكم ، وذلك باطلٌ في بديهة العقل .
الثاني : أنه - تعالى - أمر بالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، ونهى عن الفحشاء والمنهكر والبغي ، فلو أنَّه - تعالى - أمر بتلك الثلاثة ، ثم إنه - تعالى - ما فعلها ، لدخل تحت قوله - تعالى - : { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 44 ] ، وقوله - عز وجل- : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ، 3 ] .
الثالث : أن قوله - تعالى- : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ليس المراد منه الترجِّي والتَّمني؛ فإن ذلك محالٌ على الله - تعالى- ، فوجب أن يكون معناه : أنه - تعالى - يعظكم لإرادة أن يذكروا طاعته ، وذلك يدلُّ على أنه يريد الإيمان من الكلِّ .
الرابع : أنه - تعالى - لو صرَّح وقال : إن الله يأمر بالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، ولكنَّه يمنع منه ويصدُّ عنه ، ولا يمكن العبد منه ، ثم قال - تعالى - : { وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي } ، ولكنَّه يوجد كل هذه الثلاثة في العبد شاء أم أبى ، وأراده منه ومنعه من تركه ، ومن الاحتراز عنه؛ لحكم كل واحدٍ عليه بالرَّكاكة وفساد النظم والتركيب ، وذلك يدلُّ على كونه - تعالى - منزَّهاً عن فعل القبائح .
والمعتمد في الجواب مسألة العلم والدَّاعي .
فصل
اتَّفق المتكلِّمون من أهل السنَّة ومن المعتزلة على أن تذكُّر الأشياء من فعل الله - تعالى - لا من فعل العبد؛ لأنَّ التذكُّر عبارة عن طلب المتذكر ، فحال الطَّلب إمَّا أن يكون لديه شعور أو لا يكون؛ فإن كان له شعور به ، فذلك الذِّكر حاصلٌ ، والحاصل لا يطلب تحصيله ، وإن لم يكن له به شعور ، فكيف يطلبه بعينه؛ لأنَّ توجيه الطلب إليه بعينه حال ما لا يكون بعينه متصوراً محال .
إذا ثبت هذا ، فقوله : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } معناه : أن المقصود من هذا الوعظ أن يقدموا على تحصيل ذلك التذكُّر ، فإذا لم يكن التذكر فعلاً له ، فكيف طلب منه تحصيله؟ وهذا هو الذي يحتجُّ به أهل السنَّة على أنَّ قوله : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } لا يدلُّ على أنه - تعالى - يريد ذلك منه .
قوله - تعالى - : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ } الآية لما جمع المأمورات والمنهيَّات في الآية الأولى على سبيل الإجمال ، ذكر في هذه الآية بعض تلك الأقسام ، فبدأ بذكر الوفاء بالعهد .
قال الزمخشري : عهد الله : هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام؛ لقوله - تعالى - : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] ، { وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } وقيل : كل عهدٍ يلتزمه الإنسان باختياره . قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : والوَعْدُ من العهد .
وقال ميمون بن مهران : من عاهدته ، أوْفِ بعهده مسلماً كان أو كافراً ، فإنَّماوفاء العهد لله - تعالى - .
وقال الأصم : المراد منه الجهاد ، وما فرض الله في الأموال من حق ، وقيل : عهد الله هو اليمين بالله .
قال الشعبي : العهد يمين الله ، وكفَّارته كفارة يمين ، وإنما يجب الوفاء باليمين إذا لم يكن الصلاح في خلافه؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : « مَنْ حَلفَ علَى يَمِينٍ فَرَأى غَيْرهَا خَيْراً مِنْها فلْيَأتِ الَّذي هُوَ خَيْرٌ وليكفرْ عن يَمينهِ » .
واعلم أن قوله - تعالى - : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ } يجب أن يكون مختصًّا بالعهود التي يلتزمها الإنسان باختيار نفسه ، ويؤيِّده قوله - عز وجل - بعد ذلك : { وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } ، وأيضاً : يجب ألا يحمل العهد على اليمين؛ لأنَّا لو حملناه على اليمين ، لكان قوله بعد ذلك : { وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } تكرار؛ لأنَّ الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان؛ لأن الأمر بالفعل يستلزم النَّهي عن التَّرك؛ إلاَّ إذا قلنا : إن الوفاء بالعهد عامٌّ يدخل تحته اليمين ، ثم إنَّه تعالى - خصَّ اليمين بالذِّكر؛ تنبيهاً على أنَّه أولى أنواع العهد على ما اتقدَّم ، يلتزمه الإنسان باختياره ، ويدخل فيه عهد الجهاد ، وعهد الوفاءِ بالملتزمات من المنذورات والمؤكدات بالحلف .
قوله : « بَعْدَ تَوكِيدهَا » متعلق بفعل النَّهي ، والتَّوكيد مصدر وكَّد يُوكِّدُ بالواو وفيه لغة أخرى : أكَّد يُؤكِّدُ بالهمز ، ومعناه : التقوية؛ وهذا كقولهم : أرَّخْتُ الكتابَ ووَرَّخْتهُ ، وليست الهمزة بدلاً من واو كما زعم أبو إسحاق؛ لأن الاستعمالين في المادَّتين متساويان ، فليس ادِّعاء كون أحدهما أصلاً أولى من الآخر ، وتبع مكي الزجاج - رحمهما الله تعالى - في ذلك ، ثم قال : طولا يحسن أن يقال : الواو بدل من الهمزة ، كما لا يحسن أن يقال ذلك في « أحد » ، إذ أصله « وحَد » فالهمزة بدلٌ من الواو « يعني : أنه لا قائل [ بالعكس ] .
وكذلك تبعه في ذلك الزمخشري أيضاً ، و » تَوْكيدِهَا « مصدر مضافٌ لمفعوله ، وأدغم أبو عمرو الدَّال في التَّاء ، ولا ثاني له في القرآن ، أعني : أنه لم يدغم دال مفتوحة بعد ساكنٍ إلاَّ في هذا الحرف .
قوله تعالى : { وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله } الجملة حال : إمَّا من فاعل » تَنْقضُوا « ، وإمَّا من فاعل المصدر وإن كان محذوفاً .
فصل
المعنى : ولا تنقضوا الأيمان بعد تشديدها فتحنثوا فيها ، و { وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } : شهيداً عليكم بالوفاء .
{ إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } قالت الحنفيَّة : يمين اللَّغو هي يمين الغموس؛ لقوله - تعالى - : { وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } فنهى عن نقض الأيمان فوجب أن يكون كل يمين قابلاً للبر والحنث ، ويمين الغموس غير قابلة للبر والحنث ، فوجب ألا يكون من الأيمان .
وقال غيرهم : هي قول الإنسان في معرض حديثه : لا والله ، وبلى والله؛ لأن قوله - تعالى - { بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } إنما تقال للفرق بين الأيمان المؤكَّدة بالعزم وبالعقد ، وبين غيرها .
واعلم أن قوله - تعالى - : { وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } عامٌّ دخله التخصيص؛ لما تقدَّم من قوله - عليه الصلاة والسلام - : » مَنْ حَلفَ على يمينٍ فَرأى غَيْرهَا خيْراً منهَا ، فليَأتِ الَّذِي هو خَيْرٌ وليُكفر عن يَمينهِ « .
ثم إنه - تعالى - ضرب مثلاً لنقض العهد ، فقال - جل ذكره- : { وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ } ، أي : من بعد إبرامه وإحكامه .
قال الكلبيُّ ومقاتل - رحمهما الله تعالى - : هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش ، يقال لها : ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زبد مناة بن تميم ، وتلقب ب » جعراء « ، وكانت بها وسوسة وكانت اتخذت مغزلاً بقدر ذراع ، وصنَّارة مثل الأصبع ، وفلكة عظيمة على قدرها ، وكانت تغزل الغزل من الصوف أو الشعر والوبر هي وجواربها ، فكُنَّ يغزلنَ إلى نصف النَّهار ، فإذا انتصف النَّهار ، أمرتهنَّ بنقض جميع ما غزلن ، فكان هذا دأبها .
والمعنى : أنَّها لم تكلَّ عن العمل ، ولا حين عملت كفَّت عن النقض ، فكذلك أنتم إذا نقضتم العهد لا كفَّيتم عن العهد ، ولا حين [ عهدتم ] وفيتم به .
وقيل : المراد بالمثل : الوصف دو التَّعيين؛ لأن القصد بالأمثال صرف المكلَّف عن الفعل إذا كان قبيحاً ، والدُّعاء إليه إذا كان حسناً ، وذلك يتم دون التَّعيين .
قوله تعالى : « أنكاثاً » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه حال من « غَزلِهَا » ، والأنْكَاثُ : جمع نِكْث بمعنى منكُوث ، أي : منقوض .
والثاني : أنه مفعول ثان لتضمين « نَقضَتْ » معنى صيَّرت؛ كما تقول : فرقته أجزاء .
وجوَّز الزجاج فيه وجهاً ثالثاً ، وهو النصب على المصدرية؛ لأنَّ معنى نكثت : نقضت ، ومعنى نقضت : نكثت؛ فهو ملاق لعامله في المعنى .
قيل : وهذا غلط منه؛ لأنَّ الأنكاث جمع نكث ، وهو اسمٌ لا مصدر ، فكيف يكون قوله : « أنْكَاثاً » بمعنى المصدر؟ .
والأنْكَاث : الأنقاض ، واحدها نِكْث؛ وهو ما نقض بعد الفتل غزلاً كان أو حبلاً .
فصل
قال ابن قتيبة : هذه الآية متَّصلة بما قبلها ، والتقدير : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ، فإنَّكم إن فعلتم ذلك ، كنتم مثل امرأة غزلت غزلاً وأحكمته ، فلما استحكم ، نقضته فجعلته أنكاثاً .
قوله تعالى : { تَتَّخِذُونَ } يجوز أن يكون الجملة حالاً من واو « تكونوا » ، أو من الضمير المستتر في الجارِّ؛ إذ المعنى : تكونوا مشبهين كذا حال كونكم متَّخذين ، وهذا استفهام على سبيل الإنكار .
قوله : « دَخَلاً بَيْنكُمْ » هو المفعول الثاني ل « تَتَّخِذُونَ » ، والدَّخلُ : الفساد والدَّغل .
وقيل : « دَخَلاً » مفعول من أجله ، وقيل : الدَّخل : الدَّاخل في الشيء ليس منه .
قال الواحدي - رحمه الله تعالى - : « الدَّخلُ والدَّغلُ : الغِشُّ والخِيانةُ » .
وقيل : الدَّخل : ما أدخل في الشيء على فسادٍ ، وقيل : الدَّخل والدَّغل : أن يظهر الوفاء به ويبطن الغدر والنقض .
وقوله تعالى : « أنْ تَكُونَ » أي : بسبب أن تكون ، أو مخافة أن تكون ، و « تكون » يجوز أن تكون تامة؛ فتكون « أمَّةٌ » فاعلها ، وأن تَكُونَ ناقصة ، فتكون « أمَّةٌ » اسمها وهي مبتدأ ، و « أرْبَى » خبره ، والجملة في محلِّ نصب على الحال على الوجه الأول ، وفي موضع الجر على الوجه الثاني ، وجوَّز الكوفيون أن تكون « أمَّةٌ » اسمها ، و « هِيَ » عماد ، أي : ضمير فصل ، و « أرْبَى » خبر « تَكونُ » ، والبصريُّون لا يجيزون ذلك؛ لأجل تنكير الاسم ، فلو كان الاسم معرفة ، لجاز ذلك عندهم .
فصل
قال مجاهد - رحمه الله - : كانوا يحالفون الحلفاء ، فإذا وجدوا قوماً أكثر منهم وأعزَّ ، نقضوا حلف هؤلاء ، وحالفوا الأكثر ، فالمعنى : طلبتم العز بنقص العهدِ؛ بأن كانت أمة أكثر من أمةٍ ، فنهاهم الله - تعالى - عن ذلك .
ومعنى « أرْبَى من أمَّةٍ » ؛ أي : أزيدُ في العدد ، والقوَّة ، والشَّرف .
ثم قال - جل ذكره- : { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ } ، أي يختبركم الله بأمره إيَّاكم بالوفاءِ بالعهد .
والضمير في « به » يجوز أن يعود على المصدر المنسبك من « أنْ تَكُونَ » ، تقديره : إنَّما يَبلُوكمُ الله بكون أمَّة ، أي : يختبركم بذلك .
وقيل : يعود على الرِّبا المدلول عليه بقوله : « هي أرْبَى » .
وقيل : على الكثرة؛ لأنَّها في معنى الكثير .
قال ابن الأنباري رحمه الله تعالى : ملا كان تأنيثها غير حقيقي ، حملت على معنى التَّذكير؛ كما حملت الصَّيحة على الصِّياح ولم يتقدم للكثرة للفظ ، وإنما هي مدلول عليها بالمعنى من قوله تعالى : { هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } .
ثم قال : { وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } في الدُّنيا ، فيميِّز المحقَّ من المبطل .
قوله - تعالى- : { وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } الآية لما أمر القوم بالوفاء بالعهد وتحريم نقضه ، أتبعه ببيان أنه - تعالى - قادرٌ على أن يجمعهم على هذا الوفاء ، وعلى سائر أبواب الإيمان ، ولكنَّه - سبحانه وتعالى جل ذكره - بحكم الألوهية يضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء .
والمعتزلة حملوا ذلك على الإلجاء ، أي : لو أراد أن يلجئهم إلى الإيمان أو إلى الكفر ، لقدر عليه ، إلاَّ أنَّ ذلك يبطل التَّكليف ، فلا جرم ما ألجأهم إليه ، وفوَّض الأمر إلى اختيارهم ، وقد تقدَّم البحث في ذلك .
وروى الواحدي رحمه الله : أنَّ عزيراً قال : ربِّ ، خلقت الخلق فتضلُّ من تشاء وتهدي من تشاء ، فقال : يا عزير ، أعرض عن هذا ، فأعاده ثانياً ، فقال : يا عزير أعرض عن هذا ، فأعاده ثالثاً ، فقال : أعرض عن هذا وإلا محوتُ اسمك من [ ديوان ] النبوَّة .
قالت المعتزلة : ومما يدلُّ على أن المراد من هذه المشيئة مشيئته الإلجاء أنه - تعالى - قال بعده : { وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } فلو كانت أعمال العباد بخلق الله - تعالى- ، لكان سؤالهم عنها عبثاً ، وتقدَّم جوابه .
قوله تعالى- : { وَلاَ تتخذوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } وليس المراد منه التَّحذير عن نقض مطلق الأيمان ، وإلاَّ لزم التكرار الخالي عن الفائدة في موضع واحد ، بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن بعض أيمان مخصوصة أو أقدموا عليها .
فلهذا قال المفسرون : المراد : نهي الذين بايعوا الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - عن نقض عهده؛ لأن قوله : { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } لا يليق بنقض عهد قبله ، وإنما يليق بنقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان به وبشرائعه .
وقوله - تعالى- : { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } منصوب بإضمار « أنْ » على جواب النهي .
وهذا مثل يذكر لكل من وقع في بلاءٍ بعد عافيةٍ ، أو سقط في ورطة بعد سلامة ، أو محنة بعد نعمة .
قوله : { بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله } « مَا » مصدرية ، و « صَددتُّمْ » يجوز أن يكون من الصُّدود ، وأن يكون من الصدِّ ، ومفعوله محذوف ، ونكِّرت « قدم » ؛ قال الزمخشري « فإن قلت : لِمَ وحِّدث القدم ونكِّرت؟ .
قلت : لاستعظام أن تزلَّ قدم واحدة عن طريق الحقِّ بعد أن ثبتت عليه ، فكيف بأقدام كثيرة؟ » .
قال أبو حيَّان : « الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع ، وتارة يلحظ فيه اعتبار كل فرد فرد ، فإذا لوحظ فيه المجموع ، كان الإسناد معتبراً فيه الجمعيَّة ، وإذا لوحظ فيه كل فردٍ فردٍ ، فإنَّ الإسناد مطابق للفظ الجمع كثيراً ، فيجمع ما أسند إليه ، ومطابق لكل فردٍ فرد فيفرد؛ كقوله : { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ } [ يوسف : 31 ] لما كان لوحظ في قوله : » لَهُنَّ « معنى لكل واحدة ، ولو جاء مراداً به الجمعيَّة أو على الكثير في الوجه الثاني ، لجمع المتَّكأ؛ وعلى هذا يحمل قول الشاعر : [ الطويل ]
3359- فإنِّي رأيْتُ الضَّامرينَ مَتاعهُمْ ... يَموتُ ويَفْنَى فَارضِخِي مِنْ وِعَائيَا
أي : رأيت كلَّ ضامرٍ ، ولذلك أفرد الضمير في » يَموتُ ويَفْنَى « ، ولمَّا كان المعنى : لا يتخذ كل واحدٍ منكم جاء » فتَزلَّ قدَمٌ « مراعاةً لهذا المعنى .
ثم قال : » وتَذُوقُوا السوء « مراعاة للمجموع أو للفظ الجمع على الوجه الكثير ، إذا قلنا : إنَّ الإسناد لكل فرد فرد ، فتكون الآية قد تعرَّضت للنَّهي عن اتِّخاذ الأيمان دخلاً باعتبار المجموع ، وباعتبار كل فرد فرد ، ودلَّ على ذلك بإفراد » قَدمٌ « وبجمع الضمير في » وتَذُوقُواْ « .
قال شهاب الدين - رضي الله عنه - : وبهذا التقدير الذي ذكره أبو حيان يفوت المعنى الجزل الذي اقتنصه الزمخشري من تنكير » قَدمٌ « وإفرادها ، وأمَّا البيت المذكور ، فإن النحويين خرَّجوه على أن المعنى : يَموتُ من ثم ومن ذكر ، وأفرد الضمير لذلك لا لما ذكر .
فصل
المعنى : وتذوقوا العذاب بصدِّكم عن سبيل الله ، وقيل : معناه : سهَّلتم نقض العهد على النَّاس بنقضكم العهد ، { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، أي : ذلك السوء الذي تذوقونه » عَذابٌ عَظيمٌ « .
ثم أكَّد هذا التَّحذير فقال - جل ذكره- : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله ثَمَناً قَلِيلاً } أي : لا تنقضوا عهودكم تطلبون بنقضها عرضاً قليلاً من الدنيا ، ولكن أوفوا بها فإنَّ ما عند الله من الثَّواب لكم على الوفاء { هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } فضل ما بين العوضين .
ثم ذكر الدَّليل القاطع على أنَّ ما عند الله خير فقال : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ } ، أي الدنيا وما فيها تفنى ، { وَمَا عِندَ الله بَاقٍ } فقوله : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ } مبتدأ وخبر ، والنَّفادُ : الفَناءُ والذهاب ، يقال : » نَفِدَ « بكسر العين » يَنْفَدُ « بفتحها نفَاداً ونُفوداً ، وأما نقذَ بالذَّال المعجمة ففعله نَفَذَ الفتح ينفذُ بالضمِّ ، وسيأتي .
ويقال : أنفد القوم إذا فَنِيَ زادهم ، وخَصْمٌ مُنافِدٌ لينفد حجة صاحبه ، يقال : نافدته فنفدته .
وقوله : « بَاقٍ » تقدَّم الكلام عليه في الوقف في سورة الرعد ، وهذه الآية حجة عليه . قوله تعالى : { وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا } قرأ ابن كثيرٍ ، وعاصم وابن ذكوان : « وَلنَجْزينَّ » بنون العظمة التفاتاً من الغيبة إلى التكلُّم ، وتقدم تقرير الالتفات .
والباقون بياء الغيبة رجوعاً إلى الله - تعالى -؛ لتقدم ذكره العزيز في قوله : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ } .
قوله : { بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ } يجوز أن يكون [ « أفعل » ] على بابها من التفضيل ، وإذا جازاهم بالأحسن ، فلأن يجازيهم بالحسن أولى .
وقيل : ليست للتَّفضيل ، وكأنهم فرُّوا من مفهوم أفعل؛ إذ لا يلزم من المجازاة بالأحسن المجازاة بالحسن ، وهو وهمٌ ، لما تقدَّم من أنَّه من مفهوم الموافقة بطريق الأولى ، والمعنى : ولنجزين الذين صبروا على الوفاءِ في السَّراء والضَّراء { بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
ثم إنه رغَّب المؤمنين في الإتيان بكلِّ ما كان من شرائع الإسلام؛ فقال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وفيه سؤالٌ : وهو أن لفظة « مَنْ » في قوله : « مَن عَملَ » تفيد العموم ، فما الفائدة في ذكر الذَّكر والأنثى؟ .
والجواب : أن هذه الآية للوعد بالخيراتِ ، والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم والرَّحمة ، فأتى بذكر الذَّكر والأنثى للتأكيد ، وإزالة الوهم بالتخصيص .
قوله : « مِنْ ذَكرٍ » « مِنْ » للبيان ، فتتعلق بمحذوف ، أعني : من ذكرٍ ، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل « عَمِلَ » ، وقوله : « وهُوَ مُؤمِنٌ » جملة حاليَّة أيضاً .
وهذه الآية تدلُّ على أن الإيمان مغاير للعمل الصالح؛ لأنه - تعالى - جعل الإيمان شرطاً في كون العمل الصَّالح موجباً للثَّواب ، وشرط الشيء مغاير لذلك الشيشء .
فإن قيل : ظاهر الآية يقتضي أنَّ الإتيان بالعمل الصَّالح إنما يفيد الأثر بشرط الإيمان ، وظاهر قوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] يدل على أن العمل الصالح يفيد الأثر سواء كان مع الإيمان أو عدمه .
فالجواب : أن إفادة العمل الصالح للحياة الطيبة مشروط بالإيمان ، أمَّا إفادته لأثرٍ غير هذه الحياة الطيبة وهو تخفيف العذاب؛ فإنَّه لا يتوقف على الإيمان .
فصل
قال سعيد بن جبير - رحمه الله - وعطاء : « الحياة الطَّيِّبة : هي الرِّزقُ الحلال » وقال الحسن : هي القناعة ، وقال مجاهد وقتادة : هي الجنة .
قال القاضي : الأقرب أنها تحصل في الدنيا؛ لقوله تعالى : { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } والمراد : ما [ لا ] يكون في الآخرة .
قوله : « ولنَجْزِينَّهُمْ » راعى معنى « مَنْ ، فجمع الضمير بعد أن راعى لفظها ، فأفرد في » لنحيينه « وما قبله ، وقرأ العامة : » ولنجزينه « بنون العظمة؛ مراعاة لما قبله ، وقرأ ابن عامر في رواية بياء الغيبة ، وهذا ينبغي أن يكون على إضمار قسم ثان ، فيكون من عطف جملة قسميَّة على جملة قسمية مثلها ، حذفتا وبقي جوابهما ، ولا جائز أن يكون من عطف جواب على جواب؛ لإفضائه إلى [ إخبار ] المتكلم عن نفسه إخبار الغائب ، ولا يجوز؛ لو قلت : » زيد قال : والله لأضربن هِنْداً وليَنْفِينَّهَا زَيْدٌ « لم يجز ، فإن أضمرت قسماً آخر ، جاز ، أي : وقال : والله لينفينَّها فإن لك في مثل هذا التركيب أن تحكي لفظه ، ومنه { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى } [ التوبة : 107 ] وأن يحكي معناه ، ومنه { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ } [ التوبة : 74 ] ولو جاء على اللفظ ، لقيل ما قلنا .
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
قوله - تعالى - { فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن } الآية لما قال - تعالى- : { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النحل : 97 ] ، أرشد إلى العمل الذي به يخلِّص أعماله من الوساوس ، فقال - جل ذكره - : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن } أي : فإذا أردت ، فأضمر الإرادة .
قال الزمخشري : « لأنَّ الفعل يوجد عند القصد والإرادة من غير فاصل ، على حسبه ، فكان منه بسببٍ قويٍّ وملابسة ظاهرة » .
وقال ابن عطيَّة : « » فإذَا « وصلة بين الكلامين ، والعرب تستعملها في هذا ، وتقدير الآية : فإذا أخذت في قراءة القرآن ، فاستعذ » .
وهذا مذهب الجمهور من القرَّاء والعلماء ، وقد أخذ بظاهر الآية - فاستعاذ بعد أن قرأ - من الصحابة - أبو هريرة - رضي الله عنه- ، ومن الأئمة : مالكوابن سيرين وداود ، ومن القرَّاء حمزة - رضي الله عنهم؛ قالوا : لأنَّ الفاء في قوله : { فاستعذ بالله } للتعقيب ، والفائدة فيه : أنه إذا قرأ القرآن يستحقُّ به ثواباً عظيماً ، فإذا لم يأت بالاستعاذة ، وقعت الوسوسة في قلبه ، وذلك الوسواس يحبط ثواب القراءة ، فإذا استعاذ بعد القراءة ، اندفعت تلك الوساوس ، وبقي الثَّواب مصوناً عن الانحطاط .
وذهب الأكثرون : إلى أنَّ الاستعاذة مقدمة على القراءة ، والمعنى : إذا أردت أن تقرأ القرآن ، فاستعذ؛ كقوله : إذَا أكلت ، فقل : بِسْم الله ، وإذا سافرت ، فتأهَّب ، وقوله - تعالى - { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ } [ المائدة : 6 ] ، وأيضاً : قد ثبت أن الشَّيطان ألقى الوسوسة في أثناء قراءة الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -؛ بدليل قوله - عز وجل- : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ } [ الحج : 52 ] ، ومن الظاهر أنه - تعالى - إنما أمر الرَّسول - صلوات الله وسلامه عليه - بالاستعاذة عند القراءة؛ لدفع تلك الوساوس ، وهذا المقصود إنَّما يحصل عند تقديم الاستعاذة .
وذهب عطاء إلى أنَّ الاستعاذة واجبة عند قراءةِ القرآن ، كانت في الصَّلاة أو غيرها .
ولا خلاف بين العلماء في أن التَّعوذ قبل القراءة في الصَّلاة أوكد .
واعلم أنَّ هذا الخطاب للرسول - صلوات الله وسلامه عليه- ، والمراد منه الكلُّ؛ لأن الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - إذا كان محتاجاً للاستعاذة عند القراءةِ ، فغيره أولى ، والمراد بالشيطان في هذه الآية : قيل : إبليس ، وقيل : الجنس؛ لأنَّ جميع المردة لهم حظٌّ في الوسوسة .
ولما أمر رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - بالاستعاذة من الشيطان ، وكان ذلك يوهم أنَّ للشيطان قدرة على التصرُّف في أبدان النَّاس ، فأزال الله تعالى هذا الوهم وبيَّن أنه لا قدرة له ألبتَّة على الوسوسة؛ فقال - تعالى- : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ويظهر من هذا أنَّ الاستعاذة إنما تفيد إذا حضر في قلب الإنسان كونه ضعيفاً ، وأنَّه لا يمكنه التحفُّظ عن وسوسة الشيطان إلا بعصمة الله تعالى ، ولا قوَّة على طاعة الله إلا بتوفيق الله ، والتَّفويض الحاصل على هذا الوجه هو المراد من قوله : { وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ، والاستعاذة بالله هي الاعتصام به .
ثم قال : { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ } قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما- : « يطيعونه ، يقال : توليته ، أي : أطعته ، وتولَّيت عنه ، أي : أعرضت عنه .
قوله : { والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } الضمير في » بِهِ « الظاهر عوده على الشيطان ، لتتحد الضمائر ، و المعنى : والذين هم به مشركون بسببه؛ كما تقول للرجل إذا تكلَّم بكلمة مؤدِّية إلى الكفر : كفرت بهذه الكلمة ، أي : من أجلها؛ فكذلك قوله : { والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } والمعنى : من أجل حمله إيَّاهم على الشِّرك صاروا مشركين .
وقيل : والذين هم بإشراكهم إبليس مشركون بالله ، ويجوز أن يعود على » ربِّهِمْ « .
قوله : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ } والتَّبدِيل : رفع الشيء مع وضع غيره مكانه ، وهو هنا النسخ .
قوله : { والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } في هذه الجملة وجهان :
أظهرهما : أنها اعتراضٌ بين الشرط وجوابه .
والثاني : أنَّها حاليَّة؛ فعلى الأول يكون المعنى : والله أعلم بما ينزِّل من الناسخ والمنسوخ ، والتغليظ والتخفيف ، أي : هو أعلم بجميع ذلك في مصالح العباد ، وهذا توبيخٌ للكفار على قولهم : » إنَّما أنْتَ مُفْتَرٍ « ، أي : إذا كان هو أعلم بما ينزِّل ، فما بالهم ينسبون محمداً إلى الافتراء؛ لأجل التَّبديل والنسخ ، وقوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : لا يعلمون حقيقة القرآن ، وفائدة النسخ والتبديل ، وأن ذلك لمصالح العباد ، وقولهم : » إنَّما أنْتَ مُفتَرٍ « نسبوا إليه صلى الله عليه وسلم الافتراء بأنواع من المبالغات وهي الحصر والخطاب ، واسم الفاعل الدال على الثُّبوت والاستقرار ، ومفعول » لا يعلمون « محذوف للعلم به ، أي : لا يعلمون أنَّ في نسخ الشَّرائع وبعض القرآن حكماً بالغة .
قوله : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس } تقدَّم تفسيره في البقرة .
قال الزمخشري رحمه الله : » رُوحُ القدس : جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - أضيف إلى القدس وهو الطُّهْر؛ كما تقول : حاتم الجُودِ ، وزيد الخَيْرِ ، والمراد : الرُّوح المقدس ، وحاتم الدواد ، وزيد الخيِّر « .
و » مِنْ « في قوله : » مِن رَّبِّكَ « صلة للقرآن ، أي أن جبريل نزَّل القرآن من ربك؛ ليثبِّت الذين آمنوا ، أي : ليبلوهم بالنسخ ، حتَّى إذا قالوا فيه : هو الحقُّ من ربِّنا ، حكم لهم بثبات القدم في الدِّين ، وصحَّة اليقين بأن الله حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب .
قوله تعالى : { وَهُدًى وبشرى } يجوز أن يكون عطفاً على محلِّ » لِيُثبِّتَ « فينصبان ، أو على لفظه باعتبار المصدر المؤوَّل؛ فيجران ، والتقدير : تثبيتاً لهم ، وإرشاداً وبشارة ، وقد تقدم كلام الزمخشري في نظيرهما وما ردَّ به أبو حيَّان عليه وجوابه .
وجوَّز أبو البقاء ارتفاعهما خبر مبتدأ محذوف ، أي : وهو هدى ، والجملة حال وقرئ : « لِيُثبتَ » مخففاً من « أثْبَت » .
فصل
قد تقدَّم أن أبا مسلم الأصفهاني ينكر النسخ في هذه الشريعة ، فقال : المراد ههنا : وإذا بدَّلنا آية مكان آية ، أي : في الكتب المتقدمة؛ مثل آية تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الككعبة ، قال المشركون : أنت مفترٍ في هذا التبديل ، وأكثر المفسرين على خلافه ، وقالوا : إن النسخ واقعٌ في هذه الشريعة .
فصل
قال الشافعي - رضي الله عنه - : القرآن لا ينسخ بالسنة؛ لقوله - تعالى- : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ } وهذا يقتضي أن الآية لا تنسخ إلا بآية أخرى ، وهذا ضعيف؛ لأن هذه الآية تدلُّ على أنَّه - تعالى - يبدِّل آية بآيةٍ أخرى ، ولا دلالة فيها على أنه - تعالى - لا يبدِّل آية إلا بآيةٍ ، وأيضاً : فجبريل - عليه السلام - قد ينزل بالسنة كما ينزل بالآية .
قوله - تعالى- : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } الآية هذه حكاية شبهة أخرى من شبهات منكري نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك لأنهم ك انوا يقولون : إن محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - إنَّما يذكر هذه القصص ، وهذه الكلمات إنما يستفيدها من إنسان آخر ويتعلمُّها منه .
واختلفوا في ذلك البشر : فقال ابن عباس - رضي الله عنه- : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّم فتى بمكة اسمه « بلْعَام » ، وكان نصرانيًّا أعجمي اللسان يقال له : أبو ميسرة ، وكان يتكلم بالروميَّة ، فكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج ، فكانوا يقولون : إنما يعلمه « بلعام » .
وق لعكرمة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقرئ غلاماً لبني المغيرة ، يقال له : « يَعِيش » ، وكان يقرأ الكتب ، فقالت قريش : إنما يعلمه « يَعِيش » .
وقال الفراء : كان اسمه « عائش » مملوك لحويطب بن عبد العزى ، وكان قد أسلم وحسن إسلامه ، وكان أجميًّا ، وقيل : اسمه « عدَّاس » غلام « عتبة بن ربيعة » .
وقال ابن إسحاق : كان رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - كثيراً ما يجلس عند المروة إلى غلام روميٍّ نصراني عبد لبني الحضرمي ، يقال له : « جَبْر » ، وكان يقرأ الكتب ، وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي : كان لنا عبدان من أهل عين التَّمر ، يقال لهما : يسار ويكنى : أبا فكيهة ، وجبر ، وكانا يصنعان السيوف بمكَّة ، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل ، فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما يقرآن ، فيقف ويسمع .
قال الضحاك : وكان - صلوات الله وسلامه عليه - إذا آذاه الكفَّار يقعد إليهما ، فيستروح بكلامهما ، فقال المشركون : إنما يتعلَّم محمد منهما فنزلت الآية .
وقيل : سلمان الفارسي رضي الله عنه ، فكذبهم الله - تعالى - بقوله : { لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } .
قوله تعالى : { لِّسَانُ الذي } العامة على إضافة « لِسانُ » إلى ما بعده ، و المراد باللسان هنا : القرآن ، والعرب تقول للغة : لسان .
وقرأ الحسن - رضي الله عنه- : اللِّسان معرفاً ب « أل » ، و « الَّذِي » نعت له وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : لا محلَّ لها؛ لاستئنافها ، قاله الزمخشري .
والثاني : أنَّها حال من فاعل « يَقُولونَ » ، أي : يقولون ذلك والحال هذه؛ أي : علمهم بأعجميَّة هذا البشر ، وإبانة عربيَّة هذا القرآن كان ينبغي أن يمنعهم من تلك المقالة؛ كقولك : تَشْتمُ فلاناً وهُو قَدْ أحْسنَ إليْكَ ، أي : وعلمك بإحسانه إليك كان يمنعك من شتمه ، قاله أبو حيان رحمه الله .
ثم قال : « وإنَّما ذهب الزمخشري إلى الاستئناف لا إلى الحال؛ لأن من مذهبه أنَّ مجيء الحال جملة اسميَّة من غير واو شاذٌّ ، وهو مذهب مرجوح تبع فيه الفراء » .
و « أعجَميٌّ خبر على كلتا القراءتين ، والإلحاد في اللغة : الميل ، يقال : لَحَدَ وألْحَدَ؛ إذا مال عن القصد ، ومنه يقال للعادل عن الحقِّ : مُلِْد .
وقرأ حمزة والكسائي : » يَلْحَدُونَ « بفتح الايء والحاء ، والباقون بضم الياء وكسر الحاء .
قال الواحدي - رحمه الله- : والألى ضم الياء؛ لأنه لغة القرآن ، ويدلُّ عليه قوله - تعالى - : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } [ الحج : 25 ] وتقدَّم خلاف القراء في المفتوح في الأعراف .
والإلحاد قد يكون بمعنى الإمالة؛ ومنه يقال : الْحَدت له لَحْداً؛ إذا حفرت له في جانب القبر مائلاً عن الاستواء ، وقبر مُلْحَد ومَلْحُود ، ومنه المُلْحِد؛ لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلِّها ، لم يمله عن دينٍ إلى دينٍ ، وفسِّر الإلحاد في هذه الآية بالقولين .
قال الفراء : يَمِيلُون من المَيْلِ . وق لالزجاج : يَمِيلُونَ من الإمالةِ ، أي : لسان الذي يميلون القول إليه أعجمي .
والأعجمي : قال أبو الفتح الموصلي : » تركيب « » ع ج م « وضع في كلام العرب للإبهام والإخفاء ، وضدُّه البيان والإيضاح؛ ومنه قولهم : رَجُلٌ أعجم وامْرأةٌ عَجماء؛ إذا كانا لا يفصحان ، والأعجمي : من لم يتكلم بالعربية . وقال الراغب : العجم خلاف العرب ، والعجم منسوب إليهم ، والأعجم : من في لسانه عجمه عربيًّا كان أو غير عربي؛ اعتباراً بقلَّة فهمه من العجمة .
والأعجمي منسوب إليه ، ومنه قيل للبهيمة : عجماء؛ لأنها لا تفصح عما في نفسها ، وصلوات النَّهار عجماء ، أي : لا يجهر فيها ، والعجَمُ : النَّوى لاختفائه .
قال بعضهم : معناه أن الحروف المجرَّدة لا تدلُّ على م اتدلُّ عليه الموصولة وأعْجَمتُ الكتابَ ضد أعربتهُ ، وأعجمتهُ : أزلت عمتهُ؛ كأشْكَيتهُ : أزلتُ شِكايَتهُ .
قال الفراء وأحمد بن يحيى : الأعجم : هو الذي في لسانه عجمة ، وإن كان من العرب ، والأعجمي والعجمي : الذي أصله من العجم قال أبو علي الفارسي : الذي لا يفصح سواءٌ كان من العرب أو من العجم؛ ألا ترى أنهم قالوا : زياد الأعجم؛ لأنه كانت في لسانه عجمة مع أنَّه كان عربيًّا؟ وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى في « الشعراء » ، و « حم السجدة » .
وق لبعضهم : العجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحاً ، والعربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن فصيحاً .
فصل
المعنى : إنَّ لسان الذي ينسبون التعلّم منه أعجمي ، وهذا القرآن عربي فصيح ، فتقرير هذا الجواب كأنه قال : هب أنه يتعلَّم المعاني من ذلك الأعجمي ، إلا أنَّ القرآن إنَّما كان معجزاً لما في ألفاظه من الفصاحة ، فبتقدير أن تكونوا صادقين في أن محمَّداً - عليه الصلاة والسلام - يتعلم تلك المعاني من ذلك الرجل ، إلا أن ذلك لا يقدح في المقصود؛ لأن القرآن إنما كان معجزاً لفصاحته اللفظيَّة .
ولما ذكر - تعالى - هذا الجواب ، أردفه بالتهديد؛ فقال - عز وجل- : { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله لاَ يَهْدِيهِمُ الله } قال القاضي : لا يهديهم إلى طريق الجنَّة لقوله بعده : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : أنهم لما تركوا الإيمان بالله ، لا يهديهم الله إلى الجنَّة ، بل يسوقهم إلى النَّار ، ثم إنه - تعالى - بين كونهم كاذبين في ذلك القول ، فقال - تعالى- : { إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله وأولئك هُمُ الكاذبون } والمقصود منه أنه - تعالى - بيَّن في الآية السابقة أن الذي قالوه بتقدير أن يصح لم يقدح في المقصود ، ثم بين في هذه الآية أن الذي قالوه لم يصحَّ ، وهم كذبوا فيه ، والدليل على كذبهم وجوه :
أحدها : أنهم لا يؤمنون بآيات الله تعالى وهم كافرون ، وإذا كان الأمر كذلك ، كانوا أعداء للرسول - صلوات الله وسلامه عليه - وكلام العدو ضرب من الهذيان ولا شهادة لمتَّهم .
وثانيها : أن التعلُّم لا يتأتَّى في جلسه واحدة ولا يتم بالخفية ، بل التعلُّم إنما يتمُّ إذا اختلف المتعلِّم إلى المعلِّم أزمنة متطاولة ، وإذا كان كذلك ، اشتهر فيما بين [ الخلق ] أن محمداً - صلوات الله وسلامه عليه - يتعلم العلوم من فلان ومن فلان .
وثالثها : أن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة ، وتعلُّمها لا يتأتى إلا إذا كان المعلم في غاية الفضل والتحقيق ، فلو حصل فيهم إنسان بلغ في العلم والتحقيق إلى هذا الحد ، لكان مشاراً إليه بالأصابع في التحقيق والتدقيق في الدنيا ، فكيف يمكن تحصيل هذه العلوم العالية الشريفة والمباحث النفيسة من عند فلان وفلان؟
وإذا كان الأمر كذلك ، فالطَّعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بأمثال هذه الكلمات الرَّكيكة يدلُّ على أن الحجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة باهرة ، وهذه الآية تدلُّ على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش؛ لأن كلمة « إنَّما » للحصر ، والمعنى : أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله - تعالى- .
فإن قيل : قوله { لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله } فعل ، وقوله تعالى : { وأولئك هُمُ الكاذبون } اسم وعطف الجملة الاسميَّة على الجملة الفعلية قبيح فما السَّبب في حصولها ههنا؟ .
فالجواب : الفعل قد يكون لازماً وقد يكون مفارقاص ، ويدلُّ عليه قوله - تعالى - : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ } [ يوسف : 35 ] ذكره بلفظ الفعل تنبيهاً على أن ذلك الحبس لا يدوم .
وقال فرعون لموسى : { لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين } [ الشعراء : 29 ] ذكره بصيغة الاسم تنبيهاً على الدَّوام ، وقالوا في قوله - تعالى - : { وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى } [ طه : 121 ] لا يجوز أن يقال : إن آدم - صلوات الله وسلامه عليه- عاصٍ وغاوٍ؛ لأن صيغة الفعل لا تفيد الدَّوام ، وصيغة الاسم تفيده .
إذا عرفت هذه المقدمات ، فقوله - تعالى- : { إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله } تنبيه على أنَّ من أقدم على الكذب فإنه دخل في الكفر .
ثم قال - جل ذكره - { وأولئك هُمُ الكاذبون } ؛ تنبيهاً على أن صفة [ الكذب ] فيهم ثابتة [ راسخة ] دائمة؛ كما تقول : كذبت ، وأنت كاذب ، فيكون قولك : « وأنت كاذب » زيادة في الوصف بالكذب ، ومعناه : إنَّ عادتك أن تكون كاذباً .
واعلم أن الآية تدلُّعلى ان الكاذب المفتري هو الذي لا يؤمن بآيات الله ، والأمر كذلك؛ لأنه لا معنى للكفر إلا إنكار الإلهيَّة ونبوَّة الأنبياء ، ولا معنى لهذا الإنكار .
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : هَلْ يَكْذبُ المُؤمِنُ؟ قال : « لاَ » ثم قرأ هذه الآية .
قوله تعالى : { مَن كَفَرَ بالله } يجوز فيه أوجه :
أحدهما : أن يكون بدلاً من « الَّذينَ لا يُؤمِنُونَ » ، أي : إنَّما يفتري الكذب من كفر ، واستثنى منهم المكره ، فلم يدخل تحت الافتراء .
الثاني : أنه بدل من « الكَاذبُونَ » .
الثالث : أنه بدلٌ من « أوْلئِكَ » ، قاله الزمخشري .
فعلى الأول يكون قوله : { وأولئك هُمُ الكاذبون } جملة معترضة بين البَدَل والمُبْدَل منه .
واستضعف ابو حيَّان الأوجه الثلاثة؛ فقال : « لأن الأوَّل يقتضي أنه لا يفتري الكذب إلا من كفر بالله من بعد إيمانه ، والوجود يقتضي أن المفتري هو الذي لا يؤمن بالله سواء كان ممن كفر بعد إيمانه أو كان ممن لم يؤمن قطّ؛ بل الأكثر الثاني ، وهو المفتري .
قال : وأما الثاني : فيؤول المعنى إلى ذلك؛ إذ التقدير : وأولئك ، أي : الذين لا يؤمنون هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، والذين لا يؤمنون هم المفترون .
وأما الثالث : فكذلك؛ إذ التقدير : أن المشار إليهم هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، مخبراً عنهم بأنهم الكاذبون « .
الوجه الرابع : قال الزمخشري : » أن ينتصب على الذَّمِّ « .
قال ابن الخطيب : وهو أحسن الوجوه عندي وأبعدها من التَّعسُّف .
الخامس : أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمر على الذَّمِّ .
السادس : أن يرتفع على الابتداء ، والخبر محذوف ، تقديره : فعليهم غضب؛ لدلالة ما بعد » مَنْ « الثانية عليه .
السابع : أنها مبتدأ أيضاً ، وخبرها وخبر » مَنْ « الثانية قوله : » فَعَليْهم غَضب « .
قال ابن عطية رحمه الله : » إذ هو واحد بالمعنى؛ لأنَّ الإخبار في قوله - تعالى- : { مَن كَفَرَ بالله } إنَّما قصد به الصنف الشارح بالكفر « .
قال أبو حيَّان : » وهذا وإن كان كما ذكر ، إلا أنَّهما جملتان شرطيتان ، وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك ، فلا بدَّ لكل واحدة منهما على انفرادها من جواب لا يشتركان فيه ، فتقدير الحذف أجرى على صناعة الإعراب ، وقد ضعَّفوا مذهب الأخفش في ادِّعائه أن قوله - تعالى - : { فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين } [ الواقعة : 91 ] وقوله - جل ذكره- : { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } [ الواقعة : 89 ] جواب ل « أمَّا » و « إنْ » ، هذا ، وهما أداتا شرط وليست إحداهما الأخرى « .
الثامن : أن تكون » مَنْ « شرطية ، وجوابها مقدَّر ، تقديره : فعليهم غضبٌ؛ لدلالة ما بعد » مَنْ « الثانية عليه ، وقد تقدَّم أن ابن عطيَّة جعل الجزاء لهما معاً ، وتقدم الكلام معه فيه .
قوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } فيه أوجه :
أحدها : أنه مستثنى مقدم من قوله : » فأولئك عليهم غضب « وهذا يكون فيه منقطعاً؛ لأن المكره لم يشرح بالكفر صدراً .
وقال أبو البقاء : وقيل : ليس بمقدَّم؛ فهو كقول لبيد : [ الطويل ]
3360- ألاَ كُلُّ شَيءٍ ما خَلا اللهَ بَاطلُ .. . . .
فظاهر كلامه يدلُّ على أن بيت لبيد لا تقديم فيه ، وليس كذلك؛ فإنه ظاهر في التقديم جدًّا .
الثاني : أنه مستثنى من جواب الشرط ، أو من خبر المبتدأ المقدَّر ، تقديره : لعليهم غضب من الاه إلا من أكره ، ولذلك قدر الزمخشري جزاء الشَّرط قبل الاستثناء وهو استثناء متصل؛ لأنَّ الكفر يكون بالقول من غير اعتقاد كالمكره ، وقد يكون - والعياذ بالله - باعتقاد ، فاستثنى الصنف الأول .
{ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ } جملة حاليَّة { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } في هذه الحالة ، وهذا يدلُّ على أن محلَّ الإيمان القلب ، والذي [ محله ] القلب إما الاعتقاد ، وإما كلام النَّفس؛ فوجب أن يكون الإيمان عبارة : إما عن المعرفة ، وإما عن التصديق بكلام النَّفس .
قوله تعالى : { ولكن مَّن شَرَحَ } الاستدراك واضح؛ لأن قوله : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } قد يسبق الوهم إلى الاستثناء مطلقاً ، فاستدرك هذا ، وقوله : { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ } لا ينفي ذلك الوهم ، و » مَنْ « إما شرطية أو موصولة ، ولكن متى جعلت شرطية ، فلا بدَّ من إضمار مبتدأ قبلها ، لأنه لا يليها الجمل الشرطيَّة ، قاله أبو حيَّان؛ ثم قال : ومثله : [ الطويل ]
3361- ... ولكِنْ مَتى يَسْترفِدِ القَوْمُ أرْفدِ
أي : ولكن أنا متى يسترفد القوم .
وإنَّما لم تقع الشرطية بعد « لكِنْ » ؛ لأنَّ الاستدراك لا يقع في الشروط ، هكذا قيل ، وهو ممنوع .
وانتصب « صَدْراً » على أنه مفعول للشرح ، والتقدير : ولكن من شرح بالكفر صدره ، وحذف الضمير؛ لأنه لا يشكل بصدر غيره؛ إذ البشر لا يقدر على شرح صدر غيره ، فهو نكرةٌ يراد بها المعرفة ، والمراد بقوله : { مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً } ، أي : فتحه ووسعه لقبُول الكفر .
فصل
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : نزلت هذه الآية في عمَّار بن ياسر؛ وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأمَّه سميَّة وصهيباً وبلالاً وخبَّاباً وسالماً فعذبوهم .
وأما سميَّة : فإنها ربطت بين بعيرين ووجئ في قُبُلها بحربة ، فقتلت وقتل زوجها ، وهما أول قتيلين في الإسلام - رضي الله عنهما- .
وقال مجاهد : أول من أظهر الإسلام سبعة : رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وخبَّاب ، وصهيب ، وبلال ، وعمَّار ، وسميَّة - رضي الله عنهم- .
أما الرَّسول صلى الله عليه وسلم فمنعه أبو طالب ، وأما أبو بكر - رضي الله عنه - فمنعه قومه ، وأخذ الآخرون ، وألبسوا الدروع الحديد ، ثم أجلسوهم في الشمس ، فبلغ منهم الجهد لحرِّ الحديد والشمس ، وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويشتم سميَّة ، ثم طعنها في فرجها بحربة .
وقال آخرون : ما نالوا منهم غير بلال؛ فإنهم جعلوا يعذِّبونه ، ويقول : أحَدٌ أحَدٌ ، حتى ملوه فتركوه .
وقال خبَّاب : ولقد أوقدوا لي ناراً ما أطفأها إلا ودك ظهري ، وقال مقاتل : نزلت في جبر مولى عامر الحضرمي ، أكرهه سيِّده على الكفر ، فكفر مكرهاً وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان ، ثم أسلم مولى جبر وحسن إسلامهما ، وهاجر جبر مع سيِّده .
فصل
الإكراه الذي يجوز عنده التلفُّظ بكلمة الكفر : هو أن يعذِّب بعذابٍ لا طاقة له به؛ مثل : التَّخويف بالقتل؛ ومثل الضَّرب الشَّديد ، والإتلافات القويَّة ، وأجمعوا على أن عند ذكر كلمة الكفر يجب عليه أن يبرئ قلبه عن الرِّضا ، وأن يقتصر على التَّعريضات؛ مثل أن يقول : إن محمداً كذَّاب ، ويعني عند الكفار أو يعني به محمَّداً آخر ، أو يذكره على نيَّة الاستفهام بمعنى الإنكار ، وهنا بحثان :
الأول : أنه إذا أعجله من أكرهه عن إحضار هذه النيَّة ، أو لأنه لمَّا عظم خوفه زال عن قلبه ذكر هذه النيَّة كان ملوماً وعفو الله متوقَّع .
البحث الثاني : لو ضيَّق المكره الأمر عليه وشرح له أقسام التَّعريضات ، وطلب منه أن يصرِّح بأنه ما أراد شيئاً منها ، وما أراد إلاَّ ذلك المعنى - فههنا يتعيَّن إما التزام الكذب ، وإما تعريض النفس للقتل ، فمن الناس من قال : يباح له الكذب ههنا ، ومنهم من قال : ليس له ذلك ، وهو الذي اختاره القاضي؛ قال : لأن الكذب إنما يقبح لكونه كذباً ، فوجب أن يقبح على كل حال ، ولو جاز أن يخرج عن القبح لرعاية بعض المصالح ، لم يمنع أن يفعل الله الكذب لرعاية بعض المصالح ، وحينئذٍ لا يبقى وثوق بوعد الله ولا وعيده؛ لاحتمال أنَّه فعل ذلك الكذب لرعاية بعض المصالح التي لا يعرفها إلا الله - تعالى - .
فصل
أجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بكلمة الكفر ، ويدل عليه وجوه :
أحدها : أن بلالاً صبر على العذاب ، وكان يقول : أحد أحد ، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس ما صنعت ، بل عظَّمه عليه ، فدل ذلك على أنه لا يجب التكلُّم بكلمة الكفر .
وثانيها : ما روي أن مسيلمة الكذَّاب أخذ رجلين ، فقال لأحدهما : ما تقول في محمَّد؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما تقول فيَّ؟ قال : أنت أيضاً فتركه ، وقال للآخر : ما تقول في محمد؟ قال : رسول الله ، فقال : ما تقول فيَّ؟ قال : أنا أصمُّ ، فأعاد عليه ثلاثاً ، فأاد جوابه ، فقتله ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أما الأول فقد أخذ برخصة الله ، وأما الثاني : فقد صدع بالحقِّ ، فهنيئاً له فسمَّى التلفظ بكلمة الكفر رخصة ، وعظَّم حال من أمسك عنه حتى قتل .
وثالثها : أن بذل [ النفس ] في تقرير الحق أشق ، فوجب أن يكون أكثر ثواباً؛ لقوله - صلوات الله وسلامه عليه- : « أفْضَلُ العِبادَاتِ أحْمزُهَا » أي : أشقُّها .
ورابعها : أن الذي أمسك عن كلمة الكفر طهَّر قلبه ولسانه عن الكفر ، وأمَّا الذي تلفَّظ بها فهب أن قلبه طاهرٌ ، إلا أنَّ لسانه في الظاهر قد تلطخ بتلك الكلمة الخبيثة؛ فوجب أن يكون حال الأول أفضل .
فصل
الإكراه له مراتب :
أحدها : أن يجب الفعل المكروه عليه؛ كما لو أكره على شرب الخمر ، وأكل الخنزير ، وأكل الميتة ، فإذا أكره عليه بالسَّيف فهاهنا ، يجب الأكل؛ وذلك لأن صون الرُّوح عن الفواتِ واجبٌ ، ولا سبيل إليه في هذه الصورة إلا بالأكل ، وليس في هذا الأكل ضررٌ على حيوان ، وإلا إهانةٌ لحقِّ الله ، فوجب أن يجب؛ لقوله - تعالى - : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة : 195 ] .
المرتبة الثانية : أن يصير ذل كالفعل مباحاً ولا يصير واجباص؛ كما لو أكره على التلفُّظ بكلمة الكفر ، فههنا يباح له ذلك ، ولكنه لا يجب .
المرتبة الثالثة : أنه لا يجب ولا يباح ، بل يحرم؛ كما لو أكرهه إنسان على قتل إنسان ، أو على قطع عضو من أعضائه ، فههنا يبقى الفعل على الحرمةِ الأصلية ، وهل يسقط القصاص عن المكره أم لا؟ .
قال الشافعي - رضي الله عنه - في أحد قوليه : يجب القصاص؛ لأنَّه قتله عمداً عدواناً ، فوجب عليه القصاص؛ لقوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } [ البقرة : 178 ] ، وأيضاً : أجمعنا على أن المكره إذا قصد قتله فإنَّ له أن يدفعه عن نفسه ولو بالقتل ، فلما كان يوهم إقدامه على القتل ، أوجب إهداء دمه ، فلأن يكون عند صدور القتل عنه حقيقة يصير دمه مهدراً أولى .
فصل
من الأفعال ما يمكن الإكراه عليه كالقتل والتكلم بكلمة الكفر ، ومنها ما لا يقبل الإكراه ، قيل : وهو الزِّنا؛ لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد ، وذلك يمنعُ من انتشار الآلة ، فحيث دخل الزِّنا في الوجود ، دل على أنَّه وقع بالاختيار لا على سبيل الإكراه .
وقيل : الإكراه على الزِّنا مقصور؛ كما لو انتشر ذكره وهو نائمٌ فاستدخلته المرأة في تلك الحالة ، أو كان به مرض الانتصاب ، فلا يزال منتشراً ، أو علم أنَّه لا يخلص من الإكراه إلا باستحضار الأسباب الموجبة للانتشار .
فصل
قال القرطبي - رحمه الله تعالى - : ذهب بعض العلماء إلى أنَّ الرُّخصة إنما جاءت في القول ، وأما في الفعل فلا رخصة فيه؛ مثل أن يكره على السُّجود لغير الله تعالى أو الصَّلاة لغير القبلة ، أو قتل مسلم ، أو ضربه ، أو أكل ماله ، أو الزِّنا ، أو شرب الخمر ، أو أكل الرِّبا ، روي ذلك عن الحسن البصري ، وهو قول الأوزاعي والشافعي وبعض المالكيَّة - رضي الله تعالى عنهم- .
فصل
قال القرطبي : وأما بيع المكره والمضغوط فله حالتان :
الأول : أن يبيع ماله في حق وجوب عليه ، فذلك ماضٍ سائغ لا رجوع فيه؛ لأنَّه يلزمه أداء الحقِّ من غير المبيع ، وأما بيع المكره ظلماً أو قهراً ، فذلك لا يجوز عليه ، وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن ، ويتبع المشتري بالثَّمن ذلك الظالم فإنْ فات المتاع ، رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشتري غير عالم لظلمه ، وأما يمين المكره فغير لازمةٍ عند مالك والشافعي - رضي الله عنهما - وأكثر العلماء ، قال ابن العربي : « واختلفوا في الإكراه على الحنث هل يقع أم لا؟ » .
قال ابن العربي رحمه الله : « وأي فرقٍ بين الإكراه على اليمين في أنَّها لا تلزم ، وبين الحنث في أنه لا يقع » .
فصل
إذا أكره الرَّجل على أن يحلف وإلاَّ أخذ ماله ، فقال مالك : لا تقيَّة في المال ، فإنَّما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه .
وقال ابن الماجشون : « لا يحنث وإن درأ عن ماله أيضاً » .
قال القرطبي : وأجمع العلماء على أنَّ من أكره على الكفر فاختار القتل ، أنَّه يكون أعظم أجراً عند الله ممَّن اختار الرخصة « .
فصل
قال الشافعي وأحمد - رضي الله عنهما - : لا يقع طلاق المكره ، وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : يقع .
واستدلَّ الشافعي - رضي الله عنه - بقوله - تعالى - : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } [ البقرة : 256 ] ، ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته؛ لأن ذاته موجودة؛ فوجب حمله على نفي آثاره ، أي : لا أثر له ولا عبرة به ، وقال - صلوات الله وسلامه عليه- : « رُفِعَ عن أمَّتي الخَطأ والنِّسيَانُ وما اسْتكْرِهُوا عليْهِ » .
وقال - عليه الصلاة والسلام- : « لا طَلاقَ في إغلاقٍ » ، أي : إكراه .
فإن قالوا طلقها ، فيدخل تحت قوله - تعالى- : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ } [ البقرة : 230 ] .
فالجواب : لمَّا تعارضت الدلائل ، وجب أن يبقى ما كان على ما كان هو لنا .
فصل
قال القرطبي - رحمه الله- : « وأما نكاح المكره : فقال سحنون : أجمع أصحابنا على إبطال نكاح المكره والمكرهة وقالوا : لا يجوز المقام عليه؛ لأنَّه لم ينعقد ، فإن وطئها المكره على النِّكاح ، لزمه المسمَّى من الصَّداق ولا حد عليه » .
قوله : { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله } أي : إنه - تعالى - حكم عليهم بالعذاب ، ثم وصف ذلك العذاب فقال - تعالى- : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
قوله : { ذلك بِأَنَّهُمُ } مبتدأ وخبره؛ كما تقدم ، والإشارة ب « ذلك » إلى ما ذكر من الغضب والعذاب؛ ولذلك وحَّد ، كقوله : « بين ذلك » و : [ الرجز ]
3362- كَأنَّهُ في الجِلْدِ .. . . .
قوله : { استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة } أي : ذلك الارتداد وذلك الإقدام على الكفر؛ لأجل أنَّهم رجَّحوا الدنيا على الآخرة ، { وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } أي : ذلك الارتداد إنما حصل لأجل أنه - تعالى - ما هداهم إلى الإيمان ، وما عصمهم عن الكفر .
قال القاضي : المراد أن الله تعالى لا يهديهم إلى الجنَّة ، وهذا ضعيف؛ لأن قوله - تعالى- : { وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } معطوف على قوله : { ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة } فوجب أن يكون قوله : { وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } علَّة وسبباً موجباً لإقدامهم على ذلك الارتداد ، وعدم الهداية يوم القيامة إلى الجنة ليس سبباً لذلك الارتداد ولا علَّة ، بل كسباً عنه ولا معلولاً له ، فبطل هذا التَّأويل .
ثم أكد أنه - تعالى - صرفهم عن الإيمان؛ فقال - عز وجل - : { أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } قال القاضي : الطبع ليس يمنع من الإيمان لوجوه :
الأول : أنه - تعالى - أشرك ذكر ذلك في معرض الذَّم ، ولو كانوا عاجزين عن الإيمان به لما استحقوا الذَّم بتركه .
الثاني : أنه - تعالى - أشرك بين السَّمع ، والبصر ، والقلب في هذا الطبع ، ومعلوم أن مع فقد السمع والبصر قد يصحُّ أن يكون مؤمناً ، فضلاً عن طبع يلحقهما في القلب .
الثالث : وصفهم بالغفلة ، ومن منع من الشيء لا يوصف بأنه غافل عنه ، فثبت أن المراد بهذا الطَّبع السِّمة والعلامة التي يخلقها في القلب ، وتقدَّم الجواب في أول سورة البقرة .
ثم قال - تعالى - : { وأولئك هُمُ الغافلون } قال ابن عباس - رضي الله عنهما- : أي : عما يراد بهم في الآخرة .
ثم قال : { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون } ، أي : المغبونون ، والموجب لهذا الخسران أنه - تعالى - وصفهم بصفاتٍ ستة :
أولها : أنهم استوجبوا غضب الله .
وثانيها : أنَّهم استحقُّوا العذاب الأليمَ .
وثالثها : أنَّهم استحبُّوا الحياة الدُّنيا على الآخرة .
ورابعها : أنه - تعالى - حرمهم من الهِدايةِ .
وخامسها : أنه - تعالى - طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم .
وسادسها : أنه - تعالى - جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة ، فكل واحد من هذه الصِّفات من أعظم الموانع عن الفوز بالسعادات والخيرات ، ومعلوم أنه - تعالى - إنما أدخل الإنسان في الدنيا؛ ليكون كالتَّاجر الذي يشتري بطاعته سعادات الآخرة ، فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة ، عظم خسرانه؛ فلهذا قال - تعالى - : { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون } أي هم الخاسرون لا غيرهم .
قوله - تعالى - : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ } الآية لما ذكر في الآية المتقدمة حال من كفر بالله من بعد إيمانه ، وحال من أكره على الكفر ذكر [ بعده ] حال من هاجر من بعد ما فتن .
في خبر « إنَّ » هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : قوله - تعالى - : { لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، و « إنَّ ربَّكَ » الثانية ، واسمها تأكيد للأولى واسمها؛ فكأنه قيل : ثمَّ إنَّ ربّك إنَّ ربَّك لغفور رحيم ، وحينئذ يجوز في قوله : « للَّذِينَ » وجهان :
أحدهما : أن يتعلق بالخبرين على سبيل النتازع ، أو بمحذوف على سبيل البيان؛ كأنه قيل : الغفران والرحمة للَّذين هاجروا .
الثاني : أن الخبر هو نفس الجار بعدها؛ كما تقول : إنَّ زيداً لك ، أي : هو لك لا عليك ، بمعنى : هو ناصرهم لا خاذلهم ، قال معناه الزمخشري ، ثم قال : « كما يكون الملك للرجل لا عليه ، فيكون محميًّا منفُوعاً غير مضرورٍ » .
قال شهاب الدِّين : « قد يتوهَّم أن قوله : » مَنْفُوعاً « استعمال غير جائز؛ لما قاله الأهوازي عليه رحمة الله في شرح موجز الرماني : إنَّه لا يقال : مَنْفُوع » اسم مفعول من نفعته ، فإن الناس قد ردُّوا على الأهوازي « .
الثالث : أن خبر الأولى مستغنًى عنه بخبر القانية ، يعني : أنه محذوف لفظاً؛ لدلالة ما بعده عليه ، وهذا معنى قول أبي البقاء : » وقيل : لا خبر ل « إنَّ » الأولى في اللَّفظ؛ لأنَّ خبر الثانية أغنى عنه « .
وحينئذ لا يحسن ردُّ أبي حيَّان عليه بقوله : « وهذا ليس بجيّد؛ لأنه ألغى حكم الأولى ، وجعل الحكم للثانية ، وهو عكس ما تقدَّم ، وهو لا يجوز » .
قوله : { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } قرأ ابن عامر : « فَتَنُوا » مبنيًّا للفاعل ، أي : فتنوا أنفسهم فإن عاد الضمير على المؤمنين ، فالمعنى : فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول ظاهراً ، أو أنهم صبروا على عذاب المشركين ، فكأنهم فتنوا أنفسهم .
وإن عاد على المشركين ، فهو واضح ، أي : فتنوا المؤمنين .
والباقون « فُتِنُوا » مبنياً للمفعول ، والضمير في « بَعْدهَا » للمصادر المفهومة من الأفعال المتقدمة ، أي : من بعد الفتنة ، والهجرة ، والجهاد .
وقال ابن عطيَّة : « عائدٌ على الفتنة ، أو الفتنة والهجرة أو الجهاد أو التوبة » .
فصل
وجه القراءة الأولى أمور :
الأول : أن يكون المراد أنَّ أكابر المشركين - وهم الذين آذوا فقراء المسلمين - لو تابوا وهاجروا وصبروا ، فإنَّ الله يقبل توبتهم .
والثاني : أن « فَتَن » و « أفْتنَ » بمعنى واحد؛ كما يقال : مَانَ وأمَان بمعنى واحد .
والثالث : أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقيَّة؛ فكأنهم فتنوا أنفسهم؛ لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت في ذلك الوقت .
وأما وجه القراءة الثانية فظاهر؛ لأن أولئك المفتونين هم المستضعفون الذين حملهم المشركون على الرجوع عن الإيمان ، فبين - تعالى - أنهم إذا هاجروا وجاهدوا وصبروا ، فإن الله تعالى يغفر لهم تكلمهم كلمة الكفر .
فصل
يحتمل أن يكون المراد بالفتنةِ : هو وأنهم عذِّبوا ، وأنهم خوِّفوا بالتَّعذيب ، ويحتمل أن يكون المراد : أن أولئك المسلمين ارتدُّوا .
وقال الحسن - رضي الله عنه- : هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكَّة ، فعرضت لهم فتنة فارتدُّوا ، وشكُّوا في الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ثم أسلموا وهاجروا ، ونزلت هذه الآية فيهم .
وقيل : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فاستزلَّه الشيطان فلحق بالكفَّار ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكَّة بقتله ، فاستجار له عثمان ، وكان أخاهُ لأمه ، فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنه أسلم وحسن إسلامه فأنزل الله هذه الآية؛ قاله الحسن وعكرمة .
وهذه الرِّواية إنا تصحُّ إذا جعلنا هذه السورة مدنية أو جعلنا هذه الآية منها مدنيَّة ، ويحتمل أن يكون المراد : أنَّ أولئك الضعفاء المعذَّبين تكلموا بكلمة الكفر على سبيل التقيَّة ، فقوله : { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } يحتمل كلَّ واحدٍ من هذه الوجوه ، وليس في اللفظ ما يدل على التَّعيين .
وإذا كان كذلك ، فهذه الآية إن كانت نازلة فيمن أظهر الكفر ، فالمراد أن ذلك مما لا إثم فيه ، وأن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكره ، وإن كانت نازلة فيمن ارتدَّ ، فالمراد أن التوبة والقيام بما يجب عليه يزيل ذلك العقاب ، ويحصل له الغفران والرحمة .
قوله : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ } يجوز أن ينتصب « يَوْمَ » ب « رَحِيمٌ » ولا يلزم من ذلك [ تقييد ] رحمته بالظرف؛ لأنه إذا رحم في هذا اليوم ، فرحمته في غيره أحرى وأولى .
وأن ينتصب ب « اذكُر » مقدَّرة ، وراعى معنى « كل » فأنث الضمائر في قوله « تُجَادلُ . . . إلى آخره » ؛ ومثله قوله : [ الكامل ]
3363- جَادَتْ عَليْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فَتركْنَ كُلَّ قَرارَةٍ كالدَّرهَمِ
إلا أنه زاد في البيت الجمع على المعنى ، وقد تقدَّم أول الكتاب .
وقوله : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } حملاً على المعنى؛ فلذلك جمع .
فإن قيل : النَّفس لا تكون لها نفس أخرى ، فما معنى قوله : « تُجادِلُ عن نَفْسِهَا » ؟ .
فالجواب : أن النَّفْس قد يراد بها بدن [ الإنسان ] الحيّ ، وقد يراد بها ذات الشيء وحقيقته ، فالنفس الأولى هي الجثَّة والبدن ، والثانية : عينها وذاتها؛ فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته ، ولا يهمه شأن غيره ، قال - تعالى - : { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 37 ] .
روي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لكعب الأحبار : خوِّفنا ، قال يا أمير المؤمنين : والذي نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيًّا ، لأتت عليك تارات وأنت لا يهمُّك إلا نفسك ، وإن لجهنَّم زفرة ما يبقى ملك مقرَّب ، ولا نبي مرسلٌ غلا وقع جاثياً على ركبتيه ، حتَّى إن إبراهيم خليل الرحمن - صلوات الله وسلامه عليه - ليدلي بالخلَّة فيقول : يا ربِّ ، أنا خليلك إبراهيم لا أسألك إلا نفسي ، وأن تصديق ذلك الذي أنزل عليكم : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } ، ومعنى المجادلة عنها : الاعتذار؛ كقولهم : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } ، ومعنى المجادلة عنها : الاعتذار؛ كقولهم : { هؤلاء أَضَلُّونَا } [ الأعراف : 38 ] ، وكقولهم : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] .
{ وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } فيه محذوف ، أي : جزاء ما عملت من غير بخسٍ ولا نقصان ، { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } لا ينقصون .
روى عكرمة عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - في هذه الآية قال : « ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة ، حتى تخاصم الرُّوح الجسد ، فتقول الرُّوح : يا رب ، لم تكن لي يدٌ أبطش بها ، ولا رجلٌ أمشي بها ، ولا عينٌ أبصر بها ، ولا أذن أسمع بها ، ولا عقل أعقل به ، حتى جئت فدخلت في هذا الجسد فضعِّف عليه أنواع العذاب ، ونجِّني ، ويقول الجسد : يا ربِّ ، أنت خلقتني بيدك ، فكنت كالخشبة ، وليس لي يد أبطش بها ، ولا رجل أمشي بها ، ولا عينٌ أبصر بها ، ولا سمع أسمع به ، فجاء هذا كشُعَاع النُّور ، فيه نطق لساني ، وأبصرت عيني ، ومشت رجلي ، وسمعت أذني ، فضعِّف عليه أنواع العذاب ، ونجِّني منه ، قال : فيضرب الله لهما مثلاً؛ أعمى ومقعداً دخلا [ بستاناً ] فيه ثمار ، فالأعمى لا يبصر الثَّمر ، والمقعد لا يتناوله ، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر ، [ فغشيهما ] العذاب » .
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
قوله - تعالى- : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً } الآية .
اعلم أنه - تعالى - هدَّد الكفار بالوعيد الشَّديد في الآخرة ، وهدَّدهم أيضاً بآفاتِ الدنيا ، وهي الوقوع في الجوع والخوف؛ كما ذكر - تعالى - في هذه الآية .
واعلم أن المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معيَّنة ، سواءٌ كان ذلك الشيء موجوداً أو لم يكن ، وقد يضرب بشيء موجود معيَّن ، فهذه القرية يحتمل أن تكون موجودة ويحتمل أن تكون غير موجودة .
فعلى الأول ، قيل : إنها مكَّة ، كانت آمنة ، لا يهاجُ أهلها ولا يغار عليها ، مطمئنة قارة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتجاع كما يفعله سائر العرب ، { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ } يحمل إليها من البرِّ والبحر ، { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله } جمع النِّعمة ، وقيل : جمع نُعمى ، مثل : بؤسَى وأبؤس فأذاقهم لباس الجوع ، ابتلاهم الله بالجوع سبع سنين ، وقطعت العرب عنهم المِيرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى جهدوا وأكلوا العظام المحرقة ، والجيف ، والكلاب الميَّتة والعلهز : وهو الوبر يعالج بالدَّم .
قال ابن الخطيب : والأقرب أنَّها غير مكَّة؛ لأنها ضربت مثلاً لمكَّة ، ومثل مكَّة يكون غير مكَّة .
وهذا مثل أهل مكة؛ لأنَّهم كانوا في الطمأنينة والخصب ، ثم أنعم الله عليهم بالنِّعمة العظيمة ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به ، وبالغوا في إيذائه ، فسلَّط الله عليهم البلاء ، وعذَّبهم بالجوع سبع سنين ، وأمَّا الخوف فكان يبعث إليهم السَّرايا فيغيرون عليهم . وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : أنه - تعالى - وصف القرية بصفات :
أحدها : كونها آمنة ، والمراد : أهلها ، لأنها مكان الأمن ، ثم قال « مُطْمَئنَّةٌ » ، والاطمئنان هو الأمن ، فلزم التَّكرار .
والجواب : أن قوله : « آمِنَ'ً » إشارة إلى الأمن ، وقوله : « مُطْمَئِنَّةً » إشارة إلى الصحَّة؛ لأن هواء هذه البلد لمَّا كان ملائماً لأمزجتهم ، فلذلك اطمأنُّوا واستقرُّوا فيه؛ قال العقلاء : [ الرجز ]
3364- ثَلاثَةٌ ليْسَ لهَا نِهايَهْ ... الأمْنُ والصِّحَّةُ والكِفايَهْ
السؤال الثاني : الأنعم جمع قلَّة ، فكان المعنى : أنّ أهْلَ تلك القريةِ كفرت بأنواعٍ قليلة من نعم الله ، فعذبها الله ، وكان اللائقُ أن يقال : إنهم كفروا بنعم عظيمة لله تعالى ، فاستوجبوا العذاب ، فما السَّبب في ذكر جمع القلَّة؟ .
والجواب : أن المقصود التَّنبيه بالأدنى على الأعلى ، يعني : أنَّ كفران النِّعم القليلة لما أوجب العذاب ، فكفران النِّعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب .
و « أنْعُم » فيها قولان :
أحدهما : أنها جمع « نِعْمة » ؛ نحو : « شِدَّة وأشُدّ » . قال الزمخشري : « جمع نِعْمَة على ترك الاعتداد بالتاء؛ كدِرْع وأدْرُع » .
وقال قطرب : هي جمع « نُعْم » ، والنُّعم : النَّعيم؛ يقال : « هذه أيَّام طُعْمٍ ونُعْمٍ فلا تَصُومُوا » .
السؤال الثالث : نقل أن ابن الرَّاونْدِي قال لابن الأعرابي الأديب : هل يذاق اللِّباس؟ قال ابن الأعرابي : لا باس ولا لباس؛ يا أيُّها النِّسْنَاس ، هب أنَّك تشكُّ أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان نبيًّا أَوَما كان عربيًّا؟ وكان مقصود ابن الرَّاوندِي الطَّعنَ في هذه الآية ، وهو أن اللِّباس لا يذاق بل يلبس ، فكان الواجب أن يقال : فكساهم الله لِبَاس الجوع ، أو يقال : فأذاقهم الله طعم الجوع .
والجواب : من وجوه :
الأول : أن ما أصابهم من الهزال والشحوب ، وتغيير ظاهرهم عمَّا كانوا عليه من قبل كاللِّباس لهم .
الثاني : أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان :
أحدهما : المذوق هو الطَّعام ، فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع .
والثاني : أن ذلك الجوع كان شديداً كاملاً ، فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهاتِ ، فأشبه اللِّباس .
فالحاصل أنه حصل في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق ، وحالة تشبه الملبوس ، فاعتبر تعالى كلا الاعتبارين ، فقال : { فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف } .
الثالث : أن التقدير : عرفها الله لباس الجوع والخوف ، إلا أنه - تعالى - عبَّر عن التعريف بلفظ الإذاقة ، وأصل الذَّوق بالفم ، ثم يستعار فيوضع موضع التعريف والاختيار الذَّواق بالفم ، تقول : ناظر فلاناً وذُقْ ما عنده؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
3365- ومَنْ يَذُقِ الدُّنْيَا فإنِّي طَعِمْتُها ... وسِيقَ إليْنَا عَذْبُهَا وعَذابُهَا
ولباس الجوع والخوف : ما ظهر عليهم من الضمور ، وشحوب اللون ، ونهكة البدن وتغيُّر الحال؛ كما تقول : تعرَّفت سوء أثر الخوف والجوع على فلان ، فكذقتُ لباس الجوع والخوف على فلان .
