حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

ج65. و66. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 ج65.وج66. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب

ج65.وج66. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

اولا :
ج65. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
قوله تعالى : { قَالَتِ الأعراب آمَنَّا } الآية . لما قالت تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] والاتّقاء لا يكون إلا بعد حصُول التقوى وأصله الإيمان والاتِّقاء من الشِّرك قالت الأعراب يكون لنا النسب الشريف يكون لنا الشرف قال الله تعالى : ليس الإميان بالقول إنما بالقلب ، فما آمنتم فإن الله خبير بعلم ما في « الصدور » ولكن قولوا أسلمنا أي أنْقَدْنَا وأَسْلَمْنَا . قيل : نزلت في نَفَرٍ من بني أسد بن خزيمة ، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَنةٍ مُجَدِبَةٍ ، فأظهروا الإِسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر طالبين الصدقة فأفسدوا طرق المدينة بالقاذورات وكانوا يغتدون وَيُرحُون إلى رسو لالله صلى الله عليه وسلم ويقولون : أَتَتْكَ العرب بأنفسها على ظهور رَوَاحِلهَا ، وجئناك بالأثقال والعِيَال والذَّرارِي ولم نُقاتِلكَ كما قاتَلَكَ بنُو فلان يَمُنُّون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويريدون الصدقة ، ويقولون أَعْطِنَا ، فانزل الله تعالى فيهم هذه الآية . وقال السدي : نزلت في الأعراب الذين الله تعالى في سورة الفتح وهم جُهَيْنَةُ ومُزَيْنَةُ وأَسْلَمُ ، وأشْجَعُ وغِفَار وكانوا يقولون : آمنًّا ليأمَنُوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا فأنزل الله تعالى : { قَالَتِ الأعراب آمَنَّا } صدقنا { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا } أنقَذْنا واسْتَسْلَمْنَا مخالفَة القتل والسَّبْي .
قال ابن الخطيب : وقد بينا أن ذلك كالتاريخ للنزول لا للاختصاص بهم ، فكل من أظهر فعل التقوى أراد أن يصير له ما للمتقي من الإكرام ولا يحصل له ذلك لأن التقوى من عمل القلب .
قوله : « وَلَمَّا يَدْخُلْ » هذه الجملة مستأنفة ، أخبر تعالى بذلك . وجعلها الزمخشري حالاً مستقرّة في : « قَولُوا » وقد تقدم الكلام في « لما » وما تدل عليه ، والفرق بينها وبين « لم » في البقرة عند قوله تعالى : { وَلَمَّا يَأْتِكُم } [ البقرة : 214 ] .
وقال الزمخشري : فإن قلت : هو بعد قوله : « لَمْ تُؤمِنُوا : يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجدِّدة! .
قلت : ليس كذلك ، فإن فائدة قوله : لم تُؤْمِنُوا هو تكذيب دعواهم . وقوله : » وَلَمَّا يَدْخُل « توقيت لِمَا أمروا به أن يقولوه . ثم قال : » ولما في « لمّا » من معنى التوقيع د
لي لعى أن هؤلاء قد آمنوا فيم بعده « ، قال أبو حيان : فلا أدري من أي وجه يكون النفي بِلَمَّا يقع بعد؟! . قال شهاب الدين : لأنَّها لنفي قَدْ فَعل ، وقَدْ للتَّوَقع .
فصل
قال ابن الخطيب : لَمْ ولَمَّا حَرْفَا نفي ، ومَا ، وإنْ ولاَ كذلك من حرفو النفي ولَمْ ولَمَّا يجزمان وغيرهما من حروف النفي لا يجزم فما الفرق بينهما؟ .
فالجواب : أن لم ولما يفعلان بالفعل ما لا يفعل به غيرهما ، فإنهما يَصْرِفَان معناه من الاستقبال إِلى النفي تقول : لَمْ يُؤْمِنْ أَمْسِ ، وآمَنَ اليَوْمَ ، ولا تقول : لاَ يُؤْمِنُ أَمْسِ ، فلما فعلا بالفعل ما لم يفعل به غيرهما جزم بهما .
فإن قيل : مع هذا : لم جزم بهما؟ غاية ما في الباب أن الفرق حصل ولكن ما الدليل على وجوب الجزم بهما؟ نقول : لأن الجزمَ والقَطْع يَحْصل في الأفعال الماضية؛ لأنَّ من قال فقد حصل القطع بقيامه ولا يجوز أن يكون ما قام ، والأفعال المستقبلة إما متوقعة الحصول وإما ممكنة من غير تَوَقُّع ، فلا يمكن الجزم والقطع فيه ، فإذا كان « لَمَّا ولَمْ » يَقْلِبَان اللَّفظَ من الاستقبالِ إلى المُضِيِّ أفاد الجزم والقطع في المعنى فجعل له مناسباً والقطع في المعنى فجعل له مناسباً لمعناه وهو الجزم لفظاً ، وعلى هذا نقول : إذا كان السببُ في الجزم ما ذكرنا فلهذا قيل : الأمر يجزم ، لأن الآمرّ كأنه جزم على المأمور أن يفعله ولا يتركه ، فأتى بلفظ مجزوم تنبيهاً على أنّ الفعل لا بد من إيقاعه و « إنْ » في الشرط ك « لَمْ » لأن « إنْ » تغير معنى الفعل من المُضِيِّ إلى الاستقبال كما أن « لَمْ » تغيِّره من الاستقبال إلى المُضِي تقول : إِنْ أكْرَمْتَنِي أُكْرِمْكَ ، فلما كان « إنْ » مثلُ « لَمْ » في كونه حرفاً ، وفي لزوم الدخول على الأفعال وتغييرها صار جازماً للشبه اللَّفْظيِّ وأما الجزاء فجزم لِمَا ذَكَرْنا مِن المعنى ، فإن الجزاء يجزم لوقوعه عند وجود الشرط فجَزْمُهُ إِذَنْ إمَّا للْمعْنَى ، أو للشبه اللفظي .
فصل
أخبر الله تعالى أنَّ حقيقة الإيمان هو التصديق بالقلب ، وأن الإقرار باللِّسان وإظهار شرائعه بالإيمان لا يكون إيماناً دون التصديق بالقلب والإخلاص و الإسلامُ هو الدخول في السِّلم ، وهو الانقياد والطاعة يقال : أسْلَمَ الرَّجُلُ إذا دخل في الإسلام والسِّلْم ، كما يقال أَشْتَى إذَا دَخَلَ في الشِّتَاء ، وأَصَافَ إذَا دخَلَ في الصَّيْفِ ، وأرْبَعَ إذا دخل في الرَّبِيع ، فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان والجنان كقوله عز وجلّ لإبراهيم : { أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين } [ البقرة : 131 ] ومنها : ما هو انقياد باللِّسان دون القلب وذلك قوله : { ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ } .
قال ابن الخطيب : المؤمن والمسلم واحد عن أهل السنة فيكون الفرق بين العام والخاص أن الإيمان لا يحصل إلا بالقلب والانقياد قد يحصل بالقلب وقد يحصل باللسان والإسلام أعم لكن العام في صورة الخاص متَّحد مع الخاص ولا يكون أمراً آخر غيره .
مثلاه : الحَيَوَان أَعَمُّ من الإنسان ، لكن الحيوان في صورة الإنسان ( ليس ) أمراً ينفكُّ عن الإنسان ويجوز أن يكون ذلك الحيوانُ حيواناً ولا يكون إنساناً ، فالعام والخاص مختلفان في العموم متحدان في الوجود وكذلك المؤمن والمسلم .
وسيأتي بقية الكلام عن ذلك في الذَّاريات عند قوله : { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين } [ الذاريات : 35 و36 ] إن شاء الله تعالى .
قال ابن الخطيب : وفي الآية إشارة إلى بيان حال المؤلَّفة إذا أسلموا ويكون إيمانهم ( ( بعد ) ضعيفاً ) قال لهم : لَمْ تؤمنوا لأن الإيمان أيقانٌ وذلك بعد لم يدخل في قلوبكم وسيدخل باطّلاعكم على محاسن الإسلام .
قوله : { وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } أي ظاهراً وباطناً سراً وعلانية . قال ابن عباس : تُخْلِصُوا الإيمان .
قوله : « لاَ يَلتكُمْ » قرأ أبو عمرو : « لا يألتكم » بالهمز من أَلَتَهُ يَأْلِتُهُ بالفتح في الماض والكسر والضم في المضارع لقوله : { وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } [ الطور : 21 ] والسُّوسِيّ يبدل الهمزة ألفاً على أصله .
والباقون : : يُلِتْكُمْ « من لاَتَهُ يليتُه كَباعَهُ يَبِيعُهُ . وهما لغتان معناهما لا يَنْقُصُكُمْ ، فالأولى لغة غَطَفَان وأسدٍ والثانية لغة الحِجَاز ، يقال : أَلتَ يأْلُتُ أَلْتاً ، ولاَتَ يِليتُ لَيْتاً ، وقيل : هي من وَلَتَهُ يَلِتُهُ كوَعَدَهُ يَعِدُهُ ، فالمحذوف على القول الأولى عينٌ الكلمة ووزنها : يَفِلْكُمْ وعلى الثاني فاؤها ، ووزنها يَعِلْكُمْ ويقال أيضاً ألاَتَهُ ليتُه كأَبَاعَهُ يُبِيعُهُ وآلَتَهُ يُؤْلِتُهُ كآمن يُؤْمِنُ . وكلّها لغات في معنى نَقَصَهُ حَقَّهُ ، قال الحطيئة :
4504
أَبْلِغْ سَرَاة بَنِي سَعْدٍ مُغَلْغَلَةً ... جَهْدَ الرِّسَالَةِ لاَ أَلْتاً ولاَ كَذِبَا
وقال رؤبة :
4505
ولَيْلَةٍ ذَاتِ نَدًى سَرَيْتُ ... وَلَمْ يَلِتْنِي عَنْ سُرَاهَا لَيْتُ
أي لم يمنعني ويَحْبِسْنِي .
فصل
قال ابن الخطيب : معنى قوله : ( » لاَ يَلِتْكُمْ « ) لا يَنْقُصُكُم ، المراد منه أنكم إذا أتيتم بما يليق بضعِّفكُم من الحسنة فهو يؤتيتكم به من الجزاء؛ لأن من حمل إلى ملك فاكهة طيبةً يكون ثمنها في السوق درهماً فأعطاه الملك درهماً انتسب الملك إلى البخل ، وإما معناه ألاّ يُعْطِي مثل ذلك من غير نقص أي يعطي ما تتوقعون بأعمالكم من غير نقص .
ثم قال : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي يغفر لكم ما قدم سلق ويرحمكم بما أتيتم به .
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
قوله تعالى : { إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } هذاإرشاد للذين قالوا آمنّا؛ بين لهم حقيقة الإيمان فقال : إنْ كُنتمْ تريدون الإيمان فالمؤمن من آمن بالله ورسوله { ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ } أي لم يشكوا في دينهم وأيقنوا بأن الإيمان إيقانٌ . و « ثُمَّ » للتراخي في الحكاية كأنه يقول : آمنوا ثم أقول شيئاً آخر لم يرتابوا .
ويحتمل أن تكون للتراخي في الفعل ، أي آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا فيما قال النبي صلى الله عليه وسلم من الحشر والنَّشْر { وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله } أي ايقنوا أن بعده هذه الدار دارٌ أخرى فجاهدوا طالبين العُقْبَى { أولئك هُمُ الصادقون } في إيمانهم .
فإن قيلأ : كيف يجوز أن يكذبوا في الإسلام ، والإسلام هو الانقياد وقد وجد منهم قولاً وفعلاً ، وإن لم يوجد اعتقاداً أو علماً ، وذلك القدر كاف في صدقهم في قولهم : إِنَّا أَسْلَمْنَا؟! .
فالجواب : إن التكذيبَ يقع الى وجهين :
أحدهما : إن لا يوجد نفس المخبر عنه .
والثاني : إن لا يوجد كما أخبر في نفسك ، فقد يقول له : ما جئتنا بلْ جئتَ للحاجة ، فالله تعالى كذبهم في قولهخم : آمنّا على الوجه الأوَّل أي ما آمنتم أصلاً ، ولم يصدقهم في الإسلام على الوجه الثاني فإنهنم انقادوا للحاجة وأخذ الصدقة .
فصل
لما نزلت هاتان الآيتان أتت الأعراب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَحْلِفُون بالله أنهم مؤمنون صادقون وعرف الله غير ذلك منهم فنزل الله : { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ } ، والتعليم ههنا بمعنى الإعْلام فلذلك قال : بِدِينكم ، أدخل الباء فيه؛ لأنه منقول بالتضعيف من علمت به بمعنى شعرت به فلذلك تعدت لواحد بنفسها ، ولآخر بالباء .
والمعنى لا تعرفوا الله بدينكم فإنه عالم به لا يخفى عليه شيء ، لأنه يعلم ما في السموات وما في الأرض ، { والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } لا يحتاج إلى إخباركم .
قوله ( تعالى ) : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ } يجوزم في قوله : أَنْ أَسْلَمُوا وجهان :
أحدهما : أنه مفعول به لأنّه ضمن يمنون معنى يُعِيدُونَ كأنه قيل : يعيدون عليك إسلامهم مانِّين به عليك ولهذا صرح بالمفعول به في قوله : { قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ } أي لا تُعيدوا عليَّ إسلامكم . كذا استدل أبو حَيَّان .
وفيه نظر ، إذ لقائل أن يقول : لا نسلم انتصاب « إِسْلاَمَكُمْ » على المفعول به ، بل يجوز فيه المفعول من أجله كما يجوز في محل « أَنْ أَسْلَمُوا » وهو الوجه الثاني فيه أي يمنون عليك لأجل أن أَسْلَمُوا فكذلك في قوله : { لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ } ، وشروط النصب موجودة والمفعول له متى كان مضافاً اسْتَوَى جرّه بالحرف ونصبه .
قوله : { بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ } يعني لا مِنَّةَ لَكُمْ عَلَيْنَا أَصْلاً ، بل المنة عليكم حيث بينْتُ لكم الطرق المستقيم .
قوله : { أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ } أعرابه كقوله : « أن أَسْلَمُوا » . وقرأ زيد بن علي : إِذْ هَدَاكُمْ بِإِذْ مَكَانَ « أنْ » وهي في مصحف عبد الله كذلك . وهي تفيد التعليل ، وجواب الشرط مقدر أي فَهُوَ المَانُّ عليكم لا أَنتم عَلَيْه وعَلَيَّ .
فإن قيل : كيف مَنَّ عليهم بالهداية إلى الإيمان مع أنه تبين أنهم لم يؤمنوا؟ .
فالجواب من ثلاث أوجه :
أحدها : أنه تعالى لم يقل : بل الله يمن عليكم أن رزقكم الإيمانَ بلْ قال : أنْ هَدَاكُمْ للإِيمان .
وثانيها : أنَّ إرسال الرسول بالآيات البينات هدايةٌ .
ثالثها : أنه تعالى يمنُّ عليهم بما زعموا فكأنه قال : أنتم قلتم آمنا فذلك نعمة في حقكم حيث تخلصتم من النار فقال : هداكم في زعمكم ، و لهذا قال تعالى : { إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
ثم قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ . . . } الآية؛ وهذا تقرير لأول السورة حيث قال : « إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَليمٌ » ، فأخبر ههنا عن علمه وبصره .
قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } قرأ ابن كثير بالغيبة ، نظراً لوقله : يَمُنُّونَ وما بعده ، والباقون بالخطاب ، نظراً إلى قوله : لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلاَمَكُمْ إلى آخره ، وفي هذه الآية إشارة أنه يُبْصرُ أعمال جوارحكم الظاهرة والباطنة ، لا يخفى عليه شيءٌ .
قال عليه الصلاة والسلام : « مَنْ قَرَأَ سُورَة الحُجُرَاتِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْر عَشْرَ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ أَطَاعَ اللهَ وَعَصَاهُ » ( انتهى ) .
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
قوله تعالى : { ق } قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) - هو قَسَمٌ . وقيل : اسم السورة . وقيل اسم من أسماء القرآن . وقال القرطبي : هو مفتاح اسمه قدير ، وقادر ، وقاهر وقريب وقابض . وقال عكرمة والضحاك : هو جبل محيط بالأرض من زُمُرَّدَةٍ خَضْراءَ ومنه : خُضْرَةُ السماء . والسماء مَقْبِيَّةٌ عليه ، وعليه كتفاها ويقال : هو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنةٍ . وقيل : معناه قضِي الأمر وقضي ما هو كائن ، كما قالوا في حم ( حم الأمر ) ، وفي ص : صدق الله ، وقيل هو اسم فاعل من قَفَا يَقْفُوهُ .
فصل
قال ابن الخطيب ، لما حكى القول بأن « ق » اسم جبل محيط بالأرض عليه أطواق السماء قال : وهذا ضعيف لوجوه :
أحدها : أن أكثر القراء يقف عليها ، ولو كان اسم جبل لما جاز الوقف في الإدراج لأنَّ من قال ذلك قال بأن الله تعالى أقسم به .
وثانيها : لو كان كذلك لذكر بحرف القسم كقوله تعالى : { والطور } [ الطور : 1 ] ، ونحوه؛ لأن حرف القسم يحذف حيث يكون المقسم به مستحقاً لأنْ يُقْسَمَ بِهِ ، كقولنا : « اللَّه لأَفْعَلَنَّ كَذَا » فاستحقاقه له يغني عن الدلالة عليه باللفظ ولا يحسن أن يقال : زَيْد لأَفْعَلَنَّ كَذَا .
ثالثها : أنه لو كان كما ذكر لكان يكتب قاف مع الألف والفاء كما يكتب : { عَيْنٌ جَارِيَةٌ } [ الغاشية : 12 ] ، ويكتب { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] وفي جميع المصاحف يكتب حرف « ق » .
رابعها : أن الظاهر كون الأمر فيه كالأمر في « ص » و « ن » و « حم » وهي حروف لا كلمات فكذلك في « ق » .
فإن قيل : هو منقول عن ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) - .
نقول : المنقول عنه : أن قاف اسم جبل ، وأما أن المراد ههنا ذلك فَلاَ .
فصل
قال ابن الخطيب : هذه السورة وسورة ص يشتركان في افتتاح أولهما بالحرف المعجم والقسم بالقرآن بعده وقوله بعد القسم : بل والتعجب . ويشتركان أيضاً في أن أول السورتين وآخرهما متناسبات لأنّه تعالى قال في أول السورة : { ص والقرآن ذِي الذكر } [ ص : 1 ] وفي آخرها : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } [ ص : 87 ] وقال في أولِ ق : « وَالقُرْآنِ المَجِيدِ » ، وقال في آخرها : { فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ ق : 45 ] ، فافتتح بما اختتم به . وأيضاً في أول ص صرف العناية إلى تقرير الأصل الأول وهو التوحيد لقوله تعالى : { أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً } [ ص : 5 ] وفي هذه السورة صرف العناية إلى تقرير الأصل الآخر وهو الحشر فقال تعالى : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } ، فلما كان افتتاح سورة « ص » في تقرير المبدأ قال في آخرها : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ }
[
ص : 71 ] . وختمه بحكاية بَدْء آدمَ ، لأنَّه دليل الوحدانية ، ولما كان افتتاح « ق » لبيان الحشر قال في آخرها : { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } [ ق : 44 ] .
فصل
قال ابن الخطيب : قد ذكرنا أن الحروف تنبيهات قدمت على القرآن ليكون السامع بسببها يقبل على استماع ما يرد على الأسماع ، فلا يفوته شيء من الكلام الرائق والمعنى الفائق ، وذكر أيضاً أن العبادة منها قلبية ومنها لسانية ، ومنها خارجية ظاهرة ووجد في الخارجية ما عقل معناه ووجد فيها ما لم يعْقَلْ معناه كأعمال الحج من الرمي والسعي وغيرهما ، ووجد في القلبية ما عقل بالدليل وعلم كالتوحيد وإمكان الحشر ، وصفات الله تعالى ، وصدق الرسل ، ووجد فيها مَا لَمْ يُعْقَلْ ولا يمكن التصديق به لولا السمعُ كالصِّراط الممدود الأَحَدّ حَدًّا من السيف ، الأرقّ من الشعر ، والميزان الذي توزن به الأعمال ، فكذلك ينبغي أن يكون الأذْكار التي هي العبادة اللسانية فيها ما يعْقَلُ معناه ، كجميع القرآن إلاّ قليلاً منه ، وفيها ما لا يعقل ولا يفهم كحروف التهجي ليكون التلفظ به لمحض الانقياد والأمر ، لا لما يكون في الكلام من طيب الحكاية والقصد إلى غرض كقولنا : « رَبَّنا اغفرْ لنا وارحمنا » بل يكون النطق به تعبداً محضاً . ويؤيد هذا وجه آخر ، وهو أن هذه الحروف مقسم بها لأن الله تعالى لما أقسم بالتِّين والزَّيْتُون تشريفاً لهما ، فإذا أقسم بالحروف التي هي أصل الكلام الشريف الذي هو دليل المعرفة وآلة التعريف كان أولى .
وإذا عرف هذا نقول : القسم من الله تعالى وقع بأمر واحد كما في قوله تعالى : { والعصر } [ العصر : 1 ] وقوله : { والنجم } [ النجم : 1 ] وبحرف واحد كما في { ص } [ ص : 1 ] و { ق } [ ق : 1 ] ووقع بأمرين كما في قوله تعالى : { والضحى والليل } [ الضحى : 1 و 2 ] وفي قوله : { والسمآء والطارق } [ الطارق : 1 ] وبحرفين كما في قوله : { طه } [ طه : 1 ] و { طس } [ النمل : 1 ] و { حم} [ غافر : 1 ] ، ووقع بثلاثة أمور كما في قوله تعالى : { والصافات صَفَّا فالزاجرات زَجْراً فالتاليات ذِكْراً } [ الصافات : 1 - 3 ] . وقوله : { والسمآء ذَاتِ البروج واليوم الموعود وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } [ البروج : 1 - 3 ] وبثلاثة أحرف كما في قوله : { الم } [ البقرة : 1 ] ، و { طسم } [ الشعراء والقصص : 1 ] و { الر } [ هود : 11 ] ووقع بأربعة أمور ، كما في قوله تعالى : { والذاريات ذَرْواً فالحاملات وِقْراً فالجاريات يُسْراً فالمقسمات أَمْراً } [ الذاريات : 1 - 4 ] وفي قوله : { والتين والزيتون وَطُورِ سِينِينَ وهذا البلد الأمين } [ التين : 1 - 3 ] ، وبأربعة أحرف كما في قوله : { المص } [ الأعراف : 1 ] و { المر } [ الرعد : 1 ] ووقع بخمسة أمور كما في قوله تعالى : { والطور وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور } [ الطور : 1 - 6 ] وفي قوله : { والمرسلات عُرْفاً فالعاصفات عَصْفاً والناشرات نَشْراً فالفارقات فَرْقاً فالملقيات ذِكْراً } [ المرسلات : 1 - 5 ] وفي النَّازِعاتِ وفي الفَجْر ، وبخمسة أحرف كما في : { كهيعص } [ مريم : 1 ] و { حمعاساقا } [ الشورى : 1 و 2 ] ، ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة وهي الشَّمس : { والشمس وَضُحَاهَا والقمر إِذَا تَلاَهَا والنهار إِذَا جَلاَّهَا والليل إِذَا يَغْشَاهَا والسمآء وَمَا بَنَاهَا والأرض وَمَا طَحَاهَا }
[
الشمس : 1 - 6 ] . ولما أقسم بالأشياء المعهودة ذكر حرف القسم وهو الواو فقال : « والطُّورِ » « والنَّجْمِ » « والشَّمْسِ » وعند القسم بالحروف لم يذكر حرف القسم فلم يقل : وق وحم؛ لأن القسم لما كان بنفس الحروف كان الحرف مقسماً فلم يورده في موضع كونه آلة القسم تسوية بين الحروف ولم يدخل القسم بالحروف في أثناء السورة لأنه يخلُّ بالنظم .
فصل
أقسم الله بالأشياء المركبة العناصر كالتِّينِ والطُّورِ ، ولم يقسم بأصولها وهي الجواهر المفردة كالماء والتراب ، وأقسم بالحروف من غير تركيب ، لأن الأشياء عند تركيبها تكون على أحسن حالها ، وأما الحروف إن ركبت لمعنى يقع الحَلِفُ بمعناه لا باللفظ ، كقولنا والسماء والأرض وإن ركبت لا لمعنى فكأن المفرد أشرف فأقسم بمفردات الحرف .
فصل
هذه السورة تقرأ في صلاة العيد ، لقوله تعالى فيها : { ذَلِكَ يَوْمُ الخروج } [ ق : 42 ] وقوله : { كَذَلِكَ الخروج } [ ق : 11 ] وقوله : { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } [ ق : 44 ] ، فإن العيد يوم الزينة فينبغي أن لا ينسى الإنسان خروجَه إلى عَرْصَاتِ الحِسَابِ . ولا يكون في ذلك اليوم فرحاً فخوراً ولا يرتكب فسقاً ولا فجوراً . والعامة على سكون الفاء من قاف . وقد تقدم . وفتحها عيسى ، وكسرها الحسن ، وابن أبي إسحاق ، وضمها هارون وابن السميقع وقد مضى توجيه ذلك ، وهو أن الفتح يحتمل البناء على الفتح للتخفيف ، أو يكون منصوباً بفعل مقدر ومنع الصرف أو مجروراً بحرف قسم مقدر وإنَّما مُنعَ الصرف أيضاً . والضم على أنه مبتدأ وخبره منع الصرف أيضاً .
قال ابن الخطيب : فأما القراءة فيها فإن قلنا : هي مبنية على ما بينا فحقّها الوقف؛ إذ لا عامل فيها ويجوز الكسر حذراً من التقاء الساكنين ، ويجوز الفتح اختياراً للأخَفِّ .
فإن قيل : كيف جاز اختيار الفتح هَهُنَا ولم يَجُزْ عند التقاء الساكنين إذا كان أحدهما آخر كلمة والآخر أول كلمة أخرى ، كقوله : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ } [ البينة : 1 ] { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ } [ الأنعام : 52 ] ؟! .
نقول : لأن هناك إنما وجب التحريك لأن الكسرة في الفعل تشبه حركة الإعراب ، لأن الفعل إنما كان محلاً للرفع والنصب ولا يوجد فيه الجر اختير الكسرة التي لا يخفى على أحد أنها ليست بجر؛ لأن الفعل لا يجوز فيه الجر ، ولو فتح لاشتبه بالنصب ، وأما في أواخر الأسماء الاشتباه لازم ، لأن الاسم محِلّ يرد عليه الحركات الثلاث فلم يمكن الاحتراز فاختاروا الأخَفَّ .
وإن قلنا : إنها حرف مقسم به فحقها الجر ، ويجوز النصب على أنه مفعول به ب « أُقْسِمُ » على وجه الاتصال وتقدير الباء كأن لم يوجد .
وإن قلنا : هي اسم السورة ، فإن قلنا : مقسم بها مع ذلك فحقها الفتح لأنها لا تنصرف حينئذ فتفتح في موضع الجر كما تقول : « وإِبْرَاهِيمَ وأَحْمَدَ » ، إذا أقسمت بهما وإن قلنا : ( إنه ) ليس مقسماً بها فإن قلنا : هي اسم السورة فحقها الرفع إذا جعلناها خبراً تقديره : « هَذِهِ ق » وإن قلنا : هو من قَفَا يَقْفُو فحقه التنوين كقولنا : هَذَا دَاعٍ ورَاعٍ .
وإن قلنا : اسم جبل فالجر والتنوين وإِن كان قسماً .
قوله : « وَالقُرْآنِ المَجِيدِ » قسم ، وفي جوابه أوجه :
أحدها : أنه قوله : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض } .
الثاني : { مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ } [ ق : 29 ] .
الثالث : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ } [ ق : 18 ] .
الرابع : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى } [ ق : 37 ] .
الخامس : « بَلْ عَجِبُوا » . وهو قول كوفي ، قالوا : لأنه بمعنى قَدْ عجبُوا .
السادس : أنه محذوف ، فقدّره الزجاج والأخفش والمبرد : لَتُبْعَثُنَّ ، وغيرهم : لَقَدْ جِئْتَهُمْ مُنْذِراً .
واعلم أن جوابات القسم سبعة ، إنَّ المشددة كقوله : { والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } [ العصر : 1 و 2 ] ، و « مَا » النافية كقوله : { والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } [ الضحى : 1 - 3 ] واللام المفتوحة كقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ } [ الحجر : 92 ] وإنْ الخفيفة كقوله : { تالله إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 97 ] ولا النافية كقوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } [ النحل : 38 ] ، و « قَدْ » كقوله : { والشمس وَضُحَاهَا والقمر إِذَا تَلاَهَا والنهار إِذَا جَلاَّهَا والليل إِذَا يَغْشَاهَا والسمآء وَمَا بَنَاهَا والأرض وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشمس : 1 - 9 ] ، وبَلْ كقوله : { والقرآن المجيد بَلْ عجبوا } . والمجيدُ : العظيم . وقيل : المجيدُ : الكثير الكرم .
فإن قلنا : المجيد العظيم ، فلأن القرآن عظيم الفائدة ولأنه ذكر الله العظيم ، وذكر العظيم عظيم ولأنه لم يقدر عليه أحدٌ من الخلق ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم } [ الحجر : 87 ] . ولا يبدل ولا يغير ولا يأتيهِ الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وإن قلنا : المجيد هو الكثير الكفر فالقرآن كريم كل من طلب منه مقصوداً وَجَدَهُ ، ويغني كل من لاَذَ به وإِغناء المحتاج غاية الكرم .
فإن قيل : القرآن مقسم به فما المقسم عليه؟ .
فالجواب : أن المقسم عليه إما أن يفهم بقرينة حالية أو قرينة مَقَالِيَّة ، والمقالية إما أن تكون متقدمة على المقسم به أو متأخرة ، فإن فهم من قرينة مقالية متقدمة ، فلا يتقدم هنا لفظاً إلا « ق » فيكون التقدير : هذَا ق والقرآنِ ، أو ق أنزلها الله تعالى والقرآنِ ، كقولك : هذَا حَاتِمٌ واللَّهِ؛ أي هو المشهور بالسخاء ، وتقول : الهلالُ واللَّهِ أيْ رأيته واللَّهِ . وإن فهم من قرينة مقالية متأخرة فذلك أمران :
أحدهما : أن التقدير : والقرآن المجيد إنك المنذر ، أو والقرآن المجيد إن الرجع لكائن ، لأن كلام الأمرين ورد طاهراً ، أما الأوّل فقوله تعالى : { يس والقرآن الحكيم } [ يس : 1 - 2 ] إلى أن قال : { لِتُنذِرَ قَوْماً } [ يس : 6 ] .
وأما الثاني : فقوله تعالى : { والطور وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ }
[
الطور : 1 - 7 ] .
قال ابن الخطيب : وهذا الوجه يظهر غاية الظهور على قال من قال : « ق » اسم جبل فإن القسم يكون بالجبل والقرآن ، وهناك أقسم بالطور والكتاب المسطور وهو الجبل والقرآن وإن فهم بقرينة حالية فهو كون محمد - صلى الله عليه وسلم - على الحق فإِن الكفار كانوا ينكرون ذلك .
قوله : « بَلْ عَجِبُوا » يقتضي أن يكون هناك أمرٌ مضروبٌ عنه فما ذلك؟ أجاب الواحدي ووافقه الزمخشريّ أنه تقرير كأنه قال : ما الأمر كما تقولون . قال ابن الخطيب : والتقدير والقرآن المجيد إنك لمنذر ، وكأنه قال بعده : إنهم شكوا فيه . ثم أضرب عنه وقال : بَلْ عَجبُوا أي فلم يكتفوا بالشك ولا بالردِّ حتى عَجِبُوا بل جَزَمُوا بالخلاف حتى جعلوا ذلك من الأمُور العجيبَة .
فإن قيل : فما الحكمة في هذا الاختصار العظيم في موضع واحد حذف المقسم عليه والمُضْرَب عنه ، وأتى بأمر لا يفهم إلا بعد الفكر العظيم ولا يفهم مع الفكر إلا بالتوثيق العزيز؟! .
قال ابن الخطيب : أما حذف المقسم عليه فلأن الترك في بعض المواضع يفهم منه ظهور لا يفهم من الذكر ، لأن من ذكر المَلِكَ العظيم في مجلس ، وأثنى عليه يكون قد عَظَّمَهُ ، فإذا قال له غيره : هو لا يذكر في هذا المجلس يكون بالإرشاد إلى ترك الذكر دالاًّ على عظمة فوق ما استفيد بذكره فالله ( تعالى ) ذكر المقسم عليه لبيان هو أظهر من أن يذكر . وأما حذف المُضْرب عنه ، فلأن المُضْرَب عنه إذا ذكر وأضرب عنه بأمرٍ آخر ، وكان بين المذكورين تفاوتٌ ما ، فإذا عظم التفاوت لا يحسن ذكرهما مع الإضراب ، مثاله يحسن أن يقال : الوَزيرُ يعظم ، فلا يماثل الملك بعظمه ، ولا يحسن أن يقال : البوابُ يُعَظَّم فلا يماثل الملك بعظمه لكون البوْن بينهما بعيداً ، إذ الإِضراب للتدريج ، فإِذا ترك المتكلم المُضْرَبَ عنه صريحاً وأتى بحرف الإضراب اسْتُفِيدَ منه أمران :
أحدهما : الإشارة إلى أمر آخر قبله مضربٌ عنه .
والثاني : عِظَم التفاوت بينهما : وههنا كذلك لأن الشك بعد قيام البُرهان بعيد لكن القطع بخلافه في غاية ما يكون من البعد فالعجب منه أبعد .
قوله : « أَنْ جَاءَهُمْ » فيه سؤال ، وهو : أنْ مع الفعل بتقدير المصدر . . . تقول : « أُمِرْتُ بأَنْ أَقُومَ وأمرت بالقيام » ، وإذا كان كذلك فلم ترك الإتيان بما هو في معنى المصدر ما يجب ذكره عند الإتيان بالمصدر حيث جاز ( أن تقول ) : أمرت أَنْ أقومَ من غير باء ، ولا يجوز أن تقول : أُمِرْتُ القِيَامَ بل لا بد من الباء ولذلك قال : عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ ، ولا يجوز أن يقال : عَجبُوا مَجيئَهُ بل لا بد من قولك : عَجِبُوا مِنْ مَجِيئه! .
والجواب : أن قوله : أَنْ جَاءَهُمْ وإن كان في المعنى قائماً مَقَام المَصْدَر ، لكنه في الصورة تقدير ، وحروف التقدير كلها حروف جارَّة ، والجارُّ لا يَدْخُل على الفعل فكان الواجب أن لا يدخل فلا أقلّ من أن يجوز الدخول فجاز أن يقال : عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ ، ولا يجوز : عجبوا مَجِيئَهُمْ؛ لعدم جواز إِدْخَال الحَرْف عَلَيْهِ .
قوله : « مِنْهُمْ » أي يعرفون نَسَبَهُ وصدقه وأَمَانَتَهُ ، وهذا يصلح أن يكون مذكوراً لتقرير تَعَجُّبهمْ ويصلح أن يكون مذكوراً لإبطال تَعَجبهم ، أما وجه تقرير تعجبهم فلأنهم كانوا يقولون : { أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ } [ القمر : 24 ] و { قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } [ يس : 15 ] وذلك إشارة إلى أنه كيف يجوز اختصاصه بهذه المنزلة الرفيعة مع اشتراكنا في الحقيقة واللوازم؟ وأما تقدير الإبطال فلأنه إذا كان واحداً منهم ويرى بين أظهرهم وظهر منه ما عجزوا عنه كلهم ومن بعدهم فكان يجب عليهم أن يقولوا : هذا ليس من عنده ولا من عند أحد من جِنْسنَا فهو من عند الله بخلاف ما لو جاءهم واحدٌ من خلاف جنْسهم ، وأتى بما يعجزون عنه فإنهم كانوا يقولون : نحن لا نقدر على ذلك ، لأن لكل نوع خاصيةً كما أن النّعامة تبلع النَّار ، وابن آدم لا يقدر على ذلك .
قوله : { فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ } قال الزمخشري : هذا تعجّبٌ آخرُ من أمر آخرَ ، وهو الحشر الذي أشار إليه بقوله : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } فتعجبوا من كونه منذراً ومن وقوع الحَشْر ، ويدل عليه قوله في أول « ص » : { وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ } [ ص : 4 ] وقال : { أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ ص : 5 ] فذكر تعجبهم من أمرين . قال ابن الخطيب : والظاهر أن قولَهم هذا إشارة إلى مجيء المنذر لا إلى الحشر ، لأن هناك ذكر : إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ بعد الاستفهام الإنكاري فقال : { أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ ص : 5 ] وقال ههنا : إنَّ { هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ } ، ولم يكن هناك ما تقع الإشارة إليه إلا مجيء المنذر ، ثم قالوا : « أَئِذَا متْنَا » ، وأيضاً أن ههنا وُجد بعد الاستبعاد بالاستفهام أَمرٌ يؤدي معنى التعجب ، وهو قولهم : { ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } ؛ فإنه استبعاد وهو كالتعجب فلو كان التعجب أيضاً عائداً إليه لكان كالتكرار .
فإن قيل : التكرار الصريح يلزم من قولك : { هذا شيء عجيب } يعود إلى مجيء المنذر فإن تعجبهم منه علم من قوله : { وعجبوا أن جاءهم } فقوله : { هذا شيء عجيب } ليس تكراراً! .
نقول : ذلك ليس بتكرار ، بل هو تقرير؛ لأنه لما قال : بل عجبوا بصيغة الفعل وجاز أن يتعجب الإنسان مما لا يكون عجباً كقوله ( تعالى ) : { أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله } [ هود : 73 ] ويقال في العرف : لا وجه لِتَعَجُّبِكَ مما ليس بعجب ، فكأنهم لما عجبوا قيل لهم : لا معنى لتَعَجُّبِكُمْ ، فقالوا : هذا شيء عجيب فكيف لا نعجب منه؟! ويدل على ذلك قوله تعالى ههنا : { فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ } بحرف الفاء وقال في « ص » : { وقال الكافرون هذا ساحر } بحرف الواو فكان نعتاً غير مرتب على ما تقدم ، وهذا شيء عجيب أمر مرتب على ما تقدم ، أي لما عجبوا أنكروا عليهم ذلك فقالوا : هذا شيء عجيب كيف لا نعجب منه؟ ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : { ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } بلفظ الإشارة إلى البعيد .
قوله : « هذا ساحر » إشارة إلى الحاضر القريب فيَنْبَغي أن يكون المشار إليه بذلك غير المشار إليه بهَذَا ، وهذا لا يصحُّ إلا على قولنا .
قوله : « أَئِذَا مِتْنَا » قرأ العامَّة بالاستفهام؛ وابن عامر - في رواية - وأبو جعفر والأعْمش والأعْرج بهمزة واحدة فيحتمل الاستفهام كالجمهور . وإنما حذف الأداة للدلالة ، ويحتمل الإخبار بذلك ، والناصب للظرف في قراءة الجمهور مقدر أي أنُبْعَثُ أو أنَرْجِعُ إِذا مِتْنَا . وجواب « إذا » على قراءة الخبر محذوف أي رَجَعْنَا . وقيل قوله : « ذَلِكَ رَجْعٌ » على حذف الفاء ، وهذا رأي بعضهم . والجمهور لا يجوز ذلك إلاَّ في شعر ( وقال الزمخشري ) : ويجوز أن يكون الرَّجْعُ بمعنى المرجوع وهو الجواب ، ويكون من كلام الله تعالى استبعاداً لإنكارهم ما أنذروا به من البعث والوقف على « ما » على هذا التفسير حَسَنٌ .
فإن قيل : فما ناصب الظرف إذا كان الرَّجْعُ بمعنى المرجوع؟ .
فالجواب : ما دلّ عليه المُنْذِر من المُنْذَرِ به وهو البَعْثُ .
فصل
قال ابن الخطيب : « ذلك » إشارة إلى ما قاله وهو الإنذار ، وقوله : هذا شيء عجيب إشارة إلى المجيء فلما اختلفت الصفتان نقول : المجيء والجائي كل واحد حاضراً وأما الإنذار وإن كان حاضراً لكن المنذر به كان جازماً على الحاضر ، فقالوا فيه ذلك . والرجوع مصدر رَجَعَ إذا كان متعدياً والرجوعُ مصدر إذا كان لازماً وكذلك الرُّجعى مصدر عند لُزُومه . والرجوع أيضاً يصحّ مصدراً للاَّزم فيحتمل أن يكون المراد بقوله : { ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } أي رجوعٌ بعيد ، ويحتمل أن يكون المراد : الرّجْعَى المتعدِّي ، ويدل على الأول قوله تعالى : { إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى } [ العلق : 8 ] وعلى الثاني قوله تعالى : { أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة } [ النازعات : 10 ] أي مرجوعون؛ فإنه من الرجوع المتعدي .
فإن قلنا : هو من المتعدي فقد أنكروا كونه مقدوراً في نفسه .
فصل
قال المفسرون : تقديره : أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً نُبْعَثُ ، ترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه : « ذَلِكَ رَجْعٌ » أي رد إلى الحياة « بَعِيدٌ » غير كائن أي يَبْعُدُ أنْ نُبْعَثَ بعد الموت .
قوله تعالى : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ } أي تأكل من لحومِهِم ودمائِهِم وعِظَامهم ، لا يعزب عن علمه شيء . وقال السدي : هو الموت يَقُول : قد علمنا من يموتُ منهم ، ومن يبقى .
وهذه الآية تدل على جواز البعث وقدرته تعالى عليه ، لأن الله سبحانه وتعالى عالم بأجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء واحد بجزء الآخر ، وقادر على الجمع والتأليف فليس الرجعُ منه ببعيدٍ ، وهذا كقوله تعالى :
{
وَهُوَ الخلاق العليم } [ يس : 81 ] . حيث جعل العلم مدخلاً في الإعادة وهذا جواب لِمَا كانوا يقولون : { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض } [ السجدة : 10 ] أي أنه تعالى كما يعلم أجزاءهم يعلم أعمالهم فيرجعهم ويعذبهم بما كانوا يقولون وبما كانوا يعملون .
قوله تعالى : { وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } أي محفوظ من الشياطين ومن أن يَدْرِس أو يتغيَّر . وهو اللوح المحفوظ . وقيل : معناه حافظ لعدتهم وأسمائهم وأعمالهم : قال ابن الخطيب : وهذا هو الأصحّ؛ لأن الحفيظ بمعنى الحافظ وارد في القرآن قال تعالى : { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } [ هود 86 ] وقال : { الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ } [ الشورى : 6 ] ولأن الكتاب للتمثيل ومعناه : العلم عندي كما يكون في الكتاب ، فهو يحفظ الأشياء وهو مستغن عن أن يحفظ .
قوله تعالى : { بَلْ كَذَّبُواْ } هذا إضراب ثانٍ ، قال الزمخشري : إضراب أتبع للإضراب الأول للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحق . وقال أبو حيان : وكان هذا الإضراب الثاني بدلاً من الأوّل . قال شهاب الدين : وإطلاق مثل هذا في كتاب الله لا يجوز ألبتة . وقيل : قبل هذه الآية جملة مضرب عنها تقديرها : ما أجازُوا النظر بَلْ كَذَّبوا . وما قاله الزمخشري أحسَنُ .
فصل
في المضروب عنه وجهان :
أحدهما : أنه الشكّ تقديره : والقرآن المجيد إنَّك لَمُنْذرٌ ، وإنهم شكوا فيك بل عجبوا بل كذبوا .
والثاني : تقديره : لم يكذب المنذر بل كذبوا هم .
وفي المراد بالحق وجوه :
الأول : البرهان القائم على صدق الرسول - ( عليه الصلاة والسلام - ) .
الثاني : الفرقان المنزلُ وهو قريب من الأول؛ لأنه برهانٌ .
الثالث : السورة الثابتة بالمعجوة القاهرة فإِنَّها حَقٌّ .
الرابع : الحشر الذي لا بد من وقوعه فهو حق .
فإن قيل : ما معنى الباء في قوله تعالى : ( بالحَقِّ ) ؟ وأيةُ حاجة إليها؟ يعني أن التكذيبَ متعدٍّ بنفسه فهلْ هي التعدية إلى مفعول ثانٍ أو هي زائدة كما هي قوله تعالى : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ المفتون } [ القلم : 5 و 6 ] .
فالجواب : أنها في هذا الموضع لإظهار التعدية؛ لأن التكذيب ( هو النسبة إلى الكذب ) لكن النسبة توجد تارة في القائلِ وأخرى في القول ، تقول : كَذَّبَنِي فلانٌ وكنت صادقاً ويقول : كَذَّبَ فلانٌ قَوْلِي ، ويقال : كَذَّبَه أي جعله كاذباً وتقول : قلتُ لفلان : زيدٌ يجيء غداً ، فتأخر عمداً حتى كَذَّبَنِي أو كذب قولي . والتكذيب في القائل يستعمل بالباء وبدونها قال تعالى : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين } [ الشعراء : 141 ] وقال { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر } [ القمر : 23 ] وفي القول كذلك غيرَ أن الاستعمال في القائل بدون الباء أكثر قال تعالى : { فَكَذَّبُوهُ } [ الأعراف : 64 ] وقال : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } [ فاطر : 4 ] . وفي القول الاستعمال بالباء أكثر قال تعالى : { كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا } [ القمر : 42 ] وقال : { كَذَّبُواْ بالحق } [ ق : 5 ] . وقال : { وَكَذَّبَ بالصدق } [ الزمر : 32 ] .
والتحقيق فيه أن الفعل المطلق هو المصدر ، لأنه هو الذي يصدر من الفاعل ، فإن من ضَرَبَ لم يصدر منه غير الضَّرب ، غير أن له محلاً يقع فيه يسمى مضروباً .
ثم إن كان ظاهراً لكونه محلاً للفعل يستغني بظهوره عن الحرف فيعدى من غير حرف يقال : ضَرَبْتُ عمراً وشَرِبْتُ مَاءً للعلم بأن الضرب لا بدَّ له من محِل يقوم به وكذلك الشرب لا يستغني عن مشروب يتحقق فيه؛ فإذا قلت : مَرَرْتُ يحتاج إلى الحرف ليظهر معنى التعدية ، لعدم ظهوره في نفسه؛ لأن قولك : مَرَّ السَّحَاب يفهم منه مُرُور ، ( و ) لا يفهم مَنْ مَرَّ به .
ثم إن الفعل قد يكون في الظهور دون الضَّرْبِ والشُّرب وفي الخفاء فوق المرور ، فيجوز الإتيان فيه بدون الحرف للظهور الذي فوق ظهور المرور ، ومع الحرف لكون الظهور دون ظهور الضرب ، ولهذا لا يجوز أن تقول : ضَرَبْتُ بعَمْروٍ إلا إذا جعلته آلة الضرب ، أما إذا ضربته بسوطٍ أو غيره فَلاَ يجوز فيه زيادة الباء ، ولا يجوز : مَرَرْتُهُ إلا مع الاشتراك وتقول : مَسَحْتُهُ ومسحتُ به ، وشَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ لأن المسحَ إمرار اليد بالشيء فصار كالمُرور والشكر فعل جميل غير أنه يقع لمحسن فالأصل في الشكر الفعل الجميل وكونه واقعاً لغيره كالتَّبَع بخلاف الضرب فإنه إمساسُ جسمٍ بجسم بعنف ، فالمضروب داخل في مفهوم الضَّرْب أولاً ، والمشكور داخل في مفهوم الشكر ثانياً ، وإذا عرف هذا فالتكذيب في القائل طاهر ، لأنه هو الذي يصدق أو يكذب وفي القول غير ظاهر ، فكان الاستعمال فيه بالباء أكثر والباء فيه لظهور معنى التعدية ، وقوله : « لما جاءهم » هو المكذب تقديره : وكَذَّبوا بالحق لما جاءهم الحَقُّ أي لم يؤخروه إلى التفَكر والتدبر .
قوله : لَمَّا جَاءَهُمْ العامة على تشديد « لما » ، وهي إما حرف وجوب لوجوب أو ظرف بمعنى حين كما تقدم . وقرأ الجَحْدريّ لِمَا - بكسر اللام وتخفيف الميم - على أنها لام الجر دخلت على ما المصدرية وهي نظير قولهم : كَتَبْتُهُ لخمسٍ خَلَوْنَ أي عندها .
قوله : فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ، أي مختلط ، قال أبو واقد :
4506-
ومَرِجَ الدِّينُ فَأعْدَدْتُ لَهُ ... مُشْرِفَ الأَقْطَارِ مَحْبُوكَ الكَتَدْ
وقال آخر :
4507-
فَجَالَتْ والتَمَسْتُ به حَشَاهَا ... فَخَرَّ كَأَنَّهُ خُوطٌ مَرِيجُ
وأصله من الحركة والاضطراب ، ومنه : مرج الخاتم في إصبعه وقال سعيد بن جبير ومجاهد : ملتبس .
فصل
قال قتادة : معناه من ترك الحق مرج إليه أمره وألبس عليه دينه . وقال الحسن : ما ترك قومٌ الحقّ إلا مَرج أمرُهُمْ . وقال الزجاج : معنى اختلاط أمرهم أنهم يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - مرة شاعرٌ ، ومرة ساحرٌ ، ومرة معلّمٌ ، ومرة كاهنٌ ، ومرة معترّ ومرة ينسبونه إلى الجنون فكان أمرهم مُخْتَلِطاً ملتبساً عليهم .
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
ثم ذكر الدليل الذي يدفع قولهم : { ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } [ ق : 3 ] فقال : { أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا } بالكواكب ، وهو نظير قوله تعالى : { أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } [ يس : 81 ] وقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى } [ الأحقاف : 33 ] .
قوله : « أَفَلَمْ » الهمزة للاستفهام . واعْلَم أن همزة الاستفهام تارةً تدخل على الكلام بغير واو وتارة تدخل ومعها واو والفرق بينهما أن قولك : أَزَيدٌ فِي الدّارِ؟ بعد : وَقَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ ( يذكره للإنكار .
فإن قلت : أَوَ زَيْدٌ في الدار بعد : وَقَدْ طَلَعَتِ الشَّمس ) يشير بالواو إلى أن قبح فعله صار بمنزلة فعلين قبيحين ، لأن الواو تُنْبِئُ عن سبق أمر مغايرٍ لما بعدها وإن لم يكن هناك سابقٌ لكن تأتي بالواو زيادة في الإنكار .
فإن قيل : كيف أتى هنا بالفاء فقال : « أَفَلَمْ » وفي موضع آخر بالواو؟! .
فالجواب : هنا سبق منهم إنكار الرجع فقال بحرف التعقيب لمخالفة ما قيلَ .
فإن قيل : ففي « يس » سبق ذلك بقوله : { قَالَ مَن يُحيِي العظام } [ يس : 78 ] ؟ .
فالجواب : بأن هناك الاستدلال بالسموات لم يعقب الإنكار بل استدل بدليلٍ آخرَ وهو قوله : { قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ يس : 79 ] ثم ذكر الدليل الآخر وههنا الدليل كان عقيب إنكارهم ، فذكر بالفاء .
فإن قيل : كيف قال ههنا بلفظ النظر وفي الأحقاف بلفظ الرؤية؟! .
فالجواب : أنهُمْ ههنا لما استبعدوا أمر الرجع بقولهم : { ذلك رجع بعيد } استبعد استبعادهم وقال : أفلم ينظروا؛ لأن النظر دون الرؤية فقال النظر كاف في حصول العلم بإمكان الرجع ، ولا حاجة إلى الرؤية ، ليقع الاستبعاد في مقابلة الاستبعاد وهناك لم يوجد منهم إنكار فأرشدهم إليه بالرؤية التي هي أتمُّ من النظر .
قوله : { إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ } فقوله : « فَوْقَهُمْ » حال من السماء وهي مؤكدة وكَيْفَ منصوبة بما بعدها وهي معلِّقةٌ للنظر قبلها .
فإن قيل : كيف قال : إلى السماء ولم يقل : فِي السَّماء؟! .
فالجواب : لأنَّ النظر في الشيء ينبئ عن التأمّل والمبالغة والنظر إلى الشيء لا ينبئ عنه؛ لأن « إِلى » غايةٌ منتهى النظر عنده وفي الدخول في معنى الظرف فإذا انتهى النظر إليه ينبغي أن ينفذ فيه حتى يصح معنى النظر فيه .
قوله : { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } أي شُقوقٍ وفتوقٍ وصُدُوعٍ ، واحدها فَرْج .
«
وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا » بسطناها على وجه الماء { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } جبالاً ثوابتَ { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } حَسَنٍ كريمٍ يبهج به أي يستر .
قوله : « تَبْصِرَةً » العامة على نصيبها على المفعول من أجله أي تبصير أمثالهم وتذكير أمثالهم . وقيل : منصوبان بفعل من لفظهما مقدر أي بَصِّرْهُم تبصرةً وذكِّرهم تذكرةً .
وقيل : حالان أي مُبَصَّرين مُذَكَّرِينَ ، وقيل : حال من المفعول أي ذات تبصير وتذكير لمن يراها . وزيد بن علي بالرفع . وقرأ : وذِكْرٌ أي هي : تبصرةٌ وذكرٌ و « لِكُلِّ » إما صفة وإما متعلق بنفس المصدر . وقال البغوي : تَبَصُّراً وتَذْكِيراً .
فصل
قال ابن الخطيب : يحتمل أن يكون الأمْران عائدين إلى السماء والأرض أي خَلَقَ السماء تبصرةً وخلق الأرض ذكْرى . ويدل على ذلك أن السماء زينتها مستمرة غير مستجدّة في كل عام ، فهي كالشيء المرئي على مرور الزمان . وأما الأرض فهي كل سنة تأخذ زخرفها فتُذَكِّر ، فالسماء تبصرة والأرْض تذكرة ، ويحتمل أن يكون كل واحد من الأمرين موجوداً في كلّ واحد من الأمرين فالسماء تبصرة وتذكرة والأرض كذلك والفرق بين التبصرة والتذكرة هو أن فيها آيات مستمرة منصوبة في مقابلة البصائر وآيات متجددة متذكرة عند التَّنَاسِي .
قوله : { لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } أي لتُبصِّرَ وتُذَكِّر كل عبد منيب : أي راجع التفكر والتذكّر والنظر في الدلائل .
قوله : { وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً } كثير الخير ، وفيه حياة كل شيء وهو المطر { فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحصيد } ، يعني البُرّ والشّعير وسائر الحبوب التي تحصد ، فقوله : « وحَبَّ الحَصِيدِ » يجوز أن يكون من باب حذف الموصوف للعلم به ، تقديره وحب الزرع الحصيد ، نحو : مَسْجَدُ الجَامِعِ وبابه وهذا مذهب البصريين؛ لئلا يلزم إِضافة الشيء إلى نفسه . ويجوز أن يكون من إِضافة الموصوف إلى صفته؛ لأن الأصل والحَبُّ الحصيدُ أي المَحْصُودُ .
فصل
هذا دليل آخر وهو ما بين السماء والأرض فيكون الاستدلال بالسماء والأرض وما بينهما وهو إِنزال الماء من فوق وإخراج النبات من تحت .
فإن قيل هذا الاستدلال قد تقدم في قوله تعالى : { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } فما الفائدة من إعادة قوله : { فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحصيد } ؟ .
فالجواب : أن قوله : وأنبتنا إشارة إلى جعلها محلاً للنبات ، اللحم والشعر وغيرهما ، وقوله : « وَأَنْبَتْنَا » استدلال بنفس النبات أي الأشجار تنمو وتزيد فكذلك بدن الإنسانِ بعد الموت ينمُو ويزيدُ أي يُرجِعُ الله إليه قوة النماء كما يعيدها إلى الأشجار بواسطة ماء السماء .
قوله تعالى : { والنخل بَاسِقَاتٍ } والنخل منصوب عطفاً على مفعول أنبتنا أي وأنبتنا النخل و « باسقات » حال ، وهي حال مقدّرة؛ لأنها وقت الإنبات لم تكن طُوالاً . والبُسُوقُ الطّول يقال : بَسَقَ فُلانٌ على أصحابه أي طال عليهم في الفضل ، ومنه قول ابْنِ نَوْفلِ في ابن هُبَيْرَةَ :
4508-
يَا ابْنَ الَّذِينَ بِمَجْدِهِمْ ... بَسَقَتْ ( عَلَى ) قَيْسٍ فَزَارَهْ
وهو استعارة والأصل استعماله في بسقت النخلة تبسُق بُسُوقاً أي طالت ، قال الشاعر :
4509-
لَنَا خَمْرٌ وَلَيْسَتْ خَمْرَ كَرْمٍ ... وَلَكِنْ مِنْ نِتَاجِ البَاسِقَاتِ
كِرَامٌ فِي السَّمَاءِ ذَهَبْنَ طُولاً ... وَفَات ثِمَارُها أَيْدِي الجُنَاةِ
وبَسَقَت الشَاةُ ولدت ، وأبْسَقَتِ الناقةُ وَقَعَ في ضَرْعِهَا اللبأ قبل النتاج ، ونُوقٌ مَبَاسِقٌ من ذلك .
قال مجاهد وقتادة وعكرمة يعني باسقاتٍ طوالاً . وقال سعيد بن جبير : مستويات والعامة على السين في باسقات ، وقرأ قُطْبَةُ بنُ مالك - ويرويها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - باصِقَات . وهي لغة لبنِي العنبر يُبْدلونَ السِّين صاداً قبل القاف والغين والعين والخاء والطاء إذا وليتها أو فصلت منها بحرف أو حرفين .
قوله : « لَهَا طَلْعٌ » يجوز أن تكون الجملة حالاً من النخل أو من الضمير في « بَاسِقَاتٍ » ويجوز أن يكون الحال وحده « لَهَا » وطلع فاعل به . ونَضِيدٌ بمعنى مَنضُود بعضها فوق بعض في كمامها كما في سنبلة الزرع ، وهو عجيب ، فإن الأشجار الطوال ثمارها بعضها على بعض ، لكل واحد منها أصل يخرج منه كالجَوْزِ واللَّوز وغيرهما ، والطَّلْعُ كالسُّنْبُلَة الواحدة يكون على أصل واحدٍ .
قوله : « رزْقاً » يجوز أن يكون حالاً أي مرزوقاً للعباد أي ذا رزق ، وإن يكون مصدراً من معنى أنْبَتْنَا؛ لأن إنبات هذه رزق فكأنه قال : أنبتناها إنباتاً للعباد ويجوز أن تكون مفعولاً له للعباد ، إمّا صفة ، وإما متعلق بالمصدر ، وإِما مفعولاً للمصدر ، واللام زائدة ، أي رِزْقاً العبادَ .
فصل
قال ابن الخطيب : ما الحكمة في قوله عند خلق السماء والأرض : « تَبْصِرَةً وذِكْرَى » وفي الثمار قال : « رِزْقاً » والثمار أيضاً فيها تبصرة وفي السماء والأرض أيضاً منفعة غير التبصرة والتذكرة؟
نقول : فيه وجوه :
أحدها : أن الاستدلال وقع لوجود أمرين : أحدهما الإعادة ، والثاني : البقاء بعد الإعادة ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخبرهم بحشر وجمع يكون بعده الثواب الدائم ، والعقاب الدائم ، وأنكروا ذلك ، فقال أما الأوّل فالله القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء ، وأما الثاني فلأن البقاء في الدنيا بالرزق والقادر على إخراج الأرزاق من النّخل والشجر قادر على أن يرزق بعد الحشر فكان الأوَّل تبصرةً وتذكرةً بالخلق ، والثاني تذكرة بالبقاء بالرزق ، ويدل على هذا الفصل بينهما بقوله تعالى : { تبصرة وذكرى } حيث ذكر ذلك بعد الآيتين ، ثم بدأ بذكر الماء وإنزاله وإنبات النبات .
ثانيها : منفعة الثمار الظاهرة وهي الرزق فذكرها ، ومنفعة السماء الظاهرة ليست أمراً عائداً إلى انتفاع العباد لبعدها عن ذهنهم حتى أنهم لو توهموا عدم الزرع والثمر لظنوا أن يهلكوا ولو توهموا عدم السماء فوقهم لقالوا : لا يضرنا ذلك مع أن الأمر بالعكس أولى لأنّ السماء سبب الأرْزاق بقدرة الله تعالى ، وفيها منافع غير ذلك والثمار وإن لم تكن كان العيش كما أنزل الله على قوم المنَّ والسلوى ، وعلى قوم المائدة من السماء فذكر الأظهر للناس في هذا المواضع .
ثالثها : قوله : رزْقاً إشارة إلى كونه منعماً ليكون تكذيبهم في غاية القبح فإنه يكون إشارة بالمنعم وهو أقبح ما يكون .
فصل
قال : { تبصرة وذكرى لكل عبد منيب } فقيّد العبد بكونه منيباً ، لأنّ العبودية حصلت لكل أحد غير أن المنيب يأكل ذاكراً شاكراً للإنعام وغيره يأكل كما تأكل الأنْعام ، فلم يخصص بقيدٍ .
قوله : « فَأَحْيَيْنَا بِهِ » أي بالماء و « مَيْتاً » صفة ل « بَلْدَةً » ولم يؤنث حملاً على معنى المكان . والعامة على التخفيف . وأبو جعفر وخالد بالتَّثْقِيلِ .
فإن قيل : ما الفرق بين هذا الموضع وبين قوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة } [ يس : 33 ] حيث أثبت ( الهاء ) هناك؟
فالجواب : أن الأصل في الأرض الوصف فقال الميتة ، لأن معنى الفاعلية ظاهرٌ هناك والبلدة الأصل فيها الحياة لأن الأرض إذا صارت حية صارت آهلة وأقام بها القوم وعَمَرُوهَا فصارت بلدة فأسقط الهاء لأن معنى الفاعلية ظاهر فيثبت فيه الهاء ، وإذا كان بمعنى الفاعل لم يظهر لا يثبت فيه الهاء ، ويحقق هذا قوله : { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } [ سبأ : 15 ] حيث أثبت الهاء حيث ظهر معنى الفاعلية ولم يثبت حيث لم يظهر .
قوله : « كَذَلِكَ الْخُرُوجُ » أي من القبور أي كالإحياء الخروج .
فإن قيل : الإحياء يشبه به الإخراج لا الخروج؟
فالجواب : تقديره أحيينا به بلدةً ميْتاً فتشققت وخرج منها النبات كذلك تَتَشققُ ويخرج منها الأموات .
قال ابن الخطيب : وهذا يؤكد قولنا : إن الرَّجْعَ بمعنى الرجوع في قوله : { ذلك رجع بعيد } ؛ لأنه تعالى بين لهم ما استبعدوه فلو استبعدوا الرجع الذي هو من المتعدي لناسبهُ أن يقول : كذلك الإخراج فلما قال : كذلك الخروج فهم أنهم أنكروا الرجوع فقال : كذلك الرجوع والخروج .
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)
قوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ . . . } الآية ذكر المكذبين تذكيراً لهم بحالهم وأنذرهم بإهلاكهم ، وفيه تسلية للرسول ، وتنبيه بأن حالَهُ كحال من تقدمه من الرسل كُذبوا وصَبَرُوا فأهلك الله مكذّبيهم ونصرهم . والمراد بأصحاب الرَّسِّ قيل : هم قوم شعيب ، وقيل : الذين جاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى وهم من قوم عيسى - عليه الصلاة والسلام - وقيل : هم أصحاب الأخْدود والرس إمَّا موضع نسبوا إليه ، أو فَعْل وهو حَفْرُ البئر ، يقال رسَّ إذا حفر بئراً . وقد تقدم في الفرقان . وقال ههنا : « قوم نوح » ، وقال : « إخوان لوط » ؛ لأن لوطاً كان مرسلاً إلى طائفة من قوم إبراهيم هم معارف لوط ، ونوح كان مرسلاً إلى خلْق عظيمٍ ، وقال : « فرعون » ولم يقل : « قوم فرعون » ، وقال : « قوم تبع » ؛ لأن فرعون كان هو المعتبر ، المستبدّ بأمره ، وتبَّع كان معتضداً بقومه فجعل الاعتبار لفرعون وخصه بالذكر . وتبع هو تبع الحِمْيرِيّ ، واسمه سعد أبو كرب . قال قتادة : ذم الله قوم تبع ولم يذمه وتقدم ذكره في سورة الدخان .
قوله : « الأَيْكَة » تقدم الكلام عليها في الشعراء . وقرأ ههنا لَيْكَةَ - بزنة ليلة - أبو جعفر وشيبةُ ، وقال أبو حيان : وقرأ أبو جعفر وشيبة وطلحة ونافع الأيكة - بلام التعريف - والجمور لَيْكَة . وهذا الذين نقله غفلة منه بل الخلاف المشهور إنما هو في سورة الشعراء و « ص » كما تقدم تحقيقه وأما هنا فالجمهور على لام التَّعرِيْف .
قوله : « كُلٌّ » التنوين عوض عن المضاف إليه . وكان بعض النحاة يُجيزُ ( حَذْفَ ) تنوينها وبناءَها على الضم كالغاية نحو : قَبْلُ وبَعْدُ . واللام في الرسل قيل لتعريف الجنس وهو أن كل واحد كذب جميع الرسل وذلك على وجهين :
أحدهما : أن المكذب للرسول مكذب لكل الرّسل .
وثانيهما : أن المذكورين كانوا منكرين للرسالة والحشر بالكلية .
قوله : « فَحَقَّ وَعِيدِ » أي وجب لهم عذابي أي ما أوعد الله تعالى من نُصرة الرسل عليهم وإهلاكهم .
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
قوله : « أَفَعَيِينَا » العامة على ياء مكسورة بعدها ياء ساكنة . وقرأ ابنُ عَبْلَةَ أفعُيِّنا بتشديد الياء من غير إشباع ، وهذه القراءة على إشكالها قرأ بها الوليدُ بن مسلم وأبو جعفر وشيبةُ ونافعٌ في رواية . وروى ابن خالويه عن ابن عبلة أَفَعُيِّينَا كذلك ، لكنه أتى بعد الياء المشددة بأخرى ساكنة وخرجها أبو حيان على لغة من يقول في عَيِيَ عَيَّ وفي حَيِيَ حَيَّ بالإدغام . ثم لما أسند هذا الفعل وهو مدغم اعتبر لغة بكرِ بْنِ وائل وهو أنهم لا يفكون الإدغامَ في مثل هذا إذا أسندوا ذلك الفعل المدغم لتاء المتكلم ولا إحدى أخواتها التي تسكن لها لام الفعل فيقولون في رَدّ ردّت وردّنا ، قال : وعلى هذه اللغة تكون التاء مفتوحة . ولم يذكر توجيه القراءة الأخرى . وتوجيهها أنها من عَيَّا يُعَيِّي كَحلَّى يُحَلِّي .
فصل
ومعنى أفعيينا بالخلق الأول أي أَعَجَزْنَا حين خلقناهم أولاً فتعبنا بالإعادة . وهذا تقريع لهم لأنهم اعترفوا بالخلق الأول وأنكروا البعث ، ويقال لكل من عجز عن شيء عَيِي بِهِ .
{
بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ } أي شك { مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } وهو البعث . والمراد بالخلق الأول قبل خلقهم ابتداء لقوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] . وقيل : هو خلق السموات لأنه هو الخلق الأول فكأنه تعالى قال : { أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء } [ ق : 6 ] ثم قال : « أَفَعَيِينَا » بهذا ، ويؤيدهُ قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ } [ الأحقاف : 33 ] وقال بعد هذه الآية : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } وعطفه بحرف الواو على ما تقدم من الخلق ، وهو بناء السموات ، ومدّ الأرض ، وتنزيل الماء وإنبات الحبِّ .
فصل
عطف دلائل الآفاق بعضها على بعض بحرف الواو فقال : « وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا ونَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً » ، ثم في الدليل النفسيّ ذكر حرف الاستفهام ، والفاء بعده إشارة إلى أن تلك الدلائل من جنس ، وهذا من جنس ، فلم يجعل هذا تبعاً لذلك ، ومثل هذا مراعى في سورة « يس » حيث قال : { أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ } [ يس : 77 ] .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يعطف الدليل الآفاقيّ ههنا كما عطفه في سورة يس؟
فالجواب - والله أعلم - أن ههنا وُجِدَ منهم استبعاد بقولهم : { ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } [ ق : 3 ] فاستدل بالأكبر وهو خلق السموات ، ثم نزل كأنه قال : لا حاجة إلى ذلك الاستدلال بل في أنفسهم دليل جواز إرْشادِهِمْ لا ليدفع استبعادهم فبدأ بالأَدْنَى وارتقى إلى الأعْلى .
فصل
في تعريف « الخلق الأول » وتنكير « خلق جديد » وجهان :
الأول : أن الأول عرفه كل أحد و « الخلق الجديد » لم يعرفه كل أحد ولم يعلم كيفيته ولأنَّ الكلام عنهم وهم لم يكونوا عالمين بالخلق الجديد .
الثاني : أن ذلك لبيان إنكارهم للخلق الثاني من كل وجه كأنهم قالوا : أيكون لنا خلق على وجه إنكار الإله بالكلية .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } .
قوله : « وَنَعْلَمُ » خبر مبتدأ مضمر تقديره : ونَحْنُ نَعْلَمُ ، والجملة الاسمية حينئذٍ حالٌ . ولا يجوز أن يكون هو حالاً بنفسه ، لأنه مضارع مثبت باشرته الواو ، وكذلك قوله : « ونحن أقرب » .
فصل
إذا قلنا : بأن الخلق الأول هو خلق السموات فهذا ابتداء استدلال بخلق الإنسان ، وإذا قلنا : بأن الخلق الأول هو خلق الإنسان فهذا تتميم للاستدلال بأن خلق الإنسان أول مرة ، وقوله { وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } أي يحدث به قلبه ، ولا يخفى علينا سرائره وضمائره { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } لأن أبعاضه تحجب بعضها بعضاً ولا يحجب علمَ الله شيءٌ ، وهذا بيان لكمال علمِهِ .