الرابع : أن يحمل لفظ اللباس على المماسَّة ، فصار التقدير : فأذاقها الله مساس الجوع والخوف .
ثم قال - تعالى- : { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يريد تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم وإخراجه من مكَّة وهمهم بقتله صلى الله عليه وسلم .
قال الفراء : ولم يقل بما صنعت ، ومثله في القرآن كثير؛ كقوله : { فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] ولم يقل : قائلة .
وتحقيق الكلام : أنه - تعالى - وصف القرية بأنَّها مطمئنَّة يأتيها رزقها رغداً فكفرت بأنعم الله ، فكلّ هذه الصِّفات وإن أجريت بحسب اللفظ على القرية ، إلا أن المراد في الحقيقة أهل القرية ، فلذلك قال : { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } .
قوله : « والخَوْفِ » العامة على جرِّ « الخَوْفِ » نسقاً على « الجُوعِ » ، وروي عن أبي عمرو نصبه ، وفيه [ أوجه ] :
أحدها : أنه يعطف على « لِباسَ » .
الثاني : أنه يعطف على موضع الجوع؛ لأنه مفعول في المعنى للمصدر ، التقدير أي : ألبسهم الجوع والخوف ، قاله أبو البقاء .
وهو بعيد؛ لأن اللباس اسم ما يلبس وهو استعارة بليغة .
الثالث : أن ينتصب بإضمار فعل؛ قاله أبو الفضل الرَّازي .
الرابع : أ ، يكون على حذف مضافٍ ، أي : ولباس الخوف ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، قاله الزمخشري .
ووجه الاستعارة ما قال الزمخشري : « فإن قلت : الإذاقة واللباس استعارتان ، فما وجه صحَّتهما والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار فما وجه صحَّة إيقاعها عليه؟ .
قلت : الإذاقة جرت عندهم مجرى الحقيقة؛ لشيوعها في البلايا ، والشدائد ، وما يمس الناس منها ، فيقولون : ذاق فلانٌ البؤس والضر وإذاقة العذاب شبَّه ما يُدْرك من أثر الضَّرر والألم ، بما يُدْرَك من طعم المُرّ والبشع ، وأما اللِّباس فقد شُبِّه به؛ لاشتماله على اللاَّبس ما غشي الإنسان ، والتبس به من بعض الحوادث ، وأمَّا إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف ، فلأنَّه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس؛ فكأنه قيل : فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف ، ولهم في هذا طريقان :
أحدهما : أن ينظروا فيه إلى المستعار له ، كما نظروا إليه ههنا؛ ونهحوه قول كثيرة عزَّة : [ الكامل ]
3366- غَمْرُ الرِّدَاءِ إذَا تَبسَّمَ ضَاحِكاً ... غَلقَتْ لِضَْكتِهِ رِقَابُ المَالِ
استعار الرداء للمعروف ، لأه يصون عرض صاحبه صون الرِّداء لما يلقى عليه ، ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنَّوال لا وصف الرداء؛ نظراً إلى المستعار له .
والثاني : أن ينظر فيه إلى المستعار؛ كقوله : [ الوافر ]
3367- يُنَازِعُنِي رِدائِي عَبْدُ عَمرٍو ... رُوَيْدكَ يا أخَا عَمْرِو بِنِ بَكْرِ
لِيَ الشَّطْرُ الذي مَلكَتْ يَمِينِي ... ودُونكَ فاعْتَجِرْ مِنْهُ بشَطْرِ
أراد بردائه : سيفه ، ثم قال : » فاعْتَجْرْ منهُ بِشطْرٍ « فنظر إلى المستعار في لفظ الاعتجار ، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقال : فكساهم لباس الجوع والخوف ، ولقال كثير : صافي الرِّداء إذا تبسَّم ضاحكاً » انتهى .
وهذا نهاية ما يقال في الاستعارة .
وقال ابن عطية : لمَّا باشرهم ، صار ذلك كاللِّباس؛ وهذا كقول الأعشى : [ المتقارب ]
3368- إذَا ما الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدهَا ... تَثَنَّتْ عَليْهِ فَكانَتْ لِبَاسَا
ومثله قوله - تعالى- : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } [ البقرة : 187 ] ؛ ومثله قول الشاعر : [ الطويل ]
3369- وَقَدْ لَبِستْ بَعْدَ الزُّبَيْرِ مُجاشِعٌ ... لِباسَ الَّتي حَاضَتْ ولمْ تَغْسل الدِّمَا
كأن العار لما باشرهم ولصق بهم ، كأنهم لبسوه .
وقوله : « فأذَاقَهَا » نظير قوله { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] ؛ ونظيره قول الشاعر : [ الرجز ]
3370- دُونَكَ ما جَنَيْتَهُ فاحْسُ وذُقْ ... وفي قراءة عبد الله : « فأذاقها الله الخوف والجوع » وفي مصحف أبيّ : « لِبَاسَ الخَوفِ والجُوعِ » .
قوله : { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } يجوز أن تكون « مَا » مصدريَّة أو بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي : بسبب صنعهم ، أو بسبب الذي كانوا يصنعونه .
والواو في « يَصْنعُونَ » عائدة على « أهْل » المقدَّر قبل « قَرْيةٍ » ، ونظيره قوله : { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] بعد قوله : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } [ الأعراف : 4 ] .
قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ } الآية لما ذكر المثل ذكر الممثل فقال : « ولقَدْ جَاءَهُم » يعني : أهل مكة ، « رسُولٌ مِنهُمْ » ، أي : من أنفسهم يعني : محمَّداً صلى الله عليه وسلم { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العذاب } قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه- : يعني الجوع .
وقيل : القتل يوم بدر ، والأول أولى؛ لقوله - تعالى - بعده : { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالاً طَيِّباً واشكروا نِعْمَةَ الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } ، أي : إنَّ ذلك الجوع بسبب كفرهم ، فاتركوا الكفر حتى تأكلوا .
وقوله : { مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } [ المائدة : 88 ] ، أي من [ الغنائم ] ؛ قاله ابن عبَّاس - رضي اله عنه- .
وقال الكلبي : « إن رؤساء مكَّة كلَّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهدوا ، وقالوا : عاديت الرِّجال ، فما بال النِّساء والصِّبيان؟ وكانت الميرة قد قطعت عنهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأذن بحمل الطعام إليهم » .
قوله تعالى : { واشكروا نِعْمَةَ الله } صرَّح هنا بالنِّعمة؛ لتقدم ذكرها مع من كفر بها ، ولم يجئ ذلك في البقرة ، بل قال : { واشكروا للَّهِ } [ البقرة : 172 ] لما تقدَّم ذلك ، وتقدَّم نظير ما هنا .
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
قوله - تعالى- : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم } الآية وقد تقدَّم الكلام عليها في سورة البقرة ، وحصر المحرَّمات في هذه الأشياء الأربعة مذكور عليها في سورة الأنعام؛ عند قوله - تعالى- : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً } [ الأنعام : 145 ] ، وفي سورة المائدة في قوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 1 ] ، وأجمعوا على أن المراد بقوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } هو قوله - تعالى - في سورة البقرة : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } [ البقرة : 173 ] وقوله - تعالى - : { والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } [ المائدة : 3 ] فهذه الأشياء داخلة في الميتة . ثم قال - تعالى - : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } [ المائدة : 3 ] وهذا أحد الأقسام الداخلة تحت قوله { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } [ البقرة : 173 ] ، فثبت أن هذه السُّور الأربعة دالَّة على حصر المحرَّمات ، فيها سورتان مكِّيتان ، وسورتان مدنيَّتان ، فإن البقرة مدنيّة ، وسورة المائدة من آخر ما أنزل الله تعالى بالمدينة ، فمن أنكر حصر التحريم في هذه الأربعة ، إلا ما خصَّه الإجماع والدلائل القاطعة ك ان في محلِّ أن يخشى عليه؛ لأن هذه السورة دلَّت على أن حصر المحرَّمات في هذه الأربعة كان مشروعاً ثابتاً في أول زمان مكَّة وآخره ، وأول زمان المدينة وآخره وأنه - تعالى - أعاد هذا البيان في هذه السورة ، قطعاً للأعذار وإزالة للرِّيبة .
قوله - تعالى - : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ } الآية لما حصر المحرَّمات في تلك الأربعة ، بالغ في تأكيد زيادة الحصر ، وزيف طريقة الكفَّار في الزِّيادة على هذه الأشياء الأربعة تارة ، وفي النُّقصان عنها أخرى؛ فإنَّهم كانوا يُحرِّمُونَ البَحيرةَ والسَّائبة والوَصِيلةَ والحَام ، وكانوا يقولون : { مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَ } [ الأنعام : 139 ] فقد زادوا في المحرَّمات وزادوا أيضاً في المحلَّلات؛ لأنهم حلَّلوا الميتة ، والدَّم ، ولحم الخنزير ، وما أهلَّ به لغير الله ، فبيَّن - تعالى - أن المحرَّمات هذه هي الأربعة ، وبيَّن أن الأشياء التي يقولون : هذا حلالٌ وهذا حرامٌ ، كذبٌ وافتراء على الله تعالى ، ثم ذكر الوعيد الشديد على هذا الكذب .
قوله : « الكَذِبَ » العامة على فتح الكاف ، وكسر الذَّال ، ونصب الباء ، وفيه أربعة أوجه : أظهرها : أنه منصوب على المفعول به ، وناصبه : « تَصِفُ » ، و « مَا » مصدرية ويكون معمول القول الجملة من قوله : { هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ } ، و « لِمَا تَصفُ » علّة للنَّهْي عن قول ذلك ، أي : ولا تقولوا : هذا حلالٌ وهذا حرامٌ؛ لأجل وصف ألسنتكم بالكذب ، وإلى هذا نحا الزجاج [ رحمه الله تعالى ] والكسائي .
والمعنى : لا تحلِّلُوا ولا تحرِّمُوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجَّة .
فإن قيل : حمل الآية عليه يؤدِّي إلى التِّكرار؛ لأن قوله : { لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب } ليحصل فيه هذا البيان الزَّائد؛ ونظائره في القرآن كثيرة وهو أنه تعالى يذكر كلاماً ، ثم يعيده بعينه مع فائدة زائدة .
الثاني : أن ينتصب مفعولاً به للقول ، ويكون قوله : « هذَا حَلالٌ » بدلاً من « الكَذِب » ؛ لأنه عينه ، أو يكون مفعولاً بمضمر ، أي : فيقولوا : هذا حلالٌ وهذا حرامٌ ، و « لِمَا تَصِفُ » علَّة أيضاً ، والتقدير : ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم ، وهل يجوز أن تكون المسألة من باب التَّنازع على هذا الوجه؛ وذلك أن القول يطلب الكذب ، و « تَصِفُ » أيضاً يطلبه ، اي : ولا تقولوا الكذب لما تصفه السنتكم ، وفيه نظر .
الثالث : أن ينتصب على البدل من العائد المحذوف على « مَا » ، إذا قلنا : إنَّها بمعنى الذي ، والتقدير : لما تصفه ، ذكر ذلك الحوفي وأبو البقاء رحمهما الله تعالى .
الرابع : أن ينتصب بإضمار أعني؛ ذكره أبو البقاء ، ولا حاجة إليه ولا معنى عليه .
وقرأ الحسن ، وابن يعمر ، وطلحة : « الكَذبِ » بالخفض ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه بدلٌ من الموصول ، أي : ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب ، أو للذي تصفه ألسنتكم الكذب ، جعله نفس الكذب؛ لأنَّه هو .
والثاني : - ذكره الزمخشري- : أن يكون نعتاً ل « مَا » المصدرية .
ورده أبو حيَّان : بأن النُّحاة نصُّوا على أن المصدر المنسبك من « أنْ » والفعل لا ينعت؛ لا يقال : يُعْجِبني أن تخرج السريع ، ولا فرق بين باقي الحروف المصدرية وبين « أنْ » في النَّعت .
وقرأ ابن أبي عبلة ، ومعاذ بن جبل - رحمهما الله- : بضمِّ الكاف والذَّال ، ورفع الباء صفة للألسنة ، جمع كذوب؛ كصَبُور وصُبُر ، أو جمع كَاذِب ، كشَارِف وشُرُف ، أو جمع كَذَّاب؛ نحو « كتَّاب وكُتُب » ، وقرأ مسلمة بن محارب فيما نقله ابن عطيَّة كذلك ، إلا أنه نصب الباء ، وفيه ثلاثة أوجهٍ ذكرها الزمخشري :
أحدها : أن تكون منصوبة على الشَّتم ، يعني : وهي في الأصل نعت للألسنة؛ كما في القراءة قبلها .
الثاني : أن تكون بمعنى الكلم الكواذب ، يعني : أنها مفعول بها ، والعامل فيها إما « تَصِفُ » ، وإمَّا القول على ما مرَّ ، أي : لا تقولوا الكلم الكواذب أو لما تصف ألسنتكم الكلم الكواذب .
الثالث : أن يكون جمع الكذاب ، من قولك : كذب كذاباً ، يعني : فيكون منصوباً على المصدر؛ لأنه من معنى وصف الألسنة ، فيكون نحو : كُتُب في جمع كِتَاب .
وقد قرأ الكسائي : « ولا كِذَاباً » بالتخفيف ، كما سيأتي في سورة النبأ إن شاء الله - تعالى - .
واعلم أن قوله : { تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب } من فصيح الكلام وبليغه ، كأن ماهيَّة الكذب وحقيقته مجهولة ، وكلامهم الكذب يكشف عن حقيقة الكذب ، ويوذِّح ماهيته ، وهذه مبالغة في وصف كلامهم بكونه كذباً؛ ونظيره قول ابي العلاء المعريِّ : [ الوافر ]
3371- سَرَى بَرْقُ المَعرَّةِ بَعْدَ وَهْنٍ ... فَباتَ بِرامَةٍ يَصِفُ الكَلالا
المعنى : إذا سرى ذلك البرق يصف الكلال ، فكذا هاهنا .
فصل
وروى الدَّارمي بإسناده عن الأعمش قال : « ما سمعت إبراهيم قط يقول : حلالاً ولا حراماً ، ولكن كان يقول : كانوا يتكرَّهون ، وكان يستحبُّون » وقال ابن وهب : قال مالك : لم يكن من فتيا النَّاس أن يقولوا : هذا حلالٌ وهذا حرامٌ ، ولكن يقولوا : إيَّاكم كذا وكذا ، لم أكن لأصنع هذا ، ومعنى هذا : أن التَّحليل والتَّحريم إنَّما هو لله - عز وجل - وليس لأحد أن يقول أو يصرِّح بهذا في عين من الأعيان ، إلا أن يكون الباري - سبحانه وتعالى - فيخبر بذلك عنه ، فأما ما يئول إليه اجتهاده ، فإنه يحرم عليه أن يقول ذلك ، بل يقول : إني أكره كما كان مالك - رضي الله عنه - يفعل .
قوله : « لِتَفْتَرُوا » في هذه اللاَّم ثلاثة أوجه :
أحدها : قال الواحدي : إنه بدلٌ من « لِما تَصِفُ » ؛ لأن وصفهم الكذب هو افتراءٌ [ على الله ] .
قال أبو حيَّان : « وهو على تقدير جعل » ما « مصدرية ، أما إذا كانت بمعنى الذي ، فاللاَّم فيها ليست للتَّعليل ، فيبدل منها ما يفهم التعليل ، وإنَّما اللام في » لِمَا « متعلِّقة ب » لا تَقُولوا « على حدِّ تعلقها في قولك : لا تقولوا لما أحل الله هذا حرام ، أي : لا تسمُّوا الحلال حراماً ، وكما تقول : لا تقل لزيد : عمرو أي : لا تطلق عليه هذا الاسم » .
قال شهاب الدين : وهذا وإن كان ظاهراً ، إلا أنه لا يمنع من إرادة التعليل وإن كانت بمعنى الذي .
الثاني : أنها للصَّيرورة؛ إذ لم يفعلوه لذلك الغرض؛ لأن ذلك الافتراء ما كان غرضاً لهم .
والمعنى : أنهم كانوا ينسبون ذلك التحريم والتحليل إلى الله - تعالى - ويقولون : إن الله أمرنا بذلك .
قال ابن الخطيب : فعلى هذا تكون لام العاقبة؛ كقوله - تعالى - : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَنا } [ القصص : 8 ] .
الثالث : أنها للتعليل الصريح ، ولا يبعد أن يصدر عنهم مثل ذلك . ثم إنَّه - تعالى - أوعد المفترين فقال : { إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ } ثم بيَّن أن ما هم فيه من [ متاع ] الدنيا يزول عنهم عن قربٍ ، فقال : { مَتَاعٌ قَلِيلٌ } قال الزجاج : معناه : متاعهم قليلٌ . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بل متاع كلِّ الدنيا متاع قليل ، ثم يردُّون إلى عذاب أليم .
وفي « متاعٌ » وجهان :
أحدهما : أنه مبتدأ ، و « قَليلٌ » خبره .
وفيه نظر؛ للابتداء بالنَّكرة من غير مسوِّغ ، فإن ادُّعي إضافة نحو : متاعهم قليلٌ ، فهو بعيد جدًّا .
الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : بقاؤهم ، أو عيشهم ، أو منفعتهم فيما هم عليه .
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
قوله تعالى- : { وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ } الآية لما بيَّن ما يحلُّ وما يحرم لأهل الإسلام ، أتبعه ببيان ما خصَّ اليهودية من المحرَّمات ، فقال : { وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } وهو المذكور في سورة الأنعام عند قوله - تعالى - : { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } [ الأنعام : 146 ] .
وقوله : « مِنْ قَبْلُ » متعلق ب « حَرَّمْنَا » أو ب « قَصَصْنَا » والمضاف إليه قبل تقديره : من قبل تحريمنا على أهل ملتك .
« ومَا ظَلمْنَاهُمْ » بتحريم ذلك عليهم { ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } فحرَّمنا عليهم ببغيهم ، وهو قوله : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ } [ النساء : 160 ] .
قوله - تعالى- : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء بِجَهَالَةٍ } الآية بين ههنا أن الافتراء على الله ومخالفة أمره ، لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرحمة ، ولفظ « السُّوء » يتناول كل ما لا ينبغي ، وهو الكفر والمعاصي ، وكل من يفعل السوء فإنما يفعله جهلاً ، أما الكفر فلأن أحداً لا يرضى به مع العلم بكونه كفراً؛ لأنه لو لم يعتقد كونه حقًّا ، فإنَّه لا يختاره ولا يرتضيه ، وأما المعصية ، فلأن العالم لم تصدر عنه المعصية ما لم تصر الشَّهوة غالبة للعقل ، فثبت أن كلَّ من عمل السوء فإنما يقدم عليه بسبب الجهالة ، ثم تابوا من بعد ذلك ، أي : من بعد تلك السَّيئة .
وقيل : من بعد تلك الجهالة ، ثم إنَّهم بعد التوبة عن تلك السَّيِّئات أصلحوا ، أي : آمنوا وأطاعوا الله .
قوله : « من بعدها » أي : من بعد عمل السوء والتوبة ، والإصلاح ، وقيل : على الجهالة ، وقيلك على السوء ، لأنه في معنى المعصية .
« بجهالة » حال من فاعل « عملوا » ، ثم أعاد قوله : « إن ربك من بعدها » على سبيل التأكيد ، « لغَفُورٌ رَّحيمٌ » لذلك السوء الذي صدر عنه بسبب الجهالة .
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
قوله - تعالى - : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً } الآية .
لما زيَّف مذاهب المشركين في مواضع من هذه السورة ، وهب إتيانهم الشُّركاء والأنداد لله تعالى ، وطعنهم في نبوَّة الأنبياء عليهم السلام ، وقولهم : لو أرسل الله إليهم رسولاً ، لكان من الملائكة ، وتحليل الأشياء المحرَّمة ، وتحريم الأشياء المحللة ، وبالغ في إبطال مذاهبهم ، وكان إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - رئيس الموحِّدين ، وهو الذي دعا النَّاس إلى التوحيد والشرائع ، وإبطال الشرك ، وكان المشركون يفتخرون به ويعترفون بحسن طريقته ، [ ويقرون ] بوجوب الاقتداء به ، لا جرم ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة ، وحكى على طريقته بالتوحيد؛ ليصير ذلك حاملاً لهؤلاء المشركين على الإقرار بالتوحيد والرجوع عن الشرك .
قوله تعالى : « أمَّةً » تطلق الأمة على الرَّجل الجامع لخصالٍ محمودة؛ قال ابن هانئ : [ السريع ]
3372- ولَيْسَ عَلَى اللهِ بِمُسْتَنْكَرٍ ... أنْ يَجْمعَ العَالمَ في واحِدِ
وقيل : « فُعْلَة » تدلُّ على المبالغة ، « فُعْلَة » بمعنى المفعول ، كالدُّخلة والنُّخبة ، فالأمة : هو الذي يؤتم به؛ قال - تعالى- : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [ البقرة : 124 ] قال مجاهد : كان مؤمناً وحده ، والنَّاس كلهم كانوا كفَّاراً ، فلهذا المعنى كان وحده أمَّة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في زيد بن عمرو بن نفيل : « يَبْعثهُ الله أمَّةً وحْدَهُ » .
وقيل : إنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - هو السَّبب الذي لأجله جعلت أمَّته ممتازين عمَّن سواهم بالتَّوحيد والدِّين الحقِّ ، ولما جرى مجرى السبب لحصول تلك الأمة سمَّاها الله تعالى بالأمة إطلاقاً لاسم المسبب على السَّبب .
وعن شهر بن حوشب : لم تبق أرض إلاَّ وفيها أربعة عشر ، يدفع الله بهم البلاء عن أهل الأرض ، إلاَّ زمن إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - فإنَّه كان وحده . والأمة تطلق عل الجماعة؛ لقوله - تعالى - : { أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ } [ القصص : 23 ] وتطلق على أتباع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- ، كقولك : نحن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتطلق على الدِّين والملَّة؛ كقولهم : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ } [ الزخرف : 23 ] وتطلق على الحين والزمان؛ كقوله - تعالى - : { إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } [ هود : 8 ] وقوله - جل ذكره- : { وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] أي : بعد حين ، وتطلق على القامة ، يقال : فلانٌ حسن الأمة ، أي : حسن القامة ، وتطلق على الرجل المنفرد بدين لا يشرك فيه غيره؛ كقوله - عليه الصلاة والسلام - : « يُبْعَثُ زيْدُ بنُ عَمْرو بْنِ نُفيْلٍ يَوْمَ القِيامَةِ أمَّة وحْدَهُ » .
وتطلق على الأم ، يقال : هذه أمة فلان يعني : أمَّه ، وتطلق أيضاً على كل جنس من أجناس الحيوان؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام- : « لَوْلاَ أنَّ الكِلابَ أُمَّةٌ من الأمَمِ لأمَرْتُ بِقتْلِهَا » .
وقال ابن عباس : - رضي الله عنه- : خلق الله ألف أمة ستمائة في البحر ، وأربعمائة في البر .
قوله تعالى : { قَانِتاً لِلَّهِ } القانت : هو القائم بأمر الله تعالى . وقال ابن عبَّاس : مطيعاً لأمر الله تعالى .
قوله تعالى : « حَنِيفاً » : [ مائلاً ] إلى ملَّة الإسلام ميلاً لا يزول عنه ، وقيل حنيفاً : مستقيماً على دين الإسلام . وقيل : مخلصاً .
قال ابن عباس : إنه أول من اختتن وأقام مناسك الحج ، وهذه صفة الحنيفيَّة .
{ وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين } أي : أنَّه كان من الموحِّدين في الصِّغر والكبر ، أما في حال صغره : فإنكاره بالقول للكواكب على عدم ربوبيتها ، وأما في كبره : فمناظرته لملك زمانه ، وكسر الأصنام حتى آل أمره أنه ألقي في النار .
قوله تعالى : « شَاكِراً » يجوز أن يكون خبراً ثالثاً ، أو حالاً من أحد الضميرين في « قَانِتاً » و « حَنِيفاً » . قوله : « لأنْعُمِهِ » يجوز تعلقه ب « شَاكِراً » أو ب « اجْتَبَاهُ » ، و « اجْتَبَاهُ » إما حال وإما خبر آخر ل « كان » و « إلى صِراطٍ » يجوز تعلقه ب « اجْتَبَاهُ » وب « هَدَاهُ » على [ قاعدة ] التنازع .
فإن قيل : لفظ الأنعم جمع قلَّة ، ونعم الله على إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - كانت كثيرة فلم قال : « شَاكِراً لأنْعُمِهِ » ؟ .
فالجواب : أنه كان شاكراً لجميع نعم الله سبحانه وتعالى القليلة ، فكيف الكثيرة؟ .
ومعنى « اجْتبَاهُ » : اختاره واصطفاه للنبوة ، والاجتباء : هو أن يأخذ الشيء بالكليَّة ، وهو « افْتِعَال » من « جَبَيْتُ » وأصله جمع الماء في الحوض ، والجابية هي الحوض ، { وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } إلى دين الحقِّ .
{ وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا حَسَنَةً } يعني : الرِّسالة والخلَّة . وقيل : لسان صدق ، وقال مقاتل بن حيان : هو قول المصلي : اللَّهُمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آلِ مُحمَّدٍ ، كما صلَّيْتَ على إبْراهِيمَ .
وقال قتادة - رضي الله عنه - إن الله حبَّبه إلى كل الخلق . وقيل : أولاداً أبراراً على الكبر . { وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين } : في أعلى مقامات الصَّالحين في الجنة .
قوله - تعالى - : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } الآية .
لما وصف إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - بهذه الصِّفات العالية الشريفة ، قال - جل ذكره - { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } . قال الزمخشري في « ثُمَّ » هذه : إنها تدلُّ على تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلال محله ، والإيذان بأن الشَّرف ما أوتي خليل الرحمن من الكرامةِ ، وأجل ما أولي من النِّعمة : اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملَّته ، من قبل أنَّها دلت على تباعد هذا النَّعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله - سبحانه وتعالى - عليه بها .
قوله تعالى : { أَنِ اتبع } يجوز أن تكون المفسرة ، وأن تكون المصدرية ، فتكون مع منصوبها مفعول الإيحاء .
قوله تعالى : « حَنِيفاً » حال ، وتقدم تحقيقه في البقرة [ الآية : 135 ] .
وقال ابن عطية : قال مكِّي : ولا يكون - يعني : « حَنِيفاً » - حالاً من « إبْراهِيمَ » عليه السلام؛ لأنه مضاف إليه .
وليس كما قال؛ لأن الحال قد يعمل فيها حروف الجرِّ ، إذا عملت في ذي الحال؛ كقولك : مَرَرْتُ بهِ قَائِماً .
وما ذكره مكِّي من امتناع الحال من المضاف إليه ، فليس على إطلاقه؛ كما تقدم تفصيله في البقرة .
وأما قول ابن عطية - رحمه الله- : إن العامل الخافض ، فليس كذلك؛ إنما العامل ما تعلق به الخافض ، وكذلك إذا حذف الخافض ، نصب مخفوضه .
فصل
قال قوم : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان على شريعة إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - وليس له شرعٌ معيَّن ، بل المقصود من بعثته : إحياء [ شرع ] إبراهيم صلى الله عليه وسلم بهذه الآية ، وهذا ضعيف؛ لأنه - تعالى - وصف إبراهيم - عليه السلام - في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين ، فلما قال { أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } ، كان المراد ذلك .
فإن قيل : النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد؛ بناء على الدَّلائلِ القطعية ، وإذا كان كذلك ، لم يكن متابعاً له ، فيمتنع حمل قوله : « أن اتَّبعْ » على هذا المعنى؛ فوجب حمله على الشَّرائع التي يصح حصول المتابعة فيها .
فالجواب : أنه يحتمل أن يكون المراد بمتابعته في كيفيَّة الدَّعوة إلى التوحيد؛ وهي أن يدعو بطريق الرفق ، والسهولة ، وإيراد الدلائل مرَّة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن .
قال القرطبي : وفي هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول؛ لما يؤدِّي إلى الثواب ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - وقد أمر بالاقتداء بهم؛ فقال - تعالى - : { فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ] ، وقال - تعالى - هنا : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } .
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
قوله - تعالى - : { إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ } الآية .
لما أمر محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - بمتابعة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وكان محمَّد اختار يوم الجمعة ، وهذه المتابعة إنَّما تحصل إذا قلنا : إن إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - كان قد اختار في شرعه يوم الجمعة ، وعند هذا القائل أن يقول : فلم اختار اليهود يوم السبت؟ .
فأجاب الله - تعالى - عنه بقوله : { إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ } ، وفي الآية قولان :
الأول : روى الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال : « أمرهم موسى - صلوات الله وسلامه عليه - بالجمعة ، وقال : تفرَّغوا لله في كل سبعة أيام يوماً واحداً ، وهو يوم الجمعة لا تعملوا فيه شيئاً من أعمالكم ، فأبوا أن يفعلوا ذلك ، وقالوا : لا نريد إلا اليوم الذي فرغ فيه من الخلق ، وهو يوم السبت ، فجعل الله - تعالى - السبت لهم ، وشدَّد عليهم فيه ، ثمَّ جاءهم عيسى - عليه الصلاة والسلام - أيضاً بالجمعة ، فقالت النصارى : لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا ، واتخذوا الأحد » .
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إنَّ الله كَتَبَ يَوْمَ الجُمعَةِ عَلَى مَنْ قَبْلنَا ، فاخْتلَفُوا فِيهِ وهَدَانَا الله إلَيْهِ ، فَهُمْ لَنَا فِيهِ تَبعٌ ، اليَهُود غَداً والنَّصارَى بَعد غدٍ » .
واعلم أن أهل الملل اتَّفقوا على أنه - تعالى - خلق العالم في ستَّة أيام ، وبدأ - تعالى- بالخلق والتكوين في يوم الأحد ، وتمَّ في يوم الجمعة ، وكان يوم السبت يوم الفراغ ، فقالت اليهود : نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال ، فعيَّنوا يوم السبت لهذا المعنى ، وقالت النصارى : مبدأ الخلق والتكوين يوم الأحد ، فنجعل هذا اليوم عيداص لنا .
وأما وجه جعل يوم الجمعة عيداً؛ فلأنه يوم كمال الخقل وتمامه ، وحصول التَّمام والكمال يوجب الفرح الكامل والسُّرور العظيم ، فجعل يوم الجمعة يوم العيد أولى .
والقول الثاني : اختلافهم في السبت هو أنهم أحلُّوا الصيد فيه تارة وحرَّموه [ تارة ] .
قوله - تعالى - : { إِنَّمَا جُعِلَ } العامة على بنائه للمفعول ، وأبو حيوة على بنائه للفاعل ، و « السَّبْتُ » مفعول به .
{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ، أي : يحكم للمحقِّين بالثواب ، وللمبطلين بالعقاب .
قوله - تعالى - : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة } الآية لما أمر محمداً - صلوات الله وسلامه عليه - باتِّباع إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، بين الشيء الذي أمره بمتابعته فيه؛ فقال - عز وجل- : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة ا } .
واعلم أنه - تعالى - أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو النَّاس بأحد هذه الطرق الثلاثة ، وهي : { بالحكمة والموعظة الحسنة } ، والمجادلة بالطريق الأحسن ، وذكر - تعالى - هذا الجدل في آية أخرى ، فقال - تعالى- : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ العنكبوت : 46 ] ولمَّا ذكر الله - تعالى - هذه الطرق الثلاثة ، وعطف - تعالى - بعضها على بعض وجب أن تكون طرقاً متغايرة .
واعلم أن الدَّعوة إلى المذاهب لا بد وأن تكون مبنيَّة على حجة وبينة ، والمقصود من ذكر تلك الحجة : إما تقرير ذلك المذهب ، وذلك على قسمين : لأن تلك الحجة إما أن تكون حجة قطعية مبرَّأة عن احتمال النقيض ، أو لا تكون كذلك ، بل تكون حجة تفيد الظن الظاهر ، والإقناع الكامل ، فظهر بهذا التقسيم انحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة :
أولها : الحجة القطعية المفيدة للعقائد اليقينيّة ، وذلك هو المسمَّى بالحكمة .
وثانيها : الأمارات الظنية ، و الدلائل الإقناعية ، وهي الموعظة الحسنة .
وثالثها : الدلائل التي يكون المقصود منها : إلزام الخصوم وإقحامهم ، وذلك هو الجدل ، ثم هذا الجدل على قسمين :
أحدهما : أن يكون دليلاً مركباً من مقدِّمات مسلمة عند الجمهور ، أو من مقدمات مسلمة عند ذلك الخصم ، وهذا هو الجدل الواقع على الوجه الأحسن .
والقسم الثاني : أن يكون ذلك الدليل مركباً من مقدمات فاسدة باطلة ، إلاَّ أن قائلها يحاول ترويجها على المستمعين ، بالسَّفاهة والشَّغب ، والحيل الباطلة ، و الطرق الفاسدة ، وهذا القسم لا يليق بأهل [ الفضل ] ، إنما اللائق بهم القسم الأول ، وهو المراد بقوله : { وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } .
فصل
قال المفسرون : قوله : « بالحِكْمَةِ » أي : بالقرآن ، « والمَوْعِظَةِ الحَسنَةِ » يعني : مواعظ القرآن . وقيل « المَوعِظَة الحَسنَة » هو الدعاء إلى الله - تعالى - ب التَّرغيب والتَّرهيب ، وقيل : بالقول اللَّين من غير غِلَظٍ ولا تعنيف .
{ وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } ناظرهم بالخصومة ، « الَّتي هِيَ أحْسَنُ » أي : أعرض عن أذاهم ، أي : ولا تقصِّر في تبليغ الرسالة ، والدعاء غلى الحقِّ ، والآية نسختها آية القتال .
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } ، أي : إنَّك يا محمد مكلَّف بالدعوة إلى الله ، وأما حصول الهداية فلا يتعلق بك ، فهو أعلم بالضَّالين وأعلم بالمهتدين .
قوله - تعالى- : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ } العامة على « المُفَاعلة » وهي بمعنى : « فَعَلَ » ؛ كَسافَرَ ، وابن سيرين : « عَقَّبْتُم » بالتشديد بمعنى : قَفَّيْتُمْ [ بالانتصار فقفُّوا ] بمثل ما فعل بكم .
وقيل : تتبَّعتم ، والباء معدِّية ، وفي قراءة ابن سيرين إمَّا للسببية وإما مزيدة .
فصل
قال الواحدي رحمه الله : هذه الآية فيها ثلاثة أقوال :
أحدها : وهو قول ابن عبَّاس في رواية عطاء وأبيّ بن كعب والشعبي - رضي الله عنهم- : أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا رأى حمزة وقد مثَّلوا به ، قال :
« والله لأمثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنهُمْ مَكانَكَ » فنزل جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - بخواتيم سورة النحل ، فكفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمسك عما أراد؛ وعلى هذا قالوا : سورة النحل مكيَّة إلا هذه الثلاث آيات .
والقول الثاني : أن هذا كان قبل الأمر بالسَّيف والجهاد ، حين كان المسلمون لا يبدءون بالقتال ، ولا يقاتلون إلا من قاتلهم ، ويدلُّ عليه قوله - تعالى- : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا } [ البقرة : 190 ] وفي هذه الآية أمروا بأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا ، فلمَّا أعزَّ الله الإسلام وأهله ، نزلت « براءة » وأمروا بالجهاد ، ونسخت هذه الآية ، قاله ابن عبَّاس والضحاك .
والقول الثالث : أن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم ، وهذا قول مجاهد ، والنخعي ، وابن سيرين .
وقال ابن الخطيب : وحمل هذه الآية على قصَّة لا تعلق لها بما قبلها ، يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله - تعالى - وهو في غاية البعد ، بل الأصوب عندي أن يقال : إنه - تعالى - أمر محمَّداً صلى الله عليه وسلم بدعوة الخلق إلى الدين الحقِّ بأحد الطرق الثلاثة ، وهي الحكمة ، والموعظة ، والجدال بالطريق الأحسن ، ثم إن تلك الدعوة تتضمَّن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم ، والحكم عليهم بالكفر والضلالة ، وذلك مما يشوش قلوبهم ، ويوحش صدورهم ، ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الدَّاعي بالقتل تارة ، وبالضرب ثانياً ، وبالشَّتْم ثالثاً ، ثم إنَّ ذلك الدَّاعي المحقَّ إذا تسمَّع تك السَّفاهات ، لا بد وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء؛ تارة بالقتل ، وتارة بالضرب ، فعند هذا أمر المحقِّين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف ، وترك الزيادة ، فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه .
فإن قيل : فكيف تقدحون فيما روي أنه - صلوات الله وسلامه عليه - ترك العزم على المثلة ، وكفَّر عن يمينه بسبب هذه الآية؟ .
قلنا : لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية؛ لأنا نقول : تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية ، فيمكن التمسُّك بتلك الواقعة بعموم هذه الآية ، وذلك لا يوجب سوء الترتيب في كلام الله - تعالى - .
فصل
في هذه الآية دليلٌ على جواز التماثل في القصاص ، فمن قتل بحديدٍ قتل بمثلها ، ومن قتل بحجرٍ ، قتل بمثله ، ولا يتعدى قدر الواجب ، واختلفوا فيمن ظلمه رجل فأخذ ماله ، ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال ، هل يجوز للمظلوم خيانة الظالم في القدر الذي ظلمه؟ .
فقال ابن سيرين ، والنخعي ، وسفيان ، ومجاهد : له ذلك لعموم هذه الآية .
وقال مالك وجماعة : لا يجوز؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أدِّ الأمَانَة إلى من ائْتَمَنَكَ ولا تَخُنْ مَنْ خَانكَ »
رواه الدارقطني .
وقال القرطبي : « ووقع في مسند ابن إسحاق : أنَّ هذا الحديث إنَّما ورد في رجل زنا بامرأة ىخر ، ثم تمكَّن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر ، فاستشار ذلك الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمرِ ، فقال له : » أدِّ الأمَانَة إلى من ائْتَمَنَكَ ولا تَخُنْ مَنْ خَانكَ « وعلى هذا يقوى قول مالك - رضي الله عنه - في المال؛ لأن الخيانة لاحقة في ذلك » .
فصل
اعلم أنه - تعالى - أمر برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ورتَّب ذلك على أربع مراتب :
الأولى : قوله : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } يعني : إن رغبتم في استيفاء القصاص ، فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه؛ فإن استيفاء الزِّيادة ظلمٌ ، والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته ، وفي قوله - تعالى - : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } دليل على أن الأولى ألاّ يفعل؛ كما يقول الطبيب للمريض : إن كنت تأكل الفاكهة ، فكل التفاح ، فإن معناه : الأولى بك ألاّ تأكله ، فذكر - تعالى - بطريق الرَّمز والتعريض [ على ] أن الأولى تركه .
والمرتبة الثانية : الانتقال من التعريض إلى التَّصريح ، وهو قوله - عز وجل- : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } وهذا تصريح بأنَّ الأولى ترك ذلك الانتقام؛ لأن الرحمة أفضل من القسوة ، والانتفاع أفضل من الإيلام .
المرتبة الثالثة : وهو الأمر بالجزم بالتَّرك ، وهو قوله : « واصْبِرْ » ؛ لأن في المرتبة الثانية ذكر أن التَّرك خيرٌ وأولى ، وفي هذه المرتبة الثالثة صرَّح بالأمر بالصَّبر في هذا المقام ، ولمَّا ك ان الصبر في هذا المقام شديداً شاقًّا ، ذكر بعده ما يفيد سهولته؛ فقال - تعالى- : { واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله } أي : بتوفيقه ومعونته ، وهذا هو السب الكلي الأصلي في حصول جميع أنواع الطاعات .
ولما ذكر هذا السبب الكليَّ الأصلي ، ذكر بعده ما هو السببُ الجزئي القريب؛ فقال - جل ذكره- : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } ؛ وذلك لأنَّ إقدام الإنسان على الانتقام ، وعلى [ إنزال ] الضرر بالغير لا يكون إلا من هيجان الغضب ، وشدَّة الغضب لا تحصل إلا لأحد أمرين :
أحدهما : فوات نفع كان حاصلاً في الماضي ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } قيل : معناه : ولا تحزن على قتلى « أحدٍ » ، أي : ولا تحزن بفوات أولئك الأصدقاء وقيل : ولا تحزن عليهم في إعراضهم عنك ، ويرجع حاصله إلى فوات النفع .
والسبب الثاني : أن شدَّة الغضب قد تكون لتوقع ضرر في المستقبل ، وإليه الإشارة بقوله : { وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } ، ومن وقف على هذه اللَّطائف ، عرف أنَّه لا يمكن كلام [ أدخل ] في الحسن والضبط من هذا الكلام .
قوله : « للصَّابِرينَ » يجوز أن يكون عامًّا ، أي : الصبر خير لجنس الصَّابرين ، وأن يكون من وقوع الظَّاهر موقع المضمر ، أي : صبركم خير لكم .
قوله : « إلاَّ بالله » أي : بمعونته ، فهي للاستعانة .
قوله : « في ضَيْقٍ » قرأ ابن كثير هنا وفي النَّمل : بكسر الضاد ، والباقون : بالفتح ، فقيل : هما لغتان بمعنًى في هذا المصدر؛ كالقول والقِيل .
وقيل : المفتوح مخفَّف من « ضَيِّق » ؛ ك « مَيْت » في « مَيِّت » ، أي : في أمر ضيِّق ، فهو مثل هَيْن في هيِّن ، و « لَيْن » في « لَيِّن » ، قاله ابن قتيبة .
وردَّه الفارسي : بأن الصفة غير خاصة بالموصوف ، فلا يجوز ادِّعاء الحذف ولذلك جاز : مررت بكاتب ، وامتنع بآكلٍ .
وأما وجه القراءة بالفتح ، قال أبو عبيدة الضيِّقُ بالكسر في قلَّة المعاش والمساكن ، وما كان في القلب ، فإنه الضَّيْق .
وقال أبو عمرو : « الضِّيقُ بالكسر : الشدَّة ، والضَّيقُ بالفتح : الغمُّ » .
قوله تعالى : { مِّمَّا يَمْكُرُونَ } متعلق ب « ضَيْقٍ » و « مَا » مصدرية ، أو بمعنى الذي ، والعائد محذوف .
فصل
هذا من الكلام المقلوب؛ لأن الضَّيق صفة ، والصفة تكون حاصلة في الموصوف ، ولا يكون الموصوف حاصلاً في الصفة ، فيكون المعنى : فلا يكن الضيق فيك؛ لأن الفائدة في قوله : { وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ } هو أنَّ الضِّيق إذا عظم وقوي ، صار كالشيء المحيط بالإنسان من الجوانب ، وصار كالقميص المحيط به ، فكانت الفائدة في هذا اللفظ هذا المعنى .
المرتبة الرابعة : قوله : { إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا } المناهي ، { والذين هُم مُّحْسِنُونَ } وهذا يجري مجرى التهديد؛ لأنه في المرتبة الأولى : رغب في ترك الانتقام على سبيل الرمز ، وفي الثانية : عدل عن الرمز إلى التصريح ، وهو قوله - عز وجل- : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } ، وفي المرتبة الثالثة : أمر بالصبر على سبيل الجزم ، وفي هذه المرتبة الرابعة : كأنه ذكر الوعيد على فعل الانتقام ، فقال : { إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا } عن استيفاء الزيادة ، { والذين هُم مُّحْسِنُونَ } : في ترك أصل الانتقام؛ فكأنه قال : إن أردت أن أكون معك ، فكن من المتَّقين ومن المحسنين ، وهذه المعيَّة بالرحمة والفضل والتربية .
وقوله - تعالى- : { الذين اتقوا } إشارة غلى التعظيم لأمر الله ، وقوله - جل ذكره - { والذين هُم مُّحْسِنُونَ } إشارة إلى الشفقة على خلق الله ، وذلك يدلُّ على أن كمال سعادة الإنسان في التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله - تعالى - .
قيل لهرم بن حيَّان عند قرب وفاته : أوص ، فقال : إنما الوصيَّة في المال ولا مال لِي ، ولكن أوصيك بخواتيم سورة النحل ، قال بعضهم : إن قوله - جل ذكره- : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } منسوخ بآية السيف ، وهذا في غاية البعد؛ لأن المقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفيَّة الدَّعوة إلى الله - سبحانه وتعالى- ، وترك التَّعدي وطلب الزيادة ، ولا تعلق بهذه الأشياء بآية السيف والله أعلم بمراده .
روى أبو أمامة ، عن أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورَةَ النَّحل ، لم يُحاسِبْه الله - تعالى - بالنَّعِيم الذي أنْعَم عليه في دَارِ الدُّنيَا ، وأعْطِيَ مِنَ الأجْرِ كالذي مات فأحْسَن الوصيَّة » .
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
قوله تعالى : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } الآية .
قال النحويُّون : « سُبْحَانَ » اسم علم للتَّسبيح يقال : سبحت تسبيحاً فالتسبيح هو المصدر ، وسبحان اسم على للتسبيح؛ كقوله : « كَفَّرتُ اليمينَ تَكْفيراً وكُفْراناً » ، وتقدَّم الكلام عليه في أول البقرة ، ومعناه تنزيه الله عن كلِّ سوء .
والنصبُ على المصدر ، كأنه وضع موضع « سبَّحت الله تسبيحاً » وهو مفرد ، إذا أفرد ، وفي آخره زائدتان : الألف والنون ، فامتنع من الصرف؛ للتقدير والزيادتين .
وعن سيبويه أنَّ من العرب من ينكِّرهُ؛ فيقول : « سُبْحَاناً » بالتنزيه .
وقال أبو عبيدٍ : لا ينتصب على النِّداء ، فكأنه قال : « يا سُبْحانَ الله ، يا سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبدِه » .
قال القرطبي : سُبْحانَ ، اسم موضوع موضع المصدر ، وهو غير متمكن؛ لأنَّه لا يجري بوجوه الإعراب ، ولا يدخل فيه الألف واللام ، ولم يجر منه فعلٌ ، ولم ينصرف؛ لأنَّ في ىخره زائدتين ، ومعناه التنزيهُ ، والبراءة لله ، فهو ذكر؛ فلا يصلح لغيره ، فأمَّا قول من قال : [ السريع ]
3373- أقُولُ لمَّا جَاءنِي فَخرُهُ ... سُبحَانَ مِنْ عَلْقمَةَ الفَاخِرِ
فإنما ذكره على طريق النَّادر .
روى طلحة بن عبيد الله أنه قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : « ما مَعْنَى سبحان لله » فقال : « تَنْزيهُ الله عن كُلِّ سُوءٍ » .
وقال صاحبُ النظم : « السَّبح في اللغة التباعد؛ قال تعالى : { إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً } [ المزمل : 7 ] أي : تباعداً طويلاً فمعنى » سَبح « : تنزيهه عمَّا لا ينبغي » .
وللتَّسبيح معانٍ أخر؛ قد يكون بمعنى الصلاة؛ كقوله : { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين } [ الصافات : 143 ] أي المصلِّين والسبحة : صلاة النافلة ، وإنما قيل للمصلِّي : « مُسَبِّح » ؛ لأنه معظم لله بالصلاة ، ومنزِّهٌ له عمَّا لا ينبغي .
وقد يرد التسبيح بمعنى الاستثناء؛ كقوله تعالى : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } [ القلم : 28 ] أي تستثنون .
وتأويله أيضاً يعود إلى تعظيم الله في الاستثناء بمشيئته ، وجاء في الحديث : « لأحْرقَتْ سُبحَاتُ وجْهِه » قيل : معناه : وجهه وقيل : معناه : نور وجهه الذي إذا رآه الرّائي ، قال : « سبحان الله » . ويكون « سُبْحَانَ الله » بمعنى التعجُّب .
وقوله : « أسْرَى » و « سَرَى » لغتان ، وتقدَّم الكلام عليهما في سورة هود [ آية : 81 ] ، وأن بعضهم خصَّ « أسْرَى » باللَّيل .
قال الزمخشريُّ هنا : فإن قلت : الإسراء لا يكون إلاَّ ليلاً؛ فما معنى ذكر الليل؟ .
قلت : أراد بقوله « ليلاً » بلفظ التنكير ، تقليل مدَّة الإسراءِ ، وأنه أسْرِي به في بعض الليل ، من « مكَّة » إلى « الشام » مسيرة أربعين ليلة؛ وذلك أنَّ التنكير دلَّ على البعضيَّة ، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة « من اللَّيل » ، أي : بعضه؛ كقوله :
{ وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ } [ الإسراء : 79 ] . انتهى .
فيكون « سَرَى » و « أسْرَى » ك « سَقَى » و « أسْقَى » والهمزة ليست للتعدية؛ وإنما المعدَّى الباء في « بعبده » ، وقد تقدَّم أنها لا تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول عند الجمهور ، في البقرة ، خلافاً للمبرِّد .
وزعم ابن عطية أنَّ مفعول « أسْرَى » محذوف ، وأن التعدية بالهمزة؛ فقال : « ويظهر أنَّ » « أسْرَى » معدَّاةٌ بالهمزة إلى مفعول محذوف ، أي : أسرى الملائكة بعبده؛ لأنه يقلقُ أن يسند « أسْرَى » وهو بمعنى « سَرَى » إلى الله تعالى؛ إذ هو فعلٌ يقتضي النَّقلة؛ ك « مَشَى ، وجرى ، وأحضر ، وانتقل » فلا يحسن إسناد شيء من هذا مع ودجود مندوحةٍ عنه ، فإذا وقع في الشريعة شيء من ذلك ، تأوَّلناهُ؛ نحو : أتَيْتهُ هَرْولةً « .
وهذا كلُّه إنما بناهُ؛ اعتقاداً على أن التعدية بالباء تقتضي مضاحبة الفاعل للمفعول في ذلك ، وتقدَّم الردُّ على هذا المذهب في أوَّل البقرة في قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } [ البقرة : 20 ] .
ثم جوَّز أن يكون » أسْرَى « بمعنى » سَرَى « على حذف مضافٍ؛ كقوله : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } [ البقرة : 17 ] يعني : فيكون التقدير : الذي أسْرِى ملائكته بعبده ، والحامل له على ذلك ما تقدَّم من اعتقاد المصاحبة . والعبد هو محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله : » لَيْلاً « منصوب على الظرف ، وقد تقدم فائدة تنكيره . و » مِنَ المسجد « » مِنْ « لابتداء الغاية .
فصل في وقت الإسراء
قال مقاتل : » كان قبل الهجرة بستَّة عشر شهراً « ، ونقل الزمخشري عن أنس والحسين : كان قبل البعثة ، واختلفوا في المكان الذي أسْرِي به منه ، فقيل : هو المسجد الحرامُ بعينه؛ لظاهر القرآن ، وقوله - عليه الصلاة والسلام- : » بَيْنَا أنَا في المَسْجدِ الحَرامِ عِندَ البَيْتِ بيْنَ النَّائمِ واليَقْظَانِ ، إذْ أتَانِي جِبْريلُ عليه السلام بالبراقِ « .
وقيل : أسري به من دار أمِّ هانئ بنت أبي طالبٍ ، وعلى هذا ، فالمراد بالمسجد الحرام الحرمُ .
قال ابن عبَّاس : » الحرم كلُّه مَسْجِدٌ « ، وهذا قول الأكثرين . وقوله : { إلى المسجد الأقصى } .
اتفقوا على أنه بيتُ المقدس ، وسمي بالأقصى؛ لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام .
وقوله : { بَارَكْنَا حَوْلَهُ } .
قيل : بالأزهار والثمار .
وقيل : لأنه مقرُّ الأنبياء ، ومهبطُ الملائكةِ .
واعلم أنَّ كلمة : » إلى « لانتهاء الغاية ، فمدلول قوله : { إلى المسجد الأقصى } أنه وصل إلى ذلك ، فأما أنه دخل المسجد أم لا ، فليس في اللفظ دلالةٌ عليه ، إلاَّ أنه ورد الحديثُ أنَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى فيه .
قوله : » حولَه « فيه وجهان : أظهرهما : أنه منصوبٌ على الظَّرفِ ، وقد تقدَّم في تحقيق القول فيه أوَّل البقرة .
والثاني : أنه مفعولٌ . قال أبو البقاء : « أي : طيَّبْنَا ونَمَّيْنَا » .
يعني ضمَّنه معنى ما يتعدَّى بنفسه ، وفيه نظرٌ؛ لأنه لا يتصرَّفُ .
قوله : « لِنُريَهُ » قرأ العامة بنون العظمة؛ جرياً على « بَارَكْنَا » وفيهما التفات من الغيبة في قوله « الَّذي أسْرَى بعبده » إلى التكلُّم في « بَاركْنَا » و « لنُرِيَهُ » ، ثم التفت إلى الغيبة في قوله : « إنه هُوَ » إن أعدنا الضمير إلى الله تعالى ، وهو الصحيح ، ففي الكلام التفاتان .
وقرأ الحسن « لِيُريَهُ » بالياء من تحت ، أي : الله تعالى ، وعلى هذه القراءة يكون في هذه الآية أربعةُ التفاتات : وذلك أنَّه التفت أوَّلاً من الغيبة في قوله « الَّذي اسْرَى بعبْدهِ » إلى التكلم في قوله « بَاركْنَا » ثم التفت ثانياً من التكلُّم في « باركْنَا » إلى الغيبة في « ليُرِيَهُ » على هذه القراءة ، ثم التفت ثالثاً من هذه الغيبة إلى التكلم في « آيَاتِنَا » ، ثم التفت رابعاً من هذا التكلم إلى الغيبة في قوله « إنَّهُ هُو » على الصحيح في الضمير؛ أنه لله ، وأمَّا على قول نقله أبو البقاء أنَّ الضمير في « إنَّه هُو » للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يجيء ذلك ، ويكون في قراءة العامة التفاتٌ واحدٌ ، وفي قراءة الحسنِ ثلاثةٌ . وأكثر ما ورد الالتفاتُ فيه ثلاث مراتٍ على ما قاله الزمخشريُّ في قول امرئ القيس : [ المتقارب ]
3374- تَطَاولَ لَيْلُكَ بالأثْمُدِ .. . . .
الأبيات . وتقدَّم النزاعُ معه في ذلك ، وبعض ما يجابُ به عنه أوَّل الفاتحة .
ولو ادَّعى مُدَّعٍ أنَّ ها هنا خمسة التفاتاتٍ لاحتيج في دفعه إلى دليلٍ واضحٍ ، والخامس : الالتفاتُ من « إنَّهُ هُوَ » إلى التكلُّم في قوله { وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب } [ الإسراء : 2 ] الآية .
والرؤيةُ هنا بصرية . وقيل : قلبية ، وإليه نحا ابن عطيَّة ، فإنه قال : « ويحتمل أن يريد : لنُرِيَ محمداً للنَّاس آية ، أي : يكون النبي صلى الله عليه وسلم آية في أن يصنع الله ببشرِ هذا الصنيع » فتكون الرؤية قلبية على هذا .
فصل في معنى « لِنُريَهُ »
معنى الرُّؤية هو ما رأى في تلك الليلة من العجائب والآيات الدالَّة على قدرة الله تعالى .
فإن قيل : قوله : { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } يدلُّ على أنَّه تعالى ما أراه إلاَّ بعض الآيات؛ لأن كلمة « مِنْ » للتبعيض وقال في حقِّ إبراهيم : { وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض } [ الأنعام : 75 ] فيلزم أن يكون معراج إبراهيم - عليه السلام - أفضل من معراج محمد صلى الله عليه وسلم قلنا : فالجواب أن الذي رآه إبراهيم ملكوت السموات والأرض ، والذي رآه محمد بعض آياتِ الله ، ولا شكَّ أن آيات الله أفضلُ .
ثم قال : { إِنَّهُ هُوَ السميع البصير } أي : السميعُ لأقوال محمدٍ صلى الله عليه وسلم أي : المجيبُ لدعائهِ البصير : أي : لأفعاله العالم بكونها خالصة عن شوائب الرياءِ ، مقرونة بالصِّدق والصَّفاء .
فصل في كيفية الإسراء
اختلفوا في كيفيَّة ذلك الإسراء ، فالأكثرون على أنه أسْرِي بجسد رسُول الله صلى الله عليه وسلم .
وروي عن عائشة وحذيفة : أن ذلك كان رُؤيا ، قالا : ما فُقِد جَسَدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنَّ الله أسْرَى برُوحهِ . فالكلامُ في هذا الباب في مقامين .
الأول : في غثبات الجوازِ العقليِّ .
والثاني : في الوُقوعِ .
فالمقام الأول؛ وهو الجواز العقليُّ : فنقول : الحركة الواقعة في السُّرعة إلى هذا الحدِّ ممكنةٌ في نفسها ، والله - تعالى - قادرٌ على جميع الممكنات ، والدليل على أنَّ هذه الحركة السَّريعة ممكنة غير ممتنعةٍ تفتقر إلى مقدِّمتين :
الأولى : أنَّ الحركة الواقعة إلى هذا الحدِّ يدلُّ عليها وجوهٌ :
الأول : أنَّ الفلك الأعظم يتحرَّك من أوَّل الليل إلى آخره ما يقرب من نصف الدَّور ، وثبت في الهندسة أنَّ نسبة القطر إلى الدَّور نسبة الواحد إلى ثلاثةٍ وسبعة فيلزم أن تكون نسبة نصف القطر إلى نصف الدور نسبة الواحد إلاى ثلاثة وسبعة فبتقدير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتفع من مكة إلى ما فوق الفلك الأعظم ، فهو لم يتحرَّك إلا مقدار نصف القطر ، فلمَّا حصل في ذلك القدر من الزمان حركة نصف الدَّور ، كان حصول الحركةِ بمقدار نصفِ القطر أولى بالإمكان ، فهذا برهانٌ قاطعٌ على أنَّ الارتفاع من مكَّة إلى ما فوق العرشِ في مقدار ثلث اللَّيل أمرٌ ممكنٌ في نفسه ، وإذا كان كذلك ، كان حصوله في كلِّ الليل أولى بالإمكان .
الثاني : ثبت في الهندسة أنَّ قرص الشمس يساوي كرة الأرض مائة وستين مرَّة ، وكذا وكذا وكذا ، ثم إنا نشاهد أنَّ طُلوعَ القرص يحصل في زمان لطيفٍ سريعٍ ، فدلَّ على أنَّ بلوغ الحركة في السُّرعة إلى هذا الحدِّ أمرٌ ممكنٌ في نفسهِ .
الثالث : أنه كما يستبعدُ في العقلِ صعود الجسم الكثيف عن مركز العالم إلى ما فوق العرش ، فكذلك يستبعد نزول الجسم اللَّطيف الرُّوحانِي من فوق العرش إلى مركز العالم ، فإن كان القولُ بمعراج محمد صلى الله عليه وسلم في الليلة الواحدة ممتنعاً في العقول ، فإن القول بنزول جبريل - عليه السلام - من العرشِ إلى مكَّة في اللحظة الواحدة ممتنعاً ، ولو حكمنا بهذا الامتناع ، كان ذلك طعناً في نُبوَّة جميع الأنبياء - عليهم السلام - والقول بثبوتِ المعراج فرعٌ على تسليم جواز أصل النبوة؛ فيلزم القائل بامتناع حصول حركةٍ سريعةٍ إلى هذا الحدِّ ، القول بامتناع جبريل - عليه السلام - من الانتقال في اللَّحْظَة من العَرْشِ إلى مكة ، ولمَّا كان ذلك باطلاً ، كان ما ذكروا أيضاً باطلاً .
فإن قالوا : نحن لا نقول : إنَّ جبريل - عليه السلام - جسمٌ ينتقل من مكانٍ إلى مكانٍ ، وإنما نقول : المراد من نزول جبريل- عليه السلام - هو زوالُ الحجبِ الجسمانيةَ عن جسمِ محمَّد صلى الله عليه وسلم حتَّى يظهر في روحه من المكاشفات والمشاهدات بعض ما كان حاضراً متجلِّياً في ذات جبريل - عليه السلام- .
قلنا : تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء ، أمَّا جمهور المسلمين فيقولون : إنَّ جبريل - عليه السلام - جسمٌ ، وأنَّ نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأفلاك [ إلى مكَّ’ ] ، وإذا كان كذلك ، كان الإلزام المذكور قويًّا .
رُوِيَ أنه - عليه السلام - لما ذكر قصَّة المعراجِ كذَّبه الكلُّ ، وذهبوا إلى أبي بكرٍ ، وقالوا له : « إنَّ صاحبك يقول كذا وكذا » ، فقال أبو بكرٍ : « إنْ كَانَ قد قال ذلك ، فهو صادقٌ » ، ثم أتى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فذكر الرسول له تلك التفاصيل ، وكلَّما ذكر شيئاً ، قال أبو بكر - رضي الله عنه- : « صَدَقْتَ » ، فلمَّا تمَّ الكلام ، قال أبو بكرٍ : « أشْهَدُ أنَّك رسُولُ الله حقًّا » ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « وأشْهَدُ أنَّك صدِّيقٌ حقًّا » .
وحاصل الكلام أنَّ أبا بكرٍ كأنه قال : لمَّا سلمتُ رسالته فقد صدَّقتهُ فيما هُو أعْظَمُ من هذا ، فكَيْفَ أكذِّبه في هذا؟! .
الرابع : أكثر أرباب الملل والنِّحل يُسلِّمُونَ وجود إبليس ، ويسلّمون أنه هو الذي يلقي الوسوسة في قلوب بني آدم ، فلما جوَّزوا مثل هذه الحركة السريعة في حقِّ إبليس ويسلِّمون ، فلأن يسلِّموا جوازها في حقِّ أكابرِ الأنبياءِ أولى ، وهذا الإلزام قوي على من يسلِّم أنَّ إبليس جسمٌ ينتقل من مكانٍ إلى مكانٍ .
وأمَّا من يقول : « إنه من الأرواحِ الخبيثة الشِّرِّيرة ، وأنَّه ليس بجسم ، ولا جسمانيٍّ ، فلا يرد عليهم هذا الإلزامُ إلا أن أكثر أرباب الملل والنِّحل يوافقون على أنه جسمٌ لطيفٌ ينتقل .
فإن قالوا : إنَّ الملائكة والشياطين يصحُّ في حقِّهم مثل هذه الحركة السَّريعة ، إلاَّ أنهم اجسامٌ لطيفةٌ ، فلا يمتنع حصُولُ مثل هذه الحركة السريعة في ذواتها ، أمَّا الإنسان فإنَّه جسم كثيف ، وكيف يعقل حصول مثل هذه الحركة فيه؟ قلنا : نحن إنما استدللنا بأحوال الملائكة والشَّياطين على أن حصول حركةٍ منتهية في السُّرعة إلى هذا الحدِّ ممكن في نفس الأمر .
فأمَّا بيانُ أنَّ هذه الحركة ، لمَّا كانت ممكنة الوجود في نفسها ، كانت أيضاً ممكنة الحصول في جسم البدن الإنسانيِّ ، فذاك مقام آخر يأتي تقريره إن شاء الله تعالى .
الخامس : أنه جاء في القرآن أنَّ الرياح كانت تسير بسليمان - صلوات الله عليه - إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة؛ قال تعالى :
{ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } [ سبأ : 12 ] بل نقول : الحسُّ يدل على أنَّ الرياح تنتقل عند شدَّة هبوبها من مكانٍ إلى مكانٍ في غاية البعد في اللَّحظة الواحدة ، وذلك أيضاً يدلُّ على أنَّ مثل هذه الحركةِ السريعة في نفسها ممكنةٌ .
السادس : أن القرآن يدلُّ على أنَّ الذي عنده علمٌ من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمنِ إلى أقصى الشَّام في مقدار لمحِ البصر ، قال تعالى : { قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } [ النمل : 40 ] .
وإذا كان ذلك ممكناً في حقِّ بعض النَّاس ، علمنا أنه في نفسه ممكنٌ .
السابع : أن من الناس من يقول : إنَّ الحيوان إنما يُبْصِرُ المرئيَّات لأجل أن الشُّعَاع يخرج من عينيه ويتَّصِل بالمرئيَّات ، فإذا فتحنا العين ، ونظرنا إلى شخصٍ ، رأيناه ، فعلى قولِ هؤلاء انتقل شعاع العين من أبصارنا إلى الشخص في تلك اللحظة اللَّطيفة ، وذلك يدلُّ على أنَّ الحركة الواقعة على هذا الحدِّ من السرعة من الممكنات لا من الممتنعات ، فثبت بهذه الوجوه أن حصول الحركة المنتهية في السرعة إلى هذا الحدِّ أمرٌ ممكن الوجود في نفسه .
المقدمة الثانية : في بيان أنَّ هذه الحركة ، لمَّا كانت ممكنة الوجود في نفسها ، وجب ألاَّ يمتنع حصولها في جسم محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّه ثبت بالدَّلائل القطعيَّة أن الأجسام متماثلةٌ في تمام ماهيَّتها ، فلما صحَّ حصول مثل هذه الحركة في حقِّ بعض الأجسام ، وجب إمكان حصولها في سائر الأجسام ، وذلك يوجب القطع بأنَّ حصول مثل هذه الحركة في جسد محمد صلى الله عليه وسلم أمر ممكن الوجود في نفسه .
وإذا ثبت هذا فنقول : ثبت بالدَّليل أنَّ خالق العالم قادرٌ على كلِّ الممكنات ، وثبت أنَّ حصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحدِّ في جسد محمد صلى الله عليه وسلم ممكنٌ؛ فوجب كونه تعالى قادراً عليه ، فلزم من مجموع هذه المقامات : أن القول بثبوت هذا المعراج أمرٌ ممكن الوجود في نفسه ، أقصى ما في الباب أنَّه يبقى التعجُّب ، إلاَّ أن التعجُّب غير مخصوص بهذا المقام ، بل هو حاصلٌ في جميع المعجزات ، فانقلابُ العصا ثعباناً يبلع سبعين ألف حبلٍ من الحبالِ والعصيِّ ، ثم تعودُ في الحال عصاً صغيرة ، كما كانت أمرٌ عجيبٌ ، وخروج الناقة من الجبلِ الأصمِّ أمرٌ عجيبٌ ، وإظلال الجبل في الهواء أمرٌ عجيبٌ ، وكذا سائر المعجزات ، فإن كان مجرَّد التعجب يوجبُ الإنكار والدفع ، لزم الجزم بفساد القول بنبوة كل الأنبياء عليهم السلام ، لكن القول بإثبات المعجزات فرع على تسليم أصل النبوة ، وإن كان مجرد التعجب لا يوجب الإنكار والإبطال ، فكذا هنا .
فصل في ترجيح القول بالإسراء بالجسد والروح
قال المحقِّقُون : إنه تعالى أسْرَى بروح محمَّد صلى الله عليه وسلم وجسده من مكَّة إلى المسجد الأقصى؛ ويدلُّ عليه القرآن والخبر : أما القرآن ، فهذه الآية؛ وتقرير الدليل أن العبد اسم لمجموع الجسد والرُّوح ، قال تعالى :
{ أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى } [ العلق : 9-10 ] وقال تعالى : { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ } [ الجن : 19 ] .
وأما الخبرُ ، فما روى أنس بن مالكٍ : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « فُرِجَ عَن سَقْفِ بَيْتِي وأنَا بِمكَّة ، فَنزَلَ جِبْريلُ - عَليْهِ السَّلامُ - فَفُرِجَ صَدْري ، ثُمَّ غَسلَهُ بِمَاءِ زَمْزَم ، ثُمَّ جَاءَ بِطسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتلِئٍ حِكْمةً وإيماناً ، ففرَّغهُ فِي صَدْرِي ، ثمَّ أطْبَقهُ » .
وروى مالك بن صعصعة أنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة الإسراء به قال : « بَيْنَا أنَا فِي الحطِيم - ورُبَّما قال : » في الحِجْرِ - بَيْنَ النَّائمِ واليَقْظانِ ، فأتيتُ بِطسْتٍ من ذَهب مَمْلُوءةٍ حِكمةً وإيماناً ، فشُقَّ من النَّحْرِ إلى مراق البَطْن واسْتُخرجَ قَلْبي ، فغُسِلَ ، ثُمَّ حُشِيَ ، ثُمَّ أعِيدَ « .
وفي رواية سعيد وهشام : » ثُمّ غُسلَ البَطْنُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ مُلِئَ إيماناً وحِكْمَةً ، ثُمَّ أتِيتُ بالبُراقِ ، وهو دَابَّةٌ أبْيضُ طَويلٌ فوقَ الحِمارِ ، ودُونَ البَغْلِ ، تقَعُ حَافِرهُ عند مُنْتهَى طَرْفهِ ، فَرَكبْتهُ فانْطَلقْتُ مَعَ جِبْريل عليه السلام ، حتَّى أتيت البيْتَ المقدس قال : فَربَطْتهُ في الحَلْقةِ الَّتِي تَرْبطُ بِهَا الأنْبِيَاءُ « قال : » ثُمَّ دخلتُ المسجدَ ، فَصلَّيْتُ فِيهِ ركْعَتينِ ، ثمَّ خَرجْتُ ، فجَاءَنِي جِبريلُ بإنَاءٍ مِنْ خَمْر وإنَاءٍ من لبَنٍ ، فأخَذْتُ اللَّبنَ ، فقال جِبْريلُ : أخَذْتَ الفِطْرَة ، فانْطلقَ بِي جِبْريلُ؛ حتَّى أَتَى السَّماء الدُّنْيَا . . « الحديث .
واحتجَّ المنكرون بوجوهٍ عقليَّةٍ ونقليَّةٍ :
أما العقلية : فأوَّلها : أن الحركة البالغة في السُّرعة إلى هذا الحدِّ غيرُ معقولةٍ .
وثانيها : أنَّ صعود الجرمِ الثقيل إلى السَّموات غير معقول .
وثالثها : أنَّ صعودهُ إلى السماوات يوجب انخراق الأفلاك ، وذلك محالٌ ، ولأنَّ هذا المعنى ، لو صحَّ ، لكان أعظم من سائر معجزاته ، فكان يجب أن يظهر ذلك عند اجتماع النَّاس حتَّى يستدلُّوا به على صدقه في ادعاء النبوَّة ، فأما أن يحصل ذلك في وقتٍ لا يراه أحدٌ ، ولا يشاهده يكون عبثاً؛ وذلك لا يليق بالحكيم .
وأمَّا النقل : فقوله تعالى : { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } [ الإسراء : 1 ] وقوله : { وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } [ الإسراء : 60 ] وما تلك الرؤيا إلاَّ حديث المعراج ، والرؤيا لما في المنام ، وإنما كانت فتنة للنَّاس؛ لأنَّ كثيراً ممَّن آمن به ، لمَّا سمع هذا الكلام كذَّبهُ وكفر ، وكان حديث المعراج سبب فتنة الناس .
وأيضاً : فحديث المعراج اشتمل على أشياء بعيدة .
منها : ما رُوِيَ من شقِّ بطنه وتطهيره بماءِ زَمْزَم ، وهو بعيد؛ لأن الذي يمكن غسله بالماءِ هو النَّجاسات العينيَّة ، ولا تأثير لذلك في تطهير القلب عن العقائد الباطلة ، والأخلاق الذَّميمة .
وأيضاً : فما رُوِيَ من ركوب البُراق - وهو بعيد - لأنَّه تعالى ، لمَّا سيَّره من هذا العالم إلى عالم الأفلاك ، فأيُّ حاجةٍ إلى البراق .
وما رُوِيَ أنه تعالى أوجب خمسين صلاة ، ثم إنَّ محمَّداً صلى الله عليه وسلم لا زال يتردَّد بين يدي الله ، وبين موسى عليه السلام .
قال القاضي : وهذا يقتضي نسخ الحكم قبل حضور وقته ، فإنه يوجبُ البداء ، وذلك على الله محالٌ؛ فثبت أنَّ ذلك الحديث مشتملٌ على ما لا يدوز قبوله ، فكان مردوداً .
فالجواب عن الوجوه العقليَّة قد سبق .
وأمَّا قوله : { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } ، فهذا كلام مجمل ، وفي شرحه وجوه :
الأول : أن خيرات الجنَّة عظيمة ، وأهوال النَّار شديدة ، فلو أنه - عليه السلام - ما شاهدهما في الدنيا ، ثمَّ شاهدهما في ابتداء يوم القيامة ، فربَّما رغب في خيرات الجنة ، أو خاف من أهوال النَّار ، أمَّا لمَّا شاهدهما في الدنيا في ليلة المعراج ، فحينئذ لا يعظم وقعهما في قلبه يوم القيامة ، فلا يبقى مشغول القلب بهما ، وحينئذ يتفرّغ للشَّفاعة .
الثاني : لا يمتنع أن تكون مشاهدته ليلة المعراج للأنبياء والملائكة سبباً لتكامل مصلحته أو مصلحتهم .
الثالث : لا يبعد أنه إذا صعد الفلك ، وشاهد أحوال السماوات ، والكرسيِّ ، والعرش ، صارت مشاهدة أحوال هذا العالم وأهواله حقيرة في عينه ، فيحصل له زيادة قوَّةٍ في القلب ، باعتبارها يكون شروعه في الدعوةِ إلى الله تعالى أكمل ، وقلَّة التفاته إلى أعداء الله أقوى ، يبين ذلك أنَّ من عاين قدرة الله في هذا الباب لا يكون حاله في قوَّة النَّفسِ وثبات القلب على احتمال المكاره في الجهاد وغيره إلا أضعاف ما بكون لمن لم يعاين ، فقوله : { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } كالدَّلالة على أن فائدة ذلك الإسراء مختصَّة به ، وعائدة إليه؛ على سبيل التعيين وأما قوله : { وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ } [ الإسراء : 60 ] فيأتي الجواب عند تفسير تلك الآية في هذه السورة ، ونبيِّن أن تلك الرؤيا رؤيا عيانٍ لا رؤيا منامٍ .
وأما حديث المعراج ، فلا اعتراض على الله - تعالى - في أفعاله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد .
واعلم أن العروج إلى السَّماء ، وإلى ما فوق العرش ، فهذه الآية لا تدلُّ عليه ، ومنهم من استدلَّ عليه بأوَّل سورة النجم ، ومنهم من استدل عليه بقوله : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } [ الانشقاق : 19 ] وسيأتي تفسيرها في موضعه إن شاء الله تعالى .
فصل
رُوِيَ لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أسري به فكان ب « ذِي طُوًى » قال : « يا جبريل : إنَّ قَوْمِي لا يُصدِّقُونَني ، قال : يُصدِّقُكَ أبو بكرٍ ، وهُو الصِّدِّيقُ
» . « قال ابن عبَّاس وعائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لمَّا كَانتْ لَيْلة أسْرِي بِي ، فأصْبَحْتُ بِمكَّةَ ، فضِقْتُ بأمْرِي ، وعَرفْتُ النَّاس مُكذِّبينَ « ، فروي أنه - عليه السلام - قعد مُعتزِلاً حزيناً ، فمرَّ به أبو جهلِ بنُ هِشام ، فجَلسَ إليْهِ ، فقال كالمُستهزئ : هَل اسْتفَدت مِنْ شَيْءٍ؟ قال : نَعَمْ ، أسْرِي بِي اللَّيلةَ ، قَالَ : إلى أيْنَ؟ قال : إلى بَيْتِ المقْدسِ ، قال : ثُمَّ أصْبَحْتَ بين ظهْرَانيْنَا؟ قَالَ : نَعَمْ ، قال أبُو جهْلٍ : يا مَعْشرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤيٍّ هَلُمَّ ، فانفَضَّتْ إليه المجَالِسُ ، فَجَاءُوا حتَّى جحَلسُوا إليْهمَا قَالَ : قحَدِّثْ قوْمَكَ ما حدَّثْتَنِي ، قَالَ : نَعَمْ ، إنِّي أسْرِي بِي اللَّيْلةَ ، قَالُوا : إلى أيْنَ؟ قَالَ : إلى بَيْتِ المقْدسِ ، قالُوا : ثُمَّ أصْبَحْتَ بيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ : نعم قَالَ : فمن بَيْن مُصفِّقٍ ، ومِنْ بَينِ واضعِ يدَهِ على رَأسهِ مُتعجِّباً ، وارْتَدَّ ناسٌ ممَّنْ كان آمَنَ بِهِ وصَدَّقهُ ، وسَعَى رجُلٌ من المُشْركينَ إلى أبِي بَكْرٍ ، فقَالَ : هَلْ لَكَ في صَاحِبكَ يَزْعمُ أنَّهُ أسْرِي به إلى بَيْتِ المَقْدسِ؟ قال : أو قَدْ قَالَ؟ قَالُوا : نَعمْ ، قَالَ : لَئِن قَالَ ذلِكَ ، لقَدْ صَدقَ ، قَالُوا : وتُصدِّقهُ أنَّه ذهَبَ إلى بَيْتِ المَقدِسِ في لَيْلةٍ ، وجَاءَ قَبْلَ أنْ يُصْبحَ؟ قَالَ : نَعَمْ إنِّي لأصَدِّقهُ بِمَا هُوَ أبْعَدُ من ذلِكَ ، أصَدِّقهُ بِخبَرِ السَّماءِ بغُدْوةٍ أو رَوْحَةٍ ، ولِذلِكَ سُمِّي أبُو بكرٍ » الصِّديق « ، قال : وفِي القوْمِ مَنْ قَدْ أتَى المَسْجدَ الأقْصَى ، فقَالُوا : هَلْ تَسْتَطيعُ أنْ تَنْعَتَهُ لَنَا؟ قَالَ : نَعمْ ، قَالَ : فَذهَبْتُ أنْعَتُ وأنْعَتُ وأنْعَتُ ، فمَا زِلتُ أنْعَتُ حتَّى التبسَ عليَّ ، فَجيءَ بالمسْجِدِ ، وأنَا أنْظرُ إليْهِ ، فقَالَ قَوْمٌ : أمَّا النَّعْتُ فواللهِ لَقدْ أصَابَ ، ثُمَّ قالوا : يا مُحمَّد ، أخبرنا عن عيرنَا ، فَهِيَ أهَمُّ إلَيْنَا ، هَلْ لَقيتَ مِنْهَا شَيْئاً؟ قَالَ : نَعمْ ، مَررْتُ عَلى عِير بَنِي فُلانٍ ، وهِيَ بالرَّوحَاءِ ، وقَدْ أضلُّوا بَعِيراً لهُم ، وهُمْ فِي طَلبهِ ، وفي رِحَالهِمْ قَدحٌ مِنْ ماءٍ ، فَعطِشْتُ فأخَذتهُ فَشربْتهُ ، ثُمَّ وضَعْتهُ ، فَسَلوهُمْ : هَلْ وجَدُوا المَاء فِي القَدحِ حِينَ رَجعُوا إليْهِ ، قالوا : هَذهِ آيةٌ .
قَالَ : ومررْتُ بِعير بَنِي فُلانٍ وفُلانٍ وفُلانٍ رِاكِبانِ قَعُوداً لهُمَأ بِذي مَوضعٍ ، فنَفرَ بعَيرهُمَا منِّي فَرمَى فُلاناً ، فانْكَسرَتْ يَدهُ ، فسَلُوهُمَا عَنْ ذلِكَ قالوا : وهَذهِ آيةٌ .
قَالُوا : فأخْبِرْنَا عَنْ عِيرنَا ، قَالَ : مَررْتُ بِهَا بالتَّنعِيم ، قالوا : فمَا عِدَّتُهَا وأحْمالُهَا ، وهَيْئَتُهَا ، ومَنْ فِيهَا؟ فقال : نعم هَيْئَتُهَا كَذَا وكذَا ، وفِيهَا فُلانٌ ، يَقدمُهَا جملٌ أوْرقُ ، عليهِ غِرارتَان مَخِيطتَانِ ، تَطْلعُ عَليْكُم عِند طُلُوعِ الشَّمْسِ ، قالوا : وهذه آيةٌ أخرى ، ثمَّ خَرجُوا يَشْتدُّونَ نحو الثَّنيَّةِ يقولون : لقَدْ قَصَّ مُحمَّد بَيْننا وبَيْنهُ ، حتَّى أتَوْا كُدًى فجلسُوا عليْهَا ، فجَعلُوا يَنْتظرُون مَتَى تَطلعُ الشَّمسُ فيُكَذِّبُونَهُ ، إذ قال قَائلٌ منهم : » والله « هذه الشَّمسُ قد طَلعَتْ »
وقال آخرون : والله ، هذه الإبلُ قد طلعتْ ، يَقْدمُها بعيرٌ أورق ، وفيها فلانٌ كما قال لهُم فلمْ يُؤمِنُوا ، وقالوا : « إنْ هذَا إلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ » .
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لَقَدْ رَأيْتُني فِي الحِجْرِ ، وقُريْشٌ تَسْألُنِي عَنْ مَسْرايَ ، فَسألَتْنِي عَنْ أشْياءَ مِنْ بَيتِ المقْدسِ ، لَمْ أثْبِتْهَا فَكرِبْتُ كَرَباً ما كَربْتُ مِثْلهُ قَطُّ ، قَالَ : فَرفَعهُ الله إليَّ أنْظرُ إليْهِ ، مَا يَسْألُونني عَنْ شَيءٍْ إلاَّ أنْبَأتُهمْ بِهِ ، وقَدْ رَأيْتُني في جَماعَةٍ مِنَ الأنْبِياءِ ، فإذا مُوسَى قَائمٌ يُصلِّي ، فَإذا رَجلٌ بثَوْبٍ جَعْدٌ ، كأنَّهُ مِنْ رِجالِ شَنُوءة ، وإذَا عيسَى قائمٌ يُصلِّي ، أقْربُ النَّاس بِهِ شَبَهاً عُروَةُ بنُ مسْعُودٍ الثَّقفيُّ ، وإذا إبْراهيمُ قَائمٌ يصلِّي ، أشبهُ النَّاس به شبهاً صَاحِبكُمْ - يَعْنِي نَفسَهُ - فحَانَتِ الصَّلاة ، فأممْتُهُمْ فلمَّا فَرغْتُ مِنَ الصَّلاة ، قَال لِي قَائِلٌ : هَذَا مَالكٌ صَاحبُ النَّار ، فَسلِّمْ عَليْهِ ، فالتَفَتُّ إليْهِ فَبَدأنِي بالسَّلام » .
فصل
اختلفوا في الرؤية ، فقال ابن عباس : رآهُ بفؤاده مرَّتين ، وأبو هريرة أطلق الرؤية ، وصرَّح ابن خزيمة وآخرون بالرُّؤية بالعينين ، وهو اختيار أبي الحسن الأشعريِّ والنَّوويِّ في فتاويه ، واستدلَّ من منع ذلك بما روى مسلم عن أبي ذرٍّ قال : قُلت : يا رسول الله ، هَلْ رَأيْتَ ربَّك قال : « نُورٌ » وفي رواية : « رأيْتُ نُوراً » .
وقالوا : لم يمكن رؤية الباقي بالعين الفانية ، ولهذا قال تعالى لموسى فيما رُوِيَ في الكتب الإلهية : « يا مُوسَى ، إنَّه لا يَرانِي حيٌّ إلاَّ مَاتَ ولا يابس إلا تَدَهْدَهَ » .
قالت عائشة وجماعة : « إنَّ ذلك كان رُؤيا منامٍ » .
وقال غيرهما من الصحابة : إنَّ ذلك كان ف ياليقظة ، فإنَّه صلى الله عليه وسلم كان لا يرى رؤيا إلاَّ جَاءتْ مثلَ فلقِ الصُّبْحِ .
واختلف العلماءُ في أنَّ الإسراء والمعراج ، هل كانا في ليلةٍ واحدةٍ ، وأو كل واحدٍ في ليلةٍ؟ فمنهم من زعم أن الإسراء في اليقظة ، والمعراج في المنام ، وذهب آخرون إلى أنَّ الإسراء كان مرتين ، مرَّة بروحه مناماً ، ومرة بروحه يقظة ، وذهب آخرون إلى تعدُّد الإسراء في اليثظة ، وقالوا : « إنَّها أربع إسراءات » لتعدُّد الروايات في الإسراء ، واختلاف ما يذكر فيها ، فبعضهم يذكر شيئاً لم يذكره الآخر ، وبعضهم يذكر شيئاً ذكره الآخر ، وهذا لا يدلُّ على التعدُّد؛ لأنَّ بعض الرواة قد يحذف بعض الخبر؛ للعلم به ، أو ينساهُ ، أو يذكر ما هو الأهمُّ عنده ، أو يبسطُ تارة ، فيسوقه كلَّه ، وتارة يحدث المخاطب بما هو الأنفع له ، ومن جعل كلَّ رواية إسراء على حدةٍ ، فقد أبعد هذا؛ لأنَّ كل السياقات فيها السلام على الأنبياء ، وفي كلِّ منها تعريفه بهم ، وفي كلِّها تفرض عليه الصلوات ، فكيف يمكنُ أن يدعى تعدد ذلك؛ وما عدد ذلك؟ هذا في غاية البعد والاستحالة ، والله أعلم ، ذكر هذا الفصل ابن كثير .
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)
قوله تعالى : { وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب } الآية .
لما ذكر الله - تعالى - في الآية الأولى إكرامه محمَّداً صلى الله عليه وسلم أنه أسرى به ، ذكر في هذه الآية إكرام موسى - عليه السلام - قبله بالكتاب الذي آتاهُ .
وفي « آتيْنَا » ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تعطف هذه الجملة على الجملة السابقة من تنزيه الربِّ تبارك وتعالى ، ولا يلزمُ في عطف الجمل مشاركة في خبر ولا غيره .
الثاني : قال العسكريُّ : إنه معطوف على « أسْرَى » واستبعده أبو حيَّان .
ووجه الاستبعادِ : أن المعطوف على الصِّلة صلةٌ ، فيؤدِّي التقدير إلى صيرورة التركيب : سبحان الذي اسْرَى وآتينا ، وهو في قوة : الذي آتينا موسى ، فيعود الضمير على الموصول ضمير تكلُّمٍ من غير مسوِّغٍ لذلك .
والثالث : أنه معطوف على ما في قوله « أسْرَى » من تقدير الخبر ، كأنه قال : أسْرَيْنا بعبدنا ، أرَيْناهُ آيَاتنَا وآتَيْنَا ، وهو قريبٌ من تفسير المعنى لا الإعراب .
قوله : « وجَعلْنَأهُ » يجوز أن يعود ضميرُ النَّصب للكتاب ، وهو الظاهر ، وأن يعود لموسى - عليه السلام- .
وقوله : لألبَنِي إسْرائِيلَ « يجوز تعلقه بنفس » هُدًى « كقوله : { يَهْدِي لِلْحَقِّ } [ يونس : 35 ] ، وأن يتعلق لالجعل ، أي : جعلناه لأجلهم ، وأن يتعلق بمحذوف نعتاً ل » هُدًى « .
قوله : » ألاَّ تَتَّخِذُوا « يجوز أن تكون » أنْ « ناصبة على حذف حرف العلَّة ، أي : وجعلناه هدًى لئلاَّ تتخذوا . وقيل : » لا « مزيدة ، و التقدير : كراهة أن تتخذوا ، وأن تكون المفسرة بمعنى » أي « و » لا « ناهية ، فالفعل منصوب على الأوَّل ، مجزوم على الثاني ، وأن تكون مزيدة عند بعضهم ، والجملة التي بعدها معمولة لقولٍ مضمرٍ ، أي : مقولاً لهم : لا تتخذوا ، أو قلنا لهم : لا تتخذوا ، قاله الفارسيُّ . وهذا ظاهر في قراءة الخطاب . وهذا مردودٌ بأنه ليس من مواضع زيادة طأنْ » .
وقرأ أبو عمرو « ألاَّ يَتَّخِذُوا » بياء الغيبة؛ جرياً على قوله « لبَنِي إسْرائِيلَ » والباقون بالخطاب التفاتاً . ومعنى الآية : { وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } ؛ لئلاَّ يتخذوا من دوني وكيلاً أي : ربًّا يكلون إليه أمورهم .
و « أنْ » في قراءة من قرأ بالياء في « ألاَّ يَتَّخِذُوا » في موضع نصب على حذف الخافض ، أي : لئلاَّ يتَّخذوا ، ومن قرأ بالتاء فتحتمل « أنّ » ثلاثة أوجهٍ :
أن تكون لا موضع لها ، وهي التفسيرية .
وأن تكون زائدة ، ويكون الكلام خبراً بعد خبر؛ على إضمار القول .
وأن تكون في موضع نصبٍ و « لا » زائدة ، وحرف الجرِّ محذوفٌ مع « أن » قاله مكيٌّ .
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
قوله : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } .
العامَّة على نصب « ذريَّة » وفيها أوجه :
أحدها : انها منصوبةٌ على الاختصاص ، وبه بدأ الزمخشري .
الثاني : أنَّها منصوبة على البدل من « وكيلاً » ، أي : ألاَّ تتخذوا من دوني ذرية من حملنا .
الثالث : أنها منصوبة على البدل من « مُوسَى » ذكره أبو البقاء ، وفيه بعدٌ .
الرابع : أنها منصوبة على المفعول الأول ل « تتخذوا » والثاني هو « وكيلاً » فقدِّم ، ويكون « وكيلاً » ممَّا وقع مفرد اللفظ ، والمعنيُّ به جمعٌ ، أي : لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلاً كقوله : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً } [ آل عمران : 80 ] .
الخامس : أنها منصوبة على النداء ، أي : يا ذرية من حملنا ، وهو قول مجاهد وخصَّ الواحديُّ هذا الوجه بقراءة الخطاب في « تتَّخذوا » وهو واضحٌ عليها ، إلا أنه لا يلزم ، وإن كان مكيٌّ قد منع منه؛ فإنه قال : « فأمَّا من قرأ » لا يتخذوا « بالياء ف » ذرية « مفعول لا غير ، ويبعد النداء؛ لأن الياء للغيبة ، والنداء للخطاب ، فلا يجتمعان إلا على بعدٍ » وليس كما زعم؛ إذ يجوز أن ينادي الإنسان شخصاً ، ويخبر عن آخر ، فيقول : « يَا زيْدُ ، يَنلِقُ بَكْرٌ ، وفعَلتَ كذا » و « يَا زَيْدُ لِيفْعَلْ عَمرٌو كَيْتَ وكَيْتَ » .
السادس : قال مكيٌّ : وقيل : نصب على إضمار « أعْني » . وقرأت فرقة ذُريَّةُ « بالرفع ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنها خبر مبتدأ مضمرٍ تقديره : هم ذريَّة ، ذكره أبو البقاء وليس بواضحٍ .
والثاني : أنها بدل من واو » تتخذوا « قال ابن عطية : » ولا يجوز ذلك في القراءة بالتاء ، لأنك لا تبدل من ضمير المخاطب ، لو قلت : « ضَربْتُكَ زيداً » على البدل ، لم يجزْ « .
وردَّ عليه أبو حيَّان هذا الإطلاق ، وقال : » ينبغي التفصيل ، وهو إن كان بدل بعض أو اشتمال ، جاز ، وإن كان كلاًّ من كلٍّ ، وأفاد الإحاطة؛ نحو : « جِئْتُم كَبِيرُكم وصَغِيركُمْ » جوَّزه الأخفش والكوفيون « .
قال : » وهو الصحيح « .
قال شهاب الدين : وتمثيل ابن عطيَّة بقوله » ضَربْتُكَ زيْداً « قد يدفع عنه هذا الرَّد .
وقال مكيٌّ : » ويجوز الرفع في الكلام على قراءة من قرأ بالياء على البدل من المضمر في « يَتَّخذوا » ولا يحسن ذلك في قراءة التاء؛ لأنَّ المخاطب لا يبدل منه الغائب ، ويجوز الخفض على البدل من بني إسرائيل « .
قال شهاب الدِّين : أمَّا الرفع ، فقد تقدَّم أنه قرئ به ، وكأنه لم يطَّلعْ عليه ، وأمَّا الجرُّ فلم يقرأ به فيما علمت ، ويرد عليه في قوله » لأنَّ المخاطب لا يبدل منه الغائب « ما ورد على ابن عطيَّة ، بل أولى؛ لأنه لم يذكر مثالاً يبيّن مراده ، كما فعل ابن عطيَّة .
قوله : { مَنْ حَمَلْنَا } : يجوز أن تكون موصولة ، وموصوفة .
قال قتادة : النَّاسُ كلُّهم ذ رية نوح - عليه السلام - لأنَّه كان معه في السَّفينةِ ثلاث بنينَ : سَام وحَام ويَافث ، والناس كلُّهم من ذريَّة أولئك ، فكأن قوله : يا ذرية من حَملْنَا مَع نُوحٍ قام مقام { يَاأَيُّهَا الناس } [ البقرة : 21 ] .
وهذا يدلُّ على أنه ذهب إلى أنه منصوبٌ على النداء ، وقد تقدَّم نقله عن مجاهدٍ أيضاً .
ثم إنه تعالى أثنى على نوح ، فقال : { إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } أي : كثير الشُّكرِ ، روي أنه - عليه السلام - كان إذا أكل قال : « الحَمْدُ للهِ الَّذي أطْعَمنِي ، ولو شَاءَ لأجَاعَنِي » ، وإذَا شَرِبَ ، قَالَ « الحَمْدُ للهِ الَّذي أسْقانِي ولَوْ شَاءَ لأظْمَانِي » ، وإذا اكتسى ، قال : « الحَمدُ للهِ الَّذي كَسانِي ، ولو شَاءَ أعْرَانِي » ، وإذا احْتَذَى ، قال : « الحَمْدُ للهِ الَّذي حَذانِي ، ولوْ شَاءَ أحْفَانِي » ، وإذَا قَضَى حاجَتهُ ، قال : « الحَمْدُ للهِ الَّذي أخْرجَ عنِّ الأذى في عَافيةٍ ، ولوْ شَاءَ حَبَسهُ » .
ورُوِيَ أنه كان إذا أراد الإفطار ، عرض طعامهُ على من آمن به فإن وجده محتاجاً ، آثرهُ به .
فإن قيل : ما وجه ملائمةِ قوله : { إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } بما قبله؟ فالجواب : التقدير : كأن قيل : لا تَتَّخذُوا من دوني وكيلاً ، ولا تشركوا بي؛ لأنَّ نوحاً - عليه السلام - كان عبداً شكوراً ، وإنما يكون شكوراً ، إذا كان موحِّداً لا يرى حصول شيءٍ من النعم إلاَّ من فضل الله ، وأنتم ذرية قومه ، فاقتدوا بنوحٍ ، كما أن آباءكم اقتدوا به .
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
لما ذكر إنعامه على بني إسرائيل بإنزالِ التوراة ، وبأنه جعل التوراة هدًى لهم ، بيَّن أنهم ما اهتدوا بهداه ، بل وقعوا في الفساد ، فقال : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب } والقضاء في اللغة عبارةٌ عن وضع الأشياء عن إحكام ، ومنه قوله : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } [ فصلت : 12 ] .
وقول الشاعر : [ الكامل ]
3375- وعَليْهِمَا مَسْرُودَتانِ قَضاهُمَا .. . . .
ويكون أمراً؛ كقوله تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] .
ويكون حكماً؛ كقوله : { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ } [ يونس : 93 ] ويكون خلقاً؛ كقوله : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } ومعناه [ في ] الآية : أعْلَمنَاهُم ، وأخْبرنَاهُم فيما آتيْناهُم مِنَ الكُتبِ أنه سَيُفسِدُونَ .
وقال ابن عباس وقتادة : « وقَضَيْنَا عليهم » .
و « إلى » بمعنى « على » والمراد بالكتاب اللَّوح المحفوظ .
و « قَضَى » يتعدَّى بنفسه : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً } [ الأحزاب : 37 ] { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل } [ القصص : 29 ] ، وإنما تعدَّى هنا ب « إلى » لتضمُّنه معنى : أنْفَذْنَا وأوْحَينَا ، أي : وأنفذنا إليهم بالقضاء المحتومِ . ومتعلق القضاء محذوفٌ ، أي : بفسادهم .
وقوله « لتُفْسِدُنَّ » جواب قسمٍ محذوف تقديره : والله لتُفسدُنَّ في الأرْضِ مَرَّتينِ وهذا القسم مؤكدٌ لمتعلق القضاء .
ويجوز أن يكون « لتُفْسِدُنَّ » جواباً لقوله : « وقَضيْنَا » ، لأنه ضمِّن معنى القسم ، ومنه قولهم : « قضَاءُ الله لأفعلنَّ » فيجرُون القضاء والنَّذرَ مجرى القسمِ ، فيُتلقَّيان بما يُتَلقَّى به القسمُ .
والعامة على توحيد « الكِتابِ » مراداً به الجنس ، وابن جبيرٍ وأبو العالية « في الكُتُب » جمعاً ، جَاءُوا به نصًّا في الجمع .
وقرأ العامة بضمِّ التاء وكسر السِّين مضارع « أفْسَدَ » ، ومفعوله محذوف تقديره : لتُفْسِدنَّ الأديان ، ويجوز ألا يقدَّر مفعولٌ ، أي : لتُوْقعُنَّ الفساد .
وقرأ ابن عبَّاس ونصرُ بن عليٍّ وجابر بن زيد « لتُفْسَدُنَّ » ببنائه للمفعولِ ، أي : ليُفْسِدنَّكُمْ غَيرُكم : إمَّا من الإضلال أو من الغلبة . وقرأ عيسى بن عمر بفتحِ التَّاء وضمِّ السين ، أي : فَسدتُمْ بأنفسكم .
قوله : « مرَّتينِ » منصوب على المصدر ، والعامل فيه « لتُفْسِدُنَّ » لأن التقدير : مرتين من الفساد .
وقوله : « عُلُوًّا » العامة على ضمِّ العين واللام مصدر علا يعلو ، وقرأ زيد بن عليٍّ « عِلياً » بكسرهما والياء ، والأصل الواو ، وإنما أعِلَّ على اللغة القليلة؛ وذلك أن فُعولاً المصدر ، الأكثر فيه التصحيح؛ نحو : عَتَا عُتُواً ، والإعلال قليلٌ؛ نحو { أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً } [ مريم : 69 ] على أحد الوجهين؛ كما سيأتي ، وإن كان جمعاً ، فالكثير الإعلال ، نحو : « جِثِيًّا » وشذَّ : بَهْوٌ وبُهُوٌّ ، ونَجْوٌ ونُجُوٌّ ، وقاسه الفراء .
فصل
معنى { وَقَضَيْنَآ } : أوحينا { إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض } ، أي بالمعاصي وخلاف أحكام التوراة .
{ فِي الأرض } يعني أرض الشَّام وبيت المقدس .
{ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } أي : يكون استعلاؤكم على النَّاس بغير الحقِّ استعلاءاً عظيماً؛ لأنَّه يقال لكلِّ متكبِّر متجبِّر : قد علا وتعظَّم .
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
قوله : { وَعْدُ } أي : موعود ، فهو مصدر واقع موقع مفعول ، وتركه الزمخشريُّ على حاله ، لكن بحذف مضافٍ ، أي : وعدُ عقاب أولاهما . وقيل : الوعدُ بمعنى الوعيد ، وقيل : بمعنى الموعد الذي يراد به الوقت ، فهذه أربعة أوجهٍ ، والضمير عائدٌ على المرَّتينِ .
قوله : « ‘ِبَاداً لَنَا » العامة على « عِبَاد » بزنة فِعَال ، وزيد بن عليٍّ والحسن « عَبِيداً » على فعيل ، وتقدَّم الكلام على ذلك .
وقوله : « فَجاسُوا » عطف على « بَعثْنَا » ، أي : ترتَّب على بعثنا إياهم هذا . وجُوس بفتح الجيم وضمها مصدر جاسَ يَجُوسُ ، أي : فتَّش ونقَّب ، قاله أبو عبيدٍ ، وقال الفراء : « قَتلُوا » قال حسان : [ الطويل ]
3376- ومِنَّا الَّذي لاقَى بِسيْفِ مُحمَّدٍ ... فَجَاسَ بِهِ الأعْداءُ عَرْضَ العَساكرِ
وقال أبو زيد : « الجُوسُ والجَوْسُ والحَوْسُ والهَوْسُ طلب الطَّوف باللَّيْلِ » . وقال قطربٌ : « جَاسُوا : نَزلُوا » . وأنشد : [ المتقارب ]
3377- فَجُسْنَا دِيَارهُمْ عَنْوَةً ... وأبْنَا بِسَاداتِهمْ مُوثَقِينَا
وقيل : « جَاسُوا بمعنى دَاسُوا » ، وأنشد : [ الرجز ]
3378- إلَيْكَ جُسْنَا اللَّيْلَ بالمَطِيِّ ... وقيل : الجَوْسُ : التردُّد . ق لالليث : الجَوْس ، والجوسان : التردُّد وقيل : طلب الشيءِ باستقصاءٍ ، ويقال : « حَاسُوا » بالحاءِ المهملة ، وبها قرأ طلحةُ وأبو السَّمَّال ، وقُرِئ « فجُوِّسُوا » بالجيم ، بزنة نُكِّسُوا .
و « خلال الدِّيارِ » العامة على « خِلال » وهو محتملٌ لوجهين :
أحدهما : أنه جمعُ خللٍ؛ كجِبال في جبل ، وجمال في جَمل .
والثاني : أنه اسمٌ مفردٌ بمعنى وسطٍ ، ويدل له قراءة الحسن « خَلَلَ الدِّيارِ » .
قوله : « وكان وعْداً » ، أي : وكان الجوسُ ، أو وكان وعْدُ أولاهما ، أو وكان وعدُ عقابهم .
قوله تعالى : { الكرة } : مفعول « رَدَدْنَا » وهي في الأصل مصدر كرَّ يكُرُّ ، اي : رجع ، ثم يعبَّر بها عن الدَّولةِ والقهر .
قوله : « عَليْهِم » يجوز تعلُّقه ب « رَدَدْنَا » ، أو بنفس الكرَّة؛ لأنه يقال : كرَّ عليه ، فتتعدَّى ب « عَلَى » ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من « الكرَّة » .
قوله : « نَفِيراً » منصوبٌ على التمييز ، وفيه أوجهٌ :
أحدها : أنه فعيلٌ بمعنى فاعل ، أي : أكثر نافراً ، أي : من يَنْفِرُ معكم .
الثاني : أنه جمع نفرٍ؛ نحو : عَبْدٍ وعبيدٍ ، قاله الزجاج؛ وهم الجماعة الصَّائرُون إلى الأعداء .
الثالث : أنه مصدر ، أيك أكثر خروجاً إلى الغزو؛ قال الشاعر : [ المتقارب ]
3379- فَأكْرِمْ بقَحْطانَ مِنْ والِدٍ ... وحِمْيَرَ اكْرِمْ بقَوْمٍ نَفِيرَا
والمفضل عليه محذوفٌ ، فقدره بعضهم : أكثر نفيراً من أعدائكم ، وقدَّره الزمخشريُّ : أكثر نفيراً ممَّا كنتم .
فصل في معنى الآية
معنى الآية : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا } يعني أوَّل المرَّتين .
قال قتادة : « إفسادهم في المرَّة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة وركبوا المحارم » .
وقال ابن إسحاق : « إفسادهم في المرَّة الأولى قتل شعيا في الشجرة ، وارتكابهم المعاصي » .
{ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ } .
قال قتادة : « يعني جالوت وجنوده ، وهو الذي قتلهُ داود ، فذاك هو عودُ الكرَّة » .
وقال سعيد بن جبيرٍ : « سنحاريب من أرض نينوى » وقال ابن إسحاق : « بُخْتَنصَّر البابليّ وأصحابه » وهو الأظهر ، فقتل منهم أربعين ألفاً ممَّن يقرأ التوراة ، وذهب بالبقيَّة إلى أرضه ، فبقوا هناك في الذلِّ إلى أن قيَّض الله ملكاً آخر من أهل بابل ، واتَّفق أن تزوَّج بامرأةٍ من بني إسرائيل ، فطلبت تلك المرأةُ من ذلك الملك أن يردَّ بني غسرائيل غلى بيت المقدس ، ففعل ، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ، ورجعوا إلى أحسن ما كانوا ، وهو قوله : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ } .
وقال آخرون : يعني بقوله : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ } هو أنه تعالى ألقى الرُّعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس ، فلما كثرت المعاصي فيهم ، أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس ، فقصدوهم ، وبالغوا في قتلهم ، وإفنائهم ، وإهلاكهم .
واعلم أنه لا يتعلق كثير غرضٍ في معرفة الأقوام بأعيانهم ، بل المقصود هو أنهم لمَّا أكثروا من المعاصي ، سلَّط الله عليهم أقواماً قتلوهم وأفنوهم .
فصل في الاحتجاج على صحة القضاء والقدر
احتجُّوا بهذه الآية على صحَّة القضاء والقدر من وجهين :
الأول : أنه تعالى قال : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ } ، وهذا القضاءُ أقلُّ احتمالاته الحكم الجزم والخبر الحتم ، فثبت أنَّه تعالى أخبر عنهم أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي خبراً وجزماً ، حتماً ، لا يقبل النَّسخ؛ لأنَّ القضاء معناه الحكم الجزم ، ثم إنه الله تعالى أكَّد القضاء بقوله : { وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } .
فنقول : عدم وقوع ذلك الفساد منهم يستلزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً ، وانقلاب حكمه الجازم باطلاً ، وانقلاب علمه الحقِّ جهلاً ، وكل ذلك محال ، فكان عدم إقدامهم على ذلك الفساد محالاً ، وكان إقدامهم عليه واجباً ضرورياً ، لا يقبل النَّسخ والرفع ، مع أنَّهم كلِّفُوا بتركه ، ولعنوا على فعله؛ وذلك يدل على أن الله قد يأمر بالشيء ويصدُّ عنه وقد ينهى عن الشيء ويسعى فيه .
الثاني : قوله : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } والمراد به الذين تسلطوا على بني إسرائيل بالقتل والنَّهب والأسر ، فبيَّن تعالى أنَّه هو الذي بعثهم على بعثهم على بني إسرائيل ، ولا شكَّ أن قتل بني إسرائيل ونهب أموالهم وأسر أولادهم كان مشتملاً على الظلم الكبير والمعاصي العظيمة .
ثم إنه تعالى أضاف كلَّ ذلك إلى نفسه بنفسه بقوله : ثم { بَعَثْنَا } وذلك يدلُّ على أن الخير والشر والطاعة والمعصية من الله تعالى . أجاب الجبائيُّ عنه من وجهين :
الأول : قوله : « بَعَثْنَا » هو أنَّه تعالى أمر أولئك القوم بغزو بني إسرائيل؛ لما ظهر فيهم من الفساد ، فأضيف ذلك الفعل إلى الله من حيث الأمرُ .
والثاني : أنَّ المراد : خَلَّيْنَا بينهم وبين بني إسرائيل ، وما ألقينا الخوف من بني إسرائيل في قلوبهم ، فالمراد من هذا البعث التخليةُ وعدم المنع .
والجواب الأوَّل ضعيفٌ؛ لأن الذين قصدوا تخريب بيت المقدس ، وإحراق التوراة ، وقتل حفَّاظ التوراة لا يجوز أن يقال : إنهم فعلوا ذلك بأمر الله .
والجواب الثاني أيضاً ضعيفٌ؛ لأنَّ البعث عبارةٌ عن الإرسال ، والتخلية عبارةٌ عن عدم المنع ، فالأول فعلٌ ، والثاني تركٌ ، فتفسير البعث بالتخلية تفسير لأحد الضدَّين بالآخر ، وإنه لا يجوز ، فثبت صحَّة ما ذكرناه .
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
قوله تعالى : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ } الآية لما حكى تعالى عنهم بأنَّهم لما عصوا ، سلَّط الله عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنَّهب ، فعند ذلك ظهر أنههم أطاعوا ، فقال تعالى : إن أطاعوا ، فقد أحسنوا إلى أنفسهم ، وإن أصرُّوا على المعصية ، فقد أساءوا إلى أنفسهم ، وقد تقرَّر في العقول أن الإحسان إلى النَّفْس حسنٌ مطلوبٌ ، وأن الإساءة إليها قبيحةٌ ، فلهذا المعنى قال تعالى : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } .
قوله تعالى : { فَلَهَا } : في اللام أوجه : أحدها : أنها بمعنى « على » أي : فعليها كقوله : [ الطويل ]
3380- .. فَخَرَّ صَرِيعاً لليَدَيْنِ وللْفَمِ
أي : على اليدين . وحروف الإضافة يقوم بعضها مقام بعضٍ؛ كقوله : { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 5 ] أي : إليها .
والثاني : أنها بمعنى « إلى » .
قال الطبريُّ : « أي : فغليها ترجعُ الإساءة » .
الثالث : أنها على بابها ، وإنما أتى بها دون « على » للمقابلة في قوله : « لأنْفُسكُمْ » فأتى بها ازدواجاً .
وهذه اللام يجوز أن تتعلق بفعل مقدرٍ كما تقدَّم في قول الطبريِّ ، وإمَّا بمحذوف على أناه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : فلها الإساءةُ لا لغيرها .
قال الواحدي : « لا بُدَّ في الآية من إضمارٍ؛ والتقدير : وقلنا : » إنْ أحسَنْتُم ، أحسنتم لأنفُسِكُمْ « والمعنى : إنْ أحْسَنْتُمْ بفعل الطاعات ، فقد أحسنتم إلى أنفسكم من حيث إن تفعلوا تلك الطاعة يفتح الله عليكم أبواب الخيرات والبركات وإن أسأتم بفعل المحرَّمات ، أسأتم إلى أنفسكم من حيث إنَّ شُؤم تلك المعاصي يفتحُ الله عليكم أبواب العقوبة .
قال أهل المعاني : » هذه الآيةُ تدلُّ على أن رحمة الله تعالى غالبةٌ على غضبه؛ بدليل أنَّه لما حكى عنهم الإحسان ، أعاده مرتين؛ فقال : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ } ولما حكى عنهم الإساءة ، اقتصر على ذكرها مرة واحدة ، فقال : { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } ولولا أن جانب الرحمة غالبٌ ، وإلاَّ لما كان ذلك « .
قوله : » فإذا جَاءَ وعدُ الآخِرةِ « ، اي : المرَّة الآخرة ، فحذفت » المرَّةُ « للدلالة عليها ، وجواب الشرطِ محذوفٌ ، تقديره : بَعَثْناهُم ، ليَسًوءوا وُجُوهَكمْ ، وإنما حسُن هذا الحذف لدلالة ما تقدَّم عليه من قوله : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ } [ الإسراء : 5 ] والمرةُ الآخرة هي إقدامهم على قتل زكريا ويحيى - عليهما الصلاة والسلام - وقصدهم قتل عيسى حين رفع .
قال الواحديُّ : » فبعث الله عليهم بختنصَّر البابليَّ المجوسيَّ ، فسبى بني إسرائيل ، وقتل ، وخرَّب بيت المقدس ، وسلَّط عليهم الفرس والرُّوم : خردوش وطيطوس؛ حتَّى قتلوهم ، وسبَوْهُم ، ونَفوهُمْ عن ديارهم « .
قال ابن الخطيب : » والتواريخُ تشهد أنَّ يختنصر كان قبل بعث عيسى وزكريَّا بسنين متطاولةٍ ، ومعلوم أنَّ الملك الذي انتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملكٌ من الرُّوم ، يقال له : قُسطَنْطِينُ « .
قوله : { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } متعلق بالجواب المقدر .
يقال : سَاءَهُ يَسُوءهُ ، أي : أحْزَنَهُ وإنما عزا الإساءة إلى الوجوه؛ لأنَّ آثار الأعراض الفسانيَّة الحاصلة في القلب إنَّما تظهر على الوجه ، فإن حصل الفرح في القلب ظهرت النُّضرة والإشراق والإسفار في الوجه ، وإن حصل الحزن والخوف في القلب ظهر الكلوح والغبرة والسَّواد في الوجه ، فلهذا عزيت الإساءة غلى الوجوه في هذه الآية ، ونظير هذا المعنى في القرآن كثيرٌ .
وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر « لِيَسًوءَ » بالياء المفتوحة وهمزة مفتوحة آخراً .
والفاعل : إما الله تعالى ، وإمَّا الوعد ، وإمَّا البعثُ ، وإمَّا النَّفيرُ ، والكسائي بنون العظمة ، أي : لِنَسُوء نحنُ ، وهو موافقٌ لما قبله من قوله { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ } و « وَدَدْنَا » و « أمْدَدْنَا » وما بعده من قوله : « عُدْنَا » و « جَعَلْنَا »
وقرأ الباقون « لِيَسًوءُوا » مسنداً إلى ضمير الجمع العائد على العباد أو أولي البأسِ ، أو على النَّفير؛ لأنه اسم جمعٍ ، وهو موافقٌ لما بعده من قوله { وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ } وفي عود الضمير على النفير نظر؛ لأن النفير المذكور من المخاطبين ، فكيف يوصف ذلك النفير بأنه يسوءُ وجوههم؟ اللهم إلا أن يريد هذا القائلُ أنه عائدٌ على لفظه ، دون معناه؛ من بابِ « عِندِي دِرْهمٌ ونِصْفهُ » .
وقرأ أبيٌّ « لِنَسُوءَنْ » بلام الأمر ونون التوكيد الخفيفة ونون العظمة ، وهذا جواب ل « إذا » ولكن على حذف الفاء ، أي : فَلِنَسُوءَنْ ، ودخلت لامُ الأمر على فعل المتكلِّم؛ كقوله تعالى { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } [ العنكبوت : 12 ] .
وقرأ ابنُ أبي طالبٍ « لَيسُوءَنَّ » و « لَنَسُوءَنَّ » بالياء والنون التي للعظمة ، ونون التوكيد الشديدة ، واللام التي للقسم ، وفي مصحف أبيِّ « لِيَسُوءُ » بضم الهمزة من غير واوٍ ، وهذه القراءة تشبه أن تكون على لغةِ من يجتزئُ عن الواو بالضمة؛ كقوله : [ الوافر ]
3381- فَلوْ أنَّ الأطبَّا كَانُ حَوْلِي .. . .
يريد : « كَانُوا حَوْلِي » وقول الآخر : [ الكامل ]
3382- . . .. . إذَا مَا النَّاسُ جَاعُ وأجْدَبُوا
يريد « جَاعُوا » ، فكذا هذه القراءة ، أي : لِيَسُوءوا ، كما في القراءةِ الشهيرة ، فحذف الواو .
وقرئ « لِيُسِيءَ » بضمِّ الياء وكسر السين وياء بعدها ، أي : ليُقَبِّحَ الله وجوهكم ، أو ليقبِّح الوعد ، أو البعث . وفي مصحف أنس « وَجْهَكُمْ » بالإفراد؛ كقوله : [ الوافر ]
3383- كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكمُ تَعِفُّوا .. . . .
وكقوله : [ الرجز ]
3384- .. في حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وقَدْ شَجِينَا
وكقوله :
3385- ... وأمَّا جِلدُهَا فَصَلِيبُ
قوله : « وليَْخُلوا » من جعل الأولى لام « كَيْ » كانت هذه أيضاً لام « كَيْ » معطوفة عليها ، عطف علة على أخرى ، ومن جعلها لام أمرٍ كأبيٍّ ، أو لام قسم؛ كعلي بن أبي طالب ، فاللام في « لِيدْخُلوا » تحتمل وجهين : الأمر والتعليل ، و « كَمَا دَخلُوهُ » نعتُ مصدرٍ محذوفٍ ، أو حالٌ من ضميره ، كما يقول سيبويه ، أي : دخولاً كما دخلوه ، و « أوَّل مرَّةٍ » ظرف زمانٍ ، وتقدَّم الكلام عليها في براءة .
والمراد بالمسجد بيت المقدس ونواحيه .
قوله : { وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } التتبير الهلاك ، يقال : تبر الشيء تبراً وتباراً وتبرية إذا هلك ، وتبَّرهُ : أهلكه ، وكلُّ شيء جعلته مكسَّراً مفتَّتا ، فقد تبَّرتهُ ، ومنه قيل : تب رالزجاج ، وتبر الذَّهب لمكسره ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ } [ الأعراف : 139 ] ، وقوله : { وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً } [ نوح : 28 ] وقوله : « ما عَلَوْا » يجوز في « ما » أن تكون مفعولاً بها ، أي : ليهلكوا الذي عَلوْهُ ، أي : غلبوا عليه وظفروا وقيل : لِيهْدمُوه : كقوله : [ الطويل ]
3386- ومَا النَّاسُ إلاَّ عَامِلانِ ، فعَاملٌ ... يُتَبِّرُ مَا يَبْنِي وآخَرُ رَافِعُ
ويحتمل : « ويُتَبِّرُوا ما داموا غالبين » أي : ما دام سلطانهم جارياً على بني إسرائيل ، وعلى هذا تكون ظرفية ، أي : مدَّة استعلائهم ، وهذا يحوجُ إلى حذف مفعولٍ ، اللهم إلا أنْ يكون القصدُ مجردَ ذِكْرِ الفعل؛ نحو : هو يعطي ويمنع .
وقوله : « تَتْبيراً » ذكر للمصدر على معنى تحقيق الخبر ، وإزالة الشكِّ في صدقه كما في قوله تعالى : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } [ النساء : 164 ] أي حقًّا ، والمعنى ليُدمِّرُوا ويخرّبوا ما غلبوا عليه .
ثم قال : { عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } والمعنى : لعلَّ ربَّكم أن يرحمكم ، ويعفُوَ عَنْكُم يا بني إسرائيل بعد انتقامهِ منكم بردِّ الدَّولة إليكم .
{ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } أي : إن عدتم إلى المعصية ، عدنا إلى العقوبة ، قال القفال : « وإنَّما حملنا هذه الآية على عذاب الدنيا؛ لقوله تعالى في سورة الأعراف خبراً عن بني إسرائيل : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب } [ الأعراف : 167 ] ثم قال : { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } أي وإنهم قد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي ، وهو التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل ، فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب ، فجرى على بني النضير ، وقريظة وبني قينقاع ، ويهود خيبر ما جرى من القتل والجلاء ، ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية ، لا ملك لهم ولا سلطان . ثم قال تعالى : { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } .
يجوز أن تكون » حصيراً « بمعنى فاعل ، أي : حاصرة لهم ، محيطة بهم ، وعلى هذا : فكان ينبغي أن تؤنَّث بالتاء كجبيرة . وأجيب : بأنها على النَّسب ، أي ذات حصرٍ؛ كقوله : { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } [ المزمل : 18 ] ، أي ذات انفطارٍ ، وقيل : الحصيرُ : الحبسُ ، قال لبيد : [ الكامل ]
3387- ومَقامَةٍ غُلْبٍ الرِّجالِ كَأنَّهم ... جِنٌّ لَدى بَابِ الحَصِير قِيَام
وقال أبو البقاء : » لم يؤنثه؛ لأنَّ فعيلاً بمعنى فاعلٍ « وهذا منه سهوٌ؛ لأنه يؤدِّي إلى أن تكون الصفةُ التي على فعيلٍ ، إذا كانت بمعنى فاعل ، جاز حذف التاء منها ، وليس كذلك لما تقدَّم من أن فعيلاً بمعنى فاعل يلزمُ تأنيثه ، وبمعنى مفعول يجب تذكيره ، وما جاء شاذًّا من النوعين يؤوَّلُ .
وقيل : إنما لم يؤنَّث لأنّ تأنيث « جهنَّم » مجازيٌّ .
وقيل : لأنها في معنى السِّجْن والمحبس ، وقيل : لأنها بمعنى فراشٍ .
ويجوز أن تكون بمعنى مفعول أي : جعلناها موضعاً محصوراً لهم ، والمعنى : أنَّ عذاب الدنيا ، وإن كان شديداً إلا أنه قد يتفلَّت بعض النَّاس عنه ، والذي يقع فيه يتخلَّص عنه إمَّا بالموت ، أو بطريق آخر ، وأما عذاب الآخرة ، فإنَّه يكون محيطاً به ، لا رجاء في الخلاص منه .
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
قوله تعالى : { إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } الآية .
لما شرح فعله في حقِّ عباده المخلصين ، وهو الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم وإيتاء التَّوراة لموسى - عليه السلام ، وما فعله في حقِّ العصاة ، وهو تسليطُ البلاء عليهم - كان ذلك تنبيهاً على أنَّ طاعة الله توجب كلَّ خيرٍ ، ومعصيته توجب كلَّ بلية ، ولا جرم أثنى على القرآن ، فقال تعالى : { إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } .
قوله تعالى : { لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } : نعتٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي : للحالةِ ، أو للملَّة ، أو للطريقة قال الزمخشريُّ : « وأيّتما قدَّرتَ؛ لمْ تَجِدْ مَعَ الإثباتِ ذَوْقَ البلاغة الذي تَجدهُ مع الحذفِ؛ لِما في إبهام الموصوف بحذفه من فخامةٍ تفقد مع إيضاحه » .
قال ابن الخطيب : وقولنا : هذا الشَّيء أقومُ من ذاك إنما يصح في شيئين اشتركا في معنى الاستقامة ، ثم كان حصول معنى الاستقامة في إحدى الصورتين ، أكثر وأكمل من حصوله في الصورة الثانية ، وهذا هنا محال؛ فكان وصفه بأنه أقوم مجازاً ، إلا أن لفظ « أفْعَل » قد جاء بمعنى الفاعل ، كقولنا : « اللهُ أكْبَرُ » ، أو يحمل هذا اللفظ على الظاهر المتعارف ، ومثل هذه الكناية كثيرة الاستعمال في القرآن؛ كقوله تعالى : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ المؤمنون : 96 ] أي بالخصلة التي هي أحسنُ .
ومعنى « هِيَ أقْومُ » أي : إلى الطريقة التي هي أصوبُ .
وقيل : إلى الكلمة التي هي أعدلُ وهي شهادة أن لا إله إلا الله { وَيُبَشِّرُ } - يعني القرآن - { المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ } أي : بأنَّ لهم { أَجْراً كَبِيراً } وهو الجنَّة .
قوله تعالى : { وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } : فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون عطفاً على « أنَّ » الأولى ، أي : يُبشِّرُ المؤمنين بشيئين : بأجرٍ كبيرٍ ، وبتعذيب أعدائهم ، ولا شكَّ أنَّ ما يصيب عدوَّك سرورٌ لك ، وقال الزمخشري : « ويحتمل أن يكون المراد : ونخبر بأنَّ الَّذينَ » .
قال أبو حيّان : « فلا يكون إذ ذاك داخلاً تحت البشارةِ » . قال شهابُ الدِّين : قول الزمخشريُّ يحتمل أمرين :
أحدهما : أن يكون قوله « ويحتمل أن يكون المراد : ويخبر بأنَّ » من باب الحذف ، أي : حذف « ويُخْبِرُ » وأبقى معموله ، وعلى ه1ذا فيكون « أنَّ الَّذينَ » غير داخلٍ في حيِّز البشارة بلا شكٍّ ، ويحتمل أن يكون قصده : أنه يريد بالبشارة مجرَّد الإخبار ، سواءٌ كان بخيرٍ أم بشرٍّ ، وهل هو فيهما حقيقةٌ أو في أحدهما ، وحينئذ يكون جمعاً بين الحقيقة والمجاز؛ أو استعمالاً للمشترك في معنييه؛ وفي المسألتين خلافٌ مشهورٌ ، وعلى هذا : فلا يكون قوله « وأنَّ الَّذينَ لا يؤمِنُونَ » غير داخلٍ في حيِّز البشارةِ ، إلاَّ أنَّ الظاهر من حالِ الزمخشريِّ : أنَّه لا يجيزُ الجمع بين الحقيقةِ والمجازِ ، ولا استعمال المشتركِ في معنييه .
فصل
اعلم أن العمل الصَّالحَ ، كما يوجب لفاعله النَّفع الأكمل الأعظم ، كذلك تركه يوجب الضَّرر الأكمل الأعظم ، فإن قيل : كيف يليقُ لفظ البشارة بالعذاب؟ .
فالجواب : هذا مذكورٌ على سبيل التهكُّم ، أو من باب إطلاق أحد الضِّدَّين على الآخر؛ كقوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] وتقدَّم الكلام عليه قبل الفصل ، فإن قيل : هذه الآية [ واردة ] في شرح أحوالِ اليهود ، وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة ، فكيف يليق بهذا الموضع قوله تعالى : { وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } ؟ .
فالجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أنَّ أكثر اليهود ينكرُون الثواب والعقاب الجسمانيين .
والثاني : أن بعضهم قال : { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } [ آل عمران : 24 ] فهم بهذا القول صاروا كالمنكرينَ للآخرةِ .
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
في الباءين ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهما متعلقتان بالدُّعاء على بابهما؛ نحو : « دَعوْتُ بكذا » والمعنى : أنَّ الإنسان في حال ضجره قد يدعو بالشَّر ، ويلحُّ فيه ، كما يدعو بالخير ويلحُّ فيه .
والثاني : أنهما بمعنى « في » بمعنى أنَّ الإنسان إذا أصابه ضرٌّ ، دعا وألحَّ في الدعاءِ ، واستعجل الفرجَ؛ مثل الدعاءِ الذي كان يحبُّ أن يدعوهُ في حالة الخير ، وعلى هذا : فالمدعوُّ به ليس الشرَّ ولا الخير ، وهو بعيدٌ .
الثالث : أن تكون للسَّبب ، ذكره أبو البقاء ، والمعنى لا يساعده ، والمصدر مضافٌ لفاعله .
وحذفت الواو ولفظها الاستقبال بللاَّم الساكنة؛ كقوله تعالى : { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] وحذف في الخط أيضاً ، وهي غير محذوفة في المعنى .
فصل في نظم الآية
وجه النَّظم : أن الإنسان بعد أن أنزل الله - تعالى - عليه هذا القرآن ، وخصه بهذه النعم العظيمة ، قد يعدل على التمسُّك بشرائعه ، والرُّجوع إلى بيانه ، ويقدم علىما لا فائدة فيه ، فقال : { وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير } .
واختلفوا في المراد من دعاء الإنسان بالشرِّ ، فقيل : المراد منه النضر بن الحارث ، حيث قال : اللهُم ، إن كان هذا هو الحقَّ من عندكَ . فأجاب الله دعاءه ، وضُربَتْ رَقَبتهُ ، وكان بعضهم يقول : ائْتِنَا بعذابِ الله ، وآخرون يقولون : مَتَى هذا الوعد إن كنتم صَادقِينَ ، وإنَّما فعلوا ذلك؛ للجَهْلِ ، ولاعتقادِ أن محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - كاذبٌ فيما يقول .
وقيل : المراد أنَّ الإنسان في وقت الضجر يلعنُ نفسه ، وأهله وولده ، وماله؛ كدعائه ربَّه أن يهب له النعمة والعافية ، ولو استجاب الله دعاءه على نفسه في الشرِّ ، كما يستجيب له في الخير ، لهلك ، ولكنَّ الله لا يستجيبُ؛ لفضله .
رُوِيَ أن النبي المصطفى - صلوات الله وسلامه عليه - « دفع إلى سودةَ بنت زَمْعةٍ أسيراً ، فاقبل يَئِنُّ باللَّيْلِ ، فقالت له : مَا لَكَ تَئِنُّ؟ فَشَكَى ألم القدِّ ، فأرْخَتْ لهُ مِنْ كتافه ، فلمَّا نَامَتْ أخرجَ يدهُ ، وهَربَ فلمَّا أصْبحَ النبي صلى الله عليه وسلم دعا بِهِ ، فأعْلمَ بِشأنهِ ، فقال صلوات الله وسلامه عليه : اللَّهُمَّ اقطعْ يَدهَا ، فَرفَعتْ سَوْدَةُ - رضي الله عنها - يَدهَا تتَوقَّعُ أن يَقْطعَ الله يَدهَا ، فقَال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : إنِّي سَألتُ الله أنْ يَجْعلَ دُعائِي على مَنْ لا يَسْتحقُّ عَذاباً مِنْ أهْلِي رَحْمةً؛ لأنِّي بَشرٌ أغْضَبُ كَمَا تَغْضَبُونَ » .
وقيل : يحتمل أن يكون المرادُ أنَّ الإنسان قد يبالغُ في الدُّعاء طلباً للشَّيء ، يعتقد أنَّ خيره فيه ، مع أنَّ ذلك الشيء منبع لشرِّه وضرره ، وهو يبالغ في طلبه؛ لجهله بحال ذلك الشَّيء ، وإنما يقدم على مثل هذا العمل؛ لكونه عجولاً مُغْتَرًّا بظواهر الأمور غير متفحِّصٍ عن حقائقها ، وأسرارها .
ثم قال تعالى : { وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } .
وقيل : المراد الجنس؛ لأنَّ أحداً من النَّاس لا يعرى عن عجلةٍ ، ولو تركها ، لكان تركها أصلح له في الدِّين والدُّنيا ، ومعنى القولين واحدٌ؛ لأنَّا إذا حملنا الإنسان على آدم - صلوات الله وسلامه عليه - فهو أبُو البشر وأصلهم ، فإذا وصف بالعجلة ، كانت الصفة لازمةً لأولاده .
وقال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنه- : « عَجُولاً » ضَجُوراً لا صبر له على سرَّاء ولا ضرَّاء .
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
قوله : { وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ } الآية .
في تقرير النظم وجوهٌ :
أحدها : أنه تعالى لمَّا بيَّن في الآية المتقدمة ما أوصل إلى الخلق من نعم الدِّين ، وهو القرآن ، أتبعه بما أوصله إليهم من نعم الدُّنيَا ، فقال عزَّ وجلَّ : { وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ } فكما أنَّ القرآن ممتزجٌ من المحكم والمتشابه ، فكذلك الزَّمان مشتمل على الليل والنهار ، فالمحكم كالنهار ، والمتشابه كاللَّيل ، وكما أن المقصود من التكليف لا يتمُّ إلاَّ بذكر المحكم والمتشابه ، فكذلك الوقت والزَّمان لا يكمل الانتفاع به إلاَّ باللَّيل والنَّهار .
وثانيها : أنه تعالى لما بيَّن أن هذا القرآن يهدي للَّتي هي أقومُ ، وليس الأقومُ إلاَّ ذكر الدَّلائلِ الدَّالة على التَّوحيد والنبوَّة ، لا جرم أردفهُ بذكر دلائلِ التَّوحيد ، وهو عجائبُ العالم العلويِّ والسفليِّ .
وثالثها : أنه لما وصف الإنسان بكونه عجولاً ، أي : متنقلاً من صفةٍ إلى صفةٍ ، ومن حالةٍ غلى حالةٍ بيَّن أن أحوال كلِّ هذا الالم كذلك ، وهو الانتقال من النُّورِ غلى الظلمة وبالضِّد ، وانتقال نور القمر من الزيادة إلى النقصانِ .
قوله تعالى : { آيَتَيْنِ } : يجوز أن يكون هو المفعول الأوَّل ، و « اللَّيْلَ والنَّهارَ » ظرفان في موضع الثاني ، قدِّما على الأول ، والتقدير : وجعلنا آيتين في اللَّيل والنَّهار ، والمراد بالآيتين : إمَّا الشمسُ والقمر ، وإمَّا تكوير هذا على هذا ، وهذا على هذا ، ويجوز أن يكون « آيَتَيْن » هو الثاني ، و « اللَّيل والنَّهار » هما الأول ، ثم فيه احتمالان :
أحدهما : أنه على حذف مضافٍ : إمَّا من الأول ، أي : نيِّري الليل والنهار ، وهما القمرُ والشمس ، وإمَّا من الثاني ، أي : ذوي آيتين .
والثاني : أنه لا حذف ، وأنهما علامتان في أنفسهما ، لهما دلالة على شيء آخر . قال أبو البقاء : طفلذلك أضاف في موضعٍ ، ووصف في آخر « يعني أنه أضاف الآية إليهما في قوله » آيَة اللَّيلِ « و » آيَة النَّهارِ « ووصفهما في موضع آخر بأنَّهما آيتان؛ لقوله : { وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ } هذا كلُّه إذا جعلنا الجعل تصييراً متعدِّياً لاثنين ، فإن جعلناه بمعنى » خَلَقْنَا « كان » آيَتَيْنِ « حالاً ، وتكون حالاً مقدَّرة .
واستشكل بعضهم أن يكون » جَعلَ « بمعنى صيَّر ، قال : » لأنَّه يَستَدْعِي أن يكون الليلُ والنهارُ موجودين على حالةٍ ، ثم انتقل عنها إلى أخرى « .
فصل في المقصود ب : » آيتين «
ومعنى » آيَتَيْنِ « أي : علامتين دالَّتيْنِ على وجودنا ، ووحدانيتنا ، وقُدْرتِنَا .
قيل : المراد من الآيتين نفس الليل والنهار ، أي أنَّه تعالى جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدِّين والدنيا .
أمَّا في الدِّين فلأنَّ كلَّ واحد منهما مضادٌّ للآخر ، مغاير له ، مع كونهما متعاقبين على الدَّوام من أقوى الدلائل على أنهما غير موجودتين بذاتيهما ، بل لا بُدَّ لهما من فاعل يدبِّرهما ، ويقدِّرهما بالمقادير المخصوصة .
وأما في الدنيا؛ فلأنَّ مصالح الدنيا لا تتمُّ إلا باللَّيل والنَّهار ، فلولا الليل ، لما حصل السُّكون والرَّاحة ، ولولا النهار ، لما حصل الكسب والتَّصرُّف .
ثم قال تعالى : { فَمَحَوْنَآ آيَةَ الليل } وعلى هذا تكون الإضافة في آية الليل والنهار للتبيين ، والتقدير : فمحونا الآية الَّتي هي الليل ، وجعلنا الآية التي هي النهارُ مبصرة ، ونظيره قولنا : نفس الشيء وذاته ، فكذلك آيةُ الليل هي نفس الليل ، ومنه يقال : « دَخلتُ بلادَ خُراسَان » أي : دخلت البلاد الَّتي هي خُراسَانَ ، فكذا ها هنا .
وقيل : على حذف مضاف ، أي : وجعلنا نيِّري اللَّيل والنهار ، وقد تقدَّم .
وفي تفسير « المَحْوِ » قولان :
الأول : ما يظهر في القمر من الزيادة والنُّقصان ، فيبدو في أوًّل الأمْرِ في صورة الهلالِ ، ثمَّ يتزايدُ نورهُ ، حتَّى يصير بدراً كاملاً ، ثم ينقص قليلاً قليلاً ، وذلك هو المحوُ ، إلى أن يعود إلى المحاقِ .
والثاني : أنَّ نور القمر هو الكلفُ الذي يظهر في وجهه ، يروى أن الشمس والقمر كانا سواءً في النُّور .
قال ابن عبَّاس رضي الله عنه : « جَعلَ الله تعالى نُور الشَّمس سبعينَ جُزْءاً ، ونُورَ القمر سبْعينَ جُزْءاً ، فمحا من نور القمر تسعة وستِّين جزءاً ، فجعلها مع نُور الشمس ، فأرسلَ الله تعالى جبريل - عليه الصلاة والسلام - فأمرَّ جناحه على وجه القمر ، فطمس عنه الضَّوء » .
ومعنى « المَحْوِ » في اللغة : إذهاب الأثرِ ، تقول : مَحوْتهُ أمْحوهُ ، وانْمَحَى ، وامْتَحَى : إذا ذَهبَ أثره .
وحمل المَحْوِ ها هنا على الوجه الأوَّل أولى؛ لأنَّ اللام في قوله : { لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } متعلق بالوجه الأول ، وهو محوُ آية الليل ، وجعل آية النهار مبصرة؛ لأنَّ بسبب اختلاف أحوال نور القمر تعرف السِّنون والحساب ، ويبتغى فضل الله تعالى .
وأهلُ التجارب بيَّنوا أنَّ اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه ، مثل أحوال البحار ف يالمدِّ والجزرِ ، ومثل أحوال التجربات على ما يذكره الأطباء في ك تبهم ، وبسبب زيادة نُور القمر ونقصانه تحصل الشهور ، وبسبب معاودة الشُّهور تحصل السِّنون العربية المبنية على رؤية الهلالِ .
ويمكن أيضاً إذا حملنا المحو على الكلف أن يكون برهاناً قاهراً على صحَّة قول المسلمين في المبدأ والمعاد؛ لن جرم القمر بسيطٌ عند الفلاسفة ، فحصول الأحوال المختلفة الحاصلة بسبب المحو يدلُّ على أنه ليس بسبب الطبيعة ، بل لأجل أن الفاعل المختار خصَّص بعض أجزائه بالنُّور الضعيف وبعض اجزائه بالنور القوي ، وذلك يدل على أن مدبِّر العالم فاعلٌ مختارٌ بالذَّات ، واعتذر الفلاسفة عنه بأنَّه ارتكز في وجه القمر أجسام قليلة الضوء مثل ارتكاز وجه الكواكب في أجرام الأفلاك ، فلمَّا كانت تلك الأجرام أقلَّ ضوءاً من جرم القمر ، لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر ، كالكلف في وجه الإنسان ، وهذا ليس بشيء؛ لأن جرم القمر لما كان متشابه الأجزاء ، فحصول تلك الأجرام الظلمانيَّة في بعض أجزاء القمر دون سائر الأجزاء ليس إلاَّ لمخصِّصٍ حكيم ، وكذلك القولُ في أحوال الكواكب؛ لأنَّ الفلك جرمٌ بسيطٌ متشابه الأجزاء ، فلم يكَن حصول جرم الكواكب ف يبعض جوانبه أولى من حصوله في سائر الجوانب ، وذلك يدلُّ على أنَّ اختصاص ذلك الكوكب بذلك الموضع المعيَّن من الفلك لأجلِ تخصيص العالم الفاعل المختار .
روي أن ابن الكواء سأل عليًّا - رضي الله عنه - عن السَّواد الذي في القمر ، فقال : هو أثَرُ المَحْوِ .
قوله : « مُبْصِرةً » فيه أوجه :
أحدها : أنه من الإسناد المجازيِّ؛ لأنَّ الإبصار فيها لأهلها؛ كقوله : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً } [ الإسراء : 59 ] لمَّا كانت سبباً للإبصار؛ لأن الإضاءة سببٌ لحصول الإبصار ، فأطلق الإبصار على الإضاءة إطلاقاً لاسم المسبِّب على السَّبب .
وقيل : « مُبْصِرة » : مضيئة ، وقال أبو عبيدة : قد أبصر النهار ، إذا صار الناس يبصرون فيه ، فهو من باب أفعل ، والمراد غير من أسند الفعل إليه؛ كقولهم : « أضْعفَ الرَّجلُ » أي : ضَعُفتْ ماشيته ، و « أجْبَنَ الرَّجلُ » إذا كان أهله جبناء ، فالمعنى أنَّ أهلها بصراءُ .
وقرأ علي بن الحسين وقتادة « مَبْصَرة » بفتح الميم والصاد ، وهو مصدر أقيم مقام الاسمِ ، وكثر هذا في صفات الأمكنة نحو : « مَذْأبَة » .
ثم قال - عز وجل- : { لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } أي لتبصروا كيف تتصرَّفون في أعمالكم ، { وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } أي لو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما ، لم يعرف الليل من النهار؛ ولم يدر الصائم متى يفطر ، ولم يدر وقت الحجِّ ، ولا وقت حلول الآجالِ ، ولا وقت السكون والرَّاحة .
واعلم أن الحساب مبنيٌّ على أربع مراتب : الساعات ، والأيام ، والشُّهور ، والسِّنون ، فالعدد للسنين ، والحساب لما دون السنين ، وهي الشُّهور ، والأيَّام ، والسَّاعات ، وبعد هذه المراتب الأربعة لا يحصل إلاَّ التكرار؛ كما أنَّهم رتَّبوا العدد على أربع مراتب : الآحاد ، والعشرات ، والمئات ، والألوف ، وليس بعدها إلا التكرار .
قوله : { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوبٌ على الاشتغال ، ورجَّح نصبه؛ لتقدم جملة فعلية؛ وكذلك « وكُلَّ إنسانٍ ألْزمْنَاه » .
والثاني - وهو بعيد : - أنه منصوب نسقاً على « الحِسابَ » ، أي : لتعلموا كل شيء أيضاً ، ويكون « فصَّلناهُ » على هذا صفة .
والمعنى : أنه تعالى لمَّا ذكر أحوال آيتي اللَّيل والنَّهار ، وهما من وجهٍ : دليلان قاطعان على التَّوحيد ، ومن وجهٍ آخر : نعمتان عظيمتان من الله على الخلق ، فلما شرح الله تعالى حالهما ، وفصَّل ما فيهما من وجوه الدلالة على الخالق؛ ومن وجوه النِّعم العظيمة على الخلق ، كان ذلك تفصيلاً نافعاً وبياناً كاملاً ، فلا جرم قال : { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ } أي : فصَّلنا لكم كلَّ ما تحتاجون إليه في مصالح دينكم ودنياكم ، فهو كقوله : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 38 ] وقوله : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } [ النحل : 89 ] وإنما ذكر المصدر ، وهو قوله : « تَفْصِيلاً » لأجل تأكيد الكلامِ وتقريره ، فكأنه قال : « وفَصَّلنَاهُ حقًّا على الوجهِ الذي لا مزيد عليه » .
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
قوله : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } الآية .
في كيفية النَّظم وجوهٌ :
أولها : أنه تعالى لمَّا قال : { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } [ الإسراء : 12 ] كان معناه أن ما يحتاج إليه من شرح دلائلِ التَّوحيد ، والنُّبوَّة ، والمعاد ، فقد صار مذكوراً وأن كلَّ ما يحتاج إليه من شرح أحوال الوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، فقد صار مذكوراً ، وإذا كان الأمر كذلك ، فقد أزيحت الأعذار ، وأزيلت العلل ، فلا جرم : كل من ورد عرصة القيامة ، ألزمناه طائره في عنقه ، ونقول له : { اقرأ كَتَابَكَ كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً } .
وثانيها : أنه تعالى ، لمَّا بيَّن أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدِّين والدنيا مثل آيتي الليل والنهار ، وغيرهما ، كان منعماً عليهم بجميع وجوه النِّعم ، وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته ، فلا جرم : كلُّ من ورد عرصة القيامة ، فإنه يكون مسئولاً عن أعماله وأقواله .
وثالثها : أنه تعالى بيَّن أنه ما خلق الخلق إلا ليشتغلوا بعبادته ، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] فلما شرح أحوال الشمس والقمر والنهار والليل ، كان المعنى : إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها ، فتصيروا متمكِّنين من الاشتغال بطاعتي وخدمتي ، وإذا كان كذلك ، فكل من ورد عرصة القيامة ، سألته ، هل أتى بتلك الخدمة والطَّاعة ، أو تمرَّد وعصى .
وقرئ « في عُنْقهِ » بإسكان النون وهو تخفيف ٌ شائعٌ .
فصل
اختلفوا في الطائر ، فقال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : « عمله ، وما قدر عليه من خير أو شرٍّ ، فهو ملازمه ، أينما كان » .
وقال الكلبي ومقاتل : « خيره وشره معه لا يفارقه حتَّى يحاسبه » ، وقال الحسن : يمنه وشؤمه ، وعن مجاهد : « ما من مولود إلاَّ في عنقه ورقة ، مكتوب فيها شقيٌّ أو سعيدٌ » .
وقال أهل المعاني : أراد بالطائر ما قضى عليه أنه عامله ، وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة ، سمِّي طائراً على عادة العرب فيما كانت تتفاءل وتتشاءم به من سوانح الطير وبوارحها ، فكانوا غذا أرادوا الإقدام على عملٍ من الأعمال ، وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خيرٍ أو إلى شرٍّ ، اعتبروا أحوال الطَّير ، وهو أنه يطير بنفسه ، أو يحتاج إلى إزعاجه ، وإذا طار ، فهو يطير متيامناً أو متياسراً ، أو صاعداً إلى الجوّ ، أ إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ، ويستدلّون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر بالطائر ، فلما كثر ذلك منهم ، سمي الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه ، ونظيره قوله تعالى : { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } [ يس : 18 ] وقوله عزَّ وجلَّ : { قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ } [ يس : 19 ] فالمعنى : أنَّ كلَّ إنسان ألزمناه عمله في عنقه .
وقال أبو عبيدة والقتيبيُّ : الطائر عند العرب الحظّ ، وتسمِّيه الفرس البخت ، فالطائر ما طار له من خيرٍ وشرٍّ من قولهم : طار سهمُ فلانٍ بكذا ، وخصَّ العنق من سائر الأعضاء؛ لأنه موضع القلائد والأطواق وغيرهما مما يزينُ ، أو يشينُ ، فما يزين ، فهو كالتطوُّق والحليِّ ، وما يشين ، فهو كالغُلِّ ، فعمله إن كان خيراً فهو زينة كالتطوق ، أو كان شرًّا ، فهو شينٌ كالغلِّ في رقبته ، فقوله : « في عُنقهِ » كناية عن اللُّزوم؛ كما يقال : جعلت هذا في عنقك أي : قلَّدتك هذا العمل ، وألزمتك الاحتفاظ به ، ويقال : قلَّدتك كذا ، وطوَّقتك كذا ، أي : صرفته إليك ، وألزمتك إياه ، ومنه « قلَّدهُ السُّلطانُ كذا » أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادةِ ، ومكان الطوقِ ، ومنه يقال : فلانٌ يقلِّدُ فلاناً أي : جعل ذلك الاعتقاد كالقلادةِ المربوطةِ في عنقه .
وهذه الآية أدلُّ دليلٍ على أنَّ كلَّ ما قدَّره الله - تعالى - على الإنسان ، وحكم به عليه في سابق علمه ، فهو واجب الوقوع ، ممتنع العدمِ؛ لأنه تعالى بيَّن أن ذلك العمل لازمٌ له ، وما كان لازماً للشيء؛ كان ممتنع الزَّوال عنه ، واجب الحصول له ، وأيضاً : فإن الله - تعالى - أضاف ذلك الإلزام إلى نفسه بقوله : « ألْزَمنَاهُ » ، وذلك تصريحٌ بأنَّ الإلزام إنما صدر منه كقوله تعالى : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } [ الفتح : 26 ] وقال - صلوات الله وسلامه عليه- : « جفَّ القَلمُ بِمَا هُو كَائِنٌ إلى يَومِ القِيامَةِ » .
قوله تعالى : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً } .
العامة على « نُخْرِجُ » بنون العظمة مضارع « أخْرجَ » ، و « كِتاباً » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول به .
والثاني : أنه منصوب على الحال من المفعول المحذوف؛ إذ التقدير : ونخرجه له كتاباً ، أي : ونخرج الطائر .
ويُرْوَى عن أبي جعفرٍ : « ويَخْرَجُ » مبنياً للمفعول ، كتاباً نصب على الحال ، والقائم مقام الفاعل ضمير الطائر ، وعنه أنَّه رفع « كتاباً » وخُرِّج على أنه مرفوعٌ بالفعل المبنيِّ للمفعول ، والأولى قراءة قلقة .
وقرأ الحسن : « ويَخْرُجُ » بفتح الياء وضمِّ الراءِ ، مضارع « خَرجَ » « كتابٌ » فاعل الطائر ، أي : ويخرجُ له طائره في هذا الحال ، وقرئ « ويُخْرِجُ » بضمِّ الباؤ وكسر الراء ، مضارع « أخرجَ » والفاعل ضمير الباري تعالى ، « كتاباً » مفعولٌ .
قوله تعالى : « يَلْقاهُ » صفةٌ ل « كتاباً » ، و « مَنْشُوراً » حالٌ من هاء « يَلْقَاهُ » وجوَّز الزمخشري وأبو البقاء وأبو حيَّان أن يكون نعتاً لِ « كِتَاباً » ، وفيه نظر؛ من حيث إنه يلزم تقدم الصفة غير الصَّريحةِ ، على الصَّريحةِ ، وقد تقدَّم ما فيه .
وقرأ ابن عامرٍ وأبو جعفر « يُلقَّاهُ » بضمِّ الياء وفتح اللام وتشديد القاف ، مضارع لُقِّي بالتشديد قال تعالى :
{ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } [ الإنسان : 11 ] والباقون بالفتح والسكون والتخفيف مضارع « لَقِيَ » .
فصل
قال الحسن : بسطنا لَكَ صحيفةً ، ووُكِّل بك ملكانِ ، فهما عن يمينك ، وعن شمالِكَ ، فأمَّا الذي عن يمينك ، فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن شمالك ، فيحفظ سيِّئاتك؛ حتَّى إذا متَّ طُويَتْ صحيفتك ، وجعلت معك في قبرك؛ حتى تخرج لك يوم القيامة ، فقوله : { وَنُخْرِجُ لَهُ } أي : من قبره .
قوله تعالى : { اقرأ كَتَابَكَ } : على إضمار القول ، أي : يقال له : اقرأ ، وهذا القول : إمَّا صفةٌ أو حالٌ ، كما في الجملة قبله . وهذا القائل هو الله تعالى .
قال الحسن : « يَقْرءُوهُ أمِّيًّا كان ، أو غير أمِّيٍّ » .
وقال أبو بكر بن عبد الله - رضي الله عنه- : يؤتى المؤمنُ يوم القيامةِ بصحيفته ، وحسناته في ظهرها ، يغبطه الناس عليها ، وسيئاته في جوف صحيفته ، وهو يقرؤها ، حتَّى إذا ظنَّ أنها قد أوبقته ، قال الله له : « قَدْ غَفَرْتُ لَكَ فِيمَا بَينِي وبَينكَ » فيعظم سروره ويصير من الَّذين قال الله - عزَّ وجلَّ - في حقهم : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } [ عبس : 38 ، 39 ] .
قوله تعالى : { كفى بِنَفْسِكَ } فيه ثلاثة أوجه :
المشهور عند المعربين : أنَّ « كَفَى » فعل ماضٍ ، والفاعل هو المجرور بالباء ، وهي فيه مزيدة ، ويدلُّ عليه أنها إذا حذفت ارتفع؛ كقوله : [ الطويل ]
3388- ويُخْبِرنِي عَن غَائبِ المَرْءِ هَديهُ ... كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرءُ مُخْبِرا
وقوله : [ الطويل ]
3389- . ... كَفَى الشَّيْبُ والإسلامُ للمَرْءِ نَاهِيَا
وعلى هذا؛ فكان ينبغي أن يؤنَّث الفعل؛ لتأنيث فاعله ، وإن كان مجروراً؛ كقوله { مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ } [ المؤمنون : 6 ] { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ } [ الأنعام : 4 ] . وقد يقال : إنه جاء على أحد الجائزين؛ فإن التأنيث مجازيٌّ .
والثاني : أن الفاعل ضمير المخاطب ، و « كفى » على هذا اسم فعل أمر ، أي : اكتفِ ، وهو ضعيف؛ لقبولِ « كَفَى » علاماتِ الأفعالِ .
الثالث : أن فاعل « كََفَى » ضمير يعود على الاكتفاء ، وتقدَّم الكلام على هذا . و « اليَوْمَ » نصبٌ ب « كَفَى » .