قوله : { مِنْ حَبْلِ الوريد } كقولهم : مَسْجِدُ الْجَامِعِ ، أي حبل العِرْقِ الوَرِيدِ . أو لأنَّ الحبل أعم فأضيف للبيان نحو : بعيرُ سَانِيَةٍ أو يراد : حبل العاتق فأضيف إلى الوريد كما يضاف إلى العاتق لأنهما في عضو واحد . قال البغوي : حبل الوريد عرق العُنُق وهو عرق بين الحُلْقُوم والعِلْبَاوَيْنِ تتفرق في البدن ، والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين . والوريد إما بمعنى الوارد وإما بمعنى الوُرُود . والوريدُ عرق كبير في العنق . فقال : إنهما وَرِيدان . قال الزمخشري : عرقان مُكْتَنِفَان بصفحتي العُنُق في مقدّمهما يتصلان بالوتين يردان من الرأس إليه يسمى وريداً لأنَّ الروح ترد إليه وأنشد :
4510-
كَأَنَّ ورِيدَيْهِ رشَاءَا خُلَّبِ ... وقال أبْرَمُ : هو نهر الجسد وفي القلب الوتين ، وفي الظهر الأبهر ، وفي الذراع والفخذ الأكحل واللسان وفي الخنصر الأسلم .
قوله : « إذْ يَتَلَقَّى » ظرف ل « أَقْرَب » ويجوز أن يكون منصوباً باذْكُرْ . والمعنى إذ يتلقى ويأخذ الملكان الموكلان بالإنسان عمله ومنطقه يحفظانه ويكتبانه .
قوله : { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال } أي أحدهما عن يَمِينه والآخر عن شماله فالذي عن اليمين يكتب الحسنات ، والذي عن الشمال يكتب السيئات . وقوله : « قَعِيدٌ » أي قاعد ، فيجوز أن يكون مفرداً على بابه ، فيكون بمعنى مُقَاعِد كخَلِيطٍ بمعنى مخالط . وفيه لطيفة ، وهي أن الله تعالى قال : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد المخالط لأجزائه الداخل في أعضائه والملك متنحٍ عنه فيكون علمنا به أكمل من علم الكاتب ، أو يكون عدل من فاعل إلى فعيل مبالغة كعليم . وجوز الكوفيون أن يكون فعيلٌ واقعاً موقع الاثنين أراد قعوداً كالرسوب يجعل للاثنين والجمع كما قال تعالى في الاثنين : { فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 16 ] . وقال المبرد : الأصل : عن اليمين قعيد وعن الشمال ، فأخر عن موضعه ، وهذا لا يُنَحِّي من وقوع المفرد موقع المثنى ، والأجود أن يدعى حذف إما من الأول أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ، وإما من الثاني فيكون قعيد الملفوظ به للأول .
ومثله قوله :
4511-
رَمَانِي بأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئاً وَمِنْ أَجْل الطَّوِيِّ رَمَانِي
قال المفسرون : أراد بالقعيد اللازم الذي لا يبرح لا القائم الذي هو عند القائم . وقال مجاهد : القَعِيدُ : الرصيد .
قوله : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ } أي ما يتكلم من كلام فيلقيه أي يرميه من فيه { إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } حافظ حاضر . وقرأ العامة « يَلْفِظُ » بكسر الفاء . ومحمد بن ( أبي ) مَعْدَان بفتحها . وَ « رَقِيبٌ عَتِيدٌ » قيل : هو بمعنى رقيبان عتيدان أينما كان . قال الحسن ( رضي الله عنه ) إن الملائكة يجتنبون الإنسان على حالتين عند غَائِطِهِ ، وعند جَمَاعِهِ . وقال مجاهد : يكتبان عليه حتى أنينه في مرضه ، وقال عكرمة : لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه ويُوزَرُ فيه . وقال الضحاك : مَجْلِسُهُمَا تحت الشعر على الحَنَك ومثله عن الحسن يعجبهُ أن ينظف عَنْفَقَتَه . وروى أبو أُمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « كاتب الحسنات على يمين الرَّجل وكاتِبُ السَّيئات على يسار الرَّجُلِ وَكَاتِبُ الْحَسَنَاتِ أَمِينٌ عَلَى كَاتِبِ السَّيِّئاتِ ، فَإذَا عَمِلَ حَسَنةً كَتَبَهَا صَاحِبُ الْيَمِينِ عَشْراً ، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً قَالَ صَاحِبُ الْيَمِينِ لِصَاحِبِ الشِّمَالِ : دَعْهُ سَبْعَ سَاعَاتٍ لَعَلَّهُ يُسَبِّحُ أَوْ يَسْتَغْفِرُ » .
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
قوله : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ } أي غمرته وشدته التي تغشى الإنسان وتجلب على عقله .
قوله : « بالْحَقِّ » يجوز أن تكون الباء للحال أي مُلْتَبسةً بالحقّ والمعنى بحقيقة الموت ، ويجوز أن تكون للتعدية والمراد منه الموت فإنه حق كأن شدة الموت تحضر الموت ، يقال : جاء فلان بكذا أي أحضره ، وقيل : بالحق من أمر الآخرة حتى يتبينه الإنسان ويراه بالعَيَان . وقيل : بما يَؤُول إليه أمر الإنسان من السعادة والشقاوة .
وقرأ عبد الله : سَكَرَاتُ .
ويقال لمن جاءته سكرة الموت : ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تحيد أي تميل ، من حَادَ عن الشيء يَحِيدُ حُيُوداً وحُيُودَةً وحَيْداً . وقال الحسن : تهرب ، وقال ابن عباس - ( رضي الله عنهما - ) تكره وأصل الحَيْدِ : الميلُ ، يقال : حُدْتُ عن الشيء أَحِيدُ حَيْداً ومَحِيداً إذا مِلْت عنه ، و « ذلك » يحتمل أن يكون إشارة إلى الموت وأن يكون إشارة إلى الحق . والخطاب قيل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال ابن الخطيب : وهو مُنْكَر ، وقيل : مع الكافر . وهو أقرب . والأقْوى أن يقال : هو خطاب عامٌّ مع السامع .
قوله : { وَنُفِخَ فِي الصور } عطف على قوله : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ } يعني نفخة البعث { ذَلِكَ يَوْمُ الوعيد } الذي وعد الكفار أن يعذبهم فيه . قال الزمخشري : « ذلك » إشارة إلى المصدر الذي هو قوله : « وَنُفِخَ » أي وقت ذلك النفخ يوم الوعيد . قال ابن الخطيب : وهذا ضعيفٌ؛ لأن « يوم » لو كان منصوباً لكان ما ذكره ظاهراً ، وأما رفع « يوم » فيفيد أن ذلك نفس اليوم ، والمصدر لا يكون نفس الزمان وإنما يكون في الزمان .
فالأولى أن يقال : « ذلك » إشارة إلى الزمان المفهوم من قوله : « ونفخ » لأن الفعل كما يدل على المصدر يدل على الزمان فكأنه قال تعالى : ذلك الزمان يوم الوعيد ، والوعيد هو الذي أَوْعَدَ به من الحَشر ، والمجازاة .
قوله : { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } قيل : السائق هو الذي يسوقه إلى الموقف ومنْه إلى مقعده ، والشهيدُ هو الكاتب . والسائق لازم للبرِّ والفَاجِرِ ، أما البَرُّ فيساق إلى الجنة وأما الفاجر فإلى النار ، قال تعالى : { وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ . . . وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة } [ الزمر : 71 - 73 ] ، والشهيد يشهد عليها بما عملت . قال الضحاك : السائق من الملائكة والشاهد من أنفسهم الأيدي والأرجل ، وهي رواية العَوْفي عن ابن عباس . وقيل : هما جميعاً من الملائكة .
قوله : « مَعَهَا سَائِقٌ » جملة في موضع جر صفة « لِنَفسٍ » أو في موضع رفع صفة « لكُلّ » أو في موضع نصب حالاً من « كُلّ » . والعامة على عدم الإدغام في « معها » وطلحة على الإدغام « مَحَّا » بحاءٍ مشددة ، وذلك أنه أدغم العين في الهاء ، ولا يمكن ذلك فقلبت الهاء حاء ثم أدغم فيها العين فقلبها حاءً .
وسمع : ذَهَبَ مَحُّمْ أي معهم . وقال الزمخشري : ومحل « مَعَهَا سَائقٌ » النصب على الحال من « كُلّ » ؛ لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة . وأنْحى عليه أبو حيان وقال : لا يقولُ هذا مبتدئٌ في النحو ، لأنه لو نعت « كُلُّ نَفْسٍ » مَا نعت إلا بالنكرة . قال شهاب الدين : وهذا منه غير مرض إذ يعلم أنه لم يرد حقيقة ما قاله .
قوله : « لَقَدْ كُنْتَ » أي يقال له : لَقَدْ كُنْتَ ، والقول إما صفة أو حال . والعامة على فتح التاء في « كُنْتَ » والكاف في « غِطَاءَكَ » و « بَصُرَكَ » حملاً على لفظ « كل » من التذكير . والجَحْدَريّ : كُنْتِ بالكسر مخاطبة للنفس . وهو وطلحة بن مصرف : { عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ } بالكسر مراعاة للنفس أيضاً . ولم ينقل صاحب اللوَّامح الكسر في الكاف عن الجَحْدَري ، وعلى كل فيكون قد راعى اللفظ مرةً والمعنى أُخْرَى .
فصل
والمعنى { لقد كنت في غفلة من هذا } اليوم فكشفنا عنك الذي كان في الدنيا وعلى قلبك وسمعك وبصرك { فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ } نفاذ تبصر ما كنت تنكر في الدنيا . وقال مجاهد : يعني نظرك على لسان ميزانك حيث توزن حسناتكَ وسيِّئَاتُكَ . والمعنى أزلنا غَفْلَتَك عنك فبصرك اليوم حديد وكان من قبل كليلاً .
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)
قوله تعالى : { وَقَالَ قَرِينُهُ هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } قيل : المراد بالقرين : الملك الموكل به وهو القعيد والشهيد الذي سبق ذكره { هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } يريد كتاب أعماله معدٌّ محضَرٌ . وقيل : المراد بالقرين الشيطان الذي زين له الكفر والعصيان بدليل قوله : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } [ فصلت : 25 ] وقال : { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] وقال تعالى : { فَبِئْسَ القرين } [ الزخرف : 38 ] فالإشارة بهذا السَّوْق إلى المرتكب للفجور والفسوق . والقعيد معناه المعتد الناد ومعناه أن الشيطان يقول : هذا العاصي شيء هو عندي معتد لجهنم أعتدته لها بالإغواء والإضلال .
قوله : { هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } يجوز أن تكون « ما » نكرة موصوفة و « عتيد » صفتها و « لَدَيَّ » متعلق بعَتِيدٍ أي هذا شيء عتيدٌ لدي أي حاضر عندي ويجوز على هذا أن يكون « لَدَيَّ » وصفاً ل « ما » و « عتيد » صفة ثانية ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هو عتيدٌ ، ويجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي و « لَدَيّ » صلتها ولَدَيَّ خبر الموصول والموصول وصلته خبر الإشارة ويجوز أن تكون « ما » بدلاً من هذا موصولة كانت أو موصوفة ب « لَدَيَّ » و « عتيد » خبر « هذا » . وجوز الزمخشري في « عتيد » أن يكون بدلاً أو خبراً بعد خبر أو خبَر مبتدأ محذوف . والعامة على رفعه ، وعبد الله نصبه حالاً . والأجود حينئذ أن تكون « ما » موصولة؛ لأنها معرفة والمعرفة يكثر مجيء الحال منها . قال أبو البقاء : « ولو جاز ذلك في غير القرآن لجاز نصبُهُ على الحال » كأنَّه لم يطلعْ عليها قراءةً .
قوله : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } اختلفوا هل المأمور واحد أو اثنان؟ فقيل : واحد . وإنما أتى بضمير الاثنين دلالةً على تكرير الفعل كأنه قيل : أَلْقِ أَلْقِ . وقيل : أراد أَلْقَيَنْ بالنون الخفيفة ، فأبدلها ألفاً إجراءً للوصل مُجْرَى الوقف ، ويؤيده قراءة الحسن ( - رضي الله عنه - ) أَلْقِيَنْ بالنون . وقيل : العرب تخاطب الواحد مخاطبةَ الاثنين تأكيداً كقوله :
4512-
فَإنْ تَزْجُرَانِي يَا ابْنَ عَفَّانَ أزْدَجِرْ ... وَإنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَا
وقال آخر :
4513-
فَقُلْتُ لِصَاحِبي : لاَ تَحبسانا ... بِنَزْعِ أُصُولِهِ واجْدَزَّ شِيحَا
وتقول العرب : ويحك ارْجِلاَهَا وازْجُرَاهَا وخُذاها للواحد . قال الفراء : وأصل ذلك أن أدنى أعوانِ الرجل في إبله وغنمه وسفره اثنان فجرى كلام الواحد على صاحبه ، ومنه قولهم في الشعر : خليليَّ . وقال الزجاج : هذا أمر السائق والشهيد . وقيل : للمتلقين .
قوله : { كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } الكفار يحتمل أن يكون من الكُفْر فيكون بمعنى شديد الكفر لأن الشديد في اللفظ بدل على شدة في المعنى ، ويحتمل أن يكون الكُفْران فهو المنكر نعم الله مع كثرتها .
و « العنيدُ » فعيل بمعنى فاعل من عَنِدَ عُنُوداً ، ومنه العِنَادُ . والمعنى عاصٍ معرض عن الحق . قال عكرمة ومجاهد : مجانبٍ للحق ومعاندٍ لله .
قوله : « مَنَّاع للخير » أي كثير المنع للمال والواجب من الزَّكاة وكُلّ حق واجب في ماله هذا إذا قلنا إن الكفار هو المنكر نعم الله تعالى . وإن قلنا : هو من الكفر فهو الذي أنكر دلائل وحدانية الله تعالى مع قوّتها وظهورها ، فكان شديد الكفر عنيداً حيث أنكر الحق الواضح فهو مناع شديد المنع من الإيمان فهو مناع للخير وهو الإيمان الذي هو خَيْرٌ محض ، كأنه يقول : كفر بالله ولم يقتنع بكفره ، حتى مَنَعَ الخير من الغَيْر .
قوله : « مُعتَدٍ » فإن فسرنا المَنَّاع بمنَّاع الزكاة فمعناه لمن يؤدِّ الواجب وتعدى ذلك حتى أخذ الحرام أيضاً بالرِّبا كما كان عادة المشركين ، وإن كان المنّاع بمعنى منع الإيمان فكأنه يقول : مَنَعَ الإيمان ولم يقنع به حتى تعداه ، وأهان مَنْ آمَن ، وآذاهُ ، وأعان من كفر فَآوَاهُ . قال المفسرون : هو الظالم الذي لا يُقرُّ بتوحيد الله تعالى .
وقوله : « مُرِيبٍ » أي شاكّ في التوحيد . ومعناه دخل في الرَّيْب ، وقيل : موقع للغير في الريب بإلقاء الشُّبَه . وإن قيل : بأن المنَّاع مَنَّاعُ الزكاة فمعناه لا يعطي الزكاة لأنه في رَيْبٍ من الآخرة والثواب . قال ابن الخطيب : وفيه ترتيب آخر وهو أن يُقَالَ : هذا بيان أحوال الكافر بالنسبة إلى الله تعالى وإلى الرَّسُول وإلى اليوم الآخر . فقوله : « كَفَّار عَنيد » إشارة إلى حَالِهِ مَعَ اللَّهِ يكفر به ويعاند آياته . وقوله : { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ } ، إشارة إلى حَالِهِ مع الرسول يمنع الناس اتّبَاعَهُ ومن الإنفاق على مَنْ عنده وبتعدَّى بالإيذاء وقوله : « مريب » إشارة إلى حاله بالنسبة إلى اليوم الآخر يَرْتَاب فيه ولا يظن أن الساعة قائمةٌ .
فإن قيل : قوله تعالى : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } إلى غير ذلك يوجب أن يكون الإلقاءُ خاصاً بمن اجتمع فيه هذه الصفات بأسرها والكفر وحده كاف في إثبات الإلقاء في جهنم؟
فالجواب : أن قوله : { كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } ليس المراد منه الوصف المميز كما يقال : أعطِ العالم الزاهدَ بل المراد الوصف المبين لكون الموصوف موصوفاً به إما على سبيل المدح أو على سبيل الذم كقولك : هَذَا حَاتِمٌ السخيُّ . فقوله : { كل كفار عنيد } معناه أن الكافر عنيد ومناع للخير؛ لأن آياتِ الوحدانية ظاهرةٌ ونِعَمَ الله على عباده وافرة وهو مع ذلك عنيد ومناع للخير ، لأنه يمدح دينه ويذم دين الحق فهو يَمْنَعُ ، ومُرِيب لأنه يرتاب في الحَشْر ، وكل كافر فهو موصوف بهذه الصفات .
قوله : « الَّذِي جَعَلَ » يجوز أن يكون منصوباً على الذَّمِّ ، أو على البدل من « كُلَّ » وأن يكون مجروراً بدلاً من « كَفَّارٍ » ، أو مرفوعاً بالابتداء والخبر « فَأَلْقِيَاهُ » . قيل : ودخلت الفاء لشبهِهِ بالشرط ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي هو الذي جعل ، ويكون « فَأَلْقِيَاهُ » تأكيداً .
وجوز ابن عَطِيَّة أن يكون صفة « لِكَفَّارٍ » ؛ قال : من حيث يختص « كفار » بالأوصاف المذكورة فجاز وصفه لهذه المعرفة . وهذا مردودٌ . وقرئ بفتح التَّنوين في « مُرِيب » فراراً من تَوَالي أَرْبع متجانساتٍ .
قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
قوله : « قَالَ قَرِينُهُ » جاءت هذه بلا واو؛ لأنها قصد بها الاستئناف كأن الكافر قال : ربِّ هُو أطغاني فقال قرينه : مَا أَطْغَيْتُهُ بخلاف التي قبلها فإنها عطفت على ما قبلها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول أعني مجيء كل نفس مع المَلَكَيْن وقول قرينه ما قال . قال ابن الخطيب : جاءت هذه بلا واو وفي الأولى بالواو العاطفة لأن في الأولى إشارة وقعت إلى معنيين مجتمعين ، فإن كل نفس في ذلك الوقت يجيء معها سائقٌ وشهيد فيقول الشهيد ذلك القول ، وفي الثاني لم يوجد هناك معنيان مجتمعان حتى يذكر بالواو ، فإن الفاء في قوله : { فَأَلْقِيَاهُ فِي العذاب } [ ق : 26 ] لا يناسب قوله : « قَالَ رَبَّنَا مَا أطْغَيْتُهُ » فليس هناك مناسبة مقتضية للعطف بالواو .
فصل
هذا جواب لكلام مقدر ، كأن الكافر حين يلقى في النار يقول : ربنا أطغاني شَيْطَانِي ، فيقول الشيطان : ربنا ما أطغيته بدليل قوله تعالى : { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ } ؛ لأنَّ المخاصمة تستدعي كلاماً من الجانبين ونظيره قوله تعالى في سورة « ص » : { قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ } [ ص : 60 ] إلى قوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار } [ ص : 64 ] . قال الزمخشري : وهذا يدل على أن المراد بالقرين في الآية المتقدمة هو الشيطان لا الملك الذي هو شهيد وقعيدٌ ، وعلى هذا فيكون قوله : { رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ } ، مناقضاً لقوله : أعتدته .
قال ابن الخطيب : وللزمخشري أن يُجِيبَ بوجهين :
أحدهما : أن يقول ( إن قول ) الشيطان : أعتدته بمعنى زَيَّنْتُ له .
والثاني : أن تكون الإشارة إلى حالين ، ففي الحالة الأولى أنا فعلت به ذلك إظهاراً للانتقام مِنْ بني آدم وتصحيحاً لقوله : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] ثم إذا رأى العذاب وهو معه مشترك يقول : رَبَّنَا ما أَطْغَيْتُه فيرجع عن مقاله عند ظهور العذاب . قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل : المُرادُ بالقرينِ هنا : الملك أي يقول الكافر : ربِّ إن الملك زاد عليّ في الكتابة فيقول الملك : رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتهُ يعني ما زدت عليه وما كتبت إلا ما قال وعمل { ولكن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } أي طويل لا يرجع عنه إلى الحق .
فإن قيل : القائل هنا واحد وقال : رَبَّنَا ما أطغيته ولم يقل : ربِّ وفي كثير من المواضع القائل واحد وقال : ربّ ، كقوله : { رَبِّ أَرِنِي } [ البقرة : 260 ] وقال نوح : { رَّبِّ اغفر لِي } [ نوح : 28 ] { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض } [ نوح : 26 ] { رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ } [ يوسف : 33 ] { رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً } [ التحريم : 11 ] « رَبِّ فَأَنْظِرْنِي » .
فالجواب : أن في جميع تلك المواضع القائل طالب ، ولا يحسن أن يقول الطالب يا رب أعطني وإنما يحسن أن يقول : أعطِنا لأن كونه : « رَبًّا » لا يناسب تخصيصَ الغَالِبِ . وأما هنا فالموضع موضع هبة وعظَمة وعرض حال فقال : ربنا ما أطغيته .
فإن قيل : ما الوجه في اتِّصاف الضَّلالِ بالبُعْدِ؟
فالجواب : أن الضلال يكون أكثر ضلالاً من الطريق فإذا تَمَادى في الضلال وبقي فيه مدة يبعد عن المقصِد كثيراً ، وإذا عدم الضلال قَصُرَت الطريق عن قريب فلا يبعد عن المقصد كثيراً فقوله : « ضلال بعيد » وصف للمصدر بما يوصف به الفاعل ، كما يقال : كلامٌ صَادقٌ ، وعيشةٌ راضيةٌ أي ( و ) ضلال ذو بعد والضلال إذا بعد مَدَاه وامتد الضلال فيه فيصير بَيِّناً ويظهر الضلال لأن من حَادَ عن الطريق ( وبَعُد عنه يبعد عليه الصواب ولا يرى للمقصد أثراً فبيَّن له أنه ضلّ عن الطريق ) وربما يقع في أَوْدِيَةٍ ومَفاوزَ تظهر له أماراتُ الضلال بخلاف من حَادَ قليلاً ، فالضلال وصفه الله بالوصفين في كثيرٍ من المواضع ، فتارةً قال : { في ضلال مبين } ، وأخرى : { في ضلال بعيد } .
فإن قيل : كيف قال : ما أطغيته مع أنه قال : « لأغْويَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ » ؟
فالجواب من ثلاثة أوجه تقدم منها وجهان في الاعتذار عما قاله الزمخشري .
والثالث : أن المراد من قوله : « لأغوينهم » أي لأُديمنّهم على الغِوَاية كما أنّ الضالّ إذا قال له شخص : أنت على الجَادَّة فلا تترُكها ، يقال : إنه يضله . كذا ههنا ، فقوله : « ما أطغيته » أي ما كان ابتداء الإطغاء مِنِّي .
قوله : « لاَ تَخْتَصِمُوا » استئناف أيضاً كأن قائلاً قال : فماذا قال الله له؟ فأجيب : يقال لا تختصموا وقوله : « لَدَيَّ » يفيد مفهومه أنَّ الاختصام كان ينبغي أن يكون قبلَ الحضورِ ، والوقوفِ بين يَدَيَّ .
قوله : « وَقَدْ قَدَّمْتُ » جملة حالية ، ولا بدّ من تأويلها ، وذلك أن النهي في الآخرة وتقدمه الوعد في الدنيا ، فاختلف الزمنان فكيف يصح جعلها حالية؟ وتأويلها هو أن المعنى وقد صح أني قَدَّمْتُ وزمان الصحة وزمان النهي واحدٌ . و « قَدَّمْتُ » يجوز أن يكون « قدمت » على حاله متعدياً والباء مزيدة في المفعول أي قدمت إليكم الوعيد ، كقوله تعالى : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] على قول من قال بزيادتها هناك . وقيل : الباء هنا للمصاحبة ، كقولك : اشْتَرْيتُ الفَرَسَ بِلِجامِهِ وسَرْجِهِ أي معه فكأنه قال : قدمت إليكم ما يجب مع الوعيد عليَّ تركه والإنذار .
قوله : { مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ } أي لا تبديل لقولي ، وهو قوله : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } [ السجدة : 13 ] . وقيل المعنى ما يبدل القول لديَّ أي ما يكذب عندي ولا يغير القول عن وجهه لأني أعلمُ الغيب . وهذا قول الكلبي ، ومقاتل ، واختيار الفراء؛ لأنه قال : { ما يبدَّل القول لدي } ولم يقل : « ما يبدل قولي » . وقيل : معناه ما يبدل القول السابقُ أنّ هذا شقي وهذا سعيد حين خلقت العباد ، فذلك القول عندي لا تبديل له بسَعي ساعٍ .
وهذا ردّ على المُرْجِئَةِ حيث قالوا : ما ورد في القرآن من الوَعيد فَهُو تخويفٌ ولا يحقق اللَّهُ منه شيئاً ، وقالوا : الكريم إذا وعد بخير وَفَى ، وإذا أوعد أخْلَف وَعَفَا . وقيل : المعنى ما يُبَدَّلُ الكفر بالإيمان لَدَيَّ ، فإن القيام عند القيام بين يدي الله في القيامة غير مقبول فقوله : { مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ } إشارة إلى نفي الحال ، كأنه قال : ما يبدل اليومَ لدي القول؛ لأن « ما » إذا دخلت على الفعل المضارع ينفى بها الحال ، تقول : مَاذَا يَفْعَلُ زَيْدٌ فِي بَيْتِهِ؟ فيقال : مَا يَفْعَلُ شيئاً أي في الحال فإذا قلت : ماذا يَفْعَلُ غداً؟ قيلَ : لا يفعل شيئاً إذا أريد زيادة بيان النفي .
قوله : { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } أي فأعاقبهم بغير جُرْم . واعلم أن الظلاَّم مبالغةٌ في الظالم ويلزم من إثباته إثبات أصل الظلم فإذا قال القائل : هو كذاب يلزم أن يكون كثيرَ الكَذِب ، فلا يلزم من نفيه نفي أصلِ الكذب لجواز أن يقال : ليس بكذاب كثير الكذب لكنه يكذب أحياناً . فقوله : { مَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ } يفهم منه نَفي أصلِ الظلم وأن الله ليس بظالم . والوجه في ذلك من وجوه :
الأول : أن الظلام بمعنى الظالم كالتمار بمعنى التامر ، فيكون اللام في قوله : « للعبيد » لتحقيق النِّسبةِ لأن الفَعَّال حينئذ بمعنى ذي ظلم .
الثاني : قال الزمخشري : إن ذَلِكَ أمرٌ تقديريّ كأنه تعالى يقول : لو ظلمتُ عبدي الضعيفَ الذي هو محلّ الرحمة لكان ذلك غايةَ الظلم وما أنا بذلك ، فيلزم من نفي كونه ظلاماً نفي كونه ظالماً ، ويحقق هذا الوجه إظهار لفظ العبيد حيث قال : { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } أي في ذلك اليوم الذي أملأ فيه جهنم مع وُسْعِها حتى تَصِيحَ وتقول : لم يبق لي طاقةٌ بهم ، ولم يبق فيَّ موضع لهم ، « فَهَلْ مِنْ مَزيدٍ » استفهام إنكار .
الثاث : أنه لمقابلة الجمع بالجمع ، والمعنى أن ذلك اليوم مع أني أُلْقِي في جهنم عدداً لا حصر له لا أكون بسبب كثرة التعذيب كثيرَ الظلم لأنه قال : « وما أنا بظلام للعبيد ، يَوْمَ نَقُولُ » ولم يقل : مَا أَنَا بِظَلاَّمٍ في جميع الأزمان . وخصص بالعبيد حيث قال : { ما أنا بظلام للعبيد } ، ولم يطلق فكذلك خصص النفي بنوع من أنواع الظلم ولم يطلق ، ولم يلزم منه أن يكون ظالماً في غير ذلك الوقت .
وبقية الأوجه مذكورة في آل عِمْرَانَ عند قوله : « بظلام للعبيد » { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } [ آل عمران : 11 ] .
فصل
هذه الآية تدل على أن التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه؛ لأنه نفى كونه ظلاماً ولم يلزم منه كونهُ ظالماً ولم يلزم منه كونه ظلاَّماً لِغَيْرهم .
فصل
يحتمل أن يكون المراد الكفار كقوله تعالى : { ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ } [ يس : 30 ] ، المعنى أعذبهم وما أنا بظلام لهم ، ويحتمل أن يكون المراد المؤمنين . والمعنى أن الله تعالى يقول : لو بدلت قولي ورحمت الكافر لكنت في تكليف العباد ظالماً لعبادي المؤمنين لأني منعتهم من الشهواب لأجل هذا اليوم فلو كان ينال من لم يأتِ بما أتى به المؤمن لكان إتيان المؤمن بما أتى به من الإيمان والعبادة غير مفيد ، وهذا معنى قوله تعالى : { لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة } [ الحشر : 20 ] وقوله : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 9 ] ويحتمل أن يكون المراد التعميمَ .
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
قوله تعالى : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ } يوم منصوب إما « بظَلاَّمٍ » ولا مفهوم لهذا؛ لأنه إذا لم يظلم في هذا اليوم فنفي الظلم عنه في غيره أحرى . أو بقوله : { وَنُفِخَ فِي الصور } [ ق : 20 ] . والإشارة بذلك إلى : يَوْمَ نَقُولُ . قاله الزمَخْشَريّ . واستبعده أبُو حَيَّان؛ لكثرة الفواصل أو باذْكُرْ مقدراً أو بأنْذِرْ . وهو على هذين الأخيرين مفعول به لا ظرف . وقرأ نافعٌ وأبو بكْرٍ : يَقُولُ لِجَهَنَّم بياء الغيبة ، والفاعل : الله تعالى ، لتقدم ذكره في قوله : { لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ } [ ق : 28 ] والأعمش : يُقالُ مبنياً للمفعول . وقوله : « هَل امْتَلأتِ » وذلك لما سبق من وعده إياها أنه يملأها من الجنَّةِ والنَّاسِ وهذا السؤال من الله - عزّ وجلّ - لتصديق خبره وتحقيق وَعْدِهِ .
قوله : { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } سؤال تقرير وتوقيف . وقيل : معناه النفي . وقيل : السؤال لخزنتها والجواب مبهم ، فلا بدّ من حذف مضاف أي نقولُ لخزنة جهنم ويقولون ثم حذف . و « المزيد » يجوز أن يكون مصدراً أي مِنْ زيادةٍ وأن يكون اسمَ مفعول أي من شيءٍ تَزيدُونَه أَحْرِقُهُ .
فصل
قال المفسرون : معنى قوله : هل من مزيد أي قد امتلأتُ ولم يبق فِيَّ موضعٌ لم يمتلئ ، فهو استفهام إنكار بمعنى الاستزادة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ( رضي الله عنهم ) وعلى هذا يكون السؤال وهو قوله : هل امتَلأتِ قبل دخول جميع أهلها فيها . روي عن ابن عباس : أن الله تعالى سبقت كلمته : لأمْلأَن جهنم من الجنة والناس أجمعين ، فلما سبق أعداء الله تعالى إليها لا يلقى فيها فوجٌ إلا ذهب فيها ولا يمَلأُها فتقول : ألستَ قد أقسمتَ لتَمَلأَنِّي فيضع قدمه عليها ثم يقول : هل امْتَلأتِ؟ فتقول : قَطْ قَطْ قد امتلأت وليس فِيَّ مزيد .
قوله تعالى : { وَأُزْلِفَتِ الجنة } قربت وأدنيت وقوله : « غَيْرَ بَعِيدٍ » يجوز أن يكون حالاً من « الجنة » ولم يؤنث؛ لأنها بمعنى البُسْتَان ، أو لأن « فَعِيلاً » لا يؤنث؛ لأنه بزنة المصادر ، قاله الزمخشري ومنعه أبو حيان ، وقد تقدم في قوله : { إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ } [ الأعراف : 56 ] ويجوز أن يكون منصوباً على الظرف المكاني ، أي مكاناً غير بعيد ، ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي إزلافاً غير بعيد ، وهو ظاهر عبارة الزمخشري ، فإنه قال : أو شيئاً غير بعيد .
فإن قيل : ما وجه التقريب مع أن الجنة مكانٌ ، والأمكنة يقرب منها وهي لا تقرب؟ فالجواب من وجوه :
الأول : أن الجنة لا تزال ولا يؤمر المؤمن في ذلك اليوم بالانْتِقَال إليها مع بعدها لكن الله تعالى يطوي المسافة التي بين المؤمن والجنة فهو التقريب .
فإن قيل : فعلى هذا ليس إزْلاف الجنة من المؤمن بأولى من إزْلاَفِ المؤمنِ من الجنة فما فائدة قوله : « أزلفت الجنة » ؟
فالجواب : أن ذلك إكرام للمؤمن وبيان لشرفه ، وأنه مِمَّنْ يمشى إليه .
الثاني : قربت من الحصول في الدخول لا بمعنى القرب المكاني .
الثالث : أن الله تعالى قادر على نقل الجنة من السماء إلى الأرض فيقربها للمؤمن ويحتمل أنها أُزْلِفَتْ بمعنى جَمَعَت محاسنها ، لأنها مخلوقة ، وإما بمعنى قرب الحصول لها لأنها تنال بكلمة وحسنة وخص المتقين بذلك لأنهم أحقّ بها .
قوله : { هذا مَا تُوعَدُونَ } هذه الجملة يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون معترضة بين البَدَلِ والمُبْدَلِ منه ، وذلك أن « لِكُلِّ أَوَّاب » بدل من « المتقين » بإعادة العامل .
والثاني : أن تكون منصوبة بقول مُضْمَرٍ ، ذلك القول منصوب على الحال أي مقولاً لهم . وقد تقدم في ( سُورَة ) « ص » أنه قرئ : يُوعَدُونَ بالياء والتاء .
ونسب أبو حيان قراءة الياء من تحت هنا لابن كثير ، وأبي عمرو ، وإنما هي عن ابن كثيرٍ وَحْدَهُ .
فصل
والأواب الرَّجَّاعُ ، قيل : هو الذي يَرْجِعُ عن الذنوب إلى الاستغفار والطاعة ، قال سعيد بن المُسَيِّب : هو الذي يُذْنبُ ثم يتوب ، ثم يُذْنِبُ ثم يتوبُ . وقال الشَّعْبِيُّ ومجاهدٌ : هو الذي يذكر ذنوبهُ في الخَلاَءِ فيستغفر منها . وقال عطاء ، وابن عباس : هو المسبِّح من قوله : { ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ } [ سبأ : 10 ] وقال قتادة : هو المصلِّي . والْحَفِيظُ : هو الذي يحفظ تَوبته من النّقص . وقال ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) - هو الذي يحفظ ذُنُوبَهُ حتَّى يرجع عنها ويستغفر منها . وقال ابن عباس أيضاً : الحفيظ لأمر الله ، وقال قتادة الحفيظ لما استودعه الله من حقِّه . والأوَّابُ والحفيظ كلاهما من باب المبالغة أي يكون كثيرَ الأَوْبِ شديدَ الحِفْظِ .
قوله : « مَنْ خَشِيَ » يجوز أن يكون مجرور المَحَلّ بدلاً ، أو بياناً ل « كُلّ » . وقال الزمخشري : يجوز أن يكون بدلاً بعد بدل تابعاً لكل . انتهى . يعني أنه بدل من كل بعد أن أبدلت « لكلّ » من « لِلْمُتَّقِينَ » . ولم يجعلْه بدلاً آخر من نفس « لِلْمُتَّقِينَ » لأنه لا يتكرر البدل والمبدل منه واحد . ويجوز أن يكون بدلاً من موصوف « أَوَّابٍ وحَفِيظٍ » قاله الزمخشري . يعني أن الأصل لكلّ شخص أوابٍ ، فيكون « مَنْ خَشِيَ » بدلاً من « شَخْص » المقدر . قال : ولا يجوز أن يكون في حكم « أواب وحفيظ » ؛ لأن « مَنْ » لا يوصف بها ، لا يقال : الرجلُ مَنْ جاءني جالسٌ ، كما يقال : الرجل الذي جَاءَني جالسٌ . والفرق بينهما يأتي في الفصل بعده . ولا يوصف من بين الموصولات إلاَّ بالَّذي يعني بقوله : « في حكم أواب » أن يجعل من صفة . وهذا كما قال لا يجوز ، إلا أنَّ أبا حَيَّانَ استدرك عليه الحَصْرَ وقال : بل يوصف بغير الذي من الموصولات كوصفهم بما فيه أل الموصوفة ، نحو : الضَّارِبُ والمَضْرُوب ، وكوصفهم بذُو وذاتِ الطَّائِيَّتَين نحو قولهم : « بالْفَضْلِ ذُو فَضَّلَكُم اللَّهُ بِهِ ، والْكَرَامَةِ ذات أَكْرَمَكُمْ بِهِ » .
وقد جوز ابن عطية في : « مَنْ خَشِيَ » أن يكون نعتاً لما تقدم . وهو مردود بما تقدم . ويجوز أن يرتفع : مَنْ خَشِيَ على أنه خبر ابتداءٍ مضمر أو ينصب بفعل مضمر ، وكلاهما على القطعِ المُشْعِر بالمَدْحِ ، وأن يكون مبتدأ خبره قولٌ مضمر ناصبٌ لقوله : ادْخُلُوها وحُمِلَ أولاً على اللفظ وفي الثَّاني على المَعْنَى .
وقيل : مَنْ خَشِيَ منادى حذف منه حرف النداء أي يَا مَنْ خَشِيَ ادْخُلُوهَا باعتبار الجملتين المتقدمتين وحَذْفُ حرف النداء سائغٌ . وأن تكون شرطية وجوابها محذوف هو ذلك القول ، ولكن ردّ معه فاء أي فيقال لهم . و « بالْغَيْبِ » حال أي غائباً عنه ، فيحتمل أن يكون حالاً من الفاعل أو المفعول أو منهما ، وقيل : الباء المسببة أي خشيةً بسبب الغَيْب الذي أوعد به من عذابه . ويجوز أن يكون صفة لمصدر خشي أي خَشِيهُ خشْيَةً مُلتَبِسَةً بالْغَيْبِ .
فصل
قال ابن الخطيب : إذا كان « مَنْ والَّذي » يشتركان في كونهما من الموصولات فلماذا لا يشتركان في جواز الوصف بهما؟
فنقول : « ما » اسم مبهم يقع على كل شيء فمفهومه هو شيء ، لكن الشيء هو أعم الأشْياء فإن الجَوْهَرَ شيء ، والعَرَضَ شيء ، والواجب شيء ، والممكن شيء ، والأعَمُّ قبل الأخص في الفهم لأنك إذا رأيت شيئاً من البعد تقول أولاً : إنَّه شيء ، ثم إذا ظهر لك منه ما يختص بالناس تقول : إنسان ، فإذا بان لك أنه ذكر قلت : إنه رجل ، فإذا وجدته ذا قوة تقول : شجاعٌ إلى غير ذلك فالأعَمّ أعرف ، وهو قبل الأخَص في الفهم ، فلا يجوز أن يكون صفة ، لأنَّ الصفة بعد الموصوف . هذا من حيث المعقول ، وأما من حيث النَّحْو ، فلأن الحقائق لا يوصف بها ، فلا يقال : جِسْمُ رَجُلٍ جَاءَنِي ، كما يقال : جِسْمُ نَاطِقٍ جَاءَنِي؛ لأنَّ الوصف يقوم بالموصوف والحقيقة تقوم بنفسها لا بغيرها . فقولنا : عالم أي شيء له علم .
فصل
والخَشْيَةُ والخَوْفُ معناهما واحد عند أهل اللغة ، لكن بينهما فَرْقٌ ، وهو أن الخشيةَ خوفٌ من عَظَمَةِ المَخْشِيِّ ، لأن تركيب حروف « شَ يَ خَ » في تقاليبها يلزمه معنى الهيبة ، يقال : شَيْخٌ لِلسَّيِّدِ وللرجل الكبير السِّنِّ ، وهما جميعاً مَهِيبَان والخوف خشيةٌ من ضعف الخاشي ، لأنَّ تركيب « خَ وَ ف » في تقاليبها يدل على الضعف ، ويدل على ذلك أنه حيث كان الخوف من عظمة المخشيّ قال تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } [ فاطر : 28 ] ، وقال : { هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ } [ المؤمنون : 57 ] مع أن الملائكة والجبل أقوياء وحيث كان الخوفُ من ضعف الخاشِي سماه خوفاً قال تعالى :
{
أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } [ فصلت : 30 ] أي بسبب مكروه يلحقكم في الآخرة . وقال تعالى : { خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } [ القصص : 18 ] وقال : « إنِّي أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ » لوحدته وضعفه هذا في أكثر الاستعمال وربما يتخلف ( المُدَّعَى عنه لكن الكثرة كافية ) .
فصل
معنى الآية من خاف الرحمن فأطاعه بالغيب ، ولم يره . وقال الضّحاك والسّدي : يعني في الخلوة حيث لا يراه أحد . قال الحسن : إذا أرخى الستر وأغلق الباب .
{
وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } هذه صفة مدح ، لأن شأن الخائف أن يَهْرب ، فأما المتقي فجاء ربه لعلمه أنه لا ينجي الفِرار منه .
وقوله : « مُنِيبٍ » أي مخلص مقبل على طاعة الله تعالى . والباء في « بِقَلْبٍ » إما للتعدية ، وإما للمُصَاحَبة ، وإما للسببية .
والقلب المنيب كالقلب السليم في قوله تعالى : { إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الصافات : 84 ] أي سليم من الشرك .
قوله : « ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ » الجار والمجرور حال من فاعل « ادْخُلُوهَا » أي سالمين من الآفات فهي حال مقارنة ، أو مسلّماً عليكم فهي حال مقدرة كقوله : { فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] . كذا قيل وفيه نظر ، إذ لا مانع من مقارنة وتسليم الملائكة عليهم حال الدخول بخلاف فَادْخُلُوهَا خالدينَ فإنه لا يعقل الخلود إلا بعد الدخول ، والضمير في « ادْخُلُوهَا » عائد إلى الجنة ، أي ادخلوا الجنة بسلامةٍ من العذاب والهموم وقيل : بسلام من الله وملائكته عليهم .
قوله : { ذَلِكَ يَوْمُ الخلود } قال أبو البقاء : أي ومن ذلكَ يَوْمُ الخلود كأنّه جعل « ذَلِكَ » إشارة إلى ما تقدم من إنعام الله عليهم بما ذكره ، وقيل « ذَلِك » مشارٌ به لما بعده من الزَّمان ، كقولك : هَذَا زَيْدٌ . قال الزمخشري : في قوله : { ذَلِكَ يَوْمُ الخلود } إضمار تقديره : ذَلِكَ يَوْم تَقْرِير الخُلُود . ويحتمل أن يقال : اليوم يُذْكَرُ ويراد به الزمان المطلق سواء كان يوماً أو ليلاً ، تقول : يَوْمَ يُولَدُ لِفُلاَن يكون السرورُ العظيمُ ، ولو ولد له بالليل لكان السرور حاصلاً فالمراد به الزّمان فكأنه تعالى قال : ذَلك زَمَانُ الإقامة الدَّائِمَةِ .
فإن قيل : المؤمن قد علم أنه إذا دخل الجنة خلد فيها فما فائدة القول؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن قوله : { ذَلِكَ يَوْمُ الخلود } قول قاله الله في الدنيا ، إعلاماً وإخباراً ، وليس ذلك قولاً يقولُه عند قوله : « ادخلوها » ، فكأنه تعالى أخبر في يومنا أنَّ ذلك اليوم يومُ الخلود .
الثاني : أن اطمئنان القلب بالقول أكثر .
قوله : { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا } يجوز أن يتعلق « فيهَا » ب « يشاؤون » ويجوز أن يكون حالاً من الموصول ، أو من عائِدِهِ والأول أولى .
فصل
ما الحكمة في أنه تعالى قال : ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ على المخاطبة ، ثم قال : « لَهُمْ » ولم يقل : لَكُم؟
فالجواب من وجوه :
الأول : أن قوله تعالى : « ادْخُلُوهَا » فيه مقدر ، أي فيُقَال لَهُمُ ادْخُلُوها .
فلا يكون التفاتاً .
الثاني : أنه التفات ، والحكمة الجمع بين الطرفين ، كأنه تعالى يقول : غير محلّ بهم في غيبتهم وحضورهم .
ففي حضورهم الحبور ، وفي غيبتهم الحورُ والقُصُور .
الثالث : أنه يجوز أن يكون قوله تعالى : « لَهُمْ » كلاماً مع الملائكة ، يقول للملائكة توكلوا بخدمتهم ، وَاعْلَمُوا أَنّ لهم ما يشاؤون فيها فأَحْضِروا بين أيديهم ما يشاؤون ، وأما أنا فعندي ما لا يخطر ببالهم ولا تَقْدِرُون أنتم عليه .
و « المزيد » يحتمل أن يكون معناه الزيادة ، كقوله تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] ويحتمل أن يكون بمعنى المفعول ، أي عندنا ما نَزيدهُ على ما يَرْجُون ويَأمَلُونَ .
قال أنس وجابر : هو النظر إلى وجه الله الكريم .
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
قوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا } نصب بما بعده . وقدم إما لأنه استفهام ، وإما لأن « كم » الخبرية تَجْرِي مَجْرَى الاستفهامية في التصدير . و « مِنْ قَرْنٍ » تمييز و « هُمْ أَشَدُّ » صفة إما « لكَمْ » وإما لِقَرنْ .
قوله : « فَنَقَّبُوا » الفاء عاطفة على المعنى كأنه قيل : اشتدَّ بطشهم فَنَقَّبُوا والضمير في ( نَقَّبُوا ) إما للقرون المتقدمة وهو الظاهر وإما لقُرَيْشٍ ، ويؤيده قراءة ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) - وابن يَعْمُرَ ، وأَبِي العَالِيَة ، ونَصْرِ بن يَسَار ، وأبي حيوة ، والأصمعي - عن أبي عمرو - ( رضي الله عنهم ) فَنَقِّبُوا - بكسر القاف - أمراً لهم بذلك .
والتَّنْقِيبُ التَّنْقِيرُ والتّفتيش ، ومعناه التَّطْوَافُ في البلاد ، قال الحارُ بنُ حِلِّزَةَ :
4514-
نَقَّبُوا فِي الْبِلاَدِ مِنْ حَذَرِ الْمَو ... تِ وَجَالُوا فِي الأَرْضِ كُلَّ مَجَالِ
وقال امرؤ القيس :
4515-
وَقَدْ نَقَّبْتُ فِي الآفَاقِ حَتَّى ... رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالإيَابِ
وقرأ ابنُ عَباسٍ وأبو عمرو أيضاً في رواية : نَقَبُوا بفتح القاف خفيفة . ومعناها كما تقدم . وقرئ : نَقِبُوا بكسرها خفيفة أي نَقِبَتْ أقدامُهُمْ وَأَقْدَام إبلهم ودَمِيَتْ فحذف المضاف ، وذلك لكثرة تَطْوَافِهِمْ .
قوله : { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } مبتدأ أو خبر مضمر تقديره : هل لمن سلك طريقهم . أو هل لهم من محيص . وهذه الجملة يحتمل أن تكون على إضمار قولٍ وأن لا تكون .
فصل
المعنى فَنَقَّبُوا أي فضربوا وسافروا وتقلبوا ، وأصله من النَّقب وهو الطريق كأنهم سلكوا كُلَّ طريق ، فلم يجدوا محيصاً من أمر ا لله . وعلى هذا فالمراد بهم أهل مكة ، أي ساروا في الأسفار ورأوا ما فيها من الآثار ولم يجدوا ملجأ ومهرباً .
وقيل : المعنى صاروا نُقَبَاء في الأرض أراد ما أفادهم بَطْشُهُم وقُوَّتُهُم؛ لأن الفاء تدل على ترتيب الأمر على مقتضاه تقول : كانَ زَيْدٌ أَقوى من عَمْرٍو فَغَلَبَهُ . والمعنى كانوا أشدَّ منهم بطشاً فصاروا نقباءَ في الأَرْضِ ، وهم قوم ثمود الذين جابوا الصخر بالواد ، ومن قوتهم خَرَقُوا الطُّرق ونَقَّبُوها وقَطَعُوا الصُّخُورَ .
وقيل : { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } مفر من الموت ، فلم يجدوا . وهذا جمع بين الإنْذارِ بالعذاب العاجل والعقاب الآجل؛ لأنه أنذرهم بما يعجل لهم من العذاب المُهْلِك ، والإهلاك المُدْرك . وهذا إنذار لأهل مكة لأنهم على مثل سَبِيلهم .
فإن قيل : إذا كان ( ذلك للجمع ) بين الإنذار بالعذاب العاجل والعقاب الآجل فَلِمَ توسَّطَهُمَا قوله تعالى : { وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ } [ ق : 31 ] ؟
فالجواب : ليكون ذلك رَدْعاً بالخوف والطمع ، فذكر حال الكفور ( المعاند ) ، وحال الشكور ترهيباً وترغيباً .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يجمع بين التَّرْهيب والترغيب في العاجلة كما جمع بينهما في الآجلة ولم يذكر حال من أسْلَمَ من قبل وأنعم عليه كما ذكر حال من أشرك به وأهلكه؟
فالجواب : أن النعمة كانت قد وصلت إليهم ، وكانوا مُتَقَلِّبين في النِّعم فلم يُذَكِّرْهم به ، وإنما كانوا غافلين عن الهلاك فأنذرهم به وأما في الآخرة فكانوا غافلين عن الأمْرين جميعاً فأخبرهم بها .
وقوله : { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } استفهام بمعنى الإنكار أي لم يكن لهم محيصٌ . وقيل : هو كلام مستأنف كأنه تعالى يقول لقوم محمد - عليه الصلاة والسلام - هم أهلكوا مع قوة بطشهم فهل من محيص لكم تَعْتَمِدُونَ عَلَيْه؟
ومن قرأ بالتشديد فهو مفعول أي بحثوا عن المَحِيص { هَلْ مِن مَّحِيصٍ؟ } .
والمَحِيصُ كالمَحِيدِ غير أن المحيص مَعْدَل ومهرب عن الشدة بدليل قولهم : « وَقَعَوا فِي حَيْصَ بَيْصَ » أي في شدةٍ وضيق ، والمَحِيدُ مَعْدَلٌ وإن كان بالاختيار ، فيقال : حَادَ عن الطَّريق بَطراً . ولا يقال : حَاصَ عن الأَمر بَطَراً .
قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى } ذلك إشارة إلى الإهلاك ، أو إلى إزلاف الجنة . و « الذّكرى » مصدر أي تَذْكِرةٌ وعظةٌ { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } .
قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) - : أي عَقْل . قال الفراء : هذا جائز في العربية تقول : مَا لَكَ قَلْبٌ وَلاَ قَلْبُكَ مَعَكَ ، أي عَقْلُك مَعَكَ .
وقيل : له قلب حاضر مع الله . وقيل : قلبٌ واع؛ وذلك لأن من لا يتذكر كأنَّه لا قلب له ، ومنه قوله تعالى : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الأعراف : 179 ] أي هم كالجماد ، وقوله تعالى : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } [ المنافقون : 4 ] أي لهم صُوَر ، وليس لهم قلب ، ولا لسانٌ للشُّكْر .
قوله : { أَوْ أَلْقَى السمع } العامة على « أَلْقَى » مبنياً للفاعل ، وطَلْحَةُ والسُّلَمِيُّ والسُّدِّيُّ وأبو البرهسم : أُلْقِيَ مبنياً للمفعول « السَّمْعُ » رفع به . وذكرت هذه القراءة لِعَاصِمٍ عن السّدّيّ فمقته وقال : أليس يقول : يُلْقُونَ السَّمْعَ وإلقاء السمع كناية عن الاستماع ، لأن الذي لا يسمع كأنه حفظ سمعه فأمسكه والمعنى اسْتَمَع الْقُرْآنَ واستمع ما يقال له ، لا يحدث نفسه بغيره ، تقول العرب : أَلْقِ إلَيَّ سَمْعَكَ ، أي استمعْ ، أو يكون معناه : لمن كان له قلبٌ فقصد الاستماع ، أو أَلْقَى السمع بأن أرْسَلَه وإن لم يقصد السماع .
«
وَهُو شَهِيدٌ » حاضر الذِّهن .
ويحتمل أن يقال : الإشارة بذلك إلى القرآن في أول السورة أي في القرآن الذي سبق ذكره ذكرى لمِن كَان لَهُ قلب ، أو لمن استمع ويكون معنى « وهو شهيد » أي المنذر الذي تَعَجَّبْتُم منه وهو شهيد عليكم كقوله : { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } [ الأحزاب : 45 ] .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أعاد الدليل مرة أخرى وقد مرّ تفسيره في الم السجدة ، فقيل : إن هذا ردّ على اليهود في قولهم : إن الله - سبحانه وتعالى - استراح يوم السَّبْتِ . والظاهر أنها ردّ على المشركين ، أي لم يَعْيَ عن الخلق الأول فكيف يعجز عن الإعادة؟
قال ابن الخطيب : وأشار بقوله : فِي ستَّة أيام إلى ستة أطْوَارٍ لأَنَّ المراد من الأيام لا يمكن أن يكون هو المفهوم من وضع اللغة ، لأن اليوم في اللغة عبارة عن زمان مُكْثِ الشَّمْس فوق الأرض من الطُّلوع إلى الغُرُوب . وقيل : خلق السموات لم يكن شمسٌ ولا قمرٌ لكن اليوم يطلق ويراد به الوقت ، يقال : يَوْمَ يُولَدُ لِلْمَلِكِ ابْنٌ يَكُونُ سُرُورٌ عَظيمٌ ويَوْمَ يَمُوت فُلاَنٌ يَكُون حُزْنٌ شَدِيدٌ ، وإن اتفقت الوِلادة أو الموت لئلا لا يتعين ذلك . وقد يدخل في مراد القائل ، لأنه أراد باليوم مُجَرّد الوقتِ .
قوله : { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } يجوز أن يكون حالاً ، وأن يكون مستأنفاً . والعامة على ضَمِّ لام اللُّغُوب . وعليٌّ وطلحةُ والسُّلَمِيّ ويَعْقُوبُ بفتحها . وهما مصدران ( بمعنًى ) . وينبغي أن يضم هذا إلى ما حكاه سِيبويه من المصادر الجائية على هذا الوزن وهي خمسة وإلى ما زاده الكسائي وهو الْوَزُوعُ فتصير سبعةً ، وقد تقدم هذا في البقرة عند قوله تعالى : { وَقُودُهَا الناس والحجارة } [ البقرة : 24 ] واللّغوب العناءُ والتّعَبُ .
قوله تعالى : { فاصبر على مَا يَقُولُونَ } من كَذِبِهِمْ ، وقولهم بِالاسْتِرَاحَةِ ، أو على قولهم : إن هذا لشيء عَجِيبٌ . وهذا قبل الأمر بقتالهم .
{
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } قيل : هذا أَمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة كقوله تعالى : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل } [ هود : 114 ] وقوله { قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب } إشارة إلى طرفي النهار ، وقوله : { وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ } إشارة إلى { زُلَفاً مِّنَ الليل } [ هود : 114 ] .
وتقريره أنه - عليه الصلاة والسلام - كان مشتغلاً بأمرين :
أحدهما : عبادة الله .
والثاني : هداية الخلق ، فإذا لم يهتدوا قيل له : أقبل على شغلك الآخر وهو العبادة .
وقيل : معنى سَبِّحْ بحمد ربك ، أي نَزِّههُ عما يقولون ولا تَسْأَمْ من تذكيرهم بعَظَمَةِ الله ، بل نَزِّهه عن الشرك والعجز عن الممكن وهو الحشر قبل الطلوع وقبل الغروب؛ فإنهما وقت اجتماعهم ويكون المراد بقوله : { وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ } أوله ، لأنه أيضاً وقت اجتماعهم .
وقيل : المعنى : قُلْ سُبْحَان الله ، لأن ألفاظاً جاءت بمعنى التلفظ بكلامهم كقولهم : كَبَّر لمن قال : اللَّهُ أَكْبَرُ وسلَّم لمن قال : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ، وحمَّد لمن قال : الْحَمْدُ لله . وهلَّك لمن قال : لاَ آله إلاَّ الله ، وسبَّح لمن قال : سُبْحَان الله ، وذلك أن هذه أمورٌ تَتَكَرَّر من الإنسان في الكلام ، [ فدعت ] الحاجة إلى استعمال لفظة واحدة مفيدة للكلام وقالوا : هلل بخلاف قَوْلِهِمْ : زَيْدٌ فِي السُّوقِ ، فإنَّ من قال : زيد في السوق وأراد أن يخبر عنه بذلك لا يجد لفظاً واحداً مفيداً لذلك لعدم تكرره .
ومناسبة هذا الوجه : هو أن تكذيبهم وإنكارهم يقتضي مقابلتهم باللَّعْنِ ، فقيل له : اصْبِرْ عَلَيْهِمْ ، واجعل بدل الدعاء عليهم التسبيح لله ، والحمد لله ، { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت } [ القلم : 48 ] أو كنوحٍ - عليهما الصلاة والسلام - حيث قال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ]
فصل
وقد استعمل التسبيح مع الباء ومع اللام وبدونهما . فإن قلنا : المراد بالتسبيح الصلاة فيحتمل أن يكون المراد بحمد ربك : الأمر بقراءة الفاتحة ، كقولك : صَلَّى فلانٌ بسورة كذا . وهذا بعيدٌ .
وإن قلنا المراد : قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ ، فالباء للمصاحبة . وكذلك إن قلنا : معناه التَّنْزِيهُ أي نَزِّهْهُ واحمَدْهُ وَفَّقَكَ لتسبيحه فيكون المفعول محذوفاً ، للعلم به ، أي نزه الله بحمد ربك ، أي ملتبساً أو مقترناً بحمد ربك .
وأما اللام فإمّا أن يكون من باب شَكَرَ ونَصَحَ ، وإما أن يكون معناها خالصاً لله .
وأما تعدّيه بنفسه فهو الأصل . وأعاد الأمر للتسبيح ، إما تأكيداً وإما أن يكون الأول بمعنى الصلاة ، والثاني بمعنى التَّسْبِيح والذكر . ودخلت الفاء؛ لأن المعنى : وأمَّا من الليل فسبحه .
ولما ذكر أوقات الصلوات ذكر أدْبَار السُّجود؛ ليَعُمَّ الأوقات فيكون كقوله : { فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب } [ الشرح : 7 ] و « من » إما لابتداء الغاية ، أو مِنْ أوَّل الليل ، وإمَّا للتبعيضِ .
فصل
قال المفسرون : قبل طلوع الشمس يعني صلاة الصبح ، وقبل الغروب يعني العصر ، وروي عن ابن عباس : قبل الغروب الظهر والعصر { وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ } يعني صلاة المغرب ، والعِشَاءِ . وقال مجاهد : ومِنَ الليل يَعْنِي صلاة الليل ، أيّ وقت صلى .
قوله : « وأدبار السجود » قرأ نافع وابن كثير ، وحمزة : إدبار بكسر الهمزة ، على أنه مصدر قَامَ مَقَام ظَرْف الزمَان كقولهم : آتِيكَ خُفُوقَ النّجم وخِلاَفَة الحجّاج . ومعنى وقت إدبار الصلاة أي انتصابها وتمامها . والباقون بالفتح جمع ( دُبُر ) وهو آخر الصلاة وعقبها . ومنه قول أوس :
4516-
عَلَى دُبُر الشَّهْرِ الْحَرَام فَأَرْضُنَا ... وَمَا حَوْلَهَا جَدْبٌ سِنُونَ تَلَمَّعُ
ولم يختلفوا في : { وَإِدْبَارَ النجوم } [ الطور : 49 ] .
وقوله : « وأدبار » معطوف إمّا على « قَبْلَ الْغُرُوبِ » وإمّا على « وَمِنَ اللَّيْلِ » .
فصل
قال عمرُ بن الخطاب ، وعليُّ بن أبي طالب ، والحسنُ ، والشعبيُّ ، والنخعيُّ والأوزاعي : أدبار السجود الركعتان قبل صلاة الفجر ، وهي رواية العَوْفي عن ابن عباس . وروي عنه مرفوعاً . وهذا قول أكثر المفسرين . وقال مجاهد : أدبار السجود هو التسبيح باللِّسان في أدبار الصلوات المكتوبات ، قال - عليه الصلاة والسلام - : « مَنْ سَبَّحَ فِي دُبُر كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثاً وثلاثين وَكَبَّرَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ وَحَمَّدَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ » فَذَلك تِسْعَةٌ وتسعُونَ ثم قال : « تَمَام المِائَةِ لا إله إلا الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ له الْمُلْكُ وَلهُ الْحَمْدُ يُحيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ » .
قوله تعالى : { واستمع يَوْمَ يُنَادِ } هو استماع على بابه . وقيل : بمعنى الانتظار . وهو بعيد . فعلى الأول يجوز أن يكون المفعول محذوفاً ، أي استمع نِدَاءَ المنادي ، أو نداء الكافر بالوَيْل والثبور ، فعلى هذا يكون « يَوْمَ يُنَادِي » ظرفاً ل « اسْتَمِعْ » أي استمع ذلك فِي يَوْم . وقيل : استمع ما أقول لك فعلى هذا يكون « يَوْمَ يُنَادِي » مفعولاً به أي انتظر ذَلِكَ الْيَوْمَ .
وَوَقَفَ ابن كثير على « يُنَادِي » بالياء . والباقون دون ياء . ووجه إثباتها أنه لا مقتضي لحذفها . ووجه حذفها وقفاً اتباع الرسم وكأن الوقْفَ محلّ تخفيفٍ .
وأما « المنادي » فأثبت ابن كثير أيضاً ياءَه وصلاً ووقفاً . ونافع وأبو عمرو بإثباتها وصلاً وحذفها وقفاً ، وباقي السبعة بحذفهما وصلاً ووقفاً . فمن أثبت ، فلأنه الأصل ، ومن حذف فلاتباع الرسم . ومن خص الوقف بالحذف فلأنه محلّ راحة ومحلّ تغيير .
فصل
في « واستمعْ » وجوه :
الأول : أن يكون مفعوله محذوفاً رأساً ، والمقصود : كُنْ مستمعاً ولا تكن مثلَ هؤلاء المُعْرِضين الغافلين ، يقال : هو رجل سَمِيعٌ مطيعٌ ، ولا يراد : مسموع بعينه .
الثاني : استمع ما يوحى إليك .
الثالث : استمع نداء المنادي .
فإن قيل : « استمع » عطف على « فَاصْبِرْ » وَ « سَبِّحْ » وهو في الدنيا ، فالاستماع يكون في الدنيا وما يوحى ( يكون ) « يوم ينادي » لا يسمع في الدنيا .
فالجواب : أنه لا يلزم ذلك ، لجواز أن يقال : صَلِّ وادْخُلِ الْجَنَّةَ أي صل في الدنيا وادخل الجنة في العُقْبَى فكذا ههنا .
ويحتمل أن يكون استمع بمعنى انْتَظِرْ . ويحتمل أن يكون المراد : تَأَهَّبْ لهذه الصيحة لئلا يَفْجَأكَ فيُزْعجكَ . والمراد بالمنادي : إما الله تعالى بقوله : { احشروا الذين ظَلَمُواْ } [ الصافات : 22 ] وبقوله : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } [ ق : 24 ] أو بقوله : { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ } [ النحل : 27 ] ويحتمل أن يكون المراد بالمنادي : إسرافيل قال مقاتل : ينادي إسرافيل بالحشر يا أيتها الْعِظَامُ البالية ، والأوْصال المتقطعة ، واللحوم المتمزقة ، والشُّعور المتفرقة ، إن الله يأمركم أن تجْتَمِعُوا لفَصْل القضاء . أو يكون النداء للنفس فقال : { ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ } [ الفجر : 27 - 28 ] إذْ ينادي المنادي هؤلاء للجنة ، وهؤلاء للنار ، ويحتمل أن يكون المنادي : هو المكلف لقوله : { وَنَادَوْاْ يامالك } [ الزخرف : 77 ] . والظاهر الأول؛ لأن اللام للعهد والتعريف . والمعهود السابق قوله : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } [ ق : 24 ] .
وقوله : { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } أي لا يخفى على أحد . وقيل : منْ صَخْرَة بَيْتِ المَقْدِس وهي وسط الأرض . قال الكلبي : هي أَقرب الأَرض إلى السماء بثمانيةَ عَشَرَ ميلاً .
قوله : « يَوْمَ يَسْمَعُونَ » بدل من « يَوْمَ يُنَادِي » و « بِالْحَقِّ » حال من « الصَّيْحَة » أي ملتبسة بالحق أو من الفاعل أي يسمعون مُلْتَبِسِينَ بسماع الحق .
قوله { ذَلِكَ يَوْمُ الخروج } يجوز أن يكون التقدير : ذلك الوقت - أي وقت النداء والسماع - يوم الخروج . ويجوز أن يكون « ذلك » إشارة إلى النداء ، ويكون قد اتسع في الظرف فأخبر به عن المصدر ، أو فقدر مضاف ، أي ذَلِكَ النداء والاستماع نداءُ يوم الخروج ، واستماعه . واللام في « الصَّيحة » للتعريف ، لقوله : { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } [ يس : 29 ] . والمراد بالحق : الحشر أو اليقين ، يقال : صَاحَ فلانٌ بِيَقِين لا بظنٍّ وتخمين أي وجد منه الصياح يقيناً لا كالصَّدى وغيره ، أو يكون المراد المقترنة بالحق ، يقال : اذْهَبْ بالسَّلاَمة وارْجِع بالسَّعَادَة أي مقروناً ومصحوباً .
وقيل : « بالْحَقِّ » قسم ، أي يسمعون الصيحة بالله ( وَ ) الْحَقِّ . وهو ضعيف وقوله : { ذَلِكَ يَوْمُ الخروج } أي من القبور .
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
قوله : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ } قد تقدم الكلام على قوله : « إنَّا نَحْنُ » في سورة يس . وأما قوله « نُحْيِِي ونُمِيْتُ » فالمراد من الإحياء الإحياء أولاً ، وقوله : « وَنُمِيتُ » إشارة إلى الموتة الأولى و « إلَيْنَا المَصِيرُ » بيان للحشر . وهذا إشارة إلى قدرته على الحشر .
قوله : « يَوْمَ تَشَقَّق » يجوز أن يكون بدلاً من « يَوْم » قبله . وقال أبو البقاء : إنه بدل من « يَوْم » الأَوَّل . وفيه نظر من حيث تعدد البدل والمبدل منه واحدٌ . وقد تقدم أنَّ الزَّمخشريَّ مَنَعَهُ .
ويجوز أن يكون « الْيَوْمَ » ظرفاً للمَصِيرِ أي يصيرون إلينا يوم تَشَقَّقُ الأَرْض . وقيل ظرف للخروج . وقيل منصوب ب « يَخْرجُونَ » مقدراً .
وتقدم في الخلاف في « تَشَقَّقُ » في الفُرْقَان .
وقرأ زيد بن علي : « تتشقّق » بفك الإدْغَام .
قوله : « سِرَاعاً » حال من الضمير في « عَنْهُمْ » والعامل فيها « تَشَقَّقُ » .
وقيل : عاملها هو العاقل في « يَوْمَ تَشَقَّقُ » المقدّر أي يَخْرُجُون سراعاً يو تشقق؛ لأن قوله تعالى : { عَنْهُمْ } يفيد كونهم مفعولين بالتشقق ، فكأن التشقق عُدِّي بحرف الجر ، كما يقال : « كَشَفْتُ عَنْهُ فَهُوَ مَكْشُوفٌ » ، فيصير « سراعاً » هيئة المفعول كأنه قال : مُسْرِعِينَ .
والسراع جمع سريع ، كالكِرَام جمع كَرِيم . وقوله : « ذَلِكَ » يحتمل أن يكون إشارة إلى التَّشقُّق عَنْهُمْ وإشارة إلى الإخراج المدلول عليه بقوله : « سِرَاعاً » ، ويحتمل أن يكون معناه ذلك الحشر حشر يسير . والحَشْر الجمع .
قوله : « عَلَيْنَا » متعلق ب « يَسِيرٌ » ففصل بمعمول الصّفة بينها وبين موصوفها . ولا يضرّ ذلك . ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال منه؛ لأنه في الأصل يجوز أن يكون نعتاً .
وقال الزمخشري : التقديم للاختصاص ، أي لا يَتيَسَّر ذلك إلا على الله وحده أي هو علينا هيِّن لا على غيرنا وهو إعادة جواب لهم .
قوله تعالى : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } يعني كفار مكة في تكذيبك ، وهذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويحتمل أن يكون تهديداً وتخويفاً لأن قوله : « وَإلَيْنَا الْمَصِيرُ » ظاهر في التهديد ، وبالعلم يكمل . ونظيره قوله تعالى : { ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } [ الزمر : 7 ] .
ويحتمل أن يكون تقريراً لأمر الحشر بالعلم؛ لأنه لما بين أن الحشر يسير لكمال قدرته ونفوذ إرادته ، ولكن تمام ذلك بالعلم الشامل حتى يتبين جزء زيد وجزء بدن عمرو ، فقال : { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } لكمال قدرتنا ، ولا يخفى عَليْنا الأجْزاء لكمال علمنا .
وقوله : « أَعْلَمُ » إما ليست للمشاركة في أصل الفعل كقوله :
{
وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] أو معناه نَحْن أَعْلَمُ به من كل عالم بما يعلمه .
قوله : { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } أي بمسلِّط تجبر على الإسلام ، وهذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - أي أنك لست حفيظاً عليهم ، ومكلفاً بأن يؤمنوا ، إنما أنت منذر ، وقد فعلت ما أُمِرْتَ بِهِ .
قال المفسرون : هي منسوخة بآية القتال .
قوله : { فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ } الخلاف في ياء { وَعِيدِ } [ ق : 14 ] إثباتاً وحذفاً . والمعنى دُم على الإنذار ولا تترك الهداية بالكلية ، بل ذكِّر المؤمنين فإن الذكرى تنفَعُ المؤمنين .
وقوله : « بِالْقُرْآنِ » أي اتل عليهم القرآن ليحصل لهم المنفعة بسبب ما فيه أو فَذكِّر بالقُرْآنَ بين به أنك رسول الله لكونه معجزاً ، أو يكون المراد فذكر بمقتضى ما في القرآن من الأوامر الواردة بالتبليغ والتذكير . وفي قوله : فذكر إشارة إلى أنه مُرْسَل مأمور بالتذكير بالقرآن المنزل عليه ، وقوله « وَعِيدِ » إشارة إلى اليوم الآخر وقوله : ( وَعيدِ ) إشارة إلى الوحدانية ، إذ لو قال : وعيد الله لذهب الوَهْمُ إلى كل صَوْب . وضمير المتكلم أعرفُ المعارف ، وأبعد عن الاشتراك . وقد تقدم أن أول السورة وآخرها مشتركان في المعنى حيث قال في الأول : { ق والقرآن المجيد } [ ق : 1 ] ، وقال في آخرها : « فَذَكِّرْ بِالقُرْآنِ » .