قوله : « حَسِيباً » فيه وجهان :
أحدهما : أنه تمييزٌ ، قال الزمخشريُّ : « وهو بمعنى حاسبٍ؛ كضريب القداح؛ بمعنى ضاربها ، وصريم بمعنى صارم ، ذكرهما سيبويه ، و » على « متعلقة به من قولك : حَسِبَ عليه كذا ، ويجوز أن يكون بمعنى الكافي ووضع موضع الشَّهيد ، فعدِّي ب » عَلَى « لأنَّ الشاهد يكفي المدَّعي ما أهمَّه ، فإن قلت : لِمَ ذكر » حَسِيباً « ؟ قلت : لأنه بمنزلةِ الشاهد ، والقاضي ، والأمين ، وهذه المور يتولاَّها الرجال؛ فكأنَّه قيل : كفى بنفسك رجلاً حسيباً ، ويجوز أن تتأوَّل النفس بمعنى الشخص ، كما يقال : ثلاثةُ أنفسٍ » . قلت : ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
3390- ثَلاثةُ أنْفُسٍ وثَلاثُ ذَودٍ ... لقَد جَارَ الزَّمانُ على عِيَالِي
والثاني : أنه منصوب على الحال ، وذكر لما تقدم ، وقيل : حسيبٌ بمعنى محاسب؛ كخليطٍ وجليسٍ بمعنى : مخالطٍ ومجالسٍ .
قال الحسن - رضي الله عنه - : « عَدلَ ، والله ، في حقّك من جعَلكَ حَسِيبَ نَفْسكَ » .
وقال السديُّ : « يقول الكافر يومئذٍ : إنَّك قَضيْتَ أنَّك لست بظلام للعبيد ، فاجعلني أحاسِبُ نفسِي فيقال له : اقرأ كتابك ، كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً » .
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
هذه الآية تدلُّ على أنَّ ثواب العمل الصَّالح مختصٌّ بفاعله ، وعقاب الذنب مختصٌّ بفاعله ، لا يتعدَّى منه إلى غيره ، كقوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى } [ النجم : 39 ، 40 ] .
قال الكعبيُّ : « الآية دالةٌ على أنَّ العبد متمكِّن من الخير والشَّر ، وأنه غير مجبورٍ على فعل بعينه أصلاً؛ لأنَّ قوله تعالى جلَّ ذكرهُ : { مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } إنما يليق بالقادر على الفعل المتمكِّن منه ، كيف شاء وأراد ، وأمَّا المجبور على أحد الطَّرفين ، الممنوع من الطَّرف الثاني ، فهذا لا يليق بهذه الآية » وتقدَّم الجواب . ثم إنه تعالى أعاد تقرير أنَّ كلَّ أحدٍ مختصٌّ بعمل نفسه ، فقال تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } .
قال الزجاج : يقال : وَزَرَ يَزرُ ، فهو وَازِرٌ وَوَزِرٌ وِزْراً وَزِرَة ، ومعناه : أثِمَ يَأثمُ إثماً .
وقال : في تأويل الآية وجهان :
الأول : أنَّ المذنب لا يؤاخذُ بذنبِ غيره ، بل كلُّ أحدٍ مختصٌّ بذنب نفسه .
والثاني : أنَّه لا ينبغي أن يعمل الإنسان بالإثم؛ لأنَّ غيره عمله كقول الكفَّار : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] .
فصل
دلَّت هذه الآية على أحكام :
الأول : قال الجبائيُّ : في الآية دلالة على أنه تعالى لا يعذِّب الأطفال بكفر آبائهم ، وإلاَّ لكان الطفل يؤاخذ بذنب أبيه . وذلك خلافُ ظاهر الآية .
الثاني : روى ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّ المَيِّتَ ليُعذّبُ بِبُكاءِ أهلهِ عَليْهِ » .
وطعنت عائشة - رضي الله عنها - في صحَّة هذا الخبر بهذه الآية . فإن تعذيب الميت ببكاء أهله أخذ للإنسان بجرم غيره ، وهو خلاف هذه الآية .
والحديث لا شكَّ في صحَّته؛ لأنَّه في الصحيحين .
وفي الصحيحين أيضاً عن عمر بنِ الخطَّاب - رضي الله عنه - أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّ الميِّت يُعذَّبُ بِبُكاءِ الحيِّ » .
وفي صحيح البخاريِّ : « المَيِّتُ يُعذَّبُ في قَبْره بِمَا نِيحَ عَليْهِ » .
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « إنَّهُ مَنْ نِيحَ عليهِ يُعذَّبُ بِمَا نِيحَ عَليْهِ » .
وقال- صلوات الله وسلامه عليه- : « الميِّتُ يُعذَّبُ بِبُكاءِ الحيِّ ، إذا قَالتِ النَّائِحَةُ : واعَضُداهُ ، ونَاصِراهُ ، وكَاسِيَاهُ حَبَّذا الميِّتُ ، قيل لهُ : أنْتَ عَضُدهَا ، أنْتَ نَاصرُهَا ، أنْتَ كَاسِيهَا » .
وفي رواية : « مَا مِنْ مَيِّتٍ يَموتُ فَيقُومُ بَاكيهم ، فيقُول : واجَبلاهُ ، وسنداه وأنْسَاهُ ، ونحو ذلك ، إلاَّ وكِّلَ به ملكان يلهَذانهِ أهكذا كُنت » اللَّهْذُ واللَّهْزُ مثل اللَّكْز والدفع .
وروى البخاريُّ عن النعمان بن بشير ، قال : أغمي على عبد الله بن رواحة ، فجعلت أختهُ عمرة تبكي ، وتقول : واجبلاهُ واكذا واكذا ، تُعدِّدُ عليه ، فقال حينَ أفَاقَ : ما قُلْت شَيْئاً إلاَّ قِيل لِي : أنْتَ كذلِكَ؟ فلمَّا مَاتَ لم تَبْك عَليْهِ .
=================================
ج46.
ج46. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
فإن قيل : أنكرتْ عائشة وغيرها ذلك ، وقالت لما ذكر لها حديث ابن عمر : يغفر الله لأبي عبد الرَّحمن ، أما إنَّهُ لمْ يكذبْ ولكنَّه نَسِيَ أو أخطأ إنَّما مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكى عليها ، فقال صلى الله عليه وسلم : « إنَّهُمْ لَيبْكُونَ عَليْهَا وإنَّها لتُعذَّبُ في قَبْرهَا » متَّفقٌ عليه .
ولمُسْلم : إنَّما مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرِ يهوديٍّ ، فقال : « إنَّه ليُعذَّبُ بِخَطيئَتِه أو بِذنْبهِ ، وإنَّ أهلَهُ ليَبْكُونَ عليْهِ الآنَ » .
وفي رواية متَّفق عليها : إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّ الله ليَزيدُ الكافر عذاباً بِبُكاءِ أهْلهِ عليْهِ » وقالت : حسبكمُ القُرآنُ { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الإسراء : 15 ] وقال بعض العلماء : إنَّما هذا فيمن أوصى أن يناح عليه كما كان أهل الجاهليَّة .
والجواب أنه يجب قبول أن الحديث لا يمكن ردُّه؛ لثبوته وإقرار أعيان الصَّحابة له على ظاهره .
وعائشة - رضي الله عنها - لم تخبر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نفى ذلك ، وإنَّما تأوَّلتْ على ظاهر القرآن ، ومن أثبت وسمع حجة على من نفى وأنكر .
وظاهر القرآن لا حجَّة فيه؛ لأنَّ الله - تعالى - نفى أن يحمل أحد من ذنب غيره شيئاً ، والميِّتُ لا يحمل من ذنب النائحة شيئاً ، بل إثمُ النَّوح عليها ، وهو قد يعذَّب من جهة أخرى بطريق نوحها ، كمن سنَّ سنَّة سيئة ، مع من عمل بها ، ومن دعا إلى ضلالة ، مع من أجابه .
والحديث الذي روتهُ حديثٌ آخر لا يجوز أن يردَّ به خبر الصَّادق؛ لأنَّ القوم قد يشهدون كثيراً ممَّا لا تشهد ، مع أنَّ روايتها تحقِّق ذلك الحديث؛ فإنَّ الله - تعالى - إذا جاز أن يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله ، جاز أن يعذِّب الميت ابتداء ببكاء أهله .
ثم في حديث ابن رواحة وغيره ممَّا تقدَّم ما ينصُّ على أن ذلك في المسلم؛ فإنَّ ابن رواحة كان مسلماً ، ولم يوص بذلك ، ثمَّ إنَّ الصحابة الذين رووه ، لو فهموا منه الموصي ، لما عجبوا منه ، وأنكره من أنكره؛ فإنَّ من المعلوم أنَّ من أمر بمنكرٍ ، كان عليه إثمه ، ولو كان ذلك خاصًّا بالموصِي ، لما خص بالنَّوح ، دون غيره من المنكراتِ ، ولا بالنَّوح على نفسه ، دون غيره من الأموات .
وق لبعض العلماء : لمَّا كان الغالب على النَّاس النَّوح على الميِّت ، وهو من أمور الجاهليَّة التي لا يدعونها في الاسلام ، ولا يتناهى عنها أكثر النَّاس خرِّج الحديث على الأعمِّ الأغلب فيمن لم ينه عن النَّائحة ، وهي عادة النَّاس ، فيكون تركهُ للنَّهي مع غلبةِ ظنِّه بأنَّها تفعل إقراراً للمنكرِ وتركاً لإنكاره ، فيعذب على ما تركه من الإنكار ، ورضي به من المنكر ، وأما من نهى عنه ، وعصي أمره ، فالله أكرم من أن يعذِّبه .
قال ابن تيمية : وهذا قريبٌ . وأجود منه ، إن شاء الله - تعالى - أن العذاب على قسمين :
أحدهما : ألمٌ وأذى يلحقُ الميِّت بسبب غيره ، وإن لم يكن من فعله؛ كما يلحق أهل القبُور من الأذى بمجاورة الجارِ السيّئ ، وبالأعمال القبيحة عند القبور ، والجلوس على القبر ، أو التغوُّط عليه ، إلى غير ذلك من الأشياء التي يتألَّم الإنسانُ بها حيًّا وميتاً ، وإن لم تكن من فعله . فهذا الميِّت لما عصي الله بسببه ، ونيح عليه ، لحقهُ عذابٌ وألمٌ من هذه المعصية .
قال القاضي : سُئِلتُ عن ميِّتٍ دفن في داره ، وبقُربِ قبره أولاد يشربون ويستعملون آلة اللَّهْو ، هل يتأذَّى الميِّت؟ .
فأجبت : أنَّه يتأذَّى .
وروى بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّ المَيِّتَ يُؤذِيهِ في قَبْرهِ ما يُؤذِيهِ في بَيْتهِ » .
وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : إذا مات لأحدكم الميِّت ، فأحسنوا كفنه ، وعجَّلوا إنفاذ وصيته ، وأعمقوا له في قبره ، وجنِّبُوهُ جار السَّوءِ .
قيل : يا رسُول الله : وهَلْ يَنفَعُ الجَارُ الصَّالحُ في الآخرة؟ قال : وهَلْ يَنْفَعُ في الدُّنيا؟ قالوا : نَعَمْ ، قال : وكَذلِكَ يَنْفَعُهُ في الآخِرَةِ .
الثاني : أنَّ طبع البشر يُحِبُّ في حياته أن يبكى عليه بعد موته؛ لما فيه من الشَّرف والذِّكر ، كما يحبُّ أن يثنى عليه ، ويذكر بما يحبُّ ، وكما يحبُّ أن يكون المالُ والسلطان لعقبه ، وإن أيقن أنَّه لا لذَّة له بذلك بعد الموت ، فعوقب بنقيض هذه الإرادة من عذاب النَّوح والبكاء؛ ليعلم النَّاس بذلك ، فيتناهون عن هذه أو يكرهونه ، فمن لم يكره النَّوح والبكاء ، فهو باقٍ على موجب طبعه ، ومن كرهه ، كانت تلك الكراهةُ مانعة من لُحوقِ الذمِّ به .
الثالث : قال القاضي : دلَّت هذه الآية على أنَّ الوزْرَ والإثم ليس من فعل الله - تعالى - ، وذلك من وجوهٍ :
أحدها : أنه لو كان كذلك ، لامتنع أن يؤاخذ العبد به ، كما لا يؤاخذ بوزْرِ غيره .
وثانيها : أنَّه كان يحبُّ ارتفاع الوِزْرِ أصلاً؛ لأنَّ الوزر إنَّما يصحُّ أن يوصف بذلك ، إذا ك ان مختاراً يمكنه التحرُّز ، ولهذا المعنى لا يوصف الصَّبيُّ بذلك .
الرابع : أن جماعة من الفقهاء المتقدِّمين امتنعوا من ضرب الدِّية على العاقلة ، قالوا : لأنَّ ذلك يفضي إلى مؤاخذة الإنسان بفعل الغير ، وذلك مضادٌ لهذه الآية .
ونجيب عنها بأنَّ المخطئ [ غير مؤاخذٍ ] على ذلك الفعل ، فكيف يصير غيره مؤاخذاً بسبب ذلك الفعل ، بل ذلك تكليفٌ واقعٌ ابتداءً من الله تعالى .
ثم قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } .
إقامة للحجَّة وقطعاً للعذر .
واستدلُّوا بهذه الآية على أنَّ وجوب شكر النِّعم لا يثبت بالعقل ، بل بالسمع؛ كقوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } .
وذلك لأنَّ الوجوب لا يتقرَّر إلاَّ بترتيب العقاب على التَّرك ، ولا عقاب قبل الشَّرع بهذه الآية ، وبقوله تعالى : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } [ النساء : 165 ] .
وقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولاا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى } [ طه : 134 ] .
ولقائل أن يقول : هذا الاستدلالُ ضعيف من وجهين :
الأول : أنه لو لم يثبت الوجوب العقليُّ ، لم يثبت الوجوب الشرعيُّ ألبتة ، وهذا باطل .
فذلك باطل ، وبيان الملازمة من وجوهٍ :
أنه إذا جاء الشَّارع ، وادعى كونه نبيًّا من عند الله - تعالى - وأظهر المعجزة ، فهل يجب على المستمع استماعُ قوله ، والتأمُّل في معجزاته ، أو لا يجب؟ .
فإن وجب بالعقل ، فقد ثبت الوجوب العقليُّ ، وإن وجب بالشَّرع ، فهو باطلٌ؛ لأنَّ ذلك الشارع إمَّا أن يكون هو ذلك المدَّعي أو غيره ، والأول باطلٌ؛ لأنه يرجع حاصل الكلام إلى أنَّ ذلك الرجل يقول : الدليل على أنه يجب قبول قولي أني أقوله . وهذا إثبات للشيء بنفسه ، وإن كان الشَّارع غيره ، كان الكلام كما في الأول ، ولزم الدَّور والتَّسلسل ، وهما محالان .
وثانيها : أنَّ الشَّارع ، إذا جاء ، وأوجب بعض الأفعال ، وحرَّم بعضها ، فلا معنى للإيجاب أو التَّحريم إلا أن يقول : إن تركت كذا ، أو فعلت كذا ، عاقبتك ، فنقول : إمَّا أن يجب عليه الاحتراز عن العقاب ، وذلك الاحترازُ إمَّا أن يجب بالعقل ، أو بالسَّمع ، فإن وجب بالعقل ، فهو المقصود ، وإن وجب بالسَّمع ، لم يتقرَّر معنى هذا الوجوب إلاَّ بسبب ترتيب العقاب عليه ، وحينئذٍ يعود التقسيمُ الأول ، ويلزم التسلسل .
وثالثها : أنَّ مذهب أهل السنَّة أنه يجوز من الله - تعالى - أن يعفو عن العقاب على ترك الواجب ، وإذا كان كذلك ماهية الوجوب حاصلة ، مع عدم العقاب ، فلم يبق إلاَّ أن يقال : ماهية الوجوب إنَّما تتقرَّر بسبب حصول الخوف من الذَّم والعاقب؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّ الوجوب العقلي لا يمكن دفعه ، وإذا ثبت هذا فنقول : في الآية قولان :
الأول : أن نجري الآية على ظاهرها ، ونقول : العقل هو رسول الله إلى الخلق ، بل هو الرسول الذي لولاه ، لما تقررت رسالةُ أحدٍ من الرُّسل .
فالعقل هو الرسول الأصليُّ ، فكان معنى الآية : حتى نبعث رسولاً؛ أي رسول العقل .
والثاني : أن نخصِّص عموم الآية ، فنقول : المراد وما كنا معذِّبين حتَّى نبعث رسولاً أي رسول العقل في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلاَّ بالشَّرع لا بعد مجيء الشرع ، وتخصيص العموم وإن كان عدولاً عن الظاهر إلاَّ أنه يجب المصير إليه عند قيام الدَّلالة ، وقد بينا قيام الدلائل الثلثة على أنا لو نفينا الوجوب العقلي ، لزمنا نفي الوجوب الشرعيِّ .
قال ابن الخطيب : والذي نذهبُ إليه : أن مجرَّد العقل يدلُّ على أنه يجب علينا فعل ما ينتفع به ، وتركُ ما يتضرَّر به؛ لأنَّا مجبولون على طلب النفع ، والهرب من الضَّرر ، فلا جرم : كان العقل وحده كافياً في الوجوب في حقِّنا ، أما مجرد العقل فلا يدل على أنه يجب على الله تعالى شيء ، وذلك لأنه منزَّه عن طلب النفع ، والهرب من الضَّرر ، فامتنع أن يحكم العقل عليه بوجوب فعلٍ أو تركه .
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
قرأ العامَّةُ « أمَرْنَا » بالقصر والتخفيف ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه من الأمرِ الذي هو ضدُّ النهي ، ثم اختلف القائلون بذلك في متعلق هذا لأمر ، فعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - في آخرين : أنه أمرناهم بالطاعة ، ففسقوا ، وقد ردَّ هذا الزمخشريُّ ردًّا شديداً ، وأنكره إنكاراً بليغاً في كلام طويل ، حاصله : أنه حذف ما لا دليل عليه ، وقدَّر هو متعلق الأمر : الفسق ، أي : أمرناهم بالفسق ، قال : « أي : أمرناهم بالفسق ، فعملوا ، لأنه يقال : أمَرْتهُ ، فقام ، وأمرته ، فقرأ ، وهذا لا يفهم منه إلا أنَّ المأمور به قيامٌ أو قراءة ، فكذا هاهنا ، لمَّا قال : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } .
وجب أن يكون المعنى : أمرناهم بالفسق ، ففسقوا ، ولا يقال : هذا يشكل بقوله : أمرتهُ فعصَانِي ، أو فَخالفَنِي؛ فإنَّ هذا لا يفهم منه إلاَّ أنَّ المأمور به قيامٌ أو قراءةٌ ، فكذا هاهنا ، كما قال : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيها ، فَفَسَقُوا فِيهَا } . وجب أن يكون المعنى : أمرناهُمْ بالفسق ، ففسقُوا ، ولا يقال : هذا يُشكل بقوله : أمرتُهُ فعصاني ، أو فخالفني؛ فإنَّ هذا لا يُفهم منه أنِّي امرتُهُ بالمعصية ، والمخالفةِ؛ لأنَّ المعصية مُخَالفةٌ للأمْرِ ، ومُناقِضَةٌ له ، فيكونُ كونها مأموراً بها محالاً .
فلهذا الضرورة تركنا هذا الظَّاهر ، وقلنا : الأمر مجازٌ؛ لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم : افسقوا ، وهذا لا يكون ، فبقي أن يكون مجازاً ، ووجه المجازِ : أنه صبَّ عليهم النعمة صبًّا ، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي ، واتِّباع الشَّهوات ، فكأنَّهم مأمورون بذلك؛ لتسبُّبِ إيلاءِ النِّعمةِ فيه ، وإنما خوَّلهم فيها ليشكروا » .
ثم قال : « فإن قلت : فهلاَّ زعمت أنَّ معناه : أمرناهم بالطَّاعة ففسقوا؟ قلت : لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائزٍ ، فكيف حذف ما الدليل قائمٌ على نقيضه؟ وذلك أنَّ المأمور به ، إنَّما حذف لأنَّ » فَفَسقُوا « يدلُّ عليه ، وهو كلامٌ مستفيضٌ؛ يقال : » أمَرْتُه ، فقَامَ « و » أمَرتهُ فَقَرأ « لا يفهم منه إلاَّ أن المأمور به قيامٌ أو قراءةٌ ، ولو ذهبت تقدِّر غيره ، رمت من مخاطبك علم الغيب ، ولا يلزم [ على ] هذا قولهم : أمَرتهُ ، فعصَانِي » أو فَلمْ يَمْتثِلْ « لأنَّ ذلك منافٍ للأمر مناقضٌ له ، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به ، فكان محالاً أن يقصد أصلاً؛ حتّى يجعل دالاًّ على المأمور به ، فكان المأمور به في هذا الكلام غير منويٍّ ، ولا مراد؛ لأن من يتكلَّم بهذا الكلام لا ينوي لأمره مأموراً به؛ فكأنَّه يقول : كان منِّي أمر ، فكان منه طاعة ، كما أنَّ من يقول : » فلانٌ يأمر وينهى ، ويعطي ويمنع « لا يقصد مفعولاً .
فإن قلت : هلاَّ كان ثبوت العلم بأنَّ الله لا يأمر بالفحشاءِ دليلاً على أن المراد : أمرناهم بالخيرِ؟ .
قلت : لأنَّ قوله « فَفسَقوا » يدافعه؛ فكأنك أظهرت شيئاً ، وأنت تضمر خلافه ، ونظير « أمَرَ » : « شاء » في أن مفعوله استفاض حذف مفعوله؛ لدلالةِ ما بعده عليه؛ تقول : لو شاء ، لأحسن إليك ، ولو شاء ، لأساء إليك ، تريد : لو شاء الإحسان ، ولو شاء الإساءة ، ولو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت ، وقلت : قد دلَّتْ حال من أسندت إليه المشيئةُ أنه من أهلِ الإحسان ، أو من أهل الإساءةِ ، فاتركِ الظاهر المنطوق ، وأضمر ما دلت عليه حالُ المسند إليه المشيئةُ ، لم تكن على سدادٍ « .
وتتَّبعه أبو حيَّان في هذا ، فقال : أمَّا ما ارتكبه من المجاز ، فبعيد جدًّا ، وأما قوله : » لأنَّ حذف ما لا دليل عليه غير جائزْ « فتعليلٌ لا يصح فيما نحن بسبيله ، بل ثمَّ ما يدل على حذفه ، وقوله : » فكيف يحذف ما الدليل على نقيضه قائمٌ « إلى » علم الغيب « فنقول : حذف الشيء تارة يكون لدلالة موافقه عليه ، ومنه ما مثَّل به في قوله » أمَرْتهُ ، فقَامَ « ، وتارة يكون لدلالة خلافه أو ضدِّه ، أو نقيضه؛ كقوله تعالى : { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار } [ الأنعام : 13 ] أي : ما سكن وتحرَّك ، وقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] ، أي : والبرد ، وقول الشاعر : [ الوافر ]
3391- ومَا أدْرِي إذا يَمَّمْتُ أرْضاً ... أريدُ الخَيْرَ أيُّهُمَا يَلِينِي
أألْخَيْرُ الَّذي أنَا أبْتَغيهِ ... أم الشَّرُّ الذي هُوَ يَبْتَغينِي
أي : وأجْتنِبُ الشَّر ، وتقول : » أمَرتهُ ، فلمْ يُحْسِنْ « فليس المعنى : أمرته بعدم الإحسان ، بل المعنى : أمرته بالإحسانِ ، فلم يحسِن ، والآية من هذا القبيل ، يستدلُّ على حذف النَّقيضِ بنقيضه ، كما يستدلُّ على حذلف النظير بنظيره ، وكذلك : » أمَرْتهُ ، فأسَاءَ إليَّ « ليس المعنى : أمَرْتهُ بالإساءة ، بل أمرته بالإحسان ، وقوله : » ولا يَلزَمُ هذا قولهم :
أمَرْتهُ فعَصانِي « نقول : بل يلزمُ ، وقوله » لأنَّ ذلك منافٍ « أي : لأنَّ العصيانَ منافٍ ، وهو كلامٌ صحيح ، وقوله : » فكان المأمورُ به غير مدلُولٍ عليه ولا مَنْوي « لا يسلَّم بل مدلولٌ عليه ومنويٌّ لا دلالة الموافق بل دلالة المناقض؛ كما بيَّنا ، وقوله : » لا يَنوِي مأموراً به « لا يلسَّم ، وقوله » لأنَّ « فَفَسقُوا » يدافعه ، إلى آخره « قلنا : نعم ، نوى شيئاً ، ويظهر خلافه؛ لأنَّ نقيضه يدل عليه ، وقوله : ونظير » أمَرَ « » شَاءَ « ليس نظيره؛ لأن مفعول » أمَرَ « كثر التصريح به . قال سبحانه جل ذكره : { إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء } [ الأعراف : 28 ] { أَمَرَ رَبِّي بالقسط } [ الأعراف : 29 ] { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ } [ الطور : 32 ] ، وقال الشاعر : [ البسيط ]
3392- أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أمِرْتَ بِهِ .. . .
قال شهاب الدين رحمه الله : والشيخ ردَّ عليه ردَّ مستريحٍ من النَّظرِ ، ولولا خوفُ السآمةِ على الناظرِ ، لكان للنظر في كلامهما مجالٌ .
قال ابن الخطيب : ولقائلٍ أن يقول : كما أنَّ قوله : « أمَرْتُهُ » ، فَعصَانِي « يدلُّ على أن المأمور به شيءٌ غير المعصية من حيث إنَّ المعصية منافية للأمر مناقضةٌ له ، فكذلك قوله : أمرته ففسق يدلُّ أنَّ المأمور به شيء غير الفسقِ؛ لأن الفسقَ عبارةٌ عن الإتيان
بضدِّ المأمور به ، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به ، كما أنَّ كونها معصية ينافي كونها مأموراً بها؛ فوجب أن يدلَّ هذا اللفظ على أنَّ المأمور به ليس بفسقٍ ، وهذا في غاية الظهور .
الوجه الثاني : أنَّ » أمَرْنَا « بمعنى كَثَّرْنَا قال الواحديُّ : العرب تقول : أَمِرَ القومُ : إذا أكثروا . ولم يرض به الزمخشريُّ في ظاهر عبارته ، فإنه قال : وفسَّر بعضهم » أمَرْنَا « ب » كَثَّرْنَا « وجعله من باب : » فعَّلتُه ، فَفَعَلَ « ك » ثَبَّرْتُهُ فَثَبَر « . وفي الحديث : » خَيْرُ المَالِ سكَّة مَأبورةٌ ، ومُهرةٌ مَأمُورةٌ « ، أي : كثيرة النِّتاجِ . وقد حكى أبو حاتم هذه اللغة ، يقال : أمِرَ القوم ، وأمرهم الله ، ونقله الواحديُّ عن أهل اللغة ، وقال أبو عليٍّ : » الجيِّدُ في « أمَرْنَا » أن يكون بمعنى « كَثَّرْنَا » واستدلَّ أبو عبيدة بما جاء في الحديث ، فذكره؛ يقال : أمر الله المهرة ، أي : كثَّر ولدها ، قال : « ومَنْ أنكر » أمَرَ الله القومَ « أي : كثَّرهم [ لم يلتفت إليه؛ لثبوت ذلك لغة » ويكونُ ممَّا لزم وتعدى بالحركةِ المختلفة؛ إذ يقال : أمر القوم ، كثروا ، وأمرهم الله : كثَّرهُمْ ] ، وهو من باب المطاوعة : أمرهم الله ، فأتمروا ، كقولك : شَتَرَ اله عينهُ ، فَشتِرَتْ ، وجدعَ أنْفَهُ فجَدِعَ ، وثلمَ سنَّهُ ، فثَلِمَتْ .
وقرأ الحسن ، ويحيى بن يعمر ، وعكرمة « أمِرْنَا » بكسر الميم؛ بمعنى « أمَرْنَا » بالفتح ، حكى أبو حاتم ، عن أبي زيدٍ : أنه يقال : « أمَرَ الله [ مالهُ ، ] وأمِره » بفتح الميم وكسرها ، وقد ردَّ الفراء وهذه القراءة ، ولا يلتفت لردِّه؛ لثبوتها لغة بنقل العدولِ ، وقد نقلها قراءة عن ابن عبَّاس أبو جعفر ، وأبو الفضل الرازيُّ في « لَوامحهِ » فكيف تردُّ؟ .
وقرأ عليُّ بن أبي طالب ، وابن أبي إسحاق وأبو رجاء - رضي الله عنهم - في آخرين « آمَرْنَا » بالمدِّ ، ورُويتْ هذه قراءة عن ابن كثير وأبي عمرو ، وعاصم ونافع ، واختارها يعقوب ، والهمزة فيه للتعدية .
وقرأ عليٌّ أيضاً ، وابن عباس ، وأبو عثمان النهديُّ : « أمَّرْنَا » بالتشديد ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّ التضعيف للتعدية ، عدَّاه تارة بالهمزة ، وأخرى بتضعيف العين ، كأخرجته وخرَّجته .
والثاني : أنه بمعنى جعلناهم أمراء ، واللازم من ذلك « أمِّرَ » ق لالفارسي : « لا وجه لكون » أمَّرنَا « من الإمارة؛ لأنَّ رئاستهم لا تكون إلاَّ لواحد بعد واحد ، والإهلاكُ إنَّما يكون في مدَّة واحدةٍ » . ورُدَّ على الفارسي : بأنَّا لا نسلم أنَّ الأمير هو الملكُ؛ حتى يلزم المترف إذا ملك ، ففسق ، ثم كذلك ، كثر الفساد ، ونزل بهم على الآخر من ملوكهم العذاب ، واختار أبو عبيدة قراءة العامة وقال : فإنَّ المعاني الثلاثة تجتمع فيها ، يعني : المر ، والإمارة ، والكثير .
المترف في اللغة : المُنَعَّم ، والغنيُّ : الَّذي قد أبطرته النِّعمة ، وسعةُ العيش .
قوله تعالى : { فَفَسَقُواْ فِيهَا } أي : خرجوا عمَّا أمرهم الله .
{ فَحَقَّ عَلَيْهَا القول } : أي : وجب عليها العذاب .
{ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } أي : خرَّبناها ، وأهلكنا من فيها ، وهذا كالتقرير ، لقوله - تعالى- : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] . وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً } [ القصص : 59 ] .
فصل في الاحتجاج لأهل السنة
استدلَّ أهل السنة بهذه الآية على صحَّة مذهبهم من وجوه :
الأول : أنَّ ظاهر الآية يدل على أنَّه تعالى أراد إهلاكهم ابتداء ، ثم توسَّل إلى إهلاكهم بهذا الطريق؛ وهذا يدلُّ على أنَّه - تعالى - إنما خصَّ المترفين بذلك الأمر لعلمه بأنَّهم يفسقون ، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى أراد منهم الفسقَ .
الثالث : أنه - تعالى - قال : { فَحَقَّ عَلَيْهَا القول } أي : حقَّ عليها القول بالتَّعذيب والكفر ، ومتى حقَّ عليها القول بذلك ، امتنع صدور الإيمان منهم؛ لأنَّ ذلك لا يستلزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً ، وذلك محالٌ ، والمفضي إلى المحال محالٌ .
قال الكعبيُّ - رحمه الله - إنَّ سائر الآيات دلَّت على أنَّه - تعالى - لا يبتدئ بالتعذي والإهلاك؛ لقوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد : 11 ] . وقوله عزَّ وجلَّ : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } [ النساء : 147 ] وقوله - عز ذكره : { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } [ القصص : 59 ] .
وكلُّ هذه الآيات تدل على أنَّه لا يبتدئ بالإضرار ، وأيضاً : ما قبل هذه الآية يدلُّ على هذا المعنى ، وهو قوله - تعالى- : { مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الإسراء : 15 ] .
ومن المحال أن يقع بين آيات القرآن تناقض؛ فثبت أنَّ هذه الآيات محكمة ، والآيات التي نحن في تفسيرها مجملة؛ فيجب حمل هذه الآية علىتلك الآيات .
واعلم أنَّ أحسن الناس كلاماً في تأويل هذه الآية على وجه يوافق قول المعتزلة : « القَفَّالُ » - رحمه الله تعالى - فإنه ذكر وجهين :
الأول : أنه - تعالى - أخبر أنَّه لا يعذِّب أحداً بما يعلمه منه ، ما لم يعمل به أي : لا يجعل علمه حجَّة على من علم أنَّه إذا أمره عصاه ، بل يأمره ، فإذا ظهر عصيانه للنَّاس ، فحينئذٍ يعاقبه .
وقوله - تعالى- : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } .
معناه : وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم بظهور معاصيهم ، فحينئذ { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } . أي : أمرنا المنعَّمينَ فيها المتعزّزين الظَّانين أن أموالهم وأولادهم وأنصارهم تردُّ عنهم بأسنا بالإيمان والعمل بشرائع ديني ، على ما يبلّغهم عنّي رسولي ، ففسقوا ، فحينئذ يحقُّ عليهم القضاء السابق بإهلاكهم ، لظهور معاصيهم ، فحينئذ أدمِّرُها .
والحاصل : أن المعنى : وإذا اردنا أن نهلك قرية بسبب علمنا بأنهم لا يقدمون إلا على المعصية لم نكتف [ في تحقيق ] ذلك الإهلاك بمجرَّد ذلك العلم ، بل أمرنا مترفيها ، ففسقوا ، فإذا ظهر منهم ذلك الفسق ، فحينئذ نوقع العذاب الموعود به .
الوجه الثاني : أنَّ التأويل : وإن أردنا أن نهلك قرية بسبب ظهور المعاصي من أهلها ، لم نعاجلهم بالعذاب في أوَّل ظهور المعاصي بينهم ، بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي .
وإنَّما خصَّ المترفين بذلك الأمر؛ لأنَّ المترف هو المنعَّم ، ومن كثرت نعمة الله عليه ، كان قيامه بالشُّكر أوجب ، فإذا أمرهم بالتوبة والرجوع عن المعاصي مرة بعد أخرى ، مع أنه لا يقطع عنهم تلك النِّعم ، بل يزيدها حالاً بعد حالٍ ، فحينئذ يظهر عنادهم وتمرُّدهم وبعدهم عن الرجوع عن الباطل إلى الحقِّ ، فحينئذ يصبُّ الله البلاء عليهم صباً . ثم قال القلال - رحمه الله- : وهذان التأويلان راجعان إلى أنَّ الله - تعالى - أخبر عن عباده أنَّه لا يعاجل بالعقوبة أمة ظالمة؛ حتى يعذر إليهم غاية الإعذار ، الذي يقع منه اليأس من إيمانهم ، كما قال - تعالى - في قوم نوح - عليه السلام- : { وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [ نوح : 27 ] ، وقال عزَّ وجلَّ : { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [ هود : 36 ] وقال تعالى في غيرهم : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } [ الأعراف : 101 ] فأخبر الله تعالى عنهم أولاً أنَّه لا يظهر العذاب إلاَّ بعد بعثة الرسل ، ثم أخبر ثانياً في هذه الآية : أنه - تعالى - إذا بعث الرسل أيضاً ، فكذِّبوا ، لم يعاجلهم بالعذاب ، بل يتابع عليهم النصائح والمواعظ ، فإن بقوا مصرِّين ، فهناك ينزل عليهم عذاب الاستئصال .
وأجاب الجبائيُّ فقال : ليس المراد من الآية أنَّه تعالى يريد إهلاكهم قبل أن يعصوا ويستحقُّوا ذلك؛ لأنَّه لا يظلم ، وهو على الله محالٌ ، بل المراد من الإرادة قرب تلك الحالة ، فكان التقدير : وإذا قرب وقت إهلاكِ قريةٍ أمرنا مترفيها ، ففسقوا فيها ، وهو كقول القائل : إذا أراد المريض أن يموت ازدادت أمراضه شدَّة ، وإذا أراد التَّجر أن يفتقر أتاه الخسران من كلِّ جهةٍ ، وليس المراد أنَّ المريض يريدُ أن يموت على الذُّنوب ، والتَّاجر يريد أن يفتقر ، وإنَّما يعنون أنه سيصير كذلك؛ فكذا هاهنا .
واعلم أنَّ هذه الوجوه جواب عن الوجه الأوَّل من الوجوه الثلاثة المتقدمة في التمسُّك بهذه الآية ، وكلها عدول عن ظاهر اللفظ ، وأما الوجه الثاني والثالث فبقي سليماً عن الطَّعن .
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
والمراد منه أنَّ الطريق الذي ذكرناه هو عادتنا مع الذين يفسقون ، ويتمرَّدون فيما تقدم من القرون الذين كانوا بعد نوح؛ حادٍ وثمود ، وغيرهم ، ثم إنه - تعالى - خاطب رسوله - صلوات الله عليه - بما يكون خطاباً وردعاً وزجراً للكُلِّ ، فقال جلَّ ذكره : { وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً } وهذا تخويف لكفَّار « مكَّة » .
و « كَمْ » نصب بأهلكنا ، و « مِنَ القُرونِ » تمييزٌ ل « كَمْ » و « مِن بَعدِ نُوح » : « مِنْ » لابتداء الغاية ، والأولى للبيان ، فلذلك اتَّحدَ متعلقهما ، وقال الحوفيُّ : « الثانية بدلٌ من الأولى » ، وليس كذلك؛ لاختلاف معنييهما ، والباء بعد « كَفَى » تقدم الكلام عليها ، وقال ابن عطيَّة : « إنما يجاءُ بهذه الباء في موضع مدحٍ أو ذمٍّ » والباء في « بِذنُوب » متعلقة ب « خَبِيراً » وعلَّقها الحوفيُّ ب « كَفَى » .
قال افراء - رحمه الله- : لو ألغيت الباء؛ من قوله : « بربِّكَ » جاز ، وإنما يجوز دخول الباء في المرفوع إذا كان يمدحٌ به أو يذمُّ؛ كقولك : كفاك به ، وأكرم به رجلاً ، وطاب بطعامك طعاماً ، وجاد بثوبك ثوباً .
أما إذا لم يكن مدحاً أو ذمًّا ، لم يجز دخولها ، فلا يجوز أن يقال : « قَامَ بِأخيكَ » وأنت تريد : « قَامَ أخُوكَ » .
فصل في مقدار القرن
قال عبد الله بن أبي أوفى : القرنُ : عشرون ومائة سنة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أوَّل قرنٍ ، وكان آخره يزيد بن معاوية ، وقيل : مائة سنة .
رُوِيَ عن محمد بن القاسم عن عبد الله بن بسرٍ المازنيّ : أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على رأسه ، وقال : « سَيعيشُ هذا الغُلام قَرْناً » وقال محمد بن القاسم - رضي الله عنه - : فما زلنا نعدُّ له؛ حتَّى تمت له مائة سنة ، ثمَّ مات .
وقال الكلبيُّ : ثمانون سنة .
وقيل : أربعون سنة .
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
قوله - تعالى- : { مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ } الآية .
« مَنْ » شرطية ، و « عَجَّلنا » جوابها ، و « ما يشاءُ » مفعولها ، و « لِمنْ نُريد » بدل بعضٍ من كلٍّ ، من الضمير في « لَهُ » بإعادة العامل ، و « لِمَنْ نُريد » تقديره : لمن نريد تعجيله له .
[ قوله : ] « ثُمَّ جَعلنَا لهُ جهنَّم » « جَعلَ » هنا تصييرية .
وقوله : « يَصْلاهَا » الجملة حال : إمَّا من الضمير في « لَهُ » وإمَّا من « جَهَنَّم » و « مَذمُوماً » حال من فاعل « يَصْلاها » قيل : وفي الكلام حذف ، وهو حذف المقابل؛ إذ الأصل : من كان يريد العاجلة ، وسعى لها سعيها ، وهو كافرٌ لدلالةِ ما بعده عليه ، وقيل : بل الأصل : من كان يريد العاجلة بعمله للآخرة كالمنافق .
ومعنى « يَصْلاهَا » : يدخلها .
« مَذمُوماً » : مطروداً ، « مَدْحُوراً » : مُبْعَداً .
وقوله : « سَعْيَهَا » : فيه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول به؛ لأنَّ المعنى : وعمل لها عملها .
والثاني : أنه مصدر ، و « لهَا » أي : من أجلها .
والجملة من قوله : « وهو مُؤمِنٌ » هذه الجملة حال من فاعل « سَعَى » .
قوله تعالى : { كُلاًّ نُّمِدُّ } : « كُلاًّ » منصوب ب « نُمِدُّ » و « هؤلاء » بدل ، « وهؤلاءِ : عطف عليه ، أي : كلَّ فريق نمدُّ هؤلاء الساعين بالعاجلة ، وهؤلاء الساعين للآخرة ، وهذا تقدير جيدٌ ، وقال الزمخشري في تقديره : » كلَّ واحدٍ من الفريقين [ نُمِدُّ ] « . قال أبو حيان : » كذا قدَّره الزمخشري ، وأعربوا « هؤلاءِ » بدلاً من « كُلاًّ » ولا يصح أن يكون بدلاً مِنْ « كل » على تقدير : كلَّ واحدٍ؛ لأنَّه إذ ذاك بدل كلٍّ من بعضٍ ، فينبغي أن يكون التقدير : كل الفريقين « .
و » مِنْ عطاءِ « متعلقٌ ب » نُمِدُّ « والعطاء اسم مصدر واقع موقع اسم المفعول .
والمحظور : الممنوعُ ، وأصله من الحظر ، وهو : جمعُ الشيء في حظيرة ، والحظيرة : ما يعمل من شجرٍ ونحوه؛ لتأوي إليه الغنم ، والمحتظرُ : من يعمل الحظيرة .
فصل
قال القفال - رحمه الله - : هذه الآية داخلة في معنى قوله : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } [ الإسراء : 13 ] : ومعناه : أن العمَّال في الدنيا قسان :
منهم من يريد بعمله الدنيا والرياسة ، فهذا يأنف من الانقياد للأنبياء - عليه الصلاة والسلام- ، والدخول في طاعتهم؛ خوفاً من زوال الرِّياسة عنهم ، فهذا قد جعل طائر نفسه شؤماً؛ لأنه في قبضة الله؛ فيؤتيه الله في الدنيا منها قدراً لا كما يشاء ذلك الإنسان ، بل كما يشاء الله .
بل إن عاقبته جهنَّم يدخلها فيصلاها بحرِّها مذموماً ملوماً ، مدحوراً مطروداً من رحمة الله .
وفي لفظ هذه الآية فوائد :
أحدها أنَّ العقاب عبارة عن مضرَّة مقرونةٍ بالإهانة بشرط أن تكون دائمة خالية عن المنفعة .
وثانيها : أن من الجهَّال من إذا ساعدته الدنيا اغترَّ بها ، وظنَّ أن ذلك لأجل كرامته على الله - تعالى - فبيَّن - تعالى - بهذه الآية أن مساعدة الدنيا لا ينبغي أن يستدلَّ بها على رضا الله تعالى لأنَّ الدنيا قد تصلح مع أنَّ عاقبتها المصير إلى العذاب والإهانة ، فهذا الإنسان أعماله تشبه طائر السُّوء في لزومها له ، وكونها سائقة له إلى أشدِّ العذاب .
وثالثها : قوله : { لِمَن نُّرِيدُ } يدلُّ على أنَّه لا يحصل الفوز بالدنيا لكلِّ أحدٍ ، بل كثيرٌ من الكفَّار يعرضون عن الدِّين في طلب الدنيا ، ثم يبقون محرومين عن الدنيا ، وعن الدِّين ، فهؤلاء هم الأخسرون أعمالاً الذي ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .
وأما القسم الثاني : وهو قوله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فشرط تعالى فيه ثلاثة شروطٍ «
أحدها : أن يريد بعمله الآخرة أي : ثواب الآخرة ، فإنه إن لم ينو ذلك ، لم ينتفع بذلك العمل؛ لقوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 37 ] وقوله - صلوات الله وسلامه عليه- : » إنَّما الأعمَالُ بالنِّيَّاتِ « .
والثاني : قوله جلَّ ذكره : { وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ، وذلك يقتضي أن يكون ذلك العمل من باب القرب والطَّاعات ، وكثير من الضُّلال يتقرَّبون بعبادة الأوثان ، ولهم فيها تأويلان :
أحدهما : أنهم يقولون : إله العالم أجلُّ وأعظم من أن يقدر الواحد منَّا على إظهار عبوديته ، وخدمته ، ولكن غاية قدرتنا أن نشتغل بعبوديَّة بعض المقربين من عباد الله ، مثل أن نشتغل بعبادة الكواكب ، أو ملكٍ من الملائكةِ ، ثمَّ إنَّ الملك أو الكواكب يشتغلون بعبادة الله - تعالى- .
فهؤلاء يتقرَّبون إلى الله - تعالى - بهذا الطريق ، وهذه طريق فاسدة ، فلا جرم لم ينتفع بها .
والتأويل الثاني : أنَّهم قالوا : اتخذنا هذه التماثيل على صور الأنبياء والأولياء ، والمراد من عبادتها أن يصير أولئك الأنبياء والأولياء شعفاءنا عند الله - تعالى- ، وهذا الطريق أيضاً فاسد؛ فلا جرم لم ينتفع بها .
وأيضاً : نقل عن الجنيد أنَّهم يتقرَّبون إلى الله - تعالى - بقتل أنفسهم تارة ، وبإحراق أنفسهم أخرى ، وهذا الطريق أيضاص فاسد ، فلا جرم لم ينتفع بها ، وكذا القول في جميع فرق المبطلين الذين يتقرَّبون إلى الله - تعالى - بمذاهبهم الباطلة .
والشرط الثالث : قوله تعالى : { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } .
وهذا الشرط معتبرٌ؛ لأنَّ الشرط في كون أعمال البرِّ موجبة للثواب هو الإيمان ، فإذا لم يوجد ، لم يحصل المشروط ، ثمَّ إنه - تعالى - أخبر أنَّ عند حصول هذه الشرائط يصير السعي مشكوراً ، والعمل مبروراً .
واعلم أن الشُّكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة :
اعتقاد كونه محسناً في تلك الأعمال ، والثناء عليه بالقول ، والإتيان بأفعال تدلُّ على كونه معظماً عند ذلك الشَّاكر ، والله - تعالى - يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة ، فإنَّه تعالى عالمٌ بكونهم محسنين في تلك الأعمال ، وإنه تعالى يثني عليهم بكلامه؛ وإنَّه تعالى يعاملهم بمعاملة دالَّة على كونهم مطيعين عند الله - تعالى - .
وإذا كان مجموع هذه الثلاثة حاصلاً ، كانوا مشكورين على طاعتهم من قبل الله - تعالى- .
يروى في كتب المعتزلة : أنَّ جعفر من حربٍ حضر عنده رجل من أهل السنَّة ، وقال : الدليل على أن الإيمان حصل بخلق الله تعالى : أنا نشكر على الإيمان ، ولو لم يكن الإيمان حاصلاً بإيجاده ، لامتنع أن نشكره عليه؛ لأنَّ مدح الإنسان وشكره على ما ليس من عمله قبيحٌ . قال الله - تعالى- : { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } [ آل عمران : 188 ] .
فعجز الحاضرون على الجواب ، فدخل ثمامة بن الأشرسِ ، وقال : إنَّا نمدحُ الله - تعالى - ونشكره على ما أعطانا من القدرة ، والعقل ، وإنزال الكتب ، وإيضاح الدلائل ، والله - تعالى - يشكرنا على فعل الإيمان ، قال الله - تعالى- : { فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } قالوا : فضحك جعفر بن حربٍ وقال : صعبت المسألة ، فسهلت .
واعلم أن قولنا : مجموع القدرة مع الداعي يوجبُ الفعل كلامٌ واضح؛ لنه « تعالى » هو الذي أعطى الموجب التَّام لحصول الإيمان ، فكان هو المستحقَّ للشُّكر ، ولما حصل الإيمان للعبد ، وكان الإيمان موجباً للسَّعادة التَّامَّة ، صار العبدُ أيضاً مشكوراً ، ولا منافاة بين الأمرين .
فصل
اعلم أنَّ كلَّ من أتى بفعلٍ ، فإمَّا أن يقصد به تحصيل خيراتِ الدنيا ، أو تحصيل الآخِرة ، أو يقصد به مجموعهما ، أو لم يقصد به واحد منهما .
فإن قصد به تحصيل خيراتِ الدنيا فقط ، أو تحصيل الآخرة فقط ، فالله - تعالى - ذكر حكم هذين القسمين في هذه الآية ، وأما القسمُ الثالث فينقسمُ ثلاثة أقسامٍ : إمَّا أن يكون طلب الآخرة راجحاً أو مرجوحاً ، أو يكون الطلبان متعادلين .
فإن كان طلب الآخرة راجحا ، فهل يكون هذا العمل مقبولاً عند الله تعالى بحيث يحتمل أن يقال : إنه غير مقبولٍ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم حاكياً عن الله - تعالى - أنه قال : « أنَا أغْنَى الأغنِيَاءِ عن الشِّركِ من عَملَ عَملاً أشْركَ فِيهِ غَيْرِي تَركْتهُ وشَريكَهُ
. » وأيضاً : طلب رضوان الله - تعالى - إما أن يكون سبباً مستقلاً بكونه باعثاً على ذلك الفعل ، وداعياً إليه ، وإمَّا ألا يكون . فإن كان الأول امتنع أن يكون لغيره مدخلٌ في ذلك البعث والدعاء؛ لأنَّ الحكم إذا أسند إلى سبب كامل تامٍّ ، امتنع أن يكون لغيره مدخل فيه ، وإن كان الثاني ، فيكون الدَّاعي إلى ذلك الفعل هو المجموع ، وذلك المجموع ليس هو طلب الرضوان من الله - تعالى-؛ لأنَّ المجموع الحاصل من الشَّيء ومن غيره يجب أن يكون مغايراً لطلب رضوان الله؛ فوجب ألا يكون مقبولاً ، ويحتمل أن يقال : لما كان طلب الآخرة راجحاً على طلب الدنيا تعارض المثلُ بالمثلِ ، فيبقى القدر الزائدُ داعية خالصة لطلب الآخرة؛ فوجب كونه مقبولاً .
وأمَّا إذا كان طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين ، أو كان طلبُ الدنيا راجحاً ، فقد اتفقوا على أنه غيرُ مقبولٍ ، إلاَّ أنه على كلِّ حالٍ خير مما إذا كان طلب الدنيا خالياً بالكليَّة عن طلب الآخرة .
وأما القسم الرَّابع ، وهو الإقدام على الفعل من غير داع ، فهو مبنيٌّ على أنَّ صدور الفعل من القادر ، هل يتوقَّف على حصول الدَّاعي أم لا؟ .
فالذين يقولون : إنَّه متوقِّف على حصول الداعي ، قالوا : هذا القسم ممتنع الحصول ، والَّذين قالوا : إنَّه لا يتوقَّف ، قالوا : هذا الفعل لا أثر له في الباطن ، وهو محرَّم في الظاهر؛ لأنه عبثٌ .
فصل في معنى الآية
معنى الآية أنه تعالى يمدُّ الفريقين بالأموال ، ويوسِّع عليهما في الرِّزق ، والعزِّ والزينة في الدنيا؛ لأنَّ عطاءه ليس بضيِّقٍ على أحدٍ مؤمناً كان أو كافراً؛ لأنَّ الكلَّ مخلوق في دار العمل؛ فوجب إزاحةُ العذر وإزالة العلَّة عن الكلِّ .
والتنوين في « كُلاًّ » عوضٌ من المضاف إليه ، أي كلَّ واحد من الفريقين .
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
« كيف » نصب : إمَّا على التشبيه بالظرف ، وإمَّا على الحال ، وهي معلقة ل « انْظُرْ » بمعنى فكِّر ، أو بمعنى أبصرْ .
والمعنى : أنا أوصلنا إلى مؤمنٍ ، وقبضنا عن مؤمنٍ آخر ، وأوصلنا إلى كافرٍ ، وقبضنا عن كافرٍ آخر ، وقد ببيَّن - تعالى - وجه الحكمة في هذا التفاوت ، فقال جلَّ ذكره : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [ الزخرف : 32 ] .
وقال تعالى في آخر سورة الأنعام : { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [ الأنعام : 165 ] الآية .
ثم قال تعالى : { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } أي : من درجات الدنيا ، ومن تفضيل الدنيا ، و المعنى : أن الآخرة أعظم وأشرف من الدنيا .
أي : أن المؤمنين يدخلون الجنَّة ، والكافرين يدخلون النَّار ، فتظهر فضيلة المؤمنين على الكافرين ، ونظيره قوله - تعالى- : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } [ الفرقان : 24 ] .
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
لما بيَّن تعالى أن النَّاس فريقان؛ منهم : من يريد بعمله الدنيا فقط ، وهم أهل العذاب ، ومنهم : من يريد طاعة الله ، وهم أهل الثواب ، ثم شرط في ذلك ثلاثة شروط : أن يريد الآخرة ، وأن يعمل عملاً ، ويسعى سعياُ موافقاً لطلب الآخرة ، وأن تكون مؤمناً لا جرم فصَّل في هذه الآية تلك المجملات ، فبدأ أوَّلاً بشرحِ حقيقة الإيمان ، وأشرفُ أجزاء الإيمان هو التوحيد ، ونفي الشِّرك ، فقال عزَّ وعلا : { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ } .
ثم ذكر عقيبه سائر الأعمال التي يكونُ المشتغلُ بها ساعياً سعي الآخرة .
قال المفسِّرون : الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره كقوله تعالى : { ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء } [ الطلاق : 1 ] وقيل : الخطاب للإنسان ، وهذا أولى؛ لأنَّه تعالى عطف عليه قوله - تعالى- : وقيل : الخطاب للإنسان ، وهذا أولى؛ لأنَّه تعالى عطف عليه قوله تعالى- :
{ وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] إلى قوله تعالى : { إمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } [ الإسراء : 23 ] .
وهذا لا يليق بالنبي صلوات الله وسلامه عليه - لأنَّ أبويه ما بلغا الكبر عنده .
الأول : أنَّ المشرك كاذب ، والكاذب يستوجب الذمَّ ، والخذلان .
الثاني : أنَّه لما ثبت بالدَّليل : أنه لا إله ولا مدبِّر إلاَّ الواحد الأحد ، فحينئذ : يكون جميع النِّعم حاصلة من الله - تعالى- ، فمن أشرك بالله ، فقد أضاف بعض تلك النِّعم إلى غير الله ، مع أن الحقَّ أن كلَّها من الله ، فحينئذ يستحقُّ الذمَّ؛ لأنَّ المستحقَّ للشُّكر على تلك النعم هو الخالقُ لها ، فلمَّا جحد كونها من الله - تعالى - فقد قابل إحسان الله - تعالى - بالإساءة والجحود ، فاستوجب الذمَّ ، ويستحقُّ الخذلان؛ لأنَّه لما أثبت لله شريكاً ، استحقَّ أن يفوض أمره إلى ذلك الشَّريك ، ولمَّا كان ذلك الشريكُ معدوماً ، بقي بلا ناصرٍ ولا حافظٍ ولا معينٍ ، وذلك عينُ الخذلان .
الثالث : أنَّ الكمال في الوحدة ، والنقصان في الكثرة ، فمن أثبت الشَّريك ، فقد وقع في جانب النقصان .
قوله تعالى : { فَتَقْعُدَ } : يجوز أن تكون على بابها ، فينتصب ما بعدها على الحال ، ويجوز أن تكون بمعنى « صار » فينتصب على الخبريَّة ، وإليه ذهب الفراء والزمخشريُّ ، وأنشدوا في ذلك .
3393- لا يُقْنِعُ الجَارِيةَ الخِضَابُ ... ولا الوِشَاحَانِ ولا الجِلْبَابُ
مِن دُون أن تَلتَقِيَ الأرْكابُ ... ويَقْعُدَ الأيْرُ لهُ لُعَابُ
أي : ويصير ، و البصريُّون لا يقيسون هذا ، بل يقتصرون به على المثل في قولهم : « شَحَذَ شفرته؛ حتَّى قعَدتْ كأنَّها حَربَةٌ » .
وقال الواحديُّ : « فَتَقْعد » : انتصب؛ لأنَّه وقع بعد الفاء؛ جواباً للنهي ، وانتصابه بإضمار « أن » كقولك : لا تنقطع عنَّا ، فنجفوك ، والتقدير : لا يكن منك انقطاعٌ؛ فيحصل أن نجفوك ، فما بعد الفاء متعلَّق بالجملة المتقدمة بحرف الفاء ، وإنَّما سمَّاه النحويون جواباً؛ لكونه مشابهاً للجزاءِ في أنَّ الثاني مسبَّب عن الأول؛ ألا ترى أنَّ المعنى : إن انقطعت جفوتك ، كذلك تقدير الآية إن جعلت مع الله إلهاً آخر ، قعدت مذموماً مخذولاً .
فصل في معنى القعود في الآية
ذكروا في هذا القعود وجوهاً :
أحدها : أن معناه المكث أي : فتمكُث في النَّاس مذموماً مخذولاً ، وهذه اللفظة مستعملةٌ في لسان العرب والفرس في هذا المعنى ، إذا سأل الرجلُ غيره : ما يصنعُ فلانٌ في تلك البلدة؟ فيقول المجيب : هو قاعدٌ بأسوأ حالٍ .
معناه : المكث ، سواء كان قائماً أو قاعداً
وثانيها : أنَّ من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادماً متفكراً على ما فرط منه .
وثالثها : أنَّ المتمكن من تحصيل الخيرات يسعى في تحصيلها ، والسَّعي إنما يتأتى بالقيام ، وأما العاجزُ عن تحصيلها ، فإنَّه لا يسعى ، بل يبقى جالساً قاعداً عن الطَّلب ، فلمَّا كان القيام على الرَّجلِ أحد الأمور التي يتمُّ بها الفوز بالخيرات ، وكان القعود والجلوس علامة على عدم تلك المكنة والقدرة ، لا جرم جعل القيام كناية عن القدرة على تحصيل الخيرات ، والقعود كناية عن العجز والضعف .
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
قوله تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } .
لما ذكر في الآية المتقدمة ما هو الركن الأعظم في اللإيمان ، أتبعه بذكر ماهو من شعائر الإيمان وشرائعه ، وهي أنواع :
الأول : أن يشتغل الإنسان بعبادة الله سبحانه وتعالى ، ويتحرَّز عن عبادة غير الله تعالى .
والقضاءُ : الحكم الجزم البتُّ الذي لا يقبل النسخ؛ لأنَّ الواحد منا ، إذا أمر غيره بشيءٍ لا يقال : قضى عليه ، فإذا أمره أمراً جزماً ، وحكم عليه بذلك على سبيل البتِّ والقطع ، فها هنا يقال : قضى عليه ، وروى ميمون بن مهران عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - أنه قال في هذه الآية : كان الأصلُ : « ووصَّى ربُّكَ » ، فالتصقت إحدى الواوين بالصَّاد ، فصارت قافاً فقرئ « وقَضَى ربُّكَ » .
ثم قال : ولو كان على القضاء ما عصى الله أحدٌ قط؛ لأنَّ خلاف قضاء الله ممتنعٌ ، هذا رواه عنه الضحاك بنُ مزاحم ، وسعيد بن جبيرٍ ، وهو قراءة عليٍّ وعبد الله .
وهذا القول بعيدٌ جدًّا؛ لأنه يفتح باب أنَّ التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن ، ولو جوَّزنا ذلك ، لارتفع الأمانُ عن القرآن ، وذلك يخرجه عن كونه حجَّة ، وذلك طعنُ عظيمٌ في الدِّين .
وقرأ الجمهور « قَضَى » فعلاً ماضياً ، فقيل : هي على موضوعها الأصلي؛ قال ابن عطية : « ويكون الضمير في » تَعْبدُوا « للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة » .
وقال ابن عبَّاس وقتادة والحسن بمعنى : أمَرَ .
وقال مجاهد : بمعنى : أوصى .
وقال الربيع بن أنسٍ : أوجب وألزم .
وقيل بمعنى : حكم .
وقرأ بعض ولد معاذ بن جبل : « وقضاءُ ربِّك » اسماً مصدراً مرفوعاً بالابتداء ، و « ألاَّ تَعْبدُوا » خبره .
قوله تعالى : { أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } : يجوز أن تكون « أنْ » مفسرة؛ لأنها بعد ما هو بمعنى القول ، و « لا » ناهية ، ويجوز أن تكون الناصبة ، و « لا » نافية ، أي : بأن لا ، ويجوز أن تكون المخففة ، واسمها ضمير الشأن ، و « لا » ناهية أيضاً ، والجملة خبرها ، وفيه إشكال؛ من حيث وقوع الطَّلب خبراً لهذا الباب ، ومثله في هذا الإشكال قوله : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } [ النمل : 8 ] ، وقوله : { أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ } [ النور : 9 ] لكونه دعاء ، وهو طلبٌ أيضاً ، ويجوز أن تكون الناصبة ، و « لا » زائدة . [ قال أبو البقاء : « ويجوز أن يكون في موضع نصب ، [ أي : ] ألزم ربُّك عبادته و » لا « زائدة » ] . قال أبو حيَّان : « وهذا وهمٌ؛ لدخول » إلاَّ « على مفعول » تَعْبدُوا « فلزم أن يكون نفياً ، أو نهياً » .
قوله تعالى : { وبالوالدين إِحْسَاناً } قد تقدم نظيره في البقرة .
وقال الحوفي : « الباء متعلقة ب » قَضَى « ويجوز أن تكون متعلقة بفعلٍ محذوف تقديره : وأوصى بالوالدين إحساناً ، و » إحساناً « مصدر ، أي : يحسنون بالوالدين إحساناً » .
وقال الواحديُّ : « الباءُ من صلة الإحسان ، فقدِّمت عليه؛ كما تقول : بزيدٍ فانزل » وقد منع الزمخشري هذا الوجه؛ قال : « لأنَّ المصدر لا يتقدَّم عليه معموله » . قال شهاب الدين : والذي ينبغي أن يقال : إنَّ هذا المصدر إن عنى به أنَّه ينحلُّ لحرفٍ مصدريٍّ ، وفعلٍ ، فالأمر على ما ذكر الزمخشريُّ ، وإن كان بدلاً من اللفظ بالفعل ، فالأمرُ على ما قال الواحديُّ ، فالجوازُ والمنع بهذين الاعتبارين .
وقال ابن عطية : « قوله { وبالوالدين إِحْسَاناً } عطف على » أنْ « الأولى ، أي : أمر الله ألاَّ تعبدوا إلاَّ إيَّاه ، وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً » . واختا رأبو حيَّان أن يكون « إحْسَاناً » مصدراً واقعاً موقع الفعل ، وأنَّ « أنْ » مفسرة ، و « لا » ناهية ، قال : فيكون قد عطف ما هو بمعنى الأمر على نهيٍ؛ كقوله : [ الطويل ]
3394- . ... يقُولُونَ : لا تهْلِكَ أسًى وتَجمَّلِ
قلت : و « أحْسنَ » و « أسَاءَ » يتعدَّيان ب « إلى » وب « الباء » . قال تعالى : { وَقَدْ أَحْسَنَ بي } [ يوسف : 100 ] وقال كثير عزَّة : [ الطويل ]
3395- أسِيئي بِنَا أو أحْسِنِي لا مَلُومَة ..
وكأنه ضُمِّن « أحْسنَ » لمعنى « لَطُفَ » فتعدَّى تعديته .
فصل في نظم الآية
لماأمر بعبادة نفسه أتبعه ببرِّ الوالدين ، ووجه المناسبة بين الأمرين أمورٌ :
أوَّلها : أنَّ السبب الحقيقيَّ لوجود الإنسان هو تخليق الله وإيجاده ، والسبب الظاهريّ هو الأبوان ، فأمر بتعظيم السبب الحقيقي ، ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري .
وثانيها : أنَّ الموجود : إما قديمٌ ، وإما محدث ، ويجب أن تكون معاملة الإنسان مع الإله القديم بالتعظيم والعبودية ، ومع المحدث بإظهار الشفقة ، وهو المراد من قوله - صلوات الله البرِّ الرَّحيم وسلامه عليه- : « والتعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله » وأحقُّ الخلق بالشفقة الأبوان؛ لكثرة إنعامهما على الإنسان . فقوله تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } إشارة إلى التَّعظيم لأمر الله تعالى ، وقوله تعالى : { وبالوالدين إِحْسَاناً } إشارة إلى الشَّفقة على خلق الله .
وثالثها : أنَّ الاشتغال بشكر المنعم واجبٌ ، ثمَّ المنعم الحقيقي هو الخالق سبحانه وتعالى جلَّ ذكره لا إله إلا هو ، وقد يكون بعض المخلوقين منعماً عليك ، وشكره أيضاً واجبٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ لمْ يشكُر النَّاس ، لمْ يشكُر الله » ، وليس لأحدٍ من الخلائق نعمةٌ على الإنسان مثل ما للوالدين ، وتقريره من وجوه :
أحدها : أن الولد قطعةٌ من الوالدين؛ قال - عليه السلام- : « فَاطِمةُ بضَعةٌ منِّي يُؤذِينِي ما يُؤذيها » .
وأيضاً شفقة الوالدين على الولد عظيمة ، وجدهما في إيصال الخير إلى الولد أمرٌ طبيعيٌّ ، واحترازهما عن إيصال الضرر إليه أمر طبيعيٌّ أيضاً؛ فوجب أن تكون نعم الوالدين على الولد كثيرة ، بل هي أكثر من كلِّ نعمة تصل من إنسانٍ إلى إنسانٍ .
وأيضاً : حال ما يكون الإنسان في غاية الضَّعفِ ونهاية العجز يكون جميعُ أصناف نعم الأبوين في ذلك الوقت واصلة إلى الولدِ ، وإذا وقع الإنعام على هذا الوجه ، كان موقعه عظيماً .
وأيضاً : فإيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه ، وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض ، فكان الإنعام فيه أتمَّ وأكمل ، فثبت بهذه الوجوه أنه ليس لأحدٍ من المخلوقين نعمةٌ على غيره مثل ما للوالدين على الولدِ ، فلهذا بدأ الله بشكر نعمة الخالق؛ فقال تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين ، فقال تعالى : { وبالوالدين إِحْسَاناً } . فإن قيل : إنَّ الوالدين إنَّما طلبا تحيل اللذَّة لأنفسهما؛ فلزم منه دخول الولد في الوجود ، ودخوله في عالم الآفات والمخافات ، فأيُّ إنعامٍ للأبوين على الولد .
يحكى أن بعض المنتسبين للحكمة كان يضربُ أباه ، ويقول : هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد ، وعرَّضني للموت ، والفقر ، والعمى ، والزَّمانة .
وقيل لأبي العلاء المعرِّي : ماذا تكتب على قبرك؟ فقال اكتبوا عليه : [ الكامل ]
3396- هَذَا جَناهُ أبِي عَلَيْ ... يَ وما جَنَيْتُ عَلى أحَدْ
3397- وتَركْتُ فِيهِمْ نِعْمةَ الْ ... عدم التي سبقت نعيم العاجل
ولوْ أنَّهُمْ ولَدُوا لعَانَوا شِدَّة ... تَرْمِي بِهمْ في مُوبِقاتِ الآجلِ
وقيل للإسكندر : أستاذك أعظم ملَّة عليك أم والدك؟ فقال : الأستاذ أعظم منَّة؛ لأنَّه تحمَّل أنواع الشَّدائد عند تعليمي وأوقفني في نور العلم ، وأمَّا الوالدُ فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه ، فأخرجني إلى آفاتِ عالمِ الكون والفساد . ومن الكلمات المشهورة المأثورة : « خَيْرُ الآبَاءِ من عَلَّمكَ » والجواب :
هبْ أنَّه في أوَّل الأمر طلب لذة الوقاع ، إلاَّ أن الاهتمام بإيصال الخيراتِ إليه ، ودفع الآفاتِ من أوَّل دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر ، أليس أنَّه أعظم من جميع ما يصل إليه من جهاتِ الخيرات والميرات؟ فسقطت هذه الشبهات .
واعلم أن لفظ الآية يدلُّ على معانٍ كثيرة ، كل واحدٍ منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين ، منها أنه تبارك وتعالى قال في الآية المتقدمة : { وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } [ الإسراء : 19 ] ، ثم أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي يحصل بها الفوز بسعادة الآخرة . وذكر من جملتها البرَّ بالوالدين ، وذلك يدلُّ على أن هذه الطاعة من أصول الطَّاعات التي تفيد سعادة الآخرة .
ومنها أنَّه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتَّوحيد ، وثنَّى بطاعة الله ، وثلَّث ببرِّ الوالدين ، وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطَّاعة .
ومنها : أنه تعالى لم يقل : « وإحْسَاناً بالوَالِديْنِ » ، بل قال : { وبالوالدين إِحْسَاناً } ، فتقديم ذكرهما يدل على شدَّة الاهتمام .
ومنها : أنه تعالى قال : « إحْسَاناً » بلفظ التنكير ، والتنكير يدلُّ على التعظيم ، أي : إحساناً عظيماً كاملاً؛ لأنَّ إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة؛ فوجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك ، وإن لم تحسن إليهما كذلك ، فلا تحصل المكافأة؛ لأنَّ إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداءِ ، وفي الأمثال المشهورة : « إنَّ البَادِئ بالبرِّ لا يُكَافأ » .
قوله تعالى : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ } قرأ الأخوان « يَبْلغانِّ » بألف التثنية قبل نون التوكيد المشددة المكسورةِ ، والباقون دون ألف وبفتحِ النون ، فأمَّا القراءة الأولى ، ففيها أوجه :
أحدها : أن الألف ضمي رالوالدين؛ لتقدُّم ذكرهما ، و « أحَدُهمَا » بدلٌ منه ، و « أو كلاهما » عطف عليه ، وإليه نحا الزمخشريُّ وغيره ، واستشكله بعضهم بأنَّ قوله « أحَدهُمَا » بدل بعضٍ من كلٍّ ، لا كل من كلٍّ؛ لأنه غير وافٍ بمعنى الأول ، وقوله بعد ذلك « أو كلاهما » عطف على البدل ، فيكون بدلاً ، وهو من بدل الكلِّ من الكلِّ؛ لأنه مرادف لألف التثنية ، لكنه لا يجوز أن يكون بدلاً؛ فعروِّه عن الفائدة؛ إذ المستفادُ من ألف التثنية هو المستفاد من « كِلاهمَا » فلم يفد البدل زيادة على المبدل منه .
قال شهاب الدين : هذا معنى قول أبي حيَّان ، وفيه نظر؛ إذ لقائلٍ أن يقول : مسلَّمٌ أنَّه لم يفد البدل زيادة على المبدل منه ، لكنه لا يضرُّ؛ لأنه شأن التأكيد ، ولو أفاد زيادة أخرى غير مفهومة من الأول كان تأسيساً لا تأكيداً ، وعلى تقدير تسليم ذلك ، فقد يجاب عنه بما قال ابن عطيَّة؛ فإنه قال بعد ذكره هذا الوجه : وهو بدلٌ مقسِّم؛ كقول الشاعر : [ الطويل ]
3398- وكُنْتُ كَذِي رجْليْنِ رجٍلٍ صَحِيحَةٍ ... ورِجْلٍ رَمَى فيها الزَّمانُ فشَلَّتِ
إلا أنَّ أبا حيَّان تعقَّب كلامه ، فقال : « أمَّا قوله : بدلٌ مقسم؛ كقوله :
3399- » وكُنْتُ .. . . . «
فليس كذلك؛ لأنَّ شرطه العطف بالواو ، وأيضر فشرطه : ألاَّ يصدق المبدل منه على أحد قسميه ، لكن هنا يصدق على أحد قسميه؛ ألا ترى أنَّ الألف ، وهي المبدل منه يصدق على أحد قسميها ، وهو » كلاهما « فليس من البدلِ المقسِّم » . ومتى سلِّم له الشرطان ، لزم ما قاله .
الثاني : أن الألف ليست ضميراً ، بل علامة تثنية ، و « أحَدُهمَا » فاعل بالفعل قبله ، و « أو كِلاهُمَا » عطف عليه ، وقد ردَّ هذا الوجه : بأنَّ شرط الفعل الملحقِ به علامة تثنية : أن يكون مسنداً لمثنى؛ نحو : قَامَا أخواك ، أو إلى مفرَّق بالعطف بالواو خاصة على خلاف فيه؛ نحو : « قَامَا زيدٌ وعمرٌو » ، لكنَّ الصحيح جوازه؛ لوروده سماعاً كقوله : [ الطويل ]
3400- . . ... وقَدْ أسْلمَاهُ مُبعدٌ وحَمِيمُ
والفعلُ هنا مسندٌ إلى « أحدهما » وليس مثنًّى ، ولا مفرَّقاً بالعطف بالواو .
الثالث : نقل عن الفارسي أن « كلاهما » توكيد ، وهذا لا بد من إصلاحه بزيادة ، وهو أن يجعل « أحدهما » بدل بعضٍ من كلٍّ ، ويضمر بعده فعلٌ رافعٌ لضمير تثنية ، ويقع « كلاهما » توكيداً لذلك الضمير تقديره : أو يبلغا كلاهما ، إلا أنه فيه حذف المؤكد وإبقاء التوكيد ، وفيها خلاف ، أجازها الخليل وسيبويه نحو : « مَررْتُ بزَيْدٍ ، ورَأيْتُ أخَاكَ أنْفُسَهُمَا » بالرفع والنصب ، فالرفع على تقدير : هما أنفسهما ، والنصب على تقدير أعينهما أنفسهما ، ولكن في هذا نظرٌ؛ من حيث إنَّ المنقول عن الفارسي منع حذف المؤكَّد وإبقاء توكيده ، فكيف يخرَّجُ قوله على أصلٍ لا يجيزه؟ .
وقد نصَّ الزمخشريُّ على منع التوكيدِ ، فقال : « فإن قلت : لو قيل : » إمَّا يَبْلغانِّ كلاهما « كان » كِلاهما « توكيداً لا بدلاً ، فما لك زعمْتَ أنه بدلٌ؟ قلت : لأنه معطوفٌ على ما لا يصحُّ أن يكون توكيداً للاثنين ، فانتظم في حكمه؛ فوجب أن يكون مثله » قلت : يعني أنَّ « أحدهما » لا يصلح أن يكون توكيداً للمثنى ، ولا لغيرهما ، فكذا ما عطف عليه؛ لأنه شريكه .
ثم قال : « فإن قلت : ما ضرَّك لو جعلته توكيداً مع كونِ المعطوف عليه بدلاً ، وعطفت التوكيد على البدل؟ قلت : لو أريد توكيد التثنية ، لقيل : » كِلاهُمَا « فحسب ، فلما قيل : » أحَدهُمَا أو كِلاهُمَا « علم أنَّ التوكيد غير مرادٍ ، فكان بدلاً مثل الأول » .
الرابع : أن يرتفع « كِلاهُمَا » بفعل مقدرٍ تقديره : أو يبلغُ كلاهما ، ويكون « أحدهما » بدلاً من الفالضمير بدل بعضٍ من كلٍّ ، والمعنى : إمَّا يبلغنَّ عندك أحد الوالدين أو يبلغ كلاهما .
قال البغوي - رحمه الله - فعلى قراءة حمزة والكسائي قوله : « أحَدهُمَأ أو كِلاهُمَا » كلام مستأنف؛ كقوله تعالى : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } [ المائدة : 71 ] وقوله تعالى : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] فقوله : { الذين ظَلَمُواْ } ابتداء .
وأما القراءة الثانية فواضحة ، و « إمَّا » هي « إنْ » الشرطية زيدتْ عليها « ما » توكيداً ، فأدغم أحد المتقاربين في الآخر بعد أن قلب إليه ، وهو إدغام واجب ، قال الزمخشريُّ : « هي إن الشرطية زيدت عليها » ما « توكيداً لها؛ ولذلك دخلت النون ، ولو أفردت » إنْ « لم يصحَّ دخولها ، لا تقول : إن تُكرمنَّ زيداً ، يُكرمْكَ ، ولكن : إمَّا تُكرِمنَّهُ » .
وهذا الذي قاله الزمخشريُّ نصَّ سيبويه على خلافه ، قال سيبويه :
وإنْ شِئْتَ ، لم تُقْحمِ النون ، كما أنك ، إن شئت ، لم تجئ ب « مَا » قال أبو حيَّان : « يعني مع النون وعدمها » وفي هذا نظر؛ لأنَّ سيبويه ، إنما نصَّ على أنَّ نون التوكيد لا يجب الإتيان بها بعد « أمَّا » وإن كان أبو إسحاق قال بوجوب ذلك ، وقوله بعد ذلك : كما أنَّك إن شِئْتَ لم تجئ ب « مَا » ليس فيه دليلٌ على جواز توكيد الشَّرط مع « إنْ » وحدها .