روى أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ قَرَأَ سُورَة ق هَوَّنَ الله عَلَيْهِ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ » .
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
قوله تعالى : { والذاريات ذَرْواً } أول هذه السورة مناسب لآخرها قبلها ، لأنه تعالى لما بين الحشر بدلائله ، وقال : { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } [ ق : 44 ] وقال : { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } [ ق : 45 ] تُجْبِرهم على الإيمان ، إشارة إلى إصرارهم على الكفر بعد إقامة البرهان ، وتلاوة القرآن عليهم ، لم يبق إلا اليمين فقال : { والذاريات . . إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } وقال في آخرها { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ } [ الذاريات : 60 ] .
فصل
وفي الحكمة في القسم ههنا وجوه :
أحدها : أن الكفار كانوا يَنْسبون النبي - صلى الله عليه وسلم - للجدال ، ومعرفة طرقه ، وأنه عالم بفساد قولهم ، وأنه يغلبهم بمعرفته بالجدال ، وحينئذ لا يمكن أن يقابلهم بالأدلة ، كما أن من أقام خَصْمُه عليه الدليل ولم يبق له حجة ، يقول : إنه غلبني ، لعلمه بالجدل وعجزي عن ذلك ، وهو يعلم في نفسه أن الحق تبعي ولا يبقى للمتكلم المبرهن غير اليمين ، ليقول : والله إن الأمر كما أقول ولا أجادلك بالباطل لأنه لو استدل بطريق آخر يقول خصمه فيه كقوله الأول ، فلا يبقى إلا السكوت ، أو التمسك بالأيمان ، وترك إقامة البرهان .
الثاني : أن العرب كانت تحترز عن الأيمان الكاذبة ، وتعتقد أنها تخرب المنازل ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر الإقسام ، دلالة على أنه صادق ولذلك كان أمره يتزايد ويعلموا أنه لا يحلف بها كاذباً .
الثالث : أن الأيمان التي أقسم بها كلها دلائل أخرجت في صورة الأيمان لينبّه بها على كمال القدرة ، كقول القائل للمنعم : وحقِّ نِعْمَتِك الكثيرة إنّي لا زال أَشْكُركَ . فذكر النعم التي هي سبب مفيد لدوام الشكر ، وإنما أخرجها مُخْرج الإيمان ، إيذاناً بأنه يريد أن يتكلم بكلام عظيم فيصغي إليه السامع أكثر ما يصغي إليه حيث يعلم أن الكلام ليس بمعتبر فبدأ بالحلف .
فصل
أورد القسم على أمور منها الوحدانية ، ولظهور أمرها واعترافهم بها حيث يقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] وقولهم : { مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] لم يقسم عليها إلا في سورة الصافات ومنها الرسالة وهو في سورتين « وَالنَّجْمِ » « وَالضُّحَى » ، وبالحروف في « يس » ومنها الحشر ، والجزاء وما يتعلق به ، فلكثرة إنكارهم له كرر القسم عليه .
فصل
أقسم الله بجمع السلامة المؤنث في سور خمس ، ولم يقسم بجمع السلامة المذكر في سورةٍ أصلاً ، فلم يقل : والصَّالِحِينَ من عبادي ، ولا المقربين إلى غير ذلك مع أن المذكر أشرف؛ لأن جموع السلامة بالواو والنون في الغالب لمن يعقل .
فصل
روي عن علي - ( رضي الله عنه ) - في قوله تعالى : { والذاريات } قال هي الرياح التي تَذْرُو التُّراب يقال : ذَرَتِ الرِّيحُ التُّرَابَ وأَذْرَتْ « الحَامِلاَت وقْراً » يعني السحاب تحمل ثِقْلاً من الماء « فَالجَارِيَاتِ يُسْراً » هي السفن تجري في الماء جرياً سهلاً « فَالمُقَسِّماتِ أَمْراً » هي الملائكة يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به ، أقسم بهذه الأشياء ، لما فيها من الدلالة على صنعته وقدرته .
قال ابن الخطيب : والأقرب أن هذه صفات للرياح ، فالذاريات هي التي تُنشئ السحاب أولاً ، والحاملات هي التي تحمل السحب التي هي بحار المياه التي إذا سحّتْ جرت السيول العظيمة ، وهي أوقارٌ أثقل من جبال . والجاريات هي التي تجري السحب عِنْدَ حَمْلِها ، وَالمُقَسِّمَات هي الرياح التي تقسم الأمطار وتفرقها على الأقطار ، ويحتمل أن يقال : هذه أمور أربعة ذكرت لأمور أربعة بها تتم الإعادة ، لأن الأجزاء المتفرقة بعضها في تُخُوم الأرض ، وبعضها في قَعْر البِحَار ، وبعضها في جَوِّ الهواء ، وفي الأجزاء البخارية اللطيفة المنفصلة عن الأبدان فالذاريات هي التي تجمع الذرات من الأرض ، وتَذْرُو التُّراب من وجه الأرض والحاملات هي التي تجمع الأجزاء من الجو وتحمله حملاً ، فإن التراب لا ترفعه الرياح حملاً مستقلاًّ بل تنقله من موضع إلى موضع ، بخلاف السحاب فإنه يحمله في الجو حملاً لا يقع منه شيء ، والجاريات هي الجامعة من الماء ، فإن من يُجْرِي السفنَ الثقيلة في تيّار البحار قادرٌ على نقل الأجزاء من البحر إلى البرّ ، فإذن تبين أن الجمع من الأرض وجو الهواء ووسط البحار ممكن ، وإذا اجتمع ذلك كله بَقِيَ نفخُ الروح ، وهي من أمر الله ، فقال : « فالمُقسِّمَاتِ أَمْراً » يعني الملائكة التي تنفخ الروح في الجسد بأَمْر الله .
قوله : « ذَرواً » منصوب على المصدر المؤكد العامل فيه فرعه وهو اسم الفاعل ، والمفعول محذوف اختصاراً إذ لا نظير لما تذروه هنا .
وأدغم أبو عمرو وحمزة تاء « الذاريات » في ذال « ذَرْواً » وأما « وِقْراً » فهو مفعول به بالحاملات ، كما يقال : حَمَل فلانٌ عدْلاً ثَقِيلاً .
قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون اسماً أقِيمَ مُقَام المصدر ، كقوله : ضَرَبَهُ سَوْطاً . ويؤيده قراءة من قرأ بفتح الواو .
والوِقْرُ - بالكسر - اسم ما يوقِر أي يَحُلُّ . وقرئ بالفتح ، وذلك على تسمية المفعول بالمصدر . ويجوز أن يكون مصدراً على حاله والعامل فيه معنى الفعل قبله ، لأن الحَمْل والوَقْر بمعنى واحد ، وإن كان بينهما عموم وخصوص .
قوله : « يُسْراً » يجوز أن يكون مصدراً من معنى ما قبله أي جَرْياً يُسْراً وأن يكون حالاً ، أي ذات يُسْرٍ أو مَيْسَرة أو جعلت نفس اليُسْر مبالغةً .
قوله : « أَمْراً » يجوز أن يكون مفعولاً به ، وهو الظاهر ، كقولك : فُلاَنٌ قَسَّمَ الرِّزْقَ أَوِ المَالَ ، وأن تكون حالاً أي مأمورة . وعلى هذا فيحتاج إلى حذف مفعول « المُقَسِّمَات » . وقد يقال : لا حاجة لتقديره كما في الذاريات .
وهل هذه أشياء مختلفة فتكون الفاء على بابها من عطف المتغايرات ، والفاء للترتيب في القسم لا في المقسم به؟
قال الزمخشري : ويجوز أن يراد الرياح وحدها ، لأنها تُنْشِئ السحاب وتُقِلُّه ، وتَصْرِفُهُ ، وتجري في الجو جرياً سَهْلاً وعلى هذا يكون من عطف الصفات ، والمراد واحد ، كقوله ( - رحمه الله - ) :
4517-
يا لَهْفَ زَيَّابَةِ لِلْحَارِثِ ... الصّابحِ فَالغَانِمِ فَالآيبِ
وقوله :
4518-
إِلَى المَلِكِ القَرْمِ وَابْنِ الهُمَامِ ... وَلَيْثِ الكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَمْ
فتكون الفاء على هذا الترتيب الأمور في الوجود .
فإن قيل : إن كان « وقراً » مَفْعولاً لَمْ يُجمع وما قيل : أوقاراً؟ .
فالجواب : لأن جماعةً مِنَ الرياح قد تحمل وقرا واحداً ، وكذا القول في المقسّمات أمراً إذا قيل : إنه مفعول به ، لأنه قد تجمع جماعة من الملائكة على أمر واحد .
قوله : « إنَّمَا تُوعَدونَ » هذا جواب القسم ، و « ما » يجوز أن تكون اسمية ، وعائدها محذوف ، أي تُوعَدُونَهُ وأن تكون مصدرية فلا عائدَ على المشهور ، وحينئذ يحتمل أن يكون توعدون مَبْنِيًّا من الوعْد ، وأن يكون مبنياً من الوَعِيد ، لأنه يصلح أن يقال : أوْعَدْتُهُ فهو يُوعَدُ ، وَوَعَدْتُهُ فهو يُوعَد لا يختلف ، فالتقدير : إن وعدكم أو إن وعيدكم . ولا حاجة إلى قول من قال : إنه قوله : « لصادق » وقع فيه اسم الفاعل موقع المصدر أي لصدق لأن لفظ اسم الفاعل أبلغ إذا جعل الوعد أو الوعيد صادقاً مبالغة وإن كان الوصف إنما يقوم بمن يَعِدُ أو يُوعِدُ .
قال ابن الخطيب : وبناؤه من « أوعد » هو الحق؛ لأن اليمين مع المنكر بِوَعِيدٍ لا بوَعْد ، و « الصادق » معناه ذو صدق « كعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ » ، ووصف به الفاعل كوصف الفاعل بالمصدر في إفادة المبالغة .
قوله : { وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ } أي الحشر والجزاء كائن .
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
ثم ابتدأ قسماً آخر وهو قوله : { والسمآء ذَاتِ الحبك } العامة على الحُبُك - بضمتين - قال ابن عباس وقتادة وعكرمة : ذاتِ الخلق الحسن المستوي ، يقال للنساج إذا نَسَجَ الثَوْبَ فَأَجَاد : ما أحْسَنَ حَبْكهُ . وقال سعيد بن جبير : ذاتِ الزّينة أي المزينة بزينة الكواكب . قال الحسن : حُبِكَتْ بالنُّجوم . وقال مجاهد : هي المتقنة المبنيّات . وقال مقاتل والكلبي والضحاك : ذات الطرائق كحَبْك الماء إذا ضَرَبَتْهُ الرِّيح ، وحَبْكِ الرَّمل والشّعر الجَعْد وهو آثار تَثَنِّيه وَتَكسُّرِهِ ، قال زهير :
4519-
مُكَلَّلٌ بِأُصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ ... ريحٌ خَريقٌ لضَاحي مَائهِ حُبُك
والحبك جمع يحتمل أن يكون مفرده حَبِيكَة ، كطَرِيقةٍ وطُرُق أَو حِباك نحو : حِمَار وحُمُر قال :
4520-
كَأَنَّمَا جَلَّلَها الحُوَّاكُ ... طِنْفسَةٌ فِي وَشْيِهَا حِبَاكُ
وأصل الحَبْك إحكام الشيء وإتقانه ، ومنه يقال للدروع : مَحْبُوكة . وقيل : الحَبْكُ الشدّ والتَّوَثُّق ، قال امرؤ القيس :
4521-
قَدْ غَدَا يَحْمِلُنِي فِي أَنْفِهِ ... لاَحِقُ الإطْلَيْنِ مَحبُوكٌ مُمَرّ
وفي هذه اللفظة قراءات كثيرة ، فعن الحسن - ( رضي الله عنه ) - ست قراءات ، الحبك - بالضم - كالعُنُق ، وبضم الحاء وسكون الباء وتروى عن ابن عباس ، وأبي عمرو ، وبكسر الحاء والباء ، وبكسر الحاء وسكون الباء ، وهو تخفيف المكسور ، وكسر الحاء وفتح الباء ، وكسر الحاء وضم الباء ، وهذه أقلها لأن هذه الزنة مهملة في أبنية العرب .
قال ابن عطية وغيره : هو من التداخل ، يعني أن فيها لغتين الكسر في الحاء والباء والضم فيهما فأخذ هذا القارئ الكسرَ من لغةٍ ، والضمّ من أُخْرَى . واستبعدها الناس؛ لأن التداخل إنما يكون في كلمتين . وخرجها أبو حيان على أن الحاء أتبعت لحركة التاء في ذات ، قال : ولم يعتد باللام فاصلةً لأنها ساكنة فهي حاجز بَيِّنٌ حصين .
وقد وافق الحسن على هذه القراءة أبو مالك الغِفَارّي .
وقرأ عكرمة بالضم والفتح جمع حُبْكَة نحو : غُرْفَة وغُرَف ، وابن عباس وأبو مالك الحَبَك بفتحتين ، جمع حَبْكَة كعَقْبَة وعَقَب .
وقوله : { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } جواب القسم .
فصل
المعنى : إنكم يا أهل مكة لفي قول مختلف في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - تارة تقولون : إنه أمين ، وأخرى إنه كاذب ، وتارة تنسبونه إلى الجنون ، وتارة كاهن ، وشاعر ، وساحر ، وهذا القول ضعيف؛ إذ لا حاجة إلى اليمين على هذا ، لأنهم كانوا يقولون ذلك من غير إنكار حتى يؤيد باليمين . وقيل : يقولون : إنه مجنون ثم يقولون : غلبنا بقُوَّةِ جداله . وقيل : لفي قول مختلف في القرآن ، يقولون فيه إنه سِحْرٌ وكَهَانَةٌ وأساطير الأولين .
وقيل : قَوْلٌ مختلف أي مصدّق ومكذب . وقيل : غير ثابتين على أمر .
وقيل : متناقض ، تارة يقولون : لا حَشْرَ ولا حَيَاةَ بعد الموت ، ثم يقولون : إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا على أُمَّةٍ .
قوله : « يُؤفك عنه » صفة لقول ، والضمير في « عنه » للقرآن ، أو الرسول ، أو للدين ، أو لما توعدون ، أي يصرف عنه .
وقيل : عن السبب . والمأفوك عنه محذوف ، والضمير في « عنه » على هذا القول مختلف ، أي يؤفك بسبب القول من أراد الإسلام بأن يقول : هو سحرٌ وكَهَانَةٌ .
والعامة على بناء الفعلين للمفعول . وقتادة وابن جبير : يُؤْفَكُ عنه من أَفِكَ ، الأول للمفعول ، والثاني للفاعل ، أي يُصْرَفُ عنه من صَرَفَ الناسَ عَنْهُ . وزيد بن علي : يَأْفِكُ مبنياً للفاعل من أفِكَ مبنياً للمفعول عكس ما قبله ، أي يَصْرِف الناسَ عَنْه مَنْ هو مَأْفُوكٌ في نَفْسِهِ .
وعنه أيضاً : يُؤفّكُ عنه من أفَّكَ بالتشديد ، أي من هو أَفَّاك في نفسه .
وقرئ : يُؤْفَن عنه من أُفِن بالنون فيهما أي يُحْرَمُهُ من حُرِمَهُ من أَفَنَ الضَّرْعَ إذا نَهَكَهُ حَلْباً .
فصل
قيل في تفسير قوله : { يؤفك عنه من أفك } وجوه :
أحدها : مدح المؤمنين ، ومعناه يصرف عن القول المختلف من صرف عن ذلك القول ، ويرشد إلى القول المستوي . وقيل : إنه ذم ومعناه يؤفك عن الإيمان به من صرف حتى يكذبه ، يعني من حرمه الله الإيمان بمحمد وبالقرآن . وقيل « عن » بمعنى « مِنْ أجل » ، أي يصرف من أجل هذا القول المختلف ، أو بسببه عن الإيمان من صرف ، وذلك أنهم كانوا يتلقون الرجل إذا أراد الإيمان ، فيقولون : إنه ساحر ، وكاهن ، ومجنون ، فيصرفونه عن الإيمان ، قاله مجاهد .
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
قوله : « قُتِلَ الخَراصونَ » لُعِنَ الكَذَّابُونَ . وقرئ : قَتَلَ مبنياً للفاعل ، وهو الله تعالى : { الخرّاصين } مفعوله ، والمعنى لُعِنَ الخراصون وهم الذين لا يجزمون بأمر ولا يثبتون عليه ، بل هم شاكون متحيرون . وهذا دعاء عليهم ، ثم يصفهم بأنهم في غمرة ساهون ، فقوله : « سَاهُونَ » يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر والمبتدأ قوله « هم » ، والتقدير : هم كائنون في غَمْرَة ساهون ، كقولك : زَيدٌ جَاهلٌ جَائرٌ ، لا تقصد به وصف الجاهل بالجائر . ويحتمل أن يقال : « ساهون » خبر ، و « في غمرة » ظرف له ، كقولك : زَيْدٌ فِي بَيْتِهِ قَاعِدٌ فالخبر هو « قاعد » لا غير ، و « في بيته » بيان لطرف القعود ، فكذا قوله : « في غمرة » ظرف للسَّهْوَةِ .
واعلم إن وصف الخارص بالسهو دليل على أن الخراص صفة ذم يقال : تَخَرَّصَ عليه الباطل . قال المفسرون : هم الذين اقتسموا عِقَاب مكة ، فاقتسموا القول في النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصرفوا الناس عن دين الإسلام . وقال مجاهد : الكهنة الذين هم في غَمْرَة أي غَفْلة وعَمًى وجَهَالَةً « سَاهُونَ » غافلون عن أمر الآخرة . والسهو الغفلة عن الشيء وهو ذَهَابُ القلب عنه .
قوله تعالى : { يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين } فقوله : { أَيَّانَ يَوْمُ الدين } مبتدأ أو خبر قيل : وهما ظرفان فكيف يقع أحد الظرفين في الآخر؟ .
وأجيب : بأنه على حذف حَدَثٍ أي أَيَّانَ وُقوع يَوْمِ الدِّين « فَأَيَّانَ » ظرف الوقوع ، كما تقول : مَتَى يَكُونُ يَوْمُ الجُمُعَةِ ، وتقدم قراءة إيّانِ - بالكسر - في الأَعراف .
قيل : وأيان من المركبات ، ركب من « أيٍّ » التي للاستفهام ، و « آن » التي بمعنى متى ، أو مِنْ « أَيٍّ » ( و ) أَوَان؛ فكأنه قال : أَيّ أَوَان ، فلما ركبت بُنِيَ . وهذا جواب قوله : { وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ } [ الذاريات : 6 ] فكأنه قال : أَيَّانَ يَقَعُ؟ استهزاءً .
وترك السؤال دلالة على أن الغرض ليس الجواب ، وإنما يسألون استهزاءً ، والمعنى يسألون أيان يوم الدين يقولون : يا محمد متى يكون يوم الجزاء؟ يعني يوم القيامة تكذيباً واستهزاء قال الله - عز وجل - : { يَوْمَ هُمْ } أي يكون هذا الجزاء في يومِ هُمْ على النار يُفْتَنُونَ أي يعذبون ويحرقون بها ، كما يُفْتَنُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ . وعلى هذا فالأولى أن يكون معنى يفتنون يُعْرَضُون عرض المجرِّب للذّهب على النار ، لأن كلمة « على » تناسب ذلك ولو كان المراد يحرقون لقيل : بالنَّار ، أي فِي النار .
قوله : « يَوْمَ هُمْ » يجوز أن يكون منصوباً بمضمر أي الجزاءُ كائنٌ يَوْمَ هُمْ ويجوز أن يكون بدلاً من « يَوْم الدين » ، والفتحة للبناء على رأي من يُجيز بناء الظرف ، وإن أُضِيفَ إلى جملة اسمية وعلى هذا فيكون حكاية لمعنى كلامهم ، قالوه على سَبيل الاستهزاء ، ولو جاء على حكاية لفظهم المتقدم لقيل : يوم نَحْنُ عَلَى النَّار نُفْتَنُ .
و « يوم » منصوب بالدين ، وقيل : بمضمر ، أي يُجَازَوْنَ .
وقيل : هو مفعول بأعني مقدَّراً وعُدّي يُفْتَنُونَ بعَلَى لأنه بمعنى يُخْتَبَرُون . وقيل : على بمعنى في . وقيل : على بمعنى الباء . وقيل : « يَوْمَ هُمْ » خبر مبتدأ مضمر ، أي هُوَ يَوْمَ هُمْ والفتح لما تقدم . ويؤيد ذلك قراءة ابن أبي عبلة والزّعفرانيّ يَوْمُ هُمْ بالرفع ، وكذلك يؤيد القول بالبدل . وتقدم الكلام في مثل هذا في غَافِرٍ .
فصل
قوله : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } قال ابن الخطيب : يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون جواباً عن قولهم أيَّانَ يَقَعُ فكما أنهم لم يسألوا سؤال مستفهم طالب لعِلم ، كذلك لم يجبهم جواب معلم مبين بل قال : يوم هم على النار يفتنون فجهلهم بالثاني أقوى من جهلم بالأول ، ولا يجوز أن يكون الجواب بالأخفى ، فلو قال قائل : مَتَى يَقْدمُ زَيْدٌ؟ فلو أجيب بقوله : يَوْم يقدم رفِيقُهُ ولا يعلم يوم قُدُوم الرفيق لم يصح هذا الجواب إلا إذا كان الكلام في صورة ولا يكون جواباً كقول القَائل لمن يعد عِدَاتاً ويخلفها : إلى متى هذا الإخلاف؟ فيغضب ويقول : إلى أَشْأَمِ يَوْمٍ عليك ، فالكلامان في صورة سؤال وجواب ، ولا يريد بالأول السؤال ، ولا الثاني يريد به الجواب ، فكذلك ههنا قال : { يوم هم على النار يفتنون } مقابلة لاستهزائهم بالإيعَادِ لا على وجه الإِتيان بالبَيَان .
الثاني : أن يكون « ذلك » ابتداء كلام تمامه ( في قوله : « ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ » ) .
فإن قيل : هذا يفضي إلى الإضمار! .
فالجواب : أن الإضمار لا بد منه؛ لأن قوله : ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ غيرُ متصل بما قبله إلا بإِضمار يقال .
قوله : « ذُوقُوا » يقال لهم ذُوقُوا و { هذا الذي كُنتُمْ } مبتدأ وخبر « هذا » هو الظاهر . وجوَّز الزمخشري أن يكون « هذا » بدلاً من « فِتْنَتَكُمْ » ؛ لأنها بمعنى العذاب ، ومعنى فتنتكم عذابكم { هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } في الدنيا تكذيباً به ، وهو قولهم : { رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } [ ص : 16 ] وقولهم : { فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ } [ هود : 32 ] ونظائره ، وقوله : { يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين } فإنه نوع استعجالٍ بالقول . ويحتمل أن يكون المراد الاستعجال بالفعل وهو إصرارهم على العناد ، وإظهار الفساد ، فإنه يعجل العقوبة .
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
قوله تعالى : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } لما بين حال المجرمين بين بعده حال المتقين ، والمتقي له مقامات ، أدناها أن يتقي الشرك ، وأدناها أن يتقي ما سِوَى الله ، وأدنى دَرَجَات المُتقِي الجنة فما من أحد اجتنب الكفر إلا ويدخل الجنة .
قوله : « آخِذِينَ » حال من الضمير في قوله : « جَنَّاتٍ » و « مَا آتَاهُمْ » يعني مما في الجنة فيكون حالاً حقيقية ، وقيل : مَا آتاهُمُ من أوامره ونواهيه فيكون في الدنيا فتكون حالاً محكيةً ، لاختلاف الزمانين .
وجعل الجار خبراً ، والصفة فضلة ، وعكس هذا في قوله تعالى : { إِنَّ المجرمين فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } [ الزخرف : 74 ] ، قيل : لأن الخبر مقصور الجملة ، والغَرَضُ هناك الإخبار عن تخليدهم ، لأن المؤمن قد يدخل النار ، ولكن لا بد من خروجه ، وأما آية المتقين ، فجعل الظرف فيها خبراً لأمنهم الخروج منها ، فجعل ذلك محط الفائدة ليحصل لهم الطمأنينة فانتصبت الصفة حالاً .
فصل
اعلم أنه تعالى وحد الجنة تارة ، قال تعالى : { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } [ الرعد : 35 ] و [ محمد : 15 ] وأخرى جمعها كقوله ههنا : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ } وتارة ثَنَّاها ، قال تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] ، والحكمة فيه أن الجنة في توحيدها لاتصال المنازل والأشجار والأنهار كجنة واحدة ، وأما جمعها فلأنها بالنسبة إلى الدنيا وبالإضافة إليها جنّات لا يحصرها عدد ، وأما تثنيتها فسيأتي في سورة الرحمن .
قال ابن الخطيب : غيرَ أنَّا نقول ههنا : إن الله تعالى عند الوعد وحَّد الجنة وعند الإعطاء جمعها إشارة إلى أن الزيادة في الوعد موجودة بخلاف ما لو وعد بجَنَّات ثم يقول إنه في جنة ، لأنه دون الموعود ، وقوله : « وَعُيُونٍ » يقتضي أن يكون المُتَّقِي فيها ولا لذة في كون الإنسان في ماءٍ؛ فالمعنى في خلال العيون ، أي بين الأنهار كقوله : « في جَنَّاتٍ » معناه بين الجنات وفي خلالها؛ لأن الجنة هي الأحجار ، ونكرها مع كونها معرفة للتعظيم كقولك : فُلاَنٌ رَجُلٌ أي عظيم في الرجولة .
ومعنى : « آخذين » أي قابضين ما آتاهم شيئاً فشيئاً ولا يستوفونه بكماله ، لامتناع استيفاء ما لا نهاية له . وقيل : معنى آخذين أي قابلين قبول راضٍ كقوله تعالى : { وَيَأْخُذُ الصدقات } [ التوبة : 104 ] أي يقبلها ، قاله الزمخشري . وقال ابن الخطيب : وفيه وجه ثالث ، وهو أن قوله : فِي جَنَّاتٍ يدلّ على السُّكْنَى حيث قال : آخِذينَ بلادَ كذا ، أو قَلْعَة كذا ، أي دخلها متملّكاً لها ، وكذا يقال لمن اشترى داراً أو بستاناً أخذه بثمن قليلٍ أي تملكه ، وإن لم يكن هناك قبص حسًّا ولا قبول برِضًى .
وحيئذ فائدته بيان أن دخولهم فيها ليس دخول مستعيرٍ أو من يسترد منه ذلك بل هو ملكُه الذي اشتراه بماله ونفسه من الله .
وقوله : « آتاهُمْ » لبيان ( أن ) أخذهم ذلك لم يكن عَنْوَةً ، وإنما نال ذلك بإعطاء الله تعالى . وعلى هذا الوجه « ما » راجعة إلى الجَنَّاتِ والعُيُون .
وقوله : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } إشارة إلى أنهم أخذوها بثَمنها وملكوها بالإحسان في الدنيا ، والإشارة بذلك إما لدخول الجنة ، وإما لإيتاء الله ، وإما ليوم الدين ، والإحسان هو قول لا إله إلا الله؛ ولهذا قيل في معنى كلمة التقوى : إنها لا إله إلا الله ، وفي قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله } [ فصلت : 33 ] وقوله : { هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان } [ الرحمن : 60 ] هو الإتيان بكلمة لا إله إلا الله .
قوله : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } وهذا كالتفسير لكونهم مُحْسِنِينَ ، وفيه أوجه :
أحدها : أن الكلام تَمَّ على « قَلِيلاً » ولهذا وقف بعضهم على قليلاً ليؤاخي بها قوله تعالى : { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } [ ص : 24 ] { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } [ سبأ : 13 ] ويبتدئ : { مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } أي ما يهجعون من الليل . والمعنى كانوا من الناس قليلاً ، ثم ابتدأ فقال : ما يَهْجَعُون وجعله جَحْداً أي لا ينامون بالليل ألبتة يقومون للصلاة والعبادة . وهو قول الضحاك ومقاتل . وهذا لا يظهر من حيث المعنى ، ولا من حيث الصناعة ، أما الأول فلا بد أن يهجعوا ، ولا يتصور نفي هجوعهم ، وأما الصناعة فلأن « ما » في حيز النفي لا يتقدم عليه عند البصريين . هذا إن جعلتها نافية ، وإِن جعلتها مصدرية صار التقدير من الليل هُجُوعُهُمْ . ولا فائدة فيه ، لأن غيره من سائر الناس بهذه المثابة .
الثاني : أن تجعل « ما » مصدرية في محلِّ رفع « بِقَلِيلاً » ، والتقدير : كَانُوا قليلاً هُجُوعُهُمْ .
الثالث : أن تجعل ما المصدرية بدلاً من اسم كان بدل اشتمال أي كان هُجُوعُهُمْ قليلاً . و « مِنَ اللَّيْلِ » على هذين لا يتعلق ب « يهجعون » لأن ما في حَيِّز المصدر لا يتقدم عليه على المشهور . وبعض المانعين اغتفروا في الظرف فيجوزُ هذا عنده والمانع يقدر فعلاً يدل عليه : « يَهْجَعُونَ مِنَ اللَّيْل » .
الرابع : أن « ما » مزيدة و « يَهْجَعُون » خبر كان ، والتقدير : كَانُوا يهجعون من الليل هُجُوعاً قَلِيلاً ، أو زمناً قليلاً ، ف « قَليلاً » ، نعت لمصدر أو ظرف .
الخامس : أنها بمعنى الذي ، وعائدها محذوف تقديره : كَانُوا قليلاً من الليل الوقت الذي يهجعونه . وهذا فيه تَكَلُّفٌ .
فصل
قال ابن الخطيب : « قليلاً » منصوب على الظرف تقديره يهجَعونَ قليلاً يقال : قام بَعْضَ الليل ، فنصب « بعض » على الظرف ، وخبر كان هو قوله : « يَهْجَعُونَ » و « ما » زائدة هذا منقول عن الضَّحَّاك ومقاتل .
وأنكر الزمخشري كون « ما » نافية ، وقال : لا يجوز أن تكون نافية؛ لأن ما بعدها لا يعمل فيها قبلها لا تقول : زَيْداً ما ضَرَبْتُ ويجوز أن يعمل ما بعد « لم » فيما قبلها ، تقول : زَيْداً لَمْ أَضْرِبْ وذلك أن الفعل المتعدي إنما يعمل في النفي حملاً له على الإثبات لأنك إذا قلت : ضَرَبَ زيدٌ عمراً ثبت تعلق فعله بعمرو .
فإذا قلت : مَا ضَرَبَهُ لم يوجد منه فعل حتى يتعلق به ويتعدى إليه ، لكن النفي محمول على الإثبات ، فإذا ثبت هذا فالنفي بالنسبة إلى الإثبات كاسم الفاعل بالنسبة إلى الفعل فإنه يعمل عَمَل الفعل لكن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل فلا تقول : زَيْداً ضاربٌ عَمْراً أمس ، وتقول : زَيْدٌ ضَاربٌ عَمْراً غداً واليَوْمَ والآنَ؛ لأن الماضي لم يبقَ موجوداً ولا مُتوقَّع الوجود ، فلا يتعلق بالمفعول حقيقة ، لكن الفعل لقوته واسم الفاعل لضعفه لم يَعْمَلْ .
إذا عرف هذا فقوله : مَا ضَرَبْتُ للنفي في الماضي ، فاجتمع فيه النفي والمضيّ فَضَعُفَ . وأما : لَمْ أَضْرِبْ فإِن كان يقلب المستقبل فوجد فيه ما وجد في قول القائل : زَيْدٌ ضَارِبٌ عَمْراً غَداً فأُعْمِلَ .
قال ابن الخطيب : غير أن القائل بذلك القول يقول : قليلاً ليس منصوباً بقوله : يَهْجَعُونَ ، وإِنما ذلك خبر ( كانوا؛ أي ) كانوا قَلِيلِينَ .
فصل
تقديم قليلاً في الذكر ليس لمجرد السَّجع حتى يقع يهجعون ويستغفرون في آخر الآيات ، بل لأن الهجوع راحة لهم والمقصود بيان اجتهادهم وتحملهم السهر لله تعالى ، فلا يناسبه تقديم ( راحتهم ) ، وقد يَغْفَلُ السامع عما بعد الكلام فيعتقد كونهم محسنين بسبب هجوعهم ، فقدم قوله : « قَلِيلاً » ليسبق إلى الفهم أولاً قلَةُ الهجوع وقوله : « مِنَ اللَّيْل » إشارة إلى أنه الزمن الذي يهجع الناس فيه ولا يسهر في الطاعة إلا متعبد .
فإن قيل : الهجوع لا يكون إلا بالليل والنوم نهاراً لا يقالُ له : هُجُوع! .
فالجواب : أن ذِكرَ العام وإِردافه بالتخصيص حَسَنٌ ، تقول : رأيتُ حَيَوَاناً نَاطِقاً فَصِيحاً . وأما ذكر الخاص وإردافه بالعام فلا يَحْسُن إلا في بعض المواضع ، فلا تقول : رأيتُ ناطقاً فصيحاً حيواناً .
وإذا عرف هذا فقوله تعالى : كَانُوا قليلاً من الليل ذكر أمراً هو كالعام يحتمل أن يكون بعده : كَانُوا من الليل يسبحون أو يستغفرون أو يسهرون ، أو غير ذلك ، فلما قال : يَهْجَعُون فكأنه خصّص ذلك بالأمر العام المحتمل له ولغيره فأَزَال الاحْتِمَال .
قوله : « وَبِالأَسْحَارِ » متعلق ب « يَسْتَغْفِرُونَ » ، والباء بمعنى « فِي » . وقدم متعلق الخبر على المبتدأ لجواز تقديم العامل .
فصل
معنى قوله : { قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } أي يصلون أكثر الليل . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس : يعني كانوا قل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئاً إما من أولها وإما من أوسطها . وقال أنس بن مالك : كانوا يصلون العَتَمَةَ .
وقال مُطرفُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بنِ الشَّخِير : قَلَّ ليلة أتت عليهم يهجعونها كلها . وقال مجاهد : كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله ، وربما نَشِطُوا فَمَدُّوا إلى السَّحَر ، ثم أخذوا بالأسحار في الاستغفار . وقال الكلبي ومجاهد ومقاتل : وبالأسحار يصَلّونَ؛ وذلك لأن صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة .
روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاء كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْل فَيَقُولُ : أَنَا المَلِكُ أَنَا المَلِكُ ، مَنِ الَّذي يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنِ الَّذِي يسَأَلُنِي فَاعْطِيَهُ؟ مِنَ الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ » .
فصل في قوله : { وبالأسحار هُمْ يستغفرون } إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه ، فهم يستغفرون من التقصير . وهذه سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويَسْتَقِلُّه ويعتذر من التقصير واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويَمُنُّ به .
وفي الآية لطائف :
الأولى : أنه تعالى لما ذكر قلة هجوعهم ، والهجوع مُقْتَضى الطبع قال : يَسْتَغْفِرُونَ أي من ذلك القدر من النوم القليل .
الثانية : أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع ولم يمدحْهم بكَثْرة السَّهر فلم يقل : كَانُوا قليلاً من الليل ما يسهرون مع أن السَّهَر هو الكَلَفَةُ والاجتهاد لا الهجوع ، وهذا إشارة إلى أن نَوْمَهم عبادةٌ حيث مدحهم الله بكونهم هاجعين قليلاً ، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى ، والاستغفار بالأسحار ، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم .
فصل
الباء في قوله : « بالأسحار » استعملت للظرف هنا ، وهي ليست للظرف . قال بعض النحاة : إن حروف الجر ينوب بعضُها عن بعض يقال في ظرف الزمان : خَرَجْتُ لِعَشْرٍ بَقِينَ ، وبالليل ، وفي شهر رمضان . فتستعمل اللام والباء ، وفي ، وكذلك في ظرف المكان تقول : قُمْتُ بِمدينة كذا ، وفيها ، ورأيته ببَلْدَةِ كذا ، وفيها . قال ابن الخطيب : والتحقيقُ فيه أن نقول : الحروف لها معانٍ مختلفة كما أن الأسماء والأفعال كذلك غير أن الحروف مستقلة بإفادة المعنى والاسم والفعل مُسْتَقِلاَّنِ ، لكن بين بعض الحروف وبعضها تنافرٌ ( و ) تباعد كما في الأسماء والأفعال ، فإن البيتَ والسَّكَن متخالفان ومتقاربان ، وكذلك مَكَثَ ، وسَكَنَ ( وَأَلَمَّ ) ، وكذلك كل اسمين أو كل فعلين يوجد كان بينهما تقارب وتباعد ، لأن الباء للإِلصاق ، واللام للاختصاص ، و « في » للظرف ، والظرف مع المظروف ملتصق ومختص به . إذا عرف هذا فنقول : بين « الباء » و « اللام » و « في » مشاركة ، أما الباء فلأنها للإِلصاق ، والمتمكن في مكان ملتصق به متصل ، وكذلك الفعل بالنسبة إلى الزمان فإِذا قال : سَارَ بالنَّهَارِ معناه ذهب ذَهَاباً مُتَّصِلاً بالنهار .
فقوله : { وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } أي متصلاً بالأسحار ، أخبر عن الاقتراب ، وذلك أدل على وجود الفعل مع أول جزء من أجزاء الوقت من قوله : « فِي اللَّيْلِ » ؛ لأنه يستدعي احتواء الزمان بالفعل وكذلك قول القائل : أقمتُ ببَلْدَة كذا ، لا يفيد أنه كان مخالطاً بالبلد .
وقوله : أقمتُ فيها يدل على إحاطتها به ، فإذن قول القائل : أَقَمْتُ بالبَلَدِ ، ودَعَوْتُ بالأَسْحَارِ أعمُّ مِنْ قوله : أقمتُ فِيهِ؛ لأن القائم فيه قائمٌ به والقائم به ليس قائماً فيه .
وإِذا علم هذا فقوله : { وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } إشارة إلى أنهم لا يُخْلُونَ وقتاً عن العبادة وأنهم بالليل لا يهجعون ، ومع أول جزء من السحر يتسغفرون فيكون فيه بيان كونهم مستغفرين من غير أن يسبق منهم ذنب ، لأنهم وقت الانتباه لم يُخْلوا الوقت للذنب . ولا يطرد استعمال الباء بمعنى « في » ، فلا تقول : خَرَجْتُ بِيَوْم الجُمُعَةِ لأن يوم الجمعة مع أنه زمان فيه خُصُوصيَّات وتقييدات زائدة على الزمان ، لأنك إذا قلت : خَرَجْتُ بِنَهَارِنَا وبلَيْلَةِ الجُمُعَةِ ، لم يحسن . ولو قلت : خَرَجْتُ بِيَوْم سَعْدٍ وخَرَجَ ( بِيَوْمِ ) نَحْسٍ حَسُن فالنهارُ والليل لمّا لم يكن فيهما خُصُوصٌ وتقييد جازَ استعمالُ الباء فيهما ، فإِذا قيدتهما وخصصتهما زال الجوازُ ، و « يَوْمُ الجمعة » لمَّا كان فيه خصوص لم يجز وقلت : خَرَجْتُ بِيَوْم سَعْدٍ جاز . وأما « فِي » فيصح مطلقاً؛ لأن ما حصل في العام حصل في الخاص ، لأن العام جزءٌ داخل في الخاص ، فتقول : فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ وفِي هذِهِ السَّاعة . وأما اللام فتقدم الكلام عليها عند قوله : { والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } [ يس : 38 ] .
فصل
وفائدة قَوْلِهِ : « هم » ؛ قال الزمخشري : فائدتها انْحِصَارُ المستغفرين أي هم الكاملون فيه لا غيرهم كقولك : زَيْدٌ العَالِمُ ، لكماله في العلم كأنه تفرد به ، وأيضاً : فلو عطف بدون هم لأوهم أنهم يستغفرون قليلاً . والاستغفار إما طلب المغفرة ، كقولهم : رَبَّنا اغْفِرْ لَنَا ، وإما إتيانهم بعبارات يتقربون بها طلباً للمغفرة ، وإما أن يكون من باب قولهم : اسْتَحْصَد الزَّرْع أي ذلك أوان المغفرة .
قوله : { وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم } لمّا تقدم التعظيم لأم الله ثَنَّى بالشفقة على خلق الله ، وأضاف الأموال إليهم ، لأنه مدح لهم ، وقال في موضع آخر { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [ الحديد : 7 ] ؛ لأن ذلك تحريض وحث على النفقة وذلك يناسبه .
فإن قيل : كون الحق في المال لا يوجب مدحاً؛ لأن كون المسلم في ماله حقّ وهو الزكاة ليس صفة مدح ، لأن كل مسلم كذلك بل الكافر إذا قلنا : إنه مخاطب بفروع الإسلام في ماله حق معلوم ، غير أنه إذا أَسْلَمَ سقط عنه ، وإن مات عُوقِبَ على ما تركه الأداء . وإن أَدَّى من غير إسلام لا يقع الموقع فكيف يفهم كونه مدحاً؟
فالجواب : أنا نفسر السائل بمن يطلب جزءاً من المَال وهو الزكاة والمَحْرُومُ من لا يطلب جزءاً معيّناً وهو طالب صدقة التطوع كأنه قال : في ماله زكاةٌ وصَدَقَةٌ .
أو يقالُ : بأن « في » للظرفية ، والمعنى أَنّهم لاَ يجمعون المال ولا يجعلونه ظرفاً للحُقُوق ، والمطلوب من الظرف والمظروف إنما هو المظروف وهذا مدح عظيم .
فإن قيل : لَو قيل : مالهم للسائل كان أبلغ!
فالجواب : لا نسلم ، فإن صرف جميع المال حتى يبقى فقيراً محتاجاً منهيٌّ عنه ، وكذلك الصلاة والصوم الاقتصاد فيهما أبلغ لقوله : - عليه الصلاة والسلام - : « إنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ ، فَادْخُلُوا فِيهِ بِرفقٍ؛ فَإنَّ المُنْبَتَّ لاَ أَرْضاً قَطَعَ وَلاَ ظَهْراً أَبْقَى » .
فصل
في السائل والمحروم وجوه :
أحدها : أن السائل هو الآدمي ، والمحروم كل ذي روح غيره من الحيوانات المحترمة ، قال - عليه الصلاة والسلام - : « فِي كُلّ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ » وهذا ترتيب حسن؛ لأن الآدمي يُقدَّمُ على البهائم .
الثاني : أن السائل هو الذي يَسْأَل ، والمَحْرُوم هو المتعفّف يظن أنه غنيٌّ فيُحْرَمُ . وقدَّمَ السائلَ؛ لأن حاله يعرف بسؤاله ، أو يكون إشارة إلى كثرة العَطَاء فيعطي السؤّال ، فإذا لم يجدهم يسأل عن المحتاجين فيكون سائلاً ومسؤولاً .
الثالث : قدم السائل؛ لتجانس رُؤُوس الآي .
فصل
قال ابنُ عباس وسعيدُ بن المُسيّب : السّائل الذي يسأل الناس ، والمحروم الذي ليس له في الغنائم سهمٌ ولا يُجْرَى عليه من الفَيء شَيءٌ . وقال قتادة والزُّهْري : المحروم المتعفّف الذي لا يسأل . وقال زيد بن أسلم : هو المصاب ثمره أو زرعه أو تشَلُّ ماشيتُه ، وهو قول مُحَمّد بن كَعْب القُرَظيِّ . قال : المحروم صاحب الحاجة ، ثم قرأ : { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } [ الواقعة : 66 - 67 ] .
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
قوله تعالى : { وَفِي الأرض آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } إذا ساروا فيها من الجبال والبحار والثمار وأنواع النبات تدلهم على أن الحَشْرَ كائن كقوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً } [ فصلت : 39 ] ، ويحتمل أن يكون المعنى : وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ تَدُلُّ على مُدَبِّرٍ قادرٍ قاهرٍ يجب أن يُعْبَدَ ويُحْذَرَ .
فإن قيل : كيف خصص الآيات بالمُوقنينَ ، ولم يُخَصِّصْ في قوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا } [ يس : 33 ] ؟
فالجواب : أن القَسَمَ إنما يكون مع المعَانِدِ في البرهان ، فهو لا ينتفع بالآيات وإنما ينتفع بها المُوقِنُونَ فلذلك أقسم ههنا فقال : { فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ } وفي سورة يس لم يؤكد ذلك بالقسم الدال على المعاند . أو يقال : أطلقت هناك باعتبار حصولها وخصصت هنا باعتبار المنفعة بها . وجمعت « الآيات » هنا ، لأن المُوقن يتنبه لأمور كثيرة ، وكذلك قوله : وَفِي أَنْفُسِكُمْ آيات دالة على ذلك إذ كانت نطفةً ثم علقةً ، ثم مضغةً ، ثم عظاماً ، إلى أن ينفخ فيها الرُّوح .
وقال عطاء عن ابن عباس - ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ) : يريد اختلاف الأَلْسنة والصور والألوان والطبائع .
وقال ابن الزُّبَيْر : يريد سبيل البول والغائط يَأكُلُ ويَشْرَبُ من مَدْخَلٍ واحد ويَخْرج من سِبِيلَيْنِ .
وقوله : أفلا تبصرون « قال مقاتل : أفلا تبصرون كيف خلقكم فتعرفوا قدرته على البعث؟
قوله : » وفي أنفسكم « نَسَقٌ على ( مَا ) » في الأرض « فهو خبر عن » آيات « أيضاً ، والتقدير : وفي الأرض وفي أنفسكم آيات .
وقال أبو البقاء : وَمَنْ رَفَعَ بالظرف جعل ضمير » الآيات « في الظرف . يعني من يرفع الفاعل بالظرف مطلقاً أي وإن لم يعتمد يرفع بهذا الجار فاعلاً هو ضمير » آيات « .
وجوز بعضُهم أن يتعلق ب » يُبْصِرُونَ « . وهو فاسدٌ؛ لأن الاستفهام والفاء يمنعان جَوَازَهُ .
وقرأ قتادة : » آية « بالإفراد ، وقوله : » فِي أنْفُسِكُمْ « يُحْتَمَلُ أن يكون المراد فِيكُمْ ، يقال : الحجارة في نفسها صُلْبَة ، ولا يراد بها النفس التي هي مَنْبعُ الحياة والحِسّ والحَرَكَات . ويحتمل أن يكون المراد وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات وقوله : » أَفَلاَ تُبْصِرُونَ « بالاستفهام إشارة إلى ظهورها .
قوله : { وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ } أي سبب رزقكم . وقرأ حُمَيْدٌ وابنُ مُحَيْصن : رازِقُكُمْ اسم فاعل ، والله تعالى متعالٍ عَنِ الجِهّةِ . قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل : يعني بالرزق : المطر؛ لأنه سبب الأَرزاق . وقيل : في السماء رزقكم مكتوب ، وقيل : تقدير الأرزاق كلها من السماء ، ولولاه لما حصل في الأرض حبَّة قُوتٍ .
قوله : » وَمَا تُوعَدُونَ « قال عطاء : من الثَّوَاب والعِقَاب ، وقال مجاهد : من الخَيْر والشَّرِّ . وقال الضحاك : وما توعدون من الجَنَّة والنار فيكون المعنى على هذا : وما توعدون لحقّ ، كقوله :
{
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } [ الذاريات : 5 ] فإن قلنا : المراد بقوله : « وما توعدون » الجنة فهو من الوعد ، وإن قيل : المراد العذاب فيكون الخطاب مع الكفار .
قوله : { فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ } الضمير إما للقرآن ، وإما « للدِّين » ، وإما « الْيَوْم » في قوله : { وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ } [ الذاريات : 6 ] و « يَوْمَ هُمْ » و « يَوْم الدِّينِ » ، وإما للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - ودخلت الفاء بمعنى إنَّ ما توعدون لحق بالبرهان المبين ثم بالقسم واليمين أو للعطف على قوله : « والذَّاريات » مع إعادة المقسم عليه لوقوع الفَصْل .
وأقسم أولاً بالمخلوقات وههنا بربها تَرَقِّياً من الأدنى إلى الأعلى .
قوله : « مِثْلَ مَا » قرأ الأخوانِ وأبو بكر مِثْلُ بالرفع ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه خبر ثانٍ مستقلٌّ كالأَول .
الثاني : أنه مع ما قبله خبرٌ واحد ، كقولك : هَذَا حُلْوٌ حَامِضٌ نقلهما أبو البقاء .
والثالث : أنه نعت لحَقٍّ و « ما » مزيدة على الأوجه الثلاثة و « أَنَّكُمْ » مضاف إليه ، أي لَحَقٌّ مِثْلُ نُطْقِكُم ، ولا يضر تقدير إضافتها لمعرفة ، لأنها لا تتعرف بذلك لإبْهَامِهَا .
والباقون بالنصب ، وفيه أوجه :
أشهرها : أنه نعت « لحَقّ » أيضاً كما في القراءة الأولى ، وإنما بني الاسم لإضافته إلى غير متمكن ، كما بناه الآخر في قوله :
4522-
فَتَدَاعَى مِنْخَرَاهُ بِدَمٍ ... مِثْلَ مَا أثْمَرَ حُمَّاضُ الجَبَلْ
بفتح « مثل » مع أنها نعت لِ « دَمٍ » وكما بنيت « غَيْرُ » في قوله - ( رحمةُ الله عليه ) - :
4523-
لَمْ يَمْنَع الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أَنْ نَطَقَتْ ... حَمَامَةٌ فِي غُصُونٍ ذَاتِ أَوْقَالِ
«
غير » فاعل يمنع ، فبناها على الفتح لإضافتها إلى « أَنْ نَطَقَتْ » وقد تقدم في قراءة : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] بالفتح ما يُغْنِي عن تقرير مِثْلِ هذا .
الثاني : أن « مِثْلَ » ركّب مع « ما » حتى صارا شيئاً واحداً ، قال المازني : ومثله : وَيْحَمَا ، وهَيَّمَا وَأيْنَمَا ، وأنشد لحُمَيْد بن ثَوْر - ( رحمة اللَّهِ عليه رَحْمةً واسعةً - ) :
4524-
أَلاَ هَيَّمَا مِمَّا لَقِيتُ وَهَيَّمَا ... وَوَيْحاً لِمَنْ لَمْ يَدْرِ مَا هُنَّ وَيْحَمَا
قال : فلولا البناء لكان منوناً .
وأنشد أيضاً :
4525- ...
فَأَكْرِمْ بِنَا أباً وَأَكْرِمْ بِنَا ابْنَمَا
وهو الذي ذهب إليه بعض النحويين وأنشد :
4526-
أَثَوْرَ مَا أَصِيدُكُمْ أَمْ ثَوْرَيْنْ ... أَمْ هَذِه الْجَمَّاءُ ذَاتُ القَرنَيْنْ
وأما ما أنشده من قوله : « وَأَكْرِمْ بِنَا ابْنَمَا » فليس من هذا الباب ، لأن هذا « ابنٌ » زيدت عليه الميم وإذا زدتَ عليه الميم جعلت النون تابعةً للميم في الحركات على الفصيح ، فتقول : هذا ابْنُمٌ ، ورأيت ابْنَماً ومررت بابْنِمٍ ، فتجري حركات الإعراب على الميم ويتبعها النون .
وابنما في البيت منصوب على التمييز فالفتح لأجل النصب لا البناء ، وليس هذه « ما » الزائدة ، بل الميم وحدها زائدة ، والألف بدل من التنوين .
الثالث : أنه منصوب على الظَّرْف ، وهو قول الكوفيين .
ويجيزون : زَيْدٌ مِثْلَكَ بالفتح ، ونقله أبو البقاء عن أبي الحسن ولكن بعبارة مُشْكِلَةٍ فقال : ويقرأ بالفتح ، وفيه وجهان :
أحدهما : هو معرب ، ثم في نصبه أوجه ، ثم قال : أو على أنه مرفوع الموضع ، ولكنه فتح كما فتح الظرف في قوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] على قول الأخفش ، ثم قال : والوجه الثاني : هو مبنيّ .
وقال أبو عُبَيْد : بعض العرب يجعل « مِثْلَ » نصباً أبداً ، فيقولون : هَذَا رَجُلٌ مِثْلَكَ .
الرابع : أنه منصوب على إسقاط الجارِّ وهو كافُ التشبيه .
وقال الفراء : العرب تنصبها إذا رفع بها الاسم يعني المبتدأ فيقولون : مِثْلَ مَنْ عَبْد الله؟ وعَبْد الله مثْلَكَ وأنْتَ مِثْلَه لأن الكاف قد تكون داخلة عليها فتُنْصَب إذا ألقيت الكاف .
قال شهاب الدين : وفي هذا نظر ، أيّ حاجة إلى تقدير دخول الكاف و « مِثْلُ » تفيد فائدتها؟ وكأنه لما رأى أن الكاف قد دخلت عليها في قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] قال ذلك .
الخامس : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي لحَقّ حَقًّا مِثْلَ نُطْقِكُمْ .
السادس : أنه حال من الضمير في « لَحَقٌّ » ؛ لأنه قد كثر الوصف بهذا المصدر حتى جرى مَجْرى الأوصاف المشتقة ، والعامل فيها « حَقٌّ » .
السابع : أنه حال من نفس « حَقّ » وإن كان نكرة . وقد نصَّ سيبويه في مواضع من كتابه على جوازه ، وتابعه أبو عمرو على ذلك .
و « ما » هذه في مثل هذا التركيب نحو قولهم : « هَذَا حَقٌّ » ، كما أنك ههنا لا تجوّز حذفها ، فلا يقال : هذا حق كأنك ههنا . نص على ذلك الخليلُ - رحمه الله - .
فإذا جعلت « مِثْلَ » معربة كانت « ما » مزيدة و « أَنَّكُمْ » في محل خفض بالإضافة كما تقدم . وإذا جعلتها مبنية إما للتركيب ، وإما لإضافتها إلى غير متمكن جاز في « ما » هذه وجهان : الزيادة وأن تكون نكرة موصوفة ، ( كذا ) قال أبو البَقَاءِ .
وفيه نظر ، لعدم الوصف هنا ، فإن قال : هو محذوف فالأصل عَدمهُ ، وأيضاً فنصوا على أن هذه الصفة لا تحذف ، لإبهام مَوْصُوفِها . وأما « أَنَّكُمْ تَنْطَقُونَ » فيجوز أن يكون مجروراً بالإضافة إن كانت ( « ما » ) مزيدة ، وإن كانت نكرة كان في موضع نصب بإضمار أَعْنِي ، أو رفع بإضمار مبتدأ .
فصل
المعنى : { فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ } أي ما ذكرت من أمر الرزق لَحق كَمِثْلِ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ فتقولون : لا إله إلاَّ الله .
وقيل : شَبَّه تحقيق ما أخبر عنه بتحقيق نُطْق الآدمي كقولك : إنَّه لَحَقٌّ كما أنت ههنا وإنه لحق كما أنك تتكلم والمعنى أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة . قال بعض الحكماء : كما أنَّ كل إنسان ينطق بلسان نفسه لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره فكذلك كل إنسان يأكل رزق نَفْسه الذي قُسِمَ له ، ولا يقدر أن يأكل رزق غيره .
وقيل : معناه إن القرآن لحق تكلم به الملك النازل من السماء مثل ما تتكلمون .
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
قوله تعالى : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين } هذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتيسير له بالفرج ، وسَمَّاهُمْ ضَيْفاً ، لأنه حسبهم كذَلك ، ويقع على الواحد والجمع ، لأنه مصدر وسمَّاهم مُكْرَمين أي عند الله أو لأن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أكرمهم بأن عَجَّل قِرَاهُم ، وأجلسهم في أكرم المواضع واختار إبراهيم لكونه شيخ المرسلين ، وكون النبي - عليه الصلاة والسلام - مأموراً بأن يتبع ملته ، كما قال تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } [ النحل : 123 ] . وقيل : سماهم مكرمين لأنهم كانوا ضيف إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ( وكان إبراهيم أَكرمَ الخليقة ، وضيف الكرام مكرمون . وقال ابن أبي نُجَيْح - عن مجاهد - : لأن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - خدمهم بنفسه ) وعن ابن عباس : سماهم مكرمين لأنهم جاءوا غير مَدْعُوِّينَ ، وقال عليه الصلاة والسلام : « مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ » .
فإن قيل : إذا كان المراد من الآية التسلية والإنذار ، فأي فائدة في حكاية الضيافة؟
فالجواب : ليكون ذلك إشارة إلى أنَّ الفرجَ في حق الأنبياء ، والبلاء على الجهلة يأتي من حيث لم يحتسبوا ، كقوله تعالى : { فَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [ الزمر : 25 ] ، فلم يكن عند إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - خبرٌ من إنزال العذاب مع ارتفاع منزلته وقد تقدم عددهم في سورة هود .
قوله تعالى : { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ } العامل في « إذْ » أَوْجُهٌ :
أحدها : أنه « حديث » أي هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه .
الثاني : أنه منصوب بما في « ضَيْف » من معنى الفعل ، لأنه في الأصل مصدر ، ولذلك استوى فيه الواحد المذكور وغيره ، كأنه قيل : الَّذِينَ أَضَافَهُمْ في وقت دخولهم عليه .
الثالث : أنه منصوب بالمكرمين إن أريد بإكرامهم أنَّ إبراهيم أكرمهم بخدمته لهم كأنه تعالى يقول : أُكْرِمُوا إذ دَخَلُوا .
الرابع : أنه منصوب بإضمار « اذْكُرْ » ولا يجوز نصبه ب « أَتَاكَ » لاختلاف الزَّمَانَيْنِ .
وقرأ العامة المُكْرَمِينَ - بتخفيف الراء - من أَكْرَمَ ، وعكرمة : بالتشديد .
فإن قيل : أرسلوا بالعذاب بدليل قولهم : { إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } [ الذاريات : 32 ] فما الحكمة في مجيئهم إلى إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن إبراهيمَ - عليه الصلاة والسلام - شيخ المرسلين ، ولوط من قومه ، ومن عادة الملك إذا أرسل رسولاً لملك وفي طريقه من هو أكبر منه يقول له : اعبر على فلان الملك ، وأخبره برسالتك وخذ فيها رأيه .
الثاني : أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كان شديد الشفقة حليماً فكان يشق عليه إهلاك أمة عظيمة وكان ذلك مما يُحْزن إبراهيمَ - عليه الصلاة والسلام - شفقةً منه على العباد فقال ( لهم ) بَشّروه بغلامٍ يخرج من صلبه أضعاف من يَهْلَكُ ، ويكون من صلبه خروج الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - .
قوله : { فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ } العامة على نصب « سلاماً » الأول ، ورفع الثاني . فأما نصب الأول فالمشهور أن السلام التحية أي نُسَلِّم سلاماً . ويحتمل أن « سلاماً » معناه حَسَناً أي قالوا كلاماً حسناً؛ لأنه كلام سلم به المتكلم من أن يَلْغُو أو يأثم فكأنهم قالوا قولاً حسناً سَلِموا به من الإثم فيكون مفعولاً به لأنه في معنى القول ، كما قيل في قوله تعالى : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] ، أو هو مفعول بفعل محذوف ، أي نُبَلِّغُكَ سَلاَماً .
ولم يقولوا من الله شفقة على قلب إبراهيم فأتوا به مجملاً ، ثم فسروه بعْدَ ذلك .
وأما رفع الثاني فالمشهور أنه التحية ، فهو مبتدأ ، وخبره محذوف أي عَلَيْكُمْ ، ويحتمل أنه السلامة ، أي أَمْرِي سَلاَمٌ لأني لا أعرفكم ، أو قولُكُم سَلاَمٌ ، أي ينبئ عن السلامة وأنتم قوم منكرون فَما خَطْبُكُمْ؟
وأما الفرق بين النصب والرفع ، فإن حملنا السلام على التّحية ، فإنه مُبتدأ مع أنه نكرة تنبيهاً على أصله ، لأنه النصب ، لأن المعنى أسَلِّمُ سلاماً و « عَلَيْكُمْ » لبيان المسلَّم عليه ، لا حظَّ له في الإعراب .
وأصل الكلام أسلم سلاماً ، فالنصب أصل ، فقدم على الرفع الذي هو فرع ، وأيضاً فرد ( إبراهيم ) أبلع لأنه أتى بالجملة الاسمية الدالة على الثبات بخلاف الفعلية ، فإنها تدل على التَّجدّد والحُدُوث ، ولهذا يستقيم قولنا : الله موجود الآن ، ولا يستقيم قولنا : اللَّهُ وجدَ الآن .
وأما إن قلنا : معناه حَسَناً ، أو ذا سلامة ، فمعناه قلتم حسناً وأنتم مُنْكرون فالتبس الأمر عليَّ .
وأما إن قلنا معناه المتاركة فمعناه سلَّمتم عليَّ ، وأنا أمري متاركة لأني لا أعلم حالكم ، ومنه : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] وقال تعالى : { فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ } [ الزخرف : 89 ] لأن سلامتهم عن الجاهلين لا يمنع التعرض لهم ، بخلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - فمعناه سلم أمري متاركة إلى أن يأتي أمر الله . وتقدم تحرير نظير هذه الآية في سورة هُود .
وتقدم أيضاً خلاف القراء في سَلام بالنسبة إلى فتح سِينه وكسرِها ، وإلى سكون لامه وفتحها .
وقُرِئَا مرفُوعَيْن . وقرئ سلاماً قَالوا سِلْماً بكسر السين الثاني ونصبه ، ولا يخفى توجيه ذلك بما تقدم في هود ودخلت الفاء ههنا إشارة إلى أنهم لم يخلوا بأدب الدخول ، بل جعلوا السلام عَقِيبَ الدخول .
قوله : « قَوْمٌ مُنْكَرُون » خبر مبتدأ مضمر ، فَقدَّروه أنتم قَوْمٌ ، ولم يَسْتَحْسِنْهُ بعضُهم؛ لأن فيه عدم أنس فمثله لا يقع من إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ، فالأولى أن يقدر هَؤلاءِ قومٌ ، أو هُمْ قَوْمٌ ، وتكون مقالته هذه مع أهل بيته وخاصته ، لا لنفس الملائكة لأن ذلك يوحشهم .
وقال المفسرون : قوم منكرون أي غُرَبَاء ولا نعرفكم .
قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما - ) قال في نفسه : هؤلاء قوم لا نَعرفهم . وقيل : إنما أنكر أمرهم ، لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان . وقال أبو العالية : أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض .
فإن قيل : قال في سورة هود : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ } [ هود : 70 ] فدل على أن إنكاره حصل بعد تقريب العِجْل إليهم وههنا قال : { فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } ، ثم قال : { فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ } بفاء التعقيب ، وذلك يدل على تقريب الطعام منهم بعد حصول إنْكَارِهِ فما وجهه؟
فالجواب : أن يقال : لعلهم كانوا مخالفين لِصفة الناس في الشكل والهيئة ، ولذلك قال : « قوم منكرون » ، ( أي ) عند كل أحد ( منا ) ، ثم لمّا امتنعوا عن الطعام تأكد الإنكار ، لأن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - تَفَرَّد بمشاهدة إمساكهم فنَكِرَهُمْ فوق الإنكار الأول .
وحكاية الحال في سورة « هود » أبْسَطُ مما ذكره ههنا ، فإن هَهنا لم يبين المُبَشَّر به ، وهناك ذكره باسمه وهو إسحاق وههنا لم يقل إن القوم قوم مَنْ ، وهناك قال : قَوْم لوطٍ .
فصل
ذكر ههنا من آداب الضيافة تسليمَ المُضِيفِ على الضَّيف ، ولقاءَه بالوجه الحسن ، والمبالغةَ في الإكرام بقوله : « سلام » ، وهو آكد ، وسلامهم بالمصدر ، وفي قوله : سلام بالرفع زيادة على ذلك ولم يقل سلامٌ عليكم؛ لأن الامتناع من الطعام يدل على أن العداوة لا تليق بالأنبياء فقال : سلام أي أمري مُسَالمة ، ثم فيها من أدب الضيف تعجيل الضيافة ، فإن الفاء في قوله : « فَرَاغ » يدل على التعقيب وإخفائها لأن الرَّوَغَانَ يقتضي الإخفاء وغيبة المُضِيفِ عن الضَّيْف ليستريح ، ويأتي بما يمنعه الحياء منه ، ويخدم الضيف بنفسه ويختار الأجود لقوله : « سَمِينٍ » ويُقَدِّم الطعام للضيف في مكانه لا ينقل الضيف للطعام لقوله : « فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ » ويَعْرض الأكل عليه لا يأمره لقوله : « أَلاَ تَأْكُلُونَ » ولم يقل : كُلُوا . وسروره بأكله كما يوجد في بعض البخلاء الذين يحضرون طعاماً كثيراً ، ويجعل نظره ونظر أهل بيته إلى الطعام حتى يمسك الضيف يده عنه ، لقوله : { فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } بعدم أكلهم .
ومن آداب الضيف إذا حضره الطعام ولم يكن يصلح له لكونه مضراً به ، أو يكون ضَعِيفَ القوة عن هضم ذلك الطعام فلا يقول : هذا طعام غليظ لا يصلح لي بلْ يأتي بعبارة حسنة ، ويقول : بي مانع من أكل الطعام ، لأنهم أجابوه بقولهم : لا تخف ، ولم يذكروا في الطعام شيئاً ، ولا أنه يضّر بهم بل بشروه بالولد إشعاراً بأنهم ملائكة ، وبشروه بالأشرف وهو الذكر حيث فهموه أنهم ليسوا ممن يأكلون .
ثم وصفوه بالعلم دون المال والجمال ، لأن العلم أشرف الصفات ثم أدب آخر في البشارة وهو أن لا يخبر الإنسان بما يسرّهُ دَفْعةً واحدة ، لأنه يورث رِضَاهُم ، لأنهم جلسوا ، واستأنس بهم إبراهيم ، ثم قالوا : نُبَشِّركُ .
وتقدم الكلام على فائدة تقديم البشارة .
قوله : « فَرَاغَ » أي عدل ومال « إلى أَهْلِهِ » ، وقوله : « فَجَاءَ » عطف على « فَرَاغَ » وتسببه عنه واضح « بِعِجْلٍ سَمِينٍ » أي مشويّ كقوله في مكان آخر : { بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } [ هود : 69 ] . « فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ » ليأكلوا ، فلم يأكلوا قَالَ أَلاَ تَأْكُلُون والهمزة في « أَلاَ تَأْكُلُونَ » للإنكار عليهم في عدم أكلهم ، أو للعرض ، أو للتحضيض .
{
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ } .
قوله تعالى : { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ } قيل : لم يكن ذلك إقبالاً من مكان إلى مكان ، وإنما هو كقول القائل : أقبل يَشْتُمُنِي بمعنى أخذ في شَتْمِي ، أي أخذت تُوَلْوِلُ ، لقوله : { قَالَتْ ياويلتى } [ هود : 72 ] ، وذلك أنها كانت مع زوجها في خدمتهم ، فلما تكلموا مع زوجها بولادتها استحت وأعرضت عنهم ، فذكر الله تعالى ذلك بلفظ الإقبال على الأهل ، ولم يقل بلفظ الإدبار عن الملائكة .
قوله : « فِي صَرَّةٍ » يجوز أن يكون حالاً من الفاعل أي كائنةً في صَرَّة . والصَّرة قيل : الصيحة ، قال امرؤ القيس :
4527-
فَأَلْحَقْنَا بِالْهَادِيَاتِ وَدُونَهُ ... جَوَاحِرُهَا فِي صَرَّةٍ لَمْ تَزَيَّلِ
قال الزمخشري : من صَرَّ الجُنْدُبُ والبابُ والقلمُ ، أي فصاحت كما جرت عادة النساء إذا سمعن شيئاً من أحوالهن يَصِحْنَ صيحةً معتادة لهن عند الاستحياء أو التعجب .
ويحتمل أن يقال : تلك الصيحة كانت بقولها : يَا وَيْلَتَا ، ومحلّها النصب على الحال أي فجاءت صارةً .
ويجوز أن يتعلق ب « أَقْبَلَتْ » أي أقبلت في جماعة نسوةٍ كُنَّ معها ، والصَّرة الجماعة من النساء .
قوله : « فَصَكَّتْ وَجْهَهَا » قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) - : فلطمت وَجْهَهَا . واختلف في صفته فقيل : هو الضرب باليد مبسوطةً . وقيل : بل ضرب الوجه بأطرافِ الأصابع فعل المتعجِّب ، وهو عادة النساء إذا أنكرنَ شيئاً . وأصل الصكّ ضرب الشيء بالشيء العَريض .
قوله : « عَجُوزٌ » خبر مبتدأ مضمر أي أنا عجوزٌ عقيمٌ فكيف ألد؟ وتفسرها الآية الأخرى ، فاستبعدت ذلك ظنًّا منها أن ذلك منهم على سبيل الدعاء ، فكأنها قالت : يا ليتكم دعوتم دعاء قريباً من الإجابة ، فأجابوها بأن ذلك من الله تعالى ، وأن هذا ليس بدعاء ، وإنما هو قول الله { كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ } ثم دفعوا استبعادها بقولهم : { إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم } .
قوله : « كَذَلِك » منصوب على المصدر ب « قَالَ » الثانية أي مثلُ ذلك القول الذي أخبرناكِ به قال ربُّك ، أي إنه من جهة الله فلا تعجبي منه .
قال ابن الخطيب : وقال ههنا : الحكيم العليم وفي سورة ( هود ) : إنَّهُ حَميدٌ مجيدٌ؛ لأن الحكاية في هود أبسطُ فذكروا ما يدفع استبعادها بقولهم :
{
أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله } [ هود : 73 ] ، ثم أرشدوها إلى القيام بشكر نعم الله بقولهم : « حَمِيدٌ » فإن الحميد هو الذي يفعل الأفعال الحسنة ، والمجيد إشارة إلى أنه لا يحمد لفعله وإنما يحمد لذاته .
وههنا لما لم يقولوا : أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله أَشَارُوا إلى ما يدفع تعجبها بقولهم : « حكيم عليم » . فالحميد يتعلق بالفعل ، والمجيد يتعلق بالذات ، وكذلك الحكيم هو الذي فعله قاصداً إليه ، فإن من يتقلب في النوم على حية فماتت لا يعد حكيماً ، وأما إذا قصد قتلها بحيث يسلم من نهشها ، يقال : إنه حكيم والعليم صفة راجعة إلى الذات ، فقدم وصف الفعل وارتقى درجة إلى وصف الذات إشارة إلى أنه يستحق الحمد وإن لم يفعل فعلاً .