و « عِندكَ » ظرفٌ ل « يَبْلغَنَّ » و « كِلا » مثناةٌ معنى من غير خلاف ، وإنما اختلفوا في تثنيتها لفظاً : فمذهب البصريِّين : أنها مفردة لفظاً ، ووزنها على فعل؛ ك « مِعَى » وألفها منقلبة عن واوٍ ، بدليل قلبها تاء في « كِلْتَا » مؤنث « كِلا » هذا هو المشهور ، وقيل : ألفها عن ياءٍ ، وليس بشيءٍ ، وقال الكوفيُّون : هي مثناة لفظاً؛ وتبعهم السهيليُّ مستدلِّين على ذلك بقوله : [ الرجز ]
3401- في كِلْتِ رِجْليْهَا سُلامَى وَاحِده .. . .
فنطق بمفردها؛ ولذلك تعربُ بالألف رفعاً والياء نصباً وجراً ، فألفها زائدة على ماهية الكلمة كألف « الزيدان » ÷ ولامها محذوفة عند السهيليِّ ، ولم يأت عن الكوفيين نصٌّ في ذلك ، فاحتمل أن يكون الأمر كما قال السهيليُّ ، وأن تكون موضوعة على حرفين فقط ، لأنَّ مذهبهم جواز ذلك في الأسماءِ المعربة .
قال أبو الهيثن الرَّازيُّ وأبو الفتح الموصليُّ ، وأبو عليٍّ الجرجانيُّ إن « كلا » اسم مفرد يفيد معنى التثنية ، ووزنه فعل ، ولامه معتلٌّ بمنزلة لام « حِجَى ورِضَى » وهي كلمة وضعت على هذه الخلقة يؤكد بها الاثنان خاصة ، ولا تكون إلا مضافة؛ لأنَّها لو كانت تثنية ، لوجب أن يقال في النَّصب والخفض : « مَرَرْتُ بِكلَي الرَّجليْنِ » بكسر الياء ، كما يقال : « بَيْنَ يَدي الرَّجُل : و » مِنْ ثُلُثي اللَّيْلِ « و » يَا صَاحِبَي السِّجْنِ « و » طَرفي النَّهارِ « ، ولما لم يكن كذلك ، علمنا أنَّها ليست تثنية ، بل هي لفظة مفردة ، وضعت للدلالة على التثنية ، كما أنَّ لفظة » كُل « اسمٌ واحدٌ موضوع للجماعة ، فإذن أخبرت عن لفظه ، كما تخبر عن الواحد؛ كقوله تعالى : { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً } [ مريم : 95 ] ، فكذا إن أخبرت عن » كِلاَ « أخبرت عن واحدٍ ، فقلت : كلا أخويك كان قائماً .
قال الله تعالى : { كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا } [ الكهف : 33 ] . ولم يقل : » آتَنَا « .
وحكمها : أنَّها متى أضيفت إلى مضمرٍ أعربت إعراب المثنى ، أو إلى ظاهر ، أعْرِبت إعراب المقصور عند جمهور العرب ، وبنو كنانة يعربونها إعراب المثنى مطلقاً ، فيقولون : رأيت كِلَى أخوَيْكَ ، وكونها جرتْ مجرى المثنى مع المضمر ، دون الظاهر يطول ذكره .
ومن أحكامها : أنَّها لا تضافُ إلاَّ إلى مثنى لفظاً [ ومعنى نحو : » كلا الرَّجليْنِ « ] ، أو معنى لا لفظاً؛ نحو : » كِلانَا « ولا تضاف إلى مفرَّقين بالعطف نحو » كِلا زَيْدٍ وعمرٍو « إلا في ضرورةٍ؛ كقوله : [ الطويل ]
3402- إنَّ للخَيْرِ وللشَّرِّ مَدًى ... وكِلاَ ذلِكَ وجْهُ وقَبَلْ
والأكثر مطابقتها فيفرد خبرها وضميرها؛ نحو : كلاهما قائم ، وكلاهما ضربته ، ويجوز في قليل : قائمان ، وضربتهما؛ اعتباراً بمعناهما ، وقد جمع الشاعر بينهما في قوله : [ البسيط ]
3404- كِلاهُمَأ حِينَ جَدَّ الجَرْيُ بَيْنهُمَا ... قَد أقْلعَا وكِلاَ أنْفَيهِمَا رَابِي
وقد يتعيَّن اعتبارُ اللفظ؛ نحو : كلانا كفيل صاحبه ، وقد يتعيَّن اعتبارُ المعنى ، ويستعمل تابعاً توكيداً ، وقد لا يتبع ، فيقع مبتدأ ، ومفعولاً به ، ومجرورواً ، و « كِلْتَا » في جميع ما ذكر ك « كِلا » وتاؤها بدل عنواو ، وألفها للتأنيث ، ووزنها فعلى؛ كذكرى ، وقال يونس : ألفها أصلٌ ، وتاؤها مزيدة ، ووزنها فعتلٌ ، وقد ردَّ عليه الناس ، والنسب إليها عند سيبويه : « كِلْوِي » كمذكرها ، وعند يونس : كِلْتَوِيّ؛ لئلا تلتبس ، ومعنى الآية أنَّهما يبلغان إلى حالة الضَّعف والعجز ، فيصيران عندك في ىخر العمر ، كما كنت عندهما في أوَّل العمر .
قوله تعالى : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } قوله : أفّ : اسم فعلٍ مضارعٍ بمعنى أتضجَّر ، وهو قليلٌ؛ فإنَّ أكثر باب أسماء الأفعال أوامر ، وأقل منه اسم الماضي ، وأقلُّ منه اسم المضارع؛ ك « أف » وأوَّه ، أي : أتوجَّع ، وويْ ، أي : أعجبُ ، وكان من حقِّها أن تعرب؛ لوقوعها موقع معربٍ ، وفيها لغاتٌ كثيرة ، وصلها الرُّماني إلى تسع وثلاثين ، وذكر ابنُ عطيَّة لفظة ، بها تمَّت الأربعون ، وهي اثنتان وعشرون مع الهمزة المضمومة : أفُّ ، أفَّ ، أفِّ ، بالتشديد مع التنوين وعدمه ، أفُ ، أفَ ، أفِ ، بالتخفيف مع التنوين وعدمه ، أُفْ بالسكون والتخفيف؛ أُفّْ بالسكون والتشديد ، أفُّهْ ، أُفَّهْ ، أفِّهْ ، أفَّا من غير إمالة ، وبالإمالة المحضة ، وبالإمالة بين بين ، أفُّو أفِّ ] : بالواو والباء ، وإحدى عشرة مع كسرِ الهمزة : إفَّ ، إفِّ : بالتشديد مع التنوين وعدمه ، أَفَ ، إفِ بالتخفيف مع التنوين وعدمه ، إفًّا بالإمالة ، وست مع فتح الهمزة : أفَّ أفِّ؛ بالتشديد مع التنوين وعدمه ، أفْ بالسكون ، أفا بالألف ، فهذه تسعٌ وثلاثون لغة ، وتمام الأربعين « » أفاهُ « بهاء السكت ، وفي استخراجها بغير هذا الضَّابط الذي ذكرته عسر ونصب ، يحتاج في استخراجه من كتب اللغة ، ومن كلام أهلها ، إلى تتبُّعٍ كثيرٍ ، وأبو حيان لم يزدْ على أن قال : » ونحنُ نسردها مضبوطة كما رأيناها « ، فذكرها ، والنُّسَّاخ خالفوه في ضبطه ، فمن ثمَّ جاء فيه الخللُ ، فعدلنا إلى هذا الضَّابط المذكور ، ولله الحمد والمنة .
وقد قرئ من هذه اللغات بسبعٍ : ثلاثٍ في المتواتر ، وأربعٍ في الشاذ ، فقرأ نافع وحفص بالكسر والتنوين ، وابن كثيرٍ ، وابن عامرٍ بالفتح دون تنوين ، والباقون بالكسر دون تنوين ، ولا خلاف بينهم في تشديد الفاء ، وقرأ نافع في رواية : أفٌ بالرفع والتنوين ، وأبو السًّمال بالضمِّ من غير تنوين ، وزيد بن عليِّ بالنصب والتنوين ، وابن عبَّاسٍ : » أفْ « بالسكون .
قال ابن الخطيب : والبحث المشكل ها هنا أنا لما نقلنا أنواعاً من اللغات في هذه اللفظة ، فما السَّبب في أنَّهم تركوا أكثر تلك اللُّغاتِ في قراءةِ هذه اللفظة ، واقتصروا على وجوه قليلة منها؟ .
فصل
في تفسير هذه اللفظة وجوهٌ :
أحدها : قال الفراء : تقول العرب : « لعلَّ فلاناً يَتأفَّفُ من ريحٍ وجدها » معناه : يقول : أفٍّ أفٍّ .
والثاني : قال الأصمعي : الأفُّ : وسخُ الآذانِ ، والتُّفُّ : وسخُ الأظفار ، يقال ذلك عند استقذار الشيء ، ثم كثر ، حتَّى استعملوه عند محلِّ ما يتأذُّون .
الثالث : قال أبو عبيدة - رحمه الله- : أصل الأفِّ والتُّفِّ : الوسخُ على الأصابع إذا فَتلْتَها .
الرابع : الأفُّ : ما يكون في المغابن من الوسخِ ، والتُّفُّ ما يكون في الأصابع من الوسخ .
الخامس : الأفُّ : وسخ الأظافرِ ، والتُّفُّ ما رفعت بيدك من الأرْضِ من شيءٍْ حقيرٍ .
السادس : قيل : أفٍّ : معناه قلًّة ، وهو مأخوذ من الأفيفِ ، وهو الشيء القليل ، وتُفّ : إتباعٌ له؛ كقولهم شيطانٌ ليطانٌ ، خبيثٌ نبيثٌ .
السابع : روى يعلبٌ عن ابن الأعرابيّ : الأفُّ : الضجر .
الثامن : قال القتبيُّ : أصل هذه الكلمة أنَّه إذا سقط عليك ترابٌ أو رمادٌ ، نفخت فيه لتزيله؛ والصَّوْت الحاصل عند تلك النفخةِ هو قولك : أفٍّ ، ثم إنَّهم توسَّعوا ، فذكروا هذه اللفظة عند كلِّ مكروه يصل إليهم .
قال مجاهدٌ : معنى قوله : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } أي : لا تتقذَّرهما : كما أنَّهما لم يتقذَّراك حين كنت تخرى وتبول .
وروي عن مجاهد أيضاً : إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك ، فلا تقل لهما : أفٍّ .
فصل في دلالة الأفّ
قول القائل : « لا تقلْ لفلانٍ : أفٍّ » مثل يضرب للمنعِ من كل مكروهٍ وأذيَّةٍ ، وإن خفَّ وقلَّ .
واختلف الأصوليُّون في أنَّ دلالة هذا اللفظ على المنع من سائر أنواع الإيذاء دلالةٌ لفظيةٌ ، أو دلالة مفهومة بالقياس ، فقيل : إنها دلالة لفظية ، لأنَّ أهل العرف ، إذا قالوا : لا تقل لفلانٍ أفٍّ ، عنوا به أنَّه لا يتعرض له بنوعٍ من أنواع الأذى ، فهو كقوله : فلانٌ لا يملكُ نقيراً ولا قطْمِيراً فهو بحسب العرف يدلُّ على أنه لا يملك شيئاً .
وقيل : إنَّ هذا اللفظ ، إنَّما دلَّ على المنعِ من سائر أنواعِ الأذى بالقياس الجليِّ .
وتقريره : أنَّ الشَّرع ، إذا نصَّ على حكمٍ في صورةٍ ، وسكت عن حكم في صورةٍ أخرى ، فإذا أردنا إلحاق الصُّورة المسكوت عن حكمها بالصورة المذكور حكمها ، فهذا على ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يكون ثبوت ذلك الحكم في محلِّ السكوت أولى من ثبوته في محلِّ الذِّكر كهذه الصورة؛ فإنَّ اللفظ إنما دلَّ على المنع من التأفيف ، والضَّرب أولى بالمنع .
وثانيها : أن يكون الحكم ف يمحلِّ السكوت مساوياً للحكم في محلِّ الذِّكر ، وهذا يسمِّيه الأصوليُّون : « القياس في معنى الأصل » كقوله صلوات الله وسلامه عليه : « مَنْ أعْتقَ شِركاً لهُ في عَبْدٍ ، قُوِّمَ عليه البَاقِي » فإنَّ الحكم في الأمَةِ وفي العبد سواء .
وثالثها : أن يكون الحكم في محلِّ السكوت أخفى من الحكم في محلِّ الذِّكرِ ، وهو أكثر القياساتِ .
إذا عرف هذا ، فالمنع من التأفيف ، إنما دلَّ على المنع من الضرب بالقياس الجليِّ من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى؛ لأنَّ التأفيف غير الضرب ، فالمنع من التأفيف لا يكون منعاً من الضرب ، وأيضاً : المنع من التأفيف لا يستلزم المنع من الضرب عقلاً؛ لأنَّ الملك الكبير ، إذا أخذ ملكاً عظيماً ، كان عدُوًّا له ، فقد يقول للجلاَّد : إيَّاك أن تستخفَّ به أو تشافهه بكلمة موحشةٍ ، لكن اضرب رقبته ، وإذا كان هذا معقولاً في الجملة ، علمنا أنَّ المنع من التأفيف يغاير المنع من الضرب ، وغير مستلزم للمنع من الضرب في الجملة إلاَّ أنَّا علمنا في هذه الصورة : أنَّ المقصود من هذا الكلام المبالغة في تعظيم الوالدين ، لقوله تعالى : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } .
فكانت دلالة المنع من التأفيف على المنع من الضرب بالقياس من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى .
قوله : « ولا تَنْهَرْهُمَا » أي : لا تَزْجُرهما ، والنَّهْرُ : الزَّجْرُ بصياحٍ وغلظة وأصله الظهور ، ومنه « النَّهْر » لظهوره ، وقال الزمخشري - رحمه الله تعالى- : « النَّهْيُ والنَّهْرُ والنَّهْمُ أخَواتٌ » .
ويقال نهرهُ وانتهره ، إذا استقبله بكلامٍ يزجره ، قال تعالى : { وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 10 ] .
فإن قيل : المنع من التأفيف يدلُّ على المنع من الانتهار؛ بطريق الأولى ، فلما قدم المنعه من التأفيف ، كان المنع من الانتهار بعده عبثاً ، ولو فرضنا أنه قدَّم المنع من الانتهار على المنع من التأفيف ، كان مفيداً؛ لأنه يلزم من المنع من الانتهار المنع من التأفيف ، فما السَّبب في رعاية هذا التَّرتيب؟ .
فالجواب : أن المراد من قوله تعالى : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } المنع من إظهار الضَّجر بالقليل والكثير ، والمراد من قوله { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الردِّ عليه .
قوله تعالى : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } لمَّا منعه من القول المؤذي ، وذلك لا يكون أمراً بالقول الطَّيب ، فلا جرم : أردفه بأن أمره بالقول الحسن ، فقال : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } .
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- : هو أن يقول له : يا أبتَاهُ يا أمَّاهُ ، وقال عطاء : هو أن تتكلَّم معهما بشرط ألاَّ ترفع إليهما بصرك .
وقال مجاهد : لا تُسمِّهِمَا و لاتكنِّهما ، فهو كقول عمر - رضي الله عنه- .
فإن قيل : إنَّ إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - كان أعظم النَّاس حلماً وكرماً وأدباً ، فكيف قال لأبيه : « يا آزرُ » على قراءة « لأبِيهِ آزَرُ » بالضمِّ { إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 74 ] فخاطبه بالاسم ، وهو إيذاءٌ له ، ثم نسبه ونسب قومه إلى الضلال ، وعو أعظم أنواع الإيذاء .
فالجواب أن قوله تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَانا } يدلُّ على أنَّ حقَّ الله متقدِّم على حقِّ الأبوين ، فإقدام إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - على ذلك الإيذاء ، إنَّما كان تقديماً لحق الله تعالى على حقِّ الأبوين .
قوله تعالى : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } .
والمقصود المبالغة في التواضع ، وهذه استعارة بليغة .
قال القفَّال - رحمه الله تعالى- : وفي تقريره وجهان :
الأول : أنَّ الطائر ، إذا أراد ضمَّ فرخه إليه للتربية خفض له جناحه ، فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية ، فكأنَّه قال للولد : اكفل والديك؛ بأن تَضمَّهما إلى نفسك ، كما فعلا ذلك بك حال صغرك .
والثاني : أنَّ الطائر ، إذا أراد الطَّيران ، نَشرَ جناحيه ، ورفعهما؛ ليرتفع ، وإذا أراد ترك الطيران ، خفض جناحيه ، فجعل خفض الجناحِ كناية عن التواضع واللِّين .
وقال الزمخشري : « فإن قلت : ما معنى جناح الذلِّ؟ قلت : فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون المعنى : واخفض لهما جناحك ، كما قال : { واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ الحجر : 88 ] فأضافه إلى الذُّلِّ [ أو الذِّلِّ ] ، كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى : واخفض لهما جناحك الذَّليل أو الذَّلول .
والثاني : أن تجعل لذُلِّه أو لذِلِّه جناحاً خفيضاً؛ كما جعل لبيد للشَّمال يداً ، وللقرَّة زماماً ، في قوله : [ الكامل ]
3405- وغَداةِ رِيح قد كَشفْتُ وقَرَّةٍ ... إذْ أصَبْحَتْ بِيدِ الشَّمالِ زِمامُهَا
مبالغة في التذلُّل والتواضع لهما » انتهى ، يعني أنه عبَّر عن اللين بالذلِّ ، ثم استعار له جناحاً ، ثم رشَّح هذه الاستعارة بأن أمره بخفض الجناح .
ومن طريف ما يحكى : أن أبا تمامٍ ، لمَّا نظم قوله : [ الكامل ]
3406- لا تَسْقِني مَاءَ المَلامِ فإنَّني ... صبٌّ قد اسْتعذَبْتُ مَاء بُكائِي
جاءه رجل بقصعةٍ ، وقال له : أعطني شيئاً من ماءِ الملامِ ، فقال : حتى تأتيني بريشةٍ من جناح الذلِّ؛ يريد أن هذا مجاز استعارةٍ كذاك ، وقال بعضهم : [ الطويل ]
3407- أرَاشُوا جَناحِي ثُمَّ بلُّوه بالنَّدى ... فلمْ أسْتطِعْ من أرْضهِمْ طَيرانَا
وقرأ العامة « الذُّلِّ » بضم الذال ، وابن عبَّاسٍ في آخرين بكسرها ، وهي استعارةٌ؛ لأن الذلَّ في الدوابِّ؛ لأنَّه ضدُّ الصعوبة ، فاستعير للأناسيِّ ، كما أنَّ الذل بالضم ضدُّ العزِّ .
قوله : « من الرَّحمة » فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنها للتعليل ، فتتعلق ب « اخفِضْ » ، أي : اخفض من أجل الرَّحمة .
والثاني : أنها لبيان الجنس؛ قال ابن عطيَّة : « أي : إنَّ هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنَّة في النَّفس » .
الثالث : أن تكون في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ « جَنَاح » .
الرابع : أنها لابتداء الغاية .
قوله : « كَمَا ربَّيانِي » في هذه الكاف قولان :
أحدهما : أنها نعتٌ لمصدر محذوف ، فقدَّره الحوفيُّ : « ارحمهما رحمة مثل تربيتهما [ لي ] » . وقدَّره أبو البقاء : « رحمة مثل رحمتهما » كأنَّه جعل التربية رحمة .
والثاني : أنها للتعليل ، أي : ارحمهما؛ لأجل تربيتهما؛ كقوله : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] .
قال القرطبيُّ : ولا يختصُّ برُّ الوالدين بأن يكونا مسلمين ، بل إن كانا كافرين يبرُّهما ، ويحسن إليهما .
قال القفال - رحمه الله- : إنَّه لم يقتصر في تعليم البرِّ بالوالدين على تعليم الأفعال ، بل أضاف إليه تعليم الأقوال ، وهو أن يدعو لهما بالرَّحمة ، فيقول : ربِّ ارحمهما ، ولفظة الرحمة جامعة لكلِّ الخيرات في الدِّين والدنيا ، ثم يقول : { كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } يعني : ربِّ افعل بهما هذا النوع من الإحسان ، كما أحسنا إليَّ في تربيتهما ، والتربية هي التَّنْميَةُ من قولهم : ربَا الشَّيء ، إذا انتفخ قال تعالى : { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ } [ الحج : 5 ] .
واختلف المفسرون في هذه الآية ، فقا لابن عباس - رضي الله عنهما- : إنها منسوخة بقوله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 113 ] فلا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين ، ولا يقول : ربِّ ارحمهما .
وقيل إنها مخصوصة بالمسلمين غير منسوخة ، وهذا أولى من القول الأول؛ لأنَّ التخصيص أولى من النَّسخ .
وقيل : لا نسخ ، ولا تخصيص؛ لأنَّ الوالدين ، إذا كانا كافرين ، فله أن يدعو لهما بالهداية والإرشاد ، وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان .
فصل في أنّ الأمر يفيد التكرار أم لا؟
قوله جلَّ ذكرهُ : { وَقُل رَّبِّ ارحمهما } أمرٌ ، وظاهر الأمر لا يفيد التَّكرار ، فيكفي في العمل بمقتضى هذه الآية ذكر هذا القول مرَّة واحدة .
سئل سفيان : كم يدعو الإنسان لوالديه؟ أفي اليوم مرة ، أو في الشهر ، أو في السَّنة؟ فقال : نرجو أن يجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات؛ كما قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 56 ] فكانوا يرون أن التشهد يجزي عن الصلاة على النبيِّ - صلوات الله وسلامه عليه- .
وكقوله تعالى : { واذكروا الله في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } [ البقرة : 203 ] فهم يكرِّرون في أدبار الصلاة .
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
قال تعالى : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ } من برِّ الوالدين وعقوقهما { إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ } ، أي : إنَّا قد أمرناكم في هذه الآية بإخلاص العبادة لله ، وبالإحسان بالوالدين ، ولا يخفى على الله ما تضمرونه في أنفسكم من الإخلاص وعدم الإخلاص ، فالله تعالى مطلع على ما في نفوسكم .
{ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ } أي : إن كنتم برآء عن جهة الفساد في أحوال قلوبكم ، وكنتم أوَّابين ، أي : راجعين إلى الله ، فإنَّ حكم الله في الأوَّابين أنَّه غفورٌ لهم ، يكفِّر عنهم سيئاتهم .
والأوَّابُ : على وزن فعَّال ، وهو يفيد المداومة والكثرة؛ كقولهم : قتَّال ، وضرَّاب .
قال سعيد بن المسيِّب - رحمه الله- : الأوَّاب الذي يذنب ، ثم يتوب . وقال سعيد بن جبيرٍ : هو الرجَّاع إلى الخير .
وقال ابن عباس - رضي الله عنه- : هو الرجَّاع إلى الله تعالى فيما ينوبه . وعنه أيضاً قال : هم المسبِّحون؛ لقوله تعالى : { ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ } [ سبأ : 10 ] .
وقال قتادة : المصلُّون .
وقيل : هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه ، لا يريد بذلك الخير ، فإنَّه لا يؤخذ به .
وقال عونٌ العقيلي : هم الذين يصلُّون صلاة الضحى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أهل قباء ، وهُم يُصلُّونَ الضحى ، فقال : صلاةُ الأوَّابين إذا رمضت الفصال من الضحى .
ورُوِيَ عن ابن عبَّاس أنه قال : إنَّ الملائكةَ لتحفُّ بالذين يصلُّون بين المغرب والعشاء ، وهي صلاة الأوَّابين .
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
قيل : هذا خطاب للرسول - صلوات الله وسلامه عليه - بأن يؤتي أقاربهُ الحقوق التي وجبت لهم في الفيءِ والغنيمة ، وإخراج حقِّ المساكين وأبناء السَّبيل من هذين المثالين .
وقال الأكثرون : إنه عامٌّ ، لأنه عطفهع لى قوله تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] والمعنى أنَّك بعد فراغك من برِّ الوالدين يجب عليك أن تشتغل ببرِّ سائر الأقاربِ ، الأقرب فالأقرب ، ثم بإصلاح أحوال المساكين ، وأبناء السَّبيل ، واعلم أنَّ قوله تعالى : { وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ } مجملٌ ، ليس فيه بيان أنَّ ذلك الحقَّ ما هو ، فذهب الشافعيُّ - رضي الله عنه - إلى أنَّه لا يجب الإنفاقُ إلاَّ على الولدِ والوالدين ، وقال غيره : يجب الإنفاق على المحارم بقدر الحاجة ، واتفقوا على أنَّ من لم يكن من المحارم كأبناء العمِّ ، فلا حقَّ لهم إلاَّ الموادَّة والمؤالفة في السَّراء والضَّراء ، وأما المسكين وابن السَّبيل ، فتقدَّم وصفهما في سورة التوبة في آية الزَّكاة .
قوله تعالى : { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } : التَّبذِيرُ : التفريق ومنه « البَذْرُ » لأنه يفرقُ في الأرض للزِّراعة ، قال : [ الوافر ]
3408- تَرائِبُ يَسْتَضِيءُ الحليُ فِيهَا ... كجَمْرِ النَّار بُذِّرَ بالظَّلامِ
ثم غلب في الإسراف في النَّفقة .
قال مجاهد : لو أنفق الإنسان ماله كلَّه في الحقِّ ، ما كان تبذيراً .
وسئل ابن مسعود عن التبذير ، فقال : إنفاقُ المالِ في غير حقِّه وأنشد بعضهم : [ الوافر ]
3409- ذَهابُ المَالِ في حَمْدٍ وأجْرٍ ... ذَهابٌ لا يُقَالُ لهُ ذَهابُ
وقال عثمان بن الأسود : كنت أطوفُ مع مجاهد حول الكعبة ، فرفع رأسه إلى أبي قبيسٍ ، وقال : لو أنَّ رجلاً أنفق مثل هذا في طاعة الله ، لم يكن من المسرفين ، ولو أنفق درهماً واحداً في معصية الله ، كان من المسرفين .
وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسعدٍ - رضي الله عنه - وهو يتَوضَّأ ، فقال : مَا هَذَا السَّرف يا سعدُ؟ فقال : أفِي الوَضُوءِ سرفٌ؟ قال : « نعم ، وإنْ كُنْتَ على نَهْرٍ جارٍ » .
ثم نبه تعالى على قبح التبذير بإضافته إيَّاه إلى أفعال الشياطين ، فقال - جلَّ ذكره - : { إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين } والمراد من هذه الأخوة التشبيه بهم في هذا الفعل القبيح؛ لأنَّ العرب يسمُّون الملازم للشيء أخاً له ، فيقولون : فلانٌ أخو الكرم والجود ، وأخو السَّفر ، إذا كان مواظباً على هذه الأفعال .
وقيل : قوله : { إِخْوَانَ الشياطين } أي : قرناءهم في الدنيا والآخرة كقوله تعالى { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] .
وقال تعالى : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] أي : قرناءهم من الشياطين ، ثم قال تعالى : { وَكَانَ الشيطان لِرَبِّهِ كَفُوراً } أي : جحوداً للنِّعمة؛ لأنه يستعمل بدنه في المعاصي والإفساد في الأرض ، والإضلال للنَّاس ، وكذلك من رزقه الله مالاً أو جاهاً ، فصرفه إلى غير مرضاة الله ، كان كفوراً لنعمة الله؛ لأنَّه موافق للشياطين في الصِّفة والفعل ، ثم إن الشياطين كَفُورُونَ بربهم ، فكذلك المبذِّر أيضاً كفورٌ بربه .
قال بعض العلماء : خرجت هذه الآية على وفقِ عادة العرب؛ لأنَّهم كانوا يجمعون الأموال بالنَّهب والغارة ، ثم ينفقونها في طلب الخيلاء والتفاخر ، وكان المشركون من قريشٍ وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدُّوا عن الإسلام وتوهين أهله وإعانة أعدائه ، فنزلت هذه الآية تنبيهاً على قبح أفعالهم .
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
نزلت في مهجع ، وبلال ، وصهيب ، وسالم ، وخبَّاب ، وكانوا يسألون النبيَّ صلى الله عليه وسلم في الأحايين ما يحتاجون إليه ، ولا يجد ، فيعرض عنهم حياء منهم ، ويمسك ن القول ، فنزلت : { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ } أي : وإن أعرضت عنهم عن هؤلاء الذين أمرتك أن تؤتيهم { ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا } انتظار رزق من الله ترجوه ، أي : يأتيك { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } ليِّناً ، وهو العدةُ ، أي : عدهم وعداً جميلاً .
قوله تعالى : { ابتغآء رَحْمَةٍ } : يجوز أن يكون مفعولاً من أجله ، ناصبه « تُعرضنَّ » وهو من وضع المسبَّب موضع السبب ، وذلك أنَّ الأصل : وإمَّا تعرضنَّ عنهم لإعسارك ، وجعله الزمخشريُّ منصوباً بجواب الشرط ، أي : فقل لهم قولاً سهلاً؛ ابتغاء رحمة ، وردَّ عليه أبو حيَّان : بأنَّ ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها؛ نحو : « إن يقُم زيدٌ عمراً فاضْرِبْ » فإن حذفت الفاء جاز عند سيبويه والكسائيِّ؛ نحو : « إنْ يقُمْ زيدٌ عمراُ يَضْرِبْ » فإن كان الاسمُ مرفوعاً؛ نحو « إنْ تَقُمْ زيدٌ يَقُمْ » جاز ذلك عند سيبويه على أنَّه مرفوع بفعلٍ مقدَّرٍ يفسِّره الظاهر بعده ، أي : إن تقم ، يَقُم زيدٌ يَقُمْ . ومنع من ذلك الفراء وشيخه .
وفي الردِّ نظر؛ لأنَّه قد ثبت ذلك؛ لقوله تعالى : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ } [ الضحى : 9 ] الآية؛ لأنَّ « اليتيمَ » وما بعده منصوبان با بعد فاءِ الجوابِ .
وقيل : إنه في موضع الحالِ من فاعل « تُعرِضنَّ » .
قوله تعالى : { مِّن رَّبِكُمْ } يجوز أن يكون صفة ل « رحمةٍ » ، وأن يكون متعلقاً ب « تَرْجُوها » أي : ترجُوهَا « يجوز أن يكون حالاً من فاعل » تُعرِضنَّ « ، وأن يكون صفة ل » رَحمةٍ « .
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
قوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً } الآية .
لمَّا أمره بالإنفاق في الآية المتقدمة ، علَّمه في هذه الآية أدب الإنفاق .
واعلم أنه تعالى وصف عباده المؤمنين ، فقال تعالى { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] .
فها هنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف ، فقال تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ } أي لا تمسك عن الإنفاق ، بحيث تضيف على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرَّحم ، أي : لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط ، { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } أي : ولا تتوسَّع في الإنفاق توسُّعاً مفرطاً بحيث لا يبقى في يدك شيءٌ .
والحكماءُ ذكروا في كتب الأخلاق أنَّ لكلِّ خلق طرفي إفراطٍ وتفريطٍ ، وهما مذمومان ، والخلق الفاضل هو العدل والوسط ، فالبخل إفراطٌ في الإمساك ، والتبذير إفراطٌ في الإنفاقِ ، وهما مذمومان ، والمعتدل الوسطُ .
روى جابرٌ - رضي الله عنه - قال : « أتى صبي فقال : يا رسول الله ، إنَّ أمِّي تَسْتَكسِيكَ دِرْعاً ، ولم يكُنْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ قميصهُ ، فقال للصبيِّ : من ساعةٍ إلى ساعةٍ يظهرُ كذا فعدِّ وقتاً آخر ، فعاد إلى أمِّه فقالت : قل له : إنَّ أمِّي تَسْتكسِيكَ الدِّرع الذي عليك ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دَارهُ ، ونزعَ قَمِيصهُ ، فأعطاهُ ، فقعد عُرياناً ، فأذَّنَ بلالٌ بالصَّلاةِ ، فانتظره ، فلم يخرج ، فشغل قُلوبَ أصحابه ، فدخل عليه بعضهم فَرآهُ عُرْيَاناً » ، فأنزلَ الله تعالى { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ } يعني لا تمسك يدك عن النفقةِ في الحقِّ كالمغلولة يده ، ولا يقدر على مدِّها ، « ولا تَبْسُطهَا » بالعطاء « كُلَّ البَسْطِ » فتعطي جميع ما عندك .
و { كُلَّ البسط } : نصب على المصدر؛ لإضافتها إليه ، و « فَتقْعُدَ » نصب على جواب النهي وتقدَّم الكلام عليه ، و « مَلُوماً » إمَّا حالٌ ، وإمَّا خبر كما تقدَّم؛ ومعنى كونه ملوماً أنه يلومُ نفسه ، وأصحابه أيضاً يلومونه على تضييع المالِ وإبقاءِ الأهل في الضَّرر والمحنة ، أو يلومونه بالإمساك إذا سألوه ولم يعطهم ، وأمَّا كونه محسوراً ، فقال الفراء : العرب تقول للبعير : محسورٌ ، إذا انقطع سيره ، وحسرت الدابَّة ، إذا سيَّرتها حتى ينقطع سيرها ، ومنه قوله تعالى : { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الملك : 4 ] .
وقال قتادة - رحمه الله- : محسوراً نادماً على ما فرط منك ويجمع الحسيرُ على حَسْرَى ، مثل : قَتْلَى وصَرْعَى .
قال الشاعرك [ الطويل ]
3410- بِهَا جِيَفُ الحَسْرى ، فأمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ وأمَّا جِلدُهَا فَصلِيبُ
وحسر عن كذا ، كشف عنه كقوله [ الطويل ]
3411- . . يَحْسُرِ المَاءَ تَارةً ..
والمحسور : المنقطع السَّير ، ومنه حسرت الدَّابة ، قطعت سيرها ، وحسير أي : كالٌّ : تعبان بمعنى : محسور .
قال القفال : شبَّه حال من أنفق كلَّ ماله بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته؛ لأنَّ ذلك المقدار من المال ، كأنَّه مطيَّة تحمل الإنسان إلى آخر السَّفر ، كما أن ذلك البعير يحمله إلى آخر منزله ، فإذا انقطع ذلك البعير بقي في وسط الطَّريق عاجزاً متحيِّراً ، فكذلك إذا أنفق الإنسان مقدار ما يحتاج إليه في مدَّة شهر ، بقي في وسط ذلك الشهر عاجزاً متحيراً ، ومن فعل هذا ، لحقه اللَّوم من أهله والمحتاجين إلى إنفاقه عليهم بسبب سوء تدبيره ، وترك الحزم في مهمَّات معاشه .
ثم قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق } أي يوسِّعه على البعض « ويَقْدرُ » ، أي : يضيِّق على البعض بحسبِ ما يعلم من المصالح .
قال تعالى : { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ } [ الشورى : 27 ] والقدر في اللغة التَّضييقُ . قال تعالى : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] . { وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } [ الفجر : 16 ] أي : ضيَّق .
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
قوله تعالى : { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } الآية في تقرير النظم وجوه :
الأول : أنه لما بيَّن في الآية الأولى : أنَّه المتكفِّل بأرزاق العباد؛ حيث قال : { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } [ الإسراء : 30 ] قال عزَّ وجلَّ : { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } .
الثاني : أنه تعالى ، لمَّا علم كيفية البرِّ بالوالدين في الآية المتقدمة ، علم في هذه الآية كيفية البرِّ بالأولاد ، ولهذا قيل : إنَّ الأبرار إنما سمُّوا بذلك؛ لأنهم برُّوا الآباء والأبناء؛ فوجب برُّ الآباء مكافأة على ما صدر منهم من أنواع البرِّ؛ ووجب برُّ الأولاد ، لأنَّهم في غاية الضعف والاحتياج ولا كافل لهم غير الوالدين .
الثالث : أنَّ امتناع الأولاد من برِّ الآباء يوجب خراب العالم؛ لأنَّ الآباء ، إذا علموا ذلك ، قلت رغبتهم في تربية الأولاد؛ فيلزم خراب العالم ، وامتناع الآباء من البرِّ أيضاً كذلك .
الرابع : أنَّ قتل الأولادِ ، إن كان لخوفِ الفقر ، فهو سوء الظنِّ بالله تعالى ، وإن كان لأجل الغيرة على البناتِ فهو سعيٌ في تخريب العالم ، فالأوَّل ضدُّ التعظيم لأمر الله تعالى ، والثاني ضدُّ الشفقةِ على خلق الله ، وكلاهما مذمومان .
الخامس : أنَّ قرابة الأولاد قرابةُ الجزئيَّة والبعضيَّة ، وهي من أعظم الموجبات للمحبَّة ، فلو لم تحصل المحبَّة دلَّ ذلك على غلظٍ شديد في الرُّوح ، وقسوة في القلب ، وذلك من أعظم الأخلاق الذميمة ، فرغَّب الله في الإحسان إلى الأولاد؛ إزالة لهذه الخصلة الذميمة .
فصل
قرأ العامة « تَقْتلُوا » بالتخفيف ، وقرأ ابن وثاب والأعمش « تُقتِّلُوا » بالتشديد و « خِشْيَة » بكسر الخاء .
قال المفسِّرون : إنَّ العرب كانوا يقتلون البنات؛ لعجز البنات عن الكسب ، وقدرة البنين عليه؛ بسبب إقدامهم على النَّهب والغارة ، وأيضاً : كانوا يخافون أن ينفر الأكفاء عنها ، وعن الرغبة فيها ، فيحتاجون إلى إنكاحها من غير الأكفاء ، وفي ذلك عارٌ شديدٌ .
واعلم أن قوله تعالى : { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ } عامٌّ في الذكور والإناث ، أي : أنَّ الموجب للشَّفقة والرحمة هو كونه ولداً ، وهذا الوصف يشترك فيه الذكور والإناث ، وأما ما يخاف من الفقر في البنات ، فقد يخاف أيضاً في العاجز من البنين ، ثم قال تعالى : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } أي أنَّ الأرزاق بيد الله ، فكما يفتحُ أبواب الرِّزق على الرِّجال ، فكذلك يفتح أبواب الرزق على النِّساء .
قوله تعالى : { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } .
قرأ ابن ذكوان : « خَطَأ » بفتح الخاء والطاء من غير مدٍّ ، وابن كثيرٍ بكسرِ الخاءِ والمدِّ ، ويلزم منه فتح الطاء ، والباقون بكسر الخاء وسكون الطاء .
فأمَّا قراءة ابن ذكوان ، فخرَّجها الزجاج على وجهين :
أحدهما : أن يكون اسم مصدر؛ من أخطأ يخطئ خطأً ، أي : إخطاءً ، إذا لم يصبْ .
والثاني : أن يكون مصدر خطئ يَخطأ خطأ ، إذا لم يصب أيضاً ، وأنشد : [ الكامل ]
3412- والنَّاسُ يَلحَوْنَ الأميرَ إذَا هُمُ ... خَطِئُوا الصَّوابَ ولا يُلامُ المُرشِدُ
والمعنى على هذين الوجهين : أنَّ قتلهم كان غير صوابٍ ، واستبعد قوم هذه القراءة قالوا : لأنَّ الخطأ ما لم يتعمَّد ، فلا يصحُّ معناه .
وخفي عنهم : أنه يكون بمعنى أخطأ ، أو أنه يقال : « خَطِئَ » إذا لم يصب .
وأمَّا قراءة ابن كثير ، فهي مصدر : خَاطَأ يُخاطِئُ خطاءً؛ مثل : قاتل يُقاتلُ قتالاً ، قال أبو عليٍّ : « هي مصدر خَاطَأ يُخاطِئُ ، وإن كنَّا لم نجد » خَاطَأ « ولكن وجدنا تخاطأ ، وهو مطاوع » خَاطَأ « فدلَّنا عليه ، ومنه قول الشاعر : [ المتقارب ]
3413- تَخاطَأتِ النَّبلُ أحْشاءَهُ ... وأخَّرَ يَومِي فَلمْ يَعْجلِ
وقال الآخر : [ الطويل ]
3414- تَخاطَأهُ القنَّاصُ حتَّى وجَدتُهُ ... وخُرطُومهُ في مَنْقعِ المَاءِ رَاسِبُ
فكأنَّ هؤلاء الذين يقتلون أولادهم يخاطئون الحقَّ و العدل » .
وقد طعن قومٌ على هذه القراءة حتَّى قال أبو جعفرٍ - رحمه الله- : « لا أعرفُ لهذه القراءة وجهاً » ولذلك جعلها أبو حاتمٍ غلطاً .
قال شهاب الدين : قد عرفهُ غيرهما ، ولله الحمد .
وأما قراءة الباقين فواضحة؛ لأنَّها من قولهم : خَطِئَ يَخطَأ خِطئاً ، كأثِمَ يَأثمُ إثماً ، إذا تعمَّد الكذب .
وقرأ الحسن : « خَطَاء » بفتح الخاء والمدِّ ، وهو اسم مصدر « أخْطَأ » كالعطاءِ اسم للإعطاء .
وقرأ أيضاً « خطَا » بالقصر ، وأصله « خَطَأ » كقراءةِ ابن ذكوان ، إلاَّ أنه سهَّل الهمزة بإبدالها ألفاً ، فحذفت كعصا .
وأبو رجاءٍ والزهريُّ كذلك ، إلاَّ أنهما كسرا الخاء ك « زِنَى » وكلاهما من خَطِئ في الدين ، وأخطأ في الرَّأي ، وقد يقام كلٌّ منهما مقام الآخر .
وقرأ ابن عامرٍ في رواية « خَطْئاً » بالفتح والسكون والهمز ، مصدر « خَطِئ » بالكسر . قال المفسِّرون : معنى الكلِّ واحدٌ ، أي : إثماً كبيراً .
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
لمَّا أمره بالأشياء الخمسة المتقدِّم ذكرها ، وحاصلها يرجع إلى شيئين : التعظيم لأمر الله تعالت ، والشَّفقة على خلق الله سبحانه - جلَّ ذكره - لا إله إلاَّ هو ، أتبعها بالنَّهي عن أشياء أخر .
أولها : أنه تعالى نهى عن الزّنا .
والعامة على قصره ، وهي اللغة الفاشية ، وقرئ بالمدِّ ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه لغة في المقصور .
والثاني : أنه مصدر زانى يُزانِي؛ كقاتل يقاتل قتالاً؛ لأنه يكون بين اثنين ، وعلى المدِّ قول الفرزدق : [ الطويل ]
3415- أبَا خَالدٍ من يَزْنِ يُعرَفْ زِنَاؤهُ ... ومَنْ يَشرَبِ الخُرطُومَ يُصبِكْ مُسَكَّرا
وقول الآخر : [ الكامل ]
3416- كَانَتْ فَريضَةُ ما تَقُولُ كَمَا ... كَانَ الزِّناءُ فَريضةَ الرَّجْمِ
وليس ذلك على باب الضرورة ، فثبوته قراءة في الجملة .
وقوله تعالى : { وَسَآءَ سَبِيلاً } . قال ابن عطيَّة : « وسبيلاَ : نصبٌ على التمييز ، أي : وسَاءَ سَبِيلاً سَبِيلهُ » . وردَّ أبو حيَّان هذا : بأنَّ قوله نصبٌ على التَّمييز يقتضي أن يكون الفاعل ضميراً مفسَّراص بما بعده من التمييز؛ فلا يصح تقديره : سَاءَ سبيلهُ سَبِيلاً؛ لأنه ليس بمضمرٍ لاسم الجنسِ .
فصل
قال القفال : إذا قيل للإنسان : لا تقرب هذا ، فهو آكد من أن تقول : لا تفعله ، ثم علَّل هذا النَّهي بكنه { فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } .
واعلم أنَّ الزِّنا اشتمل على أنواع من المفاسد .
أولها : اختلاط الأنساب واشتباهها ، فلا يعرف الإنسان أنَّ الولد الذي أتت به الزانية منه أو من غيره ، فلا يقوم بتربيته ، وذلك يوجب ضياع الأولاد ، وانقطاع النَّسل ، وخراب العالم .
وثانيها : أنه إذا لم يوجد سبب شرعيٌّ يوجب اختصاص هذا الرجل بهذه المرأة ، لم يبق إلاَّ التوائب والتقاتل ، وقد وجد وقوع القتل الذَّريع بسبب زنا المرأة الواحدة .
وثالثها : أنَّ المرأة ، إذا زنت وتمرَّنت عليه ، يستقذرها كل ذي عقل سليم ، وحينئذٍ : لا تحصل الألفة والمحبَّة ، ولا يتم السَّكن والازدواج ، وينفر طباعُ أكثر الخلق عن مقاربتها .
ورابعها : أنَّه إذا انفتح باب الزِّنا ، لا يبقى لرجلٍ اختصاص بامرأةٍ ، بل كل رجل يمكنه التوائب على أيِّ امرأة أرادت ، وحينئذ : لا يبقى بين نوع الإنسان وسائر البهائم فرقٌ في هذا .
وخامسها : أنه ليس المقصود من المرأة مجرّد قضاء الشهوة ، بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل وإعداد مهمَّاته من المطعوم والمشروب والملبوس ، وحفظ البيت ، والقيام بأمُور الأولاد والخدم ، وهذه المهماتُ لا تتم إلاَّ إذا كانت المرأة مقصورة الهمَّة على هذا الرجل الواحد ، منقطعة الطَّمع عن سائر الرِّجال ، وذلك لا يحصل إلاَّ بتحريم الزِّنا ، وسدّ هذا الباب .
وسادسها : أنَّ الوطس يوجب الذلَّ الشديد ، ويدلُّ على ذلك وجوهٌ :
الأول : أن أعظم أنواع الشَّتم عند النَّاس ذكر ألفاظ الوقاع ، ولولا أن الوطء يوجبُ الذلَّ وإلاَّ لما كان الأمر كذلك .
الثاني : أنَّ جميع العقلاء يستنكفُون من ذكر أزواج بناتهم وأخواتهم وأمهاتهم ، ولولا أن الوطء ذلٌّ ، وإلاَّ لما كان كذلك .
الثالث : أن جميع العقلاء لا يقدمون على الوطء إلا خفية في الأوقات التي لا يطَّلع عليهم أحدٌ ، ولولا أنه موجبٌ للذلِّ ، وإلا لما كان الأمر كذلك ، فلما كان الوطء ذلاًّ ، كان السَّعي في تقليله موافقاً للعقول ، فاقتصار المرأة الواحدة على الرجل الواحد سعيٌ في تقليل ذلك العمل ، وما فيه ن الذلِّ يجبر بالمنافع الحاصلة .
وأمَّا الزِّنا ، فإنه فتح لباب العمل القبيح ، ولا يجبر بشيءٍ من المنافع ، فيبقى على أصل المنع .
وإذا ثبت ذلك ، فنقول : إنه تعالى وصف الزِّنا بصفاتٍ ثلاثة : كونه { فَاحِشَةً وَمَقْتاً } [ النساء : 22 ] في آية أخرى { وَسَآءَ سَبِيلاً } أما كونه فاحشة؛ فلاشتماله على الأمور المذكورة ، وأمَّا المقت فلأنَّ الزانية تصير ممقوتة مكروهة؛ لما ذكرنا .
وأما كونه ساء سبيلاً : فهو ما ذكرنا من أنَّه لا يبقى فرقٌ بين الإنسان وبين البهائن في عدم اختصاص الذكران بالإناث ، وبقاء الذلِّ والعيب والعارِ على المرأة من غير أن يجبر بشيءٍ من المنافع .
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
فقوله جلَّ ذكره : { إِلاَّ بالحق } أي : إلا بسبب الحقِّ ، فيتعلق ب « لا تَقْتلُوا » ويجوز أن يكون حالاً من فاعل « لا تَقْتلُوا » أو من مفعوله ، أي : لا تقتلوا إلا ملتبسين بالحقِّ أو إلاَّ ملتبسة بالحقِّ ، ويجوز أن يكون نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : إلاَّ قتلاً ملتبساً بالحقِّ .
فصل
والحقُّ المبيح للقتل هو قوله - صلوات الله وسلامه عليه- : « لا يحلُّ دمُ امرئ مسلم إلاَّ بإحدى ثلاثٍ : رجُلٌ كفر باللهِ بعد إيمانه ، أو زنى بعد أحصانهِ ، أو قَتلَ نفساً بِغيْرِ نَفْسٍ » .
فإن قيل : إنَّ أكبر الكبائر بعد الكفر بالله سبحانه وتعالى هو القتل ، فما السبب في أنه تعالى بدأ بالنَّهي عن الزنا ، ثم نهى بعده عن القتل .
فالجواب : أنَّا بيَّنا أنَّ فتح باب الزِّنا يمنعُ دخول الإنسان في الوجود ، والقتل يدلُّ على إعدامه ، ودخوله ف يالوجود مقدَّم على إعدامه بعد وجوده؛ فلهذا ذكر الزِّنا أولاً ، ثم ذكر بعده القتل .
واعلم أنَّ الأصل في القتل هو التحريم ، والحلُّ إنما ثبت بسببٍ عارضٍ؛ فذلك نهى عن القتل بناء على حكم الأصل ، ثم استثنى منه الحالة التي يباح فيها القتل ، وهو عند حصول الأسباب العرضيَّة ، فقال : { إِلاَّ بالحق } ويدل على أنَّ الأصل في القتل التحريم وجوهٌ :
أحدها : أن القتل ضررٌ ، والأصل في المضارِّ الحرمة ، قال - صلوات الله وسلم عليه- : « لا ضَررَ ، ولا ضِرارَ » .
وثانيها : قوله صلى الله عليه وسلم : « الآدَمِيُّ بُنيَانُ الربِّ ، مَلعُونٌ من هَدمَ بُنْيانَ الربِّ » .
وثالثها : أن الآدميَّ خلق للعبادة ، لقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] والعبادة لا تتمُّ إلاَّ بعدم القتل .
ورابعها : أنَّ القتل إفساد ، فحرم؛ لقوله تعالى : { وَلاَ تُفْسِدُواْ } [ الأعراف : 56 ] .
وخامسها : إذا تعارض دليل تحريم القتل ، ودليل إباحته ، فالإجماع على أنَّ جانب الحرمة راجح ، ولولا أنَّ مقتضى الأصل هو التحريمُ ، وإلاَّ لكان ذلك ترجيحاً لا لمرجحٍ ، وهو محالٌ .
وإذا علم أنَّ الأصل في القتل هو التحريم ، فقوله : « ولا تَقْتلُوا » نهيٌ وتحريمٌ . وقوله : « حَرَّمَ الله » إعادة لذكر التحريم على سبيل التاكيد ، ثم استثنى عنه الأسباب العرضيَّة ، فقال : إلاَّ بالحقِّ ، وها هنا طريقان :
الطريق الأول : أن قوله « إلاَّ بالحقِّ » مجمل ليس فيه بيان أن ذلك الحقَّ ما هو ، ثم قال تعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } أي : في حقِّ استيفاء القصاص؛ فوجب أن يكون المراد من الحقِّ هذه الصورة فقط ، فتكون الآية نصًّا صريحاً في تحريم القتل ، إلا بهذا السبب الواحد .
الطريق الثاني : أن نقول : دلَّت السنة على أنَّ ذلك الحقَّ هو أحد الأمور الثلاثة المتقدَّمة في الخبر .
واعلم أن الخبر من باب الآحادِ ، فإن قلنا : إنَّ قوله تعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } بيان لذلك الحقِّ ، كانت الآية صريحة في أنه لا يحلُّ القتل إلاَّ بهذا السبب الواحد ، وحينئذٍ : يصير الخبر مخصِّصاً للآية ، ويصير فرعاً لقولنا بصحَّة تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد ، وإن قلنا بأن قوله تعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } ليس بياناً لذلك الحقِّ ، فحينئذ يصير الخبر مفسِّراً للحقِّ المذكور في الآية ، وعلى هذا لا يصير فرعاً على جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد ، وهو تنبيهٌ حسنٌ .
فصل في ظاهر الآية
ظاهر الآية يقتضي أنَّه لا سبيل لحلِّ القتل إلاَّ قتلُ المظلوم ، وظاهر الخبر يقتضي ضمَّ شيئين آخرين إليه ، وهو الكفر بعد الإيمان ، والزِّنا بعد الإحصان ، ودلَّت آية أخرى على حصول سبب رابع ، وهو قوله تعالى : { إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ } [ المائدة : 33 ] ودلَّت آية أخرى على سبب خامسٍ ، وهو الكفر الأصلي ، قال الله تعالى : { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } [ التوبة : 29 ] .
وقال تعالى : { واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ النساء : 89 ] .
واختلف الفقهاء في أشياء أخرى :
منها : تاركُ الصلاة ، فعند أبي حنيفة - رضي الله عنه - لا يقتل ، وعند الشافعي وأحمد - رضي الله عنهما- : يقتل .
وثانيها : اللاَّئط : فعند الشافعيِّ : يقتل ، وعند بعضهم : لا يقتل .
وثالثها : السَّاحر ، إذا قال : قتلتُ بسحري فلاناً ، فعند أبي حنيفة : لا يقتل ، وعند بعضهم : يقتل .
ورابعها : القتل بالمثقَّل عند الشافعيِّ : يوجب القصاص ، وعند أبي حنيفة : لا يوجب .
وخامسها : الانتماع من أداء الزَّكاة ، اختلفوا فيه في زمان أبي بكر - رضي الله عنه- .
وسادسها : إتيانُ البهيمة أوجب فيه بعضهم القتل ، ولم يوجبه الباقون ، وحجَّة القائلين بعدم وجوب القتل في هذه الصورة هو أنَّ هذه الآية صريحة في تحريم القتل على الإطلاق إلاَّ لسببٍ واحدٍ ، وهو قتل المظلوم ، ففيما عداه يجب البقاء على أصل التحريم .
وأيضاً : فالخبر المذكور يوجب حصر أسباب الحلِّ في تلك الثلاثة ، ففيما عداها يجبُ البقاء على أصل الحرمة ، ثم قالوا : وبهذا النصِّ قد تأكَّد بالدلائل الكثيرة الموجبة لحرمة الدَّم على الإطلاق ، فترك العمل بهذه الدلائل لا يكون إلا لمعارضٍ ، وذلك المعارض : إمَّا أن يكون نصّاً متواتراً أو نصّاً من باب الآحادِ ، أو قياساً ، والنص المتواترُ مفقودٌ ، وإلاَّ لما بقي الخلافُ .
وأما النصُّ من باب الآحادِ ، فهو مرجوحٌ بالنسبة غلى هذه النصوص الكثيرة؛ لأنَّ الظنَّ المستفاد من النصوصِ الكثيرة أعظم من الظنِّ المستفاد من خيرٍ واحدٍ .
وأما القياسُ : فلا يعارض النصَّ ، فثبت بمقتضى هذا الأصل القويِّ : أنَّ الأصل في الدماءِ الحرمةُ إلاَّ في الصور المعدودة .
قوله سبحانه وتعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } فيه بحثان :
البحث الأول : هذه الآية تدلُّ على أنَّه أثبت لوليِّ الدم سلطاناً .
فأمَّا بيان هذه السلطنة فيماذا ، فليس في قوله : { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } فلا ينبغي أن يسرف ذلك القاتل الظالمُ في ذلك القتل؛ لأنَّ ذلك المقتول منصورٌ؛ لثبوت السَّلطنة لوليه .
والطريق الثاني : أن تلك السلطنة مجملة ، ثم فسِّرت بالآية والخبر .
أما الآية : فقوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } [ البقرة : 178 ] إلى قوله : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } [ البقرة : 178 ] .
وقد بينَّا على أنَّها تدل على أن الواجب تخيير الوليِّ بين القصاص والدية .
وأمَّا الخبر : فقوله - صلوات الله وسلامه عليه - يوم الفتح « مَن قُتِلَ لَهُ قَتيلٌ ، فهو بِخَيْرِ النَّظرينِ : إمَّا أن يُقتلَ ، وإمَّا أن يُفْدَى » .
فعلى هذا : فمعنى قوله : { فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل } أنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص ، وسلطنة استيفاء الدِّية ، إن شاء ، قال بعده { فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل } أي أنَّ الأولى ألاَّ يقتصّ ، ويكتفي بأخذ الدية أو يعفو ، كقوله تعالى : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] .
والبحث الثاني : ذكر كونه مظلوماً بصيغة التنكير ، والتنكير يدلُّ على الكمالِ ، فما لم يكن المقتول كاملاً في وصف المظلوميَّة لم يدخل تحت هذا النصِّ ، فالمسلمُ إذا قتل الذميَّ ، لم يدخل تحت هذه الآية؛ لأنَّ الذميَّ مشركٌ ، والمشرك يحلُّ دمه .
ويدلُّ على أن الذمِّي مشركٌ قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ النساء : 116 ] .
حكم بأنَّ ما سوى الشِّرك يغفر في حقِّ البعض ، فلو كان كفر اليهوديِّ والنصرانيِّ مغايراص للشِّرك ، وجب أن يغفر في حقِّ بعض الناس لهذه الآية ، فلما لم يغفر في حقِّ أحد ، دلَّ على أنّ كفرهم شركٌ ، ولأنه تعالى قال : { لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [ المائدة : 73 ] فهذا التثليثُ الذي قال به هؤلاء : إمَّا أن يكون تثليثاً في الصفات ، وهو باطلٌ؛ لأنَّ ذلك هو الحق ، وهو مذهب أهل السنة والجماعة ، فلا يمكنُ جعله سبباص للكفر ، وإمَّا أن يكون تثليثاً في الذَّوات ، وذلك هو الشرك ، فثبت أن الذميَّ مشركٌ ، والمشرك يجب قتله؛ لقوله تعالى : { وَقَاتِلُواْ المشركين } [ التوبة : 36 ] فاقتضى هذا الدليل إباحة دمِ الذميِّ ، فإن لم تثبت الإباحة ، فلا أقلَّ من حصول شبهة الإباحة .
وإذا ثبت هذا ، ثبت أنه ليس كاملاً في المظلوميَّة ، فلم يندرج تحت قوله : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } .
وأما الحرُّ ، إذا قتل عبداً ، فيدخل تحت هذا ، إلاَّ أنَّا بيَّنا أن قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد } [ البقرة : 178 ] يدلُّ على المنع من قتل الحرِّ بالعبد ، وتلك الآية أخص من قوله تعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } والخاصُّ مقدَّم على العام؛ فثبت أن هذه الآية لا يجوز التمسُّك بها في مسألة أنَّ موج بالعمد هو القصاص ، ولا في وجوب قتل المسلم بالذميِّ ، ولا في وجوب قتل الحرِّ بالعبد .
فصل في المراد بالإسراف
في معنى الإسراف وجوهٌ :
الأول : أن يقتل القاتل وغير القاتل ، وذلك أنَّ أولياء المقتول كانوا إذا قتل واحدٌ من قبيلة شريفةٍ ، قتلوا خلقاً من القبيلة الدنيئة ، فنهى الله عنه وحكم بقتل القاتل وحده .
الثاني : أنَّ الإسراف هو ألا يرضى بقتل القاتل؛ فإنَّ أهل الجاهلية كانوا يقصدون أشرف القبائل ، ثمَّ يقتلون منه قوماً معيَّنين ، ويتركون القاتل .
والثالث : الإسرافُ هو ألاَّ يكتفي بقتل القاتل ، بل يقتله ثم يمثِّل به ، ويقطع أعضاءه .
قال القفَّال - رحمه الله- : ولا يبعد حمله على الكلِّ ، لأنَّ جملة هذه المعاني مشتركة في كونها إسرافاً .
فصل
قرأ حمزة والكسائي : « تُسْرِفْ » بالخطاب ، وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : الخطاب للوليِّ ، أي : لا تقتل الجماعة بالواحدِ ، أو السلطان ، رجع إلى مخاطبته بعد أن أتى به عامًّا .
والثاني : أن يكون الخطابُ للمبتدئ القتل ، أي : لا تسرف أيُّها الإنسان؛ لأنَّ إقدامه على ذلك القتلِ ظلمٌ محضٌ ، وهو إسرافٌ .
والباقون بالغيبة ، وهي تحتمل ما تقدم في قراءةِ الخطاب .
وقرأ أبو مسلم برفع الفعل على أنَّه خبر في معنى النهي؛ كقوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ } [ البقرة : 197 ] . وقيل : « في » بمعنى الباء ، أي : بسبب القتلِ .
قوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } .
قال مجاهدٌ : الهاءُ راجعةٌ إلى المقتول في قوله : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً } أي : أنَّ المقتول منصور في الدنيا بإيجاب القودِ على قاتله ، وفي الآخرة بتكفير خطاياه ، وإيجاب النَّار لقاتله .
وقال قتادة : الهاء راجعةٌ إلى وليِّ المقتول ، أو إلى السلطان ، أي أنَّه منصورٌ على القاتل باستيفاء القصاص ، أو الدِّية ، فلكيتفِ بهذا القدر ، ولا يطمع في الزيادة .
وقيل : الهاءُ راجعة إلى القاتل الظالم ، أي أنَّ القاتل يكتفى منه باستيفاء القصاص ، ولا يطلب منه زيادة؛ لأنَّه منصورٌ من الله تعالى في تحريم طلب الزيادة منه ، أو أنَّه إذا عوقب في الدنيا ، نُصِرَ في الآخرةِ .
وقيل : الهاء راجعةٌ إلى الذَّم ، أو قيل : إلى الحقِّ ، روى ابن عباس - رضي الله عنه - قال : قلت لعليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - : وأيْمُ الله ليَظْهرنَّ عَليْكُم ابنُ أبي سفيان؛ لأنّ الله تعالى يقول : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } فقال الحسنُ : والله ، ما نُصِرَ معاوية على عليٍّ إلاَّ بقولِ الله تعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } .
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
قوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } الآية .
اعلم أنه تعالى نهى عن الزِّنا ، وقد ذكرنا أنه يوجب اختلاط الأنساب ، وذلك يوجبُ منع تربية الأولاد ، ويوجب انقطاع النَّسل ، وذلك مانع من دخول الناس في الوجود ، فالنَّهيُ عن الزِّنا وعن القتل يرجع حاصله إلى النَّهي عن إتلاف النفوس ، فلمَّا ذكره تعالى أتبعه بالنَّهي عن إتلاف الأموال؛ لأنّ أعزَّ الأشياء بعد النفوس الأموال ، وأحق الناس بالنَّهي عن إتلافِ أموالهم هو اليتيمُ؛ لأنَّه لصغره ، وضعفه ، وكمالِ عجزه يعظم ضرره بغتلاف ماله؛ فلهذا خصَّهم الله تعالى بالنهي عن إتلاف أموالهم ، فقال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } نظيرهُ قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 6 ] .
المراد بالأشدّ ها هنا بلوغهُ إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده القيام بمصالحِ ماله ، فحينئذ تزولُ ولاية غيره عنه ، فإن بلغ غير كامل العقل ، لم تزل الولاية عنه .
قوله تعالى : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } الآية .
اعلم أنَّه تعالى أمر بخمسة أشياء أوَّلاً ، ثم نهى عن ثلاثةِ أشياء ، وهي الزِّنا ، والقتلُ ، وأكل مالِ اليتيم ، ثمَّ أتبعه بهذه الأوامِرِ الثلاثة ، فالأول قوله تعالى : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } .
واعلم أنَّ كلَّ عقدٍ يعقد لتوثيق أمرٍ وتوكيده ، فهو عهدٌ؛ كعقد البيع والشَّركة ، وعقد اليمين والنَّذر ، وعقد الصلح ، وعقد النِّكاح ، فمقتضى هذه الآية أنَّ كلَّ عهدٍ وعقدٍ يجري بين إنسانين ، فإنَّه يجبُ عليهما الوفاءُ بذلك العقد والعهد ، إلاَّ إذا دلَّ دليل منفصلٌ على أنه لا يجب الوفاء به ، فمقتضاه الحكم بصحَّة كل بيع وقع التراضي عليه ، وتأكَّد هذا النصُّ بسائر الآياتِ الدالة على الوفاء بالعهود والعقود؛ كقوله عزَّ وجلَّ : { والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } [ البقرة : 177 ] { والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } [ المؤمنون : 8 ] { وَأَحَلَّ الله البيع } [ البقرة : 275 ] { لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } [ النساء : 29 ] { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [ البقرة : 282 ] . { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] .
وقوله - صلوات الله وسلامه عليه- : « لا يحلُّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلاَّ بطيبِ نَفسٍ منهُ » .
وقوله : « إذَا اختلف الجِنْسَانِ ، فَبِيعُوا كيف شِئتُمْ يداً بيدٍ » .
وقوله : « مَن اشْتَرى مَا لَمْ يَرهُ ، فلهُ الخيارُ إذا رَآهُ » .
فجميع هذه الآيات والأخبار دالة على أنَّ الأصل في البياعات والعهود والعقود الصحة ووجوب الالتزام .
فإذا وجدنا نصًّا أخصَّ من هذه النصوصِ يدلُّ على البطلان والفساد ، قضينا به؛ تقديماً للخاصِّ على العام ، وإلا قضينا بالصحة على الكلّ ، وأما تخصيص النصِّ بالقياس ، فباطلٌ ، وبهذا الطريق تصير أبواب المعاملاتِ جميعها مضبوطة معلومة بهذه الىية الواحدة ، ويكون المكلَّف مطمئن القلب والنَّفس في العمل؛ لأنَّ هذه النصوص دلَّت على الصحَّة ، وليس بعد بيان الله تعالى بيانٌ .
قوله تعالى : { إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً } عن الوفاء بعهده؛ كقوله عزَّ وجلَّ : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] .
والثاني : أنَّ الضمير يعود على العهد ، ونسب السؤال إليه مجازاً؛ كقوله تعالى : { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } [ التكوير : 8 ، 9 ] .
أي : يقال للعهد عن صاحب العهد : لم نقضت ، وهلاَّ وفَّى بك؛ تبكيتاً للنَّاكث كقوله : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني } [ المائدة : 116 ] ، فالمخاطبة لعيسى - صلوات الله وسلامه عليه - والإنكار على غيره .
وقال السديُّ : { كَانَ مَسْؤُولاً } ، أي مطلوباً يطلب من المعاهد ألا يضيِّعه ويفي به .
وقيل : المراد بوفاء العهد : الإتيان بما أمر الله - تعالى - به ، والانتهاءُ عمَّا نهى الله عنه .
قوله تعالى : { وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ } الآية ، لما أمر تعالى بإتمام الكيل ، ذكرالوعيد الشديد في نقصانه كما في قوله تعالى : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [ المطففين : 1-3 ] .
ثم قال تعالى : { وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم } .
وهذا هو النوع الثالث من الأوامر المذكورة ها هنا ، فالآية المتقدمة في إتمام الكيل ، وهذه في إتمام الوزن ، ونظيره قوله عزَّ وجلَّ : { وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان } [ الرحمن : 9 ] { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ } [ هود : 85 ] .
قرأ الأخوان وحفص بكسر القاف ها هنا وفي سورة الشعراء ، والباقون بضمها فيهما ، وهما لغتان مشهورتان ، فقيل : القسطاس في معنى الميزان ، إلاَّ أنَّه في العرف أكبر منه ، ولهذا اشتهر في ألسنة العامة أنَّه القبَّان ، وقيل : إنه بلسانِ الرُّوم أو السرياني ، والأصح أنه لغة العرب ، وقيل أيضاً القرسطون . وقيل : هو كل ميزان ، صغر أم كبر ، أي : بميزان العدل .
قال ابن عطيَّة - رحمه الله- : هو عربيٌّ مأخوذٌ من القسطِ ، وهو العدل ، أي : زنوا بالعدل المستقيم ، واللفظة للمبالغة من القسط ، وردَّه أبو حيَّان باختلاف المادَّتين ، ثم قال : « إلاَّ أن يدَّعي زيادةَ السِّين آخراً كقدموس ، وليس من مواضع زيادتها » ويقال بالسِّين والصَّاد .
فصل
اعلم أنَّ التفاوت الحاصل بنقصان الكيل والوزن قليل ، والوعيد عليه شديد عظيم ، فيجب على العاقل الاحتراز منه ، وإنَّما عظم الوعيد فيه؛ لأنَّ جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء ، فبالغ الشَّرع في المنع من التطفيف والنقصان؛ لأجل إبقاء الأموال؛ ومنعاً من تلطيخ النفس بسرقةِ ذلك المقدار الحقير ، ثم قال : « ذلك خير » ، أي الإيفاء بالتَّمام والكمال خير من التطفيف بالقليل؛ لأنَّ الإنسان يتخلَّص بالإيفاء عن ذكر القبيح في الدنيا ، والعقاب الشديد في الآخرة .
{ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } منصوب على التفسير ، والتأويل ما يئولُ غليه الأمر؛ كقوله تعالى : { وَخَيْرٌ مَّرَدّاً } [ مريم : 76 ] ، { وَخَيْرٌ أَمَلاً } [ الكهف : 46 ] { وَخَيْرٌ عُقْباً } [ الكهف : 44 ] ، وإنما حكم الله تعالى بأنَّ عاقبة هذا الأمر أحسنُ العواقب؛ لأنه إذا اشتهر في الدنيا بالاحتراز عن التطفيف ، أحبَّه الناس ، ومالت القلوبُ إليه ، واستغنى في الزَّمنِ القليل .
وأمَّا في الآخرة : فيفوزُ بالجنَّة والثوابِ العظيمِ ، والخلاصِ من العقاب الأليم .
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
لمَّا شرح الأوامر الثلاثة ، عاد بعده إلى ذكرِ النَّواهي ، فنهى عن ثلاثةِ أشياء ، أولها : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } العامَّة على هذه القراءة ، أي : لا تتَّبعْ ، من قفاه يقفوه إذا تتبَّع أثره ، قال النابغة : [ الطويل ]
3417- ومِثلُ الدُّمى شمُّ العرانينِ ساكنٌ ... بِهنَّ الحياءُ لا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا
وقال الكميت : [ الوافر ]
3418- فَلا أرْمِي البَرِيءَ بِغيْرِ ذَنبٍ ... ولا أقًفُو الحَواصِنَ إنْ قُفينَا
وقرأ زيد بن عليٍّ : « ولا تَقْفُو » بإثبات الواو ، وقد تقدَّم في قراءة قنبل في قوله تعالى : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ } [ يوسف : 90 ] أن إثبات حرف العلَّة جزماً لغة قومٍ ، وضرورة عند غيرهم ، كقوله :
3419- .. مِنْ هَجْوِ زبَّان لمْ تَهْجُو ولمْ تَدعِ
وقرأ معاذ القارئ « ولا تَقُفْ » بزنةِ تقلْ ، من قاف يقُوفُ ، أي : تتبَّع أيضاً ، وفيه قولان :
أحدهما : أنه مقلوبٌ؛ من قَفَا يَقْفُو .
والثاني : وهو الأظهر- : أنه لغة مستقلة جيدة؛ كجبذ وجذبَ؛ لكثرة الاستعمالين؛ ومثله : قعا الفحل الناقة وقاعها .
والباء في « به » متعلقةٌ بما تعلَّق به « لَكَ » ولا تتعلق ب « عِلمٌ » لأنه مصدر ، إلا عند من يتوسَّع في الجارِّ .
قوله تعالى : { والفؤاد } قرأ الجرَّاحُ العقيلي بفتح الفاء واوٍ خالصةٍ ، وتوجيهها : أنه أبدل الهمزة واواً بعد الضمة في القراءةِ المشهورة ، ثم فتح فاءَ الكلمة بعد البدل ، لأنَّها لغة في الفؤاد ، يقال : فؤاد وفآدٌ ، وأنكر أبو حاتمٍ هذه القراءة ، وهو معذور .
فصل
يقال : قَفَوْتُ أثر فلانٍ أقْفُو قَفْواً ، إذا تتبَّعتَ أثره ، وسُمِّيت قافية الشِّعر قافية؛ لأنَّ البيت يقفو البيت ، وسمِّيت القبيلة المشهورة بالقافة؛ لأنَّهم يتَّبعون آثار أقدام النَّاسِ ، ويستدلُّون بها على أحوال الإنسان .
وقال تعالى : { ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا } [ الحديد : 27 ] .
وسمِّي القفا قفاً؛ لأنه مؤخر بدنِ الإنسان ووراءه ، كأنه شيء يتبعه ويقفوه .
فقوله : « ولا تَقْفُ » أي : لا تتَّبعْ ما لا علم لك به ، من قول أو فعلٍ ، فهو نهيٌ عن الحكم مبا لا يكون معلوماً ، وهذه قضية كليةٌ يندرجُ تحتها أنواعٌ كثيرةٌ ، وكل واحدٍ من المفسِّرين حمله على واحدٍ من تلك الأنواع ، فقيل : المراد نهي المشركين عن اعتقاداتهم وتقليد أسلافهم؛ لأنَّه تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتِّباع الهوى ، فقال تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [ النجم : 23 ] .
وقال في إنكارهم البعث { بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ } [ النمل : 66 ] .
وحكى عنهم أنَّهم قالوا : { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } [ الجاثية : 32 ] .
وقال : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله } [ القصص : 50 ] .
وقال عزَّ وجلَّ : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ } [ النحل : 116 ] .
وقال : { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } [ الأنعام : 148 ] .
وقال محمد ابن الحنفيَّة : المراد منه شهادة الزُّور .
وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنه- : لا تشهد إلاَّ بما رأته عيناك ، وسمعته أذناك ، ووعاهُ قلبك .
وقيل : المراد النَّهيُ عن القذف ، وقيل : المراد النهي عن الكذبِ .
قال قتادة : لا تقل : سمعت ، ولم تسمعْ ، ورأيتُ ، ولم تَرَ ، وعلمتُ ، ولم تعلمْ .
وقيل : القَفْوُ : هو البهت ، وأصله من القَفَا؛ كأنه يقال : خلفه ، وهو في معنى الغيبة . واللفظ عامٌّ يتناولُ الكلَّ ، فلا معنى للتقييد .
فصل في الرد على نفاة القياس
احتجَّ نفاةُ القياسِ بهذه الآية ، قالوا : القياسُ لا يفيدُ إلاَّ الظنَّ ، والظَّن مغاير للعلم ، فالحكم في دين الله تعالى بالقياس حكمٌ بغير العلم؛ فوجب ألا يجوز لقوله تعالى { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } .
وأجيب عنه بوجوه :
الأول : أن الحكم في الدِّين بمجرَّد الظنِّ جائزٌ بإجماع الأمَّة في صورٍ كثيرةٍ :
منها : العمل بالفتوى عملٌ بالظنّ .
ومنها : العمل بالشهادة عملٌ بالظَّنِّ .
ومنها : الاجتهاد في القبلة عمل بالظنِّ .
ومنها : قيم المتلفات ، وأروش الجنايات عملٌ بالظنِّ .
ومنها : الفصدُ ، والحجامةُ ، وسائر المعالجات؛ بناءً على الظنِّ .
ومنها : كون هذه الذَّبيحةِ ذبيحة مسلمٍ مظنون .
ومنها : الحكمُ على الشَّخص المعيَّن بكونه مؤمناً مظنونٌ ، ثم يبنى على هذا الظنِّ أحكام كثيرة ، كالتوارث والدفن في مقابر المسلمين وغيرهما .
ومنها : الأعمال المعتبرةُ في الدنيا من الأسفار ، وطلب الأرباح ، والمعاملات إلى الآجالِ المخصوصة ، والاعتماد على صداقةِ الأصدقاء ، وعداوة الأعداء كلِّها مظنونةٌ ، وبناء الأمر على هذه الظنون جائزٌ ، وقال - صلوات الله وسلامه عليه- : « نَحْنُ نَحْكمُ بالظَّاهر والله يتولَّى السَّرائِر »
وذلك تصريح بأنَّ الظنَّ معتبر في هذه الأنواع ، فبطل القول بأنه لا يجوز العمل بالظنِّ .