قوله تعالى : { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون } هذا أيضاً من آداب المُضِيف ، إذا بادر الضيف إلى الخروج قال له : ما هذه العَجَلَةُ؟ وما شَأنُك؟ لأن في سُكُوته ما يوهم باسْتِثْقَالهم ثم إنّهم أتوا بما هو من أدب الصديق الذي لا يسر عن الصديق شيئاً ، وكان ذلك بإذن الله لهم في إطلاع إبراهيم على إهلاكهم وجبر قلبه بتقديم البشارة بأبي الأنبياء إسحاق - عليه الصلاة والسلام - .
فإن قيل : فما الذي اقتضى ذكره بالفاء ولِمَ لا قال : مَا هَذَا الاستعجال؟ ومَا خَطْبكُم المعجل لكم؟
فالجواب : أنه لما أوجسَ منهم خيفةً أو خرجوا من غير بشارة وإيناس ما كان يقول شيئاً فلما أَنِسُوه قال : ما خَطْبُكُم أي بعد هذا الأُنس العظيم ما هذا الإيحاش الأليم!
فصل
والخَطْب يُسْتَعْمل في الأمر العظيم ، ولذلك قال : فَمَا خَطْبُكُم أي لعظمتكم لا ترسلون إلاَّ في أمر عظيم ، ولو قال بلفظ مركب بأن يقول : ما شُغْلكم الخَطِيرُ وأمركم العظيم للزم التطويل فالخَطْبُ أفاد التعظيم مع الإيجاز وعرف أنهم مرسلون بقولهم : « إِنَّا أُرْسِلْنَا » أو بقولهم لامرأته : { كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ } لحكايتهم قول الله تعالى .
وقالوا في سورة هود : { إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ } [ هود : 70 ] وقالوا هنا : { إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } ، لأن الحكاية عن معنى قولهم .
ويحتمل أنهم قالوا الأمرين ولما حكى لفظهم في السلام أتى في الموضعين بصفة واحدة .
والمُجْرم قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما - ) : هو المشرك ، لأن الشرك أسرف الذنوب وأعظمها .
قال ابن الخطيب : المُجْرم هو الآتي بالذنب العظيم ، لأن المجرم فيه دلالة على العظيم ومنه جُرْم الشيء لِعظَمِهِ ومقْدَاره .
قوله : { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } فيه دليل على رَجْم اللائط . والفائدة في إرسال جماعة من الملائكة لهذا الأمر وإن كان يكفي فيه الواحد منهم ، أنَّ الملك العظيم قد يهلك بالأمر الحقير كما هلك النُّمْرُود بالبَعُوض ، وكما أُهْلِكَ بالقُمَّل والجَرَاد بل بالرِّيح التي بها الحياة إظهاراً للقدرة ، وقد تكثر الأسباب كما في يوم بدر أُمِرَ خمسة آلاف من الملائكة بإهلاك أهل بدر مع قلتهم إظهاراً لعظيم قدرته .
وقوله : « مِنْ طِينٍ » أي ليست من البَرَدِ والفاعلُ لذلك هُو اللَّهُ تعالى لا كما يقول الحكماء فإنهم يقولون : إن البَرَد يسمى حجارة فقوله : « مِنْ طِينٍ » يدفع ذلك التَّوَهُّمَ .
قال ابن الخطيب : إن بعض من يَدَّعي العَقل ( يقول ) : لا ينزل من السماء إلا حجارة من طين مدوَّرات على هيئة البَرد وهيئة البَنَادِق التي يتخذها الرماة ، قالوا : وسبب ذلك أن الإعصار يصعد الغُبَار من الفلَوَاتِ العظيمة التي لا عِمَارَةَ فيها والرياح تسوقها إلى بعض البلاد ويتفق ( وصول ) ذلك إلى هواء نَدِيّ فيصير طيناً رَطْباً ، والرطب إذا نزل وتفرق استدار بدليل أنك إذا رميت الماء إلى فوق ثم نظرت إليه رأيته ينزل كراتٍ مُدَوَّرَاتٍ كاللآلئِ الكِبَار ثم في النزول إذا اتفق أن تضربه النيران التي في الجو جعلته حجارة كالآجُرّ المطبوخ فينزل فيصيب من قدر الله هلاكه وقد ينزل كثيراً في المواضع التي لا عِمارة بها ، فلا يُرى ولا يُدْرَى به فلهذا قال : « مِنْ طينٍ » لأ ( نَّ ) ما لا يكون من طين كالحجر الذي في الصواعق لا يكون كثيراً بحيث يمطر ، وهذا تعسُّف ، لأن ذلك الإعصار لما وقع فإن وقع بحادث آخر لزم التسلسل ، ولا بدّ من الانتهاء إلى محدِث ليس بحادث فذلك المحدث لا بدّ وأن يكون فاعلاً مختاراً ، والمختار له أن يفعل وله أن يَخْلُق الحِجَارة من طين على وجه آخر من غير نارٍ ولا غبارٍ ، لكن العَقل لا طريق له إلى الجزم بطريق إحداثه وما لا يصل العقل إليه فلا يؤخذ إلا بالنقل والنص ومن المعلوم أن نُزُول حجارة من الطين من السماء أغرب وأعجب من غيرها .
قوله : « مُسَوَّمَةً » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منصوب على النَّعت لِحَجَارةٍ .
الثاني : أنه حال من الضمير المستكنِّ في الجارِّ قبله .
الثالث : أنه حال من « حجارة » ، وحسَّنَ ذلك كونُ النكرة وُصِفَتْ بالجارِّ بعدها .
ومعنى مسومة قيل : على كل حجر منها اسم صاحبه . وقيل : خلقت وأعدت لتعذيبهم . وقيل : مُرْسَلَة للمجرمين؛ لأن الإرسال يقال في التسويم ، يقال أرسلها لِتَرْعَى ، كما قيل في الخيل المُسَوَّمَةِ أي مستغنى عنها .
قوله : « عِنْد رَبِّكَ » ظرف « لمُسومَةٍ » أي معلَّمة عنده « والمُسْرِفُ » المتمادي ولو في الصغائر فهم مجرمُون مُسْرفُونَ .
وهنا لطيفة وهي أن الحجارة سُومِّتْ للمسرف المُصِرّ الذي لا يترك الذنب في المستقبل وذلك إنما يعلمه الله تعالى ، فلذلك قال : { عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } ولما كان الإجرام ظاهراً قالوا : { إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } واللام في « المسرفين » لتعريف العهد ، أي لِهؤلاء المسرفين؛ إذ ليس لكل مسرف حجارة مسوَّمة .
وإسرافهم بأنهم أتوا بما لم يَسْبِقْهم به أحدٌ من العَالَمِين .
قوله : { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين } هذه الآية تدل على بيان القدرة والاختيار ، لأنه تعالى لما ميز المجرمَ عن المحسن يدل على الاختيار وأيضاً فيها بيان أن بِبَركَة المحسن ينجو المسيء ، فإن القرية ما دام فيها المؤمنون لم تَهْلَكْ . والضمير في « فِيهَا » عائد على القرية وهي معلومة وإن لم تكن مذكورة .
والمعنى : فأَخَرجْنا من كان في قُرَى قومِ لوط من المؤمنين ، وذلك قوله : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل } [ الحجر : 65 ] .
وقوله : { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين } يعني لوطاً وابنتيه وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعاً ، لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم ، وفيه إشارة إلى أن الكفر إذا غلب ، والفِسْقَ إذا فَشَا لا ينفع معه عبادة المؤمنين ، بخلاف ما لو كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة ، وفيهم شِرْذِمَةٌ يسيرة يسرقون ويزنون ، ومثاله أن العالم كالبَدَن ، ووجود الصالحين كالأغذية الباردة والحارة والسموم الواردة عليه الضارة ثم إن البدن إن خلا عن المنافع وفيه الضارّ هلك وإن خلا عن الضار وفيه النافع طاب ونما ، وإن وُجِدَا فيه فالحكم للغالب .
وإذا علم أن إطلاق العَامّ على الخَاصِّ لا مانع منه ، لأن المسلم أعمّ من المؤمن فإذا سمي المؤمن مسلماً ، لا يدل على اتحاد مفهوميهما فكأنه تعالى قال : أخرجنا المؤمنين ، فما وجدنا الأعمَّ منهم إلا بَيْتاً من المسلمين ، ويلزم من هذا أن لا يكون هناك غيرهم من المؤمنين .
قوله : { وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً } يجوز أن يعود الضمير على القَرْية ، أي تركنا في القرية علامةً أي عِبرة كالحجارة أو الماء المنتن ويجوز أن يعود على الإهلاكة المفهومة من السِّياق .
وقوله : « لِلَّذِينَ يَخَافُونَ » أي ما ينتفع بها إلا الخائف ، كقوله تعالى في سورة العنكبوت : { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ العنكبوت : 35 ] ومعنى الآية : أن « الآية » تدلهم على أن الله تعالى أهلكهم فيخافون مثل عذابهم .
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
قوله تعالى : { وَفِي موسى } فِيهِ أوجه :
أظهرها : أنه عطف على قوله : « فِيهَا » بإعادة الجار؛ لأنَّ المعطُوفَ عَلَيْهِ ضميرٌ مجرورٌ فيتعلق ب « تَرَكْنَا » من حيث المعنى ويكون التقدير : وتَرَكْنَا في قصةِ موسى آية . وهذا واضح .
والثاني : أنه معطوف على قوله : { فِي الأرض آيَاتٌ } [ الذاريات : 20 ] أي وفي الأرض وفي موسى آياتٌ للموقنين . قاله الزمخشري وابنُ عطية .
قال أبو حيان : وهذا بعيد جدًّا يُنَزَّه القرآن عن مثله .
قال شهاب الدين : وجه استبعاده له بعد ما بينهما ، وقد فعل أهل العلم هذا في أكثر من ذلكَ .
والثالث : أنه متعلق ب « جَعَلْنَا » مقدرة ، لدلالة : « وَتَرَكْنَا » عليه .
قال الزمخشري : أو على قوله - يعني أو يعطف على قوله - : { وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً } [ الذاريات : 37 ] على معنى وجعلنا في موسى آية كقوله :
4528-
عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً .. . .
قال أبو حيان : ولا حاجة إلى إضمار : « وَجَعَلْنَا » لأنه قد أمكن أن يكون العامل في المجرور « وتركنا » .
قال شهاب الدين : والزمخشري إنما أراد الوجه الأول بدليل قوله : « وَفِي مُوسَى » معطوف على « وَفِي الأَرْضِ » ، أو على قوله : « وَتَرَكْنَا فِيهَا » وإنما قال : على جهة تفسير المعنى لا الإعراب . وإنما أظهر الفعل تنبيهاً على مغايرة الفعلين يعني أن هذا الترك غير ذاك الترك ، ولذلك أبرزه بمادة الجَعْل دون مادة الترك ليظهر المخالفة .
الرابع : أن يعطف على { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } [ الذاريات : 24 ] تقديره : وفي حديث موسى إذْ أَرْسَلْنَاهُ : وَهُوَ مناسب ، لأن الله تعالى جمع كثيراً بين ذكر إبراهيم وموسى - عليهما الصلاة والسلام - ( كقوله تعالى ) : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } [ النجم : 36 - 37 ] ، وقال : { صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى } [ الأعلى : 19 ] قاله ابن الخطيب .
فصل
المعنى : لك في إبراهيم تسلية وفي موسى ، أو لقومك في لوط وقومه عبرة ، وفي موسى وفرعون ، أو تَفَكَّرُوا في إبراهيم ولوط وقومهما وفي موسى وفرعون . هذا إن عطفناه على ( معْلُوم ، وإن عطفناه ) على مذكور فقد تقدم آنفاً . و « السلطان المبين » الحجة الظاهرة .
قوله : « إذْ أَرْسَلْنَاهُ » يجوز في هذا الظرف ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون منصوباً ب « آيَة » على الوجه الأول؛ أي تركنا في قِصة موسى علامةً في وقتِ إرسالنا إيَّاهُ .
الثاني : أنه يتعلق بمحذوف لأنه نعت لآيةٍ ، أي آية كائنة في وقت إرسالنا .
الثالث : أنه منصوب ب « تَرَكْنَا » .
قوله : « بِسُلْطَانٍ » يجوز أن يتعلق بنفس الإرسال ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال إما من موسى وإما من ضميره أي ملتبساً بسُلطان وهو الحُجَّة . و « المبين » الفارق بين سِحْر السَّاحِرِين وأمْر المُرْسَلِينَ .
ويحتمل أن يكون المراد بالمبين أي البراهين القاطعة التي حَاجَّ بِهَا فِرْعَوْنَ .
قوله : « فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ » الجار والمجرور حال من فاعل « تَوَلَّى » ومعنى « تَوَلَّى » أَدْبَرَ عن الإيمان . والباء للمصاحبة . والمراد بالركن أي بجمعِهِ وجنوده الذين كان يَتَقَوَّى بهم كالرُّكْن الذي يَتَقَوَّى به البُنْيَان ، كقوله تعالى : { أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ } [ هود : 80 ] .
وقيل : الباء للتعدية فتكون بمعنى تقوى بجنده . ويحتمل أن يكون المراد تَوَلَّى أمْر موسى بقُوَّتِهِ ، كأنه قال : أقتل موسى لئَلاَّ يُبَدّلَ دينكم ، فتولى أمره بنفسه ، فيكون المفعول غير مذكور وركنه هو نفسه القوية . ويحتمل أن يكون المراد بركنه هامان فإنه كان وزيره .
قوله : { سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } « أو » هنا على بابها من الإبهام على السامع أو للشكّ نَزَّل نفسه مع أنه يعرفه بَيِّناً حقاً منزلة الشاكّ في أمره تمويهاً على قومه . وقال أبو عبيدة : « أو » بمعنى الواو ، قال : لأنه قد قالهما ، قال تعالى : { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } [ الأعراف : 109 ] ، وقال تعالى في موضع آخر : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] ، وتجيء « أو » بمعنى الواو ، كقوله :
4529-
أَثَعْلبَةَ الفَوَارِسِ أَوْ رِيَاحاً ... عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ والخِشَابَا
ورد الناس عليه هذا وقالوا : لا ضرورة تدعو إلى ذلك . وأما الآيتان فلا يدلاَّن على أنه قالهما معاً ، وإنما يفيد أنه قالهما أعم من أن يكونا معاً أو هذه في وقت وهذه في آخَرَ .
قوله : « وَجَنودَهُ » يجوز أن يكون معطوفاً على مفعول « أَخَذْنَاهُ » وهو الظاهر ، وأن يكون مفعولاً معه . { فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم } أغرقناهم في البَحْرِ .
قوله : « وَهُو مُلِيمٌ » جملة حالية ، فإِن كانت حالاً من مفعول « نَبَذْنَاهُمْ » فالواو لازمةٌ؛ إذ ليس فيها ذكر يعود على صاحب الحال ، وإن كانت حالاً من مفعول « أَخَذْنَاهُ » فالواو ليست واجبة؛ إِذ في الجملة ذكرٌ يعودُ عليه . وقد يقال : إنَّ الضمير في « نَبَذْنَاهُمْ » يعود على « فِرْعَوْنَ » وعلى « جُنُودِه » فصار في الحال ذكر يعود على بعض ما شَمِلَه الضمير الأول . وفيه نظر ، إذ يصير نظير قولك : جَاءَ السُّلْطَانُ وَجُنُودُهُ فأكرمتهم راكباً فَرَسَهُ ، فتجعل « راكباً » حَالاً من بعض ما اشتمل عليه ضمير « أكرمتهم » .
فصل
ومعنى « مليم » أي أَتَى بما يُلاَم عليه من دعوى الربوبيّة وتكذيب الرسول .
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
قوله تعالى : { وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا } الكلام عليه قد تقدم عَلَى نظيره .
واعلم أن المراد بهذه الحكايات تسلية قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتذكيره بحال الأنبياء .
فإن قيل : لِمَ لَم يذكر في « عَادٍ » و « ثمُودَ » أنبياءهم كما ذكر إبراهيم وموسى ولوطاً - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسلام -؟! .
فالجواب : أنه ذكر ست حكايات ، حكاية إبراهيم وبشارته وحكاية قوم لوط ونجاة مَنْ كان فيها من المؤمنين وحكاية موسى ، ففي هذه الحكايات الثلاثة ذكر الرسل والمؤمنين لأن الناجين منهم كانوا كثيرين ، فأما في حق إبراهيم وموسى فظاهر وأما في حق لوطٍ فلأن الناجين وإن كَانُوا أهْلَ بَيْتٍ واحد لكن المهلكين أيضاً كانوا أهل بُقْعَةٍ واحدة . وأما عاد وثمود وقوم نوح فكان عدد المهلكين بالنسبة إِلى الناجين أضعافَ المهلكين من قوم لوط عليهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَم؛ فذكر الحكايات الثلاث الأول للتسلية بإهلاك العدو والكل مذكور للتسلية بدليل قوله تعالى في آخر هذه الآيات : { كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [ الذاريات : 52 ] إلى أن قال : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ } [ الذاريات : 54 ] وقال في سورة هود بعد الحكايات : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } [ هود : 100 ] إلى أن قال : { وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] .
قوله : { إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم } وهي التي لا خير فيها ولا بركة ، ولا تلقح شَجَراً ، ولا تَحْمل مطراً لأنها تكسر وتقلع فكيف تلقح؟! .
واعلم أن الفَعِيلَ لا يلحق به تاء التأنيث ( إِن كان بمعنى مفعول وكذلك ) إِذا كان بمعنى فَاعِل في بعض الصُّور . وقد تقدم ذكر سببه ، وهو أن فَعِيلاً لما جاء للمفعول والفاعل جميعاً ولم يتميز المفعول عن الفاعل فأولى أن لا يتميز المؤنث عن المذكر فيه لأنه ( لو تميز ) لَتَميَّزَ الفاعل عن المفعول قبل تمييز المؤنث والمذكر ، لأن الفاعلَ جزءٌ من الكلام محتاجٌ إليه ، والمفعول فيه فائدة أكيدةٌ وإن لم يكن جزءاً من الكلام محتاجاً إليه ، فأول ما يحصل في الفعل الفاعل ثم التذكير والتأنيث يصير كالصفة للفاعل ( والمفعول ) تقول : فَاعِلٌ وفَاعِلَةٌ ، ومَفْعُولٌ ومفَعُولَةٌ ، ويدل على ذلك أيضاً أن التمييز بين الفاعل والمفعول جعل بحرف ممازج للكلمة فقيل : فَاعل بألف فاصلة بين الفاء والعين التي هي من أصل الكلمة ، وقيل : مفعُول بواو فاصلة بين العين واللام والتأنيث كان بحرف في آخر الكلمة ، فالمميز فيهما غيَّر نظم الكلمة لشدّة الحاجةِ ( وفي التأنيث ) لم يؤثر ، ولأن التمييز في الفاعل والمفعول كان بأمرين يختص كُلّ واحد منهما بأحدهما فالألف بعد الفاء يختص بالفاعل ، والميم والواو يختص بالمفعول والتمييز في التذكير والتأنيث بحرف ( واحد عند ) وجوده يميز المؤنث وعدمه يبقي اللفظ على أصل التذكير فإذا لم يكن « فَعِيلٌ » يمتاز فيه الفاعل عن المفعول إلا بأمر منفصل كذلك ( المؤنث والمذكر لا يمتاز أحدهما عن الآخر إِلا بحرف غير متصل به .
قوله : { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ } فيه وجهان ) :
أحدهما : أنه نصب على أنه صفة للريح بعد صفة « العَقِيم » . قاله الواحدي .
فإن قيل : كيف يكون وصفاً والمعرف لا يوصف بالجُمَلِ؟ و « مَا تَذَرُ » جملة فلا يوصف بها النكرات؟! .
فالجواب من وجهين :
الأول : أن يكون بإِعادة الريح تقديراً ، كأنه يقول : وَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ العَقِيمَ ريحاً مَا تَذَرُ .
الثاني : أنها لما لم تكن معهودة صارت منكَّرة كأنه يقول : لم تكن من الرياحِ التي تقع ولا وقع مثلُها ، فهي لشدتها منكرة ، ولهذا أكثر ما ذكرت في القرآن منكَّرة ، ووصفت بالجملة كقوله تعالى : { بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ الأحقاف : 24 ] ، وقوله : { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ } [ الحاقة : 6 و 7 ] إلى غير ذلك .
الوجه الثاني : أنه نصب على الحال ، تقول : جَاءَنِي ما يَفْهَمُ شَيْئاً فَعَلَّمْتُهُ وفَهَّمْتُهُ أي حاله كذا .
فإن قيل : لم يكن حال الإرسال ما تذر والحال ينبغي أن يكون موجوداً مع ذِي الحال وقت الفعل فلا يجوز أن يقال : جاءني زيد أمس راكباً غداً ، والريح بعد ما أرسلت بزمان صارت ما تذرُ شيئاً!
فالجواب : أن المراد بيان الصلاحية أي التي أرسلناها على قوةٍ وصلاحيّةٍ لا تذر ، وتقول لمن جاء وأقام عندك أياماً ثم سألك شيئاً : جئْتَني سَائلاً أيْ وقت السؤال بالصلاحية والإِمكان .
هذا إن قيل : بأنه نصب على المشهور .
ويحتمل أنه رفع على خبر مبتدأ محذوف تقديره هِيَ مَا تَذَرُ .
فَإن قِيلَ : « ما تذر » لنفي حال المتكلم؛ يقال : مَا خَرَجَ زَيْدٌ إلَى الآن ، وَإِذا أَرَدْتَ المستقبل تقول : لا يخرجُ أو لن يَخْرُجَ . وتقول للماضي : مَا خَرَجَ ولم يَخْرُجْ ، والريح حالة الكلام مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت ما تركت من شيء إلا جعلته كالرميم فكيف قال بلفظ الحال : ما تذر؟!
فالجواب : أنّ الحكايات مقدرة على أنها محكية حال الوقوع ، كقوله تعالى : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد } [ الكهف : 18 ] مع أن اسم الفاعل بمعنى الماضي لا يعمل ، وإنما يعمل ما كان منْه بمعنى الحال والاستقبال .
فإن قيل : هل في قوله تعالى : { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ } تخصيص كما في قوله تعالى : { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } [ الأحقاف : 25 ] .
فالجواب : أن المراد به المبالغة ، لأن قوله : « أَتَتْ عَلَيْهِ » وصف لقوله : « شَيْء » كأنه قال : كُلّ شيءٍ أَتَتْ عَلَيْه ، أو كل شيء تأتي عليه ، ولا يدخل فيه السموات ، لأنها ما أتت عليه ، وإنما يدخل فيه الأجسام التي تَهُبُّ عليها الرِّياحُ .
فإِن قيل : فالجبال والصخور أتت عليه وما جعلته كالرَّميم! .
فالجواب : أن المراد أتت عليه قاصدةً له وهو عادٌ وأبنيتُهم وعروشُهم لأنها كانت مأمورة بأمر من عند الله فكأنها كانت قاصدة لهم ، فما تركت شيئاً من تلك الأشياء إلا جعلته كالرميم .
قوله : { إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } هذه الجملة في موضع المفعول الثاني ل « تَذَرُ » كأنه قيل : مَا تَتْركُ مِنْ شيء إلا مجعولاً نحو : مَا تَرَكْتُ زَيْداً إلاَّ عَالِماً . وأعربها أبو حيان : حالاً . وليس بظاهر .
فصل
المعنى « مَا تَذَرُ » ما تترك { مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ } من أنفسهم وأموالهم وأنعامهم { إلاَّ جعلته كالرميم } أي كالشيء الهالك البالي ، وهو نبات الأرض إذا يَبِسَ ودِيسَ . قال مجاهد : كالتِّبْن اليابسِ .
وقال أبو العالية : كالتراب المدقُوق . وقيل : أصله من العظم البَالي .
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)
قوله تعالى : { وَفِي ثَمُودَ } الكلام فيه كما تقدم في قوله : « وفي موسى » ، وقوله : { إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ } . قال بعض المفسرين : المراد منه هو ما أَمْهَلَهُم الله بعد عقرهم الناقة وهو ثلاثة أيام ( كما ) في قوله تعالى : { فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ } [ هود : 65 ] وكان في تلك الأيام تغيير ألوانهم فتصفرُّ وتحمرُّ وتسودُّ . قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف؛ لأن قوله تعالى : { فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } بحرف الفاء دليل على أن العُتُوَّ كان بعد قوله : « تمتعوا » ، فإذن الظاهر أن المراد هو ما قدر الله للناس من الآجال فما من أحد إِلا وهو مُمْهَلٌ مدَّة الأجل .
قوله : { فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } « عَتَا » يتعدى تارة « بعَلَى » ، كقوله تعالى : { أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً } [ مريم : 69 ] ، وههنا استعمل بعَنْ؛ لأن فيه معنى الاستكبار كقوله : { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } [ الأنبياء : 19 ] وحيث استعمل بعلى ، فهو كقولك : فُلاَنٌ يتكبَّر عَلَيْنَا .
قوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة } وهذه قراءة العامة . وقرأ الكسائي الصّعْقَةُ . والحسن الصَّاقِعَة . وتقدم ذكره في البقرة . وقوله : « وَهُمْ يَنْظُرُونَ » جملة حالية من المفعول . و « يَنْظُرُونَ » قيل : من النَّظَرِ . وقيل : من الانتظار أي ينتظرون ما وُعدوهُ من العذاب .
قوله ( تعالى ) : { فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ } أي فما قاموا بعد نزول العذاب ولا قدروا على دفعه .
قال قتادة : لم ينهضوا من تلك الصرعة .
وقوله : « من قيام » بدل قوله : منْ هَرَب؛ لأن العاجز عن القيام أحرى أن يعجز عن الهَرَب . ويحتمل أن يكون المراد منه من القيام بالأمر أي ما استطاعوا من قيامٍ به . { وما كانوا منتصرين } أي منتقمين منا . قال قتادة : كان عندهم قوة من الله .
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
قوله تعالى : { وَقَوْمَ نُوحٍ } قرأ الأخوان وأبو عمرو بجر الميم ، والباقون بنصبها . وأبو السَّمَّال وابن مِقْسم وأبو عمرو في رواية الأصمعيّ : وقَوْمُ نُوحٍ بالرفع .
فأما الخفض ففيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه معطوف على « وَفِي الأرض » .
(
الثاني : أنه معطوف على « وَفِي مُوسَى » .
الثالث : أنه معطوف على : « وَفِي عَادٍ » ) .
الرابع : أنه معطوف على « وَفِي ثَمُودَ » . وهو الظاهر؛ لقُرْبه ، وبُعْدِ غيره ، ولم يذكر الزمخشري غَيْرَهُ ، فإنه قال : قُرئ بالجرِّ على معنى وقوم نوح وتقوِّيه قراءةُ عبد الله : وفِي قَوْمِ نوحٍ؛ أي لكم عبرة . ولم يَذْكُرْ أبو البقاء غير الوجه الأخير لظهوره .
وأما النصب ففيه ستة أوجُهٍ :
أحدها : أنه منصوب بفعل مضمر أي وأهْلَكْنَا قَوْمَ نوحٍ؛ لأن ما قبله يدل عليه .
الثاني : أنه منصوب ب « اذْكُرْ » مقدراً ، ولم يذكر الزمخشَريُّ غيره .
الثالث : أنه منصوب عطفاً على مفعول « فَأَخَذْنَاهُ » .
الرابع : أنه معطوف على مفعول فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليمِّ أي أَغْرَقْنَاهم ، وناسب ذلك أن قوم نوح مغرقون من قبل لكن يشكل أنهم لم يغرقوا في اليمِّ . وأصل العطف أن يقتضي التشريك في المتعلقات .
الخامس : أنه معطوف على مفعول « فَأَخَذَتْهُمُُ الصَّاعِقَةُ » . وفيه إشكال لأنه لم تأخذهم الصاعقة وإنما أهلكوا إلا أن يراد بالصَّاعقة الداهية والنازلة العظيمة من أي نوعٍ كانت فيقرب ذلك .
السادس : أنه معطوف على محل : « وفي موسى » . نقله أبو البقاء . وهو ضعيف . وأما الرفع فعلى الابتداء والخبر مقدر أي أهْلَكْنَاهُمْ . وقال أبو البقاء : والخبر ما بعده يعني من قوله : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } ولا يجوز أن يكون مراده قولَه « مِنْ قَبْلُ » إِذِ الظرفُ ناقصٌ فلا يُخْبَرُ بِهِ .
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)
قوله : { والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } العامة على النصب على الاشتغال ، وكذلك قوله : { والأرض فَرَشْنَاهَا } والتقدير : وَبَنَيْنَا السَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا . وقال أبو البقاء : أي وَرَفَعْنَا السَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا فقدر الناصب من غير لفظ الظاهر . وهذا إنما يصار إليه عند تعذر التقدير الموافق لفظاً نحو : زَيْدٌ مرَرْتُ بِهِ ، وزيد ضَرَبْتُ غُلاَمَهُ وأما في نحو : زَيْداً ضَرَبْتُهُ ، فلا يقدر إلا ضَرَبْتُ زَيْداً .
وقرأ أبو السَّمَّال وابن مِقسم برفعهما؛ على الابتداء ، والخبر ما بعدهما . والنصب أرجح لعطف جملة الاشتغال على جملة فعلية قبلها .
قوله : « بأَيْدٍ » يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال وفيها وجهان :
أحدهما : أنها حال من فاعل « بَنَيْنَاهَا » أي ملتبسينَ بأيدٍ أي بقوة؛ قال تعالى : { واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيد } [ ص : 17 ] .
الثاني : أنه حال من مفعوله أي ملتبسةً بقوة . ويجوز أن تكون الباء للسبب أي بسبب قُدْرَتِنَا . ويجوز أن تكون البَاء معدّية مجازاً على أن تجعل الأيدي كالآلة المبنيِّ بها ، كقولك : بَنَيْتُ بَيْتَكَ بالآجُرّ .
قوله : « وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ » يجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل « بَنَيْنَاهَا » . ويجوز أن تكون حالاً من مفعوله ومفعول « موسِعُون » محذوف أي مُوسِعُونَ بِنَاءَهَا . ويجوز أن لا يقدر له مفعولٌ؛ لأن معناه : لَقَادِرُونَ كقولك : ما في وُسْعِي كذا أي ما في طاقتي وقُوَّتِي؛ كقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] قاله ابن عَبَّاسٍ وعنه أيضاً : لموسعون الرزق على خَلْقِنَا .
وقيل : ذُو سَعَةٍ . وقال الضحاك : أغنياء ، دليله قوله تعالى : { عَلَى الموسع قَدَرُهُ } [ البقرة : 236 ] .
قال ابن الخطيب : ويجوز أن يكون من السَّعَة أي أوْسَعْنَاهَا بحيث صارت الأرض وما يحيط بها من الماءِ والهواء بالنسبة إلى سعتها داخل فيها والبناء الواسع الفضاء عجيب ، فإِنَّ القُبَّة الواسعة لا يقدر عليها البَنَّاؤُونَ ، لأنهم محتاجون إِلى إقامة آلة يصح بها استدارتها ، ويثبت بها تَمَاسُك أجزائها إلى أن يتصل بعضها ببعض . فقوله : « وإنا لموسعون » بيان للإعراب ( في الفعل ) .
فصل
والحكمة في كَثْرة ذكر البناء في السموات كقوله تعالى : { والسمآء وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] ، وقوله : { أَمِ السمآء بَنَاهَا } [ النازعات : 27 ] أن بناء السماءِ باقٍ إلى قيام الساعة ، لم يسقط منها شيء ، ولم يُعْدَم منها جزءٌ . وأما الأرض فَهي في التبدل والتغير كالفراش الذي يُبْسَط ويُطْوَى ويُنْقَلُ ، والسماء كالبناء المبنيّ الثابت كما أشار إليه بقوله : { سَبْعاً شِدَاداً } [ النبأ : 12 ] وأما الأرض فكَمْ صارت بحراً ، وعادت أرضاً من وقت حدوثها ، وأيضاً فالسماء ترى كالقُبَّةِ المبنية فوق الرؤوس ، والأرض مبسوطة مَدْحُوَّة ، وذكر البناء بالمرفوع أليق كقوله تعالى : { رَفَعَ سَمْكَهَا } [ النازعات : 28 ] .
وقال بعض الحكماء : السماء مسكَن الأَرْوَاحِ ، والأرض موضع الأعمال والمسكن أليق بكونه بناءً . والله أعلم .
فإن قيل : ما الحكمة في تقديم المفعول على الفعل ولو قال : وبَنَيْنَا السَّمَاءَ بأيدٍ كان أَوْجَز؟! .
فالجواب : قال ابن الخطيب : لأن الصُّنْعَ قبل الصانع عند الناظر في المعرفة ، فلما كان المقصود إثبات العلم بالصانع قدم الدليل وقال : والسَّمَاء المبنية التي لا تشُكُّون في بُنْيَانِها ، فاعْرفونا بها إِن كنتم لا تَعْرِفُونَنَا .
فإن قيل : إذا كان إثبات التوحيد فكيف قال : بَنَيْنَاها ، ولم يقل : بَنَيْتُها؟ ولا بناها الله؟!
فالجواب : أن قوله : بنيناها أدل على عدم الشريك ، لأن الشّركة ضعيفة؛ فإن الشريكَ يمنع شَريكه عن التصرف والاستبداد ، وقوله : « بَنَيْنَاهَا » يدل على العَظَمَة ، وبين العظمة والضعف تنافرٌ فبين قوله : « بَنَيْنَاهَا » وبين أن يكون شريك منافاة . وتقريره أن قوله تعالى : { بَنَيْنَاهَا } لا يورث إيهاماً بأن الآلهة التي كانوا يعبدونها هي التي يرجع إليها الضمير ، لأن تلك إما أصنام منحوتة وإما كواكب جعلوا الأصنام على صُوَرِها وطَبائِعِهَا ، فأما الأصنام المنحوتة فلا يَشكون أنها ما بنت من السماء شيئاً ، وأما الكواكب فهي في السماء محتاجة إليها فلا تكون هي بانيتها؛ وإنما يقال : بُنيتْ لها وجعلت أماكنها ، فلمّا لم يتوهم ما قالوا قال : بَنَيْنَا نَحْنُ ونحن غير ما يقولون ويدعونه فلا يصلحون لنا شُرَكَاءَ . ثم لما بين أن قولهم لا يُوهم شريكاً أصلاً ، لأن كل ما هو غير السماء فهو محتاج إلى السماء دون السماء في المرتبة فلا يكون خالقاً للسماء ولا بانيها ، فعلم أن المراد جمعُ التعظيم ، فأفاد النص عظمة ، والعظمة أنفى للشريك ، فعلم أن قوله : « بَنَيْنَاهَا » أدلّ على نفي الشَّريك من « بَنَيْتُهَا » و « بِنَاء اللَّهِ » .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : بَنَيْنَاهَا بأيدينا كما قال : { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ } [ يس : 71 ] .
فالجواب : أن ذلك لفائدة جليلة ، وهي أنَّ السماء لا يخطر ببال أحد أنها مخلوقة غير الله والأنعام ليست كذلك .
فقال هناك : عملت أيدينا تصريحاً بأن الحيوان مخلوق لله تعالى من غير واسطة . وكذلك : { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] وفي السماء قال : بأيد من غير إضافة للاستغناء عنها .
وفيه لطيفة ( أخرى ) وهي : أن هناك لما أثبت الإضافة لم يعد الضمير العائد إلى المفعول فلم يقل خلقته ولا عملته ، وأما السماء : فبعض الجهال يزعم أنها غير مجعولة ، فقال : بَنَيْنَاهَا بعَوْدِ الضمير تصريحاً بأنها مخلوقة .
قوله : « وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا » أي بسطناها ومَهَّدْنَاها ، وفيه دليل على أن خلق الأرض بعد خلق السماء لأن بناء البيت يكون في العادة قبل الفرش .
قوله : « فَنِعْم المَاهِدُونَ » المخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى ، أي نَحْنُ ، كقوله : { نِعْمَ العبد } [ ص : 30 ] ، قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما - ) : معناه الباسطون أي نعم ما وطأت لعبادي .
قوله تعالى : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ } يجوز أن يتعلق « بخَلَقْنَا » أي خلقنا من كل شيء زَوْجَيْن ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من : « زَوْجَيْنِ » لأنه في الأصل صفة له ، إذْ التقدير خَلَقْنَا زَوْجَيْنَ كَائِنَيْن مِنْ كلِّ شيء .
والأول أقوى في المعنى .
فصل
المعنى « خلقنا زوجين » صِنْفَيْن ونوعين مختلفين ، كالسَّمَاءِ والأرض ، والشَّمس والقمر ، والليل والنهار ، والبَرّ والبحر ، والسَّهْل والجبل ، والشتاء والصَّيْف ، والجنّ والإنس ، والذَّكَر والأنثى ، والنور والظُّلْمَة ، والإيمان والكفر ، والسعادة ( والشقاوة ) والحق والباطل ، والحُلْو والمُرّ « لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » فتعلمون أنّ خالق الأزواج واحد لا شريك له ، لا يعجز عن حشر الأجْساد وجَمْع الأرواح .
قوله : { ففروا إِلَى الله } أي فاهربُوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة . قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما - ) : فروا منه إليه واعملوا بطاعته . وقال سهل بن عبد الله : فروا ممَّا سوى الله إلى الله { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } وهذا إشارة إلى الرسالة .
قوله : { وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها آخَرَ } إتماماً للتوحيد ، لأن التوحيد يباين التعطيل والتشريك ، لأن المُعَطِّل يقول : لا إله أصلاً والمشرك يقول بوجود إله آخر ، والموحِّد يقول : قول الاثنين باطل ، لأن نفي الواحد باطل والقول بالاثنين باطل ، فلما قال تعالى : { ففروا إِلَى الله } أثبت وجود الله ، فلما قال : { وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها آخَرَ } نفى الأكثر من واحد فصح القول بالتوحيد بالآيتين .
ولهذا قال مرتين : { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي في المقامين والموضِعَيْنِ .
قوله : « كَذَلِكَ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمرُ مِثْلُ ذلك ، ( قال الزمخشري ) : والإشارة بذلك إلى تكذيبهم الرسول وتسميته ساحراً ومجنوناً . ثم فسَّر ما أجمل بقوله : « مَا أَتى » .
والثاني : أن الكاف في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف . قاله مكي . ولم يبين تَقْدِيرَهُ . ولا يصح أن ينتصب بما بعده لأجل ما النافية . وأما المعنى فلا يمتنع ، ولذلك قال الزمخشري : ولا يصح أن يكون الكاف منصوبة ب « أَتَى » لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلَها؛ ولو قيل : لم يأت لكان صحيحاً ، يعني لو أتى في موضع « مَا » ب « لم » لجاز أن ينتصب الكاف ب « أَتَى » لأن المعنى يسوغ عليه ، والتقدير : كَذَّبَتْ قُرَيْشٌ تكذيباً مِثْلَ تَكْذِيبِ الأُمَم السَّابِقَة رُسُلَهُمْ . ويدل عليه قوله : { مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ } الآية .
قوله : { إِلاَّ قَالُواْ } الجملة القولية في محل نصب على الحال من : { الذين مِن قَبْلِهِمْ } و « مِنْ رَسُولٍ » فاعل : « أتى » كأنه قيل : ما أتى الأولينَ رسولٌ إلاَّ في حال قولهم : هُوَ سَاحِرٌ .
فإن قيل : إن من الأنبياء من قرر دين النبي الذي كان قبله وبقي القوم على ما كانوا عليه كأنبياء بني إسرائيل وكيف وآدم لما أرسل لَمْ يُكَذّبْ؟! .
فالجواب : أنا لا نسلم أن المقرر رسول ، بل هو نبي على دين رسولٍ ومن كَذَّب رَسُولَه فهو يكذبه أيضاً ضرورةً .
فإن قيل : قوله : { ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا } يدل على أنهم كلّهم قالوا : ساحر والأمر ليس كذلك لأن ما مِنْ رسول إلا وآمن به قومٌ وهم ما قالوا ذلك! .
فالجواب : أن ذلك ليس بعَامٍّ ، فإنه لم يقل : إلا قال كلهم وإنما قال : « إلاَّ قَالوا » ولما كان كثير منهم قابلينَ ذلك قال الله تعالى : إِلاَّ قَالُوا .
فإن قيل : لِمَ لمْ يذكر المصدّقين كما ذكر المُكَذّبين ، وقال : إِلاَّ بَعْضُهُمْ صدقتَ وبعضهم كذبتَ؟ .
فالجواب : لأن المقصود التسلية وهي على التكذيب ، فكأنه تعالى قال : لا تأسَ على تكذيب قومِكَ ، فإن أقواماً قبلك كَذّبوا ورسلاً كُذّبُوا .
قوله : « أَتَواصَوا بِه » الاستفهام للتعجب والتوبيخ والضمير في « بِهِ » يعود على القول المدلول عليه بقَالُوا ، أي أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول المتضمن كساحر أو مجنون؟ . والمعنى : كيف اتفقوا على قول واحد كأنهم تواطؤوا عليه ، وقال بعضهم لبعض : لا تقولوا إلا هذا وأوصى أولهم آخرَهم بالتكذيب . ثم قال : لم يكن ذلك لتواطُؤ قولٍ وإنما كان لمعنى جامع وهو أن الكُلّ أترفوا فاستغنوا فنَسُوا الله وطغوا فكذبوا رُسُلَهُ ، قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما - ) حملهم الطغيان فيما أعطيتهم ووسعت عليهم على تكذيبك .
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
قوله « فَتَوَلَّ عَنْهُمْ » فأعرض عنهم ، { فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ } لا لوم عليك ، قد أديت الرسالة ، وما قصرت فيما أمرت به . وهذه تسليةٌ أُخْرَى .
قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية حَزِنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتدّ ذلك على أصحابه وظنوا أن الوحي قد انقطع ، وأن العذاب قد حضر إذ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتولَّى عنهم فأنزل الله : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين } فطابت أنفسهم . والمعنى : ليس التولي مطلقاً ، بل تَوَلَّ وأَقْبِلْ وأَعرض وادعُ فلا التولي يضرك إذا كان علهيم ، ولا التذكير يضيع إذا كان مع المؤمنين .
قال مقاتل : معناه عِظ بالقرآن كفار مكة ، فإن الذكرى تنفع من علم الله أنه يؤمن منهم . وقال الكلبي : عظ بالقرآن من آمن من قومك ، فإن الذكرى تنفعهم .
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } . هذا الجار متعلق « بخَلَقْتُ » .
واختلف في الجن والإنس ، قيل : المراد بهم العموم والمعنى إلا لآمرهم بالعبادة وليقروا بها ، وهذا منقول عن علي بن أبي طالب ، ويؤيده : { وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً } [ التوبة : 31 ] أو يكون المعنى : ليطيعوني وينقادوا لقضائي ، فالمؤمن يفعل ذلك طوعاً والكافر كرهاً ، فكل مخلوق من الجِنّ والإنس خاضع لقضاء الله متذلّل لمشيئته ، لا يملك أحد لنفسه خروجاً عما خلق عليه . أو يكون المعنى : إلا معدين للعبادة ، ثم منهم من يتأتى منه ذلك ، ومنهم من لا ، كقولك : هَذَا القَلَمُ بَرَيْتُهُ لِلْكِتَابَةِ ، ثم قد يكتب به ، وقد لا يُكْتَب وقيل : المراد به الخصوص ، أي ما خلقت السعداءَ من الجنِّ والإنس إلا لعبادتي ، والأشقياء منهم إلا لمعصيتي . قاله زيد بن أسلم . قال : هو ما جُبلوا عليه من السعادة والشقاوة ، ويؤيده قوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس } [ الأعراف : 179 ] .
وقال مجاهدٌ : معناه إِلاَّ ليعْرفُون . قال البغوي : وهذا أحسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده ، بدليل قوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] ، وقيل : إلا ليعبدون أي إلا ليوحدون ، فأما المؤمن فيُوَحِّده في الشدة والرخاء ، وأما الكافر فيوحده في الشّدة والبلاء دون النعمة والرخاء قال تعالى : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } [ العنكبوت : 65 ] وقيل : المراد وما خلقت الجِنَّ والإِنْسَ المؤمنين . وقيل : الطائعين . قال شهاب الدين : والأول أحسنُ .
فصل
في تعلق الآية بما قبلها أن بعثة الأنبياء منحصرة في أمرين عبادة الله وهداية الخلق ، فلما قال تعالى : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ } [ الذاريات : 54 ] بين أن الهداية قد سقطت عند اليأس ، وأمّا العبادة فهي لازمة للخلق المطلق وليس الخلق المطلق للهداية ، وقيل : إنه لما بين حال من قبله فِي التكذيب ذكر هذه ليتبين سُوءَ صنيعهم ، حيث تركوا عبادة الله الذي خلقهم للعبادة .
فإِنْ قِيلَ : ما الحكمة في أنه لم يذكر الملائكة مع أنهم من أصناف المكلفين وعبادتهم أكثر من عبادة غيرهم من المكلَّفين ، قال تعالى : { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 ] وقال : { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } [ الأعراف : 206 ] .
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنه تقدم أن الآية سيقت لبيان قُبْح ما يفعله الكَفَرَةُ ، من ترك ما خُلِقُوا له . وهذا مختص بالجِنِّ والإنس؛ لأن الكفر موجودٌ في الجنِّ والإنس بخلافِ الملائكة .
الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مبعوثاً إلى الجنِّ والإنس ، فلما قال : « وَذَكِّرْ » بين ما يذكر به وهو كون الخلق للعبادة ، وخصص أمته بالذكر أي ذكر الإنس والجن .
الثالث : أن عباد الأصنام كانوا يقولون : إن الله تعالى عظيم الشأن خلق الملائكة وجعلهم مقربين ، فهُم يعبدون الله وخلقهم لعبادته ونحن لنزول درجتنا لا نصلح لعبادة الله فنعبد الملائكة وهم يعبدون الله كما قالوا :
{
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] فقال تعالى : { مَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } ولم يذكر الملائكة لأن الأمر فيهم كان مسلماً من القوم ، فذكر المتنازع فيه .
الرابع : فعل الجن يتناول الملائكة ، لأن أصل الجن من الاستتار ، وهم مُسْتَتِرُون عن الخلق فذكر الجن لدخول الملائكة فيهم .
قوله : { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ } أي يرزقوا أحداً من خَلْقِي ، ولا أن يرزقوا أنفسهم { وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } أي يطعموا أحداً من خلقي . وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق عِيالُ الله ومن أطعم عيالَ أحدٍ فقد أطعمَهُ ، قال عليه الصلاة والسلام : « اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي » ، أي لم تطعم عبدي .
فصل
استدل المعتزلة بقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } على أن أفعال الله تعالى معلّلة بالأغراض وأجيبوا بوجوه تقدمت منها : أن اللام قد تثبت لغير الغرض كقوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء : 78 ] وقوله : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] ومعناه المقارنة فمعناه : قرنت الخلق بالعبادة أي خلقتهم ، وفرضت عليهم العبادة .
ومنها : قوله تعالى : { الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] و [ الرعد : 16 ] .
ومنها : ما يدل على أن الإضلال بفعل الله كقوله تعالى : { يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ النحل : 93 ] وأمثاله .
ومنها : قوله تعالى : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [ الأنبياء : 23 ] وقوله : { وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآءُ } [ إبراهيم : 27 ] و { يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } [ المائدة : 1 ] .
وقوله تعالى : { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } معناه : أن النفع يعود إليهم لا لي .
فإن قيل : ما الفائدة في تكرير الإرادتين مع أن من لا يريد من أحدٍ رزقاً لا يريد أن يُطْعِمَهُ؟! .
فالجواب : أن السيِّدَ قد يطلب من العبد المتكسّب له ، فيطلب منه الرزق ، وقد يكون للسَّيدِ مالٌ وافر يستغني به عن التكسب لكنه يطلب من العبد قضاءَ حوائجه وإحضار الطعام بين يديه ، فقال : لا أريد ذلك ولا هذا . وقد طلب الرزق على طلب الإطعام من باب الارتقاء من الأدنَى إِلى الأعلى .
فإن قيل : ما فائدة تخصيص الإطعام بالذكر مع أن المراد عدم طلب فعل منهم غير التعظيم؟! .
فالجواب : أنه لما عمم النفي في الطلب الأول بقوله : « من رزق » وذلك إشارة إلى التعميم بذكر الإِطعام ونفي الأدنى يستتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى ، فكأنه قال : ما أريد منهم من غِنًى ولا عَمَلٍ .
فإن قيل : المطالب لا تنحصر فيما ذكره فإن السيِّد قد يشتري العبد لا لطلب عمل منه ، ولا لطلب رزق ولا للتعظيم ، بل يشتريه للتجارة!
فالجواب : أن عموم قوله : { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ } يتناول ذلك .
قوله : « أَنْ يُطْعِمُونِ » قيل : فيه حذف مضاف أي يطعموا خَلْقِي كما تقدم في التفسير . وقيل : المعنى أن يَنْفَعُون فعبر ببعض وجوه الانتفاعات لأن عادة السادة أن ينتفعوا بعبيدهم ، والله مُسْتَغْنٍ عن ذلك .
قوله تعالى : { إِنَّ الله هُوَ الرزاق } يعني لجميع خلقه ، وهذا تقرير لعدم طلب الرزق ، وقوله : « ذو القُوَّةِ » تقرير لعدم طلب العمل لأن من يطلب رزقاً يكون فقيراً محتاجاً ، ومن يطلب عملاً يكون عاجزاً لا قوة له فكأنه يقول : ما أريدُ منهم من رزق فإني أنا الرزّاق ، ولا العمل فإِني قَوِيّ .
وروي أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قرأ : إِنِّي أنا الرزَّاق ، وقرأ ابن مُحَيْصِن : الرَّازق ، كما تقدم في قراءته : { وَفي السَّمَاء رازِقُكمْ } .
قوله : « المَتِينُ » العامة على رفعه ، وفيه أوجه :
إما النعت للرزَّاق ، وإما النعت لِذُو ، وإما النعت لاسم « إِنَّ » على الموضع . وهو مذهب الجَرْمِيِّ والفراء ، وغيرهما . وإما خبر بعد خبر ، وإما خبر مبتدأ مضمر . وعلى كل تقدير فهو تأكيد ، لأن « ذو القوة » يفيد فائدتَهُ .
وقرأ يَحْيَى بْنُ وَثَّاب والأعمشُ المَتِينِ - بالجر - فقيل : صفة « القوة » ، وإنما ذكر وصفها لكوْن تأنيثِها غيرَ حَقِيقيٍّ . وقيل : لأنها في معنى الأيْدِ .
وقال ابن جنِّي : هو خفض على الجوار كقولهم : « هَذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ » يعني أنه صفة للمرفوع ، وإنما جر لما جاور مجروراً . وهذا مرجوحٌ لإمكان غيره ، والجوار لا يصار إليه إلا عند الحاجة .
فصل
قال تعالى : « ما أريد » ولم يقل : إني رازق بل قال على الحكاية عن الغائب إن الله هو الرزّاق فما الحكمة فيه؟ .
قال ابن الخطيب : نقول : قد رُوِيَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ : إنِّي أنا الرَّزَّاق . وأما على القراءة المشهورة فالمعنى : قُلْ يا محمد إن الله هو الرزَّاق ، أو يكون من باب الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، أو يكون قل مضمراً عند قوله : « مَا أُرِيدُ » أي قل يا محمد : ما أريد منهم من رزق فيكون بمعنى قوله : { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } [ ص : 86 ] ويكون على هذا قوله تعالى : { إِنَّ الله هُوَ الرزاق } ، ولم يقل : القوي ، بل قال : ذُو القوة ، لأن المقصود تقرير ما تقدم من عدم إرادة الرزق ، وعدم الاستعانة بالغير لكن في عدم طلب الرزق لا يكفي كون المستغني بحيث يرزق واحداً ، فإن كثيراً من الناس يرزق ولده وعبده ويسترزق والملك يرزق الجند ، ويسترزق ، فإذا كثر منه الرزق قل منه الطلب لأن المسترزِقَ منه يكثر الرزق ، لا يسترزق من رزقه فلم يكن ذلك المقصود يحصل إلا بالمبالغة في وصف الرازق ، فقال : الرزَّاق ، وأما ما يُغني عن الاستعانة بالغير ، فهو دون ذلك لأن القوي إذا كان في غاية القوة يعين الغير ، فإذا كان دون ذلك لا يعين غيره ولا يستعين به استعانة قوية بل استعانة ما وتتفاوت بعد ذلك ، ولما قال : { وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } كفاه بيان نفس القوة فقال : « ذُو القوة » ، لأن قولنا : ذُو القوة في إفادة معنى القوي دون إفادة القَوِيّ ، لأن ذلك لا يقال في الوصف اللازم البين ، يقال في الآدمي : ذُو مَال ومتمول ، وذو جَمال ، وجميل ، وذو خلق حسن إلى غير ذلك مما ( لا ) يلزم لزوماً بيناً .
ولا يقال في الثلاثة : ذات فردية ، ولا في الأربعة : ذات زوجية ، وهذا لم يرد في الأوصاف الحقيقية فلم يسمع ذو الوجود ولا ذو الحياة ولا ذو العِلم ، ويقال في الإنسان : ذو علم ، وذو حياة لأنها فيه عرض لا لازم بين .
وفي صفات الفعل يقال : الله تعالى ذُو الفضل كثيراً ( وذو الخلق قليلاً ) ؛ لأن « ذا كذا » بمعنى صاحب والصحبة لا يفهم منها اللزوم فضلاً عن اللزوم البين . ويؤيد هذا قوله تعالى : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : 76 ] فجعل غيره ذا علم ووصف نفسه بالفعل فبين ذي العِلم والعليم فرق وكذلك بين ذي القوة والقويّ ، ويؤيده أيضاً قوله تعالى : { فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِيٌّ } [ غافر : 22 ] وقوله : { الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ القوي } [ الشورى : 19 ] وقال : { لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] لأن هذه الصور كان المراد بها بيان القيام بالأفعال العظيمة وههنا المراد عدم الاحتياج ومن لا يحتاج إلى الغير يكفيه من القوة قدر ( ما ) . ومن يقوم مستبداً بالفعل لا بد له من قوة عظيمة ، لأن عدم الحاجة قد يكون بترك الفعل والاستغناء عَنْه .
فصل
قوله : « المَتِينُ » ، لأن ذا القوة كما تقدم لا يدل إلا على أن له قوةً ما ، فزاد في الوصف المتانة وهو الذي له ثبات لا يتزلزل وهو مع المتين من باب واحد لفظاً ومعنى ، فإن معنى مَتْن الشيء هو أصله الذي عليه ثباته والمتن هو الظهر الذي عليه أساس البدن والمتانة مع القوة كالعزّة مع القوي حيث قرن العزة مع القوة في قوله : « قَوِيٌّ عَزِيزٌ » وقوله : « القَوِيّ العَزِيزُ » .
قوله تعالى : { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } قد تقدم الكلام على الفاء في وجه التعلق . والمراد بالذين ظلموا : كفار مكة . ومعنى ذنوباً أي نصيباً من العذاب { مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ } أي مثل نصيب أصحابهم الذين هلكوا من قوم نوح وعادٍ ، وثمود . والذنوب : في الأصل الدلو العظيمة المملوءة ماء ، وفي الحديث الشريف : « فَأُتي بذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ » فإن لم تكن مَلأَى فهو الدَّلْو ، ثم عبر به عن النَّصيب ، قال علقمة :
4530-
وَفِي كُلّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتُ بِنِعْمَةٍ ... فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنوبُ
ويجمع في القلة على أَذْنِبَةٍ ، وفي الكثرة على ذَنَائِبَ . وقال المَلكُ لما أنشد هذا البيت نَعَمْ وأَذْنِبَة .
وقال الزمخشري : الذَّنُوب الدلو العظيمة ، وهذا تمثيل أصله في السّقاة يقتسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب قال الشاعر :
4531-
لَنَا ذَنُوبٌ ولَكُم ذنُوبُ ... فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلَنَا القَلِيبُ
وقال الراغب : الذنوب الدلو الذي له ذنب انتهى . فراعى الاشتقاق . والذنوب أيضاً الفَرَسُ الطّويل الذّنب وهو صفة على فَعُول . والذَّنوب لحم أسفل المَتْن . ويقال : يَوْم ذَنُوب أي طويل الشّر استعارة من ذلك .
قوله : { فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } أي بالعذاب . ووجه مناسبة الذنوب أن العذاب منصبّ عليهم كما يُصَبُّ الذَّنُوبُ ، قال تعالى : { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم } [ الحج : 19 ] وقال تعالى : { ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم } [ الدخان : 48 ] والذّنوب كذلك فكأنه قال : نصبّ فوق رؤوسهم ذَنُوباً من العذاب كذنوب صُبّ فوق رؤوس أولئك . ووجه آخر وهو أن العرب يستقون من الآبار على النَّوْبَة ذنوباً فذنوباً وذلك وقت عيْشِهم الطيب ، فكأنه تعالى قال : { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } من الدنيا وطيباتها « ذَنُوباً » إذا ملأوه ولا يكون لهم في الآخرة من نصيب كما كان عليه حال أصحابهم استقوا ذنوباً وتركوها ، وعلى هذا فالذنوب ليس بعذاب ولا هلاك وإنما هو رَغَدُ العيش .
قال ابن الخطيب : وهو أليق بالعربية .
قوله تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ } يعني يوم القيامة . وقيل : يوم بدر ، وحذف العائد لاستكمال شُرُوطه ، أي يُوعدونه .
روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ قَرَأَ سُورَة » وَالذَّارِيَاتِ « أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ كُلّ رِيحٍ هَبَّتْ وَجَرَتْ فِي الدُّنْيَا » ( والله سبحانه وتعالى أعلم وأشفق وأرحم ) .
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)
قوله تعالى : { والطور } وما بعده أقسام جوابها { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } والواوات التي بعد الأولى عواطف لا حروف قسم كما تقدم في أول هذا الكتاب عن الخليل .
ونكر الكتابَ تفخيماً وتعظيماً .
فصل
مناسبة هذه السورة لما قبلها من حيث الافتتاح بالقسم وبيان الحشر فيهما ، وأول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها ، لأن في آخرها قوله تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ } [ الذاريات : 60 ] وفي أول هذه السورة { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ الطور : 11 ] وفي آخر تلك السورة قوله : { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً } [ الذاريات : 59 ] ؛ وذلك إشارة إلى العذاب ، وقال هَهُنَا : إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ .
فصل
قيل : المراد بالطور الجبل الذي كلم الله عليه موسى - عليه الصلاة والسلام - بالأرض المقدسة ، أقسم الله به . وقيل : هو الجبل الذي قال الله تعالى : { وَطُورِ سِينِينَ } [ التين : 2 ] . وقيل : هو اسم جنس ، والمراد بالكتاب المسطور كتاب موسى عليه الصلاة والسلام ، وهو التوراة . وقيل : الكتاب الذي في السماء ، وقيل : صحائف أعمال الخلق ، وقال تعالى : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } [ الإسراء : 13 ] . وقيل : الفرقان . والمراد بالمسطور المكتوب .
قوله : فِي رَقِّ يجوز أن يتعلق « بمَسْطُورٍ » ؛ أي مكتوب في رَقٍّ . وجوَّز أبو البقاء أن يكون نعتاً آخر لكتاب وفيه نظر؛ لأنه يشبه تَهْيئَةَ العَامِلِ للعَمَلِ وقطْعِهِ منْهُ .
والرَّقُّ - بالفتح - الجلد الرقيق يكتب فيه . وقال الرَّاغِب : الرق ما يكتبُ فيه شبه كاغد . انتهى فهو أعم من كونه جلداً أو غيرَهُ . ويقال فيه : رِقٌّ بالكسر . فأما مِلْكُ العبيد فلا يقال إلا رِقٌّ بالكسر . وقال الزَّمخشري : والرَّقُّ الصحيفة . وقيل : الجلد الذي يكتب فيه . انتهى . وقد غلط بعضهم من يقول : كَتَبْتُ في الرِّقّ بالكسر؛ وليس بغلط لثبوته به لُغَةً .
وقد قرأ أبو السَّمَّال : في رِقٍّ ، بالكسر .
فإِن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى : { فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ } وعظمة الكتاب بلفظه ومعناه لا بخطِّه ورقه؟! .
فالجواب : أن هذا إِشارة إلى الوضع لأن الكتاب المطويَّ لا يعلم ما فيه فقال : في رق منشور أي ليس كالكتب المطويّة أي منشورٌ لكم لا يمنعكم أحدٌ من مُطَالَعتِهِ .
(
قوله : « والبيت المعمور » قيل : هو بيت في السماء العليا تحت العرش بِحيَالِ الكَعْبَةِ يقال له : الصّراح حُرْمَتُهُ في السماء كحُرْمَةِ الكعبة في الأرض يدخله كُلَّ يوم سبعونَ ألفاً من الملائكة يطُوفُونَ به ويُصَلُّون فيه ، ثم لا يعودون إليه أبداً .
ووصفه بالعمارة لكثرة الطائفين به من الملائكة . وقيل : هو بيت الله الحرام وهو معمورٌ بالحُجَّاج الطائفين به .
وقيل : اللام في « البيت المعمور » لتعريف جنس كأنه يُقْسِمُ بالبيوتِ المَعْمُورة والعمائر المشهورة ) .
قوله : « والسَّقْفِ المَرْفُوعِ » يعني السماء . ونظيرِه : { وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً }
[
الأنبياء : 32 ] .
قوله : « والبَحْر المَسْجُور » قيل : هو من الأضداد ، يقال : بَحْرٌ مَسْجُورٌ أي مملوء ، وبَحْرٌ مَسْجُورٌ أي فارغٌ . وروى ذو الرمة الشاعر عن ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) - أنه قال : خرجت أُمةٌ لتَسْتَقي فَقَالَتْ : إِن الحَوْضَ مَسْجُورٌ؛ أي فارغ . ويؤيد هذا أن البحار يذهب ماؤها يومَ القيامة .
وقيل : المسجور الممسوك ، ومنه ساجُور الكلب لأنه يمسكه ويحبسه . وقال محمد بن كعب القرظيّ والضَّحَّاكُ : يعني الموقَد المحمّى بمنزلة التَّنُّور المُحَمَّى ، وهو قول ابن عباس ( - رضي الله عنهما - ) ؛ لما روى أن الله تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة ناراً فيزاد بها في نار جهنم كما قال تعالى : { وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ } [ التكوير : 6 ] .
وروى عَبْدُ اللَّهِ بْن عُمَرَ - ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لاَ يَرْكَبَنَّ رَجُلٌ بَحْراً إلاَّ غَازِياً أَوْ مُعْتَمِراً أَوْ حَاجًّا ، فَإِنَّ تَحْتَ البَحْرِ نَاراً وتَحْتَ النَّارِ بَحْراً » وقال الربيع بن أنس : المسجور المختلط العذب بالمالح . وروى الضحاك عن النّزّال بن سَبْرَةَ عن علي أنه قال : البحر المسجور : هو بحر تحت العرش ، كما بين سبع سموات إلى سبع أرضين فيه ماء غليظٌ ، يقال له : بحرُ الحيوان يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحاً فينبتون في قبورهم . وهذا قول مقاتل .
فصل
قيل : الحكمة في القسم بهذه الثلاثة أشياء أن هذه الأماكن الثلاثة وهي : الطور ، والبيت المعمور ، والبحر المسجور كانت لثلاثة أنبياء للخلوة بربهم والخلاص من الخلق وخطابهم مع الله . أما الطور فانتقل إليه موسى - عليه الصلاة والسلام - وخاطب الله تعالى هناك وأما البيت المعمور فانتقل إليه محمد - عليه الصلاة والسلام - وقال لربه : « سَلاَمٌ عَلَيْنَا وعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحينَ ، لاَ أُحصي ثناءَ عليك أنت كما أثنيتَ على نَفسك » . وأما البحر المسجور فانتقل إليه يونسُ - عليه الصلاة والسلام - ، ونادى في الظلمات : { أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } فصارت هذه الأماكن شريفة بهذه الأسباب فأقسم الله تعالى بها .
وأما ذكر الكتاب فلأن الأنبياء كان لهم في هذه ( الأماكن ) مع الله تعالى كلام والكلام في الكتاب ( واقترانه بالطور أدل على ذلك؛ لأن موسى - عليه السلام - كان له مكتوبٌ ينزل عليه وهو بالطُّور ) .
فصل
أقسم في بعض السور بجموع كقوله : { والذاريات } [ الذاريات : 1 ] { والمرسلات } [ المرسلات : 1 ] { والنازعات } [ النازعات : 1 ] وفي بعضها بأفراد كقوله : « والطُّورِ » ولم يقل : والأَطوار والبِحار .
قال ابن الخطيب : والحكمة فيه : أن في أكثر الجموع أقسم عليها بالمتحركات والريح الواحدة ليست بثابتة بل هي متبدِّلة بأفرادها مستمرة بأنواعها ، والمقصود مِنْهَا لا يحصل إلا بالبَدَل والتَّغَيُّر ، فقال : « والذاريات » إشارة إلى النوع المستمر ، لا الفرد المعين المستقر ، وأما الجبل فهو ثابت غير متغير عادة فالواحد من الجبال دائمٌ زماناً ودهراً ، فأقسم في ذلك بالواحد ، وكذلك في قوله :
{
والنجم } [ النجم : 1 ] ، ولو قال : « والريح » لما علم المقسَمُ به ، وفي الطور عُلِمَ .
قوله : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } نازل وكائن . وقوله : « مِنْ دَافِعٍ » يجوز أن تكون الجملة خبراً ثانياً ، وأن تكون صفة لواقع أي واقع غير مدفوع . قال أبو البقاء . و « مِنْ دَافِعٍ » يجوز أن يكون فاعلاً ، وأن يكون مبتدأ و « مِنْ » مزيدة على الوجهين .
فصل
قال جُبَيْرُ بْنُ مُطْعمٍ : قدمت المدينة لأكلمَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في أُسَارَى بدر فدفعت إليه وهي يصلي بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ « والطور » إلى قوله : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } فكأنما صُدِّع قلبي حين سمعت ( ه ) ولم أَكُنْ أُسْلِمُ يومئذ قال : فأسلمتُ خوفاً من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقومَ من مكاني حتى يقع بي العذاب .
يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
قوله : { يَوْمَ تَمُورُ السمآء } يجوز أن يكون العامل فيه : « واقع » أي يقع في ذلك اليوم . وعلى هذا فتكون الجملة المنفية معترضة بين العامل ومعموله . ويجوز أن يكون العامل فيه « دافع » . قاله الحَوْفِيُّ ، وأبو البقاء . ومنعه مَكِّيٌّ .
قال أبو حيان : ولم يذكر دليل المنع . قال شهاب الدين : وقد ذكر دليل المنع في الكشف إلا أنه ربما يكون غلطاً عليه فإنه وَهَمٌ ، وعبارته قال : العامل فيه واقعٌ أي إن عذاب ربك لَوَاقِعٌ في يوم تَمُورُ السَّماء ، ولا يعمل فيه « دافع » ؛ لأن المنفي لا يعمل فيما قبل النّافي ، لا يقول : طَعَامَكَ ما زَيْدٌ آكلاً ، رفعت آكلاً أو نصبته أو أدخلت عليه الباء . فإن رفعت الطعام بالابتداء وأوقعت « آكلاً » على « هاء » جاز وما بعد الطعام خبراً . انتهى .
وهذا كلام صحيح في نفسه ، إلا أنه ليس في الآية شيءٌ من ذلك؛ لأن العامل - وهو دافع - والمعمول - وهو يوم - كلاهما بعد النافي وفي حَيِّزِهِ . وقوله : وأوْقَعْتَ آكلاً على هاء أي على ضمير يعود على الطعام فتقول : طَعَامَكَ مَا زيْدٌ آكِلُه .
وقد يقال : إن وجه المنع من ذلك خوف الوَهَم أنه يفهم أن أحداً يدفع العذاب في غير ذلك اليوم . والغرض أن عذاب الله لا يدفع في كل وقت وهذا أمرٌ مناسب قد ذكر مثلهُ كثيرٌ ، ولذلك منع بعضهم أن ينتصب { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ } [ آل عمران : 30 ] بقوله : { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران : 29 ] لئلا يفهم منه ما لا يليق . وهذا أبعد من هذا في الوَهَم كثير .
وقال أبو البقاء : وقيل : يجوز أن يكون ظرفاً لما دل عليه « فَوَيْلٌ » انتهى .
وقال ابن الخطيب : والذي أظنه أن العامل هو الفعل المدلول عليه بقوله : { مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } [ الطور : 8 ] ؛ لأن العذاب الواقع على هذا ينبغي أن يقع في ذلك اليوم ، لأن العذاب الذي به التخويف هو الذي بعد الحَشْر ومَوْر السَّماء لأنه في معنى قوله : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] .
فصل
والمَوْرُ الاضطراب والحركة . يقال : مَارَ الشيْءُ أي ذهب وجاء . وقال الأخفش وأبو عبيدةَ تَكْفَأُ وأنشد للأعشى :
4532-
كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جَارَتِهَا ... مَوْرُ السَّحَابَةِ لاَ رَيْثٌ وَلاَ عَجَلُ
وقال الزمخشري : وقيل : هو تحرك في تموج . وهو الشيء يتردد في عرض كالداغصة وهي الجلدة التي فوق قُفْل الركبة . وقال الراغب : المَوْر : الجريان السريع ومَار الدَّمُ على وجهه والمُور - أي بالضم - التراب المتردد به الريح .
وأكد بالمصدرية دفعاً للمجاز أي هذان الجرمان العظيمان مع كثافتهما يقع ذلك منهما حقيقة .
وقال ابن الخطيب : فيه فائدة جليلة ، وهي أن قوله : « وتَسِيرُ الجِبَالُ » يحتمل أن يكون بياناً لكيفية مور السماء؛ لأن الجبال إذا سارت وسيرت معها سكانها يظهر السماء كالسائرة إلى خلاف تلك الجهة ، كما يشاهده راكب السفينة ، فإنه يرى الجبلَ الساكن متحركاً فكان لقائل أن يقول : السماء تمُور في رأي العين بسبب سير الجبال كما يَرَى القمرَ سائراً راكبُ السفينة ، والسماء إذا كانت كذلك فلا يبقى مَهْرَب ولا مَفْزَع لا في الأرض ولا في السماء .
فصل
لما ذكر أن العذاب واقع بين أنه متى يقع العذاب ، فقال : يوم تمور السماء موراً ، قال المفسرون : أي تَدُورُ كما يدور الرَّحَا وتَتَكفأ بأهلها تَكَفُّؤَ السَّفِينَةِ .
قال عطاء الخُراسَانيّ : يختلف أجزاؤها بعضها في بعض .
وقيل : تضطرب . { وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً } فتزول عن أماكنها ، وتصير هباءً منثوراً ، وهذا إيذان وإعلام بأن لا عود إلى السماء لأن الأرضَ والجبالَ والسماءَ والنجومَ كلها لعمارة الدنيا والانتفاع لبني آدم فإذا لم يبقَ فيها نفع فلذلك أعدمها الله تعالى .
قوله : { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } يومئذ منصوب « بوَيلٍ » والخبر « للمكذبين » . والفاء في قوله « فَوَيْلٌ » قال مكي : جواب الجملة المتقدمة وحسن ذلك ، لأن في الكلام معنى الشرط ، لأن المعنى إذا كان ما ذُكِرَ فَويْلٌ .
قال ابن الخطيب : أي إذا علم أن عذاب الله واقع ، وأنه ليس له دافع فويل إذَنْ للمكذبين؛ فالفاء لاتصال المعنى ، ولمعنى آخر وهو الإيذان بأمان أهل الإيمان ، لأنه لما قال : إن عذاب ربك لواقع وأنه ليس له دافع لم يبين موقعه بِمَنْ ، فلما قال : { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } علم المخصوص ( به ) وهو المكذب .
فإن قيل : إذا قلت بأن قوله : { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } بيان لمن يقع به العذاب فمن لا يكذب لا يعذب فأهل الكبائر لا يعذبون لأنهم لا يُكَذِّبون .
فالجواب : أن ذلك العذاب لا يقع إلا على أهل الكبائر ، وإنما هذا كقوله : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا } [ الملك : 8 و 9 ] فالمؤمن لا يُلْقَى فيها إلقاء بهوان ، وإنما يُدْخَلُ فيها للتطهير إدْخَالاً مع نوع إكرامٍ ، والويل إنما هو للمكَذِّبِينَ .
والويل ينبئ عن الشدة ، لأن تركيب حروف الواو والياء واللام لا ينفك عن وُقُوع شدةٍ ، ومنه لَوَى إذا دافع ولَوَاه يلويه إِذا فَتَلَهُ فَتْلاً قوياً .
والوَلِيُّ فيه القوة على المُولَى عَلَيْهِ . وقد تقدم وجه جواز التنكير في قوله : « وَيْلٌ » مع كونه مبتدأ؛ لأنه في تقدير المنصوب لأنه دعاء في تفسير قوله تعالى : { قَالَ سَلاَمٌ } [ الذاريات : 25 ] .
قوله : { الذين هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } الخَوْضُ : هو الاندفاع في الأباطيل ، قال تعالى : { وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] وقال تعالى : { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين } [ المدثر : 45 ] .
وتنكير الخوض يحتمل وجهين :
الأول : أن يكون للتكثير أي في خوضٍ عظيم .
الثاني : أن يكون التنوين عوضاً عن المضاف إليه ، كقوله تعالى : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ } [ هود : 111 ] والأصل في خوضهم المعْرُوف منهم . وقوله : يعلبون أي غافلون لاهون .
واعلم أن قوله تعالى : { الذين هُمْ فِي خَوْضٍ } ليس وصفاً للمكذبين بما يميزهم ، وإنما هو للذم كقولك : « الشيطانُ الرجيمُ » ولا تُرِيدُ فَصْله عن الشيطان الذي ليس برجيم بخلاف قولك : أَكْرِمِ الرَّجُلَ العَالِمَ فالوصف بالرجيم للذم له لا للتعريف .
وتقول في المدح : الله الذي خلق ، والله العظيم للمدح لا للتمييز ، ولا للتعريف عن إله لم يخلق أو إله ليس بعظيم ، فإن الله واحد لا غير .
قوله : { يَوْمَ يُدَعُّونَ } يجوز أن يكون ظرفاً « ليُقَالُ » المقدرة مع قوله : { هذه النار } [ الطور : 14 ] يوم يدعون المكذبين؛ لأن معناه يوم يقع العذابُ ذلك اليوم وهو يوم يُدَعُّون فيه إِلى النار .
والعامة على فتح الدال وتشديد العين من دَعَّهُ يَدُعُّهُ أي دفعه في صدره بعُنْفٍ وشِدَّةٍ . قال الراغب : وأصله أن يقال للعاثر : دع كما يقال له لَعاً .
وهذا بعيد من معنى هذه اللفظة .
وقرأ علي - رضي الله عنه - والسّلمي وأبو رجاء وزيد بن علي بسكون الدال وتخفيف العين مفتوحة من الدُّعَاءِ أي يُدْعَوْنَ إليها فيقال لهم : هَلُمُّوا فادخلوها .
قوله : دَعًّا مصدر معناه تدفعهم الملائكة دفعاً على وجوههم بعُنْفٍ أي يُدْفَعُونَ إِلى النار ، فإِذا دَنَوْا منها قال لهم خزنتها : هَذِهِ النَّار التي كنتم بها تكذبون في الدنيا .
فإن قيل : قوله تعالى : { يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ } يدل على أن خزنتها يقذفونهم في النار وهم بعيداً عنها وقوله تعالى : { يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] يدلّ على أنهم فيها .
فالجواب من وجوه :
الأول : أن الملائكة يَسْحَبُونَهُمْ في النار ، ثم إذا قربوا من نار مخصوصة وهي نار جهنم يقذفونهم فيها من بعيد فيكون السحب في نار ، والدفع في نار أشد وأقوى ، بدليل قوله : { يُسْحَبُونَ فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ } [ غافر : 71 و 72 ] . أي يسحبون في حَمْوَةِ النار ، ثم بعد ذلك يكون لهم إِدخالٌ .
الثاني : يجوز أن يكون في كل زمان يتولى أمرهم ملائكة فإلى النار يدفعهم ملك وفي النار يَسْحَبُهُم آخر .
الثالث : أن يكون السحبُ بسَلاَسِلَ أي يسحبون في النار ، والساحب خارج النار .
الرابع : أن يكون الملائكة يدفعونهم إِلى النار إهانةً لهم ، واستخفافاً بهم ويدخلون معهم النار ويسحبونهم .
قوله : « أَفَسِحْرٌ » خبر مقدم و « هذا » مبتدأ مؤخر .
ودخلت الفاء قال الزمخشري : بمعنى كنتم تقولون للوحي : هذَا سِحرٌ فسحر هذا يريد هذا المِصْداق أيضاً سحر؛ ودخلت الفاء لهذا المعنى ، وهذا تحقيقٌ للأمر؛ لأن من يرى شيئاً ولا يكون الأمر على ما يراه فذلك الخطأ يكون لأجل أحد أمرين : إما لأمر عائدٍ إلى المرئيّ ، وإمَّا لأمرٍ عائد إلى الرائي ، فقوله : « أَفَسحرٌ هَذَا » أي هل في الموت شكٌّ أمْ هل في بصركم خَلَل؟! فهو استفهام إنكار أي لا أمر مِنْهُمَا ثابتٌ فالذي تَرَوْنَهُ حق وقد كنتم تقولون : إنه ليس بحق ، وذلك أنهم كانوا ينسبون محمداً - صلى الله عليه وسلم - إِلى السحر ، وأنه يغطي الأبصار بالسِّحر ، وانشقاق القمر وأمثاله سحر ، فوبخوا به ، وقيل لهم : أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون .
قوله : اصْلَوْ ( هَا ) أي إذْ لم يمكنكم إنكارها ، وتحقق أنه ليس بسحر ولا خَلَل في أبصاركم فاصْلَوْهَا؛ أي قاسوا شدتها . { فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ } أي الصبر وعدمه سواءٌ ، وهذا بيان لعدم الخَلاص .
قوله : « سَوَاءٌ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف أي صبركم وتركه سواء . قاله أبو البقاء .
والثاني : أنه مبتدأ والخبر محذوف أي سواء الصبرُ والجزعُ ، قاله أبو حيان .
قال شَهابُ الدِّين : والأول أحسن ، لأن جعل النكرة خبراً أولى من جعلها مبتدأ وجعلِ المَعْرِفَةِ خبراً .
ونحا الزمخشري مَنْحَى الوجه الثاني فقال : « سواء » خبره محذوف أي سواء عليكم الصَّبْرَانه الصبرُ وَعَدَمُهُ .
قوله : { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فيه لطيفة ، وهي أن المؤمن بإِيمانه اسْتَفَادَ أن الخير الذي يَنْويهِ يُثَابُ عَلَيْه ، والشَّرَّ الذي يقصِدُهُ ولا يقع منه لا يعاقَبُ عليه ولا ظلم ، فإن الله تعالى أخبره به وهو اختار ذلك ودخل ( فيه ) باختياره ، فإن الله تعالى قال بأن من كفر ومات كافراً عذبته أبداً فاحذَرُوا ، ومن آمن أَثَبْتُهُ دائماً فمن ارتكب الكفر ودام عليه بعدما سمع ذلك فإذا عوقب دائماً فهو تحقيق لما أَوْعَدَ به فلا يكون ظلماً .
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)
قوله تعالى : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ } يجوز أن يكون مستأنفاً ، أخبر الله تعالى بذلك بشارة ، ويجوز أن يكون من جملة المقول للكفار زيادة في غَمِّهِمْ وتَحَسُّرِهِم . والجنة هي موضع السرور لكن الناطُور قد يكون في البستان الذي هو في غاية الطيبة ، فلما قال : « وَنَعِيمٍ » أفاد أنهم فيها متنعمون كما يكون المتفرج لا كما يكون الناطُور والعمال .
وقوله : « فَاكِهِينَ » يريد في ذلك ، لأن المتنعم قد يكون آثار النعيم عليه ظاهرة وقلبه مشغول ، فلما قال : « فَاكِهينَ » دل على غاية الطيبة .
قوله : « فَاكِهِينَ » هذه قراءة العامة نصب على الحال ، والخبر الظرف ، وصاحب الحال الضمير المستتر في الظرف .
وقرأ خَالِدٌ : « فاكِهُونَ » بالرفع ، فيجوز أن يكون الظرف لغواً ، متعلقاً بالخبر ويجوز أن يكون خبراً آخر من عند من يجيز تعداد الخبر .
وقرئ فَكِهينَ مقصوراً ، وسيأتي أنه قرأ به في المُطَفِّفِينَ في المتواتر حفصٌ عن عَاصِمٍ .
قوله : « بِمَا آتَاهُمْ » يجوز أن تكون الباء على أصلها وتكون : « ما » حينئذ واقعةً على « الفواكه » التي هي في الجنة أي متلذذين بفاكهةِ الجنة ، ويجوز أن تكون بمعنى في أي فيما آتاهم من الثمار وغير ذلك . ويجوز أن تكون « ما » مصدريةً أيضاً .
قوله : « وَوَقَاهُمْ » يجوز فيه أوجه :
أظهرها : أنه معطوف على الصلة أي فَكِهينَ بإيتائِهِم رَبَّهُمْ وبِوقايَتِهِ لهم عذابَ الجَحِيم .
والثاني : أن الجملة حال فتكون « قد » مقدرة عند من يشترط اقترانها بالماضي الواقع حالاً .
الثالث : أن يكون معطوفاً على : « فِي جَنَّاتٍ » . قاله الزمخشري يعني فيكون مخبراً به عن المتقين أيضاً فيكون المراد أنهم فاكهون بأمرين : أَحدِهِمَا : بما آتاهم ، والثاني : بأنه وَقَاهُمْ .
والعامة على تخفيف القاف من الوقاية . وأبو حيوة بتَشْدِيدِهَا .
قوله : « كلوا واشربوا » أي يقال لهم كُلُوا واشربوا هنيئاً . وقد تقدم الكلام في : « هَنِيئاً » فِي النِّسَاء .
قال الزمخشري : هنا يقال لهم كلوا واشربوا أكلاً وشُرْباً هنيئاً أو طعاماً وشرباً هنيئاً . وهو الذي لاَ تَنْغَيصَ فِيهِ .
ويجوز أن يكون مثله في قوله :
4533-
هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ ... لِعَزَّةَ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ
أعني صفةً استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل ، مرتفعاً به « ما اسْتَحَلَّت » كما يرتفع بالفعل كأنه قيل هَنّأ عَزَّةَ المُسْتَحَلُّ منْ أعْرَاضِنَا ، فكذلك معنى « هنيئاً » هُنَا هنّأَكُمُ الأَكْلُ والشُّرْبُ ، أو هَنَّأَكُمْ مَا كُنْتُم تَعْملونَ والباء مزيدة كما في « كَفَى بِاللَّهِ » والباء متعلقة بكُلُوا واشْرَبُوا إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب . وهذا من محاسن كلامه .
قال أبو حيان : أما تجويزه زيادة الباب فليست بمَقِيسةٍ في الفاعل إلا في فاعل « كَفَى » على خلافٍ فيها فتجويزها هنا لا يسوغ .
وأما قوله : إنَّها تتعلق ب « كُلُوا واشْرَبُوا » فلا يصح إلا على الإعمال فهي تتعلق بأحدهما . انتهى . وهذا قريب .
قوله : « مُتَّكِئِينَ » فيه أوجه :
أحدها : أنه حال من فاعل : « كُلُوا » .
الثاني : أنه حال من فاعل : « أَتَاهُمْ » .
الثالث : أنه حال من فاعل : « وَقَاهُمْ » .
الرابع : أنه حال من الضمير المُسْتَكِنِّ في الظرف .
الخامس : أنه حال من الضمير في : « فَاكِهِينَ » .
وأحسنها أن يكون حالاً من ضمير الظرف لكونه عُمْدَةً .
وقوله : « عَلَى سُرُرٍ » متعلق ب « متَّكِئينَ » .
وقراءة العامة بضم الراء الأولى . وأبو السَّمَّال بفتحها . وقد تقدم أنها لغة لكَلْبٍ في المضعف يَفرونَ من تَوَالِي ضمتين في المضعف .
قوله : { وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } قرأ عكرمةُ بحُورٍ عينٍ بإضافة الموصوف إلى صفته على التأويل المشهور .
فصل
اعلم أنه تعالى بين أسباب التنعيم على الترتيب ، فأول ما يكون المَسْكَن وهو الجَنّات ثم الأكل والشرب ، ثم الفرش والبسط ثم الأزواج ، فهذه أمور أربعة ذكرها الله على الترتيب ، وذكر في كل واحد منها ما يدل على كماله ، فقوله : « جَنّات » إشارة إلى المسكن وقال : « فاكهين » إشارة إلى عدم التَّنغُّص وعلو المرتبة بكونه مما آتاهم الله ، وقال : { كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً } أي مأمون العاقبة من التَّخَم والسَّقَم ، وترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنوعهما وكثرتهما ، وقوله : { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } إشارة إلى أنه تعالى يقول : إني مع كوني ربكم وخالقَكم وأدْخَلْتُكُم الجنة بفضلي فلا مِنَّة لي عليكم اليوم وإنما مِنَّتي عليكم كان في الدنيا هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة كما قال : { بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ } [ الحجرات : 17 ] وأما اليوم فلا مِنَّةَ عليكم لأن هذا إِنجازُ الوَعْدِ .
فإن قيل : قال في حقّ الكفار : { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الطور : 16 ] وقال في حق المؤمنين : { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فما الفرق بينهما؟ .
فالجواب من وجوه :
الأول : أن كلمة « إنَّما » للحصر ، أي لا يجزون إلا ذلك ، ولم يذكر هذا في حق المؤمن ، لأنه يجزيه أضعاف ما عَمِلَ ، ويَزِيدُهُ من فضله .
الثاني : قال هنا : « بِمَا كُنْتُمْ » وقال هناك : { مَا كُنتُمْ } [ النمل : 90 ] أي تجزون عن أعمالكم . وهذا إشارة إلى المبالغة في المماثلة ، كأنه يقول : هذا عينُ ما عملت . وقوله في حق المؤمن : بِمَا كُنْتُم كأنَّ ذلك أمر ثابتٌ مستمرٌّ يفيدكم هذا .
الثالث : أنه ذكر الجزاء هناك ، وقال هنا : { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } لأَنَّ الجزاء يُنْبِئ عن الانقطاع ، فإِن من أحسن إلى أحد فأتى بجزائه لا يتوقع المحسنُ منه شيئاً آخر .
فإن قيل : فاللَّه تعالى قال في موضع آخر :
{
بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ المرسلات : 43 ] في الثواب .
فالجواب : أنه في تلك المواضعِ لَمَّا لم يخاطب المجزيَّ ولم يقل : بما كنت تفعل أتى بما يفيد العلم بالدوام وعدم الانْقِطَاع . وأما في السرر فذكر أموراً :
أحدها : الاتّكاء فإنه هيئة مختصّة بالمنعم والفارغ الذي لا كُلْفَة عليه . وجمع السرر لأَمْرَيْنِ :
أظهرهما : أن يكون لكل واحد سُرَرٌ؛ لأنه قوله : « مَصْفُوفة » يدل على أنه لواحدٍ ، لأن سرر الكل لا تكون في موضع واحد مصطفَّة ، ولفظ السَّرِير فيه حروف السُّرُور ، بخلاف التَّخْتِ وغيره ، وقوله : « مَصْفُوفَة » أي منتظمة بعضُها إلى جَنْبِ بعض فإِنها لو كانت متفرقة لقيل في كل موضع واحد يتكئ عليه صاحبه إذا حضر هذا الموضع . وقول تعالى : { وَزَوَّجْنَاهُم } إِشارة إلى النِّعمة الرابعة ، وفيها ما يدل على كمال الحال من وجوه :
الأول : أنه هو المزوج وهو الولي الذي يلي الطرفين يُزوج عباده بإِمائه ومن يكون كذلك لا يفعل إلا ما فيه راحة العباد والإماء .
الثاني : قال : « وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُور » ولم يقل : وَزَوَّجْنَاهُمْ حوراً مع أن لفظ التزويج يتعدى فعله إلى مفعولين بغير حرف ، تقول زَوَّجْتُكَهَا ، قال الله تعالى : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } [ الأحزاب : 37 ] وذلك إشارة إلى أن المنفعة في التزويج لهم ، وإنما زوجوا للذتهم بالحور لا لِلَذَّة الحور بهم .
الثالث : عدم الاقتصار على الزوجات بل وصفهن بالحُسْن واختار الأحسن من الأحسن ، فإِنَّ أحْسَنَ ما في صورة الآدميِّ وَجْهُهُ ، وأحسنَ ما في الوجه العَيْنُ .
قوله : { والذين آمَنُواْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ ، والخبر الجملة من قوله : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } ، والذُّرِّيَّات هنا يصدق على الآباء ، وعلى الأبناء ، أي أن المؤمن إذا كان عمله أكثر أُلْحِقَ به مَنْ دُونَهُ في العمل ابناً كان أو أباً . وهو منقول عن ابنِ عَبَّاسٍ وغيره .
الثاني : أنه منصوب بفعل مقدر ، قال أبو البقاء على تقدير : وَأَكْرَمْنَا الَّذِينَ آمَنُوا . قال شهاب الدين : فيجوز أن يريد أنه من باب الاشتغال ، وأن قوله : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } مفسرٌ لذلك الفعل من حيثُ المعنى وأن يريد أنه مضمرٌ لدلالة السِّياق عليه ، فلا تكون المسألة من الاشتغال في شَيْء .
الثالث : قال ابن الخطيب : إنه معطوف على : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ } ثم قال : فإذا كان كذلك فَلِمَ أعَادَ لفظ « الَذين آمنوا » وكان المقصود يحصل بقوله تعالى : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } بعد قوله { وَزَوَّجْنَاهُم } كان يصير التقديرُ : وزوَّجْنَاهم وألحقنا بهم؟ نقول : فيه فائدة وهي أن المتقين هم الذين اتقوا الشرك والمعصية وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فقال ههنا : الذين آمنوا بمجرد الإيمان يصير ولده من أهل الجنة ، ثم إِن ارتكب الأب كبيرةً أو صغيرة لا يعاقب به ولده بل الوالد ، وربما يدخل الجنةَ الابنُ قبل الأب ، وقد ورد في الخبر أن الوَلَد الصغيرَ يشفع لأبيه ، وذلك إشارة إلى الجزاء .
وذكر الزمخشري أنه مجرورٌ عطفاً على « حُورٍ عينٍ » قال الزمخشري : « وَالَّذِينَ آمَنُوا » معطوف على « حُورٍ عينٍ » أي قَرَنَّاهُمْ بالحور وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم كقوله : { إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } [ الحجر : 47 ] فيتمتعون تارة بمُلاَعَبَةِ الحور ، وتارةً بمُؤَانَسَةِ الإِخْوَان .
ثم قال الزمخشري : ثم قال : « بإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ » أي بسبب إيمان عظيمٍ رفيعِ المحل وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجتهم ذُرِّيَّتَهُم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلاً عليهم .
قال أبو حيان : ولا يتخيل أحد أن « وَالَّذِينَ آمَنُوا » معطوف على « بحُورٍ عِينٍ » غير هذا الرجل . وهو تخيُّلٌ أعجميّ ، مخالف لفهم العربي القُحِّ ابن عباس وغيره .
قال شهاب الدين : أما ما ذكره أبو القاسم من المعنى فلا شك في حُسْنِهِ ونضارته ، وليس في كلام العربي القُحِّ ما يدفعه بل لو عرض على ابن عباس وغيره لأعجبهم ، وأيُّ مانع مَعْنَويٍّ أو صناعيٍّ يمنعه؟! .
قوله : « وَأَتْبَعْنَاهُمْ » يجوز أن يكون عطفاً على الصلة ، ويكون « والذين آمنوا » مبتدأ ويتعلق « بإيمان » بالاتِّباع ، بمعنى أن الله تعالى يلحق الأولاد الصّغار وإن لم يبلغوا الإيمان بأحكام الآباء المؤمنين . وهذا المعنى منقول عن ابن عباس والضَّحَّاك . ويجوز أن يكون معترضاً بين المبتدأ والخبر . قال الزمخشري ويجوز أن يتعلق « بإِيمَانٍ » ب « أَلْحَقْنَا » كما تقدم .
فإن قيل : قوله : أتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ يفيد قوله : « ألْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ » .
فالجواب : أن قوله : « أَلْحَقْنا بِهِمْ » أي في الدرجات والاتّباع إنما هو في حكم الإِيمان وإن لم يبلغوه كما تقدم .
وقرأ أو عمرو : « وأتْبَعْنَاهُمْ » بإِسناد الفعل إلى المتكلم نفسه . والباقون واتَّبَعَتْهُمْ بإسناد الفعل إلى الذرية وإِلحاق تاء التأنيث . وقد تقدم الخلاف في إِفراد ذرياتهم وجَمْعِهِ في سورة الأَعْرَافِ .
فصل
اختلفوا في معنى الآية ، فقيل معناها : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان يعني أولادهم الصغار والكبار فالكبار بإيمانهم بأنفسهم ، والصغار بإيمان آبائهم ، فإن الولد الصغير يُحْكَمُ بإسلامه تبعاً لأحد الأبوين .
وقوله : أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ ، أي المؤمنين في الجنة بدرجاتهم وإن لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم تَكْرمَةً لآبائهم ، لِتَقَرَّ بذلك أعينهم . وهي روايةُ سعيدِ بن جبير عن ابنِ عباس . وقيل : معناه { والَّذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم } البالغون { بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } الصِّغار الذين لم يبلغوا الإِيمان بإيمان آبائهم . وهو قول الضَّحَّاك في رواية العوفيّ عن ابن عباس . أخبر الله عز وجل أنه يَجْمَعُ لعبده ذُرّيته في الجنة كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا إليه يدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته بعمل أيديهم من غير أن يَنْقُصَ الآباء من أعمالهم شيئاً فذلك قوله : { وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } .
روي عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال :
«
سألت خديجة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ولدين لها ماتا في الجاهلية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هما في النار ، فلما رأى الكراهية في وجهها قال : لَوْ رأيتِ مكانَهما لأَبْغَضْتِهِمَا . قالت يا رسول الله : فولدي منك قال : في الجنة . ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » إِنَّ المُؤْمِنِينَ وَأَوْلاَدَهُمْ فِي الجَنَّةِ وإِنَّ المُشْرِكِينَ وَأَوْلاَدَهُمْ فِي النَّارِ « ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » وَالَّذِينَ آمَنُوا وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بإيمَانٍ ألْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ « .
قوله : » وَمَا أَلَتْنَاهُمْ « قرأ ابن كثير ألِتْنَاهُمْ بِكَسْرِ اللام . والباقون بفتحها .
فأما الأُولى فمن أَلِتَ يَأْلَتُ بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارغ كَعِلمَ يَعْلَمُ . وأما الثانية : فيحتمل أن تكون من أَلَتَ يَأْلِتُ كَضَرب يَضْرِبُ ، وأن يكون من أَلاَتَ يُلِيتُ كَأَمَاتَ يُمِيتُ فألَتْنَاهُمْ كأَمَتْنَاهُمْ .
وقرأ ابْنُ هُرْمُزَ آلَتْنَاهُمْ - بألف بعد الهمزة - على وزن أفْعَلْنَاهُمْ ، يقال : آلَتَ يُؤْلِتُ كآمَنَ يُؤْمِنُ . وعبد الله وأُبيّ والأعْمش وطلحةُ - وتُرْوى عن ابن كثيرٍ - لِتْنَاهُمْ بكسر اللام .
قال سهل : لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال ، ولذلك أنكر آلَتْنَاهُمْ بالمد وقال : لا يدل عليها لغةٌ ولا تفسيرٌ .
وليس كما زَعَمَ ، بل نقلَ أهلُ اللغةِ آلَتَ يُؤْلِتُ .
وقرئ : - ولَتْنَاهُمْ - بالواو - كَوعَدْنَاهُمْ نقلها هارُون . قال ابن خَالَوَيْهِ : فيكون هذا الحرف من لاَتَ يَلِيتُ ووَلَتَ يَلِيت وأَلِتَ يأْلَتُ وأَلَت يأْلِتُ وأَلاَتَ يُلِيتُ ، وكلها بِمَعْنَى نَقَصَ .
ويقال : ألت بمعنى غلَّظَ وقام رجل إلى ( أمير المؤمنين ) عُمَرَ يَعِظُهُ فقال له رجل : لاَ تَأْلِتْ أَمِيرَ المؤمنين ، أي لا تُغَلِّظْ عليه .
قال شهابُ الدِّين : ويجوز أن يكون هذا الأثر على حاله والمعنى لا تَنْقُصْ أمير المؤمنين حقه؛ لأنه إذا أغلظ القول نقصه حقه .
وفي الضمير في » أَلَتْنَاهُمْ « وَجْهَانِ :
أظهرهما : أنه عائد على » المؤمنين « .
الثاني : أنه عائد على » أَلَتْنَاهُمْ « . قيل : ويقويه قوله تعالى : { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } .
قوله : { مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } من شيء مفعول ثان ل » ألتْنَاهُمْ « و » مِنْ « مزيدة؛ والأولى في محل نصب على الحال مِنْ ( شَيْءٍ ) ؛ لأنها في الأصل صفةٌ له ، فلما قدمت نصبت حالاً . وجوز أبو البقاء أن يتعلق بِأَلَتْنَاهُمْ .
فصل
في قوله : » وَمَا أَلَتْنَاهُمْ « تطييب لقلبهم ، وإزالة وَهَم المتَوهِّم أن ثواب عمل الأب يوزع على الوَالِدِ والوَلَدِ بل للوالد أجْر عَمَلِهِ ، ولأولاده مثل ذلك فضلاً من الله ورحمة . وقال : مِنْ عملهم » ولم يقل : من أجرهم لأن قوله : وما ألتناهم من عملهم دليل على بقاء عملهم كما كان ، والأجر على العمل مع الزيادة فيكون فيه إشارة إلى بقاء العمل الذي له الأجر الكبير الزائد عليه العظيم العائد إِليه ، ولو قال : وَمَا أَلَتْنَاهُمْ من أجرهم لكان ذلك حاصلاً بأدنى شيء ، لأن كل ما يعطي الله عبده على عمله فهو أجر كامل ، ولأنه لو قال : مَا أَلَتْنَاهُمْ من أجرهم كان مع ذلك يحتمل أن يقال : إن الله تعالى يفضل عليه بالأجر الكامل على العمل الناقص ، وأعطاه الأجر الجزيل مع أن عمله كان له ولولده جميعاً .
فإِن قيل : ما الفائدة في تنكير الإيمان في قوله : « وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بإِيمانٍ ألحقنا » ؟ .
فالجواب : ( هو ) إما للتحقير أو للتكثير كأنه يقول أتبعناهم ذرياتهم بإِيمان مخلصٍ كاملٍ . أو نقول : أتبعناهم بإيمان ما أي شيء منه ، فإِن الإِيمانَ كاملاً لا يوجد في الولد ، بدليل أنَّ من آمنَ له ولدٌ صغيرٌ حكم بإِيمانه ، فإِذا بلغ وصرح بالكفر وأنكر التَّبَعِيَّة قيل : بأنه لا يكون مرتداً وتبيين بقوله أنه لم يُتْبَعْ . وقيل : بأنه يكون مرتداً؛ لأنه كفر بعدما حكم بإِيمانه كولد المسلم الأصلي . فإِذن تبين بهذا الخلاف أنَّ إيمانَه ليس بقويٍّ . ذكر هذين الوجهين الزمخشري .
ويحتمل أن يكون المراد أن يكون التنوينُ للتعويض عن المضاف إِليه كقوله تعالى : { بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ } [ الإسراء : 88 ] و [ الزخرف : 67 ] { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } [ الحديد : 10 ] لأن التقدير : أتبعناهم ذرياتهم بإيمان أي بسبب إيمانهم لأن الإِتباع ليس بإيمانٍ كَيْفَ كان وممَّنْ كَانَ وإِنما هو إِيمان الآباء ، لكن الإِضافة تُنْبِئُ عن تَقْييد ، وعدم كون الإِيمان إيماناً على الإِطلاق ، فإن قول القائل : ماءُ الشجر وماءُ الرمان فيصحّ ، وإطلاق اسم « ماء » من غير إضافة لا يصح ، فقوله : « بإيمانهم » يوهم أنه إيمان مضافٌ إليهم كقوله تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] حيث أثبت الإِيمان المضاف فلم يكن إيماناً فقطع الإِضافة مع ردتها ليعلم أنه إيمان صحيحٌ وعوض التنوين ليعلم أنه مضاف لا يوجب الإيمان في الدنيا إلا إيمان الآباء . قال ابن الخطيب : وهَذا وجهٌ حَسَنٌ .
قوله : { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } قال مقاتل : كل امرئ كافر بما عمل من الشرك فهو مرتهن في النار والمؤمن لا يكون مرتهناً لقوله تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين } [ المدثر : 38 - 39 ] . قال الواحدي : هذا يعود إلى ذكر أهل النار . وهُو قولُ مُجَاهِدٍ أيْضاً .
وقال الزمخشري : هذا عام في كل واحد أنه يكون مرهوناً عند الله بالكسب فإن كَسَبَ خيراً فك رقبته وإلا أغلق الرهن .
قال ابن الخطيب : وفيه وجه آخر وهو أن يكون الرهينُ فَعِيلاً بمعنى الفاعل فيكون المعنى : كل امرئ بما كسب راهن أي دائم إن أحسن ففي الجنة مؤبداً ، وإن أساء ففي النار مخلداً؛ لأن في الدنيا دوام الأعمال بدوام الأعيان فإن العَرَض لا يبقى إلا في جوهر فلا يوجد إلا فيه ، وفي الآخرة دوام الأعيان بدوام الأعمال فإن الله يبقي أعمالهم لكونها عند الله تعالى من الباقيات الصالحات ، وما عند الله باقٍ والباقي يبقى مع عمله .
قوله تعالى : { وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ } ، زيادة على ما كان لهم { وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } من أنواع اللّحْمَانِ . والمعنى زدناهم مأكولاً ومشروباً فالمأكول الفاكهةُ واللحم ، والمشروب الكأس . وفي هذا لطيفةٌ وهي أنه لما قال : مَا أَلَتْنَاهُمْ ونفي النقصان يصدق بحصول المساوئ ، فقال : ليس عدم النقصان باقتصار على المساوئ؛ بل بالزيادة والإمداد .
قوله : « يَتَنَازَعُونَ » في موضع نصب على الحال من مفعول : « أمْدَدْنَاهُمْ » ويجوز أن يكون مستأنفاً .
وتقدم الخلاف في قوله : { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا } في البقرة . والجملة في موضع نصب صفة لكأسٍ . وقوله : فِيهَا أي في شَرَابِهَا . وقيل : في الجَنَّة . ومعنى يتنازعون أي يَتَعَاطَوْن . ويحتمل أن يقال : التنازع التجاذب ويكون تجاذبهم تجاذب مُلاَعَبةٍ لا تَجاذُبَ مُنَازَعَة . وفيه نوع لذَّةٍ ، قال الشاعر :
4534-
نَازَعْتُهُ طَيِّبَ الرَّاحِ الشَّمُولِ وَقَدْ ... صَاحَ الدَّجَاجُ وَحَانَتْ وَقْعَةُ السَّارِي
وقوله : { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } قال قتادة : اللَّغْو : الباطل . وقال مقاتل بن حيّان : لا فضولَ فيها . وقال سعيد بن المسيب : لاَ رَفَث فيها . وقال ابن زَيْد : لا سبابَ ولا تخاصُمَ فيها .
وقال القُتَيْبِيُّ : لا يذهب عقولهم فيَلْغُوا أو يَرْفُثُوا « وَلاَ تَأْثيمٌ » أي لا يكون منهم ما يُؤْثِمُهُمْ . قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون المراد من التأثيم السُّكْر . وقال الزجاج : لا يجري منهم ما يُلْغَى ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا لشَرَبَةِ الخَمْر .
وقيل : لا يأثمون في شُرْبِهَا .
قوله تعالى : { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ } أي يطوف عليهم بالخِدمة غلمانٌ لهم « كَأَنَّهُمْ » في الحسن والبياض والصَّفاء .
قوله : { كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } صفة ثانية « لِغِلْمَانٍ » . والمعنى يطوف عليهم بالكُؤُوس غلمانٌ لهم . وهم الوِلْدَان المُخَلَّدُون { كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } أي مخزون مَصُونٌ لم تَمَسَّهُ الأَيْدِي .
قال سعيدُ بن جُبَيْر : يعني في الصِّدق ، وقال عبد الله بن عمر : ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألفُ غلام وكل غلام على عمل ما عليه صاحبه . « وروي عن الحسن أنه لما تلا هذه الآية قال : قَالُوا يا رسول الله : الخادم كاللؤلؤ المكنون فكيف المخْدُوم؟ قال : فَضْلُ المَخْدُومِ عَلَى الْخَادِمِ كَفَضْلِ لَيْلَةَ البدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَواكِبِ » .
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
قوله تعالى : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } يسأَلُ بعضُهم بعضاً في الجنة . قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) - : يتذاكرُون ما كانوا فيه من التَّعَب والخوف في الدنيا؛ فقوله : « يَتَسَاءَلُونَ » جملة حالية من « بَعْضُهُمْ » .
قوله : { قالوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } أي خائفين . والمعنى أنهم يسألون عن سبب ما وصلوا إليه فيقولون : خَشْيَة اللَّهِ أي كنا نخاف الله « فَمَنَّ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ » . قال الكلبي : عذاب النار . وقال الحسن : ( - رضي الله عنه - ) : السموم اسمٌ من أسماء جهنم . والسَّمُوم في الأصل الرِّيحُ الحَارَّة التي تَتَخَلَّل المَسَامَّ ، والجمع سَمَائِمُ . وسُمَّ يَوْمُنَا أي اشتدَ حَرُّهُ . وقال ثعلب : السموم شدة الحر أو شدة البرد في النَّهَار وقال أبو عبيدة : السموم بالنهار وقد يكون بالليل والحَرُور بالليل وقد يكون بالنهار وقد يستعمل السموم في لَفْحِ البَرد وهو في لفح الحر والشمس أكثر . وقد تقدم شيء من ذلك في سُورة « فاطر » .
وقرأ العامة : وَوَقَانَا بالتخفيف ، وأبو حَيْوَة بالتَّشديد وقد تقدم . قوله : « إنَّا كُنَّا قَبْلُ » أي في الدنيا « نَدْعُوهُ » نُخْلِصُ له العبادة .
وقوله : { إِنَّهُ هُوَ البر } قرأ نافعٌ والكسائيُّ بفتح الهمزة على التعليل أي لأنَّه والباقون بالكسر على الاستئناف الذي فيه معنى العلة فيتحد معنى القراءتين .
وقوله : « هُوَ البَرُّ » . قال ابن عباس : اللطيف . وقال الضحاك : الصادق فيما وعد الرحيم بعباده ، ( اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا ) .
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)
قوله تعالى : { فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } لما بين تعالى أن في الوجود قوماً يخافون الله ، ويشفقون في أهلهم والنبي - عبليه الصلاة والسلام - مأمور بتذكير من يخاف الله تعالى لقوله تعالى : { فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ ق : 45 ] فوجب التذكير فلذلك ذَكَرَهُ بالفاء .
قوله : « بِنِعْمَةِ رَبِّكَ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مقسم به متوسط بين اسم « ما » وخبرها . ويكون الجواب حينئذ محذوفاً لدلالة هذا المذكور عليه والتقدير : « وَنِعْمَةَ رَبّكَ مَا أَنْتَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ » .
الثاني : أن الباء في موضع نصب على الحال ، والعامل فيها : « بِكَاهِنٍ أوْ مَجْنُون » والتقدير : ما أنت كاهناً ولا مجنوناً ملتبساً بنعمة ربك . قاله أبو البقاء . وعلى هذا فهي حالٌ لازمة؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يفارق هَذِهِ الحَالَ .
الثالث : أن الباء متعلقة بما دل عليه الكلام وهو اعتراض بين اسم « ما » وخبرها والتقدير : ما أنت في حال أذْكَارِك بنعمةِ ربك بكاهنٍ ولا مجنون . قاله الحوفيّ . قال شهاب الدين : ويظهر وجه رابع وهو أن تكون الباء سببية وتتعلق حينئذ بمضمون الجملة المنفية . وهذا هو مقصود الآية الكريمة . والمعنى انتفى عنك الكَهَانَةُ والجنونُ بسبب نعمةِ الله عليك كما تقول : مَا أَنْتَ بمُعْسرٍ بحمْدِ اللَّهِ وَغِنائِهِ .
فصل
المعنى « فَذَكِّرْ » يا محمد أهل مكة بالْقُرْآنِ { فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } أي برحمته وعصمته « بِكَاهِنٍ » مبتدع القول ومخبر بما في غد من غير وحي « وَلاَ مَجْنُونٍ » نزلت في الذين اقتسموا عِقَابَ مكة يرمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكَهانةِ والسِّحر والجُنُون والشِّعر .
قوله : « أَمْ يَقُولُونَ » قال الثعلبي : قال الخليل : كل ما في سورة الطور من « أم » فاسْتِفْهَامٌ وليس بِعَطْفٍ .
وقال أبو البقاء : « أم » في هذه الآيات منقطعة . وتقدم الخلاف في المنقطعة هل تقدر بِبَلْ وحدَها أو بِبَلْ والهمزة أو بالهمزة وحدها . والصحيحُ الثاني .
وقال مجاهد في قوله : « إنْ تَأمُرهُمْ » تقديره بَلْ تَأمُرُهُمْ . وقرأ : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } يدل : أم هُمْ قَوْمٌ .
قوله : « نَتَرَبَّصُ » في موضع رفع صفة ل « شَاعِرٌ » والعامة على « نَتَرَبَّص » بإسناد الفعل لجماعة المتكلمين « رَيْبَ » بالنصب .
وزيد بن علي : يُتَرَبَّصُ - بالياء من تحت - على البناء للمفعول « رَيْبُ » بالرفع .
و « رَيْبُ المَنُونِ » : حَوَادِثُ الدَّهْر ، وتَقَلُّبَات الزَّمان؛ لأنها لا تدوم على حال كالريب وهو الشك فإنه لا يبقى بل هو متزلزل . قال الشاعر :
4535-
تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا ... تُطَلَّقُ يَوْماً أَوْ يَمُوتُ خَلِيلُهَا
وقال أبو ذُؤَيْب :
4536-
أَمِنَ الْمَنُونَ وَرَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ ... وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
والمنون في الأصل الدهر . وقال الراغب : المَنُونُ : المنيّة؛ لأنها تَنْقُصُ العَدَدَ ، وتَقْطَعُ الْمَدَدَ . وجَعَلَ من ذلك قوله : { أجر غير ممنون } أي غير منقطع . وقال الزمخشري : وهو في الأصل : فعول من منه إذا قطعه لأن الموت قطوع ، ولذلك سميت شعوب . و « رَيْبَ » وريبة مفعول به أي ننتظر به حوادث الدهر أو المنية .
فصل
المعنى : بل يقولون يعني هؤلاء المقتسمين الخَرَّاصين شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ به رَيْبَ المنون حوادث الدهر وصروفه وذلك أن العرب كانت تحترز عن إيذاء الشعراء ، فإن الشعر كان عندهم يحفظ ويدون فقالوا : لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شِعْره وإنما نصبر وَنَتَربَّصُ موتَهُ ويَهْلِك كما هلك من قبله من الشعراء ويتفرق أصحابه وإنّ أباه مات شاباً ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه . والمنون يكون بمعنى الدهر فيكون بمعنى الموت سُمِّيَا بذلك لأنَّهما يقطعان الأجل . أو يقال : إنه - عليه الصلاة والسلام - كان يقول : إن الحَقَّ دين الله ، وإنَّ الشرع الذي أتيت به يبقى أبد الدهر ، وكتابي يُمْلَى إلى قيام الساعة فقالوا : ليس كذلك إنما هو شاعر والذي يذكره شعر ولا ناصر له وسيصيبه من بعض آلهتنا الهَلاَك فنتربص به ذلك . وَرَيْبُ المَنُون : هو اسم للموت فَعُولٌ من المَنِّ ، وهو القطع .
ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون المراد انه إذا كان شاعراً فصروف الزمان ربما تضعف ذِهْنَهُ وتُورثُ وَهَنَهُ فيتبين لكل أحد فساد أمره وكساد شعره .
قوله : « قُلْ تَرَبَّصُوا » أي انتظروا بي الموت .
فإن قيل : هذا أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظ الأمر يوجب المأمور به أو يُبِيحُه ويجوزه وتربصتم كان حراماً .
فالجواب : ليس ذلك بأمر وإنما هو تهديد أي تربصوا فإني متربصٌ الهلاك بكم كقول الغَضْبَانِ لعبده : افْعَلْ مَا شِئْتَ فإني لَسْتُ عَنْكَ بغافلٍ .
فإن قيل : لو كان كذلك لقال : تَرَبَّصوا أو لا تَتَرَبَّصُوا كما قال : { اصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ } [ الطور : 16 ] .
فالجواب : ليس كذلك ، لأن ذلك يفيد عدم الخوف أكثر .
قوله : { فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المتربصين } أي أتربصُ هَلاَكَكُمْ ، وقد أهلكوا يوم بدر وغيره من الأيَّام . قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون معناه إذا قلنا : ( إن ) ريب المنون صروفُ الدهر فمعناه إنكار كَوْن صروف الدهر مؤثرة فكأنه يقول : أَنَا مِنَ المتربِّصين حتى أُبْصِرَ ماذا يأتي به الذي تجعلونه مهلكاً وماذا يُصِيْبُني منه .
قوله : { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ } عقولهم { بهاذآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } والإشارة بقوله : « بِهَذَا » إلى ما ظهر منهم عقلاً ونقلاً . وهو عبادة الأوثان وقولهم الهَذَيَان . وقيل : إشارة إلى قولهم : كَاهنٌ وشاعرٌ ومجنونٌ . وقيل إشارة إلى التربص وذلك أن الأشياء إما أن تَثْبُتَ بعقلٍ أو نقلٍ فقال : هل ورد أمرٌ سَمْعِيّ أم عقولهم تأمرهم بما كانوا يقولون أم هم قوم طاغون مُفْتَرُونَ ويَقُولُونَ ما لا دليل عليه سمعاً ولا مقتضى له عقلاً؟ والطُّغْيَان مُجَاوَزَةُ الحَدِّ في العِصْيَانِ وكذلك كل شيء مكروهٌ ظاهرٌ ، قال تعالى :
{
لَمَّا طَغَا المآء } [ الحاقة : 11 ] .
واعلم أن قوله : « أَمْ تَأمُرُهُمْ » متصل تقديره : أنزل عليهم ذكر أم تأمرهم أحلامهم بهذا . وفي هذه الآية إشارة إلى أن كل ما لا يكون على وَفْق العقل لا ينبغي أن يقال؛ وإنما ينبغي أن يقال ما يجب قولهُ عقلاً .
والأحلام جمع حِلم وهو العقل فهما من باب واحد من حيث المعنى لأن العقل يضبط المرء فيكون كالبعير المَعْقُول لا يتحرك عن مكانه والحِلْم من الاحتلام ، وهو أيضاً سبب وقار المرء وثباته لأن الحُلم في أصل اللغة هو ما يراه النائم فينزل ويلزمه الغسل الذي هو سبب البلوغ وعنده يصير الإنسان مكلّفاً ، فالله تعالى من لطيفِ حِكمته قَرَن الشهوة بالعقل وعند ظهور الشهوة يكمل العقل ويكلف صاحبه فأشار تعالى إلى العقل بالإشارة إلى ما يقارنه وهو الحِلْم ليعلم أنه يريد به كمال العقل .
قوله : { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ } أي يخلق القرآن من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ ، والتَّقَوُّلُ تكلّف القول ولا يستعمل إلا في الكذب وهذا أيضاً متصل بقوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ } تقديره : كاهن أم يقولون تقوله بالمعنى ليس الأمر كما زَعَمُوا بل لا يؤمنون بالقرآن استكباراً .
ثم ألزمهم الحُجَّة وأبطل جميع الأقسام فقال : { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } أي القُرْآنِ ونظمه { إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } أنَّ محمداً تقوَّلهُ من قِبَلِ نفسه ، ولما امتنع ذلك كَذَّبوا في الكُلّ .
قوله : « فَلْيأتُوا » الفاء للتعقيب أي إذا كان كذلك فيجب عليهم أن يأتوا بمثل ما أتى بهِ لِيَصحَّ كلامُهُم ويبطل كلامه . قال بعض العلماء : وهذا أمر تعجيزٍ قال ابن الخطيب : والظاهر أن الأَمر ههنا على حقيقته لأنه لم يقل : إيتوا مطلقاً بل قال : إيتوا إن كنتم صادقين فهو أمر معلق على شرط إذا وجد ذلك الشرط يَجِبُ الإتيان به وأمر التعجيز كقوله تعالى : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ } [ البقرة : 258 ] وليس هذا بحثاً يورث خللاً في كلامهم .
قوله : « بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ » العامة على تنوين « حَدِيثٍ » وَوَصْفِهِ ب « مِثْلِهِ » . والجَحْدَرِيُّ وأبو السَّمَّال « بحَدِيثِ مِثْلِهِ » بإضافة حديث إلى « المِثْل » على حذف موصوف أي بحديثِ رجلٍ مِثْلِهِ من جِنْسِهِ .
فصل
قالت المعتزلة : الحديث محْدَث ، والقرآن سماه حديثاً فيكون مُحْدَثاً .
وأجيبوا : بأن الحديث اسمٌ مشترك يقال للمُحْدَث والمنقول وهذا يصح أن يقال : هذا حديث قديم أي متقادم العَهْد ، لا بمعنى سبب الأزلية وذلك لاَ نِزَاع فِيهِ .
فإن قيل : الصّفة تتبع الموصوف في التعريف والتنكير والموصوف هنا : « حَدِيث » وهو مُنَكَّر ، و « مِثْلِهِ » مضاف إلى « القرآن » والمضاف إلى القرآن مُعَرَّف فكيف هذا؟
فالجواب : أن « مِثْلاً » و « غَيْراً » لا يتعرَّفان بالإضافة ، وكذلك كل ما هو مثله كشِبْهٍ ، وذلك أن « غَيْراً ومِثْلاً » وأمثالهما في غاية التنكير؛ لأنك إذا قلت : « مِثْلُ زَيْدٍ » يتناول كل شيء ، فإن كل شيء مثل زيد في شيء فالحِمار مثله في الجسم والحجم والإمكان والنباتُ مثله في النُّشُوء والنَّمَاء والذّبُول والفَنَاء ، والحَيَوَان مثله في الحركة والإدراك وغيرها من الأوصاف .
وأما « غَيْرُ » فهو عند الإضافة ينكَّر وعند قطع الإضافة ربَّما يَتَعرَّف؛ فإنك إذا قلت : غَيْر زيدٍ صار في غاية الإبهام ، فإنه يتناول أموراً لا حصر لها ، وأما إذا قطعتَ « غير » عن الإضافة فربَّما يكون الغَيْرُ والمُغَايَرَةُ من بابٍ واحد وكذلك التَّغيُّر فتجعل الغير كأسماء الجنس وتَجْعَلُهُ مبتدأ أو تريد به معنى معيَّناً .
قوله : « أَمْ خُلِقُوا » لا خلاف أن « أم » هنا ليست بمعنى بل لكن أكثر المفسرين على أن المراد ما وقع في صدر الكلام من الاستفهام بالهمزة كأنه يقول : « أَخُلِقُوا مِنْ غير شيء » .
قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يقال : هو على أصل الوضع للاستفهام الذي يقع في أثناء الكلام وتقديره : أَم خُلِقُوا من غير شيء أم هم الخالقون؟
قوله : { مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ } يجوز أن تكون « من » لابْتِدَاء الغاية على معنى : أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شيء حَيٍّ كالجَمَادِ فهم لا يُؤْمَرُون ولا يُنْهَوْنَ كما الجَمَادَات ، وقيل : هي للسَّبَبِيَّة على معنى من غير عِلَّةٍ ، ولاَ لِغَايَةِ ثوابٍ ولا عقابٍ .
فصل
وجه تعلق الآية بما قبلها أنهم لما كذبوا النبي - عليه الصلاة والسلام - ونسبوه إلى الكَهَانَةِ والشِّعْر والجُنُونِ وبرأه الله من ذلك ذكر الدليل على صِدْقِهِ إبطالاً لتكذيبهم وبدأ بأنفسهم فكأنه يقول : كيف تكذبونَهُ وفي أنفسكم دليل صدقه ، لأن قوله كانَ في ثلاثة أشياء ، في التوحيدِ ، والحَشْرِ ، والرسالة ففي أنفسهم ما يعلم صدقه وهو أنهم خلقوا وذلك دليل التوحيد لما تقدم أنَّ :
فِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الوَاحِدُ؟
وأما الحشر فلأن الخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني .
فصل
قال المفسرون : معنى الآية : أم خلقوا من غير شَيْءٍ فوُجِدُوا بلا خالق وذلك مما لا يجوز أن يكون { أَمْ هُمُ الخالقون } لأنفسهم وذلك في البُطْلاَن أشدُّ؛ لأن ما لا وجودَ له كيف يخلق فإذا بَطَلَ الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقاً فليؤمنوا به . قال هذا المعنى أبو سليمان الخَطَّابِيُّ . وقال الزجاج : معناه أَخُلِقُوا باطلاً لا يُحَاسَبُون ولا يُؤْمِنُون وقال ابْنُ كَيْسَانَ : أخلقوا عبثاً وتركوا سُدًى لا يُؤْمَرُونَ ولا يُنهَوْن كقول القائل فعلت كذا وكذا ( وقوله ) : { مِنْ غير شيء } لغير شيء { أَمْ هُمُ الخالقون } لأنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر .
وقيل : معناه أخلقوا من غير أبٍ وأُمٍّ .
قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يقال : أم خلقوا من غير شيء أي أَلَمْ يُخْلَقُوا من ترابٍ أو من ماء لقوله تعالى : { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [ المرسلات : 20 ] ويحتمل أن يقال : الإستفهام ليس بنفي بل هو بمعنى الإثبات كقوله تعالى : { أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون } [ الواقعة : 59 ] و { أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون } [ الواقعة : 64 ] و { أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون } [ الواقعة : 72 ] كل ذلك في الأول منفي وفي الثاني مثبت كذلك ههنا قال تعالى : { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ } أي إنَّ الصادقَ هو الثاني وهذا حينئذ كقوله تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } [ الإنسان : 1 ] .
فإن قيل : كيف يكون ذلك الإثبات والآدمي خلق من تراب؟
نقول : والتراب خلق من غير شيء ، فالإنسان إذا نظرت إلى خلقه ونظرت إلى ابتداء أمره تجده مخلوقاً من غير شيء .
أو نقول : المراد أم خلقوا من غير شيء مذكوراً أو متغيراً وهو الماء المَهِينُ؟
قوله : { أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ } قال الزمخشري : « لا يوقنون بأنهم خُلِقُوا » وهو في معنى قوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] أي هم معترفون بأنه خلق الله وليس خلق أنفسهم .
وقيل : بل لا يوقنون بأن الله خالقٌ واحدٌ أي ليس الأمر كذلك وما خلقوا وإنما لا يوقنون بوَحْدَةِ الله . وقيل المعنى لا يوقنون أصلاً من غير ذكر مفعول كَقْولِكَ : فُلانٌ لَيْسَ بمُؤْمِنٍ وفُلاَنٌ كَافِرٌ لبيان مذهبه وإن لم يَنْوِ مفعولاً . والمعنى أنهم ما خلقوا السموات والأرض ولا يوقنون بهذه الدلائل ، بل لا يوقنون أصلاً وإن جئتهم بكل آية بدليل قوله تعالى بعد ذلك : { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } . وهذه الآية دليل الآفاق وقوله من قَبْلُ دَليلُ الأنفس .
قوله : { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ } قال عكرمة : يعني النبوة ، وقال مقاتل : أَبِأَيْديهم مفاتيحُ ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاؤوا؟ وقال الكلبي : خَزَائِنُ المَطَر والرِّزق . وقيل : خزائن الرحمة .
قوله : { أَمْ هُمُ المسيطرون } وهذه تَتِمَّةُ الردِّ عليهم؛ لأنه لما ( قَا ) ل : { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ } أشار على أنهم ليسوا بخزنة الله فعلموا خزائن الله لكن بمجرد انتفاء كونهم خزنة ( لا ) ينتفي العلم لجواز أن يكون مشرفاً على الخَزَنَةِ ، فإن العلم بالخَزَائنِ عند الخازن والكاتب بالخِزَانَة فقال : لستم بخَزَنَةٍ ولا بِكَتَبَة الخزانة المسلطين عليها .
قال ابن الخطيب : ولا يبعد تفسير : « المُسَيْطِرِين » بكَتَبَةِ الخزائن؛ لأن التركيب يدل على السَّطْر وهو يستعمل في الكِتَابة .
قال أهل اللغة : المُسَيْطِرُ الغالب القاهر من سَيْطَرَ عليه إذا راقبه وَحَفظَهُ أو قَهَرَهُ .
قال المفسرون : المسيطرون المسلطون الجَبَّارُون . وقال عطاء : أربابٌ قاهرونَ ، فلا يكونوا تحت أمرٍ أو نهي يفعلون ما شَاؤُوا . ويجوز بالسين والصاد جميعاً .
وقرأ العامة : المُصَيْطِرُون بصاد خالصة من غير إشْمَامِها زاياً لأجل الطاء كما تقدم في : « صراط » [ الفاتحة : 7 ] .
وقرأ هشامٌ وقُنْبُلٌ من غير خلاف عنهما بالسين الخالصة التي هي الأصل وحفصٌ بخلافٍ عنه .
وقرأ خلاَّدٌ بصاد مشمَّةٍ زاياً من غير خلاف عنه . وقرأ خلادٌ بالوجهين أعني كخَلَفٍ والعامَّةِ . وتوجيه هذه القراءات واضحٌ مما تقدم في أول الفاتحة ، ولم يأتِ على « مُفَيْعِلٍ » إلا خمسة ألفاظ ، أربعةٌ صفةٌ اسمُ فاعل نحن مُهَيْمِن ومُبَيْقِر ، ومُسَيْطرِ ومُبَيْطر وواحد اسم جبل - وقيل : اسم أرضٍ لبني فِزارة - وهو المُجَيْمِر قال امرؤ القيس :
4537-
كَأَنَّ ذُرَى رَأسِ المُجَيْمِرِ غُدْوَةً ... مِنَ السَّيْلِ والغُثَّاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ
قوله : { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ } أي مِرْقَاةٌ ومِصْعَد إلى السماء « يَسْتَمِعُونَ فِيهِ » . وهذا أيضاً تتميم الدليل ، فإن مَنْ لا يكون خازناً ولا كاتباً قد يطلع على الأمر بالسماع من الخازن أو الكاتب فقال : أنتم لستم بخزنة ولا كَتَبَةٍ ولا اجتمعتم بهم ، لأنهم ملائكة ولا صعود لكم .
قوله : « يَسْتَمِعُونَ فِيهِ » صفة « لسُلَّمٍ » و « فِيهِ » على بابه من الظرفية . وقيل : هي بمعنى « عَلَى » . قاله الواحدي ، كقوله تعالى : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] . ولا حاجة إلَيْهِ .
وقدَّره الزمخشري متعلقاً بحال محذوفة تقديرها : صَاعِدِينَ فيه . ومفعول « يَسْتَمِعُونَ » محذوف فقدره الزمخشري يستمعون ما يوحى إلى الملائكة من عِلْم الغيب . وقدره غيره يستمعون الخبر بصحة ما يدعون من أنه شاعر ، وأنَّ لِلَّهِ شركاءَ .
والظاهر أنه لا يقدر له مفعول بل المعنى يوقعون الاستماع أي هل لهم قوة الاستماع من السماء حتى يعلموا أنه ليس برسول .
قوله : « فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ » إن ادَّعَوْا ذلك « بسلطان مبين » أي حجة وبينة .
فإن قيل كيف قال : « فَلْيَأتِ مُسْتَمِعُهُمْ » ولم يقل : فَلْيَأتُوا كما قال تعالى : { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } [ الطور : 34 ] ؟
فالجواب : أنه طلب منهم الأهون على تقدير صدقهم ليكون امتناعُه عليهم أدلَّ على بُطْلان قولهم ، وقال هناك : فَلْيَأتوا أي اجتمعوا عليه وتعاونوا وأتوا بمثله ، فإن ذلك عند الاجتماع أهون وأما الارْتِقَاءُ في السلم بالاجتماع فمتعذِّر ، لأنه يرتقي واحدٌ بعد واحد فلا يحصل في الدرجة العليا إلا واحد فقال : فَلْيَأتِ ذَلك الواحد بما سَمِعَهُ . وفيه لطيفة وهي أنه لو طلب منهم ما سمعوه لكان الواحد أن يفتري ويقول : سَمِعْتُ كذا فقال : لاَ بل الواجب أن يأتي بدليل يَدُلُّ عليه .
قوله : { أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون } وهذا إنكار عليهم حين جعلوا لله ما يكرهون كقوله تعالى : { فاستفتهم أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون } [ الصافات : 149 ] .
{
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً } جعلاً على ما جئتهم به ودعوتهم إليه { فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } أي أثقلهم ذلك المَغْرَم الذي يسألهم ، فيمنعهم ذلك عن الإسلام .
فإن قيل : ما الفائدة في سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : أَمْ تَسْأَلَهُمْ ولم يقل : أَمْ تُسْأَلُونَ أجراً كما قال تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ } { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً } إلى غير ذلك؟
فالجواب : أنَّ فيه فائدتين :
إحداهما : تسلية قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم امتنعوا عن الاستماع صَعُبَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له ربه : أَنْتَ أتيتَ بما عليك فلا يَضيقُ صدرُك حيث لم يُؤْمنوا ، فأنت غير مُلْزَم ، وإنما كنت تُلاَمُ إن كنت طلبت منهم أجراً فهل طلبت ذلك فأَثْقَلْتَهُمْ فلا حَرَجَ عليك إذَنْ .
الثانية : لو قال : أَمْ تُسْأَلُونَ ففي طلب الأجر مطلقاً وليس كذلك لأنهم كانوا مشركين مطالبين بالأجر من رؤسائهم وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : أنتَ لا تسألهم أجراً فهم لا يَتَّبِعُونَك وغيرهُم يسألهم وهم يسألون ويتَّبِعون السائلين هذا غاية الضَّلاَل .
قوله : { أَمْ عِندَهُمُ الغيب } أي علم ما غاب عنهم حتى علموا أن ما يخبرهم من أمر القيامة والبعث باطل . قال قتادة : هذا جواب لقوله : { نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } يقول : أعندهم الغيب حتى علموا أن محمداً يموت قبلهم فهم يكتبون .
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف لبعد ذكره ، أو لأن قوله تعالى : { قُلْ تَرَبَّصُواْ } متصل به وذلك يمنع اتصال هذا بذاك .
قال القُتَيْبِيّ : أي يحكمون والكِتَاب الْحُكم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجلين اللذين تخاصما إليه : أقضي بينكما بكِتَاب الله أي بحُكْمِ الله .
وقال ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) - معناه : أم عِنْدهُمُ اللَّوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويُخْبِرُون الناس به .
والألف واللام في { الغيب } لا للْعَهْد ولا لتعريف الجنس بل المراد نوع الغيب ، كما تقول : اشْتَرِ اللَّحْمَ تريد بيان الحقيقة لا كلّ لحم ولا لحماً معيناً .
قوله { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً } أي مكراً بك { فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون } أي المَخْزِيُّونَ بِكَيْدِهِمْ ، أي إن ضَرَرَ ذلك يعود عليهم ويحيق مكرهم بهم لأنهم مكروا به في دَار الندوة فقُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ .
فصل
وجه التعلق إذا قيل بأن قوله : { أَمْ عِندَهُمُ الغيب } متصل بقوله تعالى : { نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } فالمعنى أنهم لما قالوا : نتربص به ريب المنون قيل لهم : أتعلمون الغيب فتعلمون أنه يموت قبلكم أَمْ تُرِيدُون كيداً فتقولون نقتله فيموت فقيل لهم : إن كنتم تدعون الغيب فأنتم كاذبون وإن كنتم تظنُّون أنّكم تقدرون عليه فأنتم غالِطُون فإن الله يَصُونُه ويَنْصُره عليكم .
وإن قيل بأن المراد أنه عليه الصلاة والسلام لا يسألكم عن الهداية مالاً وأنتم لا تعلمون ما جاء به لكونه من الغُيُوبِ ففي المراد بقوله : { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً } وجهان :
الأول : أن المعنى أم يريدون أي من الشيطان فكأنه تعالى قال : أنتَ لا تَسْألهم أجراً وهم لا يعلمون الغيب فهم محتاجون إليك وأعرضوا فقد اختاروا كَيْدَ الشيطان ، وارتَضَوْا بإزاغَتِهِ .
والإرادة بمعنى الاختيار كقوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة } [ الشورى : 20 ] وقوله : { أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ } [ الصافات : 86 ] وقوله : { إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } [ المائدة : 29 ] .
الثاني : أن المراد أم يريدون كيداً ، فهو واصل إليهم وهم عن قريب مكيدونَ والمعنى أنه لم يبق لهم حجةٌ في الإعراض فهم يريدون نُزُول العذاب والله أرسل إليهم رسولاً لا يسألهم أجراً ويَهْدِيهم إلى ما لاَ عِلْمِ لَهم به ولا كتابَ عندهم وهم معرضون فهم يريدون إذَنْ أن يهلكهم ويكيدهم ، لأن الاستدراجَ كيدٌ ، والإملاء لازدياد الإثْم كذلك ولا يقال : هذا فاسد ، لأن الكيد والإساءة لا تطلق على فعل الله تعالى إلا بطريق المقابلة وكذلك المكر فلا يقال : أسَاءَ اللَّهُ إلى الكافر ولا اعتدى الله إلا إذا ذكر أولاً منهم شيء من ذلك ، ثم يقال بعده مثله لفظاً في حق الله تعالى ، كقوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ] { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } [ آل عمران : 54 ] { يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً } [ الطارق : 15 - 16 ] ؛ لأنا نقول : الكيد ( ما ) يسُوءُ مَنْ نَزَلَ به ، وإن حسن ممن وجد منه كقول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - { لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } [ الأنبياء : 57 ] من غير مقابلة . ونكر الكيد ، إشارةً إلى وقوع العذاب من حيث لا يشعرُون ، فكأنه قال : يأتيهم بَغْتة ولا يكون لهم علم بِعظمِهِ .
قوله : « فَالَّذِينَ كَفَرُوا » هذا من وقوع الظاهر موقع المضمر تنبيهاً على اتِّصافهم بهذه الصفة القبيحة ، والأصل أَم يُريدُونَ كَيْداً فَهُم المكيدون ، أو حكم على جنس هم نوع منه فيندرجون اندراجاً أوَّلِيًّا لتوغلهم في هذه الصفة .
قوله : { أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله } يرزقهم وينصرهم { سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
قال الخليل : ما في هذه السورة من ذكر « أَمْ » كلمةُ استفهام وليس بعطف .
فصل
قَالَ أَهْلُ اللُّغَة : « سُبْحَانَ اللَّهِ » اسم علم على التسبيح ، و « مَا » في قوله « عَمَّا يُشْرِكُونَ » يحتمل أن تكون مصدرية أي عن إشراكهم ، ويحتمل أن تكون خبريةً أي عن الذين يشركون . وعلى هذا يحتمل أن يكون عن الولد لأنهم كانوا يقولون : لَهُ البَنَاتُ فقال : « سُبْحَانَ اللَّهِ عن البنات والبنين » . ويحتمل أن يكون عن مثل الآلهة أي سبحانه الله عن مِثْل ما يعبدونه .
قوله تعالى : { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً } « إنْ » هذه شرطية على بابها . وقيل : هي بمعنى « لو » . وليس بِشَيءٍ .
وقوله : « سَحَابٌ » خبر مبتدأ مضمر أي هذا سَحَابٌ ، والجملة نَصْبٌ بالقول .
فصل
لما بين فَسَاد أقوالهم وسقوطها أشار إلى أنه لم يبق لهم عُذْرٌ ، فإن الآيات والحُجَج قد ظهرت ولم يؤمنوا فبعد ذلك { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً } أي قطعةً { مِّنَ السمآء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ } أي ينكرون كونه آية .
ومعنى الآية لو عذبناهم بسقوط بعض من السماء عليهم لم يَنْتَهُوا عن كفرهم ويقولوا لمعاندتهم : هَذَا سَحَابٌ مَرْكُومٌ أي بعضه على بعض .
قوله : « سَاقِطاً » يحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً كقولك : رَأَيْتُ زيداً عَالِمَاً ، وأن يكون حالاً كقولك : ضربته قائماً .
والثاني أولى؛ لأن الرؤية عند التعدي إلى مفعولين في أكثر الأمر تكونُ بمعنى العلم ، تقول : رَأَيْتُ هَذَا المَذْهَبَ صَحِيحاً وهذا الوجه ظاهراً وعند التعدي إلى واحد تكون بمعنى « رأي العين » في الأكثر ، تقول : رأيت زيداً؛ قال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 84 ] وقال : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً } [ مريم : 26 ] .
والمراد من الآية رؤية العين .
فصل
قولهم : « سَحَابٌ مَرْكومٌ » إشارة إلى أنهم حين يعجزون عن التكذيب ولا يمكنهم أن يعقلوا وقوع شيء على الأرض يَرْجِعون إلى التأويل والتَّخْييل ، وقالوا : سَحَابٌ ولم يقولوا : هذا سحاب إشارة إلى وضوح الأمر وظهور العِنَاد فأتوا بما لا شك فيه . وقالوا : « سحاب مركوم » وحذفوا المبتدأ ليبقى للقائل فيه مجال فيقولون عند تكذيب الخلق إيّاهم : قُلْنَا سَحَابٌ مَرْكُومٌ شبهة أو مثلة . وإن مشى الأمر على عوامِّهم استمروا . وهذه طريق من يخاف من كلام لا يعلم هل يقبل منه أم لا فيجعل كلامه ذَا وَجْهَيْنِ . فإن رأى القبول صرح بمرادهِ ، وإن أنكر عليه أحدهما فَسَّره بالآخَر .
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
قوله : { فَذَرْهُمْ حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ } « يومهم » مفعول به لا ظرف . وقرأ أبو حيوة : يَلْقُوا مضارع لَقِيَ ويُضْعِفُ أن يكون المفعول محذوفاً و « يَوْمَهم » ظرف أي يلاقوا أو يلقوا جزاء أعمالهم في يَوْمِهِمْ .
فصل
قوله : « فذرهم » كقوله : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } [ الأنعام : 68 ] ، { وَتَوَلَّ عَنْهُمْ } [ الصافات : 178 ] إلى غير ذلك . فقيل : كلها منسوخة بآيات القتال . وهو ضعيف . وإنما المراد التهديد كقول السيد لعبده الجاني لمن ينصحه : دَعْهُ فإنه سَيَنَالُ جِنَايَتَهُ .
قوله : { الذي فِيهِ يُصْعَقُونَ } قرأ ابنُ عامر وعاصم بضم ياء يصعقون مبنياً للمجهول . وباقي السبعة بفتحها مبنياً للفاعل . وقرأ أبو عبد الرَّحْمَنِ : بضم الياء وكسر العين .
فأما الأولى : فيحتمل أن تكون من صُعِقَ فهو مَصْعُوق مبنياً للمفعول . وهو ثلاثي حكاه الأخفش ، فيكون مثل سُعِدُوا وأن يكون من أَصْعَقَ رُبَاعِيًّا ، يقال : أُصْعِقَ فهو مُصْعَقٌ . قاله الفارسي . والمعنى أن غيرَهم أَصْعَقَهُمْ .
وقراءة السلمي تؤذن أن أفْعَلَ بمعنى فَعِلَ . ومعنى يصعقون أي يموتون أي حتى يعاينوا الموت .
وقوله : { يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ } يوم بدل من « يَوْمَهُمْ » .
وقيل : ظرف « يُلاَقُوا » .
فإن قيل : يلزم منه أن يكون اليومُ في يوم فيكون اليومُ ظرفَ الْيَوْمِ؟
فالجواب : هو على حدّ قولك : يأتي يَوْمُ قتل فلان يَوْمَ تَبين جَرائِمُهُ . قاله ابن الخطيب . وقوله { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } أي لا ينفعهم كيدهم يوم الموت ولا يمنعهم من العذاب مانعٌ .