الثاني : أنَّ الظنَّ قد يسمَّى بالعلم؛ قال تعالى : { إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ فامتحنوهن الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } [ الممتحنة : 10 ] .
ومن المعلوم أنَّه إنما يمكن العلم بإيمانهنَّ؛ بناء على إقرارهن ، وهذا لا يفيد إلاَّ الظنَّ ، وقد سمَّى الله تعالى الظنَّ ها هنا علماً .
الثالث : أنَّ الدليل القاطع ، لما دلَّ على وجوب العمل بالقياس ، كان ذلك الدليل دليلاً على أنَّه متى حصل ظنُّ أنَّ حكم الله في هذه الصُّورة يساوي حكمه في محلِّ النصِّ ، فأنتم مكلَّفُون بالعمل على وفق ذلك الظنِّ ، فها هنا الظن وقع في طريق الحكم ، فأمَّا الحكم ، فهو معلومٌ متيقَّن .
أجاب نفاةُ القياس عن الأول؛ فقالوا :
قوله عزَّ وعلا : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } دخله التخصيصُ في الصُّور العشرة المذكورة ، فيبقى العموم حجة فيما وراءها ، ثم نقول : الفرق بين هذه الصور وبين محلِّ النِّزاع أنَّ هذه الصور العشر مشتركة في أنَّ تلك الأحكام مختصَّة بأشخاصٍ معينين في أوقات معيَّنة؛ فإنَّ الواقعة التي يرجع فيها الإنسان المعيَّن إلى الفتى المعيَّن واقعة متعلقة بذلك الشخص المعيَّن ، وكذا القول في الشَّهادة وفي طلب القبلة ، وفي سائر الصور؛ والتنصيص على وقائع الأشخاص المعنيين في الأوقات المعينة يجري مجرى التنصيص على ما لا نهاية له ، فلهذه الضرورة؛ اكتفينا بالظنِّ ، أما الأحكام المثبتة ، فهي أحكامٌ كليةٌ معتبرةٌ في وقائعِ كلية ، وهي مضبوطة ، والتنصيص عليها مكنٌ ، ولذلك فإنَّ الفقهاء الذين استخرجوا تلك الأحكام بطريق القياس ضبطوها ، وذكروها في كتبهم .
إذا عرف هذا ، فنقول : التنصيصُ على الأحكام في الصُّور العشر التي ذكرتموها غير ممكنٍ ، فلا جرم : اكتفى الشَّارع فيها بالظنِّ ، أما المسائلُ المثبتة بالطرق القياسيَّة فالتنصيصُ عليها ممكنٌ ، فلا يجوز الاكتفاءُ فيها بالظنِّ ، فظهر الفرقُ .
وقولهم : الظنَّ قد يسمَّى علماً ، فهذا باطلٌ؛ فإنه يصحُّ أن يقال : هذا مظنونٌ ، وغير معلوم ، وهذا معلومٌ ، وغير مظنونٍ ، فدلَّ على حصول المغايرة ، فيدلُّ عليه قوله تعالى : { هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } [ الأنعام : 148 ] نفى العلم ، وأثبت الظنَّ ، وذلك يدلُّ على المغايرة .
وأما قوله تعالى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } [ الممتحنة : 10 ] فالمؤمن هو المقر ، وذلك الإقرار معلوم .
وأمَّا الجوابُ عن الثالث ، فنقول : الكلام إنَّما يتمُّ لو ثبت أن القياس حجَّة بدليل قاطع ، وذلك باطل؛ لأنَّ القياس وهو الذي يفيد الظنَّ لا يجب عقلاً أن يكون حجة؛ لأنه لا نزاع أنَّه يصحُّ من الشَّرع أن يقول : نهيتكم عن الرجوع إلى القياسِ ، ولو كان كونه حجَّة أمراً عقلياً ، لامتنع ذلك .
والثاني أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ الدليل النقليَّ في كون القياس حجَّة ، إنما يكون قطعيًّا؛ إذ لو كان منقولاً نقلاً متواتراً ، كانت دلالته على ثبوت هذا المطلوب دلالة قطعيَّة غير محتملة للتخصيص ، ولو حصل مثل هذا الدليل ، لوصل إلى الكلِّ ، ولعرفه الكلُّ ، ولارتفع الخلاف ، وحيث لم يكن كذلك ، علمنا أنَّه لم يحصل في هذه المسألة دليلٌ سمعيٌّ قاطعٌ ، فثبت أنَّه لم يوجد في إثبات كون القياس حجة دليل قاطعٌ ألبتة ، فبطل قولكم : كون الحكم المثبتِ بالقياس حجَّة معلومٌ لا مظنونٌ .
قال ابن الخطيب : وأحسن ما يمكن أن يجاب عنه أن يقال : التمسُّك بهذه الآية الَّتي عولتم عليها تمسُّك بعامٍّ مخصوص ، والتمسُّك بالعامِّ المخصوصِ لا يفيد إلاَّ الظنَّ ، فلو دلَّت هذه الآية على أنَّ التمسُّك بالظنِّ غير جائز ، لدلَّت على أن التمسُّك بهذه الآية غير جائز ، فالقول بكون هذه الآية حجَّة يفضي ثبوته إلى نفيه ، فكان تناقضاً ، فسقط الاستدلال به .
وللمجيب أن يجيب عنه ، فيقول : نعلم بالتواتر الظَّاهر من دين محمد - صلوات الله وسلامه عليه - أنَّ التمسُّك بآياتِ القرآنِ حجَّة في الشريعة ، ويمكن أن يجاب عن هذا الجواب بأن كون العامِّ المخصوص حجَّة غير معلومٍ بالتواتر .
قوله تعالى : { إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } .
قوله تعالى : « أولئك » إشارة إلى ما تقدَّم من السمع ، والبصر ، والفؤاد؛ كقوله : [ الكامل ]
3420- ذُمَّ المَنازِلَ بعد مَنْزلةِ اللِّوَى ... والعَيْشَ بعْدَ أولئِكَ الأيَّامِ
ف « أولئكَ » يشارُ به إلى العقلاء وغيرهم من الجموع ، واعتذر ابن عطيَّة عن الإشارة به لغير العقلاءِ ، فقال : وعبَّر عن السَّمعِ ، والبصرِ ، والفؤاد ب « أولئك » لأنها حواسٌّ لها إدراكٌ ، وجعلها في هذه الآية مسئولة؛ فهي حالة من يعقل؛ ولذلك عبَّر عنها بكناية من يعقل ، وقد قال سيبويه - رحمه الله - في قوله تعالى : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] إنما قال « رَأيْتهُم » في نجوم؛ لأن لمَّا وصفها بالسجود - وهو فعلُ من يعقِلُ - عبَّر عنها بكناية من يعقل ، وحكى الزجاج أنَّ العرب تُعَبِّرُ عمَّن يعقلُ وعمَّن لا يعقل ب « أولئك » وأنشد هو والطبريُّ : [ الكامل ]
3421- ذُمَّ المَنازِلَ بعد مَنْزلةِ اللِّوَى ... والعَيْشَ بعْدَ أولئكَ الأيَّامِ
وأمَّا حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده ، وأمَّا البيت فالرواية فيه « الأقوامِ » ولا حاجة إلى هذا الاعتذار لما عرفت ، وأما قوله : « إنَّ الرواية : الأقوَامِ » فغير معرنوفةٍ والمعروفُ إنما هو « الأيَّامِ » .
قوله : « كُلُّ اولئِكَ » مبتدأ ، و الجملة من « كَانَ » خبره ، وفي اسم « كان » وجهان :
أحدهما : أنه ضمير عائد على « كلُّ » باعتبار لفظها ، وكذا الضمير في « عَنْهُ » و « عَنْهُ » متعلق ب « مَسْئُولاً » و « مَسْئولاً » خبرها .
والثاني : أنَّ اسمها ضمير يعود على القافي ، وفي « عَنْه » يعود على « كُلُّ » وهو من الالتفات؛ إذ لو جرى على ما تقدَّم ، لقيل : كُنْتَ عنه مسئولاً ، وقال الزمخشري : و « عَنْهُ » في موضع الرفعِ بالفاعلية ، أي : كل واحدٍ كان مَسْئولاً عنه ، فَمسئُول مسند إلى الجار والمجرور؛ كالمغضوب في قوله { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] انتهى . وفي تسميته مفعول ما لم يسمَّ فاعله فاعلاً خلاف الاصطلاح .
وقد ردَّ أبو حيَّان عليه قوله : بأنَّ القائم مقام الفاعل حكمه حكمه ، فلا يتقدَّم على رافعه كأصله ، وليس لقائلٍ أن يقول : يجوز على رأي الكوفيِّين؛ فإنهم يجيزون تقديم الفاعل؛ لأن النحَّاس حكى الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل ، إذا كان جارًّا أو مجروراً ، فليس هو نظير وله { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } فحينئذٍ يكون القائم مقام الفاعل الضمير المستكنَّ العائد على « كُلُّ » أو على القافي .
فصل في ظاهر الآية
ظاهر الآية يدلُّ على أنَّ الجوارح مسئولةً ، وفيه وجوهٌ :
الأول : معناه أنَّ صاحب السَّمع ، والبصر ، والفؤاد هو المسئُول؛ لأنَّ السؤال لا يصحُّ إلاَّ من العاقل ، وهذه الجوارح ليست كذلك ، بل العاقل الفاهم هو الإنسان : لم سمعت ما لا يحلُّ سماعه ، ولم نظرت إلى ما لا يحلُّ لك نظره ، ولم عزمت على م الا يحلُّ لك العزم عليه .
والثاني : أن أولئك الأقوام كلهم مسئولون عن السمع ، والبصر ، والفؤاد ، فيقال لهم : استعملتم السمع فيماذا ، أفي الطاعة ، أو في المعصية؟ وكذلك القولُ في بقيَّة الأعضاء ، وذلك؛ لأنَّ الحواسَّ آلاتُ النَّفس ، والنَّفسُ كالأمير لها ، والمستعمل لها في مصالحها ، فإن استعملها في الخيرات ، استوجب الثواب ، وإذا استعملها في المعاصي ، استحقَّ العقاب .
والثالث : أنه تعالى يخلقُ الحياة في الأعضاء ، ثمَّ إنها تسألُ؛ لقوله تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] فكذلك لا يبعد أن يخلق العقل ، والحياة ، و النطق في هذه الأعضاء ، ثمَّ إنَّها تسال .
رُوي عن شكل بن حميدٍ - رحمه الله - قال : « أتَيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسُول الله ، علِّمْنِي تعويذاً ، أتعوَّذ به ، فأخذ بيدي ، ثم قال : » قُل اللهُمَّ؛ أعُوذُ بِكَ من شرِّ سمعي ، وشرِّ بصري ، وشرِّ لسَانِي ، وشرِّ قلبي ، وشرِّ مَنِيِّي « قال فحفظتها .
قال سعيد : والمنيُّ ماؤه .
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
وهذا هو النهي الثاني .
قوله تعالى : « مَرَحاً » : العامة على فتحِ الراء ، وفيه أوجه :
أحدها : أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال ، أي : مرحاً بكسر الراء ، ويدل عليه قراءة بعضهم فميا حكاه يعقُوب « مَرِحاً » بالكسرِ .
قال الزجاج : « مرَحاً » مصدر ، ومرِحاً : اسم الفاعل ، وكلاهما جائز ، إلا أن المصدر هنا أحسن وأوكد ، تقول : جاء زيد ركضاً وراكضاً ، وآكد؛ لأنه يدل على توكيد الفعل .
الثاني : أنه على حذف مضافٍ ، أي : ذا مرحٍ .
الثالث : أنه مفعولٌ من أجله .
والمَرحُ : شدَّة السرورِ والفرح؛ مَرِحَ يمْرحُ مرحاً ، فهو مَرحٌ؛ كفَرِحَ يَفْرحُ فرحاً ، فهو فَرِحٌ .
قوله : { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً } الآية .
قرأ أبو الجرَّاح « لن تَخرُق » بضم الراء ، وأنكرها أبو حاتم وقال : لا نعرفها لغة البتَّة .
والمراد من الخرقِ ها هنا نقب الأرض ، وذكروا فيه وجوهاً :
الأول : أنَّ الشيء إنما يتمُّ بالارتفاع والانخفاض ، فكأنه قال إنَّك حال الانخفاض لا تقدر على خرق الأرض ونقبها ، وحال الارتفاع لا تقدر على أن تصل إلى رءوس الجبال ، والمعنى : أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئاً ، كمن يريد خرق الأرض ، ومطاولة الجبال لا يحصل على شيء .
والمراد التنبيهُ على كونه ضعيفاً عاجزاً ، فلا يليقُ به التكبُّر .
الثاني : أنَّ تحتك الأرض التي لا تقدر على خرقها ، وفوقك الجبال التي لا تقدر على الوصول إليها ، فأنت محاطٌ بك من فوقك ، ومن تحتك بنوعين من الجماد ، وأنت أضعف منهما بكثيرٍ ، والضعيف المحصور لا يليق به التكبُّر ، فكأنه قيل له : تواضع ، ولا تتكبَّر؛ فإنَّك خلقٌ ضعيفٌ من خلق الله ، محصورٌ بين حجارةٍ وترابٍ ، فلا تفعل فعل القويِّ المقتدر .
الثالث : أنَّ من يمشي مختالاً يمشي مرَّة على عقبيه ، ومرَّة على صدور قدميه ، فقيل له : إنَّك لن تنقب الأرض ، إن مشيت على عقبيك ، ولن تبلغ الجبال طولاً ، إن مشيت على صدور قدميك .
قال عليٌّ - كرَّم الله وجهه- : كَان رسُول الله صلى الله عليه وسلم إذا مَشَى تَكَفَّأ تَكفُّؤاً؛ كأنَّما ينحطُّ من صَبَبٍ .
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال : « ما رأيْتُ شَيْئاً أحْسنَ من رسُول الله صلى الله عليه وسلم كأنَّ الشَّمسَ تَجْري في وجْههِ ، وما رأيتُ أحداً أسرعَ مِشْيةً من رسُول الله صلى الله عليه وسلم كَأنَّما الأرضُ تطوى له ، إنَّا لنَجْهدُ أنْفُسنَا وهُو غَيْرُ مُكْترِثٍ » .
قوله تعالى : « طُولاً » يجوز أن يكون حالاً من فاعل « تَبلُغ » أو من مفعوله ، أو مصدراً من معنى « تبلغ » أو تمييزاً ، أو مفعولاً له ، وهذان ضعيفان جدًّا؛ لعدمِ المعنى .
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
قرأ ابن عامر والكوفيُّون بضمِّ الهمزة والهاء ، والتذكير ، وتركِ التنوين ، والباقون بفتح الهمزة ، وتاءِ التأنيث منصوبة منونة ، فالقراءة الأولى أشير فيها بذلك غلى جميع ما تقدم ، ومنه السَّيئ والحسنُ ، فأضاف السيِّئ إلى ضمير ما تقدَّم ، ويؤيِّدها ما قرأ به عبد الله : « كلُّ ذلك كان سيِّئاتهُ » بالجمع ، مضافاً للضمير ، وقراءة أبيّ « خَبِيثهُ » والمعنى : كل ما تقدم ذكره ممَّا أمِرتُمْ به ونهيتم عنه كان سيِّئهُ - وهو ما نهيتم عنه خاصة - أمراً مكروهاً ، هذا أحسنُ ما يقدِّر في هذا المكانِ .
وأمَّا ما استشكله بعضهم من أنَّه يصير المعنى : كل ما ذكر كان سيئة ، ومن جملة كلِّ ما ذكر : المأمورُ به ، فيلزمُ أن يكون فيه سيِّئٌ ، فهو استشكالٌ واهْ؛ لما تقدم من تقرير معناه .
و « مَكْرُوهاً » خبر « كان » وحمل الكلامُ كله على لفظ « كلُّ » فلذلك ذكَّر الضمير في « سَيِّئهُ » والخبر ، وهو : مكروهٌ .
وأمَّا قراءة الباقين : فيحتمل أن تقع الإشارة فيها ب « ذلِكَ » إلى مصدري النَّهيينِ المتقدِّمين قريباً ، وهما :
قَفْوُ ما ليس به علمٌ ، والمشيُ في الأرض مرحاً .
والثاني : أنه أشير به إلى جميع ما تقدَّم من المناهي .
و « سيِّئةً » خبر « كان » وأنِّثَ؛ حملاً على معنى « كلُّ » ثم قال « مَكْرُوهاً » حملاً على لفظها .
وقال الزمخشريُّ كلاماً حسناً ، وهو : أنَّ « السَّيِّئة في حكم الأسماءِ : بمنزلة الذَّنبِ والإثم ، زال عنه حكم الصفات ، فلا اعتراب بتأنيثه ، ولا فرق بين من قرأ » سيئة « ومن قرأ » سيِّئاً « ألا ترى أنَّك تقول : الزِّنى سيِّئةٌ ، كما تقول : السَّرقة سيِّئة ، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث » .
وفي نصب « مكروهاً » أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنه خبر ثانٍ ل « كان » وتعدادُ خبرها جائز على الصَّحيح .
الثاني : أنه بدلٌ من « سَيِّئةٍ » وضعف هذا؛ بأنَّ البدل بالمشتقِّ قليلٌ .
الثالث : أنه حالٌ من الضمير المستتر في « عند ربِّك » لوقوعه صفة ل « سيئة » .
الرابع : أنه نعتٌ ل « سَيِّئةً » ، وإنما ذكر لأن « سيِّئةً » تأنيث موصوفه مجازي؛ وقد ردَّ هذا؛ بأن ذلك إنًَّما يجوز حيث أسند إلى المؤنث المجازيِّ ، أمَّا إذا أسند إلى ضميره ، فلا؛ نحو : « الشَّمسُ طَالعةٌ » لا يجوز : « طَالعٌ » إلا في ضرورةٍ كقوله :
3422- . ... ولا أرْضَ أبْقلَ إبْقالهَا
وهذا عند غير ابن كيسان ، وأمَّا ابن كيسان فيجيز في الكلام : « الشَّمسُ طَلع ، وطَالعٌ » .
وقيل : إنما ذكَّر سيِّئةً وهي الذنب ، وهو مذكر [ لأن التقدير : كل ذلك كان مكروهاً وسيئة عند ربك ] وقيل فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، أي كل ذلك كان مكروهاً سيئة .
فصل
وأمَّا قراءة عبد الله فهي ممَّا أخبر فيها عن الجمع إخبار الواحد؛ لسدِّ الواحد مسدَّه؛ كقوله :
3423- فَإمَّا تَريْنِي ولِي لمَّةٌ ... فإنَّ الحَوادِثَ أوْدَى بِهَا
لو قال : فإنَّ الحدثان ، لصحَّ من حيثُ المعنى ، فعدل عنه؛ ليصحَّ الوزنُ .
وقرأ عبد الله أيضاً « َان سَيِّئاتٍ » بالجمع من غير إضافةٍ ، وهو خبر « كان » وهي تؤيِّد قراءة الحرميَّين ، وأبي عمرو .
فصل
قال القاضي - رحمه الله- : دلَّت هذه الآية على أنَّ هذه الأعمال مكروهة عند الله تعالى ، والمكروهُ لا يكون مراداً ، فهذه الأعمال غير مرادِ الله ، فبطل قول من يقول : كل ما دخل في الوجود ، فهو مراد الله تعالى ، وإذا ثبت أنها ليست بإرادة الله تعالى ، وجب ألاَّ تكون مخلوقة - لله تعالى-؛ لأنَّها لو كانت مخلوقة لله تعالى ، لكانت مرادة ، لا يقال : المراد من كونها مكروهة : أنَّ الله تعالى نهى عنها .
وأيضاً : معنى كونها مكروهة أن الله تعالى كره وقوعها ، وعلى هذا التقدير : فهذا لا يمنع أنَّ الله تعالى أراد وجودها ، لأنَّ الجواب أنه عدولٌ عن الظاهر .
وأيضاً : فكونها سيِّئة عند ربِّك يدلُّ على كونها منهيًّا عنها ، فلو حملت المكروه على النَّهي ، لزم التَّكرار .
والجواب عن الثاني أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الزجر عن هذه الأفعال ، ولا يليقُ بهذا الموضع أن يقال : إنه تعالى يكرهُ وقوعها .
وأجيب بأنَّ المراد من المكروه المنهيُّ عنه ، ولا باس بالتَّكرير ، لأجل التأكيد .
فصل
قال القاضي دلَّت هذه الآية على أنه تعالى كما أنَّه موصوف بكونه مريداً ، فكذلك أيضاً موصوفٌ بكونه كارهاً .
وأجيب بأنَّ الكراهية في حقِّه تعالى محمولة إمَّا على النهي ، [ وإمَّا هي ] إرادة العدم .
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
قوله تعالى : { ذَلِكَ مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة } : [ مبتدأ أو خبر ] ، اعلم أن قوله « ذلك » إشارةٌ إلى ما تقدَّم من التكاليف ، وهي خمسةٌ وعشرون نوعاً ، أولها قوله تعالى : { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ } [ الإسراء : 22 ] .
وقوله : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] .
وهذا مشتملٌ على تكليفين :
الأمر بعبادةِ الله تعالى ، والنهي عن عبادة غير الله ، فكان المجموع [ ثلاثة ] .
والرابع : قوله تعالى : { وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] وقوله : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } [ الإسراء : 23 ] وقوله { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَقُل رَّبِّ ارحمهما } [ الإسراء : 23 ، 24 ] { وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } [ الإسراء : 26 ] وقوله : { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } [ الإسراء : 28 ] { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا } [ الإسراء : 29 ] { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ } [ الإسراء : 31 ] { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس } [ الإسراء : 33 ] { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } [ الإسراء : 33 ] { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } [ الإسراء : 34 ] وقوله : { وَأَوْفُوا الكيل } [ الإسراء : 35 ] { وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم } [ الإسراء : 35 ] وقوله : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] { وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً } [ الإسراء : 37 ] { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ } فهذه خمسةٌ وعشرون تكليفاً ، بعضها أوامر وبعضها نواهٍ ، جمعها الله تعالى في هذه الآيات ، وجعل فاتحتها قوله : { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً } [ الإسراء : 22 ] ، وخاتمتها قوله : { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً } وإنَّما سمَّاها حكمة؛ لوجوه :
الأول : أن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتَّوحيد ، وأنواع الطَّاعات والخبرات والإعراض عن الدنيا ، والإقبال على الآخرة ، والعقول تدلُّ على صحَّتها ، فالآتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعياً إلى دين الشيطان ، بل الفطرة الأصليَّة تشهد بأنَّه يكون داعياً إلى دبن الرَّحمن .
الثاني : أنَّ هذه الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل ، ولا تقبل النَّسخ والإبطال ، فكانت محكمة وحكمة من هذه الاعتبارات .
الثالث : أنَّ الحكمة عبارةٌ عن معرفة الحقِّ لذاته ، والخير لأجلِ العمل به؛ فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأوَّل ، وسائر التكاليف عبارة عن تعلُّم الخيرات؛ لأجل العمل بها .
روي عن ابن عباسٍ - رضي الله عنه - أنَّ هذه التكاليف المذكورة كانت في ألواح موسى - صلوات الله عليه - أولها « لا تَجْعلْ مع الله إلهاً آخر » .
قال تعالى : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً } [ الأعراف : 145 ] .
فكلُّ ما أمر الله به أو نهى عنه ، فهو حكمةٌ .
قوله تعالى : « مِنَ الحكمةِ » يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكون حالاً من عائد الموصول المحذوف ، تقديره : من الذي أوحاه حاك كونه من الحكمة ، أو حال من نفس الموصول .
الثاني : أنه متعلق ب « أوْحَى » ، و « مِنْ » إمَّا تبعيضيةٌ؛ لأنَّ ذلك بعض الحكمة ، وإمَّا للابتداء ، وإما للبيان .
وحينئذٍ تتعلق بمحذوفٍ .
الثالث : أنها مع مجرورها بدل من « ممَّا أوْحَى » .
فصل
ذكر في الآية أنَّ المشرك يكون مذموماً مخذولاً .
وذكر ها هنا أنَّ المشرك يلقى في جهنَّم ملوماً مدحوراً ، فاللَّوم والخذلان يحصل في الدنيا ، وإلقاؤهُ في جهنَّم يحصل يوم القيامة ، والفرقُ بين الملوم والمدحُور ، وبين المذموم والمخذول : أنَّ معنى كونه مذموماً : أن يذكر له أنَّ الفعل الذي أقدم عليه قبيحٌ ومنكرٌ ، وإذا ذكر له ذلك ، فعند ذلك يقال له : لم فعلت هذا الفعل؟ وما الذي حملك عليه؟ وما استفدت من هذا العمل ، إلاَّ إلحاق الضَّرر بنفسك؟ وهذا هو اللَّوم .
وأما الفرق بين المخذول وبين المدحور ، فهو أنَّ المخذول هو الضعيف ، يقال : تخاذلت أعضاؤه ، أي : ضعفت ، والمدحور هو المطرود ، والطَّرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة ، فكونه مخذولاً عبارة عن ترك إعانته ، وتفويضه إلى نفسه ، وكونه مدحوراً عبارةٌ عن إهانته ، فيصير أوَّل الأمر مخذولاً وآخره يصير مدحوراً .
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
قوله تعالى : { أَفَأَصْفَاكُمْ } : ألفُ « أصْفَى » عو واوٍ؛ لأنه من « صَفَا يَصْفُو » وهو استفهام إنكارٍ وتوبيخٍ .
ويقال : أصفاهُ بالشَّيء ، إذا آثرهُ به ، ويقال للضِّياعِ التي يستخصُّها السلطان لخاصَّته الصَّوافِي .
قال أبو عبيدة - رحنه الله - في قوله تعالى : { أَفَأَصْفَاكُمْ } : أفخصّكم وقال المفضل : أخلصكم .
قال النحويون : هذه الهمزة همزة تدلُّ على الإنكار على صيغة السؤال عن مذهبٍ ظاهر الفساد ، لا جواب لصاحبه ، إلاَّ بما فيه أعظمُ الفضيحةِ .
واعلم أنَّه تعالى ، لما نبَّه على فساد طريقة من أثبت لله شريكاً ، أتبعه بفسادِ طريقة من أثبت الولد لله تعالى ، ثم نبه على كمال جهل هذه الفرقة وهو أنَّ الولد على قسمين ، فأشرف القسمين : البنون ، وأخسُّها : البنات ، ثمَّ إنَّهم أثبتوا البنين لأنفسهم ، مع علمهم بنهاية عجزهم ، وأثبتوا البنات لله تعالى مع علمهم بأنَّ الله تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له ، وذلك يدلُّ على نهاية جهل القائلين بهذا القول؛ ونظيره قوله تعالى : { أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون } [ الطور : 39 ] وقوله جلَّ ذكرهُ : { وَلَهُ الأنثى } [ النجم : 21 ] .
ومعنى الآية أنه اختاركم ، فجعل لكم الصَّفوة ، ولنفسه ما ليس بصفوة ، يعني اختاركم { بالبنين واتخذ مِنَ الملاائكة إِنَاثاً } ؛ لأنَّهم كانوا يقولون : إنَّ الملائكة بنات الله تعالى .
قوله تعالى : « واتَّخَذَ » يجوز أن تكون المتعدية لاثنين ، فقال أبو البقاء : « إنَّ ثانيهما محذوف ، أي : أولاداً ، والمفعول الأوَّلُ هو إناثاً » وهذا ليس بشيءٍ ، بل المفعول الثاني هو « مِنَ المَلائكةِ » قدِّم على الأوَّل ، ولولا ذلك لزم أن يبتدأ بالنَّكرةِ من غير مسوغٍ؛ لأنَّ ما صلح أن يكون مبتدأ صلح أن يكون مفعولاً أوَّل في هذا الباب ، وما لا ، فلا ، ويجوز أن تكون متعدية لواحدٍ ، كقوله : { وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً } [ البقرة : 116 ] ، و « مِنَ الملائكة » متعلق ب « اتَّخذ » أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من النَّكرة بعده .
ثم قال تعالى : { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } وهذا خطابٌ لمشركي « مَكَّة » وبيان كون هذا القول عظيماً : أنَّ إثبات الولد يقتضي كونه تعالى مركَّباً من الأجزاء والأبعاض ، وذلك يقدح في كونه قديماً واجب الوجوب لذاته ، وذلك عظيم من القول ، وأيضاً : فبتقدير ثبوت الولد ، فقد جعلوا أشرف القسمين لأنفسهم ، وأخسَّ القسمين لله تعالى ، وهذا جهلٌ عظيمٌ .
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } : العامة على تشديد الراء ، وفي مفعول « صرَّفنا » وجهان :
أحدهما : أنه مذكورٌ ، و « في » مزيدة فيه ، أي : ولقد صرفنا هذا القرآن؛ كقوله : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ } [ الفرقان : 50 ] ، ومثله : [ الطويل ]
3424- . ... يَجْرَحُ في عَراقيبها نَصْلِي
وقوله تعالى : { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتيا } [ الأحقاف : 15 ] أي : يجرح عراقيبها ، وأصلح لي ذريتي ، وردَّ هذا بأنَّ « في » لا تزاد ، وما ذكر متأوَّل ، وسيأتي إنْ شاء الله تعالى في الأحقاف .
الثاني : أنه محذوفٌ تقديره : ولقد صرَّفنا أمثاله ، ومواعظه ، وقصصه ، وأخباره ، وأوامره .
وقال الزمخشريُّ في تقدير ذلك : « ويجوز أن يراد ب » هَذَا القرآنِ « إبطال إضافتهم إلى الله البنات؛ لأنه ممَّا صرفه ، وكرَّر ذكره ، والمعنى : ولقد صرَّفنا القول في هذا المعنى ، وأوقعنا التصريف فيه ، وجعلناه مكاناً للتكرير ، ويجوز أن يريد ب » هَذا القُرآنِ « التنزيل ، ويريد : ولقد صرَّفناهُ ، يعني هذا المعنى في مواضعَ من التنزيل ، فترك الضمير؛ لأنَّه معلوم » ، وهذا التقدير الذي قدَّره الزمخشري أحسنُ؛ لأنه مناسب لما دلَّت عليه الآية وسيقت لأجله ، فقدَّر المفعول خاصًّا ، وهو : إمَّا القولُ ، وإمَّا المعنى ، وهو الضمير الذي قدَّره في « صَرَّفناه » بخلاف تقدير غيره ، فإنه جعله عامًّا .
وقيل : المعنى : لم نُنَزِّلهُ مرةً واحدة ، بل نجوماً ، والمعنى : أكثرنا صرف جبريل إليك ، فالمفعول جبريل - عليه السلام- .
وقرأ الحسن بتخفيفِ الرَّاء ، فقيل : هي بمعنى القراءةِ الأولى ، وفعَل وفعَّل قد يشتركان ، وقال ابن عطيَّة : « أي : صرفنا النَّاس فيه إلى الهدى » .
والصَّرْفُ في اللغة : عبارة عن صرف الشيء من جهة إلى جهة؛ نحو : تصريف الرياح ، وتصريف الأمور ، هذا هو الأصل في اللغة ، ثم جعل لفظ التَّصريف كناية عن التَّبيين؛ لأنَّ من حاول بيان شيءٍ ، فإنه يصرف كلامه من نوع إلى نوع آخر ، ومن مثالٍ إلى مثالٍ آخر؛ ليكمل الإيضاح ، ويقوي البيان ، فقوله تعالى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } أي : بيَّنَّا .
قوله : « لِيَذَّكَّرُوا » متعلق ب « صَرَّفْنَا » وقرأ الأخوان هنا ، وفي الفرقان بسكون الذَّال ، وضمِّ الكاف مخففة مضارع « ذكر » من الذّكر أو الذُّكر ، والباقون بفتح الذال ، والكاف مشددة ، والأصل : يتذكَّروا ، فأدغم التاء في الذَّال لقرب المخرج وهو من الاعتبار والتَّدبُّر .
قال الواحديُّ : والتذكُّر هنا أشبه من الذِّكر؛ لأنَّ المراد منه التدبُّر والتفكُّر ، وليس المراد منه الذِّكر الذي يحصل بعد النسيان ، ثم قال : وأمَّا قراءة حمزة والكسائي ، ففيها وجهان :
الأول : أنَّ الذكر قد جاء بمعنى التَّأمُّل والتدبُّر؛ كقوله سبحانه جلَّ ذكره : { خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ } [ البقرة : 63 ] . والمعنى : وافهموا ما فيه .
والثاني : أن يكون المعنى : صرفنا هذه الدلائل في هذا القرآن؛ لتذكروه بألسنتكم؛ فإنَّ الذكر بألسنتكم قد يؤدِّي إلى تأثر القلب بمعناه .
فصل
قال الجبائيُّ - رحمه الله تعالى- : قوله عزَّ وجلَّ : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِيَذَّكَّرُواْ } يدل على أنَّه تعالى يفعل أفعاله لأغراضٍ حكميةٍ ، ويدلُّ على أنَّه تعالى أراد الإيمان من الناس ، سواءٌ آمنوا ، أو كفروا .
قوله : { وَمَا يَزِيدُهُمْ } ، أي : التصريفُ ، و « نُفوراً » مفعول ثانٍ وهذه الآية تدلُّ على أنَّه تعالى ما أراد الإيمان من الكفَّار؛ لأنَّه تعالى عالمٌ بأن تصريف القرآن لا يزيدهم إلا نفوراً ، فلو أراد الإيمان منهم ، لما أنزل عليهم ما يزيدهم نفرة عنه؛ لأنَّ الحكيم ، إذا أراد تحصيل أمرٍ من الأمور ، وعلمَ أنَّ الفعل تلفلاميَّ يصير سبباً للعسر والتعذُّر والنفرة؛ فإنَّه عند محاولة تحصيل ذلك المقصود يحترزُ عما يوجب النُّفرة ، فلمَّا أخبر تعالى أنَّ هذا التصرُّف يزيدهم نفُوراً ، علمنا أنَّه ما أراد الإيمان منهم .
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)
قوله تعالى : { كَمَا يَقُولُونَ } : الكافُ في موضع نصبٍ ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنها متعلقة بما تعلَّقت به « مع » من الاستقرار ، قاله الحوفيُّ .
والثاني : أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : كوناً كقولكم؛ قاله أبو البقاء .
وقرأ ابن كثير وحفص « يقولون » بالياء من تحت ، والباقون بالتاء من فوق ، وكذا قوله تعد هذا { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ } [ الإسراء : 43 ] ، قرأه بالخطاب الأخوان ، والباقون بالغيبة فتحصَّل من مجموع الأمر؛ أنَّ ابن كثير وحفصاً يقرآنهما بالغيبة ، وأن الأخوين قرءوا بالخطاب فيهما ، وأن الباقين قرءوا بالغيبة في الأول ، وبالخطاب في الثاني .
فوجه قراءة الغيب فيهما أنه : حمل الأوَّل على قوله : { وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [ الإسراء : 41 ] ، وحمل الثاني عليه ، ووجه الخطاب فيهما : أنه حمل الأوَّل على معنى : قل لهم يا محمد لو كان معه آلهةٌ كما تقولون ، وحمل الثاني عليه .
ووجه الغيب في الأول : أنه حمله على قوله « ومَا يَزِيدهُمْ » والثاني التفت فيه إلى خطابهم .
قوله : « إذَنْ » حرف جوابٍ وجزاءٍ ، قال الزمخشريُّ : وإذن دالَّة على أنَّ ما بعدها ، وهو « لابتَغَوا » جواب لمقالةِ المشركين ، وجزاءٌ ل « لَوْ » .
وأدغم أبو عمرٍو الشين في السين ، واستضعفها النحاة؛ لقوَّة الشَّين .
فصل في معنى الآية
المعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : { لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ } لطلبوا - يعني الآلهة - { إلى ذِي العرش سَبِيلاً } بالمغالبة والقهر؛ ليزيلوا ملكه؛ كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض ، وهذا يرجع إلى دليل التمانع ، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - عند قوله - عزَّ وجلَّ - في سورة الأنبياء - صلوات الله عليهم - { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] وقيل : المعنى : لطلبوا - يعني الآلهة - { إلى ذِي العرش سَبِيلاً } بالتقرُّب إليه ، لأنَّ الكفار كانوا يقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] .
فقال تعالى : لو كانت هذه الأصنام تقربكم إلى الله زلفى ، لطلبت لأنفسها أيضاً القرب غلى الله تعالى ، فكيف يعقل أن تقربكم إلى الله ، ثم نزَّه نفسه فقال : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } .
قوله تعالى : { وتعالى } : عطف على ما تضمَّنه المصدر ، تقديره : تنزَّه وتعالى . و « عن » متعلقة به ، أو ب « سبحان » على الإعمال لأنَّ « عَنْ » تعلقت به في قوله { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ } [ الصافات : 180 ] و « عُلُوًّا » مصدر واقع موقع التعالي؛ لأنَّه كان يجب أن يقال : تعالياً كبيراً ، فهو على غير المصدر كقوله : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] [ في كونه على غير الصدر ] . والتَّسبيحُ عبارة عن تنزيه الله تعالى عمَّا لا يليقُ به .
والفائدة في وصف ذلك العلوِّ بالكبر : أن المنافاة بين ذاته وصفاته سبحانه وبين ثبوت الصَّاحبة ، والولد ، والشُّركاء ، والأضداد ، والأنداد ، منافاة بلغت في القوَّة والكمال غلى حيث لا تعقل الزيادة عليها؛ لأنَّ المنافاة بين الواجب لذاته ، والممكن لذاته ، وبين القديم والمحدث ، وبين الغنيِّ و المحتاج منافاة لا يعقل الزيادة عليها ، فلهذا السبب وصف الله تعالى ذلك العلو بالكبر .
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
قوله تعالى : { تُسَبِّحُ } قرأ أبو عمرو والأخوان ، وحفص « تُسَبِّحُ » بالتاء ، والباقون بالياء من تحت ، وهما واضحتان؛ لأن التأنيث مجازي ، ولوجود الفصل أيضاً بين الفعل والتأنيث .
وقال ابن عطيَّة : « ثم أعاد على السَّموات والأرض ضمير من يعقل ، لمَّا أسند إليها فعل العاقل ، وهو التسبيح » وهذا بناءً على أنَّ « هُنَّ » مختصٌّ بالعاقلات ، وليس كما زعم ، وهذا نظيرُ اعتذاره عن الإشارة ب أولئك « في قوله » كُلُّ أولئكَ « وقد تقدَّم . وقرأ عبد الله والأعمش » سَبّضحَتْ « ماضياص بتاء التأنيث .
فصل
قال ابن عطيَّة : يقال : فَقِهَ ، وفَقَهَ ، وفَقُهُ؛ بكسر القاف ، وفتحها ، وضمها ، فالكسر إذا فهم ، وبالفتح إذا سبق غيره للفهم ، وبالضمِّ إذا صار الفقه له سجيَّة ، فيكون على وزن » فَعُلَ « بالضَّم؛ لأنَّه شأنُ أفعال السجايا الماضية نحو : ظَرُفَ فو ظريفٌ ، وشرُف فهو شريفٌ ، وكرُم فهو كريم ، واسم الفاعل من الأوليين فاعل؛ نحو : سَمِعَ ، فهو سَامعٌ ، وغلب فهو غالبٌ ، ومن الثالث : فعيلٌ؛ فلذلك تقول فَقُهَ فهو فَقِيهٌ .
فصل
روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال : وإن من شيء حيٍّ إلا يُسبح بحمدهِ
وقال قتادة - رضي الله عنه - يعني الحيوانات والنَّاميات .
وقال عكرمةُ : الشجرة تسبِّح ، والأسطوانة تسبِّح .
وعن المقدام بن معدي كرب ، قال : » إنَّ التُّرابَ يُسَبِّح مَا لمْ يبْتَلَّ ، فإذا ابتلَّ ترك التَّسبيحَ ، وإنَّ الخرزة تُسَبِّحُ ، مَا لَمْ تُرفَعْ من موضعها ، فإذا رفعتْ تركت التَّسبيح ، وإنَّ الورقة تُسبِّح ما دامت على الشَّجرة ، فإذا سقطت ، تركت التَّسبيح ، وإنَّ الماء يسبِّح ما دام جارياً ، فإذا أركد ، ترك التَّسبيح ، وإنَّ الثوب يسبِّح ما دام جديداً ، فإذا وسخ ، ترك التسبيح ، وإن الطير والوحش تسبِّح ، إذا صاحتْ ، فإذا سكنت ، تركت التَّسبيح .
وقال إبراهيم النخعيُّ : وإن من شيءٍ جمادٍ وحيٍّ إلا يسبِّح بحمده ، حتَّى صرير الباب ، ونقيض السقف .
وقال مجاهدٌ : كل الأشياء تسبِّح لله ، حيًّا كان أو ميتاً ، أو جماداً ، وتسبيحها : سبحان الله وبحمده .
قال أهلُ المعاني : تسبيحُ الحيِّ المكلَّف بالقول ، كقول اللسان : سبحان الله ، وتسبيح غير المكلَّف كالبهائم ، ومن لا يكون حيًّا ، كالجمادات ما دلَّت بلطيفِ تركيبها ، وعجي هيئتها على خالقها؛ لأنَّ التسبيح باللسان لا يحصُل إلاَّ مع الفهم ، والعلم ، والإدراك ، والنُّطق ، وكل ذلك في الجمادات محالٌ .
قالوا : فلو جوَّزنا في الجماد أن يكون عالماً متكلِّماً ، لعجزنا عن الاستدلال بكونه تعالى قادراً عالماً على كونه حيًّا ، وحينئذٍ : يفسد علينا باب العلم بكونه حيًّا ، وذلك كفر؛ فإنَّه إذا جاز للجمادات أن تكون عالمة بذات الله وصفاته ، وتسبيحه ، مع أنَّها ليست بأحياء؛ فحينئذ : لا يلزم من كون الشيءِ عالماً قادراً متكلماً أن يكون حيًّا ، وذلك كفر؛ فإنَّه إذا جاز للجمادات أن تكون عالمة بذات الله وصفاته ، وتسبيحه ، مع أنَّها ليست بأحياء؛ فحينئذ : لا يلزم من كون الشيءِ عالماً قادراً متكلماً أن يكون حيًّا ، فلم يلزم من كونه تعالى عالماً قادراً كونه حيًّا ، وذلك جهلٌ وكفر ، ومن المعلوم بالضَّرورة أنَّ من ليس بحيٍّ لم يكن عالماً قادراً متكلِّماً .
واحتج القائلون بأنَّ الجمادات وأنواع النبات والحيوان كلُّها تسبِّح لله تعالى بهذه الآية ، ولا يمكن تفسير هذا التسبيح بكونها دلائل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته؛ لأنَّه تعالى قال : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } وهذا يقتضي أن تسبيح هذه الأشياء غير معلوم لنا ، ودلالتها على وجود قدرة الله تعالى وحكمته معلومةٌ لنا ، فوجب أن يكون التسبيح المذكور في هذه الآية مغايراً لكونها دالة على وجود قدرة الله تعالى وحكمته سبحانه .
فأجاب أهل المعاني بوجوه :
أولها : أنَّك إذا أخذت تفاحة واحدة ، فتلك التفاحة مركبة من أشياء كثيرة ، لا تتجزَّأ ، وكلُّ واحدٍ من تلك الاجزاء دليلٌ تامٌّ مستقلٌّ على وجودِ الإله ، ولكلِّ واحد من تلك الأجزاء صفات مخصوصة من الطَّبع ، والطَّعم ، واللَّون ، و الرائحة ، واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة من الجائزات ، ولا يحصل ذلك إلا بتخصيص مخصِّص قادر حكيم .
إذا عرف هذا ظهر أنَّ كلَّ واحدٍ من أجزاء تلك التفاحة دليل تامٌّ على وجود الإله ، وكل صفة من تلك الصفات القائمة بذلك الجزء الواحد أيضاً دليل تامٌّ على وجود الإله ، ثم عدد تلك الأجزاء غي رمعلومٍ ، وأحوال تلك الصفات غير معلومة ، فلهذا قال تعالى : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } .
وثانيها : أن الكفَّار ، وإن كانوا يقرُّون بإثبات إله العالم إلاَّ أنهم ما كانوا يتفكَّرون في أنواع الدَّلائلِ ، كما قال تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] .
فكان المراد من قوله : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } هذا المعنى .
وثالثها : أنَّ القوم ، وإن كانوا مقرِّين بألسنتهم بإثبات إله العالم ، إلاَّ أنَّهم ما كانوا عالمين بكمال قدرته ، ولذلك استبعدوا كونه قادراً على الحشر والنشر ، فكان المراد ذلكز
ورابعها : قوله لمحمدٍ : « قُلْ » لهم : { لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] ، فهم ما كانوا عالمين بهذه الدلائل ، فلما قال : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ } بصحَّة هذا الدليل وقوَّته ، وأنتم لا تفقهون هذا الدليل ، ولا تعرفونه ، بل القوم كانوا غافلين عن أكثر دلائل التوحيد والنبوَّة والمعاد ، فقال تعالى : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } ، فذكر الحليم الغفور ها هنا يدلُّ على كونهم لا يفقهون ذلك التَّسبيح ، وذلك جرم عظيمٌ صدر عنهم ، وهذا إنما يكن جرماً ، إذا كان المراد من ذلك التسبيح كونها دالَّة على كمال قدرة الله وحكمته ، ثم إنهم لغفلتهم وجهلهم ، ما عرفوا وجه تلك الدلائل ، ولو حملنا هذا التسبيح على تسبيح الجمادات بأنواعها ، لم يكن عدم الفقه لذلك التسبيح جرماً ، ولا ذنباً ، وإذا لم يكن جرماً ، ولا ذنباً ، لم يكن قوله : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } لائقاً بهذا الموضع .
واعلم أنَّ القائلين بأن الجمادات والحيوانات غير الناطقة تسبِّح بألفاظها ، أضافوا إلى كلِّ حيوانٍ نوعاً من التسبيح ، وقالوا : إنَّها غذا ذبحتْ لم تسبِّح ، مع قولهم بأنَّ الجماداتِ تسبِّح ، فإذا كان كونه جماداً لا يمنع من كونه مسبِّحاً ، فكيف صار ذبح الحيوان مانعاً له من التَّسبيح؟! .
وقالوا : إن عصا الشَّجرة إذا كسرت ، لم تسبِّح ، وإذا كان كونه جماداً ، لم يمتنع من كونه مسبِّحاً ، فكيف يمنع ذلك من تسبيحها بعد الكسر؟ وهذه كلمات ضعيفة .
فصل في تسبيح السماوات والأرض
دلَّت هذه الآية على أنَّ السماوات والأرض ومن فيهن يسبِّح الله تعالى ، فتسبيح السماوات والأرض ليس إلاَّ بمعنى تنزيه الله ، وإطلاق لفظ التسبيح على هذا المعنى مجازٌ ، وأما تسبيح المكلَّفين فهو قول : « سُبحَانَ الله » ، وهذا حقيقة ، فيلزم أن يكون قوله « تُسبِّحُ » لفظاً واحداً قد استعمل في الحقيقة والمجاز معاً ، وهو باطل لم يثبت في أصول الفقه ، فالأولى أن يحمل هذا التسبيح على المجاز في حقِّ العقلاء وغيرهم؛ لئلاَّ يلزم هذا المحذورُ .
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
لمَّا تكلَّم في الآية المتقدمة في إثبات الإلهيَّة ، تكلَّم في هذه الآية في تقرير النبوَّة ، وفيها قولان :
الأول : أنَّ هذه الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن على الناس . روي أنه - عليه السلام - كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه وعن يساره أحزاب من ولد قصيٍّ يصفقون ، ويصفِّرون ، ويخلطون عليه بالأشعار .
وروى سعيد بن جبير عن أسماء رضي الله عنها قالت : « كَانَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ، ومعه أبُو بكرٍ - رضي الله عنه- ، فنزلت سورة { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ } [ المسد : 1 ] فجاءت امرأة أبي لهبٍ ، ومعها حجرٌ ، تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول : [ الرجز ]
3425_@_- مُذمَّماً أبَيْنَا _@_ ودِينَهُ قَلَيْنَا_@_ _@_وأَمْرَهُ عَصَيْنَا_@_ ولم تَرهُ فقال أبو بكرٍ - رضي الله عنه - يا رسول الله معها حجرٌ ، أخشى عليك ، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، فقالت لأبي بكرٍ : قد علمت أنِّي ابنة سيِّد قريش ، وأنَّ صاحبك هجاني ، فقال ابو بكرٍ - رضي الله عنه- : والله ، ما ينطق بالشِّعر ، ولا يقوله ، فرجعت ، وهي تقول : قد كنتُ جئت بهذا الحجر؛ لأرضخ رأسه . فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : ما رأتك يا رسول الله؟ قال : لا ، لم يزل ملك بيني وبينها يسترني » .
وروى ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - أنَّ أبا سفيان والنضر بن الحارث وأبا جهل وغيرهم ، كانوا يجالسون النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون إلى حديثه ، فقال النَّضر يوماً : ما أدري ما يقول محمجٌ ، غير أنِّي أرى شَفَتيْهِ تتحركان بشيءٍ ، فقال أبو سفيان : إنِّي أرى بعض ما يقوله حقًّا .
وقال أبو جهلٍ : هو مجنونٌ .
وقال أبو لهبٍ : كاهنٌ ، وقال حويطب بن عبدِ العزَّى : هو شاعرٌ ، فنزلت هذه الآية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد تلاوة القرآن ، قرأ قبلها ثلاث آياتٍ ، وهي قوله في سورة الكهف { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } [ الأنعام : 25 ] .
وفي النحل : { أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ } [ النحل : 108 ] .
وفي الجاثية : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } [ الجاثية : 23 ] .
فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات ، عن عيون المشركين ، فكانوا يمرُّون به ، ولا يرونه .
قوله تعالى : { مَّسْتُوراً } أنَّ الله تعالى يخلق حجاباً في عيونهم يمنعهم ذلك الحجاب عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وهو شيء لا يرى ، فكان مستوراً من هذا الوجه .
واحتجُّوا بهذه الآية على أنَّه يجوز أن تكون الحاسَّة سليمة ، ويكون المرثيُّ حاضراً ، مع أنَّه لا يراه الإنسان؛ لنَّ الله تعالى يخلق في عينه مانعاً يمنعه عن رؤيته ، قالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حاضراً ، وكانت حواس الكفَّار سليمة ، ثمَّ إنهم كانوا لا يرونه ، وأخبر الله تعالى أن ذلك إنما كان لأجل أن جعل بينه وبينهم حجاباً مستوراً ، ولا معنى للحجاب المستور إلاَّ ما يخلقه الله في عيونهم بمنعهم من رؤيتهز
وقيل : مستور على النسب ، أي : ذو سترٍ ، كقولهم : مكانٌ مهولٌ ، وجارية مغنوجة ، أي : ذو هولٍ ، وذات غنج ، ولا يقال فيهما : هلت المكان ، ولا غنجت الجارية .
وقيل : وكذلك قولهم : رجُلٌ مرطوبٌ : أي ذو رطوبةٍ ، ولا يقال : رطبة ، هو وصف على جهة المبالغة؛ كقولهم : « شعرٌ شاعرٌ » ورد هذا : بأنَّ ذلك إنَّما يكون في اسم الفاعل ، ومن لفظ الأول .
وقال الأخفش وآخرون : المستورُ ها هنا بمعنى السَّاتر والمفعول قد يرد بمعنى الفاعل؛ كقولهم : مشئوم وميمون بمعنى : شائم ويامن ، وهذا كما جاء اسم الفاعل بمعنى مفعول كماءٍ دافقٍ .
القول الثاني : أنَّ الحجاب هو الطَّبع الذي على قلوبهم والطبع المنع الذي منعهم عن أن يدركوا لطائف القرآن ومحاسنه وفوائده ، فالمراد من الحجاب المستورِ ذلك الطبع الذي خلقه في قلوبهم .
ثم قال تعالى : { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً } وهذه الآية مذكورة بعيناه في سورة الأنعام .
قوله : « وحدهُ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على الحال ، وإن كان معرفة لفظاً ، لأنه في قوة النكرة غذ هو ف يمعنى منفرداً ، وهل هو مصدر ، أو اسم موضوع موضع المصدر الموضوع موضع الحال ، فوحده وضِعَ مَوْضِعَ إيحَادٍ ، وإيحادٌ وضعَ مَوْضِعَ موحدٍ . وهو مذهب سيبويه ، أو هو مصدر على حذف الزوائد ، إذ يقال : أوْحدهُ يُوحِدهُ إيحَاداً ، أو هو مصدر بنفسه ل « وَحَد » ثُلاثِياً « .
قال الزمخشري : » وحَدَ يَحِدُ وحْداً وحِدَة ، نحو : وعَدَ يَعِدُ وعْداً وعِدَة ، و « وحْدَهُ » من باب « رَجَعَ عودهُ على بَدْئهِ » ، و « افعله جهدك وطاقتك » في أنه مصدر سادٌّ مسدَّ الحال ، أصله : يَحِدُ وحْدَهُ ، بمعنى واحِداً « . قلت : وقد عرفت أنَّ هذا ليس مذهب سيبويه .
والثاني : أنه منصوب على الظرف وهو قول يونس ، واعلم أن هذه الحال بخصوصها ، أعني لفظة » وحْدهُ « ، إذا وقعت بعد فاعل ومفعول ، نحو : » ضَربَ زيدٌ عمراً وحْدَهُ « ، فمذهب سيبويه أنه حال من الفاعل ، أي : موحداً له بالضرب ، ومذهب المبرد أنه يجوز أن يكون حالاً من المفعول . قال أبو حيان : » فعلى مذهب سيبويه يكون التقدير : وإذا ذكرت ربك موحداً لله تعالى .
قال المفسرون : معناه : إذا قلت : لا إله إلا الله في القرآن وأنت تتلوه . وعلى مذهب المبرد يجوز أن يكون التقدير : موحداً بالذكر « .
ثم قال : » ولَّوا على أدبارهم نفوراً « وفي » نفوراً « وجهان :
أحدهما : أنه مصدر على غير المصدر ، لأن التولّي والنفور بمعنى .
قال الزجاج رحمه الله : بمعنى ولوا كافرين نفوراً .
والثاني : أنه حال من فاعل « ولَّوا » وهو حينئذ جمع نافرٍ ، ك « قَاعدٍ » ، وقُعودٍ ، وجَالسٍ ، وجُلوسٍ . والضمير في « ولَّوا » الظاهر عوده على الكفار ، وقيل : يعود على الشَّياطين ، وإن لم يجْرِ لهُم ذِكرٌ .
قال المفسرون : إن القوم كانوا في استماع القرآن على حالتين ، سمعوا من القرآن ما ليس فيه ذكر لله تعالى فبقوا مبهوتين متحيرين؛ لا يفهمون منه شيئاص وإذا سمعوا آيات فيها ذكر لله تعالى ، وذم المشركين ولوا نفوراً وتركوا ذلك المجلس .
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
قوله تعالى : { بِمَا يَسْتَمِعُونَ } : الباء في « بما » متعلق ب « أعْلَمُ » . وما كان من باب العلم والجهل في أفعل التفضيل ، وأفعل في التعجب تعدَّى بالباء؛ نحو : أنت أعلمُ به ، وما أَعلمك به!! وهو أجهل به ، وما أجهله به!! ومن غيرهما يتعدَّى في البابين باللام؛ نحو : أنت أكسى للفقراء ، و « مَا » بمعنى الذي ، وهي عبارةٌ عن الاستخفاف والإعراض ، فكأنه قال : نحن أعلم بالاستخفاف ، والاستهزاءِ الذي يستمعون به ، قاله ابن عطيَّة .
قوله : « به » فيه أوجه :
أحدها : أنه حال ، فيتعلق بمحذوف .
قال الزمخشري : « وبه في موضع الحالِ ، كما تقول : يستمعون بالهزءِ ، أي : هازئين » .
الثاني : أنها بمعنى اللامِ ، أي : بما يستمعون له .
الثالث : أنها على بابها ، أي : يستمعون بقلوبهم أو بظاهر أسماعهم ، قالهما أبو البقاء .
الرابع : قال الحوفيُّ : « لم يقلْ يستمعونه ، ولا يستمعونك؛ لمَّا كان الغرضُ ليس الإخبار عن الاستماعِ فقط ، وكان مضمَّناً أنَّ الاستماع كان على طريق الهزء بأن يقولوا : مجنونٌ أو مسحورٌ ، جاء الاستماع بالباء وإلى ، ليعلم أنَّ الاستماع ليس المراد به تفهُّم المسموعِ دون هذا المقصد » فعلى هذا ايضاً تتعلَّق الباء ب « يَسْتمِعُونَ » .
قوله تعالى : { إِذْ يَسْتَمِعُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه معمولٌ ل « أعْلَمُ » . قال الزمخشري : « إذ يستمعون نصب ب » أعْلَمُ « أي : أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون ، وبما يتناجون؛ إذ هم ذوو نجوى » .
والثاني : أنه منصوبٌ ب « يَسْتمِعُونَ » الأولى .
قال ابن عطيَّة - رحمه الله - : « والعامل في » إذ « الأولى ، وفي المعطوف » يَسْتمِعُونَ « الأولى » .
وقال الحوفيُّ : و « إذ » الأولى تتعلق ب « يَسْتمِعُونَ » وكذا « وإذْ هُمْ نجْوَى » لأن المعنى : نحن أعلم بالذي يستمعون إليك ، وإلى قراءتك وكلامك ، إنما يستمعون لسقطك ، وتتبُّع عيبك ، والتماسِ ما يطعنون به عليك ، يعني في زعمهم؛ ولهذا ذكر تعديتهُ بالباء و « إلى » . قوله - عز وجل- : « نَجْوَى » يجوز أن يكون مصدراً ، فيكون من إطلاق المصدر على العين مبالغة ، أو على حذف مضاف ، أي : ذوو نجوى ، كما قاله الزمخشري ، ويجوز أن يكون جمع نجيِّ ، كقتيلٍ وقتلى ، قاله أبو البقاء .
قوله تعالى : { إِذْ يَقُولُ } بدل من « إذ » الأولى في أحد القولين ، والقول لآخر : أنَّها معمولة ل « اذْكُرْ » مقدَّراً .
قوله تعالى : « مَسْحُوراً » الظاهر أنَّه اسم مفعول من « السِّحرِ » بكسر السين ، أي : مخبول العقل ، أو مخدوعه ، وقال أبو عبيدة : معناه أنَّ له سَحْراً ، أي : رئة بمعنى أنه لا يستغني عن الطَّعام والشَّراب ، فهو بشرٌ مثلكم ، وتقول العرب للجبان : « قد انتفخَ سَحرهُ » بفتح السين ، ولكلِّ من أكل وشرب : مسحورٌ ، ومسحرٌ ، فمن الأول قول امرئ القيس : [ الوافر ]
3426- أرَانَا مُوضَعِينَ لأمْرِ غَيْبٍ ... ونُسْحِرُ بالطَّعامِ وبالشَّرابِ
أي : نُغذَّى ونُعَلَّلُ ، ومن الثاني قول لبيدٍ : [ الطويل ]
3427- فَإنْ تَسْألِينَا فيمَ نَحْنُ فَإنَّنَا ... عَصَافِيرُ مِنْ هذا الأنَامِ المُسحَّرِ
وردَّ الناس على أبي عبيدة قوله؛ لبعده لفظاً ومعنًى . قال ابن قتيبة : « لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التَّفسير المستكرهِ مع ما فسَّره السَّلف بالوجوهِ الواضحة » .
قال شهاب الدين : وأيضاً فإن « السَّحْر » الذي هو الرِّئة لم يضرب له فيه مثلٌ؛ بخلاف « السِّحْر » فإنهم ضربوا له فيه المثل ، فما بعد الآية من قوله { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال } [ الإسراء : 48 ] لا يناسب إلا « السِّحْر » بالكسرِ .
فصل في معنى قوله : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } .
قال المفسرون : معنى الآية { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } أي يطلبون سماعه ، { إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } وأنت تقرأ القرآن ، { وَإِذْ هُمْ نجوى } يتناجون في أمرك ، فبعضهم يقول : هذا مجنونٌ ، وبعضهم يقول : شاعرٌ { إِذْ يَقُولُ الظالمون } يعني الوليد بن المغيرة وأصحابه : { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } مطبوباً .
وقال مجاهد - رحمه الله- : مخدوعاً؛ لأنَّ السِّحر حيلة وخديعة ، وذلك لأنَّ المشركين حانوا يقولون : إنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم يتعلَّم من بعض النَّاس هذه الكلمات ، وأولئك النَّاس يخدعونه بهذه الكلمات ، فلذلك قالوا : « مَسْحُوراً » أي : مخدوعاً .
وأيضاً : كانوا يقولون : إنَّ الشيطان يتخيَّل له ، فيظنُّ أنه ملكٌ ، فقالوا : إنه مخدوع من قبل الشَّيطان .
وقيل : مصروفاً عن الحقِّ ، يقال : ما سحرك عن كذا ، اي : ما صرفك ، وقيل : المسحور هو الشَّيء المفسود ، يقال : طعام مسحور ، إذا فسد ، وأرض مسحورة ، إذا أصابها من المطر أكثر ممَّا ينبغي فأفسدها .
فإن قيل : إنَّهم لم يتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يصحُّ أن يقولوا : { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } .
فالجواب أنَّ معناه : إن اتَّبعْتُموهُ ، فقد اتَّبعْتُمْ رجلاً مسحوراً . ثم قال تعالى : { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال } ، أي : كلُّ أحد شبَّهك بشيءٍ ، فقالوا : كاهنٌ ، وساحرٌ ، وشاعرٌ ، ومعلَّمٌ ، ومجنونٌ ، فضلُّوا عن الحقِّ ، فلا يستطيعون سبيلاً ، اي : وصولاً إلى طريق الحقِّ .
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
قوله تعالى : { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً } الآيات .
لما تكلَّم أوَّلاً في الإلهيَّاتِ ، ثمًَّ أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوَّات ، ذكر في هذه الآيات شبهاتهم في إنكار المعاد ، والبعث ، والقيامة ، وقد تقدَّم أنَّ مدار القرآن على هذه الأربعة ، وهي الإلهيَّات ، والنبوّات ، والمعاد ، والقضاء والقدر ، وأيضاً فالقوم وصفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكونه مسحوراً فاسد العقل ، فذكروا أن من جملة ما يدلُّ على فساد عقله : أن يدعي أنَّ الإنسان بعدما يصير عظاماً ورفاتاً يعود حيًّا ، كما كان .
قوله تعالى : { أَإِذَا كُنَّا } : قد تقدم خلاف القرَّاء في مثل هذين الاستفهامين في سورة الرعد ، والعامل في « إذَا » محذوفٌ [ تقديره : ] أنبعثُ أو أنحشر ، إذا كُنَّا ، دلَّ عليه « المَبْعُوثُونَ » ولا يعمل فيها « مَبعُوثُونَ » هذا؛ لأنَّ ما بعد « إنَّ » لا يعمل فيما قبلها ، وكذا ما بعد الاستفهام ، لا يعمل فيما قبله ، وقد اجتمعا هنا ، وعلى هذا التقدير : تكون « إذَا » متمحِّضة للظرفية ، ويجوز أن تكون شرطية ، فيقدَّر العامل فيها جوابها ، تقديره : أإذا كنَّا عظاماً ورفاتاً نبعث أو نعاد ، ونحو ذلك ، فهذا المحذوف جواب الشَّرط عند سيبويه ، والذي انصبَّ عليه الاستفهام عند يونس .
والرُّفات : ما بولغَ في دقِّه ، وتفْتِيتِه ، وهو اسمٌ لأجزاءِ ذلك الشيء المفتت ، وقال الفراء : « هو التُّرَابُ » وهو قول مجاهدٍ ويؤيِّده أنه قد تكرَّر في القرآن « تراباً وعظاماً » . يقال : رَفَتَهُ يَرْفِتُهُ بالكسرِ [ أي : كسره ] .
وقيل : حطاماً قال الواحدي : الرفت : كسر الشيء بيدك؛ كما يرفت المدر والعظم البالي ، يقال : رفت عظام الجَزُورِ رفتاً ، إذا كسرها ، ويقال للتبن : الرفت؛ لأنَّه دقاق الزَّرْع .
قال الأخفش : رفت رفتاً ، فهو مَرفُوتٌ ، نحو حطم حَطْماً ، فهو مَحْطُوم .
والفعال يغلب في التفريق كالرُّفات والحطامِ والعظام والدقاق والفتات ، والجذاذَ والرضاض .
قوله تعالى : « خَلْقاً » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدرٌ من معنى الفعل ، لا من لفظه ، أي : نبعثُ بعثاً جديداً .
والثاني : أنه في موضع الحال ، أي : مخلوقين .
فصل
تقرير شبهة القوم : هو أنَّ الإنسان ، إذا جفَّت أعضاؤه ، وتناثرت وتفرَّقت في جوانب العالم ، واختلطت تلك الأجزاء بسائر أجزاء العالم ، فالأجزاء المائيَّة تختلط بمياه العالم ، والأجزاء الترابيَّة تختلط بالتُّراب ، والأجزاء الهوائيَّة تختلط بالهواء ، وإذا كان كذلك ، فكيف يعقل اجتماعها بأعيانها مرَّة أخرى ، وكيف يعقل عود الحياة إليها بأعيانها مرة أخرى؟! هذا تقرير شبهتهم .
والجواب عنها : أن هذا الإشكال لا يتمُّ إلاَّ بالقدح في كمال علم الله تعالى ، وفي كمال قدرته .
أمَّا إذا سلَّمنا كونه تعالى عالماً بجميع الجزئيات ، فحينئذٍ ، هذه الأجزاء ، وإن اختلطت بأجزاء العالم ، إلاَّ أنها متميِّزة في علم الله تعالى ، ولما سلَّم كونه - تعالى - قادراً على كلِّ الممكنات ، كان قادراً على إعادة التأليف والتركيب ، والحياة ، والعقل ، إلى تلك الأجزاء بأعيانها ، فمتى سلم كمال علم الله تعالى ، وكمال قدرته ، زالت هذه الشبهة بالكليَّة .
ثم قال تعالى : { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } وذلك أنَّهم استبعدوا أن يردَّهم أحياءً بعد أن صاروا عظاماً ورفاتاً ، فإنَّها صفة منافية لقبول الحياة بحسب الظاهر ، فقال : ولقد قدرتم أنَّ هذه الأجسام بعد الموت تصير إلى صفة أخرى أشدَّ منافاة لقبول الحياة من كونها عظاماً ورفاتاً؛ مثل أن تصير حجارة أو حديداً؛ فإنَّ المنافاة بين الحجرية والحديدية وبين قبول الحياة اشدُّ من المنافاة بين العظميَّة وبين قبول الحياة؛ لأنَّ العظم كان جزءاً من بدن الحيِّ ، وأمَّا الحجارة والحديد ، فما كانا ألبتَّة موصوفين بالحياة ، فبتقدير أن تصير أبدان الناس حجارة أو حديداً بعد الموت ، فإن الله تعالى يعيد الحياة إليها ، ويجعلها حية عاقلة ، كما كان ، والجليل على صحَّة ذلك أن تلك الأجسام قابلة للحياة والعقل؛ إذ لو لم يكن القبول حاصلاً ، لما حصل العقل والحياة لها في أوَّل الأمر ، وإله العالم عالمٌ بجميع الجزئيَّات ، فلا يشتبه عليه أجزاء بدنِ زيد المطيع بأجزاء بدن عمرو العاصي ، وقادرٌ على كل الممكنات .
وإذا ثبت أنَّ عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكنٌ في نفسه ، وثبت أنَّ إله العالم عالمٌ بجميع المعلومات ، قادرٌ على كلِّ الممكنات ، كان عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكناً قطعاً سواءٌ صارت عظاماً ورفاتاً أو أشياء أبعد من العظم في قبول الحياة ، مثل أن تصير حجارة أو حديداً ، وهذا ليس المراد منه الأمر ، بل المراد أنَّكم لو كنتم كذلك ، لما أعجزتم الله تعالى عن الإعادة؛ كقول القائل للرجل : أتطمع فيَّ ، وأنا ابنُ فلانٍ؟!! فيقول : كُنْ من شئت كن ابن الخليفة فسأطلب منك حقِّي . ثم قال تعالى : { أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } أي : لو فرضتم شيئاً آخر أبعد من قبولِ الحجر والحديد للحياة ، بحيث يستبعد عقلكم قبوله للحياة ، ولا حاجة إلى تعيين ذلك الشيء؛ لأنَّ المراد أنَّ أبدان النَّاس ، وإن انتهت بعد موتها إلى أيِّ صفة فرضت ، وإن كانت في غاية البعد عن قبول الحياة ، فإنَّ الله قادرٌ على إعادة الحياة إليها .
قال ابن عبَّاس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وأكثر المفسِّرين - رضي الله عنهم - : إنَّه الموت؛ فإنَّه ليس في نفس ابن آدم شيء أكبر من الموت ، أي : لو كنتم الموت بعينه ، لأميتنَّكم ، ولأبعثنكم ، وهذا إنَّما يحسنُ ذكره على سبيل المبالغة ، أما نفس الأمر بهذا ، فهو محالٌ؛ لأن أبدان النَّاس أجسامٌ ، والموت عرضٌ ، والجسم لا ينقلب عرضا ، وبتقدير أن ينقلب عرضاً ، فالموت لا يقبل الحياة؛ لأن أحد الضِّدين يمتنع اتصافه بالضدِّ الآخر .
وقال بعضهم : يعني السَّماء والأرض .
ثم قال تعالى : { فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا } ، أي : من الذي يقدر على إعادة الحياة ، فقال تعالى : { قُلْ } يا محمد : { الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : خلقكم أوَّل مرة ، ومن قدر على الإنشاء قدر على الإعادة .
قوله تعالى : { الذي فَطَرَكُمْ } : فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : الذي فطركم يعيدكم ، وهذا التقدير فيه مطابقة بين السؤال والجواب .
والثاني : أنه خير مبتدأ محذوف ، أي : معيدكم الذي فطركم .
الثالث : أنه فاعل بفعل مقدَّر ، أي : يعيدكم الذي فطركم ، ولهذا صرِّح بالفعل في نظيره عند قوله : { لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم } [ الزخرف : 9 ] .
و « أوَّل مرَّةٍ » ظرف زمانٍ ناصبه « فَطرَكُمْ » .
قوله تعالى : { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ } ، أي : يحرِّكونها استهزاء ، يقال : أنغض رأسه ينغضها ، أي : يحركها إلى فوق ، وإلى أسفل إنغاضاً ، فهو منغضٌ ، قال : [ الرجز ]
3428- أنْغضَ نَحْوي رَاسهُ وأقْنَعا ... كَأنَّهُ يَطلبُ شيئاً أطْمعَا
وقال آخر : [ الرجز ]
3429- لمَّا رَأتْنِي أنغضَتْ لِي الرَّأسَا ... وسمي الظليم نغضاً لأنه يحرك رأسه وقال أبو الهيثم : « إذا أخبر الرجلُ بشيءٍ ، فحرَّك رأسه؛ إنكاراً له ، فقد أنغضَ » .
قال ذو الرُّمَّة :
3430- ظَعائِنُ لمْ يَسْكُنَّ أكْنافَ قَرْيةٍ ... بِسيفٍ ولَمْ تَنْغُضْ بهنَّ القَناطِرُ
أي : لم تحرَّك ، وأمَّا نغض ثلاثيًّا ، ينغَض وينغُض بالفتح والضمِّ ، فبمعنى تحرَّك ، لا يتعدَّى يقال : نغضتْ سنُّه ، أي : تحرَّكتْ ، تَنغِضُ نغضاً ، ونغوضاً . قال : [ الرجز ]
3431- ونَغَضتْ مِنْ هَرمٍ أسْنانُهَا ... ثم قال تعالى : { وَيَقُولُونَ متى هُوَ } ، أي : البعث والقيامة ، وهذا سؤالٌ فاسدٌ؛ لأنَّهم منعوا الحشر والنشر كما تقدَّم؛ ثمَّ بين تعالى بالبرهان القاطع كونه ممكناً في نفسه ، فقولهم « مَتَى هُوَ » كلام لا يتعلق بالبعث؛ فإنَّه لما ثبت بالدليل العقليِّ كونه ممكن الوجود في نفسه ، وجب الاعتراف بإمكانه ، فإنه متى يوجد ، فذاك لا يمكن إثباته بالعقل ، بل إنما يمكن إثباته بالدَّليل السمعي ، فإن أخبر الله تعالى عن ذلك الوقت المعيَّن ، عرف ، وإلا فلا سبيل إلى معرفته .
وقد بين الله تبارك وتعالى في القرآن؛ أنَّه لا يطلع أحداً من الخلق على وقته المعيَّن ، فقال جلَّ ذكره : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } [ لقمان : 34 ] وقال : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي } [ الأعراف : 187 ] وقال تعالى : { إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] فلا جرم قال تعالى : { عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً } .
قال المفسِّرون : « عَسَى » من الله واجبٌ ، معناه : أنه قريبٌ ، فإن قيل : كيف يكون قريباً ، وقد انقرض سبعمائة سنة ، ولم يظهر .
فالجواب : قال ابن الخطيب : إن كان معنى : « أكثر مَّا بَقِيَ » كان الباقي قليلاً ، ويحتمل أن يريد بالقرب أن إتيان السَّاعة متناهٍ ، وكل ما كان متناهياً من الزَّمان فهو قليلٌ ، بل أقلُّ من القليل بالنسبة إلى الزَّمان الذي بعده؛ لأنَّه غير متناهٍ؛ كنسبة العدد المتناهي إلى العدد المطلقِ؛ فإنَّه لا ينسب إليه بجزءٍ من الأجزاء ، ولو قلَّ .
ويقال في المثل « كل آت قريب » .
قوله تعالى : { عسى أَن يَكُونَ } يجوز أن تكون الناقصة ، واسمها مستتر فيها يعود على البعث والحشر المدلول عليهما بقوَّة الكلام ، أو لتضمُّنه في قوله « مَبُْعُوثُونَ » و « أنْ يَكُونَ » خبرها ، ويجوز أن تكون التامة مسندة إلى « أنّ » وما في حيزها ، واسم « يكون » ضمير البعث؛ كما تقدَّم .
وفي « قريباً » وجهان :
أحدهما : أنه خبر « كَانَ » وهو وصفٌ على بابه .
والثاني : أنه ظرف ، أي : زماناً قريباً ، و « أنْ يَكُونَ » على هذا تامة ، أي : عسى أن يقع العود في زمانٍ قريبٍ .
قوله تعالى : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } : فيه أوجه :
أحدها : أنه بدل من « قريباً » ، إذا أعربنا « قريباً » ظرف زمان ، كما تقدَّم .
والمعنى : عَسَى أن يكون يوم البعث يوم يدعوكم ، أي بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة ، كقوله تعالى : { يَوْمَ يُنَادِ المناد مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } [ ق : 41 ] .
الثاني : أنه منصوب ب « يكُونَ » قاله أبو البقاء . وهذا عند من يجيز إعمال الناقصة في الظرف ، وإذا جعلناها تامة ، فهو معمولٌ لها عند الجميع .
الثالث : أنه منصوب بضمير المصدر الذي هو اسم « يكُون » أي : عسى أن يكون العود يوم يدعوكم ، وقد منعه أبو البقاء قال : « لأنَّ الضمير لا يعملُ » يعني عند البصريِّين ، وأمَّا الكوفيون ، فيعملون ضمير المصدر ، كمظهره ، فيقولون : « مُرُوري بزيدٍ حسنٌ ، وهو بعمرٍو قبيحٌ » ف « بِعَمْرٍو » عندهم متعلق ب « هُوَ » لأنه ضمير المرور ، وأنشدوا قول زهير على ذلك : [ الطويل ]
3432- ومَا الحَرْبُ إلاَّ ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُم ... ومَا هُو عَنْهَا بالحدِيثِ المُرجَّمِ
ف « هُوَ » ضمير المصدرِ ، وقد تعلق به الجار بعده ، والبصريُّون يؤوِّلونه .