قوله : { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } يجوز أن يكون من إتباع الظاهر موقع المضمر وأن لا يكون كما تقدم . والمعنى وإن للذين ظلموا أي كفروا { عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } أي عذاباً في الدنيا قبل عذاب الآخرة . قال ابن عباس - ( رَضِيَ الله عنهما ) - يعني القتل يوم بدر .
وقال الضحاك : هو الجوع والقحط سَبْعَ سنين . وقال البراءُ بن عازب : عذاب القبر .
{
ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أن العذاب نازل بهم .
والمراد بالظلم هنا هو كيدهم نَبِيَّهم - عليه الصلاة والسلام - وهم أهل مكة . وقيل : ظلموا بعبادة غير الله فيكون عاماً في كل ظالم . والإشارة بقوله : « ذَلِكَ » إلى اليوم الذي فيه يُصْعَقُونَ .
ومقعول « يعلمون » يجوز أن يكون ما تقدم ، ويجوز أن يكونَ لا مفعولَ له أي أكثرهم غافِلونَ جَاهِلُون .
قوله تعالى { واصبر لِحُكْمِ } . أي إلى أن يقع بهم العذاب الذي حكمت عليهم « فَإنَّكَ بِأَعْيُنِنَا » قراءة العامة بالفك ، وأبو السَّمَّال بإدغام النون فيما بعدها . وناسب جمع الضمير هنا جمع العين ألا تراه أفرد حَيْثُ أفردها في قوله : { وَلِتُصْنَعَ على عيني } [ طه : 39 ] . قاله الزمخشري . والمعنى : فَإنك بِمرأًى مِنَّا .
قال ابن عباس : نَرَى ما يُعْمَلُ بك . وقال الزجاج : إنك بحيث نراك ونحفظك فلا يصلون إلى مَكْرُوهِكَ .
قال ابن الخطيب : اللام في قوله « لِحُكْمِ رَبِّكَ » تحتمل وجوهاً :
أحدها : هي بمعنى « إلى » أي اصبر إلى أن يحكم الله .
الثاني : أن الصبر فيه معنى الثبات أي تَثَبَّت لحكم ربك واحْتَمِلْهُ .
الثالث : هي اللام التي للسبب ، يقال : لِم خرجت؟ فتقول : لحكم فلان عليَّ بالخروج ، فقال : فَاصْبِرْ واجعل سبب الصبر امتثال الأمر ، أي فاصبر لهذا الحكم عليك لا لشيءٍ آخر .
قوله : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } تقدم الكلام على نظيره وقوله : « حِينَ تَقُومُ » قال سعيد بن جبير وعطاء : أي قل حين تقوم من مجلسك : سُبْحَانك اللهم وبحمدك ، فإن كان المجلس خيراً ازددتَ إحساناً وإن كان غير ذلك كان كفارةً له .
وروى أبو هريرة قال : قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ جَلَسَ مَجْلِساً وكَثُر فيه لَغَطُهُ فقال قبل أن يقوم : سُبْحَانَكَ اللَّهُ وَبِحَمْدِك أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلهَ إلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ إلاَّ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهُمَا » وقال ابن عباس ( - رضي الله عنهما - ) : معناه : صَلِّ لله حين تقوم من مقامك . وقال الضحاك والربيع : إذا قمت إلى الصلاة فقل : سبحانَك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جَدُّك ولا إله غيرك . وقال الكلبي : هو ذكر الله باللسان « حِينَ تَقُومُ » من الفراش إلى أن تدخل في الصلاة ، لِمَا رَوَى عاصمُ بنُ حُمَيْدٍ قال : « سألتُ عائشةَ بأيِّ شيءٍ كان يَفْتَتِحُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قيامَ الليل؟ فقالت : كان إذا قَامَ كَبَّر عَشْراً ، وحَمِدَ الله عشراً وهَلَّلَ عَشْراً واسْتَغْفَر عَشْراً وقال : اللهم اغْفِرْ لي واهْدِنِي وارْزُقْنِي وعَافِنِي ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة » وقيل : حين تقوم لأمر ما ولا سيما إذا كنت تَنْتَصِبُ لمُجَاهَدةِ قومك ومُعَادَاتِهِم والدعاء عليهم « فسبح بحمد ربك » وبدل قيامك بالمناداة ، وانتصابك للانتقام بقيامك بذكر الله وتسبيحه .
قوله : { وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ } أي صَلِّ له ، قال مقاتل : حتَّى صلاة المغربِ والعشاءِ « وإدْبَارَ النُّجُومِ » يعني الركعتين قبل صلاة الفجر وذلك حين تُدْبِرُ النجوم أي تغيب بضوء الصبح .
هذا قول أكثر المفسرين . وقال الضحاك : هي فريضة صلاة الصبح .
قوله : « وإدْبَارَ النّجُومِ » العامة على كسر الهمزة مصدراً ، بخلاف التي في آخر « ق » كما تقدم ، فإنَّ الفتح هناك لائق لأنه يراد به الجمع لدَبْر السجود أي أعْقَابِهِ .
على أنه قرأ سالم الجَعديُّ ويعقوب ، والمِنْهَالُ بن عمرو بفتحها هنا؛ أي أعقاب النجوم وآثارها إذا غَرُبَتْ .
فصل
هذه الآية نظير قوله : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] وقد تقدم الكلام عليها .
قال ابن الخطيب : قال ههنا : « وإدبار النجوم » وقال في « ق » وأَدْبَار السُّجُّودِ « فيحتمل أن يكون المعنى واحداً ، والمراد من السجود جمع ساجد ، والنُّجُوم سجود قال تعالى :
{
والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 6 ] .
وقيل : المراد من النجوم نجوم السماء . وقيل : النجم : ما لا ساق له من النبات قال تعالى : { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض } [ الرعد : 15 ] . والمراد من النجوم الوظائف وكل وظيفة نَجْمٌ في اللغة إذا فرغت من وظائف الصلاة فقل : سبحان الله كما تقدم .
روى أبيّ بن كعب - ( رضي الله عنه وأَرْضَاهُ ) - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ قَرَأَ سُورَة » والطُّورِ « كان حَقًّا على اللَّه - عزَّ وَجَلَّ - أن يُؤمِّنَهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْر وَأَنْ يُدْخِلَهُ بِنِعْمَتِهِ فِي جَنَّتِهِ » .
(
والله - سبحانه وتعالى - ) أعْلَمُ .
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)
قوله تعالى : { والنجم إِذَا هوى } قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) في رواية الوالبيِّ العَوْفِيِّ يعني الثُّرَيَّا إذَا سقطت وغابت . وهُوِيُّهُ مَغِيبُهُ . والعرب تسمي « الثُّرَيَّا » نَجْماً قال قائلهم :
4538-
إِذَا طَلَعَ النَّجْمُ عِشَاءَا ... ابْتَغَى الرَّاعِي كِسَاءَا
وجاء في الحديث عن أبي هريرة مرفوعاً : مَا طَلَعَ النَّجْمُ قَطّ وَفِي الأَرْضِ مِنَ العَاهَةِ شَيْءٌ إِلاَّ رُفِعَ .
وأراد بالنجم الثريا . قال شهاب الدين : وهذا هو الصحيح لأن هذا صار علماً بالغلبة ومنه قول العرب :
4539-
طَلَعَ النَّجْم غُدَيَّهْ ... فَابْتَغَى الرَّاعِي كُسَيَّهْ
وقال عمر بن أبي ربيعة :
4540-
أحْسَنُ النَّجْم فِي السَّمَاءِ الثُّرَيَّا ... وَالثُّرَيَّا فِي الأَرْضِ زَيْنُ النِّسَاءِ
يقال : إنها سبعة أنجم ستةٌ منها ظاهرة وواحدٌ خفي يمتحن الناس به أبصارهم . وروى القاضي عِياضٌ في « الشِّفا » أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرى الثريا أحد عشر نجماً . وقال مجاهد : هي نجوم السماء كلها حين تغرب . لفظه واحد ومعناه الجمع . سمي الكوكب نجماً لطلوعه ، وكل طالع نجم ، يقال : نَجَم السِّنُّ والقَرْن والنَّبْتُ إذا طَلَعَ . وروى عكرمة عن ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) - أنها ما يرمى به الشياطين عند استراقهم السمع . وقال أبو حمزة الثُّماليُّ : هي النجوم إِذا اسْتَتَرَتْ يوم القيامة . وقيل المراد بالنجم هنا الجِنْس .
قال الشاعر - ( رحمة الله عليه- ) :
4541-
فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْم فِي مُسْتَحِيرَةٍ ... سِرِيع بِأَيْدِي الآكِلينَ جُمُودُهَا
أي تَعُدُّ النجوم . وهذا هو معنى قول مجاهد المتقدم . وقيل : المراد بالنجم الشِّعْرَى؛ لقوله : { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى } [ النجم : 49 ] . وقيل : الزهرة؛ لأنها كانت تُعْبَدُ . وقيل : أراد بالنجم القرآن ، لأنه نزل نجوماً متفرقاً في عشرين سنة . وسمي التفريق تنجيماً والمفرق منجماً . قاله الكلبي ورواه عطاء عن ابن عباس . والهويُّ النزول من أعلى إلى أسفل . وقال الأخفش : النجم هو النبت الذي لا ساق له ومنه قوله - عَزَّ وجَلَ - { والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 6 ] . وهُوِيُّهُ سقوطه على الأرض . وقال جعفر الصادق : يعني محمداً - صلى الله عليه وسلم - إِذ نزل من السماء ليلة المعراج . والهويُّ النزول ، يقال هَوَى يَهْوِي هُوِيًّا . والكلام في قوله : « والنجم » كالكلام في قوله : « والطُّورِ » حيث لم يقل : وَالنُّجُوم ولا الأَطْوَار وقال : { والذاريات } [ الذاريات : 1 ] { والمرسلات } [ المرسلات : 1 ] كما تقدم .
فصل
السور التي تقدمت وافتتاحها بالقسم بالأشياء دون الحروف هي « الصَّافَّات » ، و « الذَّارِيَات » و « الطُّور » وهذه السورة بعدها فالأولى أن يقسم لإثبات الوحدانية كما قال : { إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ } [ الصافات : 4 ] وفي الثانية أقسم لوقوع الحشر والجزاء كما قال تعالى : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ } [ الذاريات : 5 و 6 ] وفي الثالثة لدوام العذاب بعد وقوعه كما قال تعالى : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ }
[
الطور : 7 و 8 ] وفي هذه أقسم لإثبات النبوة لتكمل الأصول الثلاثة الوحدانية ، والحشر ، والنبوة .
واعلم أنه تعالى لم يقسم على الوحدانية ولا على النبوة كثيراً ، لأنه أقسم على الوحدانية في سورة واحدة وهي « وَالصَّافَّاتِ » ، وأما النبوة فأقسم عليها بأمر واحد في هذه السورة وبأمرين في سورة ( وَالضُّحَى ) وأكثر من القسم على الحشر وما يتعلق به فقال : { والليل إِذَا يغشى } [ الليل : 1 ] { والشمس وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] { والسمآء ذَاتِ البروج } [ البروج : 1 ] إلى غير ذلك وكلها في الحشر أو ما يتعلق به ، وذلك لأن دلائل الوحدانية كثيرة كلها عقلية كما قيل :
4542-
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أنَّهُ الوَاحِدُ
ودلائل النبوة أيضاً كثيرة وهي المعجزات المشهورة وأما الحشر ووقوعه فلا يمكن إثباته إلاَّ بالسمع فأكثر فيه القسم ليقطع بها المكلف ويعتقده اعتقاداً جازماً .
فصل
قال ابن الخطيب : والفائدة في تقييد القسم به بوقت هويه إذا كان في وسط السماء بعيداً عن الأرض لا يهتدي إليه السَّارِي لأنه لا يعلم به المَشْرِق من المَغْرِب ولا الجنوب من الشّمال . فإِذا زال عن وسط السماء تبين بزواله جانب المغرب من المشرق والجنوب عن الشمال . وخص الهويَّ دون الطلوع لعموم الاهتداء به في الدين والدنيا كما قال الخليل - عليه الصلاة والسلام - { لا أُحِبُّ الآفلين } [ الأنعام : 76 ] . وفيه لطيفة وهي أن القسم بالنجم يقتضي تعظيمه وقد كان منهم من يعبده فنبه بهُوِيِّه على عدم صلاحيته للإِلهيَّة بأُفُولِهِ .
فصل
أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها لفظاً ومعنى ، أما لفظاً فقوله : « وَإِدْبَارَ النُّجُومِ » وافتتح هذه بالنجم مع واو القسم ، وأما معنًى فلأنه تعالى لما قال لنبيه : { وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النجوم } [ الطور : 49 ] بين له أنه ( جزأه في أجزاء مكابدة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنجم ) وبعده ( عما لا يجوز له ) فقال : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى } .
قوله : « إذَا هَوَى » في العامل في هذا الظرف أوجه وعلى كل منها إِشْكَال .
أحدها : أنه منصوب بفعل القسم المحذوف تقديره : أُقْسِمُ بالنجم وقْتَ هُويه . قاله أبو البقاء . وهو مشكِل؛ فإن فعل القسم إنشاء والإنشاء حال و « إذا » لما يستقبل من الزمان فكيف يتلاقيان؟! .
الثاني : أن العامل فيه مقدر على أنه حال من ( النَّجْمِ ) أقْسَمَ به حال كونه مستقراً في زمان هُوِيِّهِ . وهو مشكلٌ من وجهين :
أحدهما : أن النجم جثّة والزمان لا يكون حالاً كما لا يكون خبراً .
والثاني : أن ( إِذَا ) للمستقبل فيكف يكون حالاً؟! .
وقد أجيب عن الأول بأن المراد بالنَّجم القطعة من القرآن والقرآن قد نزل منجماً في عشرين سنة . وهذا تفسير عن ابن عباس وعن غيره .
وعن الثاني بأنها حال مقدرة .
الثالث : أن العامل فيه نفس النجم إذا أريد به القرآن . قاله أبو البقاء .
وفيه نَظَرٌ؛ لأن القرآن لا يعمل في الظرف إذا أريد أنه اسم لهذا الكتاب المخصوص . وقد يقال : إِنَّ النجم بمعنى المنجَّمِ كأنه قيل والقرآن المُنَجَّم في هَذَا الوَقْتِ .
وهذا البحث وارد في مواضع منها : { والشمس وَضُحَاهَا } وما بعده [ الشمس : 1 - 5 ] وقوله : { والليل إِذَا يغشى } [ الليل : 1 ] { والضحى والليل إِذَا سجى } [ الضحى : 1 و 2 ] وسيأتي في الشمس بحث أخص من هذا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . والهوِيُّ قال الراغب : سقوطٌ من عُلوٍّ ثم قال : « والهَوِيُّ ذهاب في انحدار والهُوِيّ ذهاب في ارْتفاع » ، وأنشد :
4543- . ...
يَهْوِي مَخَارِمُهَا هُوِيَّ الأَجْدَلِ
وقيل : هَوَى في اللغة خرق الهواء ، ومقصده السّفْل أو مصيره إليه وإن لم يقْصِدْه قال - ( رحمةُ اللَّهِ عليه - ) :
4544- . ...
هُوِيَّ الدَّلْوِ أَسْلَمَهَا الرِّشَاءُ
وقال أهل اللغة : هَوَى يَهْوِي هُويًّا أي سقط من علُوٍّ ، وهَوِيَ يَهْوَى هَوًى أي صَبَا . وقد تقدم الكلام في هذا مُشبعاً .
قوله : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ } هذا جواب القسم ، والمعنى : ما ضل صاحبكم يعني محمداً - صلى الله عليه وسلم - ما ضل عن طريق الهدى « وَمَا غَوَى » ذهب أكثر المفسرين إلى أن الضلال والغي بمعنى واحد . وفرق بعضهم بينهما قال : الضلال في مقابلة الهدى والغي في مقابلة الرشد ، قال تعالى : { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } [ الأعراف : 146 ] وقال تعالى : { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } [ البقرة : 256 ] .
قال ابن الخطيب : وتحقيق القول فيه أن الضلال أعمّ استعمالاً في الوضع ، تقول : ضَلَّ بَعِيرِي ورَحْلِي ولا تقول غيَّ؛ فالمراد من الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقاً أصلاً ، والغواية أن لا يكون له طريق إِلَى القصد مسقيم ، ومما يدل على هذا قولك للمؤمن الذي ليس على طريق السداد : إنَّه سَفِيهٌ غير رشيدٍ ولا تقول : إنه ضال فالضال كالكافر والغَاوي كالفاسق كأنه تعالى قال : ما ضَلَّ أي ما كفر ولا أقلّ من ذلك فما فسق أو يقال : الضلال كالعدم والغواية كالوجود الفاسد في الدرجة والمرتبة .
قال : ويحتمل أن يكون المراد معنى قوله « مَا ضلَّ » أي ما جُنَّ فإنَّ المجنون ضالٌّ وعلى هذا فهو كقوله : { والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } [ القلم : 1 و 2 ] . ومعنى صاحبكم إما سيدكم أو وصاحبكم ( مَا غَوَى ) أي ما تكلم بالباطل . وقيل : ما خاب والغَيّ الخيبة .
قوله : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } أي ما يصدر عن الهوى نُطْقُهُ ( فعن ) على بابها . وقيل : بمعنى الباء ، أي ما ينطق بالهوى يريد لا يتكلم بالباطل ، وذلك أنهم قالوا : إنَّ محمداً يقول القرآن من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ .
وفي فاعل ( يَنْطِقُ ) وجهان :
أحدهما : هو ضمير النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الظاهر .
والثاني : أنه ضمير القرآن كقوله تعالى : { هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق }
===========================
===========================
===============================
ج66. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
[
الجاثية : 29 ] .
واعلم أن في قوله تعالى : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى } بصيغة الماضية وفي قوله : « وَمَا يَنْطِقُ » بصيغة المستقبل ترتيب في غاية الحسن أي ما ضل حين اعتزلكم وما تبعدون في صِغَرِهِ « وَمَا غَوَى » حين اختلى بنفسه ورأى في منامه ما رأى وما ينطق عن الهوى الآن يحث أُرْسِلَ إليكم وجعل رسولاً شاهداً عليكم فلم يكن أولاً ضالاً ولا غاوياً وصار الآن منقذاً من الضلالة مرشداً وهادياً .
قوله تعالى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى } إن هو أي إن الذي ينطق به . وقيل : إن القرآن إلا وحي من الله . وقوله : « يُوحَى » صفة لوحي . وفائدة المجيء بهذا الوصف أنه ينفي المجاز أي هو وحي حقيقة لا بمجرد تسمية كقولك : هَذَا قَوْلٌ يُقَالُ . وقيل : تقديره يُوحَى إليه . ففيه مزيدُ فَائدةٍ .
نقل القُرْطُبِيُّ عن السِّجِسْتَانِيِّ أنه قال : إن شئت أبدلت { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى } من { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ } . قال ابن الأنباريّ : وهذا غلط ، لأن « إنْ » الحقيقية لا تكون مبدلة من « ما » ؛ بدليل أنك لا تقول وَاللَّهِ مَا قُمْتُ إِنْ أنا لَقَاعِدٌ .
فصل
والوحي قد يكون اسماً ومعناه الكتاب ، وقد يكون مصدراً وله معان منها الإِرسال والإلهام والكتابة والكلام والإشارَة والإفهام ، وهذه الآية تدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يجتهد ، وهو خلافُ الظَّاهر فإِنَّه اجتهد في الحروب وأيضاً حرم في قوله تعالى : { لِمَ تُحَرِّمُ } [ التحريم : 1 ] وأذن قال تعالى : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] . قوله « عَلَّمَهُ » يجوز أن تكون هذه الهاء للرسول وهو الظاهر فيكون المفعول الثاني محذوفاً أي عَلَّم الرسولَ الوحيَ أي الموحَى ، ويجوز أن يكون للقرآن والوحي فيكون المفعول الأول محذوفاً أي علمه الرسولَ ، والوحي إن كان هو الكتاب فظاهر وإن كان الإِلهام فهو كقوله تعالى : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ } [ الشعراء : 193 و 194 ] .
وقوله : « شَدِيدُ القُوَى » قيل : هو جبريل : وهو الظاهر . وقيل : الباري تعالى لقوله : { الرحمن عَلَّمَ القرآن } [ الرحمن : 1 و 2 ] و « شَدِيدُ القُوَى » من إضافة الصفة المشبهة لمرفوعها فهي غير حقيقية . والقُوَى جمع القُوَّة .
قوله : « ذُو مِرَّة » المرة القوة والشدة . ومنه : أَمْرَرْتُ الحَبْلَ أي أحكمت فَتْلَهُ . والمَرِيرُ : الحَبْلُ ، وكذلك المَمَرُّ كأنه كرّر فَتْلَهُ مرةً بعد أُخْرَى .
وقال قطرب - ( رحمه الله ) - : « العرب تقول لكل جزل الرأي حَصِيف العَقْلِ : ذُو مِرَّةٍ » وأنشد - ( رحمه الله ) - :
4545-
وَإِنِّي لَذُو مِرَّةٍ مُرَّةٍ ... إِذَا رَكِبَتْ خَالَةٌ خَالَهَا
وقال :
4546-
قَدْ كُنْتَ قَبْلَ لِقَائِكمْ ذُو مِرَّةٍ ... عندي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ مِيزانُهُ
وقال الجوهري : والمِّرة أحد الطبائع الأربع . والمرة : القوة وشدة العقل أيضاً . ورجل مرير أي قريب ذو مرة قال :
4547-
تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فَتَزْدَرِيهِ ... وَحَشْوُ ثِيَابِهِ أَسَدٌ مَرِيرُ
وقال لقيط :
4548-
حَتَّى اسْتَمَرَّتْ عَلَى شَزْرٍ مَرِيرَتُهُ ... مُرَّ العَزِيمَةِ لاَ رَتًّا وَلاَ ضَرعَا
فصل
ذو مرة ذو قوة وشدة في خلقه يعني جبريل قال ابن عباس : ذو مِرّة أي ذو منظر حسن . وقال مقاتل : وقيل : ذو كمال في العقل والدين ذو خلق طويل حسن . وقيل : ذو كمال في العقل والدين جميعاً . وقيل : ذو منظر وهيئة عظيمة . فإن قيل : قد تبين كونه ذا قوة بقوله : « شَدِيدُ القُوَى » فكيف قال بعده : ذو مرة إذا فسرنا المرَّة بالقوة؟! .
قال ابن الخطيب : وقوله هنا : ذُو قُوة بدل من « شَدِيدُ القُوَى » وليس وصفاً له تقديره : ذو قوة عظيمة . ووجه آخر وهو أن إفراد « قُوَى » بالذكر ربّما يكون لبيان أن قواه المشهورة شديدة وله قوة أخرى خَصَّه الله بها ، يقال فلانٌ كثيرُ المال وله مال لا يعرفه أحدٌ أي أمواله الظاهرة كثيرة وله مال باطن . ثم قال : على أنَّا نَقُول : المراد ذو شدة وهي غير القوة وتقديره علمه من قواه شديدة وفي ذاته أيضاً شدة فإن الإنسان رُبَّمَا تكون قواه شديدةً وفي جسمه حقارةٌ . ويحتمل أن يكون المراد بقوله : « شديد القوى » قوته في العلم وبقوله : « ذو مرة » أي شدة في جسمه فقدم العِلْميَّة على الجِسْمِيَّة كقوله تعالى : { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم } [ البقرة : 247 ] .
وقوله : « فَاسْتَوَى » يعني جبريل في خلقه . قال مكي : اسْتَوَى يقع للواحد وأكثر ما يقع من اثنين ولذلك جعل الفَرَّاءُ الضمير لاثنين .
قوله : { وَهُوَ بالأفق الأعلى } في الضمير وجهان :
أظهرهما : أنه مبتدأ و « بِالأُفُقِ » خبره . والضمير لجبريل أو للنبي - صلى الله عليه وسلم - . ثم في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أن هذه الجملة حال من فاعل « استوى » . قاله مكي .
والثاني : أنها مستأنفة . أخبر الله تعالى بذلك .
والثالث : أن « وَهُوَ » معطوف على الضمير المستتر في « اسْتَوَى » وضمير « اسْتَوَى » و « هُوَ » لمحمد - صلى الله عليه وسلم - . قال البغوي في توجيه هذا القول : أكثر كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا أن يظهروا كناية المعطوف فيه فيقولون : اسْتَوَى هُوَ وَفُلانٌ وقَلَّ ما يقولون : اسْتَوَى وفُلاَنٌ . ونظير هذا قوله عز وجل : { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ } [ النمل : 67 ] عطف « الآباء » على المكنيّ في « كُنَّا » من غير إظهار « نَحْنُ » . ومعنى الآية استوى جبريل ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - ليلة المعراج « بالأُفُقِ الأَعْلَى » ، وهو أقصى الدنيا عند مطلع الشمس .
وقيل : ضمير « استوى » لمحمد و « هو » لجبريل . وهذا الوجه الثاني يتمشى على قول الكوفيين لأن فيه العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير تأكيد ، ولا فاصل .
وهذا الوجه منقول عن الفراء والطبري .
وإذَا قِيلَ : بأن الضميرين أعني « اسْتَوَى » و « هُوَ » لجبريل فمعناه قام في صورته التي خلقه الله فيها { وهو بالأفق الأعلى } ، وذلك أن جبريل كان يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صورة الآدميين كما كان يأتي النبيين ، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرِيهُ نفسه في صورته التي جُبِلَ عليها فأراه نفسه مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى وهو جانب المشرق وذلك أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان بِحرَاءَ فطلع له جبريلُ من المَشْرِق فسدَّ الأرض من المَغْرِب ، فخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَغْشِيًّا عليه فنزل جبريل في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه ، وجعل يمسح التراب عن وجهه وهو قوله : { ثُمَّ دَنَا فتدلى } .
وأما في السماء فعند سدرة المنتهى ، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلاَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - .
وقيل : معنى : « فَاسْتَوَى » أي استوى القرآن في صدره . وعلى هذا فيه وجهان :
أحدهما : فاستوى أي فاعتدل في قوته .
الثاني : في رسالته . نقله القرطبي عن المَاوَرْدِي . قال : وعلى هذا يكون تمام الكلام ذو مرة ، وعلى الثاني شَدِيد القوى .
وقيل : اسْتَوَى أي ارتفع . وفيه على هذا وجهان :
أحدهما : أنه جبريل - عليه الصلاة والسلام - أي ارتفع إلى مكانه .
الثاني : أنه النبي - عليه الصلاة والسلام - أي ارتفع بالمعراج .
وقيل : معناه استوى أي الله عز وجل استوى على العرش . قاله الحسن .
قوله : { ثُمَّ دَنَا فتدلى } التدلي : الامتداد من علو إلى سفل ، فيستعمل في القرب من العلو قاله الفراء ، وابن الأعرابي .
وقال الهذلي :
4549-
تَدَلَّى عَلَيْنَا وَهْوَ زَرْقُ حَمَامَةٍ ... لَه طِحْلِبٌ فِي مُنْتَهَى القَيْظِ هَامِدُ
وقال الشاعر :
4550- ..
تَدَلَّى عَلَيْنَا بَيْنَ سِبٍّ وَخَبْطَةٍ
ويقال : هُوَ كَالقِرِلَّى إنْ رأى خيراً تدلَّى وإن لم يَرَه تَوَلَّى .
فصل
في قوله : « دَنَا فَتَدَلَّى » وجوه :
أشهرها : أن جبريل - صلى الله عليه وسلم - دنا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أي بعد ما مد جَنَاحَهُ « وهو بالأفق » عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها وقَرُب من النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى هذا ففي « تَدَلَّى » وجوه :
الأول : فيه تقديم وتأخير أي تدلى من الأفق الأعلى فدنا من النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الثاني : أن الدُّنُوَّ والتَّدلِّي بمعنًى واحد فكأنه قال : دَنَا فَقَرُبَ .
وذهب الفراء إلى أن الفاء في قوله : ( فَ ) تدلى بمعنى الواو ، والتقدير : ثم تدلى جبريل - عليه الصلاة والسلام - ودنا ولكنه جائزٌ إذا كان معنى الفعلين واحداً قدمتَ أيَّهُمَا شئتَ ، فقلت : فَدَنَا فقرب ، وقرب فدنا ، وشتمني فأساء ، وأَسَاءَ فَشَتَمَنِي؛ لأن الإساءة والشتم شيءٌ واحد وكذلك قوله :
{
اقتربت الساعة وانشق القمر } [ القمر : 1 ] أي انشق القمر واقْتَرَبَت الساعة .
الثالث : دنا أي قصد القرب من محمد - عليه الصلاة والسلام - وتحول عن المكان الذي كان فيه فتدلّى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الوجه الثاني : أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - دنا من الخلق والأمة وَلان لهم وصار كواحد منهم فتدلى أي تدلى إِليهم بالقول اللّين والدعاء بالرفق فقال : { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ } [ الكهف : 110 ] .
الوجه الثالث : دَنَا منه ربه فقرب منه منزلته كقوله - عليه الصلاة والسلام - حكاية عن ربه تعالى : « مَنْ تَقَرَّبَ إِليَّ شِبْراً تَقَرَّبْتَ إِلَيْهِ ذِرَاعاً ، وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً وَمَنْ مَشَى إِلَيَّ أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً » وهذا إشارة إلى المنع المجازي .
قوله : « فَكان قَابَ » ها هنا مضافان محذوفان يُضْطَرُّ لتقديرهما أي فكان مقدارُ مسافةِ قربه منه مقدارَ مسافةِ قَاب .
وقد فعل أبو علي هذا في قول الشاعر :
4551- ..
وَقَدْ جَعَلَتْنِي مِنْ خَزِيمَةَ إصْبَعَا
أي ذا مقدار مسافة إصبع .
والقابُ القَدْرُ؛ يقول : هذا قاب هذا أي قَدْرُهُ . ومثله القِيبُ والقَادُ والقِيدُ والقِيسُ . قال الزمخشري : وقد جاء التقدير بالقوْس والرّمح والسَّوْط والذّراع والباع والخُطْوة ، والشّبر ، والفَتْر ، والإصبع ومنه : « لاَ صَلاةَ إلَى أَنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ مِقْدَارَ رُمْحَيْنِ » وفي الحديث : « مِقْدَارُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ وَمَوْضِع قِدِّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا » ، والقِدُّ السَّوْط . وألف « قاب » عن واو . نص عليه أبو البقاء . وأما قِيبٌ فلا دلالة فيه على كونها ياء لأن الواو إذا انكسر ما قبلها قلبت ياء كدِيمَةٍ وقِيمَةٍ .
وذكره الراغب أيضاً في مادة « قوب » إلا أنه قال في تفسيره : هو ما بين المِقْبض والسِّيَة من القَوس . فعلى هذا يكون مقدار نصف القوس ، لأن المقبض في نصفه والسّية هي العَرضة التي يحط فيها الوَتَر . وفيما قاله نظرٌ لا يخفى .
ويروى عن مجاهد أنه من الوتر إلى مقبض القوس في وسطه . وقيل : إن القوس ذراعٌ يقاس به . نُقل ذلك عن ابن عباس ( - رضي الله عنهما - ) وأنه لغة للحجازيين ( والشَّنُوئيّينَ ) والقوس معروفةٌ وهي مؤنثة وشذوا في تصغيرها فقالوا : قُوَيْسٌ من غير تأنيث كعُرَيْبٍ وحُرَيْبٍ ويجمع على قِسِيٍّ . وهو مقلوب من قُوُوس .
والقَوْسُ برج في السماء ، فأما القُوسُ - بالضم - فصَوْمَعَةُ الرَّاهِبِ قال الشاعر :
4552-
لاسْتَفْتَنَتْنِي وَذَا المِسْحَيْنِ فِي القُوسِ ... قوله : « أَوْ أَدْنَى » هي كقوله : « أَوْ يَزِيدُونَ » ؛ لأن المعنى فكان يأخذ هذين المقدارين في رأي الرائي أي لتقارب ما بينهما يشك الرائي في ذلك .
و « أَدْنَى » أفعل تفضيل والمفضل عليه محذوف أي أو أَدْنَى مِنْ قَابِ قَوْسَيْنِ .
فصل
روى الشيبانيّ قال : سألت زِرًّا عن قوله تعالى : { قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى } قال : أخبرنا عبد الله يعني ابن مسعود أن محمداً رأى جبريل له ستمائة جَناح . فمعنى الآية : ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض فتدلى فنزل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فكان منه قابَ قَوْسَيْن أو أدنى بل أدنى؛ وبهذا قال ابن عباس ، والحسنُ ، وقتادة . وقال آخرون : دَنَا الربُّ من محمد - صلى الله عليه وسلم - فتدلى فقرب منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى .
قال البغوي : وروينا في قصة المعراج عن شريك بن عبد الله عن أنس : ودنا الجبَّار ربُّ العزة فتدلى حتى كان قاب قوسي أن أدنى . وهذه رواية ابن سلمة عن ابن عباس .
وقال مجاهد : دنا جبريل من ربه . وقال الضحاك : دنا محمد من ربه . فتدلى فأهوى للسجود فكان منه قاب قوسين أو أدنى . وتقدم الكلام على القاب . والقوس ما يرمى به في قول مجاهد ، وعكرمة ، وعطاء عن ابن عباس فأخبر أنه كان بين جبريل وبين محمد - عليهما الصلاة والسلام - مقدارُ قَوْسَيْن . وقال مجاهد : معناه حيث الوتر من القوس وهذا إشارة إلى تأكيد القرب ، والأصل فيه أن الخَلِيفَتَيْن من العرب كانا إذا تعاقدا على الصفاء والعهد خرجا بقوسهما فألصقاهُ بينهما يريدان بذلك أنهما متظاهران يُحَامِي كل واحد منهما عن صاحبه . وقال عبد الله بن مسعود : قاب قوسين قَدْرَ ذراعين . وهو قول سعيدِ بنِ جبير ، وشقيقِ بنِ سلمة ، والقوس الذراع يقاس بها كل شيء « أو أدنى » بل أقْرَبُ .
وإنما ضرب المثل بالقوس لأنها لا تختلف بالقاب .
قوله : « فَاَوْحَى » أي أوحى الله وإن لم يَجْرِ له ذكر لعدم اللبس « إلى عبده » محمد . وقوله « مَا أَوْحَى » أبهمَ تعظيماً له ورفعاً من شأنه . وبهذه الآية استدل ابن مالك على أنه لا يشترط في الصلة أن تكون معهودة عند المخاطب .
ومثله : { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } [ طه : 78 ] إلا أن هذا الشرط هو المشهور عند النحويين . والوحي هو إِلقاء الشيء بسرعة ومنه : الوحاء الوحاء .
فصل
في فاعل ( أوحى ) الأول وجهان :
أحدهما : أن الله تعالى أوحى . وعلى هذا ففي « عبده » وجهان :
أحدهما : أنه جبريل أي أوحى الله إلى جبريلَ ، وعلى هذا ( أيضاً ) ففي فاعل أوحى « الأخير » وجهان :
أحدهما : أنه الله تعالى أيضاً . والمعنى حينئذ فأوحى الله تعالى إلى جبريل الذي أوحاه ( الله ) أبهمه تفخيماً وتعظيماً للموحِي .
ثانيهما : فاعل ( أوحى ) الثاني جبريل أي أوحى إلى جبريل ما أوحى جبريلُ . وعلى هذا فالمراد من الذي أوحى جبريل - عليه ( الصلاة ) والسلام - يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مبنياً وهو الذي أوحى جبريل إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
وثانيهما : أن يكون عاماً أي أوحى الله إلى جبريل ما أوحى إلى كل رسول .
الوجه الثاني في ( عبده ) على قولنا : الموحِي هو الله : أنه محمد عليه الصلاة والسلام أي أوحى الله إلى محمد ما أوحى إليه ( للتفخيم والتعظيم .
الوجه الثاني في فاعل أوحى الأول : هو أنه جبريل أوحى إلى عبده أي عبد الله يعني محمداً ما أوحى إليه ) ربه عز وجل؛ قاله ابن عباس في رواية عطاء والكلبي والحسن والربيع وابن زيد . وعلى هذا ففي فاعل « أوحى » الثاني وجهان :
أحدهما : أنه جبريل أي أوحى جبريل إلى عبد الله ما أوحى جبريل للتفخيم .
وثانيهما : أن يكون هو الله تعالى أي أوحى جبريل إِلى محمد ما أوحى الله إليه .
فصل
وفي الذي أوحى وجوه :
الأول : قال سعيد بن جبير أوحى الله إليه : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى } [ الضحى : 6 ] إلى قوله : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [ الشرح : 4 ] .
الثاني : أوحى إليه الصلاة .
الثالث : أن أحداً من الأنبياء لا يدخل الجنة قبلك وأنَّ أمة من الأمم لا تدخلها قبل أمتك .
الرابع : أنه مبهم لا يطلع عليه أحد وتعبدنا به على الجملة .
الخامس : أن ما للعموم والمراد كل ما جاء به جبريل .
قوله : « مَا كَذَبَ » قرأ هشامٌ وأبو جَعْفَر بتشديد الذال والباقون بتخفيفها .
فأما الأولى فإن معناها أن ما رآه محمد بعينه صدَّقه قلبهُ ولم ينكره أي لم يقل : لم أعرفْكَ و ( ما ) مفعول به موصولة والعائد محذوف ففاعل ( رأى ) ضمير يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وأما قراءة التخفيف فقيل كذلك . و « كَذَبَ » يتعدى بنفسه وقيل : هو على إسقاط الخافض أي فيما رآه قاله مكي وغيره فأسقط حرف الصفة ، قال حسان :
4553-
لَوْ كُنْتِ صَادِقَة الَّذِي حَدَّثْتِنِي ... لَنَجوْتُ مَنْجَى الحَارِثِ بْنِ هِشَامِ
أي في الذي حدثتني .
وجوز في ( ما ) وجهين آخرين :
أحدهما : أن يكون بمعنى الذي .
والثاني : أن تكون مصدرية ويجوز أن يكون فاعل ( رأى ) ضميراً يعود على الفؤاد أي لم يشك قلبه فيما رآه بعَيْنِهِ .
فصل
قال الزمخشري معناه : أن قلبه لم يكذب وما قال إن من يراه بصرك ليس بصحيح ولو قال فؤاده ذلك لكان كاذباٌ فيما قاله فما كذب الفؤاد . هذا على قراءة التخفيف ، يقال : كَذَبَهُ إِذَا قال له الكَذِبَ .
وأما قراءة التشديد فمعناه ما قال : إن المرئيَّ خيالٌ لا حقيقةٌ .
وأما الرائي فقيل : هو الفؤاد كأنه تعالى قال : ما كذب الفؤادُ ما رآه الفؤاد أي لم يقل : إنه هاجس شيطان بل تيقن أن ما رآه بفؤاده صدق صحيح . وقيل : الرائي هو البصر أي ما كذب الفؤاد ما رآه البصر خيال . وقيل : ما كذب الفؤاد وما رأى محمد - عليه الصلاةُ والسلامُ - وعلى هذا فالمراد بالفؤاد الجنس؛ أي القلوب شهدت بصحة ما رآه محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وأمَّا المرئي فقيل : هو الرب تعالى . وقيل : جبريل - عليه الصلاة والسلام - وقيل : الآيات العجيبةُ الإلهيَّة . فالقائل بأن المرئي جبريل - عليه الصلاة والسلام - هو ابنُ مسعودٍ وعائشةُ - رضي الله عنهما - ومن قال بأن المرئيَّ هو الله تعالى اختلفوا في معنى الرؤية ، فقال بعضهم : جعل بصره في فؤاده فرآه بفؤاده . وهو قول ابن عباس ، قال : رآه بفؤاده مرتين { مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى } { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى } [ النجم : 13 ] . وقال أنس والحسن وعكرمة : رأى محمدٌ ربَّه بعينيه . وروى عكرمة عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) قال : « إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى إبْرَاهيمَ بالخلَّةِ ، واصْطَفَى مُوسَى بالكَلاَم ، واصْطَفَى مُحَمَّداً بالرُّؤْيَةِ - صلى الله عليه وسلم » . وكانت عائشة - رضي الله عنها - تقول : لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم - ربه . وتحمل الرؤية على رؤية جبريل . وقال مسروق : قلت لعائشة : يا أمَّتاه هل رأى محمدٌ رَبَّه؟ فقالت : لقد قفَّ شعري لما قلت أين أنت من ثلاث من حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ ، من حَدَّثَكَ أنَّ محمداً رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأتْ : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير } [ الأنعام : 103 ] { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } [ الشورى : 51 ] ومن حَدَّثَك أنه يَعْلم مَا في غَدٍ فقد كَذَب ثم قرأت : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } [ لقمان : 34 ] ومن حدّثك أنه كَتَم شيئاً مما أنْزل الله فقد كذب ثم قرأت : { ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } الآية [ المائدة : 67 ] ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين . وروى أبو ذر قال : « سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل رأيت ربك قط؟ قال : نُورٌ أنَّى أَرَاهُ » .
قوله : « أَفَتُمَارُونه » قرأ الأخوان أَفَتَمْرُونَهُ بفتح التاء وسكون الميم ، والباقون تُمَارُونَهُ . وعبد الله الشعبي أَفَتُمْرون بضم التاء وسكون الميم . فأما الأولى ففيها وجهان :
أحدهما : أنها من مَرَيْتُهُ حَقَّه إذا علمته وجَحَدتَهُ إياه ، وعدي بعلى لتضمنه معنى الغلبة . وأنشد :
4554-
لَئِنْ هَجَوْتَ أَخَا صِدْقٍ ومَكْرُمَةٍ ... لَقَدْ مَرَيْتَ أَخاً مَا كَانَ يَمْرِيكَا
لأنه إذا جحده حقه فقد غلبه عليه .
وقال المبردُ يقال : مَرَاهُ عَنْ حَقِّه وعَلَى حَقِّه إذا مَنَعَهُ منه ، قال : ومثلُ « على » بمعنى « عن » قول بني كعب بن ربيعة : « رَضِيَ اللَّه عَليكَ » ؛ أي : عَنْكَ .
والثاني : أنها من مَرَأَهُ على كذا أي غلبه عليه ، فهو من المِرَاءِ وهو الجِدَالُ .
وأما الثانية : فهي من مَارَاه يُمَارِيه مراءً أي جَادَلَهُ .
واشتقاقه من مَرْي الناقة لأن كل واحد من المُتَجادِلَيْنِ يَمْرِي ما عند صاحبه . وكان من حقه أن يتعدى بفي كقولك : جَادَلْتهُ فِي كذا . وإنّما ضُمِّن معنى الغلبة . وأما قراءة عبد الله فمن أَمْراهُ رباعيًّا .
فصل
المعنى أفتجادلونه أي كيف تجادلونه على ما يرى ، وذلك أنهم جادلوه حين أُسْرِيَ به فقالوا : صِفْ لنا بيتَ المقدس وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه والمعنى أفتجادلونه جدالاً ترومون به دفعه عما رآه وعلمه وتيقَّنه .
فإن قيل : هلا قيل : أفتمارونه على ما رأى بصيغة الماضي لأنهم إنما جادلوه حين أسري به كما تقدم وما الحكمة في إبرازه بصيغة المضارع؟ فالجواب : أن التقدير أفتُمَارُونَه على ما يرى فكيف وهو قد رآه في السماء فماذا تقولون فيه؟ .
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
قوله : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى } في نصب نزلة ثلاثة أوجه :
أحدها أنها منصوبة على الظرف؛ قال الزمخشري : نصب الظرف الذي هو « مَرَّةً » ؛ لأن الفَعْلَةَ اسم للمرة من الفعل فكانت في حكمها . قال شهاب الدين : وهذا ليس مذهب البصريين وإنما هو مذهب الفَرَّاء نقله عنه مكي .
الثاني : أنها منصوبة نصب المصدر الواقع موقع الحال ، قال مكي : أي رَآهُ نازلاً نَزْلَةً أُخْرَى . وإليه ذهب الحَوْفيُّ وابنُ عَطِيَّةَ .
الثالث : أنه منصوب على المصدر المؤكد ، فقدره أبو البقاء مَرَّة أخرى أو رُؤْيةً أُخْرَى .
قال شهاب الدين : وفي تأويل نزلة « برؤية » نظر ، و « أخرى » تدل على سبق رؤية قبلها و « عِنْدَ سِدْرَةِ » ظرف ل « رَآهُ » و « عِنْدَهَا جَنَّةُ » جملة ابتدائية في موضع الحال ، والأحسن أن يكون الحال الظرف و « جنة المأوى » فاعل به . والعامة على ( جَنَّة ) اسم مرفوع . وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو الدَّرْدَاءِ وأبو هُرَيْرَة وابنُ الزبير وأنس وزِرّ بنُ حبيش ومحمد بن كعب ( جَنَّةُ ) فعلاً ماضياً . والهاء ضمير المفعول يعود للنبي صلى الله عليه وسلم .
والْمَأوَى فاعل بمعنى سَتَرَهُ إيواء الله تعالى . وقيل : المعنى ضمَّه المبيت والليل ، وقيل : جنَّهُ بِظِلاَلِهِ ودخل فيه . قال ابن الخطيب : والضمير في قوله ( عندها ) على هذه القراءة عائد إلى النزلة أي عند النزلة جَنَّ محمداً المأوى .
والصحيح أنه عائد إلى السِّدرة . وقد ردت عائشة - ( رضي الله عنها ) هذه القراءة وتبعها جماعةٌ وقالوا أجنَّ الله من قرأها . وإذا ثبتت قراءة عن مثل هؤلاء فلا سبيل إلى ردِّها ولكن المستعمل إنما هو أجنَّهُ رباعياً فإن استعمل ثلاثياً تعدى بعلى كقوله تعالى : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل } [ الأنعام : 76 ] .
وقال أبو البقاء : وهو شاذ والمستعمل أَجَنَّهُ . وقد تقدم الكلام على هذه المادة في الأَنْعَامِ .
فصل
والواو في ( وَلَقَدْ ) يحتمل أن تكون عاطفة ، ويحتمل أن تكون للحال أي كيف تجادلونه فيما رآه وقد رآه على وجهٍ لا شك فيه؟
واعلم أن قوله : ( نَزْلَةً ) هي فَعْلَةٌ من النزول كجَلْسَةٍ من الجُلُوس فلا بدّ من نُزُولٍ . واختلفوا في ذلك النزول وفيه وجوه :
الأول : أن الضمير في ( رآه ) عائد إلى الله تعالى ، أي رأى اللَّهَ نزلةً أخرى . وهذا قول من قال في قوله { مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى } [ النجم : 11 ] هو الله تعالى . وقد قيل : بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بقلبه مرتين . وعلى هذا ففي النزول وجهان :
أحدهما : قول من يجوز على الله الحركة .
وثانيهما : أن النزول بمعنى القُرْبِ بالرَّحْمَةِ والفَضْلِ .
الثاني : أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رأى الله نزله أخرى ، والمراد من النزلة ضدها ، وهي العَرْجة كأنه قال : رآه عَرْجَةً أخرى قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما- ) نزلة أخرى هو أنه كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - عَرَجَاتٌ في تلك الليلة لمسألة التخفيف من الصلوات فيكون لكل عرجة نزلة فرأى ربه في بعضها .
وروي عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بفؤاده مرتين . وعنه أنه رأى ربَّه بعيْنَيْهِ .
القول الثاني : أن الضمير في ( رآه ) عائد إلى جبريل أي رأى جبريل نزلةً أخرى أي رأى جبريل في صورته التي خلق ( عليها ) نازلاً من السَّمَاء مرةً أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء { عِندَ سِدْرَةِ المنتهى } قال ابن الخطيب : ويحتمل أن تكون النَّزْلَةُ لمحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم في العَرْجَانِ .
فصل
وقوله { عِندَ سِدْرَةِ المنتهى } المشهور أن السدرة شجرةٌ في السماء السابعة . وقيل : في السماء السادسة ، كما ورد عنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنه قال : « نَبْقُهَا كَقِلاَل هَجَرَ ، وَوَرَقَهُا كَآذَان الفِيَلَةِ » .
وقيل : سدرة المنتهى الحيرة القصوى من السدرة . والسدرة كالركبة من الراكب . يعني عندها يَحَار العقل حيرةً لا حيرة فوقها ، وما حار النبي - صلى الله عليه وسلم - وما غاب ورَأَى مَا رَأَى .
وهل قوله : { عِندَ سِدْرَةِ المنتهى } ظرف مكان أو ظرف زمان في هذا الموضع؟
قال ابن الخطيب : المشهور أنه ظرف مكان أي رأى جبريل أو غيره بقرب سدرة المنتهى . وقيل : ظرف زمان كما يقال : صليت عِنْدَ طُلُوع الفَجْر ، والتقدير رآه عند الحِيرة القُصْوَى أي في الزمان الذي يَحَار فيه عقل العقلاء . فهو عليه الصلاة والسلام ما حار مما من شأنه أن يحار العاقل فيه .
فإن قيل : هذا التأويل يبطل بقوله : { يغشى السدرة ما يغشى } فالجواب : أن المراد من الغشيان غشيان حالة على حالة أي ورد على حالة الحيرة حال الرؤية واليقين وأن محمداً عندما يحار العقل مما رآه وقت ما طرأ على تلك الحالة ما طرأ من فضل الله ورحمته .
والصحيح الأول
فصل
إذا قِيلَ بأنَّ محمداً - عليه الصلاة والسلام - رأى الله فمعناه أنه رآه عند سدرة المنتهى . والظرف قد يكون ظرفاً للرائي كما إذا قال القائل : رَأَيْتُ الهِلاَلَ فيقال ( له ) أينَ رأيتَهُ؟ فيقول عَلَى السطح وقد يقول عند الشجرة الفلانية . وأما قول من قال : بأن الله تعالى في مكان فذلك باطل . وإن قيل : بأن المرئي جبريل - عليه الصلاة والسلام - فظاهرٌ .
فصل
إضافة السدرة إلى المنتهى يحتمل وجوهاً :
أحدها : إضافة الشيء إلى مكانه كقولك : أشجار بلدةِ كَذَا ، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه مَلَكٌ قال هلال بْنُ يَسَار : سأل ابن عباس كعباً عن سِدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب : إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش ، وإليها ينتهي عِلم الخلائق وما خلقها غيب لا يعلمه إلاَّ الله .
وقيل : ينتهي إليها ما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها . وقال كعب : ينتهي إليها الملائكة والأنبياءُ . وقال الربيع : ينتهي إليها أرواح الشهداء . وقال قتادة : ينتهي إليها أرواح المؤمنين .
ثانيها : إضافة المحلِّ إلى الحالِّ فيه كقولك : كتابُ الْفِقهِ ، وعلى هذا فالتقدير سدرة عندها مُنْتَهَى العلوم .
ثالثها : إضافة المِلْكِ إلى مالكه كقولك : دَارُ زَيْدٍ ، وشَجَرَةُ زَيْدٍ ، وحينئذ فالمنتهى إليه محذوف تقديره سدرة المنتهى إليه ، قال تعالى : { وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى } [ النجم : 42 ] فالمنتهى إليه هو الله تعالى وإضافة السِّدْرَة إليه حينئذ كإضافةِ البَيْتِ إليه للتشريف والتعظيم ، كما يقال في التسبيح : يا غايَةَ رغبَتَاهُ يا منتهى أملاَهُ .
فصل
وجنة المأوى قيل : هي الجنة التي وعد بها المتقون ، كقوله : { دَارَ المقامة } [ فاطر : 35 ] . وقيل : هي جنة أخرى عندها تكون أرواح الشهداء وقيل : هي جنة الملائكة .
قوله : ( إذْ يَغْشَى ) منصوب ب ( رَآهُ ) وقوله : « مَا يَغْشَى » كقوله : { مَآ أوحى } [ النجم : 10 ] . وقال ابن الخطيب العامل في ( إذْ ) ما قبلها أو ما بعدها؟ فيه وجهان :
فإنْ قلنا : ما قبلها ففيه احتمالان :
أظهرهما : « رآه » أي رآه وقت ما يغشى السِّدْرة الذي يغشى .
والثاني : العامل فيه الفعل الذي في النزلة أي رآه نزلةً أخرى تلك النزلة وقت ما يغشى السِّدرة ما يغشى أي نزوله لم يكن إلاَّ بعدما ظهرت العجائب عند السدرة ، وغَشِيهَا مَا غشي .
وإن قلنا : العامل فيها ما بعدها فالعامل فيه { مَا زَاغَ البصر } أي ما زاغ بصره وَقْتَ غَشَيَان السِّدْرَةِ ما غَشِيَهَا .
فصل
اختلفوا فيما يَغْشَى السدرة فقيل : فَرَاشٌ وَجَرَادٌ مِنْ ذَهب . وهو قول ابن عباس ، وابن مسعود ، والضحاك . قال القرطبي : وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « رأيتُ السِّدْرَة يَغْشَاها فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ ، وَرَأَيْتُ عَلَى كُلّ وَرْدَةٍ مَلَكاً قَائِماً يُسَبِّح » ؛ وذلك قوله تعالى : { إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى } . قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف لأن ذلك لا يثبت إلاَّ بدليل سَمْعِيٍّ فإن صح فيه خبر وإلاَّ فلا وجه له .
وقيل : ملائكة يَغْشَوْنَها كأنهم طيورٌ يرتَقُونَ إليها متشرِّفين متبرِّكين بها زائرين كما يزور الناس الكعبة .
وقيل : يغشاها أنوار الله؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وصل إليها تجلّى ربه لها كما تجلى للجبل فظهرت الأنوار لكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت فجعل الجبل دكًّا ولم تتحرك الشجرة ، وخَرَّ موسى صَعِقاً ولم يتزلزل محمد . وقيل : أبهمه تعظيماً له . والْغشَيَانُ يكون بمعنى التغطية والسَّتْر ومنه الغَوَاشِي ، ويكون بمعنى الإتيان ، يقال : فُلاَنٌ يَغْشَانِي كُلَّ وقت أي يأتِيني .
فصل
قال المارودي في معاني القرآن : قيل : لما اختيرت السدرةُ لهذا الأمر دون غيرها من الشجر؟ قال : لأن السدرة تختص بثلاثة أوصاف : ظلٍّ مديدٍ ، وطعمٍ لذيذٍ ، ورائحة زكيةٍ فشابهت الإيمانَ الذي يجمع قولاً وعملاً ونيةً ، فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه وطعمها بمنزلة النية لكمونه ، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره .
وروى أبو الدرداء عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال : « مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ » وسئل أبو الدرداء عن معنى هذا الحديث فقال : هو مختصر بمعنى من قطع سدرة في فَلاَةٍ يستظل بها ابن السَّبيل والبهائم عبثاً وظُلْماً بغير حق يكون له فيها صوَّب الله رأسه في النار .
قوله : { مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى } اللام في البصر يحتمل وجهين :
أحدهما : المعروف أي ما زاغ بصرُ محمدٍ - عليه الصلاة والسلام - وعلى هذا فقدم الزيغ لوجوه إن قيل : بأن الغَاشِيَ للسدرة هو الجرادُ والفَرَاشُ فمعناه لم يلتفت إليه ولم يشتغل به ولم يقطع نظره عن مقصوده فيكون غَشَيَانُ الجراد والفراش ابتلاءً وامتحاناً لمحمد - عليه الصلاة والسلام - وإنْ قِيلَ إنّ الغاشي أنوار الله تعالى ففيه وجهان :
أحدهما : معناه لم يلتفت يَمْنَةً ويَسْرَةً بل اشتغل بمطالعتها .
والثاني : ما زاغ البصر بصَعْقَة ، بخلاف موسى - « عليه الصلاة والسلام- » فإنه قطع النظر وغشي عليه ، ففي الأول بيان أدبِ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وفي الثاني بيان قُوَّتِهِ .
الوجه الثاني : لتعريف الجنس أي ما زاغ بَصَرُهُ أصلاً في ذلك الوضع لِعظمِ هَيْبَتِهِ .
فإن قيل : لو كان كذلك لقال : ما زاغ بصرٌ ، فإنه أدل على العموم ، لأن النكرة في مَعْرِضِ النفي تَعُمُّ .
فالجواب : هو كقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار } [ الأنعام : 103 ] ولم يقل : ولم يدرك له بَصَر .
قوله : ( وَمَا طَغَى ) فيه وجهان :
الأول : أنه عطفُ جملةٍ مستقلة على جملةٍ أخرى .
والثاني : أنه عطف جملة مقدرة على جملة . فمثال المستقلة : خَرَجَ زَيْدٌ ودَخَلَ عَمْرو . ومثال المقدرة خَرَجَ زَيْدٌ ودَخَلَ . والوجهان جائزانِ هنا .
أما الأول : فكأنه تعالى قال عند ظهور النور : مَا زَاغَ بصرُ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وما طغى مُحَمَّد بسبب الالتفات ولو التفت لكان طاغياً .
وأما الثاني : فظاهر . فإن قيل : بأن الغاشي للسِّدْرة جرادٌ فالمعنى لم يلتفت إليه وما طغى أي لم يلتفت إلى غير الله ولم يلتفت إلى الجراد ولا إلى غير الجراد بل إلى اللَّه تَعَالَى .
وإن قيل : غَشِيَها نُورٌ فقوله : « ما زاغ » أي ما مال عن الأنوار « وما طغى » أي ما طلب شيئاً وراءه . وفيه لطيفة وهي أن تكون ذَانِك بياناً لوصول محمد - عليه الصلاة والسلام - إلى سدرة اليقين الذي لا يقين فوقه وذلك أن بصر محمد - عليه الصلاة والسلام - ما زاغ أي ما مال عن الطريق فلم يَرَ الشيء على خلاف ما هو عليه بخلاف من ينظر إلى عين الشمس مثلاً ثم ينظر إلى شيءٍ أبيضَ فإنه يراه أصفَر أو أخْضَرَ يزيغ بصره عن جَادَّة الإبصار ، وقوله : « وَمَا طَغَى » أي ما تخيل المعدوم موجوداً .
وقيل : « وما طغى » أي ما جاوز ما أُمِرَ بِهِ .
قوله : { لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى } في « الكبرى » وجهان :
أظهرهما : أنها مفعول ( رأى ) و ( من آياتِ ربه ) حال مقدرة ، والتقدير لقد رأى الآيات الكبرى من آيات ربه .
والثاني : أن { مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ } هو مفعول الرؤية و « الكُبْرَى » صفة « لآيات ربه » . وهذا الجمع يجوز وصفه بوصف المؤنثة الواحدة ، وحسَّنَهُ هنا كونها فاصلة . وقد تقدم مثله في « طه » عند قوله { لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى } [ طه : 23 ] .
قال ابن الخطيب : في « الكُبْرَى » وجهان :
أحدهما : أنها صفة لمحذوف تقديره لقد رأى من آيات ربه الآيَة الكُبْرَى .
ثانيهما : صفة لآيات ربه فيكون مفعول رأى محذوفاً تقديره رأى من آيات ربّه الكبرى آيةً أو شيئاً .
فصل
قال بعض المفسرين : آيات ربه الكبرى هي أنه رأى جبريل - عليه الصلاة والسلام - في صورته . قال ابن الخطيب : والظاهر أن هذه الآيات غير تِيكَ ، لأن جبريلَ - عَلَيْهِ الصَّلاة والسلامُ - وإن كان عظيماً ، لكن ورد في الأخبار أن لله ملائكةً أعظمَ منه . و « الكُبْرَى » تأنيث الأكبر فكأنه تعالى قال : رأى من آيات ربِّه آياتٍ هي أكبر الآيَاتِ .
فصل
قال المفسرون : رأى رَفْرَفاً أخْضَرَ سَدَّ أُفُقَ السماء . قال البيهقيُّ : الرفرف جبريلُ - عليه الصلاة والسلام - في صورته على رفرف ، والرَّفْرَفُ البسَاط . وقيل : ثوبٌ كان يَلْبَسُهُ . وقال القرطبي : وروى ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى : { دَنَا فتدلى } [ النجم : 8 ] أنه على التقديم والتأخير ، أي تدلى الرفرف لمحمد - عليه الصلاة والسلام - ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه قال : فَارَقَنِي جبريلُ وانْقَطَعت عَنّي الأَصْوَاتُ وسَمِعْتُ كَلاَمَ رَبِّي . فعلى هذا الرفرف ما يجلس عليه كالبسَاط ونَحْوِهِ .
فصل
قال ابن الخطيب ( هذه الآية ) تدل على أن محمداً - عليه الصلاة والسلام - لم ير الله ليلة المعراج وإنما رأى آيات الله . وفيه خلاف . ووجه الدلالة أنه ختم قصة المعراج ههنا برؤية الآيات وقال : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [ الإسراء : 1 ] إلى أن قال : { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } [ الإسراء : 1 ] ولو كان رأى ربه لكان ذلك أعظمَ ما يمكن فكان أكبر شيء هو الرؤية ، فكان الأمر للرؤية .
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)
قوله : { أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى } لما قرر الرسالة ذكر ما ينبغي أن يبتدئ به الرسول وهو التوحيد ومنع الخلق عن الإشراك ، فقوله : « أَفَرَاَيْتُمْ » إشارة إلى إبطال قولهم بنفس القول كما إذا ادعى ضعيفٌ الملكَ ثم رآه العقلاء في غاية البعد عما يدعيه يقولون : انْظُرُوا إلى هذا الذي يدعي المُلْكَ منكرين عليه غير مستدلين بدليل لظهور أمره فكذلك قال : { أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى } أي كما هما فكيف تشركونهما بالله؟
فصل
والألف واللام في ( اللات ) زائدة لازمة ، فأما قوله :
4555- ..
إلَى لاَتِهَا .
فحذفت للإضافة .
وقيل : هي والعزى علمان بالوَضْع ، أو صفتان غَالِبَتَانِ؟ خلاف . ويترتب على ذلك جواز صدق « أَل » وعدمه .
فإن قلنا : إنهما ليسا وصفين في الأصل فلا تحذف منهما « أل » . وإن قلنا : إنهما صفتان وإنّ « أَلْ » لِلَمْحِ الصفة جاز ، وبالتقديرين « فأل » زائدة . وقال أبو البقاء : وقيل : هما صفتان غالبتان مثل الْحَارِث والْعَبَّاس فلا تكون أل زائدة . انتهى .
قال شهاب الدين : وهو غلط ، لأن التي للمح الصفة منصوص على زيادتها بمعنى أنها لم تُؤْثِر تَعْريفاً . واختلف في تاء اللات ، فقيل : أصل وأصله من لاَتَ يَلِيتُ فألفها عن ياء ، فإن مادة « ل ي ت » موجودة . وقيل : زائدة وهي من لَوَى يَلْوِي ، لأنهم كانوا يلوون أعْنَاقَهُمْ إليها ، أو يلتوون أي يَعْتَكِفُونَ عليها . وأصلها لَوْيَةٌ فحذفت لامها ، فألفها على هذا ( بدلٌ ) من واو .
قال الزمخشري : هي فَعْلَة من لَوَى يَلْوِي ، وعلى هذا فأصلها لوية فسكنت الياء وحذفت لالتقاء الساكنين ، بقيت لَوْة فقلبت الواو ألفاً لفتح ما قبلها فصارت « لاَت » . واخْتَلَف القُرَّاءُ في الوقف على تائها فوقف الكسائي عليها بالهاء . والباقون بالتاء . وهو مبني على القولين المتقدمين .
فمن اعتقد تاءها أصلية أَقرها في الوقت كتَاء بِنْتٍ ، ومن اعتقد زيادتها وقف عليها هاءً .
قال ابن الخطيب : والتاء في اللات تاء تأنيث كما في المَنَاة لكنها تكتب ممطوطةً لئلا يوقف عليها فتصير هاءً فتشبه باسم ( الله ) فإن الهاء في ( الله ) أصلية ليست تاءَ تأنيث ووقف عليها فانقلبت هاءً .
واللاَّتُ اسمُ صنم . وقيل : كان لثقيف بالطائف . قاله قتادة . وقيل : بعُكَاظ . وقال زيد : بيت بنخلة . وقيل : صنم . ورجح ابن عطية الأول لقول الشاعر :
4556-
وَفَرَّتْ ثَقِيفٌ إلى لاَتِهَا ... بمُنْقَلَبِ الْخَائِبِ الْخَاسِرِ
والعامة على تخفيف تائها .
وقرأ ابن عباس ، ومجاهدٌ ، ومنصورُ بن المُعْتَمِر ، وأبو الجَوْزَاء ، وأبو صالح وابنُ كثير - في رواية - بتشديد التاء .
فقيل : هو رجل كان يَلِتُّ السَّوِيقَ ، ويُطْعِمهُ الْحَاجَّ ، فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه ، فهو اسم فاعل في الأصل غلب على هذا الرجل وكان يجلس عند حجر ، فلما مات سمي الحجر باسمه وعُبِدَ من دون الله .
وقال مجاهد : كان في رأس جبل له غنيمة يَسْلأُ منها السَّمْنَ ويأخذ منها الأَقطَ ويجمع رسلها ويتخذ منه حيساً فيطعم الحاج وكان ببطن النخلة فلما مات عبدوه وهو اللات . وقال الكلبي : كان رجلاً من ثقيف يقال له : صَرْمَة بن غَنْم وكان يَسْلأُ السَّمن فيضعه على صخْرة ، ثم تأتيه العرب فتلتُّ به أَسْوِقَتَهُمْ ، فلما مات الرجل حَوَّلَتْهَا ثَقيفٌ إلى منازلها فعبدتها . وقال القرطبي : كانت صخرة مربَّعة وكان سَدَنَتُها من ثقيف وكانوا قد بنوا عليها بناءً ، فكانت قريش وجميع العرب تعظمها وبها كانت العربُ تسمّي زيدَ اللاتِ وتَيْمَ اللات ، وكانت في موضع مسجد الطائف اليسرى ، فلم تزل كذلك إلى أن أسلمت ثقيفٌ . فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَلِيًّا فَهَدَمَهَا وحَرَقَها بالنار ، ثم اتخذ العرب العزى وهي أحدث من اللات ، اتخذها ظالمُ بن سَعِيد .
والعزى : فعلى من العز وهي تأنيث الأعَزّ كالفُضْلَى والأَفْضَل . وهي اسم صنم . وقيل : شجرة كانت تُعبد .
قال مجاهد : هي شجرة كانت بغَطَفَان كانوا يعبدونها ، فبعث النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - خالدَ بن الوليد فقطعها فجعل خالدٌ يضربُها بالفَأس ويقول :
4557-
يَا عُزَّ كُفْرَانَكِ لاَ سُبْحَانَك ... إنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهَانَكَ
فخرجت منها شيطانة مكشوفة الرأس ، ناشرةً شعرها ، تضرب رأسَها وتدعو بالوَيْل والثُّبُور فقتلها خالد .
وروي أَنَّ خالداً لما قطع الشجرة رجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : قد قَطَعْتُها ، فقال : ما رأيت؟ قال : ما رأيت شيئاً . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما بلغت . فعاودها ومعه المعول فقلعها واجتثَّ أصلها فخرجت منها امرأة عُرْيَانة فقتلَها ، ثم رَجَعَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : تلك العُزَّى ، ولن تُعْبَدَ أبداً .
وقال الضحاك : هو صنم لغَطَفَان وضعها لهم سعدُ بن ظالم الغَطَفَانِيّ . وذلك أنه قَدِمَ مكة فرأى الصَّفَا والمَرْوَة ، ورأى أهل مكة يطوفون بينهما فعاد إلى بطن نخلة وقال لقومه : إن لأهلِ مكة الصَّفَا والمَرْوَةَ وليستَا لكم ولهم إله يعبدونه وليس لكم قالوا : فما تأمرنا؟ قال : أنا أصنع لكم ذلك ، فأخذ حجراً من الصفا وحجراً من المروة ونقلهما إلى نخلة فوضع الذي أخذ من الصَّفا فقالَ : هذا الصفا ثم وضع الذي أخذ من المروة فقال : هذا المروة ثم أخذ ثلاثة أحجار فأسندها إلى شجرة وقال : هذا ربكم فجعلوا يطوفون بين الحَجَريْن ويعبدون الحجارة حتى افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة فأمر برفع الحجارة ، وبعث خالد بن الوليد إلى العُزَّى فقَطَعَها . وقال قتادة وابن زيد : هي بيت بالطائف كانت تعبده ثقيف . وقال ابن جبير العزى حجر أبيض كانوا يعبدونه .
قوله : ( وَمَنَاةَ ) قرأ ابن كثير : مَنَأَةَ بهمزة مفتوحة بعد الألف ، والباقون بألف وحدها ، وهي صخرة كانت تعبد من دون الله .
فأما قراءة ابن كثير فاشتقاقها من النَّوْءِ ، وهو المطر ، لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء ووزنها حينئذ « مَفْعَلَة » فألفها عن واو وهمزتها أصلية وميمها زائدة وأنشدوا على ذلك :
4558-
أَلا هَلْ أَتَى تَيْم بْنَ عَبْدِ مَنَاءَةٍ ... عَلَى النَّأيِ فِيمَا بَيْنَنَا ابْنُ تَمِيمِ
وقد أنكر أبو عبيدة قراءة ابْنِ كثير ، وقال : لم أسمع الْهَمْز .
قال شهاب الدين : قد سمعه غيرهُ ، والبيت حجَّةٌ عليه . وأما قراءة العامة فاشتقاقها من مَنَى يَمْنِي أي صَبَّ لأن دِمَاءَ النَّسائك كانت تُصَبُّ عندَها ، وأنشدوا لجرير :
4559-
أَزَيْدَ مَنَاةَ تُوعِدُ يَا ابْنَ تَيْمٍ ... تَأَمَّلْ أَيْنَ تَاهَ بِكَ الوَعِيدُ
وقال أبو البقاء : وألفه عن ياء كقولك : مَنَى يَمْنِي إذا قدر ، ويجوز أن تكون من الواو ، ومنه مَنَوَانِ فوزنها على قراءة القصر فَعَلَةٌ .
فصل
قال قتادة : مناة صخرة كانت لخُزَاعةَ بقَدِيد . وقالت عائشة ( رضي الله عنها ) في الأنصار كانوا يصلون لمناةَ فكانت حذو قَديدٍ . وقال ابن زيد : بيت كان بالمشلل تعبده بنو كعب . وقال الضحاك مناة صنم لهُذَيْل وخُزَاعَة تعبده أهل مكة . وقيل : اللاَّتُ والعُزَّى ومناة أصنامٌ مِنْ حجارةٍ كانت في جوف الكعبة يعبدونها .
قوله : ( الأُخْرَى ) صفة لمَنَاةَ . قال أبو البقاء : و « الأُخْرَى » توكيد لأن الثالثة لا تكون إلا أُخْرَى .
وقال الزمخشري : والأخرى ذم وهي المتأخِّرة الوضيعة المقدار ، كقوله : { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ } [ الأعراف : 38 ] أي وُضَعاؤهم لأَشْرَافِهمْ . ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم لِلاَّتِ والْعُزَّى . انتهى .
وفيه نظر ، لأن « الأخرى » إنما تدل على الغيرية ، وليس فيها تعريض لمدح ولا ذمٍّ ، فإن جاء شيء فلقرينة خارجيَّةٍ .
وقيل : الأخرى صفة للعُزَّى؛ لأن الثانية أخرى بالنسبة إلى الأولى . وقال الحُسَيْنُ بن الفَضْلِ : فيه تقديم وتأخير أي العزَّى الأُخْرَى ، ومناة الثالثة . ولا حاجة إلى ذلك؛ لأن الأصل عَدَمُهُ .
فصل
قال ابن الخطيب : فإنْ قِيلَ : إنما يقال : أَخَّرُوا « أُخْرى » إذا ( تقدم ) أول مشاركٌ للثاني فلا يقال جَاءَنِي رَجُلٌ وامْرَأَةٌ أُخْرَى فيلزم أن تكون العُزَّى ثالثةً!
فالجواب : قد يستعمل الآخر والأُخرى للذَّمِّ ، فالمراد بالأخرى المتأخرة الذليلة . واللات على صورة آدمّي . والعُزَّى شجرة وهي نبات . وقيل : صخرة جَمَاد وهي متأخرة عنهما . أو في الكلام حذف أي اللات والعزى المعبودين بالباطل ومناة الثالثة الأخرى . أو المعنى ومناة الأخرى الثالثة على التقديم والتأخير . ومعنى الآية هل رأيتم هذه الأصنام حقَّ الرؤية فَإنْ رأيتموها علمتم أنها لا تَصْلُحُ للإلهيَّةِ . والمقصود إبطال الشركاء وإثبات التوحيد .
فصل
«
أرأيت » بمعنى أخبرني فيتعدى لاثنين أولهما اللات وما عطف عليه ، والثاني : الجملة الاستفهامية من قوله : « ألَكُمُ الذَّكَرُ » .
فإن قيل : لم يعد من هذه الجملة ضمير على المفعول الأول .
فالجواب : أن قوله « وَلَهُ الأُنْثَى » في قوة : له هذه الأصنام وإن كان أصل التركيب ألكم الذكر وله هُنَّ أي تلك الأصنام .
وإنما أوثر هذا الاسم الظاهر لوقوعه رأسَ فاصلةٍ .
وقد جعل الزجاج المفعولَ الثَّانِي محذوفاً ، فإنَّه قال : وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها فيقول أخبروني عن آلهتكم هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها ربّ العزة في الآي السالِفةِ . انتهى .
فعلى هذا يكون قوله ( أَلَكُمُ الذَّكَرُ ) مُتعلِّقاً بما قبله من حيثُ المَعْنى لا من حيثُ الإعراب .
وجعل ابن عطية الرؤية هنا بصرية فقال : وهي من رؤية العين ، لأنه أحال على أجرام مرئيَّة ، ولو كانت « أرأيت » التي هي استفتاء لم يتعد . وقد تقدم الكلام على ذلك في الأنعام وغيرها .
فإن قيل : ما فائدة الفاء في قوله : « أَفَرَأَيْتُمْ » وقد وردت في مواضعَ بغير فاء ، كقوله تعالى : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } [ الزمر : 38 ] ( و ) { أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ } [ فاطر : 40 ] .
فالجواب : لما تقدم عظمة الله في ملكوته وأن رسوله إلى الرسل يسد الآفاق ببعض أجنحته ويهلك المدائن بشدته وقوته ولا يمكنه مع هذا أن يتعدى السدرة في مقام جلال الله وعزته قال : أَفَرَأَيْتُمْ هذه الأصنام مع ذلتها وحقارتها شركاء لله مع ما تقدم فقال بالفاء أي عقيب ما سمعتم من عَظَمَةِ آياتِ الله الكبرى ونفادِ أمْرِهِ في الملأ الأعلى وما تحت الثَّرى انظروا إلى اللات والعزى تَعْلَمُوا فَسَادَ ما ذهبتم إليه .
قوله تعالى : { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى } قال الكلبي : كان المشركون بمكة يقولون للأصنام والملائكة بناتِ الله .
قال ابن الخطيب : معناه كيف جعلتم لله البنات وقد اعترفتم في أنفسكم أن البناتِ ناقصاتٌ والبنون كاملونَ والله كامل العظمة فكيف نسبتم إليه الناقص وهو في غاية الذلة والحقارة حيث عبدتم الجماد من الحجارة والشجر ثم نسبتم إليكم الكامل فهذه قسمةٌ جائرةٌ على زعمكم وعادتكم لأنه كان ينبغي أن تجعلوا الأعظم للعظيم والأنقص للحقير فخالفتم النقل والعقل والعادة؟
قوله : { تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى } ، « تلك » إشارة إلى محذوف تقديره تلكَ القِسْمَةُ قسمةٌ غير عادلةٍ . ويحتمل أن يقال : تلك النسبة؛ أي التي نسبوها إلى الله بأَنَّ له البناتِ . وقوله ( إذَنْ ) جواب نسبتهم البنات إلى الله .
وقوله : « ضيزَى » قرأ ابن كثير ضِئْزَى بهمزة ساكنة والباقون بياء ساكنة . وزيد بن عليّ ضَيْزَى بفتح الضاد والياء الساكنة . فأما قراءة العامة فيحتمل أن تكون من ضَازَهُ يَضِيزُهُ إذا ضَامَهُ وجار عليه فمعنى ضِيزَى أي جائرة . وقال مجاهد ومقاتل : قِسْمَةٌ عَوْجَاءُ .
وقال الحسن : غير معتدلة ، قال الشاعر :
4560-
ضَازَتْ بَنُو أَسَدٍ بِحُكْمِهِمُ ... إذْ يَجْعَلُونَ الرَّأسَ كَالذَّنَبِ
وعلى هذا فيحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون صفة على « فُعْلَى » - بضم الفاء - وإنما كسرت الفاء لتصحَّ الياء « كَبِيضٍ » .
فإن قيل : وأي ضرورة إلى أن يقدر أصلها ضمّ الفاء؟ ولم لا قيل : إنَّها فِعْلَى بالكسر؟ .
فالجواب : أن سيبويه حكى أنه لم يرد في الصفات فِعْلَى - بكسر الفاء - إنما ورد بضَمِّها ، نحو : حُبْلَى وأُنْثَى ورُبَّى وما أشبهه إلا أنه قد حكى غيره في الصِّفات ذلك؛ حكى ثعلب : مِشْيَةٌ حِيكَى . وَرُجلٌ كِيصَى ، وحكى غيره : امرأةٌ عِزْهَى ، وامرأة سِعْلَى . وهذا لا ينقض ، لأن سيبويه يقول في حِيكَى وكِيصَى كقوله في ضِيزَى : لتصحَّ الياء .
وأما عِزْهَى وسِعْلَى فالمشهور فهيما عِزْهَاةٌ وسِعْلاَةٌ . وقال البغوي : ليس في كلام العرب فِعْلَى بكسر الفاء في النعوت إنما يكون في الإسماء مثل ذِكْرَى ، وشِعْرَى .
والوجه الثاني : أن تكون مصدراً كَذِكْرَى .
قال الكسائي : يقال ضَازَ يَضِيزُ كَذكَرَ يَذْكُرُ ، ويحتمل أن يكون من ضَأَزَهُ بالهمز - كقراءة ابن كثير ، إلا أنه خفف همزها وإن لم يكن من أصول القراء كلهم إبدالُ مثل هذه الهمزة ياء لكنها لغة التزمت فقرأوا بها .
ومعنى ضَأَزَهُ يَضْأَزُهُ نَقَصَهُ ظلماً وجوراً .
وممن جوز أن تكون الياء بدلاً من همزة أبو عُبَيْدٍ وأن يكون أصلها ضُوزَى بالواو ، لأنه سمع ضَازَه يَضُوزهُ ضُوزَى وَضَازهُ يَضِيزُهُ ضِيزَى وَضَأَزَهُ يَضْأَزُهُ ضَأزاً ، حكى ذلك كله الكسائي . وحكى أبو عبيد : ضِزْتُهُ وضُزْتُهُ بكسر الفاء وضمها فكسرت الضاد من ضُوزَى ، لأن الضمة ثقيلةٌ مع الواو . وفعلوا ذلك ليَتَوصَّلوا به إلى قلبِ الواو ياءً وأنشد الأخضر على لغة الهمزة :
4561-
فَإنْ تَنْأَ عَنْهَا تَنْتَقِصْكَ وإنْ تَغِبْ ... فَسَهْمُكَ مَضْئُوزٌ وَأَنْفُكَ رَاغِمُ
وضيزَى في قراءة ابن كثير مصدر وُصِفَ به ، ولا يكون وصفاً أصلياً لما تقدم عن سيبويه . فإن قيلَ : لِمَ لا قيلَ في ضيزى بالكسر والهمز إنّ أصله ضُيْزى بالضم فكسرت الفاء كما قيل فيها مع ألفها؟
فالجواب : أنه لا موجب هنا للتغيير ، إذ الضم مع الهمز لا يستثقل استثقاله مع الياء الساكنةِ .
وسمع منهم : ضُؤْزَى بضمِّ الضاد مع الواو والْهَمْزِ .
وأمَّا قراءة زيد فيحتمل أن تكون مصدراً وُصِفَ بِهِ كَدعوى وأن تكون صفة كسَكْرَى وعَطْشَى وغَضْبَى .
قوله : ( إنْ هِيَ ) في ( هي ) وجهان :
أحدهما : أنها ضمير الأصنام أي وما هي إلا أسماءٌ ليس تحتها في الحقيقة مُسَمياتٌ لأنكم تدعون الإلهية لما هو أبعد شيء منها ، وأشد منافاة لها . وهذا على سبيل المبالغة والتجوز ، كما يقال لتحقير إنسان : ما زيد إلا اسم إذا لم يكن مشتملاً على صفة معتبرة كقوله : { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ } [ يوسف : 40 ] .
الثاني : أن يكون ضمير الأسماء وهي اللاَّت والعُزَّى ومَنَاة ، وهم يقصدون بها أسماء الآلهة يعني وما هذه الأسماء إلا سَمَّيْتُمُوها بهواكم وشهْوتكم ليس لكم على صحة تسميتها بُرهانٌ تتعلقون به .
قال أبو البقاء : « أَسْمَاءٌ » يجب أن يكون المعنى ذَوَاتُ أَسْمَاءٍ ، لقوله : « سَمَّيْتُمُوهَا » ؛ لأن الاسم لا يسمى .
فإن قيل : كيف قال : سميتموها أنتم مع أن هذه الأسماء موضوعة قبلنا؟
فالجواب : أن كل من نطق بهذه الألفاظ فهو كالمُبْتَدِئ الواضع؛ لأن الواضع الأول لهذه الأسماء لما لم يكن واضعاً بدليل نقلي أو عقلي لم يجب اتباعه ولا يجوز فصار هو كالمبتدئ؛ إذ لا مُقْتدى لَهُ .
فإن قيل : الأسماء لا تسمَّى وإنما يسمى بها فكيف قال : أسماء سميتموها؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن التسمية وضع الاسم فكأنه قال : أسماء وضعتموها ، فاستعمل سَمَّيْتُمُوهَا استعمال وضَعْتُمُوهَا .
الثاني : لو قال : أسماءٌ سمَّيْتُم بها لكان هناك غير الاسم شيء يتعلّق به الباء في قولك بها؛ لأن قول القائل : سميت به يستدعي دخُولاً آخر ، تقول : سميتُ بزيدٍ ابني أو عبدي أو غير ذلك فيكون قد جعل للأصنام اعتباراً .
فإن قيل : هذا باطل بقوله تعالى : { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } [ آل عمران : 36 ] حيث لم يقل : وَإنِّي سَمَّيْتُهَا بِمَرْيَمَ ولم يكن ما ذكرت مقصوداً وإلا لكانت مريم غير ملتفت إليها كما قلت في الأصنام .
فالجواب : بَيْنَهما بونٌ عظيم؛ لأن هناك قال : سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ فذكر المفعولين فاعتبر حقيقة مريم بقوله : سميتها واسمها بقوله : مريم ، وأما ههنا فقال : { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ } موضوعة فلم تعتبر الحقيقة ههنا واعتبرها في مريم .
قوله : { مَّآ أَنَزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ } أي حجة بما يقولون : إنها آلهة . واستعملت الباء في قوله ( بِهَا ) كقولك : ارْتَحَلَ فلاَنٌ بأهله ومَتَاعِهِ أي ارتحل ومعه الأهل والمتاع . كذلك ههنا قوله : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } هذا رجوع إلى الخبر بعد المخاطبة فقال : إن يتَّبعون إلاّ الظَّنَّ في قولهم : إنها آلهة .
قرأها العامة على الغيبة التفاتاً من خطابهم إلى الغيبة عنهم تحقيراً لهم ، كأنه قطع الكلام معهم وقال لنبيِّه : إنهم لا يتبعون إلا الظن فلا يلتفت إلى قولهم .
ويحتمل أن يكون المراد غيرهم ، وفيه وجهان :
الأول : أن يكون المراد آباءهم كأنه تعالى قال : سَمَّيْتُمُوهَا أنتم وآباؤكم فكأنهم قالوا : هذه الأسماء لم نضعها نحن ، وإنَّما تلقيناها من آبائنا فقال : وسمَّاها آباؤكم وما يتبعون إلاَّ الظَّنَّ .
فإن قيل : كان ينبغي أن يكون بصيغة الماضي .
فالجواب : وبصيغة المستقبل أيضاً كأنه يفرض الزمان ( بعد ) زمان الكلام كقوله تعالى : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } [ الكهف : 18 ] .
الثاني : أن يكون المراد عامة الكفار .
وقرأ عبدُ الله وابنُ عباس وطلحةُ وعيسى بن عُمَر وابنُ وثاب : بالخطاب . وهو حسن موافقٌ .
فإن قيل : كيف ذمهم على اتِّباع الظَّنِّ ونحن مأمورون باتباعه في الفقه ، وقال - عليه الصلاة والسلام - حكاية عن الله تعالى أنه قال : « أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي؟ »
فالجواب : أن الظن خلاف العلم وقد استعمل مجازاً مكان العلم والعلم مكانه وأصل العلم الظهور ومنه العَالِم . وحروف العلم في تَقَالِيبِها فيها معنى الظهور منها لَمَعَ البَرْقُ إذا ظَهَرَ ، ولَمَعَ الغَزَالُ إذا عَدا ، وكذلك عَلِمت .
والظن إذا كان في مقابلة العلم ففيه الخفاء ومنه بئرٌ ظنونٌ لا يدري أفيه ماءٌ أم لا؛ لخفاء الأمر فيه ودينٌ ظَنُونٌ . يخفى الأمر فيه فنقول : يجوز بناء الأمر على الظن عند العجز عن درك اليقين ، وأما الاعتقاد فليس كذلك ، لأن اليقين لم يتعذّر علينا . وإلى هذا أشار بقوله : { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى } أي اتبعوا الظن وقد أمكنهم الأخذ باليقين . وفي العمل يمتنع ذلك أيضاً . والله أعلم .
قوله : { وَمَا تَهْوَى الأنفس } نسق على ( الظّن ) و « ما » مصدرية ، أو بمعنى الذي . والمراد بما تهوى الأنفس هو ما زين لهم الشيطان .
قوله : { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى } يجوز أن يكون حالاً من فاعل ( يَتَّبِعُونَ ) أي يَتَّبَعُون الظنَّ وهوى النفس في حالٍ تُنافي ذلك وهي مجيء الهدى من عند ربهم . ويجوز أن يكون اعتراضاً فإن قوله : « أمْ للإِنْسَانِ » متصل بقوله : { وَمَا تَهْوَى الأنفس } ، وهي أم المنقطعة ، فتقدر ببل والهَمْزَة على الصَّحِيح .
قال الزمخشري : ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي ليس للإنسان ما تمنى .
فصل
المعنى ولقد جاءهم من ربهم البيان بالكتاب والرسول أنها ليست بآلهة وأن العبادة لا تصلح إلاَّ للَّهِ الواحد القهار .
{
أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تمنى } أيظن أن له ما يتمنى ويشتهي من شفاعة الأصنام . ويحتمل أن يكون معناه : هل للإنسان أن يعبد بالتمني والاشتهاء ما تهوى نَفْسُهُ .
قوله { فَلِلَّهِ الآخرة والأولى } أي ليس كما ظن وتمنى بل لله الآخرة والأولى لا يملك فيها أحدٌ شَيْئاً إلاَّ بإذنه .
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
قوله : { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ } « كم » هنا خبرية تفيد التكثير ، ومحلها الرفع على الابتداء . و { لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ } هو الخبر . والعامة على إفراد الشفاعة . وجُمعَ الضمير اعتباراً بمعنى « ملك » وبمعنى « كم » . وزيد بن عليّ شَفَاعَتُهُ بإفرادها اعتبر لفظ « كم وملك » . وابن مِقْسِم شَفَاعَاتُهُم بجمعِهَا . و « شَيْئاً » مصدر أي شيئاً من الإغْنَاء .
فصل
المعنى وكم من ملك في السموات ممن يعبدهُمْ هؤلاء الكفار ويرجون شفاعَتَهم عند الله لا تغني شفاعَتُهُمْ شيئاً إلاَّ من بعد أن يأذن الله في الشفاعة { لِمَن يَشَآءُ ويرضى } أي من أهل التوحيد .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - يريد لا تشفع الملائكة إلا لمن رضي الله عنه . وجمع الكناية في قوله : « شفاعتهم » والملك واحد؛ لأن المراد من قوله : { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ } الكثرة ، فهو كقوله تعالى : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 47 ] .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الأنثى } اعلم أن المراد بالذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين لا يؤمنون بالرسل ، لأن كل من آمن بالرسل اعترف بالحشر ، وذلك أنهم كانوا يقولون : الملائكة وجدوا من الله فهم أولاده بمعنى الإيجاد ، ثم رأوا في الملائكة تاء التأنيث ، وصحَّ عندهم أن يقال : سَجَدَت الملائكة ، فقالوا : بنات الله فسمَّوهُمْ تسميةَ الإناث .
فإن قيل : كيف يصح أن يقال : إنهم لا يؤمنون بالآخرة مع أنهم كانوا يقولون : هؤلاء شفعاؤُنَا عند الله وكان من عادتهم أن يربطوا مركوباً على قبر مَنْ يموت ، ويعتقدون أنه يحشر عليه؟
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنهم ما كانوا يجزمون به ، بل كانوا يقولون : إنه لا حشر ، فإن كان فلنا شفعاءُ بدليلِ ما حكى الله عنهم { وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] .
الثاني : أنهم ما كانوا يعترفون بالآخرة على الوجه الذي ورد به الرسل .
فصل
وأما مناسبة هذه الآية لما قبلها فهي أنهم لما قيل لهم : إنَّ الصَّنَمَ جمادٌ لا يشفع ، وبين لهم أن أعظمَ أجناس الخلق لا شفاعة لهم إلا بالإذن قالوا : نَحْنُ لا نَعْبُدُ الأصنام لأنها جمادات وإنما نعبد الملائكة بعبادتها فإنها على صورها ونضعها بين أيدينا لنذكر بالشاهد الغائب فنعظم الملك المقرب فرد الله عليهم بهذه الآية أي كيف تعظموهم وأنتم تسموهم تسمية الإناث؟
فإن قيل : كيف قال تسمية الأنثى ولم يقل : تسمية الإناث؟
فالجواب : أن المراد بيان الجنس وهذا اللفظ أليق بهذا الموضع لمؤاخاة رؤوس الآية . أو يقال : إنه لو قال الإناث لأوهم أعلام إناث ، كعائشةَ وفاطمةَ . والمراد إنما هو البنات . وقد تقدمت شبهتهم .
قوله : { وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ } قال الزمخشري : الضمير في ( به ) يعود إلى ما كانوا يقولون .
وقيل يعود إلى ما تقدم من عدم قَبُول الشفاعة .
وقيل : يعود إلى الله أي ما لهم بالله من علم فيُشْرِكُونَ . وقال مكي : الهاء تعود على الاسم لأن التسمية والاسم بمعنًى . وقرأ أبيّ : بِهَا أي بالآخرة أي ما لهم بالآخرة مِنْ علمٍ .
وقيل : بالملائكة . وقيل : بالتسمية . وهذا يقوِّي قول مَكِّيٍّ . فإن قلنا : ما لهم بالآخرة فهو جواب كما قلنا : إنهم وإن كانوا يقولون : إن الأصنام شفعاؤنا عند الله ، وكانوا يربطون الإبل على قبور الموتى ليركبوها لكن ما كانوا يقولون به عَنْ عِلْمٍ .
وإنْ قُلْنا بالتسمية ففيه إشكال ، وهو أن العلم بالتسمية حاصل لهم فإنهم يعلمون أنَّهم « لَيْسُوا في شكٍّ » .
والجواب : أن التسمية قد يكون واضعها الأول عالماً بأنه وضع ، وقد يكون استعمالاً معنوياً يتطرق إليه الصدق والكذب والعِلْم . فمثال الصدق مَنْ وَضَعَ أولاً اسم السماء لموضوعها وقال : هذا سماءٌ ، ومثال الكذب إذا قلنا بعد ذلك للماء والحَجَر : هذا سماء ، فإنه كذب ومن اعتقد فهو جَاهِل وكذلك قولهم في الملائكة : إنَّهم بنات الله لم تكن تسميةً وضعيةً ، وإنما أرادوا به أنهم موصوفون باسم يجب به استعمال لفظ البنات فيهم ، وذلك كذب ومعتَقده جاهلٌ ، فالمراد التسمية التي هي عن وصفٍ حقيقي لا التسمية الوضْعيَّة؛ لأنهم عالمون بها فهذا هو المراد . قاله ابن الخطيب .
وقوله : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } تقدم الكلام عليه .
وقوله : { إِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً } قيل : الحق بمعنى العلم أي لا يقوم الظنّ مَقَام العلم . وقيل : الحق بمعنى العذاب ، أي إنّ ظنهم لا يُنْقِذُهُمْ من الْعَذَابِ .
قال ابن الخطيب : المراد منه أن الظن لا يُغْني في الاعتقادات شيئاً وأما الأفعال العُرْفية أو الشرعية فإنه يتبع عند عدم الوصول إلى اليقين . ويحتمل أن يقال : المراد من الحق هو الله والمعنى أن الظن لا يفيد شيئاً من الله أي أن الأوصافَ الإلهيَّة لا تستخرج بالظنون بدليل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق } [ لقمان : 30 ] .
فإن قيل : أليس الظن قد يصيب فكيف يحكم عليه بأنه لا يغني أصلاً؟
فالجواب : أن المكلف لا يحتاج إلى مميز يُمَيّز الحقَّ من الباطل؛ ليعتقد الحق ويميز الخير من الشر ليفعل الخير لكن في الحق ينبغي أن يكون جازماً لاعتقاد مُطَابَقَتِهِ ، والظَّانّ لا يكون جازماً وفي الخير ربما يعتبر الظن في مَواضِعَ .
فصل
اعلم أن الله تعالى منع من الظن في ثلاثة مواضع :
أحدها : قوله تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } [ النجم : 23 ] .
وثانيها : هذه الآية .
ثالثها : في الحجرات وهي قوله تعالى : { وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون }
[
الحجرات : 11 ] إلى قوله : { اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن } [ الحجرات : 12 ] فالأول : كان المنع عقيب التسمية ، والثاني : عقيب الدعاء بالألقاب وكل ذلك دليل على أن حفظ اللسان أولى من حفظ غيره من الأركان وأن الكذب أقبح من السيئات الظاهرة من الأيدي والأرجل . فهذه المواضع الثلاثة دلت على أن الظن فيها مذمومٌ أحدها : مدح ما لا يستحق المدح كاللاَّتِ والعُزَّى من العزة ، وثانيها : ذمّ من لا يستحق الذم وهم الملائكة الذين هم عِبَاد الرَّحْمَن يُسَمُّونَهُمْ تسمية الأنثى ، وثالثها : ذمّ من لم يعلم حاله ، وأما مدح من يُعْلَمُ حاله فلم يقَلْ فيه : لا يتبعون الظن بل الظن معتبر فيه والأخذ بظاهر حال العاقل واجب .
قوله : { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا } يعني القرآن . وقيل : الإيمان؛ أي اترك مجادلتهم فقد بلَّغت وأتيت بما عليك .
قال ابن الخطيب : وأكثر المفسرين يقولون : كل ما في القرآن من قوله تعالى : { فَأَعْرِضْ } منسوخ بآية القتال ، وهو باطل؛ لأن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال فكيف ينسخ به؟ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأول كان مأموراً بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أُمر بإزالة شبههم والجواب عن أباطيلهم ، وقيل له : { وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] ثم لَمّا لم ينفع قال له ربه : أعْرِضْ عنْهُمْ ولا تقل لهم بالدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به ولا يتبعون الحق وقاتلهم ، فالإعراض عن المناظرة شرط لجواز المُقَاتَلَةِ فكيف يكون منسوخاً بها؟
قوله : { وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا } إشارة إلى إنكارهم الحشر كقوله تعالى عنهم : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } [ الأنعام : 29 ] وقوله : { أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا } [ التوبة : 38 ] وذلك أنه إذا تَرَكَ النظر في آلاء الله لا يعرفُهُ فلا يتبع رسوله فلا ينفعه كلامه ، وإذا لم يقل بالحشر والحساب لا يخاف فلا يرجع عما هو عليه فلا يبقى في الدعاء فائدة .
واعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كالطبيب للقلوب ، فأتى على ترتيب الأَطِبَّاء في أن المرض إذا أمكن إصلاحُهُ بالغذاء لا يستعملون الدواء القوي ، ثم إذا عجز عن المداواة بالمشروبات وغيرها عدلوا إلى الحَدِيد والكَيّ كما قيل : « آخِرُ الدَّوَاءِ الكَيُّ » ، فالنبي - عليه الصلاة والسلام - أولاً أمر القلوب بذكر الله حَسْب ، فإن بذكْرِ الله تطمئن القلوب ، كما أن بالغذاء تطمئن النفوس فالذكر غذاء القلب ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام - أولاً : « قُولُوا لاَ إلَه إلاَّ اللَّهُ » أمر بالذكر ، فانتفع مثلُ أبي بكر - رضي الله عنه - ومن لم ينتفع ذكر لهم الدليلَ وقال { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ } [ الأعراف : 184 ] { قُلِ انظروا } [ يونس : 101 ] { أَفَلاَ يَنظُرُونَ } [ الغاشية : 17 ] إلى غير ذلك فلما لم ينتفعوا أتى بالوعيد والتهديد فلما لم ينتفعوا قال : أعْرِضْ عن المعالجة واقطع الفاسد لئلا يفسد الصَّالح .
قوله : « ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ » قال الزمخشري : هو اعتراض ( أي فأعرض عنه ولا تُعَامِلْهُ إنَّ رَبَّكَ هُو أَعْلَمُ .
قال أبو حيَّان : كأنه يقول : هو اعتراض ) بين « فَأَعْرِضْ » وبين : « إِنَّ رَبَّكَ » ولا يظهر هذا الذي يقوله من الاعتراض .
قال شهاب الدين : كيف يقول : كأنه يقول : هو اعتراض وما معنى الشبيه وهو قد نصَّ عليه وصرح به فقال : أي فأعرض عنه ولا تعامله إنَّ رَبَّكَ . وقوله « وَلاَ يَظْهَرْ » ما أدري عدم الظهر مع ظهور أن هذا علة لذاك أي قوله : « إنَّ رَبَّكَ » علة لقوله « فَأَعْرِضْ » والاعتراض بين العلَّة والمعلول ظاهر وإذا كانوا يقولون : هذا معترض فيما يجيء في أثناء قصَّة فكيف بما بين علة ومعلول؟
فصل
«
ذَلِكَ » إشارة إلى نهاية عِلْمهم وقدر عقولهم إن آثروا الدنيا على الآخرة . وقيل : إشارة إلى الظن أي لم يبلغوا من العلم إلا ظنهم أن الملائكةَ بناتُ الله وأنها تشفع لهم ، واعتمدوا على ذلك وأعرضُوا عن القرآن . وقيل : إشارة إلى الإعراض أي فأعرضْ عمَّن تولى؛ وذلك لأن الإعراض غاية ما بلغوه من العلم وعلى هذا يكون المراد من العِلْم المَعْلُوم وتكون الألف واللام للتعريف والعلم المعلوم هو ما في القرآن .
فإن قيل : إنَّ الله تعالى بين أن غايتهم ذلك في العلم ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها والمجنون الذي لا علم له أو الصبي لا يؤمر بما فوق احتماله فكيف يعاقبهم الله؟
فالجواب : أنه ذكر قبل ذلك أنهم تَوَلَّوْا عن ذكر الله فكان عدم علمهم لعدم قبولهم العلم وإنما قدر الله توليهم ليُضَاف الجَهْلُ إلى ذلك فيتحقق العِقَابُ .
قوله : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ } جوز مَكِّيٌّ أن يكون على بابه من التفضيل أي هو أعلم من كل أحدٍ بهذين الوصفين وبغيرهما ، وأن يكون بمعنى عالِمٍ ، وتقدم ذلك مراراً .
فصل
المعنى أن الله عالم بالفريقين فيجازيهم . ووجه المناسبة أن الله تعالى لَمَّا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أعرض وكان النبي - عليه الصلاة والسلام - شديد الميل إلى إيمان قومه كأنه هجس في خَاطِرِه أن في ذكراهم منفعة ، وربما يؤمن من الكفار قومٌ آخرون من غير قتال ، فقال له : « ربك أعلم بمن ضل عن سبيله » أي لا يؤمن بمجرد الدعاء أحد المتخلفين وإنما ينفع فيهم وَقْع السيف والقتال فأعرض عن الجدال ، وأقبل على القتال . وعلى هذا فقوله : « بِمَنِ اهْتَدَى » أي علم في الأزل من ضل ومن اهتدى فلا يشتبه عليه الأمر ، ولا بأسَ في الإعراض .
فإن قيل : قال في الضلال عن سبيله ولم يقل في الاهتداء إلى سبيله .
فالجواب : أنَّ الضلال عن السبيل هو الضلال وهو كافٍ في الضَّلال ، لأن الضّلال لا يكون إلاَّ في السبيل وأما بعد الوصول فلا ضلالَ ، أو لأن من ضلَّ عن سبيله لا يصل إلى المقصود سواء سلك سبيلاً أو لم يَسْلُكْهُ وأما من اهتدى إلى سبيل فلا وصول له إن لم يسلكه فقال من اهتدى إلى السبيل وسلوكه .
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
قوله تعالى : { وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } وهذا معترض بين الآية الأولى وبين قوله : { لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ } .
واللام في قوله : « لِيَجْزِي » فيها أوجه :
أحدها : أن يتعلق بقوله : { لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ } [ النجم : 26 ] ذكره مكّي . وهو بعيد من حيثُ اللَّفْظ ومن حيث المعنى .
الثاني : أن يتعلق بما دل عليه قوله : { وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات } أي له ملكهما يضلّ من يشاء ويهدِي من يشاء ليجزي المُحْسِنَ والْمُسِيءَ .
الثالث : أن يتعلق بقوله : « بِمَنْ ضَلَّ ، وَبِمَن اهْتَدَى » واللام للصيرورة أي عاقبة أمرهم جميعاً للجزاء بما عملوا . قال معناه الزمخشري .
الرابع : أن يتعلق بما دل عليه قوله : { أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ } [ النجم : 30 ] أي حفظ ذلك لِيَجْزِيَ . قاله أبو البقاء .
وقرأ زيد بن علي : لِنَجْزِي بنون العظمة والباقون بياء الغيبة . وقوله : « الَّذِينَ أحْسَنُوا » وحَّدُوا ربهم « بالْحُسْنَى » بالْجَنَّة . وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان مالكاً فلذلك قال تعالى : { لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } .
قوله : « الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ » يجوز أن يكون منصوباً بدلاً أو بياناً أو نعتاً « لِلَّذِينَ [ ( أحْسَنُوا ) .
فإن قيل : إذا كان بدلاً عن » الَّذِينَ ] أحْسَنُوا « فَلِمَ خالف ما بعده بالمُضِيِّ والاستقبال حيث قال » الَّذِين أحْسَنُوا « وقال : » الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ « ولم يقل : اجْتَنَبُوا؟
فالجواب : هو كقول القائل : الَّذِينَ سَأَلُونِي أعْطَيْتُهُم الذين يترددون إليَّ سائلين أي الذين عادتهم التَّرداد للسؤال سألوني وأعطيتهم فكذلك ههنا أي الذين عادتهم ودأبهم الاجتناب لا الذين اجتنبوا مرة واحدة . ويجوز أن يكون الموصول منصوباً بإضمار » أَعْنِي « ، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي هم الذين ، وهذا نعت للمحسنين .
وقد تقدم الكلام في كبائر وكبير الإثْم .
قوله : » إلاَّ اللَّمَمَ « فيه أوجه :
أحدها : أنه استثناء منقطع؛ لأن اللمم الصغائر فلم يندرج فيما قبلها . وهذا هو المشهور .
الثاني : أنه صفة ، و » إلاَّ « بمنزلة غير كقوله : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] أي كبائر الإثم والفواحش غيرَ اللَّمم .
الثالث : أنه متصل . وهذا عند من يفسر اللّمم بغير الصغائر ، قالوا : إن اللَّمَمَ من الكبائر والفواحش قالوا : معنى الآية إلا أن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب وتقع الواقعة ثم ينتهي . وهو قول أبي هريرةَ ومجاهدٍ والْحَسَن ورواية عطاء عن ابْن عَبَّاس ، قال عبد الله بن عمرو بن العاص : اللَّمم ما دون الشرك .
قال السدي : قال أبو صالح : سئلت عن قول الله عزّ وجلّ : إلاَّ اللَّمم فقلت : هو الرجل يلم الذنب ثم لا يُعَاودُه ، فذكرت ذلك لابن عباس فقال : أعانك عليها ملكٌ كريمٌ .
وروى ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) في قوله : إلاَّ اللمم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
4562-
إنْ تَغْفِر اللَّهُمّ تَغْفِرْ جَمَّا ... وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا؟
وأصل اللمم ما قلَّ وصَغُر ، ومنه اللَّمَمُ وهو المسُّ من الجُنُون وألمَّ بالمكان قَلَّ لَبْثُهُ فيه ، وأَلَمَّ بالطعام أي قل أكلُهُ منه .
وقال أبو العباس : أصل اللَّمَم أن يلمَّ بالشيء من غير أن يَرْكَبَهُ فقال : أَلَمَّ بكَذَا إذا قاربه ، ولم يخالطه . وقال الأزهري : العرب تستعمل الإلمام في معنى الدُّنُوّ والقرب ، وقال جرير : ( رضي الله عنه وأرْضَاهُ ) :
4563-
بنَفْسِي مَنْ تَجَنِّيهِ عَزِيزٌ ... عَلَيَّ وَمَنْ زِيَارَتُهُ لِمَامُ
وقال آخر :
4564-
مَتَى تَأتِنَا تَلْمُمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا
وقال آخر :
4565-
لِقَاء أَخْلاَءِ الصَّفَا لِمَامُ ..
ومنه أيضاً لمّة الشعر لما دون الوَفْرة .
فصل
قال ابن الخطيب : الكبائر إشارة لما فيها من مقدار السيئة .
والفواحش في اللغة مختصة بالقبح الخارج قبحه عن حد الخفاء وتركيب الحروف في التأليف يدل عليه ، فإنك إذا قلبتها وقلت : حَشَفَ كان فيه معنى الزيادة الخارجة عن الحد ، فَإن الحَشَفَ أرذلُ التَّمر ، وكذلك فَشَحَ يَدُلُّ عَلَى حَالَة رَديئةٍ ، يُقَال : فَشَحَت النَّاقَةُ إذَا وَقَفَتْ على هيئةٍ مخصوصةٍ للبَوْلِ فالفُحْش يلازمه القبح ، ولهذا لم يقل الفواحش من الإثم ، وقال في الكبائر من الإثم؛ لأن الكبائر إن لم يميزها بالإضافة في قوله : كَبَائِر الإثم لما حصل المقصود بخلاف الفواحش .
واختلفوا في الكبائر والفواحش؟ فقيل : الكبائر ما وعد الله عليه بالنار صريحاً وظاهراً والفواحش ما أوجب عليه حدًّا في الدنيا . وقيل : الكبائر : ما يُكَفَّرُ مستحلُّها . وقيل : الكبائر ما لا يغفر الله لفاعله إلا بعد التوبة وهو مذهب المعتزلة .
قال ابن الخطيب : كل هذه التعريفات تعريف للشيء بما هو مثله في الخفاء أو فوقه . وقد ذكرنا أن الكبائر هي التي مقدارها عظيم والفواحش هي التي قبحها واضح ، فالكبيرة صفة عائدة إلى المقدار والفاحشة صفة عائدة إلى الكيفية .
فصل
اختلفوا في معنى الآية ، فقال بعضهم : ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم الله به وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين : إنهم كانوا بالأمس يعملون معاً فأنزل الله هذه الآية . وهذا قول زيدِ بنِ ثابت وزيدِ بن أسلم .
وقيل : هو صغار الذنوب كالنَّظرة والغَمْزَة ، والقُبْلَة وما كان دون الزنا . وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة ومسروقٍ ، والشَّعْبي ورواية طاوس عن ابن عباس قال : ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - « إنَّ اللَّهَ كَتَبَ علَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ ، فَزِنَا الْعَيْن النَّظَرُ ، وزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ ، والنَّفْسُ تَتَمَنَّى وتَشتهِي والفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ » وفي رواية : « والأُذُنَانِ زِنَاهُما الاسْتِمَاعُ ، واليَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ والرِّجْلُ زِناها الخُطَى » .
وقال الكلبي : اللمم على وجهين :
[
الأوّل ] : كل ذنب لم يذكر الله عليه حداً في الدنيا ولا عذاباً في الآخرة فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائرَ والفواحشَ .
والوجه الآخر : هو الذنب العظيم يلمُّ به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه .
وقال سعيد بن المسيب : هو ما لَمَّ على القلب أي خَطَرَ . وقال الحُسَيْنُ بن الفضل : اللَّمَمُ النظرةُ عن غير تعمد فهو مغفورٌ ، فإن أعاد النظر فليس بلَمَم بل هُو ذنبٌ .
قوله : { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة } ، قال ابن عباس - ( رضي الله عنه ) - لمن يفعل ذلك وتاب . وههنا تَمَّ الكلام .
قوله : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض } في تعلق الآية وجوه :
أحدها : هو تصوير لما قال من قبل ، فإنه لو قال : هو أعلم بمن فعل كان القائل من الكفار يقول : نحن نعلم أموراً في جوفِ الليل المُظْلمِ ، وفي البيت الخالي فكيف يعلمه الله؟ قال : ليس علمكم أخفى من أحوالِكم وأنتم أَجِنَّة في بطون أمهاتكم ، فإنّ الله عالمٌ بتلك الأحوال .
الثاني : أنه إشارة إلى أن الضالَّ والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله فإنه عَلِمَ الحق وأنتم في بطون الأمهات فكتب على البعض أنه ضال ، وكتب على البعض أنه مُهْتَد .
الثالث : أنه تأكيد لبيان الجزاء ، لأنه لما قال : { لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ } قال الكافرون هذا الجزاء لا يستحق إلا بالحشر وجمع الأجزاء بعد تفرقها وإعادة ما كان لزيدٍ من الأجزاء في بدنه من غير اختلاط ، وذلك غير ممكن فقال تعالى هو عالم مماذا أنشأكم فيجمعها بعد ذلك على وفق علمه كما أنشأكم .
فصل
العامل في ( قوله ) : « إذْ » يحتمل أن يكون « اذْكُرْ » فيكون هذا تقريراً لكونه عالماً ويكون تقديره هو أعلم بكم . وقد تم الكلام ثم يقول : إن كنتم في شك من علمه بكم فاذكروا حال إنشائكم من التراب . وقد تقدم الكلام على قوله : { خلقكم من تراب } بأن كل أحد أصله من التراب ، فإنَّه يصير غذاء ، ثم يصير دماً ثم يصير نطفة .
فإن قيل : لا بدّ من صرف قوله { إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض } إلى آدم ، لأن قوله : { وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } عائد إلى غيره ، فإنه لم يكنْ جنيناً . وإن قلت بأن قوله تعالى : { إِذْ أَنشَأَكُمْ } عائد إلى جميع الناس فينبغي أن يكون جميع الناس أجنة في بطون الأمهات وهو قول الفلاسفة؟
فالجواب : ليس كذلك ، لأنا نقول : الخطاب مع الموجودين حالة الخطاب ، فقوله : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ } خطاب مع من حَضَر ( وقت ) الإنزال وهم كانوا أجنَّةً ، وخلقوا من الأرض على ما قررناه .
قوله : « أجنة » جمع جنين وهو الحمل في البطن لاستتاره . و « جَنِينٌ ، وأَجِنَّة » كسَرِيرٍ وأَسِرَّةٍ .
فإن قيل : الأجنة هم الذين في بطون الأمهات وبعد الخروج لا يسمى إلا ولداً أو سَقْطاً ، فما فائدة قوله تعالى : { فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } ؟
فالجواب : أن ذلك تنبيه على كمال العلم والقدرة ، فإن بطون الأمهات في غاية الظُّلْمَةِ ومن علم حالَ الجنين فيها لا يخفى عليه ما يظهر من حال العِبَادِ .
قوله : { فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ } قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) - : لا تمدحوها . وقال الحسن : علم الله من كل نفس ما هي صانعة ، وإلى ما هي صائرة { فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ } تُبَرِّئُوها عن الآثَام ولا تمدحوها بحسن أعمالها . وقال الكلبي ومقاتل : كان الناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون : صلاتُنا وصيامُنا وحَجُّنا فأنزل الله هذه الآية . ثم قال : { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى } أيَ برَّ وأَطَاعَ وأَخْلَصَ الْعَمَلَ .
فصل
يحتمل أن يكون هذا خطاباً مع الكفار ، فإنهم قالوا : كيف يعلمنا الله؟ فرد عليهم قولهم ويحتمل أن يكون خطاباً مع كل من كان في زمن الخطاب وبعده من المؤمنين والكفار ، ويحتمل أن يكون خطاباً مع المؤمنين وتقريره أن الله تعالى لما قال فَأَعْرِضْ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا قال لنبيه - عليه الصلاة والسلام - قد علم كونك ومن تَبِعَك على الحق وكون الكفار على الباطل فأعرض عنهم ولا تقولوا نحن على الحق وأنتم على الضلال؛ لأنهم يقابلونكم بمثل ذلك وفوض الأمر إلى الله ، فهو أعلم بمن اتقى ومن طغى .
وعلى هذا قول من قال : « فأعرض » منسوخٌ أظهر ، وهو كقوله تعالى : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] يعني الله أعلم بجملة الأمر .
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)
قوله : { أَفَرَأَيْتَ الذي تولى } لما بين جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر واحداً منهم معيناً بسوء فعله .
قال مجاهد وابن زيد ومقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - على دينه فعيَّره بعض المشركين وقالوا له : تركت دين الأشياخ وضللتهم فقال : إنِّي خَشِيتُ عذاب الله فضمن الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذابَ الله ، فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك المال الذي ضمن ومنعه تمامه ، فأنزل الله { أَفَرَأَيْتَ الذي تولى } أي أدبر عن الإيمان « وأعطى » صاحبه « قَلِيلاً وأَكْدَى » بخل بالباقي . وقال السدي : نزلت في العاصِ بن وائل السّهمّي ، وذلك أنه ربما وافق النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأمور . وقال محمد بن كعب القرظي : نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال : والله ما يأمرنا محمدٌ إلا بمكارم الأخلاق فذلك قوله { وأعطى قَلِيلاً وأكدى } أي لم يؤمن به . ومعنى « أَكْدَى » أي قطع .
قوله : « وَأَكْدَى » أصله من أَكْدَى الحَافِر إذا حَفَرَ شيئاً فصادف كُدْيَةً منعته من الحفر ، ومثله : أَجْبَلَ أي صادف جَبَلاً مَنَعَهُ من الحَفْرِ ، وكَدِيَتْ أَصَابِعُهُ كَلَّتْ من الحفر ، ثم استعمل في كل من طلب شيئاً فلم يصل إليه أو لم يتمِّمه ولمن طلب شيئاً ولم يبلغ آخِرَه . قال الحطيئة :
4560-
فَأَعْطَى قَلِيلاً ثُمَّ أَكْدَى عَطَاؤُهُ ... وَمَنْ يَبْذُلِ المَعْرُوفَ فِي النَّاسِ يُحْمَدِ
ويقال : كَدَى النبتُ إِذا قلّ ريعُهُ ، وكَدَتِ الأَرْضُ تَكْدُو كُدُّوا فهي كَادِيَةٌ إذا أبطأ نباتها . عن أبِي زَيْدٍ .
وأَكْدَيْتُ الرَّجُلَ عن الشيء رَدَدْتُهُ . وأَكْدَى الرَّجُلُ إذَا قَلَّ خَيْرُهُ ، فقوله : { وأعطى قَلِيلاً وأكدى } أي قطع القليل .
و « أَرَأَيْتَ » بمعنى أخبرني . وقوله : « الَّذِي » يعود إلى الوليد ( بنِ المُغِيرة ) قال ابن الخطيب : والظاهر أنه يعود إلى المتولّي في قوله : { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى } [ النجم : 29 ] .
فإن قيل : كان ينبغي أن يقول : الذين تولوا لأن ( مَنْ ) للعموم؟ .
فالجواب : إن العود إلى اللفظ كقوله تعالى : { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ } [ الأنعام : 160 ] ولم يقل : فلهم .
قوله : « فَهُوَ يَرَى » هذه الجملة مترتبة على ما قبلها ترتّباً ظاهراً . وقال أبو البقاء : « فَهُوَ يَرَى » جملة اسمية واقعة موقع الفعلية ، والأصل : أعِنْده علمُ الغيب فَيَرَى ، ولو جاء على ذلك لكان نصباً على جواب الاستفهام ، انتهى . وهذا لا حاجة إليه مع ظهور الترتيب بالجملة الاسمية . وقد تقدم له نظير هذا الكلام والردّ عليه .
ومعنى الآية أعند هذا المُكْدِي علمُ الغيب - أي علم ما غابَ عنه - من العذاب فهو يرى أي يعلم ما غاب عنه من أمر الآخرة وما يكون من أمره حتى يضمن حَمْلَ العذاب عن غيره وكفى بهذا جهلاً بأنه يرى ما غاب عنه ويعلم أن صاحبه يتحمل عنه عذابه .
قوله : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ } أي لم يخبر { بِمَا فِي صُحُفِ موسى } يعني أسفار التوراة و « أم » منقطعة أي بل ألم ينبأ و « ما » في قوله « بِمَا » يحتمل أن يكون المراد جنس ما قبلها أي لم ينبأ بالتوحيد والحشر وغيره . ويحتمل أن يكون عين ما في التوراة لا جنسه . وعلى هذا فالكلام مع أهل الكتاب .
قوله : « وَإِبْرَاهِيمَ » عطف على « موسى » ، أي وصحف إبراهيم ، لقوله في سورة الأعلى : { صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى } [ الأعلى : 19 ] .
وإنما خص هذين النبيين بالذكر ، لأنه كان بين إبراهيم وموسى يؤخذ الرجلُ بجريرة غيره فأول من خالفهم إبراهيم قاله الهذيل بن شُرَحْبِيل . والعامة على وَفَّى بالتشديد . وقرأ أبو أُمامة الباهلي وسعيدُ بن جبير وابن السَّمَيْقَع : وَفَى مخففاً . وقد تقدم أن فيه ثلاثَ لغات . وأطلق التوفية والوفاء ليتناولا كل ما وفى به والمعنى تَمَّ وأكمل ما أُمِرَ به .
قال الحسن وسعيد بن جبير وقتادة : عمل ما أمر به ، وبلغ رسالةَ ربه إلى خلقه . وقال مجاهد : وفى بما فرض عليه . وقال الربيع : وفى رُؤْياه وقام بذبح ابْنه . وقال عطاء الخراساني : استكمل الطاعة . وقال أبو العالية : هو الإتمام في قوله تعالى : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [ البقرة : 124 ] والتوفية الإتمام . وقال الضحاك : وفَّى المناسك . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « إبرَاهِيمُ الَّذِي وَفَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ » .
قوله : { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } « أن » مخففة من الثقيلة واسمها محذوف هو ضمير الشأن و « لاَ تَزِرُ » هو الخبر . وجيء بالنفي لكون الخبر جملة فعلية متصرفة غير مقرونة كما تقدم تحريره في المائدة . و « أن » وما في حيّزها فيها قولان :
أظهرهما : الجر بدلاً من « ما » في قوله { بما في صحف } .
والثاني : الرفع خبراً لمبتدأ مضمر أي ذَلِك أن لا تزرُ أو هو أن لا تزرُ . وهو جواب لسؤال مقدر؛ كأن قائلاً قال : وما في صحفهما؟ فأجيبَ بذلك .
قال شهاب الدين : ويجوز أن يكون نصباً بإضمار « أعني » جواباً لذلك السائل وكل موضع أضمر فيه هذا المبتدأ لهذا المعنى أضمر فيه هذا الفِعل .
فصل
معنى الآية : أنه لا تحمل نفسٌ حِمْلَ أخرى أي لا تُؤخَذُ نفس بإثم غيرها . وفي هذا إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة أن يحمل عنه الإِثم .
وروى عكرمة عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) قال : كانوا قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام يأخذون الرجل بذنب غيره وكان الرجل يُقْتَلُ بقَتْل أبيه وابنه وأخواته حتى جاءهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام فنهاهم عن ذلك وبلغهم عن الله عز وجل أن لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخْرى .
فإن قيل : الآية مذكورة لبيان أن وِزْرَ الرجل لا يحمل عنه وبهذا الكلام لا تحصل هذه الفائدة ، لأن الوَازِرَةَ تكون مثقلةً بوِزْرِها وكل أحد يعلم أنها لا تحمل شيئاً فلو قال : لا تحمل فارغة وزر أخرى كان أبلغ .
فالجواب : أن المراد من الوَازِرَةِ هي التي يتوقع منها الوزر والحمل لا التي وَزَرت وحَمَلَتْ .
ونقل القرطبي عن أبي مالك الغِفاريّ قال : قوله تعالى : { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } إلى قوله : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكَ تتمارى } في صحف إبراهيم وموسى .
قوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } أن هي المخففة أيضاً ولم يفصل هنا بينها وبين الفعل لأنه لا يتصرف . ومحلها الجر أو الرفع ، أو النصب لعطفها على ( أن ) قبلها ، وكذلك محل : « وَأَنَّ سَعْيَهُ » . و « يُرَى » مبني للمجهول ، فيجوز أن تكون من البَصَرِية أي يُبْصَر ، وأن تكون من العِلْميَّة فيكون الثاني محذوفاً أي يرى حاضراً . والأول أوضح .
وقال مكي : وأجاز الزجاج : يَرَى بفتح الياء على إضمار الهاء؛ أي سَوْفَ يَرَاهُ ولم يُجِزْهُ الكوفيُّونَ لأن « سعيه » يصير قد عمل فيه أنّ ، و « يَرَى » . وهو جائز عند المبرِّد وغيرِهِ؛ لأنَّ دخولَ « أنّ » على « سَعْيَهُ » وعملها فيه ، يدل على الهاء المحذوفة مِنْ « يُرَى »؛ وعلى هذا جوز البصريون : إنَّ زيداً ضَرَبْتَ بغير هاء .
قال شهاب الدين : وهو خلاف ضعيف توهموا أن الاسم توجه عليه عاملانِ مختلفان في الجنسية ، لأن رأي بعضهم أن يعمل فِعْلاَنِ في معمول واحد ، ومنه باب التنازع في بعض صوره ، نحو : قَامَ وقَعَدَ زَيْدٌ وضَرَبْتُ وأكرمْتُ عَمْراً وأن يعمل عامل واحد في اسم وفي ضميره معاً نحو : زَيْداً ضَرَبْتُهُ في باب الاشتغال . وهذا توهم باطل؛ لأنا نقول : سَعْيَهُ منصوب « بأَنَّ » و « يُرَى » متسلط على ضميره المقدر فظاهر هذا أنه لم يقرأ به .
وقد حكى أبو البقاء أنه قرىء به شاذًّا ، ولكه ضعفه من جهة أخرى فقال : وقرىء بفتح الياء ، وهو ضعيف؛ لأنه ليس فيه ضمير يعودُ على اسم أنَّ وهو السَّعْي والضمير الذي فيه الهاء فيبقى الاسم بغير خبر وهو كقولك : إنَّ غُلاَمَ زَيْدٍ قَامَ وأنت تعني قام زيد ، فلا خبر « لغُلاَمٍ » .
وقد وُجِّه على أن التقدير سوف يَرَاهُ فتعود الهاء على السَّعي . وفيه بعد . انتهى .
قال شهاب الدين : وليت شعري كيف توهم المانع المذكور وكيف نظّره بما ذكر؟! ثم أي بعد في تقدير سوف يَرَى سَعْي نَفْسِهِ؟! وكأنه اطلع على مذهب الكوفيين في المنع إلا أن المُدْرَكَ غير المُدْركِ .
قوله : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } أي عَمِل ، كقوله : { إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى } [ الليل : 4 ] . وهذا أيضاً في صُحُف إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى . قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) - هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة بقوله : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [ الطور : 21 ] فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء .
وقال عكرمة : كان ذلك لقَوم إبراهيم وموسى أما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم لِمَا « رُوِيَ أن امرأةً رَفَعَتْ صبيًّا لها فقالت يا رسول الله : ألهذا حَجٌّ؟ قال : نعم ، ولكِ أجرٌ » .
«
وقال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن أمّي قَتَلَتْ نفسها فهل لها أجر إن تصدّقت عنها؟ قال : نعم » .
قال الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن تَيْمِيةَ : من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع وذلك باطل من وجوه كثيرة :
أحدها : أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير .
الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها ، ثم لأهل الكبائر في الإخراج من النار ، وهذا انتفاع بسعي الغير .
الثالث : أن كل نبي وصالح له شفاعة وذلك انتفاع بعمل الغير .
الرابع : أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض وذلك منفعة بعمل الغير .
الخامس : أن الله يُخْرج من النار من لم يعمل خيراً قطّ بمَحْض رحمته . وهذا انتفاع بغير عملهم .
السادس : أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم وذلك انتفاع بمَحْضِ عَمَل الغَيْرِ .
السابع : قال تعالى في قصة الغلامين اليتمين : { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } [ الكهف : 82 ] . فانتفعا بصلاح أبيهما وليس هو من سعيهما .
الثامن : أن الميت ينتفع بالصدقة عنه ، وبالعِتْق بنصِّ السّنة والإجماع ، وهو من عمل غيره .
التاسع : أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وَلِيِّه بِنَصِّ السُّنَّة وهو انتفاع بعمل الغير .
العاشر : أن الصوم المنذور والحجَّ المنذور يسقط عن الميت بعَمَلِ غيره بنص السنة وهو انتفاع بعمل الغير الذي امتنع عليه الصلاة والسلام من الصلاة عليه حتى قضى دينَهُ أبو قَتَادَةَ ، وقضى دَيْنَ الآخر عليُّ بن أبي طالب قد انتفع بصلاة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وبردت جلدته بقضاء دينه وهو من عمل الغير .
الحادي عشر : أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - « قال لمن صلَّى وحده : ألا رجل يتصدق على هذا الرجل فيصلي معه فقد حصل له فضل الجماعة بفضل الغير » .
الثاني عشر : أن الإنسان تبرأ ذمته من ديوان الخَلْق إذا قضاها قاض عنه وذلك انتفاع بعمل غيره .
الثالث عشر : أن من عليه تبعاتٌ ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه وهذا انتفاع بعمل غيره .
الرابع عشر : أن الجار الصالح ينفع في المحيا والممات كما جاء في الأثر ، وهذا انتفاع بعمل الغير .
الخامس عشر : أن جليسَ أهلِ الذكر يرحم بهم وهو لم يكن منهم ، ولم يجلس لذلك بل لحاجةٍ عَرَضَتْ له والأعمال بالنيات فقد انتفع بعمل غيره .
السادس عشر : الصَّلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحي عليه وهو عمل غيره .
السابع عشر : أن الجُمعَة تحصل باجتماع العدد ، وكذلك الجماعة بكثرة العدد وهو انتفاع للبعْضِ بالبَعْضِ .
الثامن عشر : أن الله قال لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] وقال : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ } [ الفتح : 25 ] وقال { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } [ الحج : 40 ] فقد دفع الله العذاب عن بعض الناس بسبب بعض وذلك انتفاع بعمل الغير .
التاسع عشر : أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن الرجل ينفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي له .
العشرون : أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون ويثاب على ذلك ولا سعي له ، ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى فكيف يجوز أن يتناول الآية على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة؟! .
والمراد بالإنسان العُمُوم .
وقال الربيع بن أنس : ليس للإنسان - يعني الكافر - وأما المؤمن فله ما سعى وما سُعي له . وقيل : ليس للكافر من الخير إلا ما عمله يثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير .
ويروى : أن عبد الله بن أبي ( ابن سلول ) كان أعطى العَبَّاس قميصاً ألبسه إياه فلما مات أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قميصه ليكفن فيه فلم يبق له حسنةٌ في الآخرة يُثَابُ عَلَيْهَا .
وقوله : { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى } أي يرى في ميزانه يوم القيامة من أَرَيْتُهُ الشيءَ أي يعرض عليه ويكشف له .
فإن قيل : العمل كيف يرى بعد وُجوده ومُضِيِّه؟! .
فالجواب من وجهين :
أحدهما : يرى على صورة جميلة إن كان العملُ صالحاً .
الثاني : قال ابن الخطيب : وذلك على مذهبنا غير بعيد ، فإن كلّ موجود يَرَى الله والله قادر على إعادة كل ما عُدِمَ فبعد الفعل فيرى . ووجه آخر وهو أن ذلك مجاز عن الثواب كقولك : « سترى إحسانك » أي جزاءه . وفيه نظر؛ لقوله بعد ذلك : { ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزآء الأوفى } .
قوله : « ثُمَّ يُجْزَاهُ » يجوز في الضمير وجهان :
أظهرهما : أن الضمير المرفوع يعود على الإنسان والمنصوب يعود على « سَعْيهُ » والجزاء مصدر مبيِّن للنوع .
والثاني : قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير للجزاء ، ثم فسره بقوله : « الجَزَاءَ » ، أو أبدله منه كقوله : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] .
قال أبو حيان : وإذا كان تفسيراً للضمير المنصوب في « يُجْزَاهُ » فعلى ماذا يَنْتَصِبُ؟ وأما إذا كان بدلاً فهو من بدل الظاهر من المُضْمَر .
وهو مسألة خلاف . والصحيح المنعُ .
قال شهاب الدين : العجب كيف يقول : فعلى ماذا ينتصب؟ وانتصابه من وجهين :
أظهرهما : أن يكون عطف بيان وعطف البَيَان يصدق عليه أنه مفسِّر . وهي عبارة شائعة .
الثاني : أن ينتصب بإضمار « أعْني » وهي عبارة شائعة أيضاً يسمون مثل ذلك تفسيراً .
وقد منع أبو البقاء أن ينتصب « الجَزَاءَ الأَوْفَى » على المصدر فقال : « الجَزَاءَ الأَوْفَى » هو مفعول « يُجْزَاهُ » وليس بمصدر؛ لأنه وصفه بالأَوْفَى وذلك من صفة المجزيّ به لا من صفة الفِعْلِ .
قال شهاب الدين : وهذا لا يبعد عن الغَلَط؛ لأنه يلزم أن يتعدى « يُجْزَى » إلى ثلاثة مفاعيل؛ لأن الأول قام مقام الفاعل والثاني « الهاء » التي هي ضمير السعي ، والثالث « الجزاء الأوفى » . وأيضاً فكيف ينتظم المعنى؟ وقد يجاب عنه بأنّه أراد أنه بدل من الهاء ، كما تقدَّم عن الزمخشَريِّ .
ويصح أن يقال : هو مفعول « يُجْزَاه » فلا يتعدى لثلاثة حينئذ إلا أنه بعيدٌ عن غرضِهِ . ومثل هذا إلْغَازٌ .
وأما قوله : « وَالأَوْفَى ليس من صفات الفعل » ممنوعٌ ، بل هو من صفاته مجازاً ، كما يوصف المجزيّ به مجازاً فإن الحقيقة في كليها منتفيةٌ وإنما المتصف به حقيقة المجازى .
وقال ابن الخطيب : والجزاء يتعدى إلى مفعولين ، قال تعالى : { وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً } [ الإنسان : 12 ] ويقال جزاك الله خيراً ، ويتعدى إلى ثلاثة مفاعيل بحرف الجر ، فيقال : جَزَاهُ الخَيْرَ عَلَى عَمَله الجَنَّة ، وقد يحذف الجار ويوصل الفعل ، فيقال : جَزَاهُ الخَيْرَ عَمَلَه الجَنَّة .
فصل
والمُرَادُ بالجَزَاء الأوفى : الأكمل والأتمَّ أي يُجْزَى الإِنسانُ سَعْيَهُ؛ يقال : جَزَيْتُ فلاناً سَعْيَهُ وبِسَعْيِهِ قال الشاعر :
4567-
إنْ أَجْزِ عَلْقَمَةَ بْنَ سَعْدٍ سَعْيَهُ ... لَمْ أَجْزِهِ بِبَلاَءِ يَوْمٍ وَاحِدِ
فجمع بين اللغتين .
قال ابن الخطيب : والجزاء الأوفى يليق بالمؤمنين الصالحين؛ لأن جزاء الصالح وافرٌ ، قال تعالى : { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } [ الإسراء : 63 ] وذلك أن جهنم ضررها أكثر من نفع الآثام ، فهي في نفسها أوفى . فإن قيل : « ثُمَّ » لتراخي الجزاء أو لتراخي الكلام أي ثم نقول يُجْزَاهُ؟ فإن تكان لتراخي الجزاء فكيف يُؤَخَّر الجزاء عن الصالح وقد قلت : إن الظاهر أن المراد منه الصالحون؟! .
نقول : الوجهان محتملان وجواب السؤال أن الوصف بالأوفى يدفع ما ذكرت؛ لأن الله تعالى من أوّل زمان يتوبُ الصالح يجزيه خيراً ويؤخِّر له الجزاء الأوفى وهي الجنَّة .
أو نقول : الأوفى إشارة إلى الزيادة فصار كقوله تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى } [ يونس : 26 ] وهي الجنة { وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] وهي الرؤية ، فكأنه تعالى قال : وأنَّ سعيه سوف يرى ثم يرزقُ الرؤيةَ . وهذا الوجه يليق بتفسير اللفظ ، فإن الأوفى مطلقٌ غير مبيّن ، فلم يقل : أوفى من كذا فينبغي أن يكون أوفى من كل وافٍ ولا يتصف به غير رؤية الله تعالى .
فصل
قال في حق المسيء : لاَ تزِرُ وَازِرَةٌ ( وِزْرَ أُخْرَى ) وهو لا يدل إلا على عدم الحمل عن الوَازرة ، ولا يلزم من ذلك بقاء الوِزر عليها من ضَرُورة اللفظ؛ لجواز أن يسقط عنها ، ويمحو الله ذلك الوِزر ، فلا يبقى عليها ولا يحمل عنها غيرُها ، ولو قال : لا تَزِرُ ( وَازِرَةٌ ) إلا وزر نفسها لكان من ضرورة الاستثناء أنها تزر . وقال في حق المحسن : { لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } ولم يقل : ليس له ما لم يَسْعَ؛ لأن العبارة الثانية ليس فيها أن له ما سعى وفي العبارة الأولى أن له ما سعى نظراً إلى الاستثناء فقال في حق المسيء بعبارة لا تقطع رجاءَه ، وفي حق المحسن بعبارة تقطع خوفه ، وكل ذلك إشارةٌ إلى سَبْق الرحمةِ الغَضَبَ .
قوله [ تَعَالَى : ] { وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى } العامة على فتح همزة « أَنَّ » وما عطف عليها بمعنى أن الجميع في صحف مُوسَى وإِبْرَاهِيمَ .
وقرأ أبو السَّمَّال بالكسر في الجميع على الابتداء ومعنى الآية : إن منتهى الخَلْق ومصيرَهم إليه فيجازيهم بأعمالهم . وقيل : منه ابتداء المنَّة وإليه انتهاء الآمَال . وروى أو هريرةَ مرفوعاً : تَفَكَّرُوا فِي الخَلْق وَلاَ تَفَكَّرُوا في الخَالِقِ ، فَإن اللَّه لاَ يُحِيطُ بِهِ الفِكْرُ .
قال القرطبيُّ : ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام : « يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ : مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ ولْيَنْتَهِ » ولهذا أحسن من قال ( رحمة الله عليه ورضاه ) ( شعْراً ) :
4568-
وَلاَ تُفَكِّرَنْ فِي ذَا العُلاَ عَزَّ وَجْهُهُ ... فَإِنَّكَ تُرْدَى إنْ فَعَلْتَ وتُخْذَلُ
وَدُونَكَ مَصْنُوعاتِهِ فَاعْتَبِرْ بِها ... وَقُلْ مِثْلَ مَا قَالَ الخَلِيلُ المُبَجَّلُ
وقيل : المراد من هذه الآية التوحيد .
وفي المخاطب وجهان :
أحدهما : أنه عام تقديره إلى ربك أيها السامع أو العاقل .
والثاني : أنه خطاب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلى الأولى يكون تهديداً وعلى الثاني يكون تسليةً لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فعلى الأولى أيضاً تكون اللام في « المُنْتَهَى » للعهد الموعود في القرآنِ .
وعلى الثاني تكون للعموم أي إلى ربك كُلُّ مُنْتَهى .
فإن قيل : فعلى هذا الوجه يكون مُنْتَهًى ، وعلى الأول يكون « مُبْتدًى » .
فالجواب : منتهى الإدراكاتِ والمُدْرَكَاتِ فإن الإنسان أولاً يُدْرِك الأشياء الظاهرة ثم يُمْعِنُ النظر فينتهي إلى الله فيقف عنده .
قوله : { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى } ( أضحك وأبكى ) ما بعده هذا يسميه البيانيون الطِّباق والتضاد وهو نوع من البديع ، وهو أن يذكر ضِدّان أو نقيضان أو متنافيان بوجه من الوجوه .
و « أَضْحَك وَأَبْكَى » لا مفعول لهما في هذا الموضع؛ لأنها مسوقة لقدرة الله تعالى لا لبيان المقدور ، فلا حاجة إلى المفعول كقول القائل : فُلاَنٌ بِيَدِهِ الأخذُ والعَطَاءُ يُعْطِي ويمنع ولا يريد ممنوعاً ومُعْطًى .
فصل
اختار هذين الوصفين المذكورين لأنهما أمران لا يُعَلَّلان ، فلا يقدر أحد من الطَّبِيعِيّينَ أن يُبْدِيَ في اختصاص الإنسان بالضَّحكِ والبكاء وجهاً وسبباً وإذا لم يعلل بأمر ، فلا بد له من موجد فهو الله بخلاف الصِّحة والسَّقَم ، فإِنهم يقولون : سببهما اعتلالُ المِزاج وخروجُه عن الاعْتِدَال .
ومما يدل على ما ذكرنا أنهم عللوا الضحك قالوا : لقوة التعجب وهو باطل ، لأن الإنسان ربما يبهت عند رؤية الأمور العَجِيبة ولا يضحك . وقيل : لقوة الفرح؛ وليس كذلك؛ لأن الإنسان قد يبكي لقوة الفرح كما قال بعضهم ( شعراً )
4569-
هَجَمَ السُّرُورُ عَليَّ حَتَّى إنَّنِي ... مِنْ عِظَمِ ما قَدْ سَرَّنِي أَبْكَانِي
وأيضاً فالذي يحزن غايةَ الحزن قد يضحك وقد يخرج الدمع من العين عند أمور مخصوصة لا يقدرون على تعليلها بتعليل صحيحٍ .
وأيضاً عند الخواص كالتي في المَغْنَاطيس وغيره ينقطع الطبيعيّ كما ينقطع هو والمهندس الذي لا يُفَوِّضُ أمره إلى قدرة الله وإرادته عند أوضاع الكواكب .
فصل
إِذا قيل : بأن المراد بقوله تعالى : { إلى رَبِّكَ المنتهى } إثبات الوَحْدانية فهذه الآيات مبيِّنَات لمسائل يتوقف عليها الإسلام من جملتها قدرة الله تعالى ، فإن من الفلاسفة من يقول : بأنَّ الله المنتهى وأنه واحد لكن يقول : بأنه موجب لا قادر فقال تعالى : هو أَوْجَدَ ضِدَّين الضَّحِكَ والبُكَاءَ في مَحلٍّ واحد على التعاقب والتراخي ، والموت والحياة ، والذُّكُورَة والأنوثة في مادة واحدة ، وذلك لا يكون إلا من قادرٍ يعترف به كُلُّ عاقل .
وإن قيل : بأن المراد بالمنتهى بيانُ المعاد فهو إشارة إلى أن الإنسان كما كان في الدنيا في بعض الأمور ضاحكاً وفي بعضها باكياً محزوناً كذلك في الآخرة .
فصل
هذه الآية تدل على أن كل مَا يَعْمَلُهُ الإنسان فبقضاء الله وخَلْقِهِ حتى الضَّحك والبكاء قال مجاهد والكلبي : أضحك أهل الجنة في الجنة وأبكى أهل النار في النار ، وقال الضحاك : أضحك الأرضَ بالنبات ، وأبكى السماءَ بالمَطَر ، وقال عَطَاءُ بن أبي مسلم : يعني أفرح وأحزن؛ لأن الفرح يجلب الضَّحك والحزن يجلب البكاء .
فصل
«
روى مسلمٌ عن عائشةَ - ( رضي الله عنها ) - قالت : والله ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الميت ليعذب ببكاءِ أهله ، ولكنه قال : إن الكافر يزيده اللَّهُ ببكاءِ أهلهِ عذاباً ، وإن الله لهو أضحك وبكى ، وَمَا تزر وازرة وزر أخرى » .