الرابع : أنه منصوب بفعل مقدَّر ، أي : اذكر يوم يدعوكم .
الخامس : أنه منصوبٌ بالبعث المقدر ، قالهما أبو البقاء .
قوله تعالى : « بِحَمدِه » فيه قولان :
أحدهما : أنها حالٌ ، أي : تستجيبون حامدين ، أي : منقادين طائعين .
وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث؛ كقولك لمن تأمرهُ بعمل يشقُّ عليه : ستأتي به ، وأنت حامدٌ شاكرٌ ، أي : ستأتي إلى حالة تحمدُ الله وتشكر على أن اكتفى منك بذلك العمل ، وهذا يذكر في معرض التهديد .
والثاني : أنها متعلقة ب « يَدْعُوكُم » قاله أبو البقاء ، وفيه قلقٌ .
قوله تعالى : { إِن لَّبِثْتُمْ } « إنْ » نافية ، وهي معلقة للظنِّ عن العمل ، وقلَّ من يذكر « إن » النافية ، في أدواتِ تعليق هذا الباب ، و « قليلاً » يجوز أن يكون نعت زمانٍ أو مصدرٍ محذوفٍ ، أي : إلا زماناً قليلاً ، أو لبثاً قليلاً .
فصل في معنى النداء والإجابة
المعنى : « يَوْمَ يَدْعوكم » بالنِّداء من قبوركم إلى موقف القيامة ، « فتَسْتَجِيبُونَ » أي : تجيبون ، والاستجابة موافقة الداعي فيما دعا إليه ، وهي الإجابة ، إلاَّ أنَّ الاستجابة تقتضي طلب الموافقةِ ، فهي أوكد من الإجابة .
وقوله « بِحَمْدهِ » قال ابن عباس : بأمره .
وقال قتادة : بطاعته؛ لأنَّهم لما أجابوه بالتَّسبيح والتَّحميد ، كان ذلك معرفة منهم وطاعة ، ولكنَّهم لا ينفعنم ذلك في ذلك اليوم .
وقيل : يُقِرُّون بأنَّه خالقهم وباعثهم ، ويحمدونه حين لا ينفعهم الحمد ، وهذا خطاب للكفّار .
وقيل : هذا خطابٌ للمؤمنين .
قال سعيد بن جبير : يخرجون من قبورهم ، وينفضون التُّرابَ عن رءوسهم ، ويقولون : سبحانك وبحمدك ، وهو قوله : { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } .
وقال أهل المعاني : أي تستجيبون حامدين؛ كما تقول : جاء بغضبه ، أي : جاء غضبان ، وركب الأمير بسيفه ، أي : وسيفه معه ، ثم قال : { وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي : إن لبثتم في الدنيا ، أو في القبور { إِلاَّ قَلِيلاً } لأنَّ الإنسان لو مكث ألوفاً من السِّنين في الدنيا أو في القبور ، عُدَّ ذلك قليلاً في مدَّة القيامة والخلود .
وقال ابن عباسٍ : يريد بين النفختين الأولى والثانية ، فإنه يزال عنهم العذاب في هذا الوقت ، ويدلُّ عليه قوله تعالى في سورة يس { مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } [ يس : 52 ] وذلك ظنُّهم بأنَّ هذا اللبث قليل ، أي : لبثهم فيما بين النَّفختين .
وقيل : المراد استقلال لبثهم في عرصة القيامة؛ لأنَّه لما كان عاقبة أمرهم الدُّخول في النَّار ، استقصروا مدة لبثهم في برزخ القيامة .
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
تقدم إعراب قوله تعالى { وَقُل لِّعِبَادِي } في سورة إبراهيم [ 31 ] . وفي العباد ها هنا قولان :
الأول : المراد به المؤمنون؛ لأنَّ لفظ العباد في أكثر آيات القرآن مختصٌّ بالمؤمنين . قال تعالى : { فَبَشِّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول } [ الزمر : 17 ، 18 ] { فادخلي فِي عِبَادِي } [ الفجر : 29 ] { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله } [ الإنسان : 6 ] .
وإذا عرف هذا ، فإنه تعالى لمَّا ذكر الحجج القطعيَّة في صحَّة المعاد ، وهو قوله تعالى : { قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الإسراء : 51 ] قال ها هنا : قل ، يا محمد لعبادي : إذا أردتم الاستدلال على المخالفين ، فاذكروا تلك الدلائل بطريق الأحسن من غير شتم ، ولا سبٍّ ، ونظيره قوله تعالى : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] وقوله تعالى : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ العنكبوت : 46 ] وذلك لأنَّ ذكر الحجَّة ، إذا اختلط به سبٌّ أو شتمٌ ، لقابلوكم بمثله ، كما قال تعالى : { وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعام : 108 ] ويزداد الغضب ، وتكمل النُّفرة ، ويمتنع المقصود ، وإذا ذكرت الحجة بالطَّريق الأحسن ، أثَّر في القلب تأثيراً شديداً ، ثم نبَّه تعالى على وجه المنفعة ، فقال تعالى : { إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } أي : يفسد بينهم ، ويغري بينهم .
قال الكلبي : كان المشركون يؤذون المسلمين ، فشكوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : { وَقُل لِّعِبَادِي } المؤمنين يقولوا للمشركين التي هي أحسنُ ، ولا يكافئوهم بسفههم .
قال الحسن : يقول له : يهديك الله ، وكان هذا قبل الإذن في الجهاد .
وقيل : نزلت في عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - شتمة بعض الكفَّار ، فأمره الله تعالى بالعفو .
وقيل : أمر المؤمنين بأن يقولوا ، ويفعلوا الخلَّة التي هي أحسن .
وقيل : الأحسن قول : لا إله إلا الله .
قوله تعالى : { إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } يجوز أن تكون هذه الجملة اعتراضاً بين المفسَّر والمفسِّر؛ وذلك أن قوله تعالى : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ } [ الإسراء : 54 ] وقع تفسيراً لقوله { بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ الإسراء : 34 ] وبياناً لها ، ويجوز ألاَّ تكون معترضة ، بل مستأنفة .
وقرأ طلحة « ينْزغُ » بكسر الزاي ، وهما لغتان ، كيَعْرِشُون ويَعرُشُونَ ، قاله الزمخشري . قال أبو حيان : ولو مثَّل ب « يَنطَحُ » و « يَنْطِحُ » كأنَّه يعني من حيث إنَّ لامَ كلِّ منهما حرف حلقٍ ، وليس بطائلٍ .
والمعنى : أنَّ الشيطان يلقي العداوة بينهم { إِنَّ الشيطان كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً } ظاهر العداوة .
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)
قوله تعالى : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ } يوفِّقكُمْ ، فتؤمنوا { أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ } يميتكم على الكفر ، فيعذِّبكم ، قاله ابن جريح .
وقال الكلبيُّ : إن يشأ يرحمكم ، فينجيكم من أهل مكَّة ، وإن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم .
{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } حفيظاً ، وكفيلاً ، والمقصود إظهار اللِّين والرِّفقِ لهم عند الدَّعوة؛ فإنَّ ذلك هو المؤثِّرُ في القلبِ قيل : نسختها آية القتالِ .
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
قوله تعالى : { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات والأرض } : في هذه الباءِ قولان :
أشهرهما : أنها تتعلق ب « أعْلَمُ » كما تعلَّقت الباء ب « أعْلَمُ » قبلها ، ولا يلزمُ من ذلك تخصيص علمه بمن في السماوات والأرض فقط .
والثاني : أنها متعلقة ب « يَعْلَمُ » مقدَّراً ، قاله الفارسيُّ ، محتجًّا بأنَّه يلزمُ من ذلك تخصيصُ علمه بمن في السماوات والأرض ، وهو وهمٌ؛ لأنَّه لا يلزمُ من ذكر الشيء نفيُ الحكم عمَّا عداه ، وهذا هو الذي يقول الأصوليُّون : إنه مفهوم اللَّقبِ ، ولم يقل به إلاَّ أبو بكرٍ الدَّقَّاق في طائفة قليلة .
فصل
معنى الآية أنَّ علمه غير مقصورٍ عليكم ، ولا على أحوالكم ، بل علمه متعلِّق بجميع الموجودات والمعدودات ، وبجميع ذرَّات الأرضين ، والسَّموات ، فيعلم حال كلِّ أحد ، ويعلم ما يليقُ به من المصالح والمفاسد ، ولهذا جعلهم مختلفين في صورهم ، وأحوالهم ، وأخلاقهم ، وفضَّل بعض النبيين على بعضٍ ، وآتى موسى التوراة ، وداود الزَّبُور ، وعيسى الإنجيل ، ولم يبعد أيضاً أن يؤتي محمَّداً صلى الله عليه وسلم القرآن مع تفضيله على الخلق .
فإن قيل : ما السَّبب في تخصيص داود بالذكر هاهنا؟ .
فالجواب من وجوهٍ :
الأول : أنَّه تعالى ذكر أنَّه فضَّل بعض النَّبيِّينَ على بعض ، ثم قال : { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } يعني أنَّ داود آتاه ملكاً عظيماً ، ثم إنَّه تعالى لم يذكر ما آتاه من الملك ، وذكر ما آتاه من الكتب؛ تنبيهاً على أنَّ التفضيل الذي ذكره قبل ذلك المراد منه التفضيل بالعلم والدِّين ، لا بالمال .
والثاني : أنَّ تخصيصه بالذِّكر أنَّه تعالى كتب في الزَّبور أن محمَّداً خاتم الأنبياء ، وأنَّ امَّة محمد خيرُ الأمم - صلوات الله وسلامه عليه- .
قال تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] وهم محمد وأمته .
فإن قيل : هلا عرفه كقوله : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور } .
فالجواب أن التنكير ها هنا يدل على تعظيم حاله؛ لأن الزبور عبارة عن المزبور ، فكان معناه الكتاب ، وكان معنى التنكير أنه كامل في كونه كتاباً .
ويجوز أن يكون « زبور » علماً ، فإذا دخلت عليه « أل » كقوله : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور } كانت للمْحِ الأصل كعبَّاس والعباس ، وفضل والفضل .
وقيل : نكَّره هنا دلالة على التبعيض ، أي : زبُوراً من الزُّبر ، أو زبوراً فيه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق على القطعة منه زبورٌ ، كما يطلق على بعض القرآن ، قرآن .
الثالث : أنَّ السَّبب في تخصيص داود - صلوات الله عليه - أنَّ كفار قريش ما كانوا أهل نظرٍ وجدلٍ ، بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشُّبهات ، واليهود كانوا يقولون : لا نبيَّ بعد موسى ، ولا كتاب بعد التَّوراة ، فنقض الله عليهم كلامهم بإنزالِ الزَّبور على داود ، وتقدَّم خلافُ القراء في الزبور في آخر سورة النساء .
قوله تعالى : { الذين زَعَمْتُم } : مفعولا الزَّعم محذوفان؛ لفهم المعنى ، أي : زعمتموهم ىلهة ، وحذفهما اختصاراً جائزاٌ ، واقتصاراً فيه خلاف .
فصل في سبب نزول الآية
قال المفسرون : إن المشركين أصابهم قحطٌ شديدٌ؛ حتَّى أكلوا الكلاب والجيفَ واستغاثوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم ، قال الله تعالى { قُلِ } للمشركين { ادعوا الذين زَعَمْتُم } أنها آلهة من دونه .
واعلم أنه ليس المراد الأصنام؛ لأنَّه تعالى قال في صفتهم :
{ أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } [ الإسراء : 57 ]
وابتغاءُ الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام البتَّة ، وإذا ثبت هذا ، فنقول : إنَّ قوماً عبدوا الملائكة ، فنزلت هذه الآية فيهم .
وقال ابن عبَّاس رضي الله عنه ومجاهدٌ : إنَّها نزلت في الذين عبدوا المسيح ، وعزيراً ، والملائكة ، و الشمس ، والقمر ، والنجوم .
وقيل : إنَّ قوماً عبدوا نفراً من الجنِّ ، فأسلم النَّفر ، وبقي أولئك الناس متمسِّكين بعبادتهم ، فنزلت فيهم الآية .
قال ابن عباس : كل موضعٍ في كتاب الله ورد فيه لفظ الزعم ، فهو كذبٌ . ثم إنَّه تعالى احتجَّ على فساد مذهب هؤلاء بأنَّ الإله المعبود هو القادر على إزالةِ الضرر ، وإيصال النفع وهذه الأشياء التي يعبدونها ، وهي الملائكة ، والجنُّ ، والمسيحُ ، وعزيرٌ لا يقدرون على كشف الضرِّ ، ولا على تحصيل النَّفع ، فما الدليل على أنَّ الأمر كذلك؟ فإن قلتم : لأنَّا نرى أولئك الكفَّار يتضرَّعون إليها ، ولا تحصل الإجابة . قلنا : ونرى أيضاً المسلمين يتضرَّعون إلى الله تعالى ، ولا تحصل الإجابة والمسلمون يقولون بأجمعهم : إنَّ القدرة على كشف الضرِّ ، وتحصيل النفع ليست إلاَّ لله تعالى ، وعلى هذا التقدير ، فالدليل غير تامٍّ .
فالجواب : أنَّ الدليل تامٌّ كاملٌ؛ لأنَّ الكفار كانوا مقرِّين بأنَّ الملائكة عباد الله تعالى ، وخالق الملائكة ، وخالق العالم لا بدَّ وأن يكون أقدر من الملائكة ، وأقوى منهم ، وأكمل حالاً منهم .
وإذا ثبت هذا ، فنقول : كمال قدرة الله معلوم متفقٌ عليه ، وكمال قدرة غير الله غير معلوم ، ولا متفقٍ عليه ، بل المتَّفق عليه أنَّ قدرتهم بالنِّسبة إلى قدرة الله تعالى قليلة حقيرةٌ ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون الاشتغال بعبادة الله أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة؛ لأنَّ استحقاق الله العبادة معلومٌ ، وكون الملك كذلك مجهولٌ؛ والأخذ بالمعلوم أولى ، وسلك المتكلِّمون من أهل السنَّة طريقة أخرى ، وهو أنَّهم أقاموا الحجة العقليَّة على أنَّه لا موجد إلاَّ الله تعالى ، ولا يخرج الشيء من العدم إلى الوجود إلا الله ، وإذا ثبت ذلك ثبت أنه لا ضارّ ولا نافع إلا الله تعالى ، فوجب القطع بأنه لا معبود إلا الله تعالى ، وهذه الطريقة لا تتم للمعتزلة ، لأنهم لما جوزوا كون العبد موجداً لأفعاله امتنع عليهم الاستدلال على أن الملائكة - عليهم السلام - لا قدرة لها على الإحياء والإماتة ، وخلق الجسم ، وإذا عجزوا عن ذلك ، لا يتمُّ لهم هذا الدليلُ ، فهذا هو الدليل القاطع على صحَّة قوله : { فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً } ، والتحويلُ عبارة عن النَّقل من حالٍ إلى حالٍ ، ومن مكانٍ إلى مكانٍ ، يقال : حوَّله ، فتحوَّل .
قوله تعالى : { أولئك الذين يَدْعُونَ } : « أولئك » مبتدأ ، وفي خبره وجهان :
أظهرهما : أنّه الجملة من « يَبْتَغُونَ » ويكون الموصولُ نعتاً ، أو بياناً أو بدلاً ، والمراد باسم الإشارة الأنبياء أو الملائكة الذين عبدوا من دون الله ، والمراد بالواو العبَّاد لهم ، ويكون العائدُ على « الَّذينَ » محذوفاً ، والمعنى : أولئك الأنبياء الذين يدعونهم المشركون ، لكشف ضرِّهم - أو يدعونهم آلهة ، فمفعولها أو مفعولاها محذوفان - يبتغون .
ويجوز أن يكون المراد بالواو ما أريد بأولئك ، أي : أولئك الأنبياء الذين يدعون ربَّهم أو النَّاس إلى الهدى يبتغون ، فمفعول « يَدْعُونَ » محذوف .
والثاني : أن الخبر نفسُ الموصول ، و « يَبْتَغُون » على هذا حالٌ من فاعل « يَدْعُون » أو بدلٌ منه . وقرأ العامة « يَدعُونَ » بالغيب ، وقد تقدَّم الخلاف في الواو؛ هل تعود على الأنبياء أو على عابديهم ، وزيد بن عليٍّ بالغيبة أيضاً ، إلا أنه بناه للمفعول ، وقتادة ، وابن مسعود بتاء الخطاب ، وهاتان القراءتان تقوِّيان أنَّ الواو للمشركين ، لا للأنبياء في قراءة العامة .
فسل
إذا أعدنا « يَدْعُونَ » للعابدين ، و « يَبْتَغُونَ » للمعبودين ، فالمعنى : أولئك المعبودون يبتغون إلى ربِّهم الوسيلة؛ لأنَّ الملائكة يرجعون غلى الله في طلب المنافع ، ودفع المضارِّ ، يرجون رحمته ، ويخافون عذابه ، وإذا كانوا كذلك ، كانوا عاجزين محتاجين ، والله - تعالى أغنى الأغنياء ، فكان الاشتغال [ بعبادته ] أولى .
فإن قيل : لا نسلِّم أنَّ الملائكة محتاجون إلى رحمة الله تعالى ، وخائفون من عذابه .
فالجواب : أنَّ الملائكة : إمَّا أن يقال : إنَّها واجبة الوجود لذواتها ، أو يقال : إنَّها ممكنة الوجود لذواتها ، والأول باطلٌ؛ لأن جميع الكفَّار كانوا معترفين بأن الملائكة عبادُ الله ، ومحتاجون إليه .
وأما الثاني : فهو يوجب القول بأنَّ الملائكة محتاجون في ذواتها ، وفي كمالاتها إلى الله تعالى ، فكان الاشتغالُ بعبادة الله تعالى أولى من الاشتغال بعبادةِ الملائكة .
وإن أعدنا « يَدْعُونَ » إلى الأنبياء - عليهم السلام - المذكورين في قوله تعالى : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ } فالمعنى هو أنَّ الذي عظمت منزلتهم - وهم الأنبياء - لا يعبدون إلا الله تعالى ، ولا يبتغون الوسيلة إلاَّ إليه ، فأنتم بالاقتداءِ بهم أحق ، فلا تعبدوا غير الله - عزَّ وجلَّ - والمراد بالوسيلةِ : الدَّرجة العليا .
وقيل : كل ما يتقرَّب إلى الله تعالى .
واحتجُّوا على صحَّة هذا القول بأنَّ الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ، فلا يخافون عذابه ، فثبت أنَّ هذا غير لائقٍ بالملائكةِ ، وإنما هو لائقٌ بالأنبياء - صلوات الله عليهم- .
وأجيب بأنَّ الملائكة يخافون من عذاب الله ، لو اقدموا على الذنب ، قال تعالى : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 29 ] وقال تعالى : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ } [ النحل : 50 ] ثم قال عزَّ وجلَّ : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } أي من حقِّه أن يحذر ، فإن لم يحذره بعض الناس لجهله ، فإنَّه لا يخرج عن كونه يجب الحذر عنه .
قوله تعالى : { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } في « أيُّ » هذه وجها :
أحدهما : أنها التفهامية .
والثاني : أنها موصولة بمعنى « الَّذي » وإنما كثر كلام المعربين فيها من حيث التقدير ، فقال الزمخشريُّ : « وأيُّهم بدلٌ من واو » يَبْتَغُونَ « و » أيُّ « موصولة ، أي : يبتغي من هو أقربُ منهم وأزلفُ ، أو ضمِّن » يَبْتغُونَ الوسيلة « معنى يحرصون ، فكأنه قيل : يحرصون أيهم يكون أقرب » . فجعلها في الوجه الأول موصولة ، وصلتها جملة من مبتدأ وخبر ، حذف المبتدأ ، وهو عائدها ، و « أقْرَبُ » خبرٌ . واحتملت « أيُّ » حينئذٍ أن تكون مبنية ، وهو الأكثر فيها ، وأن تكون معربة ، وسيأتي موضعه في مريم : [ 69 ] إن شاء الله تعالى وفي الثاني جعلها استفهامية؛ بدليل أنه ضمَّن الابتغاء معنى شيء تعلق ، وهو يحرصون ، فيكون « أيُّهُمْ » مبتدأ و « أقربُ » خبره ، والجملة في محلِّ نصب على إسقاط الخافض؛ لأنَّ « تحْرِصُ » يتعدَّى ب « على » قال تعالى : { إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ } [ النحل : 37 ] ، { أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ } [ البقرة : 96 ] .
وقال أبو البقاء : « أيُّهُمْ » مبتدأ ، و « أقْرَبُ » خبره ، وهو استفهامُ في موضع نصبٍ ب « يَدْعُونَ » ، ويجوز أن يكون « أيُّهُمْ » بمعنى الذي ، وهو بدلٌ من الضمير في « يَدعُونَ » .
قال أبو حيان : « علَّق » يَدْعُونَ « وهو ليس فعلاً قلبيًّا ، وفي الثاني فصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحاليَّة ، ولا يضرُّ ذلك ، لأنَّها معمولة للصِّلة » . قال شهاب الدين : أمَّا كون « يَدْعُونَ » لا يعلق ، هو مذهب الجمهور ، وقال يونس : يجوز تعليق الأفعال مطلقاً ، القلبية وغيرها ، وأمَّا قوله « فصل بالجملة الحالية » يعني بها « يَبْتَغُونَ » فصل بها بين « يَدْعُونَ » الذي هو صلة « الَّذينَ » وبين معموله ، وهو « أيُّهم أقْرَبُ » لأنه معلَّقٌ عنه ، كما عرفته ، إلا أنَّ الشيخ لم يتقدَّم في كلامه إعرابُ « يَبْتغُونَ » حالاً ، بل لم يعربها إلاَّ خبراً للموصول ، وهذا قريبٌ .
وجعل أبو البقاء أيًّا الموصولة بدلاً من واو « يَدْعُونَ » ، ولم أرَ أحداً وافقه على ذلك ، بل كلُّهم يجعلونها من واو « يَبْتَغُونَ » وهو الظاهر .
وقال الحوفي- رحمه الله- : « أيُّهم أقربُ » ابتداء وخبر ، والمعنى : ينظرون أيُّهم أقرب ، فيتوسَّلون به ، ويجوز أن يكون « أيهم أقرب » بدلاً من واو « يَبْتَغُون » .
قال شهاب الدين : فقد أضمر فعلاً معلقاً ، وهو ينظرون فإن كان من نظر البصرِ ، تعدَّى ب « إلى » وإن كان من نظر الفكر ، تعدَّى ب « في » فعلى التقديرين : الجملة الاستفهامية في موضع نصبٍ بإسقاطِ الخافض ، وهذا إضمارُ ما لا حاجة إليه .
وقال ابن عطية : « وأيُّهُمْ ابتداء ، و » أقْرَبُ « خبره ، والتقدير : نظرهم ووكدهم أيهم أقرب ، ومنه قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- : » فبات النَّاس يدُوكُونَ أيُّهمْ يُعطَاهَا « ، أي : يتبارون في القرب » . قال أبو حيان : « فَجَعلَ المحذوف » نظرُهمْ ووكْدهُمْ « وهذا مبتدأ ، فإن جعلت » أيُّهمْ أقربُ « في موضع نصب ب » نَظرُهُمْ « بقي المبتدأ بلا خبر ، فيحتاج إلى إضمار خبر ، وإن جعلت » أيُّهم أقربُ « الخبر ، لم يصحَّ؛ لأنَّ نظرهم ليس هو » أيُّهم أقربُ « وإن جعلت التقدير : » نَظرهُمْ في أيهم أقربُ « أي : كائنٌ أو حاصلٌ ، لم يصحَّ ذلك؛ لأنَّ كائناً وحاصلاً ليس ممَّا يعلَّق » .
فقد تحصَّل في الآية الكريمة ستَّة أوجه :
أربعة حال جعل « أيّ » استفهاماً :
الأول : أنها معلِّقة للوسيلة ، كما قرَّره الزمخشريُّ .
الثاني : أنها معلّقة ل « يَدعُونَ » كما قاله أبو البقاء .
الثالث : أنها معلقة ل « يَنْظُرونَ » مقدراً ، كما قاله الحوفيُّ .
الرابع : أنها معلقة ل « نَظرُهمْ » كما قدَّره ابن عطيَّة .
واثنان حال جعلها موصولة :
الأول : البدل من واو « يَدعُونَ » كما قاله أبو البقاء .
الثاني : أنها بدلٌ من واو « يَبْتغُونَ » كما قاله الجمهور .
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
قوله تعالى : { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ } الآية .
فلمَّا قال : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } [ الإسراء : 57 ] بيَّن أنَّ كلَّ قرية مع أهلها ، فلا بدَّ وأن يرجع حالها إلى أحد أمرين : إمَّا الإهلاك ، وإمَّا التَّعذيب .
قال مقاتلٌ : أما الصالحة فبالموت ، وأما الطالحة ، فبالعذاب .
وقيل : المعنى : وإن من قريةٍ من قرى الكفَّار ، فلا بدَّ وأن يكون عاقبتها إمَّا بالاستئصال بالكلِّيَّة ، وهو الهلاك ، أو بعذاب شديدٍ من قتل كبرائهم ، وتسليط المسلمين عليهم بالسَّبي ، واغتنام الأموالِ ، وأخذ الجزية { كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً } في اللَّوح المحفوظ .
قال صلوات الله وسلامه عليه : « أوَّل ما خلق الله تعالى القلم قال : أكتُبْ ، قال : ما أكْتبُ؟ قال : القَدَر ، وما هُو كَائِنٌ إلى الأبدِ » .
و « إنْ » نافية و « مِنْ » مزيدة في المبتدأ ، لاستغراق الجنس . وقال ابن عطيَّة : هي لبيان الجنس ، وفيه نظر من وجهين :
أحدهما : قال أبو حيَّان : « لأنَّ التي للبيان ، لا بدَّ أن يتقدَّمها مبهم ما ، تفسِّره؛ كقوله تعالى : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [ فاطر : 2 ] ، وهنا لم يتقدم شيء مبهم » ثم قال « ولعلَّ قوله » لبيان الجنس « من الناسخ ، ويكون هو قد قال : لاستغراقِ الجنس؛ ألا ترى أنه قال بعد ذلك : » وقيل : المراد الخصوص « .
وخبر المبتدأ الجملة المحصورة من قوله : { إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا } .
والثاني : أنَّ شرط ذلك أن يسبقها محلَّى بأل الجنسيَّة ، وأن يقع موقعها » الذي « كقوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] .
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
لما استدلَّ على فساد قول المشركين ، وأتبعه بالوعيد ، أتبعه بذكر مسألة النبوة ، واعلم أنَّ الكفَّار كانوا يقترحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم إظهار المعجزات ، كما حكى الله تعالى عنهم ذلك في قولهم : { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون } [ الأنبياء : 5 ] .
وقال آخرون : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] الآيات .
وقال سعيد بن جبيرٍ : إنَّهم قالوا إنَّك تزعمُ أنَّه كان قبلك أنبياءُ منهم من سخِّرت له الريحُ ، ومنهم من أحيا الموتى ، فأتنا بشيءٍ من هذه المعجزات ، فأجابهم الله تعالى بهذه الآية .
وفي تفسير هذا الجواب وجوهٌ :
الأول : أن المعنى أنِّي إن أظهرتُ تلك المعجزاتِ ، ثم لم يؤمنوا بها ، بل بقوا مصرِّين على الكفر ، فحينئذ : يصيرون مستحقين لعذاب الاستئصال ، لكنَّ إنزال عذاب الاستئصال على هذه الأمَّة غير جائزٍ؛ لأن الله تعالى علم [ أن ] فيهم من سيؤمن أو يؤمن من أولادهم ، فلهذا لم يظهر تلك المعجزات .
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - إنَّ أهل مكَّة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصَّفا ذهباً ، وأن يزيل عنهم الجبال ، حتَّى يزرعوا تلك الأرض ، فطلب الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ذلك من الله تعالى ، فقال سبحانه جلَّ ذكره : إن شئت أن أستأني فعلت وإن شئت أن أوتيهم ما شاءوا فعلت لكن بشرط؛ أنهم إن لم يؤمنوا ، أهلكتهم ، قال : لا أريد ذلك ، فنزلت هذه الآية .
الثاني في تفسير هذا الجواب : أنَّا لا نظهر المعجزاتِ؛ لأن آباءكم رأوها ، ولم يؤمنوا بها ، وأنتم مقتدون بهم ، فلو رأيتموها ، لم تؤمنوا بها أيضاً .
الثالث : أنَّ الأوَّلين رأوا هذه المعجزات ، وكذَّبوا بها ، فعلم الله منكم أيضاً : أنَّكم لو شاهدتموها ، لكذَّبتم بها ، فكن إظهارها عبثاً ، والحكيم لا يفعل العبث .
قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ } : « أن » الأولى وما في حيزها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على اختلاف القولين؛ لأنها على حذف الجارِّ ، أي : من أن نرسلَ ، والثانية وما في حيِّزها في محلِّ رفع بالفاعليَّة ، أي : وما منعنا من إرسال الرسل بالآيات إلا تكذيب الأوَّلين ، أي : لو أرسلنا الآيات المقترحة لقريشٍ ، لأهلكوا عند تكذيبهم؛ كعادة من قبلهم ، لكن علم الله سبحانه أنَّه يؤمن بعضهم ، ويكذِّبُ بعضهم من يؤمنُ ، فلذلك لم يرسل الآيات لهذه المصلحة .
وقدَّر أبو البقاء رحمة الله مضافاً قبل الفاعل ، فقال : « تقديره : إلاَّ إهلاكُ التكذيب » . كأنَّه يعني أنَّ التكذيب نفسه لم يمنع من ذلك ، وإنَّما منع منه ما يترتَّب على التَّكذيب ، وهو الإهلاك ، ولا حاجة إلى ذلك؛ لاستقلالِ المعنى بدونه .
قوله تعالى : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً } .
قرأ العامة بنصب « مُبْصِرةً » على الحال ، وزيدُ بن عليٍّ يرفعها على إضمار مبتدأ ، أي : هي ، وهو إسناد مجازي ، إذ المراد إبصار أهلها ، ولكنها لمَّا كانت سبباص في الإبصار ، نسب إليها ، وقرأ قومٌ بفتح الصَّاد ، مفعولٌ على الإسناد الحقيقيِّ ، وقتادة بفتح الميم والصَّاد ، أي : محل إبصارٍ ، كقوله - عليه السلام- : « الولدُ مَبْخَلةٌ مَجْبَنةٌ » ، وكقوله : [ الكامل ]
3433- . ... والكُفْرُ مَخْبَثَةٌ لنَفْسِ المُنْعمِ
أجرى هذه الأشياء مجرى الأمكنة؛ نحو : أرضٌ مسبعةٌ ومذأبةٌ .
قوله تعالى : { إِلاَّ تَخْوِيفاً } يجوز أن يكون مفعولاً له ، وأن يكون مصدراً في موضع الحال : إمَّا من الفاعل ، أي : مخوِّفين أو من المفعول ، اي : مخوَّفاً [ بها ] .
فصل
المعنى أنَّ الآية التي التمسوها مثل آية ثمود ، وقد آتينا ثمود النَّاقة مبصرة ، اي : واضحة بيِّنة ، ثم كفروا بها ، فاستحقُّوا بها عذاب الاستئصال ، فكيف يتمنَّاها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتَّحكُّم .
قال الفراء : مبصرة : مضيئة .
قال تعالى : { والنهار مُبْصِراً } [ يونس : 67 ] أي : مضيئاً ، وقيل : مبصرة أي : ذات إبصار ، أي : فيها إبصارٌ لمن تأمَّلها ببصر بها رشده ، ويستدلُّ بها على صدق ذلك الرسول - صلوات الله عليه- .
{ فَظَلَمُواْ بِهَا } أي : ظلموا أنفسهم بتكذيبها ، أي : فعاجلناهم بالعقوبة .
وقال ابن قتيبة : ظلموا بها ، أي : جحدوا بأنَّها من الله تعالى ، ثم قال تعالى { وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً } قيل : لأنه لا آية إلاَّ وتتضمَّن التخويف عند التكذيب ، إمَّا من العذاب المعجَّل ، أو من العذاب المؤجَّل عذاب الآخرة .
فإن قيل : المقصود الأعظم من إظهار الآياتِ أن يستدلَّ بها على صدق المدَّعى؛ فكيف حصر المقصود من إظهارها في التَّخويف؟ .
فالجواب : أن مدَّعي النبوّة ، إذا أظهر الآية ، فإذا سمع الخلق منه ذلك ، فهم لا يعلمون أنَّ تلك الآية معجزةٌ ، أو غير معجزةٍ ، إلاَّ أنَّهم يجوزون كونها معجزة ، وبتقدير أن تكون معجزة ، فلو لم يتفكَّروا فيها ، ولم يستدلُّوا على الصِّدق ، لاستحقوا العذاب الشديد ، فهذا الخوف هو الذي يحملهم على التفكُّر والتأمل في تلك المعجزات ، فهذا هو المراد من قوله : { وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً } .
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس } الآية .
اعلم أنَّ القوم ، لمَّا طالبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعجزاتِ القاهرة ، وأجاب الله بأنَّ إظهارها ليس بمصلحةٍ ، صار ذلك سبباً لجرأة أولئك الكفار بالطَّعن فيه ، وأن يقولوا له : لو كنت رسُولاً حقًّا من عند الله تعالى ، لأتيت بهذه المعجزات التي اقترحناها ، كما أتى به موسى وغيره من الأنبياء - صلوات الله عليهم- ، فعند هذا قوَّى الله قلبه ، وبيَّن له أنَّه ينصرهُ ، ويؤيِّده ، فقال تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس } أي : هم في قبضته لا يقدرون على الخروج عن مشيئته ، فهو حافظك منهم ، فلا تهبهم ، وامضِ لما أمرك به من تبليغ الرِّسالة ، كقوله تعالى : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] .
وقيل : المراد بالنَّاسِ أهلُ مكَّة ، وإحاطة الله بهم هو أنَّه تعالى يفتحها للمؤمنين؛ فيكون المعنى : وإذ بشَّرناكَ بأنَّ الله أحَاطَ بأهل مكَّة؛ بمعنى أنَّه ينصرك ، ويظهر دولتك عليهم؛ كقوله تعالى : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] وقوله : { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ } [ آل عمران : 12 ] ، ولما كان كلّ ما أخبر الله عنه وقوعه ، فهو واجبُ الوقوع ، فكان من هذا الاعتبار كالواقع ، فلا جرم قال : { أَحَاطَ بالناس } .
وروي أنَّه لما تزاحف الفريقانِ يوم بدرٍ ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريشِ ، مع أبي بكرٍ - رضي الله عنه - كان يدعُو ، ويقول : اللَّهُمَّ ، إنِّي أسألك عهدك ووعدك لي ، ثمَّ خرج ، وعليه الدِّرْع يحرضُ النَّاس ويقول : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] .
ثم قال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } .
والأكثرون على أنَّ المراد منه ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراجِ من العجائب والآيات .
قال ابن عباسٍ : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولُ سعيد بن جبيرٍ ، والحسن ، ومسروقٍ ، وقتادة ، ومجاهد ، وعكرمة ، وابن جريحٍ والأكثرين .
ولا فرق بين الرُّؤية والرُّؤيا في اللغة ، يقال : رأيتُ بعيني رؤية ورُؤيا .
وقال بعضهم : هذا يدلُّ على أن قصَّة الإسراء إنما حصلت في المنامِ ، وتقدَّم بيان ضعف هذا في أوَّل السورة ، وقيل : إنَّه تعالى اراه في المنام مصارعَ قريشٍ ، فحين ورد ماء بدر ، قال : والله ، لكَأنِّي أنظر غلى مصارع القومِ ، ثمَّ أخَذ يقول : هذا مصرعُ فلانٍ ، هذا مصرعُ فلانٍ ، فلما سمعوا قريش ذلك ، جعلوا رؤياه سخرية ، وكانوا يستعجلون بما وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقيل : المراد رؤياه التي رآها؛ أنَّه يدخل مكَّة ، وأخبر بذلك أصحابه ، وعجل السَّير قبل الأجل إلى مكة فصدَّه المشركون ، فرجع إلى المجينة ، فلما منع عن البيت الحرام عام الحديبية ، ورجع ، كان ذلك فتنة لبعض القوم ، وق لعمر لأبي بكرٍ - رضي الله عنهما- : أليس قد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّا ندخلُ البيت ونطوف به؟ فقال أبو بكر - رضي الله عنهما - : أليس قد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّا ندخلُ البيت ونطوف به؟ فقال أبو بكرٍ - رضي الله عنهما- : أليس قد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّا ندخلُ البيت ونطوف به؟ فقال أبو بكر - رضي الله عنه- : إنَّه لم يخبر بأنّا نفعل ذلك في هذه السَّنة ، فسنفعل ذلك في سنةٍ أخرى ، فلمَّا جاء العام المقبل ، دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى :
{ لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق } [ الفتح : 27 ] واعترضُوا على هذين القولين بأنَّ هذه السورة مكيَّة ، وهاتان الواقعتان مدنيتان ، وهو اعتراضٌ ضعيفٌ؛ لأن هاتين الوقعتين ، وإن كانتا مدنيتين ، فرؤيتهما في المنام لا تبعد أن تكون مكيَّة .
وقال سعيد بن المسيَّب : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أميَّة ينزون على منبره ، [ نَزْوَ القردة ] ، فساءه ذلك ، وهو قول ابن عبَّاس في رواية عطاء ، وفيه الاعتراض المذكور؛ لأنَّ هذه الآية مكيَّة ، وما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكَّة منبرٌ .
ويمكنُ أن يجاب عنه بأنَّه لا يبعد أن يرى بمكة أنَّ له بالمدينة منبراً يتداوله بنُو أميَّة .
قوله : « والشَّجرةَ » : العامة على نصبها نسقاً على « الرُّؤيا » و « المَلعُونَة » نعتٌ ، قيل هو مجازٌ؛ إذ المراد : الملعون طاعموها؛ لأن الشجرة لا ذنب لها ، وهي شجرةُ الزقُّوم ، وقيل : بل على الحقيقة ، ولعنها : إبعادها من رحمة الله؛ لأنَّها تخرج في أصلِ الجحيم ، وقرأ زيد بن عليٍّ برفعها على الابتداء ، وفي الخبر احتمالان :
أحدهما : هو محذوفٌ ، أي : فتنة .
والثاني : - قاله أبو البقاء - أنه قوله « في القُرآنِ » وليس بذاك .
فصل
قال المفسِّرون : هذا على التَّقديم والتَّأخير ، والتقدير : وما جعلنا الرؤيا الَّتي أريناك والشَّجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للنَّاس .
وقيل : المعنى : والشجرة الملعُونة في القرآن كذلكن وهي شجرة الزقُّوم ، والفتنة في الشجرة الملعونة من وجهين :
الأول : أن ابا جهلٍ ، قال : زعم صاحبكم أنَّ نار جهنَّم تحرق الحجر ، حيث قال تعالى : { وَقُودُهَا الناس والحجارة } [ البقرة : 24 ] ثم يقول : إنَّ في النَّار شجراً ، والنَّار تأكلُ الشَّجر ، فكيف تولَّد فيها الشَّجر .
والثاني : قال ابنُ الزبعرى : إن محمداً يخوفنا بالزقُّوم ، وما نعلم الزقُّوم إلاَّ التَّمر والزُّبد ، فتزقَّموا منه ، فأنزل الله تعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجر { إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ } [ الصافات : 63 ] .
فإن قيل : ليس في القرآنِ لعن هذه الشجرة .
فالجواب من وجوهٍ :
الأول : المراد لعن الكفَّار الذين يأكلونها .
الثاني : أنَّ العرب تقول لكلِّ طعام ضارٍّ : إنَّه ملعونٌ .
الثالث : أنَّ اللَّعن في اللغة : هو الإبعاد ، فلما ك انت هذه الشجرةُ مبعدة عن صفات الخير ، سمِّيت ملعونة .
وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنه- : الشجرة الملعونةُ في القرآن : بنو أميَّة ، يعني : الحكم بن أبي العاص ، قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنامِ أنَّ ولد مروان يتداولون منبرهُ ، فقصَّ رؤياه على أبي بكرٍ وعمر - رضي الله عنهما - في خلوة من مجلسه ، فلمَّا تفرَّقُوا ، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم يخبر برؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتدَّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم واتَّهم عمر في إفشاء سرِّه ، ثم ظهر لهُ أنَّ الحكم كان يستمعُ إليهم ، فنفاهُ صلى الله عليه وسلم .
قال الواحديُّ - رحمه الله- : هذه القصَّة كانت في المدينة ، والسورة [ مكية ] ، فيبعد هذا التفسير ، إلاَّ أن يقال : هذه الآية مدنية ، ولم يقل به أح\ٌ ، ويؤكِّد هذا التَّأويل قول عائشة - رضي الله تعالى عنها - لمروان : لعن الله أباك ، وأنت في صلبه ، فأنت بعض من لعنة الله .
وقيل : الشجرة الملعونة في القرآن هم اليهود؛ لقوله تعالى : { لُعِنَ الذين كَفَرُواْ } [ المائدة : 78 ] .
وقيل : الشَّجرة الملعونة هي الَّتي تلتوي على الشَّجر ، فتخنقه ، يعني « الكشوث » .
فإن قيل : إنَّ القوم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الإتيان بالمعجزاتِ القاهرة ، فأجاب بأنَّه لا مصلحة في إظهارها؛ لأنَّها لو ظهرت ، ولم يؤمنوا ، نزل عليهم عذاب الاستئصال ، وذلك غير جائزٍ ، فأيُّ تعلقٍ لهذا الكلام بذكرِ الرؤيا التي صارت فتنة للنَّاس وبذكر الشجرة [ التي صارت فتنة للنَّاس ] .
فالجواب : أنَّ التقدير كأنَّه قيل : إنَّهم لما طلبوا هذه المعجزات ، ثم إنَّك لم تظهرها ، صار عدم ظهورها شبهة لهم في أنَّك لست بصادق في دعوى النبوَّة ، إلاَّ أنَّ وقوع هذه الشبهة لا يضيق صدرك ، ولا يوهنُ أمرك ، ولا يصير سبباً لضعف حالك؛ ألا ترى أنَّ تلك الرؤيا صارت سبباً لوقوع الشبهة العظيمة عندهم ، ثم إنَّ قوة تلك الشبهات ما أوجبت ضعفاً في أمرك ، فكذلك هذه الشبهة الحاصلة بسبب عدم ظهور هذه المعجزات لا يوجبُ فتوراً في حالك ، ولا ضعفاً في أمرك .
ثم قال تعالى : { وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ } أي التخويف { إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً } ، أي : تمرُّداً وعتُواً عظيماً ، والمقصود من ذلك وجهٌ آخر في أنَّه ما أظهر المعجزات التي اقترحوها؛ لأنَّ هؤلاء خوفوا بأشياء كثيرة من الدنيا والآخرة ، وبشجرة الزَّقوم ، فما زادهم هذا التخويفُ إلاَّ طغياناً كببيراً؛ وذلك يدلُّ على قسوة قلوبهم ، وتماديهم في الغيِّ والطُّغيان .
وإذا كان كذلك فبتقدير أن يظهر الله لهم تلك المعجزات التي اقترحوها ، لم ينتفعوا بها ، ولم يزدادوا إلاَّ تمادياً ف يالجهل والعناد ، وإذا كان كذلك ، وجب في الحكمة ألاَّ يظهر الله لهم ما اقترحوه من الآيات والمعجزات .
قرأ العامة « ونُخوِّفهُم » بنون العظمة ، والأعمش بياء الغيبة .
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)
في النظم وجوهٌ :
أولها : أنه تعالى ، لمَّا ذكر أنَّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - كان في محنةٍ عظيمة من قومه ، بيَّن أنَّ حال جميع الأنبياءِ مع أهل زمانهم كذلك؛ ألا ترى أنَّ الأول منهم آدمُ - صلوات الله وسلامه عليه - ثمَّ إنه كان في محنة من إبليس .
وثانيها : أنَّ القوم ، إنَّما نازعُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاندوه ، واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين : الكبر والحسد ، فبيَّن سبحانه وتعالى أنَّ هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الكفر ، و الخروج من الإيمان ، فهذه بليَّةٌ عظيمةٌ قديمةٌ .
وثالثها : أنَّهم لما وصفهم الله تعالى بقوله : { فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً } [ الإسراء : 60 ] بيَّن ما هو السبب لحصُول هذا الطُّغيان ، وهو قول إبليس « لأحتنكنَّ ذريته إلا قليلاً » فلهذا المقصود ذكر الله تعالى قصَّة آدم وإبليس .
واعلم أنَّ هذه القصَّة ذكرها الله تعالى في سبع سورٍ؛ البقرةِ ، والأعراف ، والحجر ، وهذه السورة ، والكهف ، وطه ، وص ، وقد تقدم الاستقصاء عليها في البقرة ، فليلتفت إليه . وقوله : { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } استفهامٌ بمعنى الإنكار ، معناه : أنَّ أصلي أشرفُ من أصله؛ فوجب أن أكون أشرف منه ، والأشرف لا يخدم الأدنى .
قوله تعالى : « طيناً » : فيه أوجه :
أحدها : أنه حال من « لِمَنْ » فالعامل فيها « أأسجدُ » أو من عائد هذا الموصول ، أي : خلقتهُ طيناً ، فالعامل فيها « خَلقْتَ » وجاز وقوع طينٍ حالاً ، وإن كان جامداً ، لدلالته على الأصالة؛ كأنه قال : متأصِّلاً من طين .
الثاني : أنه منصوبٌ على إسقاطِ الخافض ، أي : من طينٍ ، كما صرَّح به في الآية الأخرى : { وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] .
الثالث : أنه منتصبٌ على التمييز ، قاله الزَّجَّاجِ ، وتبعه ابن عطيَّة ، ولا يظهر ذلك؛ إذ لم يتقدَّم إبهامُ ذاتٍ ولا نسبةٍ .
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
قوله تعالى : { أَرَأَيْتَكَ } : قد تقدم مستوفى في الأنعام [ الآية : 40 ] . وقال الزمخشريُّ : « الكافُ للخطاب ، و » هذا « مفعولٌ به ، والمعنى : أخبرني عن هذا الذي كرَّمته عليَّ ، أي : فضَّلته ، لِمَ كرَّمتهُ ، وأنا خيرٌ منه؟ فاختصر الكلام » . وهذا قريبٌ من كلام الحوفيِّ - رحمه الله - .
قال ابن عطيَّة : « والكاف في » أرَايْتَكَ « حرف خطابٍ ، لا موضع لها من الإعراب ، ومعنى » أرَأيْت « أتأمَّلت ونحوه ، كأنَّ المخاطب يُنبِّه المخاطب؛ ليستجمع لما ينصُّ عليه بعد . وقال سيبويه : » هي بمعنى أخبرني « ، ومثل بقوله : » أرَأيْتكَ زيداً ، أبو من هُوَ؟ « وقول سيبويه صحيحٌ؛ حيث يكون بعدها استفهام كمثاله ، وأمَّا في الآية فهو كما قلت ، وليست التي ذكر سيبويه » قلت : وهذا الذي ذكره ليس بمسلَّم ، بل الآية كمثاله ، غاية ما في الباب : أنَّ المفعول الثاني محذوفٌ ، وهو الجملة الاستفهامية المقدَّرة؛ لانعقادِ الكلام من مبتدأ وخبر ، لو قلت : هذا الذي كرَّمته عليَّ ، لم كرَّمته؟ .
وقال الفرَّاء : « الكاف في محلِّ نصبٍ ، أي : أرَأيْتَ نفسك؛ كقولك : أتدبَّرْتَ آخِرَ أمرك ، فإني صانعٌ فيه كذا ، ثم ابتدأ : هذا الذي كرَّمت عليَّ » .
وقال ابن الخطيب : يمكن أن يقال : « هذا » مبتدأ محذوف عنه حرفُ الاستفهام ، و « الَّذي » مع صلته خبره ، تقديره : أخبرني ، أهذا الذي كرَّمتهُ عليَّ؛ وهذا على وجه الاستصغار ، والاستحقار ، وإنَّما حذف حرف الاستفهام؛ لأنَّه حصل في قوله : « أرَأيْتكَ » . فأغنى عن تكريره .
وقال أبو البقاء : « والمفعول الثاني محذوفٌ ، تقديره : تفضيله أو تكريمه » . قال شهاب الدين : وهذا لا يجوز؛ لنَّ المفعول الثاني في هذا الباب لا يكون إلا جملة مشتملة على استفهام .
قال أبو حيَّان : « ولو ذهب ذاهبٌ غلى أنَّ الجملة القسميَّة هي المفعول الثاني ، لكان حسناً » . قال شهاب الدين : يردُّ ذلك التزامُ كون المفعولِ الثاني جملة مشتملة على استفهامٍ ، وقد تقرَّر جميع ذلك في الأنعام ، فعليك باعتباره ههنا .
قوله : { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ } قرأ ابن كثيرٍ بإثبات ياءِ المتكلِّم وصلاً ووقفاً ، ونافعٌ وأبو عمرو بإثباتها وصلاً ، وحذفها وقفاً ، وهذه قاعدةُ من ذكر في الياءاتِ الزائدةِ على الرَّسم ، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً ، وكل هذا في حرف هذه السورة ، أمَّا الذي في المنافقين [ الآية : 10 ] في قوله { لولاا أخرتنيا } فأثبته الكلُّ؛ لثبوتها في الرسم الكريم .
قوله « لأحْتَنِكَنَّ » جواب القسم الموطَّأ له باللام ، ومعنى « لأحْتَنِكَنَّ » لأستولينَّ عليهم استيلاء من جعل في حنكِ الدَّابة حبلاً يقودها به ، فلا تأبى ولا [ تشمسُ ] عليه ، يقال : حَنكَ فلانٌ الدَّابة ، واحتنكها ، أي : فعل بها ذلك ، واحْتَنكَ الجرادُ الأرض : أكل نباتها ، قال : [ الرجز ]
3434- نَشْكُو إليْكَ سَنةً قَدْ أجْحَفتْ ... جَهْداً إلى جَهْدٍ بِنَا فأضْعَفتْ
واحْتَنكَتْ أمَوالنَا وجلَّفَتْ
وحكى سيبويه - رحمه الله- : « أحْنَكُ الشَّاتينِ » ، أي : آكلهما ، أي : أكثرهما [ أكْلاً ] .
وذكر المفسرون في الاحتناك قولين :
أحدهما : أنه عبارةٌ عن الأخذِ بالكليَّة ، يقال : احتنك فلانٌ مال فلانٍ : إذا استقصاه ، فأخذهُ الكلِّيَّة ، واحتنك الجراد الزَّرع : إذا أكلهُ بالكليَّة .
والثاني : أنه من قول العرب : حنَّك الدابَّة يحنكها ، إذا جعل في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به .
فعلى الأوَّل معناه : لأستأصلنهم بالإغواء .
وعلى الثاني : لأقُودنَّهم إلى المعاصي ، كما تقادُ الدَّابة بحبلها .
ثم قال : « إلاَّ قليلاً » وهم المعصومون الذين استثناهم الله تعالى في قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] .
فإن قيل : كيف ظنَّ إبليسُ اللَّعين هذا الظنَّ الصَّادق بذريَّة آدم - صلوات الله عليه-؟ .
قيل : فيه وجهان :
الأول : أنه سمع الملائكة يقولون : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء } [ البقرة : 30 ] فعرف ذلك .
والثاني : أنه وسوس إلى آدم - صلوات الله عليه - فلم يجدْ له عزماً ، فقال : الظاهر أنَّ أولاده يكونون مثله في ضعف العزم .
وقيل : لأنه عرف أنه مركب من قوَّة بهيمية شهوانية ، وقوَّة وهميَّة شيطانية ، وقوة عقليَّة ملكيَّة ، وقوَّة سبعيَّة غضبيَّة ، وعرف أنَّ بعض تلك القوى تكون هي المستولية في أوَّل الخلقة ، ثم غنَّ القوَّة العقلية إنما تكمل في ىخر الأمر ، ومتى كان الأمر كذلك ، كان ما ذكره إبليس لازماً .
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)
قوله تعالى : { اذهب فَمَن } : تقدَّم أن الباء تدغم في الفاء في ألفاظٍ منها هذه ، عند أبي عمرو ، والكسائي ، وحمزة في رواية خلادٍ عنه؛ بخلاف في قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك } [ الحجرات : 11 ] .
وهذا ليس من الذَّهاب الذي هو ضدُّ المجيء ، وإنما معناه : امضِ لشأنك الذي اخترته ، و المقصود التخلية ، وتفويض المر إليه ، كقول موسى - صلوات الله عليه- : { فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ } [ طه : 97 ] ثم قال عزَّ وجلَّ : { فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } .
فإن قيل : الأولى أن يقال : فإن جهنَّم جزاؤهم؛ ليعود الضمير إلى قوله : { فَمَن تَبِعَكَ } ؟ فالجواب من وجوهٍ :
الأول : تقديره : جزاؤهم وجزاؤكم؛ لأنه تقدَّم غائب ومخاطب في قوله : { فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } فغلَّب المخاطب على الغائب ، فقيل : جزاؤكم .
والثاني : يجوز أن يكون الخطاب مراداً به « مَنْ » خاصة ، ويكون ذلك على طريق الالتفات .
والثالث : أنه - صلوات الله وسلامه عليه - قال : « مَنْ سَنَّ سُنَّةً سيِّئةً فَعليْهِ وِزْرُهَا ووِزْرُ مِنْ عَمِلَ بِهَا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ » فكل معصية توجد فيحصل لإبليس مثل وزْرِ ذلك العامل ، فلما كان إبليس هو الأصل في كلِّ المعاصي ، صار المخاطب بالوعيد هو إبليس .
قوله تعالى : « جَزَاءً » في نصبه أوجهٌ :
أحدها : أنّه منصوبٌ على المصدر ، الناصب له المصدر قبله ، وهو مصدر مبين لنوع المصدر الأول .
الثاني : أنه منصوب على المصدر ايضاً ، لكن بمضمرٍ ، أي : يجازون جزاء .
الثالث : أنه حالٌ موطئة ك « جَاءَ زيدٌ رجُلاً صَالحاً » .
الرابع : أنه تمييزٌ ، وهو غير متعقَّل .
و « مَوفُوراً » اسم مفعولٍ ، من وفرته ، ووفر يستعمل متعدِّياً ، ومنه قول زهير : [ الطويل ]
3435- ومَنْ يَجْعَلِ المعرُوفَ من دُونِ عِرْضهِ ... يَفِرهُ ومَنْ لا يتَّقِ الشَّتمَ يُشتمِ
والآية الكريمة من هذا ، ويستعمل لازماً ، يقال : وفرَ المالُ يَفِرُ وفُوراً ، فهو وَافِرٌ ، فعلى الأول : يكون المعنى جزاء موفَّراً ، وعلى الثاني : يكون المعنى جزاء وافراً مكمَّلاً يقال : وفرتهُ أفرهُ وفْراً .
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
قوله تعالى : { واستفزز } : جملة أمرية عطفت على مثلها من قوله « اذهَبْ » . و « من اسْتطَعْتَ » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنها موصولة في محلِّ نصب مفعولاً للاستفزاز ، أي : استفزز الذي استطعت استفزازه منهم .
والثاني : أنها استفهامية منصوبة المحلِّ ب « استطعت » قاله أبو البقاء ، وليس بظاهرٍ؛ لأن « اسْتفْزِزْ » يطلبه مفعولاً به ، فلا يقطع عنه ، ولو جعلناه استفهاماً ، لكان معلقاً له ، وليس هو بفعلٍ قلبيٍّ [ فيعلقُ ] .
والاسْتِفْزازُ : الاستخفاف ، واستفزَّني فلانٌ : استخفَّني حتى خدعني لما يريده . قال : [ الطويل ]
3436- يُطِيعُ سَفيهَ القَومِ إذ يَسْتفِزُّهُ ... ويَعْصِي حَليماً شَيَّبتهُ الهَزاهِزُ
ومنه سمِّي ولد البقرة « فزًّا » . قال الشاعر : [ البسيط ]
3437- كَمَا اسْتغَاثَ بسَيْءٍ فَزُّ غَيْطلةٍ ... خَافَ العُيونَ ولمْ يُنْظرْ بِهِ الحَشَكُ
وأصل الفزِّ : القطعُ ، يقال : تفزَّز الثَّوب ، أي : تقطَّع .
ويقال : أفزَّه الخوف ، واستفزَّه ، أي : أزعجه ، واستخفَّه .
واعلم أنَّ إبليس ، لمَّا طلب من الله تعالى الإمهال إلى يوم القيامة؛ لأجل أن يحتنك ذريَّة آدم - صلوات الله وسلامه عليه - ذكر الله تعالى أشياء :
أولها : قوله عزَّ وجلَّ : { اذْهَبْ } أي : أمهلتك هذه المدَّة .
وثانيها : قوله تعالى : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ } .
وتقدَّم أن الاستفزاز : الاستخفاف ، وقيل : اسْتَنْزَلَ واستجهد .
وقوله : « بِصَوْتِكَ » .
قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - وقتادة : بدعائك غلى معصية الله .
وقال الأزهريُّ : ادعهم دعاء تستخفُّهم به إلى إجابتك .
وقال مجاهدٌ : بصوتك ، أي : بالغناءِ واللَّهو .
وهذا أمرُ تهديد ، كما يقال : اجتهد جهدك؛ فسترى ما ينزل به :
وثالثها : قوله : { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم } أي : اجمع عليهم الجموع من جندك ، يقال أجلب عليه وجلب ، أي : جمع عليه الجموع .
قال الفرَّاء : هو من الجَلبةِ ، وهو الصِّياح .
وقال أبو عبيدة : أجْلبُوا وجَلبُوا : من الصِّياح .
وقال الزجاج في « فَعَل ، وأفْعَلَ » : أجلب على العدوِّ وجلب ، إذا جمع عليه الخيل .
وقال ابن السِّكيت : يقال : هم يجلبون عليه؛ لمعنى أنهم يعينون عليه .
وروى ثعلبٌ عن ابن الأعرابيِّ : أجلب الرجل على الرجل ، إذا توعَّده بالشرِّ ، وجمع عليه الجمع ، فعلى قول الفرَّاء معنى الآية : صح عليهم بخيلك ورجلك ، وعلى قول الزجاج : اجمع عليهم كلَّ ما تقدر عليه من مكائدك ، وعلى هذا تكون الباء في قوله : « بخيلك » زائدة .
وعلى قول ابن السِّكيت : معناه : أعن عليهم بخيلك ورجلك ومفعول الإجلاب على هذا القول محذوف ، تقديره : استعن على إغوائهم بخيلك ورجلك ، وهو يقرب من قول ابن الأعرابيِّ .
والمراد بالخيل والرجل : قال ابن عباس : كلُّ راكبٍ أو راجلٍ في معصية الله ، فهو من خيل إبليس وجنوده .
وقال مجاهدٌ وقتادة : إن لإبليس جنداً من الشياطين بعضهم راكبٌ ، وبعضهم راجلٌ .
وقيل : المراد ضرب المثل؛ كما يقال للرجل المجدِّ في الأمر : جئت بالخيل والرجل ، وهذا الوجه أقرب ، والخيل يقع على الفرسان ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« يا خَيْلَ الله ، اركبي » .
وقد يقع على الأفراس خاصة .
قوله : « ورجلك » قرأ حفص بكسر الجيم والباقون بسكونها ، فقراءة حفص « رَجِل » فيها بمعنى « رَجُل » بالضم بمعنى : راجل ، يقال : رَجِل يَرْجِل : إذا صار راجلاً ، مثل : حَذِر وحَذْر ، ونَدِس ونَدْس ، وهو مفرد أريد به الجمع .
وقال ابن عطية : هي صفة ، يقال : فلان يمشي راجلاً ، إذا كان غير راكب ، ومنه قول الشاعر :
3438- . . .. رجلاً إلا بأصحاب
يشير إلى البيت المشهور ، وهو : [ البسيط ]
أما أقاتل عن ديني على فرس ... ولا كذا رجلاً إلا بأصحابِ
اراد فارساً ولا راجلاً .
وقال الزمخشري : إن « فَعِلاً » بمعنى « فاعل » ، نحو : تَعِب وتاعب ، ومعناه : جمعك الرجل ، وبضم جيمه أيضاص فيكون مثل : حَذِرَ وحَذُرَ ونَدِسَ ونَدُسَ ، وأخوات لهما .
وأما قراءة الباقين ، فتحتمل أن تكون تخفيفاً من « رَجُل » بكسر الجيم أو ضمها ، والمشهور : أنه اسم جمع لراجلٍ ، كرَكْبٍ وصَحْبٍ في راكبٍ وصاحبٍ ، والأخفش يجعل هذا النحو جمعاً صريحاً .
وقرأ عكرمة « ورِجَالِكَ » جمع رجلٍ بمعنى راجل ، أو جمع راجل كقائم وقيام . وقرئ « ورُجَّالِكَ » بضم الراء وتشديد الجيم ، وهو جمع راجل ، كضاربٍ وضُرَّاب .
وقال ابن الأنباري - رحمه الله - : أخبرنا ثعلبٌ عن الفراء ، قال : يقال : راجلٌ ورَجِلٌ ورَجْلٌ ورَجْلان بمعنى واحد .
والباء في « بخَيْلِكَ » يجوز أن تكون الحالية ، أي : مصاحباص بخيلك ، وأن تكون مزيدة كما تقدم ، قال :
3439- . لا يَقْرَأنَ بالسُّورِ
ورابعها : قوله تعالى : { وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد } والمشاركة في الأنوال ، قال مجاهدٌ ، والحسن ، وسعيد بن جبيرٍ : كل ما أصيب من حرامٍ ، أو أنفق في حرامٍ .
وقال قتادة : هو جعلهم البحيرة والسَّائبة والوَصِيلةَ والحَامَ .
وقال الضحاك : هو ما يذبحونه لآلهتهم .
وقال عكرمة : هو تبكيتهم آذان الأنعام .
وقيل : هو جعلهم من أموالهم شيئاً لغير الله ، كقولهم : { هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا } [ الأنعام : 136 ] والأوَّل أظهر ، قاله القاضي . وأما المشاركة في الأولاد ، فقال عطاء عن ابن عباسٍ : هو تسمية الأولاد ب « عَبدِ شمسٍ ، وعَبْدِ العُزَّى ، وعَبْدِ الحَارثِ ، وعَبْد الدَّار ونحوها » .
وقال الحسن وقتادة : هو أنَّهم هوَّدُوا أولادهم ، ونصَّروهم ومجّسُوهم .
وقيل : هو إقدامهم على قتل الأولاد .
وروي عن جعفر بن محمدٍ ، أن الشَّيطان يقعد على ذكر الرَّجل فإذا لم يقل : بسم الله ، أصاب معه امرأته ، وأنزل في فرجها كما ينزل الرَّجل وروي في بعض الأخبار « إنَّ فيكم مُغربِينَ ، قيل : وما المُغرِبُونَ؟ قال : الذين يشارك فيهم الجنّ » . وروي أنَّ رجلاً قال لابن عبَّاس : إنَّ امراتِي استيقظت وفي فرجها شعلةُ نَارٍ ، اقل : ذلِكَ من وطْءِ الجِنِّ .
وفي الآثار : إنَّ إبليس ، لمَّا أخرج إلى الأرض ، قال : يا ربِّ ، أخْرَجتَنِي من الجنَّة؛ لأجل آدم فسلِّطنِي عليه ، وعلى ذُرِّيته ، قال : أنت مسلَّطٌ ، قال : لا أستطيعه إلا بكا فزدني ، قال : استفزز من استطعت منهم بصوتك .
قال آجم : يا ربِّ ، اسلَّطت إبليس عليَّ ، وعلى ذُريَّتي ، وإنَّني لا أستطيعهُ إلاَّ بك ، قال : لا يُولَدُ لك ولدٌ إلاَّ وكَّلتُ بِهِ مَنْ يَحْفظونهُ .
قال : زِدْنِي! قال : الحسنةُ بعشرِ أمثالها ، والسَّيئةُ بمثلها ، قال : زدْنِي ، قال : التَّوبةُ معروضةٌ ما دَامَ الرُّوحُ في الجسدِ ، قال : زدْنِي ، فقال : { قُلْ ياعبادي الَّذِينَ أَسْرَفُواْ } [ الزمر : 53 ] .
وخامسها : قوله تعالى { وَعِدْهُمْ } .
قيل : معناه : قل لهم : لا جنَّة ، ولا نار ، ولا بعث .
وقيل : [ خذ ] منهم الجميل في طاعتك ، أي بالأمانِي الباطلة؛ كقوله لآدم - صلوات الله عليه- : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين } [ الأعراف : 20 ] .
وقيل : عدهم بشفاعةِ الأصنامِ عند الله ، والأنساب الشريفة ، وإيثار العاجل على الآجل .
واعلم أنَّ مقصود الشيطان الترغيب في اعتقاد الباطل ، وعمله ، والتَّنفير عن اعتقاد الحقِّ ، ومعلومٌ أنَّ الترغيب في الشيء لا يمكن إلاَّ بأن يقرر عنده ألاَّ بأن يقرَّر عنده أنه لا فائدة في فعله ، ومع ذلك يفيد المضارَّ العظيمة ، وإذا ثبت هذا ، فالشيطان إذا دعا إلى معصيةٍ ، فلا بدَّ وأن يتقرَّر أولاً : أنَّه لا مضرَّة في فعله ألبتَّة ، وذلك لا يمكن إلا إذا قال : لا معاد ، ولا جنَّة ولا نار ، ولا حياة غير هذه الحياة الدنيا ، فإذا فرغ من هذا المقام ، قرَّر عنده أنَّ هذا الفعل يفيد أنواعاً من اللَّذة والسُّرور ، ولا حياة للإنسان في هذه الحياة الدنيا إلاَّ به ، فتفويتها غبنٌ وخسران؛ كقوله : [ الطويل ]
3440- خُذُوا بِنَصِيبٍ مِنْ نَعيمٍ ولَذَّةٍ ... فَكُلٌّ وإنْ طَالَ المَدَى يَتَصَرَّمُ
فهذا هو طريقُ الدَّعوة إلى المعصية ، وأمَّا طريقُ التنفير من الطاعات ، فهو أن يقرِّر عنده أوَّلاً أنه لا فائدة فيها للعبادِ والمعبود ، فكانت عبثاً ، وأنَّها توجبُ التَّعب والمحنة ، وذلك أعظم المضارِّ .
فقوله : { وَعِدْهُمْ } يتناول جميع هذه الأقسام .
قوله تعالى : { وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان } من باب الالتفات ، وإقامة الظاهر مقام المضمر؛ إذ لو جرى على سننِ الكلامِ الأوَّل ، لقال : وما تعدهم ، بالتاء من فوق .
قوله تعالى : { إِلاَّ غُرُوراً } فيه أوجهٌ :
أحدها : أنه نعت مصدر محذوف وهو نفسه [ مصدر ] ، الأصل : إلا وعداً غروراً ، فيجيء فيه ما في « رجلٌ عدلٌ » [ أي ] : إلاَّ وعداً ذا غرورٍ ، أو على المبالغةِ ، أو على : وعداً غارًّا ، ونسب الغرور إليه مجازاً .
الثاني : أنه مفعول من أجله ، أي : ما يعدهم ممَّا يعدهم من الأماني الكاذبة إلاَّ لأجل الغرور .
الثالث : أنه مفعولٌ به على الاتِّساعِ ، أي : ما يعدهم إلا الغرور نفسه .
والغرورُ : تزيينُ الباطل مما يظنُّ أنه حقٌّ .
فإن قيل : كيف ذكر الله هذه الأشياء ، وهو يقول : إنَّ الله لا يأمر بالفحشاء .
قيل : هذا على طريق التهديد؛ كقوله : { اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] وكقول القائل : اعمل ما شئت؛ فسترى .
ولما قال تعالى له : افعل ما تقدر عليه ، قال سبحانه : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } .
قال الجبائي - رحمه الله تعالى - : المراد كلُّ عباد الله تعالى من المكلَّفين؛ [ لأن الله ] تعالى استثنى منه في آياتٍ كثيرةٍ من تبعه بقوله : { إِلاَّ مَنِ اتبعك } [ الحجر : 42 ] ثم استدلَّ بهذا على أنه لا سبيل لإبليس وجنوده على تصريع النَّاس ، وتخبيط عقولهم ، وأنه لا قدرة له إلاَّ على الوسوسة ، وأكَّد ذلك بقوله : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ } [ إبراهيم : 22 ] .
وأيضاً : لو قدر على هذه الأفعال ، لكان يجب أن يخبط أهل الفضل والعلم ، دون سائر النَّاس؛ ليكون ضرره أتمَّ ، ثم قال : وإنَّما يزولُ عقله؛ لأنَّ الشيطان يقدم عليه ، فيغلب الخوف عليه ، فيحدثُ ذلك المرض .
وقيل : المراد بقوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي } أهل الفضل والإيمان؛ لما تقدَّم من أنَّ لفظة العباد في القرآن مخصوصةٌ بالمؤمنين؛ لقوله تعالى : { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ } [ النحل : 100 ] .
ثم قال : { وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } أي : حافظاً ، ومن توكل الأمور إليه ، وذلك أنَّه تعالى ، لمَّا وكل إبليس بأن يأتي بأقصى ما يقدر عليه من الوسوسةِ ، وكان ذلك سبباً لحصول الخوف الشديد في قلب الإنسان ، قال : { وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } ، أي أنَّ الشيطان ، وإن كان قادراً؛ فإنَّ الله تعالى أقدر منه ، وأرحم بعباده ، فهو يدفع عنهم كيد الشيطان .
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ المعصوم من عصمه الله تعالى ، وأنَّ الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الإضلال لأنَّه لو كان الإقدامُ على الحقِّ ، والإحجام عن الباطلا إنما يحصل للإنسان من نفسه ، لوجب أن يقال : وكفى للإنسان بنفسه في الاحتراز عن الشَّيطان ، فلمَّا لم يقل ذلك ، بل قال : { وكفى بِرَبِّكَ } علمنا أنَّ الكل من الله تعالى ، ولهذا قال المحققون : لا حول عن معصية الله إلاَّ بعصمته ، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيقه .
فصل
قال ابن الخطيب : في الآية سؤالان :
الأول : أن إبليس ، هل كان عالماً بأن الذي تكلم معه بقوله : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ } هو إله العالم ، أو لم يعلم ذلك؟ فإن علم ذلك ، ثم إنه تعالى قال : { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } [ الإسراء : 63 ] فكيف لم يصر هذا الوعيد الشديد مانعاً له من المعصية ، مع أنَّه سمعه من الله تعالى من غير واسطة؟ وإن لم يعلم أنَّ هذا القائل هو إله العالم ، فكيف قال : « أرأيتك هذا الذي كرمت علي » ؟! .
والجواب : لعلَّه كان شاكًّا في الكلِّ أو كان يقول في كلِّ قسم ما يخطر بباله على سبيل الظنِّ .
والسؤال الثاني : ما الحكمة في كونه أنظره إلى يوم القيامة ، ومكَّنه من الوسوسة ، والحكيمُ إذا أراد أمراً ، وعلم أنَّ شيئاً من الأشياء يمنع من حصوله ، فإنَّه لا يسعى في تحصيل ذلك المانع؟ .
والجوابُ : أمَّا مذهبنا ، فظاهر في هذا الباب ، وأمَّا المعتزلة ، فقال الجبائيُّ : علم الله أن الذين كفروا عند وسوسته يكفرون ، بتقدير ألا يوجد إبليس ، وإذا كان كذلك ، لم يكن في وجوده مزيد مفسدة .
وقال أبو هاشم : لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة ، إلاَّ أنه تعالى أبقاه تشديداً للتَّكليف على الخلق؛ ليستحقُّوا بسبب ذلك التشديد مزيد الثَّواب ، وقد تقدَّم الكلام على ذلك في الأعراف والحجر .
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
قوله : تعالى : { رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ الفلك فِي البحر } الآية .
اعلم أنه تعالى عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على قدرته وحكمته ورحمته ، وقد تقدم أن المقصود في هذا الكتاب الكريم تقرير دلائل التوحيد ، فإذا امتدَّ الكلام في فصل من الفصول عاد الكلام بعده إلى ذكر دلائل التوحيد ، فذكر ها هنا وجوه الإنعامات في أحوال ركوب البحر ، فأوَّل كيفية حركة الفلك على وجه البحر ، فقال جلَّ ذكره : { رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ الفلك فِي البحر } والإزجاء سوق الشيء حالاً بعد حالٍ ، وقد تقدَّم في تفسير قوله تعالى : { بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ } [ يوسف : 88 ] أي : ربكم الذي يسير لكم الفلك على وجه البحر؛ { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } في طلب التجارة { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } ، و الخطاب في قوله : « ربُّكُمْ » وفي قوله « بِكُمْ » للكلِّ ، والمراد من الرحمة : منافع الدنيا ومصالحها .
والثاني : قوله : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر } أي : خوف الغرق « ضَلَّ » ، بطل { مَن تَدْعُونَ } من الآلهة { إِلاَّ إِيَّاهُ } إلا الله ، فلم تجدوا مغيثاً سواه ، { فَلَمَّا نَجَّاكُمْ } من الغرق ، والشدة ، وأهوال البحر ، وأخرجكم { إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ } عن الإيمان ، والإخلاص ، والطاعة؛ كفراً منكم لنعمه ، { وَكَانَ الإنسان كَفُوراً } .
قوله تعالى : { إِلاَّ إِيَّاهُ } : فيه وجهان :
أحدهما : أنه استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنه لم يندرج فيما ذكر ، إذ المراد به آلهتهم من دون الله .
والثاني : متصلٌ؛ لأنهم كانوا يلْجَئُونَ إلى آلهتهم ، وإلى الله تعالى .
والثالث : { أَفَأَمِنْتُمْ } بعد ذلك { أَن يَخْسِفَ بِكُم } ربُّكم يغوِّر بكم [ جانب ] البرِّ .
قال الليث - رحمه الله- : الخسفُ والخسوف دخُولُ الشيءِ في الشَّيء ، يقال عينٌ خاسفةٌ التي غابت حدقتها في الرَّأس ، وعينٌ من الماس خاسفةٌ ، أي : غائرة الماءِ ، وخسفتِ الشَّمس أي : احتجبت ، وكأنَّها وقعت تحت حجابٍ ، أو دخلت في جحر ، فقوله : { يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر } أي : يغيبكم في جانب البرِّ ، وهو الأرض ، وإنما قال : جانب البرِّ؛ لأنَّه ذكر البحر أولاً ، فهو جانب ، والبر جانبٌ ، فأخبر الله سبحانه وتعالى؛ أنه كما كان قادراً على أن يغيبهم في الماءِ ، فهو قادر على أن يغيبهم في الأرض ، فالغرق تغييبٌ تحت الماء ، كما أنَّ الخسف تغييبٌ تحت التُّراب .
وتقرير الكلام أنَّه تعالى ذكر أولاً أنَّهم كانوا خائفين من هول البحر ، فلمَّا نجَّاهم منه آمنوا ، فقال : هَبْ أنَّكم نجوتم من هول البحر ، فكيف أمنتم من هو البرِّ؛ فإنَّه قادرٌ على أن يسلِّط عليكم آفاتِ البرِّ من جانب التَّحتِ ، أو من جانب الفوق ، فأما من جانب التَّحت ، فالخسف ، وأما من جانب الفوق ، فإمطاركم الحجارة ، وهو المراد من قوله { أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً } فكما يتضرعون إلى الله تعالى عند ركوب البحر فكذا يتضرَّعون إليه في كل الأحوال ، والحَصَبُ في اللغة : المرمى ، يقال : خصبته أحصبه ، إذا رميته والحَصْبُ : الرَّميُ ومنه قوله تعالى :
{ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] ، أي : يُلقَوْنَ فيها ، ومعنى قوله « حَاصِباً » أي عذاباً يحصبهم ، أي : يرميهم بحجارةٍ .
قال أبو عبيدة والقتيبيُّ : الحاصبُ : الرِّيحُ التي ترمي بالحصباء ، وهي الحصى الصِّغار؛ قال الفرزدق :
3441- مُسْتَقْبِلينَ شَمالَ الشَّامِ تَضْرِبُهمْ ... حَصْبَاءُ مِيْلُ نَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ
ويسمَّى السَّحاب الذي يرمي بالبرد والثَّلج حاصباً ، لأنه يرمي بهما رمياً ، ولم يؤنثه : إمَّا لأنه مجازيٌّ ، أو على النسب ، أي : ذات حصبٍ .
وقال الزجاج : الحاصب التُّراب الذي فيه الحصباء ، فالحاصب على هذا هو ذُو الحصباء ، مثل اللاَّبن والتَّامر .
{ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } قال قتادة : مَانِعاً .
قوله تعالى : { أَفَأَمِنْتُمْ } : استفهام توبيخ وتقريع ، وقدَّر الزمخشريُّ على قاعدته معطوفاً عليه ، أي : أنجوتم ، فأمنتم .
وقوله تعالى جلَّ ذكره ولا إله إلا هو : { جَانِبَ البر } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه منصوبٌ على الظرف . و « بِكُمْ » [ يجوز ] أن [ تكون ] حالية ، أي مصحوباً بكم ، وأن تكون للسببية .
قيل : ولا يلزم من خسفه بسببهم أن يهلكوا .
وأجيب بأنَّ المعنى : جانب البرِّ الذي أنتم فيه ، فيلزم بخسفه هلاكهم ، ولولا هذا التقدير ، لم يكن في التوعُّد به فائدة .
قوله : « أن نخسف » « أو نُرسِلَ » « أو نُعِيدكم » « فَنُرْسِلَ » [ « فنُغْرِقكم » ] قرأها بنون العظمة ابن كثير ، وأبو عمرو ، والباقون بالياء فيها على الغيبة ، فالقراءة الأولى على سبيل الالتفات من الغائب في قوله « ربُّكم » إلى آخره ، والقراءة الثانية على سننِ ما تقدَّم من الغيبة .
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
قوله تعالى : { أَمْ أَمِنْتُمْ } : يجوز أن تكون المتصلة ، أي : أيُّ الأمرين كائن؟ ويجوز أن تكون المنقطعة ، و « أن يعيدكم » مفعول به .
قوله « تَارةً » بمعنى مرَّة ، وكرَّة ، فهي مصدرٌ ، ويجمع على تيرٍ وتاراتٍ ، قال الشاعر : [ الطويل ]
3442- وإنْسَانُ عَيْنِي يَحْسِرُ المَاءُ تَارةً فَيَبْدُو ، وتَاراتٍ يَجُمُّ فيَغْرَقُ
وألفها تحتمل أن تكون عن واوٍ أو ياءٍ ، وقال الراغب : « وهو فيما قيل : [ مِنْ ] تار الجرحُ : التأمَ » .
قوله تعالى : « قَاصِفاً » القاصِفُ يحتمل أن يكون من « قَصَفَ » متعدِّياً ، يقال : قصفت الرِّيحُ الشجر تقصفها قصفاً؛ قال أبو تمَّام : [ البسيط ]
3443- إنَّ الرِّياحَ إذَا مَا أعْصفَتْ قَصفَتْ ... عَيْدانَ نَجْدٍ ولمْ يَعْبَأنَ بالرَّتمِ
فالمعنى : أناه لا تلفي شيئاً إلا قصفته ، وكسرته .
والثاني : أن يكون من « قَصِفَ » قاصراً ، أي : صار له قصيفٌ ، ياقل : قَصِفتِ الرِّيحُ ، تقصفُ ، أي : صوَّتتْ ، و « مِنَ الرِّيحِ » نعتٌ .
قوله تعالى : « قَاصِفاً » القاصِفُ يحتمل أن يكون من « قَصَفَ » متعدِّياً ، ياقل : قصفت الرِّيحُ الشجر تقصفها قصفاً؛ قال أبو تمَّام : [ البسيط ]
3443- إنَّ الرِّيَاحَ إذَا مَا أعْصفَتْ قَصفَتْ ... عَيْدانَ نَجْدٍ ولمْ يَعْبَأنَ بالرَّتمِ
فالمعنى : أنها لا تلفي شيئاً إلا قصفته ، وكسرته .
والثاني : أن يكون من « قَصِفَ » قاصراً ، أي : صار له قصيفٌ ، يقال : قَصِفتِ الرِّيحُ ، تقصفُ ، أي : صوَّتتْ ، و « مِنَ الرِّيحِ » نعتٌ .
قوله تعالى : { بِمَا كَفَرْتُمْ } يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون بمعنى « الذي » والباء للسببية ، أي : بسبب كفركم ، أو بسبب الذي كفرتم به ، ثم اتُّسعَ فيه ، فحذفت الباءُ ، فوصل الفعل إلى الضمير ، وإنَّما احتيج إلى ذلك؛ لاختلافِ المتعلق .
وقرأ أبو جعفرٍ ، ومجاهدٌ : « فتُغْرِقَكُم » بالتاء من فوق أسند الفعل لضمير الرِّيح ، وفي كتاب أبي حيَّان : « فتُغْرِقَكُمْ » بتاء الخطاب مسنداً إلى « الرِّيح » والحسن وأبو رجاء بياء الغيبة ، وفتح الغين ، وتشديد الراء ، عدَّاه بالتضعيف ، والمقرئ لأبي جعفر كذلك إلاَّ أنه بتاء الخطاب . قال شهاب الدين : هو إمَّا سهوٌ ، وإمَّا تصحيفٌ من النساخ عليه؛ كيف يستقيم أن يقول بتاءِ الخطاب ، وهو مسندٌ إلى ضمير الرِّيحِ ، وكأنه أراد بتاء التأنيث ، فسبقه قلمه أو صحَّف عليه غيره .
وقرأ العامة « الرِّيحِ » بالإفراد ، وأبو جعفرٍ : « الرِّياح » بالجمع .
قوله : « به تَبِيعاً » يجوز في « بِهِ » أن يتعلَّق ب « تَجِدُوا » وأن يتعلق ب « تَبِيعاً » ، وأن يتعلق بمحذوفٍ؛ لنه حالٌ من « تبيعًا » والتَّبِيعُ : المطالب بحقِّ الملازمُ ، قال الشَّماخ : [ الوافر ]
3444- كمَا لاذَ ... الغَريمُ مِنَ التَّبيعِ
وقال آخر : [ الطويل ]
3445- غَدَوْا وغَدتْ غِزلانُهمْ فَكأنَّهَا ... ضَوَامِنُ مِنْ غُرْمٍ لهُنَّ تَبِيعُ
فصل
ومعنى الآية { أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ } ، يعني في البحر { تَارَةً أخرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً } .
قال ابن عباس - رضي الله عنه- : أي عاصفاً ، وهي الرِّيح الشديدة وقال أبو عبيدة : هي الرِّيح التي تقصف كلَّ شيءٍ ، أي : تدقٌّه وتحطمه { فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً } ناصراً ولا ثائراً ، وتبيع بمعنى تابعٍ ، أن تابعاً مطالباً بالثَّأر .
وقال الزجاج - رضي الله عنه - : من يتبعنا بإنكارِ ما نزل بكم ، ولا من يتتبّعنا بأن نصرفه عنكم .
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
وهذه نعمة أخرى عظيمة من نعم الله - تعالى - على الإنسان ، وهي تفضيل الإنسان على غيره .
واعلم أنه ليس المراد من الكرمِ في المالِ . وعدَّاه بالتضعيف ، وهو من كرم بالضَّم ك « شَرُفَ » ، قال ابن عباس - رضي الله عنهما- : كلُّ شيءٍ يأكل بفيه إلاَّ ابن آدم يأكل بيديه .
وروي عنه أنه قال : بالعقل .
وقال الضحاك : بالنُّطق والتَّمييز .
وقال عطاء : بتعديل القامة ، وامتدادخا .
وينبغي أن يشترط مع هذا شرطٌ ، وهو طول العمر ، مع استكمال القوَّة العقليَّة والحسيَّة والحركيَّة ، وإلاَّ فالأشجار أطول قامة من الإنسانِ ، والدَّوابُّ منكبَّة على وجوهها .
وقيل : بحسنِ الصورة؛ كقوله تعالى : { فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } [ غافر : 64 ] ولما ذكر خلقه للإنسان ، قال : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] وقال جلَّ ذكره { صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً } [ البقرة : 138 ] .
وتأمَّل عضواً واحداً من أعضاء الإنسان ، وهو العين ، فخلق الحدقة سوداء ، ثم أحاط بذلك السَّواد بياض العين ، ثم أحاط بذلك البياض سواد الأشفار ، ثم أحاط بذلك السواد بياض الأجفان ، ثم خلق فوق بياض الجفن سواد الحاجبين ، ثم خلق فوق سواد الحاجببين بياض الجبهة ، ثمَّ خلق فوق بياض الجبهة سواد الشَّعر .
وقيل : الرِّجال باللحى ، والنِّساء بالذَّوائب .
وقيل : بأن سخَّر لهم سائر الأشياء .
وقال بعضهم : من كرامات الآدميِّ أن آتاه الله الخطَّ .
وتحقيق الكلام : أن العلم الذي يقدر الإنسانُ على استنباطه يكون قليلاً ، فإذا أودعه في كتابٍ ، جاء الإنسان الثاني ، واستعان بذلك الكتاب ، ضمَّ إليه من عند نفسه آخر ، ثم لا يزالون يتعاقبون ، ويضمُّ كلُّ متأخرٍ مباحث كثيرة إلى علم المتقدِّمين ، فكثرت العلومُ ، وانتهتِ المباحثُ العقليَّة ، والمطالب الشرعيَّة إلى أقصى الغايات ، وأكمل النهايات ، وهذا لا يتأتَّى إلا بواسطةِ الخطِّ ، ولهذه الفضيلة؛ قال تعالى : { اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم الذى عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 3-5 ] .
وقال بعضهم : إنَّ المخلوقاتِ أربعة أقسامٍ :
قسم حصلت له القوَّة العقليَّة الحكميَّة ، ولم تحصل له القوَّة الشهواتيَّة ، وهم الملائكة - صلوات الله عليهم - وقسمٌ بالعكس ، وهم البهائم ، وقسم خلا عن القسمين ، وهم النباتُ والجمادات ، وقسم حصل النوعان فيه ، وهو الإنسان ، ولا شكَّ أنَّ الإنسان؛ لكونه مستجمعاً للقوَّة العقلية ، والقوى الشهوانيَّة ، والبهيميَّة والنفسيَّة والسبعيَّة يكون أفضل من البهيمة والسَّبع ، وهو أيضاً أفضل من الخالي عن القوتين؛ كالنبات والجمادات ، وإذا ثبت ذلك ، ظهر أنَّ الله تعالى فضَّل الإنسان على أكثر أقسام المخلوقات .
وأيضاً : الموجود : إمَّا أن يكون أزليًّا وأبدياً معاً ، وهو الله تبارك وتعالى .
وإمَّا ألاَّ يكون أزليًّا ولا أبديًّا ، وهم عالم الدنيا مع ما فيه من المعادن ، والنبات ، والحيوان ، وهذا أخسُّ الأقسام ، وإمَّا أن يكون أزليًّا ، ولا يكون أبديًّا ، وهو الممتنعُ الوجود؛ لأنَّ ما ثبت قدمه ، امتنع عدمهُ ، وإمَّا ألاَّ يكون أزليًّا ، ولكنَّه يكون أبديًّا ، وهو الإنسان ، والملك ، وهذا القسمُ أشرف من الثاني والثالث ، وذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر المخلوقات .
ثمَّ قال تعالى : { وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر } .
قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه- : في البرِّ على الخيل والبغالِ والحميرِ والإبلِ ، وفي البحر على السُّفُن .
{ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات } يعني لذيذ الطَّعام والمشارب ، { وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } .
واعلم أنَّه قال في أوَّل الآية { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } .
وقال في آخرها : { وَفَضَّلْنَاهُمْ } ولا بدَّ من الفرق بين التكريم والتفضيل ، وإلا لزم التَّكرار ، والأقرب أن يقال : إنه تعالى فضَّل الإنسان على سائرِ الحيوانات بأمور خلقيَّة طبعيَّة ذاتيَّة؛ كالعقل ، والنطق ، والخطِّ ، والصورة الحسنة ، و القامة المديدة ، ثم إنه تعالى عرضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقَّة ، والأخلاق الفاضلة ، فالأول : هو التكريم ، والثاني : هو التفضيل .
فصل
ظاهرُ الآية يدلُّ على أنَّه فضَّلهم على كثيرٍ من خلقه ، لا على الكلِّ ، فقال قومٌ : فضِّلوا على جميع الخلق ، لا على الملائكة ، وهذا قول ابن عباس ، واختيارُ الزجاج على ما رواهُ الواحديُّ في « البسيط » .
وقال الكلبيُّ : فضِّلوا على جميع الخلائف كلِّهم ، إلاَّ على طائفةٍ من الملائكة : جبريل ، ميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت - صلوات الله عليهم أجمعين - وأشباههم .
وقال قوم : فضِّلوا على جميع الخلق ، وعلى الملائكةِ كلِّهم ، وقد يوضع الأكثر موضع الكلِّ؛ كقوله سبحانه { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين } [ الشعراء : 221 ] إلى قوله : { وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } [ الشعراء : 223 ] أي : كلُّهم .
وروى جابرٌ يرفعه : قال « لمَّا خلق الله - عزَّ وجلَّ - آدم ، وذريَّته ، قالت الملائكة : يا ربُّ ، خلقتهم يَأكلُونَ ، ويَشْرَبُونَ ، ويَنكِحُونَ ، فاجعلْ لهمُ الدُّنْيَا ، ولنَا الآخِرةَ ، فقال تعالى : لا أجعل من خلقته بيدي ، ونفخت فيه من روحي ، كمن قلت له : كن فكان » .
والأولى أن يقال : عوامُّ الملائكة أفضل من عوامِّ المؤمنين ، وخواصُّ المؤمنين أفضل من خواصِّ الملائكة ، قال تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك هُمْ خَيْرُ البرية } [ البينة : 7 ] .
ورُوِيَ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : « المُؤمِنُ أكْرَمُ على الله مِنَ المَلائِكَةِ الَّذينَ عِندَهُ » رواه البغويُّ وأورده الواحدي في « البسيط » .
واحتجَّ القائلون بتفضيل الملائكة على البشر على الإطلاق بهذه الآية .
قال ابن الخطيب : وهو في الحقيقة تمسُّكٌ بدليل الخطاب ، وتقريره أن يقال : تخصيص الكثير بالذكر يدلُّ على أنَّ الحال في القليل بالضدِّ ، وذلك تمسُّك بدليل الخطاب .
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
لما ذكر كرامات الإنسان في الدُّنيا ، شرح درجات أحواله في الآخرة .
قوله تعالى : { يَوْمَ نَدْعُواْ } : فيه أوجه :
أحدها : أنه منصوبٌ على الظرفية ، والعامل « فضَّلنَاهُمْ » أي : فضَّلناهم بالثواب يوم ندعُو ، قال ابن عطيَّة في تقريره : وذلك أنَّ فضل البشر على سائر الحيوان يوم القيامة بيِّنٌ ، إذ هم المكلَّفون المنعَّمون المحاسبون الذين لهم القدرُ؛ إلا أنَّ هذا يردُّه أنَّ الكفار [ يومئذٍ ] أخسرُ مِنْ كلِّ حيوانٍ؛ لقولهم : { ياليتني كُنتُ تُرَاباً } [ النبأ : 40 ] .
الثاني : أنه منصوبٌ على الظرف ، والعامل فيه « اذكُرْ » قاله الحوفيُّ وابن عطيَّة ، وهذا سهوٌ؛ كيف يعمل فيه ظرفاً؟ بل هو مفعولٌ .
الثالث : أنه مرفوعُ المحلِّ على الابتداء ، وإنما بُنِيَ لإضافته إلى الجملة الفعلية ، والخبر الجملة بعده ، قال ابن عطيَّة في تقريره : ويصحُّ أن يكون « يوم » منصوباً على البناء ، لمَّا أضيف إلى غير متمكِّنٍ ، ويكون موضعه رفعاً بالابتداء ، وخبره في التقسيم الذي أتى بعده في قوله « فَمنْ أوتِي كِتابَهُ » إلى قوله « ومَنْ كَانَ » قال أبو حيان : قولهُ « منصوبٌ على البناء » كان ينبغي أن يقول : مبنياً على الفتح ، وقوله « لمَّا أضيف إلى غير متمكِّن » ليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ المتمكِّن وغير المتمكِّن ، إنما يكون في الأسماءِ ، لا في الأفعالِ ، وهذا أضيف إلى فعلٍ مضارع ، ومذهبُ البصريين فيه أنه معربٌ ، والكوفيون يجيزون بناءه ، وقوله : « [ والخبر ] في التقسيم » إلى آخره ، التقسيم عارٍ من رابطٍ يربط جملة التقسيم بالابتداء . قال شهاب الدين : الرابط محذوفٌ للعلم به ، أي : فمن أوتي كتابه فيه .
الرابع : أنه منصوب بقوله « ثُمَّ لا تجِدُوا » قاله الزجاج .
الخامس : أنه منصوب ب « يُعِيدكُمْ » مضمرة ، أي : يعيدكم يوم ندعو .
السادس : أنه منصوبٌ بما دلَّ عليه « ولا يُظلَمُونَ » بعده ، أي : لا يظلمون يوم ندعو ، قاله ابن عطية وأبو البقاء .
السابع : أنه منصوب بما دلَّ عليه « متى هو » .
الثامن : أنه منصوبٌ بما تقدَّمه من قوله تعالى : { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 52 ] .
التاسع : أنه بدلٌ من « يَوْمَ يَدْعُوكُمْ » . وهذان القولان ضعيفان جدًّا؛ لكثرة الفواصل .
العاشر : أنه مفعول به بإضمار « اذكر » وهذا - وإن كان أسهل التقادير - أظهر ممَّا تقدَّم؛ إذ لا بعد فيه ولا إضمار كثيرٌ .
وقرأ العامة « نَدْعُو » بنون العظمة ، ومجاهدٌ « يَدعُو » بياء الغيبة ، أي : الله تعالى أو الملك ، و « كُلَّ » نصْبٌ مفعولاً به على القراءتين .
وقرأ الحسن فميا نقله الدَّانيُّ عنه « يُدعَى » مبنيًّا للمفعول « كُلُّ » مرفوعٌ؛ لقيامه مقام الفاعل ، وفيما نقله عنه غيره « يُدْعَوْ » بضم الياء ، وفتح العين ، بعدها واوٌ ، وخرجت على وجهين :
أحدهما : أن الأصل : « يُدْعَوْنَ » فحذفت نون الرفع ، كما حذفت في قوله - صلوات الله وسلامه عليه- :
« لا تَدْخُلُوا الجَنَّة حتَّى تُؤمِنُوا ، ولا تُؤمِنُوا حتَّى تَحابُّوا » وقوله : [ الرجز ]
3446- أبِيتُ أسْرِي وتَبِيتِي تَدْلُكِي ... وجْهَكِ بالعَنْبَرِ والمِسْكِ الذَّكِي
و « كلُّ » مرفوع بالبدلِ من الواو التي هي ضميرٌ ، أو بالفاعلية ، والواو علامة على لغة « يَتعاقَبُون فِيكُمْ مَلائِكةٌ » .
والتخريج الثاني : أنَّ الأصل « يُدْعَى » كما نقله عنه الدَّاني ، إلاَّ أنه قلب الألف واواً وقفاً ، وهي لغة قومٍ ، يقولون : هذه أفْعَوْ وعَصَوْ ، يريدون : أفْعى وعَصَا ، ثم أجري الوصل مجرى الوقفِ . و « كُلُّ » مرفوعٌ لقيامه مقام الفاعل على هذا ، ليس إلا .
قوله تعالى : { بِإِمَامِهِمْ } يجوز أن تكون الباء متعلقة بالدعاء ، أي : باسم إمامهم ، قال مجاهدٌ : بِنَبِيِّهِمْ .
ورواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً ، فيقال : يا أمَّة فلانٍ ، وقال أبو صالحٍ والضحاك : بِكتَابهمْ .
وقال الحسنُ وأبو العاليةِ : بأعمَالِهمْ .
وقال قتادة : بكتابهم الذي فيه أعمالهم؛ بدليل سياق الآية . وقوله تعالى : { أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ } [ يس : 12 ] .
وعن انب عباس - رضي الله عنه - وسعيد بن جبيرٍ : بإمام زمانهم الذي دعاهم في الدنيا إلى ضلالٍ أو هدًى .
قال تعالى : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [ الأنبياء : 73 ] وقال تعالى : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار } [ القصص : 41 ] .
وقيل : بمعبودهم .
وأن تكون للحالِ ، فيتعلق بمحذوفٍ ، أي : ندعوهم مصاحبين لكتابهم ، والإمامُ : من يقتدى به ، وقال الزمخشريُّ : « ومن بدعِ التفاسير : أن الإمام جمع » أمٍّ « وأنّ الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم ، وأن الحكمة فيه رعايةُ حقِّ عيسى - صلوات الله عليه- ، وإظهار شرف الحسن والحسين ، وألاَّ يفضح أولادُ الزِّنى » قال : وليت شعري أيُّهما أبدعُ : أصحَّة لفظه ، أم بهاءُ حكمته؟ « .
وهو معذورٌ لأنَّ » أم « لا يجمع على » إمام « هذا قول من لا يعرف الصناعة ، ولا لغة العرب ، وأمَّا ما ذكروه من المعنى ، فإنَّ الله تعالى نادى عيسى - صلوات الله عليه - باسمه مضافاً لأمِّه في عدَّة مواضع من قوله { ياعيسى ابن مَرْيَمَ } [ المائدة : 110 ] ، وأخبر عنه عليّ رضي الله عنه وكرَّم وجهه .
قوله تعالى : { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ } يجوز أن تكون شرطية ، وأن تكون موصولة ، والفاء لشبهه بالشرط ، وحمل على اللفظ أولاً في قوله { أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } فأفرد ، وعلى المعنى ثانياً في قوله : » فأولَئِكَ « فجمع . لأن من أوتي كتابه في معنى الجمع .
ثن قال : { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } .
الفَتِيلُ : القشرة التي في شقِّ النَّواة ، وسمِّي بذلك؛ لأنَّه إذا رام الإنسان إخراجهُ انفتل ، وهذا مثلٌ يضرب للشَّيء الحقير التَّافهِ ، ومثله : القطميرُ والنَّقير .
والمعنى : لا ينقصون من الثواب بمقدار فتيلٍ ونظيره { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } [ مريم : 60 ] وروى مجاهدٌ عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : الفتيلُ هو الوسخُ الذي يفتلهُ الإنسانُ بين سبَّابته وإبهامه .
وهو فعيلٌ بمعنى مفعولٍ .
فإن قيل : لم خصَّ أصحاب اليمين بقراءة كتابهم ، مع أنَّ أهل الشِّمال يقرءونه؟! فالجواب : الفرق بينهما أنَّ أهل الشِّمال ، إذا طالعوا كتابهم ، وجدوه مشتملاً على المهلكاتِ العظيمة ، والقبائح الكاملة ، والمخازِي الشديدة ، فيستولي الخوف والدهشة على قلبهم ، ويثقل لسانهم ، فيعجزوا عن القراءةِ الكاملة ، وأما أصحاب اليمين ، فعلى العكس ، فلا جرم أنَّهم يقرءون كتابهم على أحسن الوجوه ، ثم لا يكتفون بقراءتهم وحدهم ، بل يقولون لأهل المحشر : { هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ } [ الحاقة : 19 ] فظهر الفرق .
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
قوله تعالى : { وَمَن كَانَ فِي هذه } : يجوز في « مَنْ » ما جاز في « مَنْ » قبلها ، وأمال الأخوان وأبو بكر « أعْمَى » في الموضعين من هذه السورة ، وأبو عمرو أمال الأول ، دون الثاني ، والباقون فتحوهما ، فالإمالة؛ لكونهما من ذوات الياء ، والتفخيمُ؛ لأنه الأصل ، وأمَّا أبو عمرو ، فأمال الأول؛ لأنه ليس أفعل تفضيلٍ ، فألفه متطرفةٌ لفظاً وتقديراً ، والأطرافُ محل التغيير غالباً ، وأمَّا الثاني ، فإنه للتفضيلِ ، ولذلك عطف عليه « وأضلُّ » فألفه في حكم المتوسطة؛ لأنَّ « مِن » الجارَّة للمفضولِ ، كالملفوظ بها ، وهي شديدة الاتصال بأفعلِ التفضيلِ ، فكأنَّ الألف وقعت حشواً ، فتحصَّنتْ عن التغيير .
كذا قرَّره الفارسي والزمخشري ، وقد ردَّ هذا بأنهم أمالوا { وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ } [ المجادلة : 7 ] مع التصريح ب « مِنْ » فلأن يميلوا « أعْمَى » مقدراً معه « مِنْ » أولى وأحرى .
وأمَّا « أعْمَى » في طه [ الآية : 124 ] فأماله الأخوان ، وأبو عمرو ، ولم يمله أبو بكر ، وإن كان يميله هنا ، وكأنه جمع بين الأمرين ، وهو مقيَّد باتِّباع الأثر ، وقد فرَّق بعضهم : بأنَّ « أعمى » في طه من عَمَى البصر ، وفي الإسراء من عمى البصيرة؛ ولذلك فسَّروه هنا بالجهل فأميل هنا ، ولم يملْ هناك؛ للفرق بين المعنيين ، والسؤال باقٍ؛ إذ لقائلٍ أن يقول : فَلِمَ خُصِّصَتْ هذه بالإمالةِ ، ولو عكسَ الأمر ، لكان الفارقُ قائماً .
ونقل ابن الخطيب - رحمه الله - عن أبي عليٍّ الفارسيِّ ، قال : الوجه في تصحيح قراءة أبي عمرو أنَّ المراد بالأعمى في الكلمة الأولى كونه في نفسه أعمى ، وبهذا التفسير تكون هذه الكلمة تامَّة ، فتقبل الإمالة ، وأما في الكلمة الثانية ، فالمراد من الأعمى أفعل التفضيل ، وبهذا التقدير : لا تكونُ تامة؛ فلم تقبل الإمالة .
فصل
قال عكرمة : جاء نفرٌ من أهل اليمن إلى ابن عبَّاس ، فسأله رجلٌ عن هذه الآية ، فقال : اقْرَأ ما قبلها ، فقرأ { رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ } [ الإسراء : 66 ] إلى قوله { تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 70 ] .
فقال ابن عباس : من كان أعمى في هذه النِّعمِ المذكورة في الآيات المتقدمة .
روى الضحاك عن ابن عباس : من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرة الله تعالى ، وعن رؤية الحقِّ ، فهو في الآخرة أعمى أشدُّ عمًى { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } ، أي : أخطأ طريقاً وعلى هذا؛ فالإشارة ب « هذه » إلى الدنيا .
وعلى هذين القولين : فالمراد من كان أعمى عن معرفة الدلائل ، والنِّعمِ ، فبأن يكون في الآخرة أعمى القلب عن معرفة أحوال الآخرة أولى .
وقال الحسن : من كان في الدنيا ضالاً كافراً ، فهو في الآخرة أعمى ، وأضلُّ سبيلاً؛ لأنَّه في الدنيا؛ تقبل توبته ، وفي الآخرة ، لا تقبل توبته ، وحمل بعضهم العمى الثاني على عمى العين والبصر ، ويكون التقدير : فمن كان في هذه الدنيا أعمى القلب حشر يوم القيامة أعمى العين و البصر ، كما قال تعالى : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى } [ طه : 124-126 ] .
وقال جلَّ ذكره : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } [ الإسراء : 97 ] .
وهذا العمى زيادة في عقوبتهم .
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
لما عدد في الآيات المتقدمة أقسام نعمه على خلقه ، وأتبعها بذكر درجاتِ الخلق في الآخرة ، أردفه بما يجري مجرى تحذير الناس عن الاغترار بوساوس أرباب الضلال والانخداع بكلماتهم المشتملة على المكرِ والتَّلبِيس ، فقال عزَّ وجلَّ : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } .
روى عطاءٌ عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في وفد ثقيفٍ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصالٍ ، قال : وما هُنَّ؟ قالوا : ألاَّ نَحني في الصَّلاة أيْ لا نَنْحَنِي ولا نكسر أصنامنا بأيدينا ، وأن تُمتِّعنا باللاَّت سنة ، من غير أن نعبدها ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : « لا خَيْرَ في دينِ لا رُكوعَ فيه ولا سُجودَ ، وأمّا أن تَكسِرُوا أصْنامَكُم بأيْدِيكُمْ فذلك لَكُم ، وأمَّا الطَّاغيةُ يعني اللاَّت فإنَّني غير ممتِّعكُمْ بها » وفي رواية : « وحرِّم وادينا ، كما حرَّمت مكَّة شَجرهَا ، وطَيْرهَا ، ووَحْشهَا ، فأبى ذلكَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ولَمْ يُجبْهُم ، فقالوا : يا رسول الله إنَّا نُحِبُّ أنْ تَسْمعَ العربُ أنَّك أعْطَيتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ غَيْرنَا ، وإنّي خَشِيتُ أن تقُول العربُ : أعْطَيتَهُم ما لَمْ تُعْطِنا ، فقل : الله أمَرنِي بذلكَ ، فَسكتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فطمع القومُ في سُكوتهِ أنْ يُعْطِيَهُمْ ، فَصاحَ عليهم عليٌّ وعمرُ - رضي الله عنهما - وقالوا : أما تَروْنَ أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ أمْسََ عَنِ الكلامِ؛ كَراهِيَةً لما تَذْكرُونَه ، فأنْزلَ الله تعالى هذه الآية » .
وقال سعيد بن جبيرٍ : كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود ، فمنعته قريشٌ ، وقالوا : لا نَدعُكَ ، حتَّى تلم بآلهتنا وتمسَّها ، فحدَّث نفسه؛ ما عليَّ إذا فعلتُ ذلك ، والله يعلم أنِّي لها كارهٌ ، بعد أن يدعوني ، حتَّى أستلمَ الحجر ، فأنزل الله هذه .
وروى الزمخشريُّ أنَّهم جاءُوا بكتابهم ، فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كِتَابٌ مِنْ محمَّد رسول الله إلى ثقيفٍ : لا يعشرون ، ولا يحشرون ، فسكت رسُول الله ، ثم قالوا للكاتب : اكْتُبْ ولا يُجْبَون والكَاتبُ ينظرُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامَ عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - وسلَّ سيفه ، وقال : أسعرتم قَلْبَ نَبيِّنا يا ثقيفُ ، أسْعَر الله قُلوبَكُمْ ناراً ، فقالوا : لَسْنَا نُكلِّمُك ، إنَّما نكلِّم محمداً ، فنزلت الآية ، وهذه القصَّة إنما وقعت بالمدينة؛ فلهذا قيل : إنَّ هذه الآيات مدنيةٌ .
وروي أنَّ قريشاً قالت : اجْعَلْ آية رحمةٍ آية عذابٍ ، وآية عذابٍ ىية رحمة؛ حتَّى نُؤمِنَ بك ، فنزلت الآية .
قال القفال : ويمكن تأويل الآية من غير تقييد بسبب يضاف إلى نزولها فيه؛ لأنَّ من المعلوم أنَّ المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر الرسول- صلوات الله وسلامه عليه - بأقصى ما يقدرون عليه ، فتارة كانوا يقولون : إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك ، فأنزل الله تعالى :
{ قُلْ ياأيها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } [ الكافرون : 1 ، 2 ] . { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [ القلم : 9 ] .
وعرضوا عليه الأموال الكثيرة ، والنِّسوان الجميلة؛ ليترك غدِّعاء النبوة ، فأنزل الله - تعالى - : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ } [ طه : 131 ] .
ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه ، فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } [ الأنعام : 52 ] .
ودعوه إلى طرد الذين يدعون ربَّهم ، فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب ، وذلك أنَّهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه ، وأن يزيلوه عن منهجه ، فبيَّن الله - تعالى - أنَّه يثبته على الدِّين القويمِ ، والمنهج المستقيم ، وعلى هذا الطريق ، فلا حاجة في تفسير هذه الآيات إلى شيءٍ من تلك الرِّوايات .
قوله تعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } : « إنْ » هذه فيها لمذهبان المشهوران : مذهب البصريين : أنها مخففة ، واللام فارقة بينها وبين طإن « النافية ، ولهذا دخلت على فعلٍ ناسخٍ ، ومذهب الكوفيين أنها بمعنى » ما « النافية ، واللام بمعنى » إلاَّ « وضمِّن » يَفْتِنُونَكَ « معنى » يَصْرفُونكَ « فلهذا عدِّي ب » عَنْ « تقديره : ليصرفونك بفتتنتهم ، و » لِتَفْترِي « متعلق بالفتنة .
قوله : { وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ } » إذَنْ « حرف جواب وجزاء؛ ولهذا تقع أداةُ الشرط موقعها ، و » لاتَّخذُوكَ « جواب قسمٍ محذوفٍ ، تقديره : إذن ، والله لاتخذوك ، وهو مستقبل في المعنى؛ لأنَّ » إذَنْ « تقتضي الاستقبال؛ إذ معناها المجازاة ، وهو كقوله : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ } [ الروم : 51 ] أي : ليظلنَّ ، وقول الزمخشريِّ : » أي : ولو اتَّبعتَ مرادهم ، لاتَّخذوكَ « تفسير معنى ، لا إعرابٍ ، لا يريد بذلك أنَّ » لاتَّخَذُوك « جوابٌ ل » لو « محذوفة؛ إذ لا حاجة إليه .
فصل في معنى الآية
قال الزجاج : معنى الكلام : كادوا يفتنونك ، ودخلت » إنْ « و » اللام « للتأكيد ، و » إنْ « مخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية .
والمعنى : الشَّأن أنَّهم قاربوا أن يفتنوك ، أي : يخدعوك فاتنين ، وأصل الفتنة : الاختبار .
يقال : فتن الصَّائغُ الذَّهب ، إذا أدخلهُ النَّار ، وأذابهُ؛ ليميِّز جيِّده من رديِّيه ، ثم استعمل في كلِّ ما أزال الشيء عن حدِّه وجهته ، فقالوا : فتنة ، فقوله تعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } . أي : يزيلونك ، ويصرفونك عن الذي أوحينا إليك ، وهو القرآن ، أي : عن حكمه؛ وذلك لأنَّ في إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن .
وقوله : { لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } أي غير ما أوحينا إليك ، وقوله : { وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } أي لو فعلت ذلك ما أرادوا لاتخذوك خليلا ، وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كفرهم وراضٍ بشركهم ، ثم قال : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ } يعني على الحق ، بعصمتنا إياك { لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } أي تميل إليهم شيئاً قليلاً .
قرأ العامة بفتح كاد تركن مضارع رَكِن بالكسر ، وقتادة ، وابن مصرف ، وابن أبي إسحاق « تَرْكُن » بالضم مضارع « رَكَن » بالفتح ، وهذا من التداخل ، وقد تقدم تحقيقه في أواخر « هود » و « شيئاً » منصوب على المصدر ، وصفته محذوفة ، أي شيئاً قليلاً من الركون ، أو ركوناً قليلاً .
قال ابن عباس : يريد حيث سكوتك عن جوابهم .
قال قتادة : لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم : « اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين » .
ثم توعد في ذلك أشد التوعد ، فقال : { إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة } أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات ، يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة .
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف حقيقة هذا الكلام؟ قلت : أصله لأذقناك عذاب الحياة ، وعذاب الممات ، لأن العذاب عذابان عذاب في الممات ، وهو عذاب القبر وعذاب في الحياة الآخرة ، وهو عذاب النار ، والضعف يوصف به نحو قوله تعالى : { فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار } [ الأعراف : 38 ] يعني عذاباً مضاعفاً ، فكان أصل الكلام : لأذقناك عذاباً ضعفاً عذاباً ضعفاً في الحياة ، وعذاباً ضعفاً في الممات ثم حذف الموصوف ، فأثبت الصفة مقامه وو الضعف ، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف ، فقيل : ضعف الحياة ، وضعف الممات ، لما تقدم في القرآن من وصف العذاب بالضعف في قوله : { مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النار } [ ص : 61 ] وحاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك ، وعقدت على الركون إليه لاستحققت تضعيف العذاب عليك في الدنيا وفي الآخرة ، وصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة ، والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعم الله في حق الأنبياء عليهم السلام أكثر فكانت ذنوبهم أعظم ، وكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر ، ونظيره قوله تعالى : { يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] .
فإن قيل : قال عليه السلام : « من سن سنة سيئة فعلية وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة » فموجب هذا الحديث أنه عليه السلام لو عمل بما قالوه ، لكان وزره مثل وزر كل واحد من أولئك الكفار ، وعلى هذا التقدير فكان عقابه زائداً على الضعف .
فالجواب : إثبات الضعف لا يدل على نفي الزائد عليه إلا بالبناء على دليل الخطاب ، وهو دليل ضعيف ، ثم قال تعالى : { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً } يعني : إذا أذقناك العذاب المضاعف لم تجد أحداً يخلصك من عذابنا .
فإن قيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم معصوماً ، فكيف يجوز أن يقرب مما طلبوه ، وما طلبوه كفر؟ .
قيل : كان ذلك خاطر قلب لم يكن عزماً ، وقد عفا الله عز وجل عن حديث النفس .
والجواب الصحيح هو أن الله تعالى قال : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } .
وقد ثبته الله ، فلم يركن إليهم ، وهذا مثل قوله تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان } [ النساء : 83 ] وقد تفضل فلم يتبعوا .
فصل
احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء - عليهم السلام - بهذه الآية ، فقالوا : هذه الآية تدل على صدور الذنب العظيم منهم من وجوه :
الأول : أن الآية دلت على أنه - عليه السلام - قرب من أن يفتري على الله الكذب ، وذلك من أعظم الذنوب .
الثاني : تدلُّ على أنَّه لولا أنَّ الله - تعالى - ثبَّته وعمه؛ لقرب من أن يركن إلى دينهم .
الثالث : لولا أنَّه سبق جرمٍ وجناية ، وإلاَّ فلا حاجة إلى ذكر هذا الوعيد الشَّديد .
والجواب عن الأوَّل : أنَّ « كاد » معناه المقاربة ، أي : أنه قرب وقوعه في الفتنة ، وهذا لا يدلُّ على الوقوع في تلك الفتنة ، بل يدلُّ على عدم الوقوع؛ كقولك : « كادَ الأميرُ أن يَضْربَ فُلاناً » لا يدلُّ على أنَّه ضربه .
والجواب عن الثاني : أنَّ « لَوْلاَ » تفيد انتفاء الشيء؛ لثبوت غيره؛ تقول : لولا عليٌّ ، لهلك مرٌو؛ إذ وجود عليٍّ منع من حصول الهلاك لعمرو ، فكذلك ها هنا .
فقوله : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } .
معناه : أنَّه لولا حصل تثبيتُ الله لمحمد صلى الله عليه وسلم فكان حصول ذلك التَّثْبِيت معانعاً من حصول ذلك الرُّكون .
والجواب عن الثالث : أنَّ التهديد على المعصية لا يدلُّ على الإقدام عليها؛ لقوله - تعالى - { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } [ الحاقة : 44-46 ] .
وقوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] .
وقوله : { وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } [ الأحزاب : 1 ] .
فصل في ألا عصمة من المعاصي إلا بتوفيق الله تعالى
احتجَّ أهلُ السنة على أنه لا عصمة من المعاصي إلاَّ بتوفيقِ الله تعالى؛ بقوله تعالى : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ } الآية ، فبيَّن أنَّه لولا تثبيت الله تعالى له ، لمال إلى طريقةِ الكفَّار ، ولا شكَّ أنَّ محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - كان أقوى من غيره في قوة الدِّين ، وصفاء القلب واليقين ، فلما بيَّن الله تعالى له أنَّ بقاءهُ معصوماً عن الكفر والضلال ، لم يحصل إلاَّ بإعانة الله تعالى وتوفيقه ، كان حصول هذا المعنى في حقِّ غيره أولى .
قالت المعتزلة : المراد بهذا التَّثبيتِ : الألطاف الصَّارفة عن ذلك ، وهي ما أخطر الله بباله من ذكر وعده ووعيده ، ومن ذكر أنَّ كونه نبيًّا من عند الله يمنع من ذلك .
والجواب : لا شكَّ أنَّ التثبيت عبارة عن فعل فعلهُ الله تعالى ، يمنع الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - من ذلك الوقوع في ذلك المحذور ، فنقول : لم يوجد المقتضي للإقدام على ذلك العمل المحذور في حقِّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ملا كان لإيجاد هذا المنع حاجةٌ ، وحيث وقعت الحاجة إلى تحصيل هذا المانع علمنا أنَّ ذلك المقتضي قد حصل في حقِّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - وأنَّ هذا المانع الذي فعله الله تعالى لمنع ذلك المقتضي من العمل ، وهذا لا يتمُّ إلاَّ إذا قلنا : إنَّ القدرة مع الدَّاعي توجب الفعل ، فإذا حصلت داعية أخرى معارضةٌ للداعي الأوَّل ، اختلَّ المؤثِّر ، فامتنع الفعل ، ونحن لا نريدُ إلاَّ إثبات هذا المعنى .
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
قال مجاهد ، وقتادة : الأرض : أرض مكة ، والآية مكيَّةٌ . هَمَّ المشركون في أن يخرجوه منها ، فكفَّهم الله عنه؛ حتَّ أمره بالهجرة ، فخرج بنفسه ، وهذا أليق بالآية؛ لأنَّ ما قبلها خبر عن أهل مكَّة ، وهذا اختيار الزجاج .
وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : لمَّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حسدته اليهود ، وكرهوا قربه منهم ، ومقامه بالمدينة ، فأتوهُ ، وقالوا : يا أبا القاسم ، لقد علمت ما هذه بدارِ الأنبياءِ ، وأنَّ أرض الأنبياء بالشَّام ، وهي الأرض المقدسة ، وبها كان إبراهيم والأنبياء - صلوات الله عليهم - فإن كنت نبيًّا مثلهم ، فأت الشَّام ، وإنما يمنعك من الخروج إليها مخافتك الروم ، وإنَّ الله يمنعك من الرُّوم ، إن كنت نبيًّا ، فعسكر النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أميالٍ من المدينة ، وقيل : بذي الحليفة؛ حتَّى يجتمع إليه أصحابه ، ويراه النَّاس عازماً على الخُروج إلى الشَّام ، فيدخلون في دين الله - سبحانه وتعالى - فأنزلت هذه الآية ، وهذا قول الكلبيِّ ، وعلى هذا ، فالآية مدنية ، والمراد بالأرض : أرض المدينة ، وكثر في التنزيل ذكر الأرض ، والمراد منها مكانٌ مخصوصٌ؛ كقوله تعالى : { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض } [ المائدة : 33 ] أي : من مواضعهم .
وقوله تعالى : { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض } [ يوسف : 80 ] .
يعني : التي كان يقصدها؛ لطلب الميرة .
فإن قيل : قال الله تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ } [ محمد : 13 ] . يعني : « مكَّة » ؟! .
فالجواب : أنَّهم همُّوا بإخراجه ، وهو - صلوات الله وسلامه عليه - ما خرج بسبب إخراجهم ، وإنَّما خرج بأمر الله تعالى؛ فزال التَّناقضُ ، والاستفزازُ : هو الإزعاج بسرعة .
{ وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ } : قرأ العامة برفع الفعل بعد « إذَنْ » ثابت النون ، وهي مرسومةٌ في مصاحف العامة ، ورفعه وعدم إعمال « إذن » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها توسَّطت بين المعطوف ، والمعطوف عليه ، قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : ما وجهُ القراءتين؟ قلت : أمَّا الشائعة - يعني برفع الفعل - فقد عطف فيها الفعل على الفعل ، وهو مرفوع لوقوعه خبر » كاد « وخبر » كاد « واقعٌ موقع الاسم » قلت : فيكون « لا يَلْبَثُونَ » عطفاً على قوله « ليَيْتَفِزُّونكَ » .
الثاني : أنها متوسطة بين قسم محذوف وجوابه ، فألغيت لذلك ، والتقدير : وواللهِ ، إذن لا يلبثون .
الثالث : أنها متوسطة بين مبتدأ محذوف وخبره ، فألغيت لذلك ، والتقدير : وهم إذن لا يلبثون .
وقرأ أبيٌّ بحذف النون ، فنصبه ب « إذَنْ » عند الجمهور ، وب « أنْ » مضمرة بعدها عند غيرهم ، وفي مصحف عبد الله « لا يَلبَثُوا » بحذفها ، ووجه النصب : أنه لم يجعل الفعلُ معطوفاً على ما تقدَّم ، ولا جواباً ، ولا خبراً ، قال الزمخشريُّ : وأمَّا قراءة أبيِّ ، ففيها الجملة برأسها التي هي : إذن لا يلبثوا ، عطجف على جملة قوله « وإنْ كادُوا ليَسْتفزُّونكَ » .
وقرأ عطاء « لا يُلبَّثُونَ » بضمِّ الياء ، وفتح اللام والباء ، مشددة مبنيًّا للمفعول ، من « لبَّثَهُ » بالتشديد ، وقرأها يعقوب كذلك ، إلا أنه كسر الباء ، جعله مبنياً للفاعل .
قوله تعالى : « خِلافَكَ » قرأ الأخوان ، وابن عامرٍ ، وخفص : « خِلافكَ » بكسر الخاء ، وألف بعد اللام ، والباقون بفتح الخاءِ ، وسكون اللام ، والقراءتان بمعنى واحدٍ .
قال الأخفش : خلافك : بمعنى : خلفك .
وروى ذلك يونس عن عيسى ، وهذا كقوله : { بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله } [ التوبة : 81 ] .
وأنشدوا في ذلك : [ الكامل ]
3447- عَفتِ الدِّيارُ خِلافَهُم فكأنَّما ... بَسطَ الشَّواطِبُ بَينهُنَّ حَصِيرا
والمعنى : بعد خروجك ، وكثر إضافة « قَبْل » و « بَعْدُ » ونحوهما إلى أسماء الأعيان؛ على حذف مضاف ، فيقدَّرُ من قولك : جاء زيدٌ قبل عمرو ، أي : قبل مجيئه .
قوله تعالى : { إِلاَّ قَلِيلاً } يجوز أن تكون صفة لمصدر ، أو لزمانٍ محذوف ، أي : إلا لبثاً قليلاً ، أو إلاَّ زماناً قليلاً؛ أي : حتَّى يهلكوا ، فالمراد بالقليل : إمَّا مدَّة حياتهم ، وإما ما بين خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إلى حين قتلهم ببدرٍ .
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
قوله تعالى : { سُنَّةَ } : فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن ينتصب على المصدر المؤكِّد ، أي : سنَّ الله ذلك سنة ، أو سننَّا ذلك سُنَّة .
الثاني : - قاله الفراء - رحمه الله - أنه على إسقاط الخافض ، أي : كسُنَّةِ الله تعالى ، وعلى هذا لا يوقف على قوله « إلاَّ قليلاً » .
الثالث : أن ينتصبَ على المفعول به ، أي : اتَّبعْ سُنَّة .
فصل في سنة الله في رسله
سنة الله في الرُّسل ، إذا كذَّبتهم الأممُ : ألا يعذِّبهم ، ما دام نبيُّهم بين أظهرهم ، فإذا خرج نبيهم من بين أظهرهم ، عذَّبهم { وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } أي : إَّ ما أجرى الله به العادة ، لم يتهيَّأ لأحدٍ أن يقلب تلك العادة؛ لأنَّ اختصاص كلِّ حادثٍ بوقته المعيَّن ، وصفته المعينة ليس أمراً ثابتاً له لذاته ، وإلا لزم أن يدوم أبداً على تلك الحالة ، وألاَّ يتميَّز الشيء عمَّا يماثلهُ في تلك الصِّفات ، بل إنَّما يحصل ذلك التخصيص بتخصيص المخصِّص ، وهو الله تعالى يريد تحصيله في ذلك الوقتِ ، ثم تتعلق قدرته بتحصيله في ذلك الوقت ، فنقول : هذه الصفات الثلاث المؤثرة في حصول ذلك الاختصاص ، إن كانت حادثة ، افتقر حدوثها إلى مخصِّصٍ آخر ، وتسلسل؛ وهو محالٌ ، وإن كانت قديمة ، فالقديم يمتنع تغيُّره؛ لأنَّ ما ثبت قدمه ، امتنع عدمه ، ولمَّا كان التغيُّر على تلك الصِّفات المؤثِّرة في ذلك الاختصاص ممتنعاً ، كان التغيُّر في تلك الأشياء المقدرة ممتنعاً ، فثبت بهذا البرهان صحَّة قوله تعالى : { وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } .
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
في النظم وجوهٌ :
أولها : أنه تعالى لمَّا قرَّر الإلهيَّات والمعاد ، والنبوة ، أردفها بذكر الآية بالطَّاعات ، وأشرفُ الطَّاعات بعد الإيمان الصلاة ، فلهذا أمر بها .
وثانيها : أنه تعالى ، لمَّا قال : { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض } [ الإسراء : 76 ] .
أمره تعالى بالإقبال على عبادته؛ لكي ينصره الله ، فكأنَّه قيل : لا تبالِ بسعيهم في إخراجك من بلدك ، ولا تلتفت إليهم ، واشتغل بعبادة الله ، والدوام على الصلاة؛ فإنه تعالى يدفع مكرهم وشرَّهم عنك ، ويجعل يدك فوق أيديهم ، ودينك عالياً على أديانهم .
نظيره قوله تعالى : { فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار لَعَلَّكَ ترضى } [ طه : 130 ] .
وقال تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين } [ الحجر : 97-99 ] .
وثالثها : أنَّ اليهود ، لمَّا قالوا له : اذهب إلى الشَّام ، فإنه مسكن الأنبياء ، وعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذَّهاب إليه ، فكأنَّه قيل له : المعبودُ واحدٌ في كلِّ البلاد ، وما النصر والقوَّة والدولة إلا بتأييده ونصرته ، فدوام على الصَّلوات ، وارجع إلى مقرِّك ومسكنك ، فقل : { رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } [ الإسراء : 80 ] في تقرير دينك ، وإظهار شريعتك .
قوله تعالى : { لِدُلُوكِ } : في هذه اللام وجهان :
أحدهما : أنها بمعنى « بَعْدَ » أي : بعد دلوكِ الشمسِ ، ومثله قولُ متمِّم بن نويرة : [ الطويل ]
3448- فَلمَّا تَفرَّقْنَا كأنِّي ومَالِكاً ... لطُولِ اجتِماعٍ لمْ نَبِتْ لَيْلةً مَعَا
ومثله قولهم : « كَتبْتُه لثلاثٍ خَلوْنَ » .
والثاني : أنها على بابها ، أي : لأجل دلوك ، قال الواحديُّ : « لأنَّها إنَّما تجبُ بزوالِ الشَّمسِ » .
والدُّلُوك : مصدر دلكتِ الشمس ، وفيه ثلاثة أقوالٍ :
أشهرها : أنه الزَّوالُ ، وهو نصفُ النَّهار . وهو قول ابن عباس - رضي الله عنه - وابن عمر ، وجابر ، وعطاء ، وقتادة ، ومجاهدٍ ، والحسنِ ، وأكثر التَّابعين - رضي الله عنهم- .
روى الواحديُّ في « البسيط » عن جابر - رضي الله عنه - قال : طَعِمَ عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم خرجوا حين زالتِ الشمس؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « هذا حين دلكت الشَّمسُ » .
ورُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أتَانِي جِبْريلُ صلوات الله عليه لدُلوكِ الشَّمسِ ، حينَ زَالتِ الشَّمْسُ؛ فصّلَّى بِي الظُّهْرَ » .
وقال أهل اللغة : الدُّلوكُ في كلام العرب : الزَّوال ، ولذلك قيل للشمس ، إذا زالت نصف النهار : دالكة ، وقيل لها ، إذا أفلت : دالكة؛ لأنها في الحالتين زائلة ، قاله الأزهريُّ .
وقال القفال : أصلُ الدُّلُوك : الميل؛ يقال : مالتِ الشمس للزَّوال ، ويقال : مالت للغُروب .
وإذا ثبت ذلك ، وجب أن يكون المراد من الدلوك ها هنا الزَّوال عن كبد السماء ، لأنَّه تعالى علَّق إقامة الصلاة بالدُّلوك ، والدُّلوك عبارة عن الميل والزَّوال؛ فوجب أن يقال : إنه أوَّل ما حصل الميل والزَّوال ، تعلق به هذا الحكم .
وقال الأزهريُّ : الأولى حمل الدلوك على الزوال في نصف النَّهار؛ لأنَّا إذا حملناه عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلِّها؛ فدلوك الشمس يتناول صلاة الظُّهر والعصر إلى غسق الليل ، ثم قال : « وقُرْآن الفَجْرِ » وعلى هذا التقدير : يتناول المغرب والعشاء ، وقرآن الفجر صلاة الفجر إذا حملناه على الغروب لم يدخل فيه إلا ثلاث صلوات ، وهي المغرب والعشاء والفجر ، وحمل كلام الله - تعالى - على ما يكون أكثر فائدة أولى ، وأيضاً ، فالقائلون به أكثر .
القول الثاني : أنَّ الدُّلُوك : هو الغروب ، وهو قول ابن مسعود ، وبه قال إبراهيم النخعيُّ ، ومقاتل بن حيَّان ، والضحاك والسديُّ ، وهو اختيار الفراء واحتج له بقول الشاعر : [ الرجز ]
3449- هَذا مُقامُ قَدمَيْ رَباحِ ... ذبَّبَ حتَّى دَلكَتْ بِرَاحِ
أي : غربت براحِ ، وهي الشمسُ ، وأنشد ابن قتيبة على ذلك قول ذي الرمَّة : [ الطويل ]
3450- مَصابِيحُ ليسَتْ باللَّواتِي تقُودهَا ... نُجومٌ ولا بالآفلاتِ الدَّوالكِ
أي : الغاربات .
وهذا استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الدُّلوك عبارة عن الميل والتغيُّر ، وهو حاصل في الغروب ، فكان الغروب نوعاً من أنواع الدُّلوك ، فكان وقوعُ لفظ الدُّلوك على الغروب لا ينافي وقوعه على الزَّوال ، كما أنَّ وقوع لفظ الحيوان على الإنسان لا ينافي وقوعه على الفرس .
القول الثالث : أنه من الزَّوال إلى الغروب ، قال الزمخشريُّ : « واشتقاقه من الدَّلكِ » لأنَّ الإنسانَ يدلكُ عينه عند النَّظر إليها « وهذا يفهم أنه ليس بمصدرٍ؛ لأنه جعله مشتقًّا من المصدرِ؛ واستدلُّوا بهذا على أنَّ الدُّلُوك هو الغروب ، قالوا : وهذا إنما يصحُّ في الوقت الذي يمكن النَّظر إليها ، أما عند كونها في وسط السَّماء ، ففي ذلك الوقت لا يمكن النَّظر إليها ، فثبت أن الدلوك هو الغروب .
والجواب : أنَّ الحاجة إلى ذلك التبيين عند كونها في وسط السَّماءِ أتمُّ ، فالذي ذكرتم يدلُّ على أنَّ الدُّلوك عبارةٌ عن الزَّوال من وسط السَّماء؛ بطريق الأولى .
وقال الراغب : » دُلوكُ الشمسِ : ميلها للغروب ، وهو من قولهم : دَلكْتُ الشَّمسَ : دفعتها بالرَّاح ، ومنه : دَلكتُ الشيء في الرَّاحةِ ، ودلكتُ الرَّجلَ : ماطلته ، والدَّلوكُ : ما دلكته من طيبٍ ، والدَّليكُ : طعامٌ يتَّخذُ من زبدٍ وتمرٍ « .
قوله : { إلى غَسَقِ الليل } في هذا الجارُ وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ ب » أقِمْ « فهي لانتهاءِ غاية الإقامة ، وكذلك اللام في » لِدُلوكِ « متعلقة به أيضاً .
والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من » الصَّلاة « أي : أقمها ممدودة إلى غسق الليل ، قاله أبو البقاء ، وفيه نظر : من حيث إنه قدَّر المتعلق كوناً مقيداً ، إلا أن يريد تفسير المعنى ، لا الإعراب .
والغسقُ : دخول أوَّل الليل ، قاله ابن شميلٍ ، وأنشد : [ الرجز ]
3451- إنَّ هذا اللَّيلَ قد غَسقَا ... واشْتكيتُ الهَمَّ والأرقَا
وقيل : هو سواد الليل ، وظلمتهُ ، وأصله من السَّيلان : غسقتِ العينُ ، أي : سال دمعُها ، فكأنَّ الظُّلمَة تنصبُّ على العالم ، وتسيلُ عليهم؛ قال : [ البسيط ]
34352- ظَلَّتْ تَجودُ يَداهَا وهي لاهِيَةٌ ... حتَّى إذَا هَجَمَ الإظلامُ والغَسقُ
ويقال : غَسقتِ العينُ : امتلأتْ دمعاً ، وغسق الجرحُ : امتلأ دماً؛ فكأنَّ الظُّلمةَ ملأتِ الوجود .
وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : الغَسقُ : بُدُوُّ اللُّيْل
وقال قتادة : وقتُ صلاة المغرب .
وقال مجاهدٌ : غروب الشَّمس .
والغاسقُ في قوله : { وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } [ الفلق : 3 ] قيل : المراد به : القمر ، إذا كسف ، واسودَّ .
قال - صلوات الله وسلامه عليه - لعائشة - رضي الله عنها - حين رأتْ كسوف القمر : « اسْتعِيذِي مِنْ شرِّ الغَاسقِ إذَا وَقبَ » .
وقيل : اللَّيل ، والغساقُ ، بالتخفيف ، والتشديد : ما يسيلُ من صديد أهل النار ، ويقال : غَسقَ اللَّيلُ ، وأغسقَ ، وظَلمَ ، وأظْلمَ ، ودَجَى ، وغَبشَ ، وأغْبشَ ، نقله الفراءُ .
فصل في معنى الغسق
قال الأزهريُّ : غسق الليل عندي : غيبوبة الشفق عند تراكم الظلمة ، واشتدادها ، يقال : غسقتِ العين ، إذا امتلأت دمعاً ، وغسقت الجراحة : إذا امتلأت دماً .
قال : لأنَّا إذا حملنا الشَّفق على هذا المعنى ، دخلت الصَّلوات الأربعة فيه ، وهي الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، ولو حملنا الغسق على ظهور أوَّل الظُّلمة ، لم يدخل فيه الظهر والعصر؛ فوجب أن يكون الأولى أولى .
واعلم أنَّه يتفرَّع على هذين الوجهين بحثٌ حسنٌ؛ فإن فسَّرنا الغسق بظهور أوَّل الظلمة ، كان الغسق عبارة عن أوَّل المغرب ، وعلى هذا : يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقاتٍ : وقت الزَّوال ، ووقت أوَّل المغرب ، ووقت الفجر ، وهذا يقتضي أن يكون الزوال : وقتاً للظُّهر والعصر ، فيكون هذا الوقت مشتركاً بين هاتين الصلاتين ، وأن يكون أوَّل وقت المغرب وقتاً للمغرب والعشاء ، فيكن هذا الوقت مشتركاً أيضاً بين هاتين الصلاتين ، فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء مطلقاً ، إلا أنَّه دلَّ الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذرٍ لا يجوز؛ فوجب أن يكون الجمع جائزاً مع العذر .
وإذا فسَّرنا الغسق بالتراكم ، فنقول : الظلمة المتراكمة ، إنَّما تحصل عند غيبوبة الشَّفق الأبيض ، وكلمة « إلى » لانتهاءِ الغاية ، والحكم الممدود إلى غاية يكون مشروعاً قبل حصول تلك الغاية؛ فوجب إقامةُ الصلوات كلِّها قبل غيبوبة الشَّفق الأبيض ، وهذا إنَّما يصحُّ إذا قلنا : إنَّها تجبُ عند غيبوبة الشَّفق الأحمر .
قوله تعالى : { وَقُرْآنَ الفجر } فيه أوجه :
أحدها : أنه عطف على « الصَّلاة » أي : وأقم قرآن الفجرِ ، والمراد به صلاة الصبح ، عبَّر عنها ببعض أركانهاز
والثاني : أنه منصوبٌ على الإغراء ، أي : وعليك قرآن الفجرِ ، كذا قدَّره الأخفش وتبعه أبو البقاء ، وأصول البصريِّين تأبى هذا؛ لأن أسماء الأفعال لا تعمل مضمرة .
الثالث : انه منصوب بإضمار فعلٍ ، أي : كثِّر قرآن ، أو الزم قرآن الفجرِ .
فصل في دلالة الآية
دلَّت هذه الآية على أمور :
منها : أنَّ الصلاة لا تكون إلا بقراءة؛ لقوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة } .
ومنها : أنه تعالى أضاف القرآن إلى الفجر ، و التقدير : وأقم الفجرِ .
ومنها : أنه علَّق القراءة بحصول الفجر ، وفي أوَّل طلوعه ، إلاَّ أنَّ الإجماع على أنَّ هذا الوجور غير حاصل؛ فوجب أن يبقى على النَّدب؛ لأنَّ الوجوب عبارةٌ عن رجحانٍ مانعٍ من التَّرك ، فإذا منع مانع من تحقُّق الوجوب ، وجب أن يرتفع المنع من التَّرك ، وأن يبقى أصل الرُّجحان؛ حتَّى تنقل مخالفة الدليل؛ فثبت أنَّ هذه الآية تقتضي أنَّ إقامة الفجر في أوَّل الوقت أفضل؛ وهذا يدلُّ على أن التغليس أفضل من التَّنوير .
ومنها أن القراءة تكون في هذه الصلاة أطول من القراءة في سائر الصلوات؛ لأنَّ المقصود من قوله تعالى : { وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً } الحثُّ على طول القراءة في هذه الصلاة؛ لأن التخصيص بالذِّكر يدلُّ على أنه أكملُ من غيره .
ومنها : قوله تعالى : { إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً } .
ومعناه : أنَّ ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصُّبح خلف الإمام ، تنزلُ ملائكة النَّهارعليهم ، وهم في الصَّلاة؛ قبل أن تعرج ملائكة اللَّيل ، وإذا فرغ الإمام من الصلاة ، عرجت ملائكة الليل ، ومكثت ملائكة النَّهار ، ثمَّ إن ملائكة الليل إذا صعدت ، قالت : يا ربِّ ، إنَّا تركنا عبادك يصلُّون لك ، وتقول ملائكة النَّهارِ : ربَّنا ، أتينا عبادك يصلُّون لك ، فيقول الله تعالى لملائكته : اشهدوا أنِّي قد غفرت لهم .
وهذا يدل على أنَّ التغليس أفضل من التنوير ، لأنَّ الإنسان ، إذا شرع فيها من [ أوَّل ] الصُّبح ، ففي ذلك الوقت : الظلمة باقية ، فتكون ملائكة الليل حاضرين ، ثمَّ إذا امتدَّت الصلاة بسبب ترتيل القراءة ، وتكثيرها ، زالت الظلمة ، وظهر الضوء ، وحضرت ملائكةُ النهار ، وأمَّا إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت التَّنوير ، فهناك لم يبق أحدٌ من ملائكة الليل؛ فلا يحصل المعنى المذكور ، فقوله جلَّ ذكره : { كَانَ مَشْهُوداً } . يدلُّ على أنَّ التغليس أفضلُ .
قوله تعالى : { وَمِنَ الليل } : في « مِنْ » هذه وجهان :
أحدهما : أنها متعلقة ب « تَهجَّد » أي : تهجَّد بالقرآن بعض الليل .
والثاني : أنها متعلقة بمحذوفٍ ، تقديره : وقم قومة من الليل ، أو : واسهر من الليل ، ذكرهما الحوفيُّ ، وقال الزمخشريُّ : « وعليك بعض الليل ، فتهجَّد به » فإن كان أراد تفسير المعنى ، فقريبٌ ، وإن أراد تفسير الإعراب ، فلا يصحُّ؛ لأنَّ المغرى به لا يكون حرفاً ، وعله « مِنْ » بمعنى « بعضٍ » لا يقتضي اسميَّتها؛ بدليل أنَّ واو « مََ » ليست اسماً بإجماع ، وإن كانت بمعنى اسمٍ صريحٍ وهو « مَعَ » .
والضمير في « به » :
الظاهر : عوده على القرآن؛ من حيث هو ، لا بقيد إضافته إلى الفجر .
والثاني : أنها تعود على الوقت المقدر ، أي : وقُم وقتاً من الليل ، فتهجَّد بذلك الوقت ، فتكونُ الباء بمعنى « في » .
قوله « نَافِلةً » فيها أوجه :
أحدها : أنها مصدرٌ ، أي : تنفَّل نافلة لك على الصَّلوات المفروضة .
والثاني : أنها منصوبة ب « تهجَّد » لأنه في معنى « تنفَّل » فكأنه قيل : تنفَّل نافلة ، والنَّافلةُ ، مصدر؛ كالعاقبة ، والعافية .
الثالث : أنها منصوبة على الحال ، أي : صلاة نافلةٍ ، قاله أبو البقاء ، وتكون حالاً من الهاء في « به » إذا جعلتها عائدة على القرآن ، لا على وقتٍ مقدر .
الرابع : أنها منصوبة على المفعول بها ، وهو ظاهر قولِ الحوفيِّ ، فإنه قال : « ويجوز أن ينتصب » نَافلةً « بتهجَّد ، إذا ذهبت بذلك إلى معنى : صلِّ به نافلة ، أي : صلِّ نافلة لك » .
والتهَجُّدُ : ترك الهجود ، وهو النُّومُ ، « وتفَعَّل » يأتي للسَّلب ، نحو : تحرَّج ، وتأثَّم ، وفي الحديث : « كَان يتحَنَّثُ بغارِ حراءٍ » وفي الهجود خلافٌ بين أهل اللغة ، فقيل : هو النَّومُ؛ قال : [ الطويل ]
3453- وبَرْك هُجودٍ قد أثَارتْ مَخافتِي .. . .
وقال الآخر : [ الطويل ]
3454- ألا طَرقَتْنَا والرِّفاقُ هُجودُ ..
وقال آخر : [ الوافر ]
3455- ألا زَارتْ وأهْلُ منًى هجودُ ... وليْتَ خَيالهَا بِمِنًى يَعودُ
فَهجودٌ : نيامٌ ، جمع « هاجدٍ » كساجد ، وسجُودٍ ، وقيل : الهجود : مشتركٌ بين النَّائم والمصلِّي ، قال ابن الأعرابي : « تهجَّد : صلَّى من الليل ، وتهجد : نام » وهو قول أبي عبيدة والليث - رحمهما الله تعالى- .
قال الواحديُّ : الهُجودُ في اللغة : النومُ ، وهو كثيرٌ في الشِّعر .
يقال : أهجدتُّه وهجدتُّه ، أي : أنَمْتهُ ومنه قول لبيد [ الرمل ]
3456- قَالَ : هَجِّدْنَا فَقدْ طَالَ السُّرَى .. . . .
كأنه قال : نوِّمنا؛ فقد طال السُّرى؛ حتى غلب علينا النَّوم ، وقال الأزهري : المعروف في كلام العرب : أنَّ الهاجد هو النَّائم ، ثم رأينا في الشَّرع أنَّ من قام إلى الصَّلاة من النَّوم يسمَّى هاجداً أي متهجِّداً؛ فيحمل هذا على أنَّه سمِّي متهجّداً؛ لإلقائه الهُجُود عن نفسه؛ كما ياقل للعابد : « مُتحَنِّثٌ » ؛ لإلقائه الحنث عن نفسه ، وروي أن الحجَّاج بن عمرو المازنيَّ قال : أيَحسبُ أحدكم ، إذا قام من اللَّيلِ ، فصلَّى حتَّى يصبح أنَّه قد تهجَّد ، إنَّما التهجُّد الصلاة بعد الرقاد ، ثم صلاة أخرى بعد رقدة ، ثم صلاة أخرى بعد رقدة ، هكذا كتنت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً عليه .
والنافلةُ في اللغة : الزيادة على الأصل ، وقد تقدَّم في الأنفال ، وفي تفسير كونها زيادة ها هنا قولان مبنيَّان على أنَّ صلاة الليل ، هل كانت واجبة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم أم لا؟ .
فقيل : إنَّها واجبة عليه؛ لقوله سبحانه وتعالى : { ياأيها المزمل قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً } [ المزمل : 1 ، 2 ] ثم نسخت ، فصارت نافلة ، أي : تطوُّعاً وزيادة على الفرائض .
وذكر مجاهد والسدي في تفسير كونها نافلة وجهاً حسناً ، قالا : إنَّ الله قد غفر للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ما تقدَّم من ذنبه ، وما تأخَّر ، فكلُّ طاعةٍ يأتي بها صلى الله عليه وسلم سوى المكتوبةِ لا تؤثر في كفَّارة الذنب ، بل تؤثر في زيادة الدَّرجاتِ ، وكثرة الثَّواب؛ فكان المقصود من تلك العبادة زيادة الثواب ، فلهذا سمِّي نافلة؛ بخلاف الأمة؛ فإنَّ لهم ذنوباً محتاجة إلى التكفير ، فهذه الطاعة يحتاجون إليها؛ لتكفير السَّيئات عنهم؛ فثبت أنَّ هذه الطاعات إنَّما تكون زوائد ونوافل في حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم لا في حقِّ غيره ، فلهذا قال : « نَافلةً لكَ » ، فهذا معنى يخصِّصهُ .
وأمَّا من قال : إنَّ صلاة الليل كانت واجبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : معنى كونها نافلة له على التخصيص ، يعني : أنَّها فريضةٌ لك ، زائدة على الصَّلوات الخمس ، خصِّصت بها من دون أمَّتك؛ ويدلُّ على هذا القولِ قوله تعالى : { فَتَهَجَّدْ } والأمر للوجوب ، ويرد هنا قوله : { نَافِلَةً لَّكَ ] ، لأنَّه لو كان المراد الوجوب ، لاقل : « نَافِلةً عليك » .
واعلم أنَّ قوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل وَقُرْآنَ الفجر } وإن كان ظاهر الأمر فيه مختصًّا بالرسول - صلوات الله عليه وسلامه - إلا أنَّه في المعنى عامٌّ في حقِّ الأمَّة؛ ويدلُّ عليه قوله تعالى : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } بيَّن أن الأمر بالتهجد يختصُّ بالرسول - صلوات الله وسلامه عليه - والأمر بالصَّلوات الخمس غير مخصوصٍ بالرسول - صلوات عليه - وإلاَّ لم يكن لتقييد المر بالتهجُّد بهذا القيد فائدةٌ .
قوله تعالى : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } في نصب « مقاماً » أربعة أوجه :
أحدها : أنه منصوبٌ على الظرف ، أي : يبعثك في مقام .
الثاني : أن ينتصب بمعنى « يَبْعثكَ » ؛ لأنه في معنى « يُقِيمكَ » ؛ يقال : أقيم من قبره ، وبعث منه ، بمعنًى ، فهو نحو : قعد جلوساً .
الثالث : أنه منصوبٌ على الحال ، أي : يبعثك ذا مقامٍ محمود .
الرابع : أنه مصدر مؤكد ، وناصبه مقدر ، أي : فيقوم مقاماً .
و « عَسَى » على الأوجه الثلاثة دون الرابع يتعيَّن فيها أن تكون التامة؛ فتكون مسندة إلى « أنْ » وما في حيِّزها؛ إذ لو كانت ناقصة على أن يكون « أنْ يَبْعثكَ » خبراً مقدَّماً ، و « ربُّكَ » اسماً مؤخراً؛ لزمَ من ذلك محذورٌ : وهو الفصل بأجنبي بين صلة الموصول ومعمولها ، فإنَّ « مَقاماً » على الأوجه الثلاثة الأول : منصوبٌ ب « يَبْعثكَ » ، وهو صلة ل « أنْ » ، فإذا جعلت « ربُّكَ » اسمها ، كان أجنبيًّا من الصلة ، فلا يفصل به ، وإذا جعلته فاعلاً ، لم يكن أجنبيًّا ، فلا يبالي بالفصل به .
وأمَّا على الوجه الرابع : فيجوز أن تكون التامة والناقصة بالتقديم والتأخير؛ لعدم المحذور؛ لأنَّ « مقاماً » معمولٌ لغير الصلة .
وقوله : « محموداً » في انتصابه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على الحال من قوله : يَبْعثكَ ، أي : يبعثك محموداً .
والثاني : أن يكون نعتاً للمقام .
فصل في معنى « عسى » من الله
اتفق المفسرون على أنَّ كلمة « عسى » من الله واجبٌ .
قال أهل المعاني : لأنه لفظ يفيد الإطماع ، ومن أطمع إنساناً في شيء ، ثم حرمه ، كان عاراً ، والله تعالى أكرم من أن يطمع واحداً في شيء ، ثم لا يعطيه .
وفي تفسير المقام المحمود أربعة أقوالٍ :
الأول : أنه الشَّفاعة .
قال الواحدي : أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية : « هو المقام الذي أشفعُ لأمَّتِي فيه » .
قال ابن الخطيب : واللفظ مشعر به؛ لأنَّ الإنسان إنما يصير محموداً إذا حمده حامدٌ ، والحمد ، إنما يكون على الإنعام ، فهذا المقام المحموج يجب أن يكون مقاماً أنعم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم ، فحمدوه على ذلك الإنعام ، وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون تبليغ الدِّين ، وتعليم الشرائع؛ لأنَّ ذلك كان حاصلاً في الحال ، وقوله : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ } تطميعٌ ، وتطميع الإنسان في الشيء الذي حصل له وعده محالٌ؛ فوجب أن يكون ذلك الإنعام الذي لأجله يصير محموداً إنعاماً يصل منه بعد ذلك إلى النَّاس ، وما ذاك إلاَّ شفاعته عند الله تعالى .
وأيضاً : التنكيرُ في قوله : { مَقَاماً مَّحْمُوداً } يدل على أنه يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقامِ حمدٌ بالغٌ عظيمٌ كاملٌ ، ومن المعلوم أنَّ حمد الإنسان على سعيه في التخليص من العذاب أعظم من حمده في السَّعي في زيادة الثَّواب؛ لأنَّه لا حاجة به إليها؛ لأنَّ حاجة الإنسان في رفع الآلام العظيمة عن النَّفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة به إلى تحصيلها ، وإذا ثبت هذا ، وجب أن يكون المراد من قوله تعالى : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } هو الشَّفاعة في إسقاط العقاب؛ على ما هو مذهب أهل السنة .
ولمَّا ثبت أن لفظ الآية مشعرٌ بهذا المعنى إشعاراً قويًّا ، ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى ، وجب حمل اللفظ عليه ، ومما يؤكِّد ذلك الدعاء المشهور عنه في إجابة المؤذِّن : « وابعثه المقام المحمود الذي وعدته » .
واتَّفق النَّاس على أنَّ المراد منه الشَّفاعة .
والقول الثاني : قال حذيفة : يجمع الناس في صعيدٍ ، فلا تتكلَّم نفسٌ ، فأوَّل من يتكلَّم محمدٌ - صلوات الله وسلامه عليه - فيقول : لَبَّيكَ ، وسَعْديْكَ ، والشَّرُّ ليس إليك ، والمهديُّ من هَديْتَ ، والعَبْدُ بين يَديْكَ ، وبِكَ وإلَيْكَ ، لا مَنْجَى ولا مَلْجَأ مِنْكَ إلاَّ إليكَ ، تَباركتَ ، وتَعاليْتَ ، سُبحانَكَ ربَّ البيتِ « .

قلت المدون التالي هو ج47.وج48.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...