وعنها قالت : « مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على قومٍ من أصحابه وهم يضحكون فقال : لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً ولَبَكَيْتُمْ كَثِيراً ، فنزل جبريل - عليه الصلاة والسلام - فقال يا محمد : إن الله يقول لك : إنه هو أضحك وأبكى فَرَجَعَ إليهم فقال : ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال : إيت هؤلاء فقل لهم إن الله يقول : هُوَ أضحك وأبكى »
أي قضى أسباب الضَّحِك والبكاء .
وقال بَسَّامُ بن عبد الله : أضحك أسنانهم وأبكى قلوبهم ، وأنشد [ رحمه الله ] :
4570-
السِّنُّ تَضْحَكُ وَالأَحْشَاءُ تَحْتَرق ... وَإِنَّمَا ضِحْكُها زُورٌ ومُخْتَلَقُ
يَا رُبَّ بَاكٍ بِعَيْنٍ لاَ دُمُوعَ لَهَا ... وَرُبَّ ضَاحِكِ سِنٍّ مَا بِهِ رَمَقُ
قيل : إن الله تعالى خص الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوانات . وقيل : إن القِرْدَ وَحْدَهُ يضحك ولا يبكي ، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك . وقال يوسف بن الحسين : سئل طاهر المَقْدِسيُّ : أَتَضْحَكُ المَلاَئِكَةُ؟ فقال : ما ضَحِكُوا ولا كُلّ مَنْ دُون العَرْشِ .
قوله تعالى : { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } أي أمات في الدُّنْيَا ، وأحيا للبعث . وقال القرطبي : قضى أسباب الموت والحياة . وقيل : خَلَقَ الموت والحياة . قاله ابن بحر . وقيل : أمات النُّطْفَة وأحيا النَّسمة ، وقيل : أمات الآباء وأحيا الأبناء . وقيل : أمات الكافر بالكفر ، وأحيا المؤمن بالإيمان .
قال ابن الخطيب : فإن قيل : معنى أمات وأحيا حتى يعلم ذلك بل مشاهدة الإحياء والإماتة بناء على الحياة والموت؟ .
نقول : فيه وجوه :
أحدها : أنه على التقديم والتأخير كأنه قال : أَحْيَا وَأَمَاتَ .
ثانيها : هو بمعنى المستقبل ، فإن الأمرَ قريبُ المُسْتَقْبل ، يقال : كَأنّ فلاناً وصل والليلُ دَخَلَ ، إذا قرب مكانه وزمانه فكذلك الإحياء والإماتة .
ثالثها : أنه خلق الموت والجمود في العَنَاصر ثم ركَّبها و « أَحْيَا » أي خلق الحِسَّ والحركة فيها .
قوله : { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى } أي من كل حيوان . ولم يرد آدمَ وحوّاء؛ لأنهما ما خُلقا من نطفة . وهذا أيضاً من جملة المتضادات الواردة على النطفة ، فبعضها يخلق ذكراً وبعضها يخلق أنثى ، ولا يصل إليه فهم الطَّبِيعِيّ ، والذي يقولونه من البرد والرطوبة في الأنثى فرُبَّ امرأةٍ أحر وأَيْبَسُ مزاجاً من الرّجُل .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : { وَأَنَّهُ خَلَقَ } ولم يقل : « وأَنَّهُ هُوَ خَلَقَ » كما قال : { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى } ؟
فالجواب : أن الضحك والبكاء ربما يتوهم أنه بفعل الإنسان ، والإماتة والإحياء وإن كان ذلك التوهم أبعد لكن ربما يقول به جَاهلٌ كما قال من حَاجَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام { قَالَ أَنَاْ أُحْيِي وَأُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] فأكد ذلك بالفصل . وأما خلق الذكر والأنثى من النطفة فلا يتوهم أحدٌ أنه بفعل واحدٍ من الناس ، فلم يؤكد بالفصل ، ألا ترى إلى قوله : { وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى } حيث كان الإغناء عندهم غيرَ مسند إلى الله ، وكان في معتقدهم أن ذلك بفعلهم كما قال قارون : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا } [ القصص : 78 ] وكذلك قال : { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى } فأكد في مواضع استبعادهم إلى الإسناد ولم يؤكد في غيره .
واختلفوا في الذكر والأنثى هل هما اسمان وهما صفةٌ؟ أو اسمان ليسا بصفة؟ فالمشهور عند أهل اللغة أنهما اسمان ليسا بصفةٍ .
قال ابن الخطيب : والظاهر أنهما من الأسماء التي هي صفات فالذكر كالحَسَنِ ، والأنثى كالحُبْلَى والكُبْرَى .
قوله : { مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى } أي تُصَبُّ في الرَّحِمِ؛ يُقَالُ : مَنَى الرَّجُلُ وأمْنَى . قاله الضحاك وعطاء بن أبي رباح .
وقيل : تقدر ، يقال : مَنَيْتُ الشَّيْءَ إذا قَدَّرْتهُ . وهذا أيضاً تنبيه على كمال القدرة ، لأن النطفة جسم متناسب الأجزاء يخلق اللَّهُ منها أعضاء مختلفةً ، وطباعاً متباينةً ، وخلق الذكر والأنثى منها أعجب ما يكون ، ولهذا لم يَقْدِرِ أحد على أن يَدَّعِيَهُ كما لم يَقْدِر على أن يَدَّعِيَ خلق السموات ، ولهذا قال تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] .
قوله : { وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى } أي الخلق الثاني للبعث يوم القيامة . قال ابن الخطيب : يحتمل أن يكون المراد من قوله : { وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى } هو نفخ الروح الإنسانية فيه كما قال تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } [ المؤمنون : 13 و 14 ] أي غير خلق النطفة علقة ، والعلقة مضغة ، والمضغة عظاماً . وبهذا الخلق الآخر وهو نفخ الروح تميز الإنسان عن أنواع الحيوانات فكما قال هناك : { أنشأناه خلقاً آخر } بعد خلق النطفة قال ههنا : { وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى } فجعل خلق الروح نشأةً أخرى كما جَعَلَه هناك إِنشاءً آخَرَ .
فإن قيل : الإعادة لا تجب على الله ، فما معنى قوله تعالى : « وأنَّ عَلَيْهِ »؟
فالجواب على مذهب المعتزلة يجب عليه عقلاً ، فإن الجزاء واجب ، وذلك لا يتم إلا بالحشر فتجب الإعادة عليه عقلاً ، وأما على مذهب أهب السنة ففيه وجهان :
الأول : « عَلَيْهِ » بحكم الوعد ، فإنه قال : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى } [ يس : 12 ] « فَعَلَيْهِ » بحكم الوعد لا بالعقل ولا بالشَّرْع .
الثاني : « عليه » بحكم التعيين ، فإن من حَضَرَ بين جمع وحاولوا أمراً وعجزوا عنه ، يقال له : وَجَبَ عَلَيْكَ إِذَنْ أنْ تَفْعَلَه أي تَعَيَّنْتَ لَهُ .
فصل
قرىء النَّشْأَةَ على أنه مصدر كالضَّرْبَةِ على وزن فَعْلَةٍ وهي المَرَّة يقال : ضَرْبَةٌ وضَرْبَتَانِ يعني النشأة مرة أخرى عليه . وقرىء النَّشاءة - بالمد - على أنه مصدر على وزن فَعَالَةٍ ، كالكَفَالَةِ . وكيفما قُرِىءَ فهي من « نَشَأَ » ، وهو لازمٌ .
قوله : { وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى } قال أبو صالح : « أغنى » الناسَ بالأَمْوَالِ « وأقنى » أعطى القُنيَةَ وأصول الأموال وما يَدَّخِرُونَه بعد الكِفاية .
وقال الضحاك : « أغنى » بالذهب والفضة ، وصنوف الأموال ، « وأقنى » بالإبل والبَقَر والغنم ، وقال الحسن وقتادة : أخْدَمَ . وقال ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) أغْنَى وأَقْنَى أَعْطَى فَأَرْضَى . وقال مجاهد ومقاتل : أرضى بما أعطى وقنع . وقال الراغب : وتحقيقه أنه جعل له قنيةً من الرِّضا .
وقال سُلَيْمَان التَّيْميّ : أغنى نفسه وأفقر خلقه إِليه . وقال ابن زيد : « أغنى » أكثر « وأقنى » أقلَّ ، وقرأ : { يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } [ الإسراء : 30 ] .
وقال الأخفش : « أقنى » : أفقر . وقال ابن كيسان : أوْلَدَ . قال الزمخشري : « أقنى » أعطى القُنْيَةَ ، وهي المال الذي تأثَّلْته وعزمت أن لا يخرج من يدك . وقال الجَوْهَرِيُّ : « قَنِيَ الرجلُ يَقْنَى قِنًى » مثل « غَنِيَ يَغْنَى غِنًى » ، ثم يتعدى بتغيير الحركة فيقال : قَنيتُ مالاً أي كَسَبْتُهُ ، وهو نظير : شَتِرَتْ عَيْنُه - بالكسر - وشَتَرَها اللَّهُ - بالفتح - فإذا أدخلت عليه الهمزة أو التضعيف اكتسب مفعولاً ثانياً فيقال : أَقْنَاهُ اللَّهُ مالاً ، وقناه إياه أي أكْسَبَهُ إيَّاه ، قال الشاعر :
4571-
كَمْ مِنْ غَنِيٍّ أَصَابَ الدَّهْرُ ثَرْوَتَهُ ... وَمِنْ فَقِيرٍ تَقَنَّى بَعْدَ إِقْلاَلِ
أي تقنى مالاً ، فحذف ( المفعول الثاني ) . وحذف مفعولا « أغنى وأقنى »؛ لأن المراد نسبةُ هذيْنِ الفعلين إليه وحْدَهُ ، وكذلك في باقيها ، وألف « أقنى » عن ياءٍ ، لأنه من القِنْية؛ قال :
4572-
ألاَ إنَّ بَعْدَ العُدْمِ لِلْمَرْءِ قِنْيَةً ... ويقال : قَنِيتُ كَذَا وأَقْنَيْتُهُ ، قال :
4573- . . ...
قَنِيتُ حَيَائِي عِفَّةً وتَكَرُّمَا
قوله تعالى : { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى } والشِّعْرَى في لسان العرب كوكبان يسمى أحدهما الشعرى العبور وهو المراد في الآية الكريمة ، فإِنَّ خُزَاعَةَ كانت تعبدها ، وسن عبادتها أبو كبشة رجلٌ من سادتهم فعبدها وقال : لأن النجوم تقطع السماء عَرْضاً والشِّعْرى تقطعها طولاً فهي مخالفة لها فعبدتها خُزَاعَةُ وحِميرُ وأبو كبشة أحد أجداد النبي - صلى الله عليه وسلم - من قِبَل أمهاته ، وبذلك كان مشركو قريش يُسمونَ النبي - صلى الله عليه وسلم - : ابن أبي كبشة حين دعا إلى الله ، وخالف أدْيَانَهُمْ ، فكانت قريشٌ تقولُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ابْنَ أبي كبشة تشبيهاً بذلك الرجل في أنه أحْدَثَ ديناً غيرَ دِينهِمْ .
والشِّعرى العبور تطلع بعد الجوْزَاء في شدة الحر ويقال لها : مرزم الجوزاء وتسمى كلب الجبار ، ويسمى الشعرى اليمانية والثاني الشعرى الغُمَيْصَاء ، وهي التي في الذّراع والمجرة بينهما وتسمى الشامية ، وسبب تسميها بالغميصاء - على ما زعمت العرب في بعض خرافاتها - أنهما كانتا أختين لسُهَيْل فانحدر سُهَيْلٌ إلى اليمن فاتبعته الشّعرى العَبُور فعبرت المجرة فسُمِّيَت العبور ، وأقامت الغميصاءُ تبكي لفَقْدِهِ ، حتى غمصت عينها ، ولذلك كانت أخفى من العبور . وقد كان من لا يعبد الشِّعرى من العرب يعلمها ويعتقد تأثيرها في العالم قال :
4574-
مَضَى أَيْلُولُ وَارْتَفَعَ الحَرُورُ ... وَأَخْبَتْ نَارَها الشِّعْرَى العَبُورُ
فصل
وهذا الآية إشارة إلى فساده قولِ قوم آخرين؛ لأن بعض الناس يذهب إلى أن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده ، فمن كسب استغنَى ، ومن كسل افْتَقَرَ ، وبعضهم يذهب إلى أن ذلك بسبب الطالع وذلك بالنجوم فقال : هو أغنى وأقنى وإن قال قائل : إن الغنى بالنجوم فيقال : هو رَبّ النجوم ومُحَرِّكُها لقوله تعالى : { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى } لإنكارهم ذلك أُكِّد بالفصل .
قوله : { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى } اعلم أن هذه الآية الكريمة من أشكل الآيات نقلاً وتوجيهاً .
قال شهاب الدين ( رحمه الله ) : وَقَد يَسَّرَ الله تعالى تحرير ذلك بحَوْله وقوّته فأقول : إن القراء اختلفوا في ذلك على أربع رتب :
إِحْدَاها : قرأ ابن كثير وابنُ عامر والكوفيون « عَادٍ الأُولَى » بالتنوين مكسوراً وسكون اللام وتحقيق الهمزة بعدها . هذا كله في الوصل ، فإِذا وقفوا على « عَادٍ » ابتدأوا ب « الأولى » فقياسهم أن يقولوا الأولى بهمزة الوصل وسكون اللام وتحقيق الهمزة .
الثانية : قرأ قالون : عَاداً لُّؤْلَى بإدغام التنوين في اللام ونقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وهمز الواو هذا في الوصل ، وأما في الابتداء ب « الأولى » فله ثلاثة أوجه :
الأول : الُؤْلَى - بهزة وصل ثم بلام مضمومة ثم بهمزة ساكنة .
الثاني : لُؤْلَى - بلام مضمومة ، ثم بهمزة ساكنة .
الثالث : كابتداء ابن كثير ومن معه .
الثالثة : قرأ ورشٌ عاداً لُّولى بإدغام التنوين في اللام ونقل حركة الهمزة إليها كقالون ، إلا أنه أبقى الواو على حالها غير مبدلةٍ همزةً . هذا ( كله ) في الوصل وأما في الابتداء فله وجهان الُؤْلَى بالهمزة والنقل ، ولُولَى بالنقل دون همزة وصل . والواو ساكنة على حالها في هذين الوجهين .
الرابعة : قرأ أبو عمرو كورشٍ وصلاً وابتداءً سواءً بسواءٍ إلاّ أنه يزيد عليه في الابتداء بوجه ثالث وهو وجه ابن كثير وَمَنْ مَعَهُ .
فقد تحصل أن لكل من قالون وأبي عمرو في الابتداء ثلاثةَ أوجهٍ وأن لورشٍ وَجْهَيْنِ؛ فتأمل ذلك ، فإنَّ تحريره ضعيفُ المأخذ من كتب القراءات .
وأما توجيهها فيتوقف على معرفة ثلاثة أصول :
الأول : حكم التنوين إذا وقع بعده ساكن .
الثاني : حكم حركة النقل .
الثالث : أصل « أولى » ما هو .
أما الأول فحكم التنوين الملاقي أن يكسر لالتقاء الساكنين نحو : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٍ اللَّهُ } [ الإخلاص : 1 - 2 ] أو يحذف تشبيهاً بحرف العلة كقراءة : { أَحدُ اللَّهُ الصَّمَدُ } وكَقَوْلِهِ :
4574-
وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاَ ... وهو قليل جداً . وقد مضى تحقيقه .
وأما الثاني : فإن للعرب في الحركة المنقولة مذهبين الاعتداد بالحركة ، وعدم الاعتداد بها وهي اللغة الغالبة .
وأما الثالث : فأُولَى تأنيث « أَوَّل » . وقد تقدم الخلاف في أصله في : « أَوَّل » فليُلْتَفَتْ إليه .
إذا تقررت هذه الأصول الثلاثة فأقول :
أما قراءة ابن كثير ومن معه فإنهم صرفوا « عاداً » إمّا لأنه اسم للحيّ أو الأب فليس فيه ما يمنعه ، وإمَّا لأنه وإن كان مؤنثاً اسماً للقبيلة أو الأم إلا أنه مثل هنْد ودَعْد ، فيجوز فيه الصرف وعدمه فيكون كقوله :
4576-
لَمْ تَتَلَفَّعْ بِفَضْلِ مِئْزرِهَا ... دَعْدٌ ولم تُسْقَ دَعْدُ فِي العُلَبِ
فصرفها أولاً ومنعها ثانياً .
ولم ينقلوا حركة الهمزة إلى لام التعريف فالتقى ساكنان فكسروا التنوينَ لالتقائهما على ما هو المعروف من اللّغتين . وحذفوا همزة الوصل من الأولى للاستغناء عنها بحركة التنوين وصلاً ، فإذا ابتدأوا بها احتاجوا إلى همزة الوصل فأتوا بها ، فقالوا « الاولى » كنظيرها من همزات الوصل ، وهذه قراءة واضحة لا إشكال فيها ومن ثم اختارها الجَمُّ الْغَفيرُ .
وأما قراءة من أدغم التنوين في لام التعريف - وهما نافع وأبو عمرو - مع اختلافهما في أشياء كما تقدم فوجهه الاعتدادُ بحركة النقل ، وذلك أن من العرب من إذا نقل حركة الهمزة إلى ساكن قبلها كَلاَم التعريف عَامَلَها مُعَامَلَتَها ساكنةً ، ولا يعتدُّ بحركة النقل فيكسر الساكن الواقع قبلها ، ولا يُدْغِم فيها التنوين ويأتي قبلها بهمزة الوصل فيقول : لَمْ يَذْهَب الْحَمَرُ ، ورأيت زياداً الْعَجَمَ من غير إدغام التنوين ، والحمر والعجم بهمزة الوصل؛ لأن اللام في حكم السكون ، وهذه هي اللغة المشهورة . ومنهم من يعتدّ بها فلا يكسر الساكن الأول ولا يأتي بهمزة الوصل ويُدْغم التنوين في لام التعريف فيقول : لم يذهبْ لحمرُ - بسكون الباء - « ولحمر ولعجم » من غير همز ، وزياد لَّعْجعم بتشديد اللام وعلى هذه اللغة جاءت هذه القراءةُ .
هذا من حيث الإجمال وأما من حيث التفصيل فأقول :
أما قالونُ فإنه نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وإن لم يكن من أصله النقل لأجل قصده التخفيف بالإدْغَام ولما نقل الحركة اعتدَّ بها؛ إذ لا يمكن الإدغام في ساكن ولا ما هو في حكمه .
وأما همزة الواو ففيها وجهان منقولان :
أحدهما : أن يكون « أولى » أصلها عنده وُؤْلَى من وَأَلَ أي نَجَا كما هو قول الكوفيين ، ثم أبدل الواو الأولى همزة ، لأنها واو مضمومة وقد تقدم أنها لغة مُطَّرِدَة . فاجتمع همزتان ثانيهما ساكنة فوجب قلبها واواً نحو : أومِنُ ، فلما حذفت الهمزة الأولى بسبب نقل حركتها رجعت الثانية إلى أصلها من الهمز؛ لأنها إنما قلبت واواً من أجل الأولى وقد زالت . وهذا تكلف لا دليل عليه .
والثاني : أنه لما نقل الحركة إلى اللام صارت الضّمة قبل الواو كأنها عليهما؛ لأن حركة الحرف بين يديه فأبدل الواو همزة كقوله :
4577-
أَحَبُّ المُؤقِدَيْنِ إلَيَّ مُؤْسَى ... وكقراءة « يُؤقِنُونَ » وهمزة { السُّؤْقِ } [ ص : 33 ] و { سُؤْقِهِ } [ الفتح : 29 ] كما تقدم تحريره . وهذا بناء منه على الاعتداد بالحركة أيضاً . وليس في هذا الوجه دليلٌ على أصل « أولى » عنده ما هو فيحتمل الخلاف المذكور جميعه .
وأما ابتداؤه الكلمة من غير نَقْل ، فإنه الأصل ، ولأنه إنما ثقل في الوصل لقصده التخفيف بالإدغام ولا إدغام في الابتداء فلا حاجة إلى النقل ، ولأنه إنما ثقل في الوصل وأما الابتداء بالنقل فلأنه محمول على الوصل ليجري اللفظ فيهما على سَنَنٍ واحد .
وعلة إثبات ألف الوصل مع النقل في أحدِ وَجْهَيْنِ :
ترك الاعتداد بحركة اللام على ما هي عليه القراءة في نظائره مما وجد فيه النقل؛ إذ الغرض إنما هو جَرْي اللفظ في الابتداء والوصل على سَنَنٍ واحد وذلك يحصل بمجرد النقل وإن اختلفا في تقدير الاعتداد بالحركة وتركه . وعلة ترك الإتيان بألف في الوجه الثاني حمل الابتداء على الوصل في النقل والاعتداد بالحركة جميعاً ويقوِّي هذا الوجه رسمُ ( الأولى ) في هذا الموضع بغير ألف . والكلام في همز الواو مع النقل في الابتداء كالكلام عليه في الوصل كما تقدم .
وأما ورش فإن أصله أن ينقل حركة الهمزة على اللام في الوصل فنقل على أصله إلا أنه اعتد بالحركة ليصح ما قصده من التخفيف بالإدغام وليس من أصله الاعتداد بالحركة في نحو ذلك ، ألا ترى أنه يحذف الألف في ( سِيرَتِهَا الأولَى ) [ و ] { وَيَتَجنُبهَا الأَشْقَى } [ الأعلى : 11 ] ولو اعتد بالحركة لم يحْذِفْهَا .
وأما ما جاز عنه في بعض الروايات : { قالوا لاَنَ جِئْتَ } [ البقرة : 71 ] ؛ فإنه وجه نادرٌ ومُعَلَّل باتِّباع الأثر والجمع بين اللغتين والابتداء له بالنقل على أصله في ذلك أيضاً والابتداء له بألف الوصل على ترك الاعتداد بالحركة إذْ لا حاجةَ إلى قصد ذلك في الابتداء وترك الإتيان له بالألف على الاعتداد له بالحركة حملاً للابتداء على الوصل وموافقة الرسم أيضاً ولا يبتدأ له بالأصل؛ إذ ليس من أصله ذلك ، و « الأولى » في قراءته تحتمل الخلاف المذكور في أصلها .
وأما قراءة أبي عمرو فالعلة له في قوله في الوصل والابتداء كالعلة المتقدمة لقالونَ ، إلا أنه يخالفه في همز الواو؛ لأنه لم يعطِها حكم ما جاورها ، فليست عنده من « وَأَلَ » بل من غير هذا الوجه كما تقدم الخلاف في أول هذا الكتاب ، ويجوز أن يكون أصلها عنده من « وَأَلَ » أيضاً ، إلا أنه أبدل في حال النقل مبالغةً في التخفيف أو موافقة لحال ترك النقل .
وقد عاب هذه القراءة - أعني قراءةَ الإدْغَام - أبو عثمانَ وأبو العباس ذهاباً منهما إلى أن اللغة الفصيحة عدم الاعتداد بالعارض ، ولكن لا التفات إلى ردِّها لثُبُوت ذلك لغةً وقراءةً وإن كان غيرها أفصح منها وقد ثبت عن العرب أنهم يقولون الَحْمَرَ ولَحْمَر بهمزة الوصل وعدمها مع النقل والله أعلم .
وقرأ أبيّ - وهِيَ في حَرْفِهِ - « عَادَ الأُولى » غير مصروف ذهاباً به إلى القبيلة أو الأم كما تقدم؛ ففيه العلمية والتأنيث ، ويدل على التأنيث قوله « الأُولى » فوصفها بوصف المؤنث .
فصل
عاد الأولى هم قوم هود أهلكوا بريح صَرْصَر ، وكان لهم عقب فكانوا عاداً الأخرى . قال القرطبي : سماها الأولى ، لأنهم كانوا قبل ثمود .
وقيل : إنّ ثمود من قبل عاد . وقال ابن زيد : قيل لها عاد الأولى لأنها أول أمة أهلكت بعد نوح - عليه الصلاة والسلام - . وقال ابن إسحاق : هما عَادانِ ، فالأولى أهلكت بالريح الصرصر ، ثم كانت الآخرة وأهلكت بصيحة . وقيل : عاد الأولى هي عاد بن إرَم بن عوص بن سام بن نوح وعاد الثانية من ولد عاد الأولى ، والمعنى متقارب . وقيل : إن عاداً الآخرة هم الجبَّارون . وهم قوم هود .
قوله : { وَثَمُودَ فَمَآ أبقى } قد تقدم الخلاف في « ثَمُود » بالنسبة إلى الصرف وعدمه في سورة « هود » . وفي انتصابه هنا وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على « عَاداً » .
والثاني : أنه منصوب بالفعل المقدر أي « وَأَهْلَكَ » . قاله أبو البقاء ، وبه بدأ . ولا يجوز أن ينتصب ب « أَبْقَى » لأن ما بعد « ما » الثانية لا يعمل فيها قَبْلَهَا ، والظاهر أنّ متعلق « أبقى » عائد على من تقدم من عادٍ وثمود أي فما أبقى عليهم - أي على عادٍ وثمود - أو يكون التقدير : فما أبقى منهم أحداً ، ولا عيناً تَطْرِفُ . ويؤيد هذا قوله : { فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ } [ الحاقة : 8 ] .
قوله : « وَقَوْمَ نُوحٍ » كالذي قبله و « مِنْ قَبْلُ » أي من قبل عادٍ وثمودَ .
وقوله : « إنَّهُمْ » يحتمل أن يكون الضمير لقوم نوح خاصةً ، وأن يكون لجميع من تقدم من الأمم الثلاثة .
قوله : « كانوا هم » يجوز في « هم » أن يكون تأكيداً ، وأن يكون فصلاً . ويضعف أن يكون بدلاً . والمفضل عليه محذوف تقديره : من عادٍ وثمودَ على قولنا : إن الضمير لقوم نوح خاصةً ، وعلى القول بأن الضمير للكل يكون التقدير : من غَيْرِهم من مُشْرِكي العَرَب ، وإن قلنا : إن الضمير لقوم نوح خاصة والمعنى أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود إنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وأطْغَى لطول دعوة نوح إياهم وعُتُوِّهِمْ على الله بالمعصية والتكذيب وهم الباقون بالظلم والمتقدمون فيه ومن سن سنة سيئة فعليه وِزْرها ووزرُ من عمل بها والبادىء أظلم وأما أطغى فلأنهم سمعوا المواعظ وطال عليهم الأمد ولم يرتدعوا حتى دعا عليهم نبيهم ولا يدعو نبي على قومه إلا بَعْدَ الإصرار العظيم والظالم واضع الشيء في غير موضعه ، والطَّاغِي المجاوز للْحَدِّ .
فإن قيل : المراد من الآية تخويف الظالم بالهلاك ، فإذا قيل : إنهم كانوا في غايةِ الظلم والطُّغْيَان فأهلكوا ( ويقول الظالم : هم كانوا أظلم فأهلكوا ) لمبالغتهم في الظلم ونحن ما بالغنا ، فلا نهلك ، فلو قال : أهلكوا لظلمهم لخاف كل ظالم فما الفائدة في قوله : أظلم؟
فالجواب : أن المقصود بيان ( شِدَّتِهِمْ ) وقوة أجسامهم ، فإنهم لم يقدموا على الظلم والطُّغْيَان الشديد إلا بتماديهم وطول أعمارهم ومع ذلك ما نجا أحدٌ منهم فما حال من هو دونهم في العمر .
رُوِيَ أن الرجل منهم كان يأخذ بيد ابنه ينطلق به إلى قوم نوحٍ - عليه الصلاة والسلام - يقول : احذر هذا فإنه كذاب ، وإن أبي قد مشى بي إلى هذا ، وقال لي ما قلت لك فيموت الكبير على الكفر وينشأ الصغير على وصية أبيه .
قوله : « وَالمُؤْتَفِكَةَ » منصوب ب « أَهْوَى »؛ وقدم لأجل الفواصل . والمراد بالمؤتفكة قرى قوم لوط « أَهْوَى » أسقط ، أي أهواها جبريلُ - صلى الله عليه وسلم - بعد ما رفعها إلى السماء .
قوله : « فَغَشَّاهَا » أي ألْبَسَهَا الله « ما غشى » يعني الحجارة المصورة المسوَّمة . وقوله « مَا غَشَّى » كقوله « مَا أَوْحَى » في الإبهام وهو المفعول الثاني إن قلنا : إن التضعيف للتعدية ، وإن قلنا : إنه للمبالغة والتكثير فتكون « ما » فاعله كقوله : { فَغَشِيَهُم مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } [ طه : 78 ] والمؤتفكة المنقلبة . وقرىء : والْمُؤْتَفِكَاتُ .
فإن قيل : إذا كان معنى « المؤتفكة » المنقلبة ومعنى « أهوى » قلبها فيكون المعنى والمنقلبة قلبها وقلب المنقلبة تحصيل حاصل .
فالجواب : أن معناه المنقلبة ما انقلبت بنفسها بل الله قَلَبَها فانْقَلَبَتْ .
قوله : « فبأي » متعلق ب « تتمارَى » والباء ظرفية بمعنى « فِي » والآلاء النعم واحدها إلْي وإلى وأَلاً .
والمعنى فبأي نعم ربك تشك ، وقرأ ابن مُحَيْصِن ويعقوب : « تَمَارَى » بالحذف كقوله : « تَذَكَّرُونَ » .
فصل
قيل : هذا أيضاً مما في الصحف . وقيل : هو ابتداء لكلام ، والخطاب عام ، والمعنى فبأي آلاء أي نعم ربك أيها الإنسان تتمارى تشك وتجادل . وقال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) : تكذب . وقيل : هذا خطاب مع الكافر .
قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يقال : خطاب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يقال : كيف يجوز أن يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - تتمارى؟ لأنا نقول : هو من باب : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] يعني لم يبق فيه إمكان الشك حتى أنّ فارضاً لو فرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن يشك أو يجادل في بعض الأمور الخفية لما كان يمكنه المراءُ في نعم الله تعالى . والصحيح العموم كقوله تعالى : { ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم } [ الانفطار : 6 ] وقوله : { وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } [ الكهف : 54 ] .
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)
قوله : « هَذَا نَذِيرٌ » إشارة إلى ما تقدم من الآي ، وأخبار المهلكين . وقيل : أي القرآن . قال ابن الخطيب : وهذا بعيد لفظاً ومعنى؛ أما معنى فلأن القرآن ليس من جنس الصحف الأولى ، لأنه معجزة ، وتلك لم تكن معجزة ، وأما لفظاً فلأن النذير إن كان كاملاً فما ذكره من حكاية المهلكين أولى لأنه أقرب ويكون هذا يبقى على حقيقة التبعيض ، أي هذا الذي ذكرناه بعض ما جرى أو يكون لابتداء الغاية أي هذا إنذار من المنذرين المتقدمين؛ يقال : هذا الكتاب وهذا الكلام مِنْ فُلاَن .
وقيل : إشارة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أي هذا النذير من جنس النذر الأولى أي رسول من الرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم .
وقوله : « نذير » يجوز أن يكون مصدراً ، وأن يكون اسمَ فاعل وكلاهما لا ينقاس ، بل القياس في مصدره إنذار ، وفي اسم فاعله مُنْذِر . والنُّذُر يجوز أن يكون جمعاً لنذير بمعنييه المذكورين ، و « الأُوْلَى » صفة حملاً على معنى الجماعة كقوله : { مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] .
قوله : « أَزفَت الآزِفَةُ » دَنَتِ الْقِيَامَةُ ، واقتربت ، والتقدير : الساعة الآزفة ، كقوله : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] ويجوز أن تكون الآزفة على القيامة بالغَلَبَةِ .
قال ابن الخطيب : قوله « أَزِفَتِ الآزِفَةُ » كقوله تعالى : { وَقَعَتِ الواقعة } [ الواقعة : 1 ] . ويقال : كانت الكائنةُ . وهَذَا الاستعمال على وجهين :
الأول : إذا كان الفاعل صار فاعلاً لمثل ذلك الفعل من قبل ، ثم فعله مرةً أخرى ، يقال : فعله الفاعل كقوله : حَاكَه الحَائِكُ أي من شغله ذلك من قبل فعله .
الثاني : أن يصير الفاعل فاعلاً بذلك الفعل ، يقال : إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ ، وإذا غصب العين غاصبٌ ضَمِنَهُ ، فقوله : أَزِفَت الآزِفَةُ يحتمل أن يكون من الأول أي قربت الساعة التي كل يوم تزداد قرباً فهي كائنة قريبة وزادت في القرب ، ويحتمل أن يكون من الثاني كقوله : « وَقَعَت الْوَاقِعَةُ » أي قرب وقوعها . وفاعل أزفت في الحقيقة القيامة أو الساعة فكأنه قال : أزفت القيامة الآزفة أو السَّاعة الآزفة .
قال أبو زيد : قلت لأعرابيٍّ : مَا الْمُحْبَنْطِىءُ؟ قال : الْمُتَكَأْكىءُ ، قلت : ما المتكأكىءُ؟ قال : الْمُتَآزِفُ؟ قلت : ما المتآزف؟ قال : أنْتَ أحْمَقُ وتركَنِي وَمَرَّ .
قوله : { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ } يجوز أن يكون « كَاشِفَةٌ » وصفاً وأن يكون مصدراً ، فإن كانت وصفاً احتمل أن يكون التأنيث لأجل أنه صفة لمؤنث محذوف فقيل : تقديره : نَفْسٌ كَاشِفَةٌ أو حالٌ كَاشِفَةٌ .
فإن قيل : إذا قدرتها نفسٌ كاشفة ، وقوله { مِن دُونِ الله } استثناء على المشهور فيكون الله نفساً كاشفة؟
فالجواب من وجوه :
الأول : لا فساد في ذلك لقوله تعالى حكايةً عن عيسى - عليه الصلاة والسلام - { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ }
[
المائدة : 116 ] .
الثاني : ليس صريحاً في الاستثناء فيجوز أن لا يكون نفساً .
الثالث : الاستثناء الكاشف المُبَالِغ ويحتمل أن يكون التاء للمبالغة كَرَاوية ، وعَلاَّمَة ونَسَّابَة أي ليس لها إنسان كاشفة أي كثير الكشف .
وإن كانت مصدراً ، فهي كالخَائِنَة والعَافِيَة والْعَاقِبَة ، والمعنى ليس لها من دون الله كشفٌ أي لا يكشف عنها ، ولا يظهرها غيره ، فيكون من كشف الشيء أي عرف حقيقته ، كقوله : { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] وإما من كشف الضر أي أزالهُ . والمعنى ليس لها من يزيلها ويردها إذا غَشِيَت الخَلْقَ أهْوالُها وشدائدُها لم يكشفها أحد عنهم غيره . وهذا قول عطاء وقتادة والضحاك . وتقدم الكلام على مادة « أَزِفَ » في غافر .
و « مِنْ » زائدة ، تقديره ليس لها غيرُ الله كَاشفة ، وهي تدخل على النفي فتؤكد معناه تقول : مَا جَاءَنِي أَحَدٌ ، ومَا جَاءنِي مِنْ أَحَدٍ ، وعلى هذا يحتمل أن يكون فيه تقديم وتأخير أي ليس لها من كاشفة دونَ الله فيكون نفياً عاماً بالنسبة إلى الكواشف ، ويحتمل أن تكون غير زائدة ، والمعنى ليس لها في الوجود نفس تكشفها أي تخبر عنها كما هي من غير الله يعني من يكشفها فإنما يكشفها من الله لا من غير الله كقولك : كَشَفْتُ الأَمْرَ مِنْ زَيْدٍ . و « دون » يكون بمعنى غير كقوله تعالى : { أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ } [ الصافات : 86 ] أي غير الله .
أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
قوله : { أَفَمِنْ هذا الحديث } متعلق ب « تَعْجَبُونَ » ولا يجيء فيه الإعمال ، لأن من شرط الإعمال تأخير المعمول عن العوامل ، وهنا هو متقدم ، وفيه خلاف بعيد . وعليه تتخرج الآية الكريمة فإن كُلاًّ من قوله : « تَعْجَبُونَ » و « تَضْحَكُونَ » و « لاَ تَبْكُونَ » يطلب هذا الجار من حيث المعنى .
والعامة على فتح التاء والجيم من « تَعْجَبُون » و « تَضْحَكُون » . والحسن بضم التاء وكسر الجيم والحاء من غير واو عاطفة بين الفعلين . وهي أبلغ من حيث إنهم إذا أضحكوا غيرهم كان تجرؤهم أكثر .
وقرأ أُبَيٌّ وعبدُ الله كالجماعة ، إلا أنهما بلا واوٍ عاطفة كالحَسَن ، فيحتمل أن يكون يضحكون حالاً ، وأن يكون استثناءً كالتي قبلها .
فصل
قال المفسرون : المراد بالحديث القرآن . قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون إشارة إلى حديث أزفت الآزفة ، فإنهم كانوا يتعجبون من حَشْر الأجساد ، والعظام البالية . وقوله : ( وَتَضْحَكُونَ ) أي استهزاء من هذا الحديث كقوله تعالى في حق موسى - عليه الصلاة والسلام - : { فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ } [ الزخرف : 47 ] .
ويحتمل أن يكون إنكاراً على مطلق الضحك مع سماع حديث القيامة أي أتضحكون وقد سمعتم أن القيامة قربت فكان حقاً أن لا تضحكوا حينئذ .
وقوله : « وَلاَ تَبْكُونَ » مما تسمعون من الوعيد ، روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رؤي بعد هذه الآية ضاحكاً إلا تبسماً . وقال أبو هريرة : « لما نزل قوله { أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ } الآية قال أهل الصفة : » إنا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ « ثم بكَوْا حتى جرت دموعهم على خدودهم ، فلما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكاءهم بكى معهم فبكينا لبكائه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لاَ يَلِجُ النَّار مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، وَلاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مُصرٌّ علَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بكم ، وَأَتى بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فيَغْفِرُ لَهُمْ وَيَرْحَمُهُمْ إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ » .
قوله : « وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ » أي غافلون لاهون . وهذه الجملة يحتمل أن تكون مستأنفةً ، أخبر الله عنهم بذلك ، ويحتمل أن تكون حالاً أي انتفى عنكم البكاء في حال كونكم سامدين . والسمود ، قيل : الإعراض والغفلة عن الشيء ، وقيل : اللهو ، يقال : دَعْ عَنَّا سُمُودَك أي لهوَك . رواه الوالبيُّ والعَوْفِيُّ عن ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) - وقال الشاعر :
4578-
أَلاَ أَيّهَا الإنْسَانُ إنَّكَ سَامِدٌ ... كَأَنَّكَ لاَ تَفْنَى وَلاَ أَنْتَ هَالِكُ
فهذا بمعنى لاه لاعب . وقيل : الخُمُودُ . وقيل : الاستنكار ، قال ( رحمه الله ) :
4579-
رَمَى الْحِدْثَانُ نِسْوَة آلِ سَعْدٍ ... بِمْقدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُودَا
فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضاً ... وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ الْبِيضَ سُودَا
فهذا بمعنى الخمود والخشوع ، وقال عكرمة وأبو هريرة : السمود القيامة بلغة حِمْيَر ، يقولون : يا جَارِيَةُ اسمُدِي لنا أي غنِّي ، فكانوا إذا سمعوا القرآن تَغَنَّوْا وَلَعِبُوا . وقال الضحاك : أَشِرُونَ . وقال مجاهد غضاب يَتَبَرْطَعُونَ . وقال الراغب : السامد اللاهي الرافع رأسه من قولهم : بَعِيرٌ سَامِدٌ في سَيْرِهِ . وقيل : سمد رأسه وسبده أي استأصل شعره .
وذكر باسم الفاعل لأن الغفلة دائمة وأما الضحك والعجب فهما أمران يتجددان ويعدمَان . وقال الحسن سامدون أي واقفون للصلاة قبل وقوف الإمام ، لما رُوِيَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خرج والناس ينتظرونه قياماً فقال : مَا لِي أَرَاكُمْ سَامِدِينَ . حكاه الماوردي . وروى المَهْدَوِيُّ عن علي أنه خرج إلى الصلاة فرأى الناس قياماً فقال : مَا لِي أَرَاكُمْ سَامِدِينَ . وروي عن علي أن معنى « سامدون » أن يجلسوا غير مصلين ولا منتظرين الصلاة . وتسميد الأرض أن يجعل فيها السماد وهو سِرْجينٌ وَرَمَادٌ . واسْمَأدَّ الرجال اسْمِئْدَاداً أي وَرِم غضباً .
قوله : { فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا } هذا الأمر يحتمل أن يكون عاماً ، ويحتمل أن يكون التفاتاً أي اشتغلوا بالعبادة ، ولم يقل : واعبدوا الله إما لكونه معلوماً من قوله : « فَاسْجُدُوا لِلَّهِ » وإما لأن العبادة في الحقيقة لا تكون إلاَّ لله .
وروى عكرمة عن ( ابن عباس رضي الله عنهما ) أن - النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجنّ والإنس . وروي عن عبد الله - ( رَضِيَ الله عنه ) - قال : أول سورة أنزلت فيها السجدة النَّجم ، فسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسجد مَنْ خَلْفَهُ إلا رجلاً رأيته أخذ كَفًّا من تراب ، فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافراً وهو أميةُ بْنُ خَلَفٍ .
وروى زيد بن ثابت - ( رضي الله عنه ) - قال : قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّجْمِ فلم يسجُدْ فيها ، وهذا يدل على أن سجود التلاوة غيرُ واجب ، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : إن الله لم يكتبها علينا إلا أن يشاءَ وهو قولُ الشَّافِعِيِّ وأحْمَد .
وذهب قومٌ إلى أنه واجبٌ على القارىء والمستمع جميعاً . وهو قول سفيانَ الثوريِّ وأصحابِ الرأي .
وروى الثعلبي في تفسيره عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ قَرَأَ سورة النجم أُعطي من الأجر ( عشر حسنات ) بعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ بمُحَمَّد وكَذَّبَهُ » ( انتهى ) .
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
قوله تعالى : { اقتربت الساعة وانشق القمر } أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها ، وهو قوله تعالى : { أَزِفَتِ الآزفة } [ النجم : 57 ] ، فكأنه أعاد ذلك مستدلاً عليه بقوله تعالى : { أَزِفَتِ الآزفة } [ النجم : 57 ] ، وهو حقٌّ؛ إذ القمر انشق بقوله : « وَانْشَقَّ الْقَمَرُ » ماض على حقيقته ، وهو قول عامة المسلمين إلا من لا يلتفت إلى قوله . وقد صح في الأخبار أن القمر انشق على عهده - عليه الصلاة والسلام - مرتين . روى أنس بن مالك - ( رضي الله عنه ) - أن أهل مكة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يريهم آيةً ، فأراهُمُ القمر شَقَّتَيْنِ حتى رأوا حِرَاءَ بينهما ، وقال سنان عن قتادة : فأراهم انشقاق القمر مرتين . وعن ابن مسعود - ( رضي الله عنه ) - قال : انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فِرْقَتَيْن فرقةً فوق الجبل ، وفرقةٌ دونه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « اشْهَدُوا » . وقال أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله : لم ينشق بمكة . وقال مقاتل : انشق القمر ، ثم الْتَأَمَ بعد ذلك .
وروى أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله قال : انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت قريش : سحركم ابن أبي كبشة فقَدِموا السُّفَّار فسألوهم قالوا : نعم قد رأينا ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { اقتربت الساعة وانشق القمر } . وقيل : انشق بمعنى سينشق يوم القيامة ، فأوقع الماضي موقع المستقبل لتحققه وهو خلاف الإجماع . وقيل : انشق بمعنى انفلق عنه الظلام عند طلوعه كما يسمى الصبح فلقاً وأنشد للنابغة :
4580-
فَلَمَّا أَدْبَرُوا وَلَهُمْ دوِيٌّ ... دَعَانَا عِنْدَ شَقِّ الصُّبْحِ دَاعِي
وإنما ذكرنا ذلك تنبيهاً على ضعفه .
قوله : { وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } ، أي ذاهب سوف يذهب ويبطل من قولهم : مَرَّ الشَّيْءُ واسْتَمَرَّ إذا ذهب مثل قولهم : قَرَّ واسْتَقَرَّ . قال مجاهد وقتادة : مَنّوا أنفسهم بذلك . وقيل : مستمر أي دائم؛ فإن محمداً - عليه الصلاة والسلام - كان يأتي كل زمان ومكان بمعجزة فقالوا هذا سحر مستمر دائم ، لا يختلف بالنسبة إلى شيء بخلاف سِحْر السَّحَرَة ، فإن بعضهم يقدر على أمر وأمرين ، وثلاثة ، ويعجز عن غيرها وهو قادر على الكل . قاله الزمخشري . ومنه قول الشاعر :
4581-
أَلاَ إِنَّمَا الدُّنْيَا لَيَالٍ وَأَعْصُرٌ ... وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ قَوِيمٍ بِمُسْتَمِرْ
أي بدائم باقٍ . وقيل : معناه شديد المرارة . قال الزمخشري : أي مستبشع عندنا مرّ على لهواتنا لا نقدر أن نَسِيغَه كما لا نَسيغُ المُرَّ . انتهى .
يقال : مَرَّ الشَّيْءُ بنفسه وَمرَّهُ غَيْرُهُ؛ فيكون متعدياً ولازماً ، ويقال : أَمَرَّهُ أيضاً .
وقال أبو العالية والضحاك : مستمر أي قويّ شديد ، من قولهم : مَرَّ الحَبْل إذا صلب واشتد ، وأَمْرَرْتُهُ إذا أحكمت فَتْلَهُ ، واسْتَمرَّ إذا قَوِيَ واسْتَحكَمَ ، قال لقيط - ( رحمةُ اللَّهِ عليه - ) :
4582-
حَتَّى اسْتَمَرَّتْ عَلَى شَزْرٍ مَرِيرَتُهُ ... صِدْقُ الْعَزِيمَةِ لاَ رَتًّا وَلاَ ضَرَعا
والمراد بقوله : « آيةً » هي اقتراب الساعة ، فإن انشقاق القمر من آياته ، وقد رأوه وكذبوا فإن يروا غيرها أيضاً يعرضون ، أو آية النبوة فإنه معجزة . أما كونه معجزةً ففي غاية الظهور ، وأما كونه آية فلأن منكر خراب العالم ينكر انشقاق السماء ، وانفطارها ، وكل كوكب ، فإذا انشق بعضها كان ذلك مخالفاً لقوله بجواز خراب العالم والمُرَاد بهؤلاء القائلين المعرضين هم الكفار . والتنكير في قوله ( آية ) للتعظيم أي آية قوية أو عظيمة يُعْرِضُوا .
قال أبو حيان : ومعنى مستمر أي يشبه بعضه بعضاً أي اشتهرت أفعاله على هذا الحال . وهذا راجع إلى الدوام المتقدم . وأتى بهذه الجملة الشرطية تنبيهاً على أن حالهم في المستقبل كحالهم في الماضي .
وقرىء : يُرَوْا مبنيًّا للمفعول من أَرَى .
قوله : { وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ } أي كذبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وما عاينوه من قدرة الله عزّ وجلّ ، واتبعوا ما زين لهم الشيطان من الباطل وكذبوا بالآية وهي انشقاق القمر ، « وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ » في أنه سحر القمر ، وأنه خسوف في القمر ، وظهور شيء في جانب آخر من الجو يشبه نصف القمر ، وأنه سحر أعيننا والقمر لم يصبه شيء ، فهذه أهواؤهم .
قوله : { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } العامة على كسر القاف ، ورفع الراء اسم فاعل ، ورفعه خبراً « لكل » الواقع مبتدأ . وقرأ شيبة بفتح القاف وتروى عن نافع .
قال أبو حاتم : لا وجه لها ، وقد وجهها غيره على حذف مضاف أي وكل أمر ذو استقرار ، وزمان استقرار ، أو مكان استقرار ، فجاز أن يكون مصدراً ، وأن يكون ظرفاً زمانياً أو مكانياً قال معناه الزمخشري . وقرأ أبو جعفر وزيد بن علي بكسر القاف وجر الراء . وفيها أوجه :
أحدها - ولم يذكر الزمخشري غيره - : أن تكون صفة لأَمْر ، ويرتفع « كُلّ » حينئذ بالعطف على « الساعة » فيكون فاعلاً أي اقتربت الساعة وكل أمر مستقر .
قال أبو حيان : وهذا بعيد لوجود الفصل بجمل ثلاث ، وبعيد أن يوجد مثل هذا التركيب في كلام العرب ، نحو : « أَكَلْتُ خُبْزاً ، وضَرَبْتُ خَالِداً » وأن يجيء : زيداً أكرمه ورحل إلى بني فلان ولحماً فيكون « ولحماً » معطوفاً على « خبزاً » بل لا يوجد مثله في كلام العرب . انتهى .
قال شهاب الدين : وإذا دل دليل على المعنى فلا يبالى بالفواصل ، وأين فصاحة القرآن من هذا التركيب الذي ركبه هو حتى يقيسه عليه في المنع؟
الثاني : أن تكون « مستقراً » خبراً « لِكُلّ أَمْر » . وهو مرفوع ، إلا أنه خُفِضَ على الجِوَارِ .
قاله أبو الفضل الرازي .
وهذا لا يجوز ، لأن الجِوَارَ إنما جاء في النعت أو العطف على خلاف في إتيانه كما تقدم في سورة المائدة فكيف يقال به في خبر المبتدأ؟ هذا ما لا يجوز .
الثالث : أن خبر المبتدأ قوله : « حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ » أخبر عن { كُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } بأنه حكمة بالغة ويكون قوله : { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الأنبآء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } [ القمر : 4 ] جملة اعتراض بين المبتدأ أو خبره .
الرابع : أن الخبر مقدر؛ فقدره أبو البقاء : معمول به أو أتى وقدره غيره : بالغوه؛ لأن قبله { وكذبوا واتبعوا أهواءهم } أي وكل أمر مستقر ، أي لكل أمر حقيقة ما كان منه في الدنيا فسيظهر وما كان منه في الآخرة فسيعرف . وقال قتادة : وكل أمر مستقر فالخير مستقر بأهل الخير ، والشر بأهل الشر . وقيل : كل أمر من خير أو شر مستقر قراره ، فالخير مستقر بأهله في الجنة والشر مستقر بأهله في النار . وقيل : مستقر قول المصدقين والمكذبين حتى يعْرفوا حقيقته بالثواب والعذاب ، وقال مقاتل : لكل حديث منتهى . وقيل : ما قدر كائن لا محالة وقيل كل أمر مستقر على سنن الحق يثبت ، والباطل يَزْهَقُ فيكون ذلك تهديداً لهم وتسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو كقوله تعالى : { ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الزمر : 7 ] .
وقيل : كل أمر مستقر في علم الله تعالى لا يخفى عليه شيء ، فهم كذبوا واتبعوا أهواءهم ، والأنبياء صدقوا وبلغوا ، كقوله تعالى : { لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ } [ غافر : 16 ] وكقوله : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } [ القمر : 52 - 53 ] .
وقيل : هو جواب لقوله : « سِحْرٌ مُسْتَمِرّ » أي بل كل أمره مستقر .
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)
قوله : { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الأنبآء } يعني أهل مكة من أخبار الأمم المكذبة والقرآن { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } أي مَنَاهِي .
قوله : « مزدجر » يجوز أن يكون فاعلاً ب « فيه » لأن « فيه » وقع صلة وأن يكون مبتدأ ، و « فِيهِ » الْخبر . و « الدال » بدل من تاء الافتعال ، وأصله مُزْتَجَرٌ ، فقُلبت التاء دالاً .
وقد تقدم أن تاء الافتعال تقلب دالاً بعد الزاي ، والدال ، والذال؛ لأن الزاي حرف مجهور والتاء حرف مهموس ، فأبدلوها إلى حرف مجهورٍ قريب من التاء ، وهو الدال . و « مزدجر » هنا اسم مصدر أي ازدجاراً ، أو اسم مكان أي موضع ازدجار . ومعناه فيه نهي وعظة ، يقال : زَجَرْتُهُ وازْدَجَرْتُهُ إذا نهيته عن السوء . وقرىء : مُزَّجَر بِقلب تاء الافتعال زاياً ثم أدغم . وزيد بن علي : مُزْجِر اسم فاعل من أَزْجَرَ صار ذا زَجْرٍ ، كَأَعْشَبَ أي صار ذا عُشْبٍ .
والأنباء هي الأخبار العظام التي لها وقع كقول الهدهد { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } [ النمل : 22 ] ، لأنه كان خبراً عظيماً له وقع وخبر ، وقال تعالى : { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ } [ الحجرات : 6 ] أي بأمر غريب . وإنما يجب التثبُّت فيما يتعلق به حكم ويترتب عليه أمر ذو بال ، وقال تعالى : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهَآ إِلَيْكَ } [ هود : 49 ] . والمراد بالأنباء هنا أخبار المهلكين المكذّبين .
وقيل : المراد القرآن .
قال ابن الخطيب : وفي ( ما ) وجهان :
الأول : أنها موصولة أي جاءكم الذي فيه مُزْدَجَرٌ .
الثاني : أنها نكرة موصوفة أي جاءكم من الأنباء شيء موصوف بأن فيه مزدجر .
قوله : « حكمة » فيه وجهان :
أحدهما : أنه بدل من { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } كأنه قيل : ولقد جاءهم حكمة بالغة من الأنباء ، وحينئذ يكون بدل كل من كل ، أو بدل اشتمال .
الثاني : أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي هو حكمة بالغةٌ ، أي ذلك الذي جاءهم من إرسال الرسل وإيضاح الدلائل ، والإنذار لمن مضى ، أو إشارة لما فيه الأنباء أنه حكمة ، أو إشارة إلى الساعة المقتربة . وقد تقدم أنه يجوز على قراءة أبي جعفر وزيد أن يكون خبراً ل { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } [ القمر : 3 ] . وقرىء « حِكْمَةً » بالنصب حالاً من « ما » .
قال الزمخشري : فإن قلت : إن كانت « ما » موصولة ساغ لك أن تنصب « حكمة » حالاً فكيف تعمل إن كانتْ موصوفة وهو الظاهر؟
قلت : تَخَصُّصها بالصفة فيحسن نصب الحال عنها . انتهى .
وهو سؤال واضح؛ لأنه يصير التقدير : جاءهم من الأنْبَاء شيء فيه ازدجار فيكون منكراً ، وتنكير ذِي الحال قبيحٌ .
قوله : { فَمَا تُغْنِي النذر } يجوز في « ما » أن تكون استفهامية ، وتكون في محل نصب مفعولاً مقدماً أي أَيَّ شَيْء تُغْنِي النذر؟ وأن تكون نافية أي لم تغن النذر شيئاً .
والنذر جمع نَذِير؛ والمراد به المصدر أو اسم الفاعل كما تقدم في آخر النجم . وكتب « تغن » إتباعاً للفظ الوصل ، فإنها ساقطة لالتقاء الساكنين .
قال بعض النحويين : وإنما حذفت الياء من « تغني » حملاً لها على « لَمْ » فجزمت كما تجزم « لَمْ » . قال مكي ، وهذا خطأ ، لأن « لم » تنفي الماضي وترُدُّ المستقبل ماضياً ، و « ما » تنفي الحال ، فلا يجوز أن يقع إحداهما موقع الأخرى لاختلاف مَعْنَيَيْهِمَا .
فصل
المعنى أن القرآن حكمة بالغة تامة قد بلغت الغاية . وقوله : { فَمَا تُغْنِي النذر } إن كانت « ما » نافية فالمعنى أن النذر لم يبعثوا ليغنوا ويلجئوا قومهم إلى الإيمان ، وإنما أرسلوا مبلغين كقوله تعالى : { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ } [ الشورى : 48 ] ويؤيد هذا قوله : « فَتَولَّ عَنْهُمْ » وإن كانت استفهامية فالمعنى : وأي شيءٍ تغني النذر إذا خالفوهم وكذبوهم؟ كقوله : { وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 101 ] أي إنك أتيت بما عليك من الدعوى فكذبوا بها وأنذرتهم بما جرى على المكذبين ، فلم يفدهم فهذه حكمة بالغة وما الذي تغني النذر غير هذا فلم يبق عليك شيء آخر؟ فتول عنهم .
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
قوله : « فتول عنهم » أي أعرض عنهم . قال أكثر المفسرين : نسختها آية السيف . قال ابن الخطيب إن قول المفسرين في قوله : « فَتَوَلَّ » منسوخ ليس كذلك ، بل المراد منه لا تُنَاظِرْهُمْ بالكلام .
قوله : { يَوْمَ يَدْعُ الداع } « يوم » منصوب إما ب « اذكر » مضمرةً وهو أقربها . وإليه ذهب الرُّمَّانيُّ ، والزمخشري وإما ب « يَخْرُجُونَ » بعده . وإليه ذهب الزمخشري أيضاً ، وإما بقوله : « فَمَا تُغْنِ » ويكون قوله : « فَتَوَلَّ عَنْهُمْ » اعتراضاً ، وإما منصوباً بقوله : « يَقُولُ الْكَافِرُونَ » . وفيه بعدٌ لبعده عنه .
وقيل : تم الكلام عند قوله : { فَمَا تُغْنِ النذر } [ القمر : 5 ] ويبتدأ بقوله : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الداع } فيكون منصوباً بقوله : « فَتَوَلَّ عَنْهُمْ » . وهو ضعيف جداً؛ لأن المعنى ليس أمره بالتولية عنهم في يوم النفخ في الصور ، وإمَّا منصوب بحذف الخافض أي فتول عنهم إلى يوم . قاله الحسين وضعف من حيثُ اللَّفْظ ومن حيث المعنى أما اللفظ ، فلأن إسقاط الخافض غير منقاس ، وأما المعنى فليس تَوَلِّيهِ عنهم مُغَيًّا بذلك الزمان ، وإما بانْتظرْ مضمراً ، فهذه سبعة أوجه في ناصب « يوم » . قال القرطبي : أو منصوب ب « خُشَّعاً » أو على حذف حرف الفاء وما عملت فيه من جواب الأمر تقديره : فتول عنهم فإن لهم يوم يدع الدَّاعِ . وقيل : أي تول عنهم يا محمد فقد أقمت الحجة ، وأبصرتهم يوم يدع الداع . وقيل : أعرض عنهم يوم القيامة ولا تسأل عنهم وعن أحوالهم فإنهم يدعون إلى شيء نكر وينالهم عذاب شديد كقولك : لا تَسَلْ ما جرى على فلان إذا أخبرته بأمر عظيم .
وقيل : أي وكل أمر مستقر يوم يدع الداعي . وحذفت الواو من « يَدْعُ » خَطًّا اتباعاً للفظ كما تقدم في « تغن » و { وَيَمْحُ الله الباطل } [ الشورى : 24 ] وشبهه . والياء من « الدَّاع » مبالغة في التخفيف إجراء « لأل » مُجْرَى ما عاقبها وهو التنوين ، فكما تحذف الياء مع التنوين كذلك مع ما عاقبها .
قوله : « الدَّاعِي » معرف كالمنادي في قوله : { يَوْمَ يُنَادِ المناد } [ ق : 41 ] ؛ لأنه معلوم قد أخبر عنه فقيل : إن منادياً ينادي وداعياً يدعو .
قيل : الداعي : إسرافيل ينفخ قائماً على صخرة بيت المقدس ، قاله مقاتل .
وقيل : جبريل .
وقيل : ملك يوكَّل بذلك . والتعريف حينئذ لا يقطع حدّ العلمية ويكون كقولنا : جَاءَ رَجُلٌ فَقَال الرَّجُلُ . قاله ابن الخطيب .
قوله : { إلى شَيْءٍ نُّكُرٍ } العامة على ضم الكاف ، وهو صفة على فُعُلٍ ، وفُعُلٌ في الصِّفات عزيزٌ منه : أمرٌ نُكُرٌ ، ورجل شُلُلٌ وناقة أُجُدٌ ، ورَوضةٌ أُنُفٌ ومِشْيَةٌ سُجُحٌ .
وقرأ ابن كثير بسكون القاف ، فيحتمل أن يكون أصلاً ، وأن يكون مخففاً من قراءة الجماعة .
وقد تقدم ذلك محرراً في العُسْر واليُسْر في سورة المائدة .
وسمي الشديد نكراً ، لأن النفوس تنكره ، قال مالك بن عوف :
4583-
أَقْدِمْ نَجَاحُ إنَّه يَوْمٌ نُكُرْ ... مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ يَحْمِي وَيَكِرْ
وقرأ زيد بن علي والجحدري وأبو قِلاَبَة : نُكِرَ فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول ، لأن « نكر » يتعدى؛ قال تعالى : { نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } [ هود : 70 ] .
فصل
المعنى إلى شيء منكر فظيع ، لم ير مثله فينكرونه استعظاماً ، قال ابن الخطيب : وهو يحتمل وجهين :
أحدهما : أن المعنى إلى شيء نكر في يومنا هذا ، لأنهم أنكروه أي يوم يدع الداعي إلى الشيء الذي أنكروه يَخْرُجُونَ .
الثاني : أن المعنى منكر أي يقول القائل كان ينبغي أن لا يقع ولا يكون لأن المنكر من شأنه أن لا يوجد يقال : فلان ينهى عن المنكر ، وعلى هذا فهو عندهم كان ينبغي أن لا يقع ، لأنه يُرْدِيهم في الهاوية .
فإن قيل : ما ذلك الشيء النكر؟
فأجيب : بأنه الحساب ، أو الجمع له ، أو النشر للجمع .
فإن قيل : النشر لا يكون منكراً ، فإنه إحياء ، لأن الكافر من أين يعرف وقت النشر ما يجري عليه لينكره .
فالجواب : أنه يعلم ذلك لقوله تعالى عنهم : { ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } [ يس : 52 ] .
قوله : « خَاشِعاً أَبْصَارُهُمْ » قرأ أبو عمرو والأخوان خاشعاً ، وباقي السبعة خُشَّعاً ، فالقراءة الأولى جارية على اللغة الفصحى من حيث إنَّ الفعلَ وما جرى مجراه إذا قدم على الفاعل وُحِّدَ تقول : تَخْشَعُ أَبْصَارُهُمْ ، ولا تقول : يَخْشَعْنَ أَبْصَارُهُمْ ، وأنشد ( - رحمةُ الله عليه - ) :
4585-
وَشَبَابٍ حَسَنٍ أَوْجُهُهُمْ ... مِنْ إِيَادِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدْ
وقال آخر :
4585-
تَلْقَى الفِجَاجَ بِهَا الرُّكْبَانُ مُعْتَرِضاً ... أَعْنَاقَ بُزَّلِهَا مُرْخًى لَهَا الْجُدُلُ
وأما الثانية فجاءت على لغة طَيِّىءٍ ، يقولون : أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ ، وقد تقدم القول على ذلك في المائدة والأنبياء ومثله قوله :
4586-
بِمُطَّرِدٍ لَدْنٍ صِحَاحٍ كُعُوبُهُ ... وَذِي رَوْنَقٍ عَضْبٍ يَقُدُّ الْقَوَانِسَا
قيل : وجمع التكسير في اللغة في مثل هذا أكثر من الإفراد . وقرأ أبيّ وعبد الله : خَاشِعَةً على تَخْشَعُ هِيَ .
وقال الزمخشري : و « خُشَّعاً » على يَخْشَعْنَ أبْصَارُهُمْ . وهي لغة من يقول : أَكَلُوني البراغيثُ وهي طيىء .
قال أبو حيان : ولا يجري جمع التكسير مَجْرى جمع السلامة فيكون على تلك اللغة النادرة القليلة . وقد نص سيبويه على أن جمع التكسير أكثر في كلام العرب فكيف يكون أكثر ويكون على تلك اللغة القليلة؟ وكذا قال الفراء حين ذكر الإفْراد مذكراً ومؤنثاً وجمع التكسير ، قال : لأن الصِّفة متى تقدمت على الجماعة جاز فيها ذلك ، والجمع موافق للفظها فكان أشْبَه .
قال أبو حيان : وإنما يخرج على تلك اللغة إذا كان الجمعُ جمعَ سلامة نحو : مَرَرْتُ بقَوْمٍ كريمين آباؤهم والزمخشري قاس جمع التكسير على جمع السلامة وهو قياس فاسد يرده النقل عن العرب أن جمع التكسير أجود من الإفراد كما ذكره سيبويه ودل عليه كلام الفراء .
قال شهاب الدين : وقد خرج الناس قول امرىء القيس :
4587-
وُقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَلَى مَطِيِّهِمْ ... يَقُولُون : لاَ تَهْلَكْ أَسًى وَتَجمَّلِ
على أن صحبي فاعل ب « وُقُوفاً » وهو جمع « واقف » في أحد القولين في « وُقُوفاً » .
وفي انتصاب « خاشعاً وخشعاً وخاشعة » أوجهٌ :
أحدها : أنه مفعول به وناصبه ( يَدْعُ الدَّاعِ ) . وهو في الحقيقة ( صفة ) لموصوف محذوف تقديره فَرِيقاً خَاشِعاً أو فَوْجاً خَاشِعاً .
والثاني : أنه حال من فاعل ( يَخْرُجُونَ ) المتأخر عنه ، ولما كان العامل متصرفاً جاز تقدم الحال عليه ، وهو رد على الجَرْمي ، حيث زعم أنه لا يجوز ، ورد عليه أيضاً بقول العرب : ( شَتَّى تَؤُوبُ الحَلْبةُ ) « فشتى » حال من الحَلْبة ، وقال الشاعر :
4588-
سَرِيعاً يَهُونُ الصَّعْبُ عِنْدَ أُولِي النُّهَى ... إذَا بِرَجَاءٍ صَادِقٍ قَابَلُوا الْبَأسَا
الثالث : أنه حال من الضمير في ( عَنْهُمْ ) . ولم يذكر مَكّيّ غيره .
الرابع : أنه حال من مفعول ( يَدْعُو ) المحذوف تقديره : يَوْمَ يَدْعُوهُمُ الدَّاعي خُشَّعاً؛ فالعامل فيها ( يدعو ) . قاله أبو البقاء . وارتفع أبصارهم على وجهين :
أظهرهما : الفاعلية بالصفة قبله .
الثاني : على البدل من الضمير المستتر في ( خُشَّعاً ) ؛ لأن التقدير خُشَّعاً هُمْ ، وهذا إنما يأتي على قراءة خشعاً فقط .
وقرىء خُشَّعٌ أَبْصَارُهُمْ على أن « خشعاً » خبر مقدم ، و « أبصارهم » مبتدأ ، والجملة في محل نصب على الحال وفيه الخلاف المذكور من قبل كقوله :
4589- . . ...
وَجَدْتُهُ حَاضِرَاه الجُودُ وَالْكَرَمُ
فصل
قال ابن الخطيب ، لما حكى نصب « خاشعاً » ، قال : إنه منصوب على أنه مفعول بقوله : « يَدْعُو » أي يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي خُشَّعاً .
فإن قيل : هذا فاسد من وجوه :
أحدها : أن الشخص لا فائدة فيه؛ لأن الداعي يدعو كل أحدٍ .
ثانيها : قوله : { يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث } بعد الدعاء فيكونون خشعاً قبل الخروج وهو باطل .
ثالثهما : قراءة خاشعة تبطل هذا!
نقول : أما الجواب عن الأول فإن قوله : { إلى شَيْءٍ نُّكُرٍ } يدفع ذلك ، لأن كل أحد لا يدعى إلى شيء نكر ، وعن الثاني المراد من الشيء النكر الحساب العسير يوم يدع الداعي إلى الحساب العسير خشعاً ولا يكون العامل في ( يوم ) يدعو « يَخْرُجُونَ » بل « اذكروا » و { فَمَا تُغْنِ النذر } [ القمر : 5 ] كقوله تعالى : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين } [ المدثر : 48 ] ويكون : « يَخْرُجُونَ » ابتداء كلام ، وعن الثالث أنه لا منافاة بين القراءتين وخاشعاً نصب على الحال أو على أنه مفعول يدعو كأنه يقول : يدعو الداعي قوماً خاشعاً أبصارهم .
(
والخشوع ) السكون كما قال تعالى : { وَخَشَعَتِ الأصوات } [ طه : 108 ] ، وخشوع الأبصار سكونها على حال لا تتلفّت يمنة ولا يسرة كما قال تعالى : { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } [ إبراهيم : 43 ] . وقيل : خاشعة أي ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب .
قوله : ( يَخْرُجُونَ ) يجوز أن يكون حالاً من الضمير في : ( أبصارهم ) وأن يكون مستأنفاً . والأجداث القبور وقد تقدم في يس .
وقوله : ( كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ ) هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من فاعل « يخرجون » أو مستأنفة . ومثلهم بالجراد المنتشر في الكثرة والتَّمَوج . وقيل : معنى منتشر أي منبث حَيَارَى .
ونظيره قوله تعالى : { كالفراش المبثوث } [ القارعة : 4 ] . والمعنى : أنهم يخرجون فزعين لا جهة لأحد منهم يقصدها كالجراد ولا جهة تكون مختلطةً بعضُها في بعض ، وذكر المنتشر على لفظ الجراد .
قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يقال : المنتشر مطاوع نَشَرَهُ إذا أحياه ، قال تعالى : { ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } [ الروم : 20 ] فكأنهم جراد متحرك من الأرض ( و ) يدب إشارة إلى كيفية خروجهم من الأجداث وضعفهم .
وقال القرطبي : قوله ( تعالى ) : { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع } وقال في موضع آخر : { يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث } [ القارعة : 4 ] فهما صفتان في وقتين مختلفين أحدهما عند الخروج من القبور يخرجون فزعين لا يهتدون ( إلى ) أين يتجهون فيدخل بعضهم في بعض فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضهم في بعض لا جهة له يقصدها فإذا سمعوا المنادي قصدوه فصاروا كالجراد المنتشر ، لأن الجراد المنتشر لها جهة يقصدها .
قوله : « مُهْطِعِينَ » حال أيضاً من اسم كان ، أو من فاعل « يَخْرُجُونَ » عند من يرى تَعَدُّدَ الحال . قال أبو البقاء : و « مهطعين » حال من الضمير في « مُنتَشِرٍ » عند قوم ، وهو بعيد؛ لأن الضمير في منتشر للجراد وإنما هو حال من فاعل « يخرجون » أو من الضمير المحذوف . انتهى .
وهو اعتراض حسن على هذا القول .
والإهطاع الإسراع وأنشد :
4590-
بِدِجْلَةَ دَارُهُمْ وَلَقَدْ أَرَاهُم ... بِدِجْلَةَ مُهْطِعِينَ إلَى السَّمَاعِ
وقيل : الإسراع مع مد العنق . وقيل : النظر . قاله ابن عباس وأنشدوا ( - رحمة الله على من قال - ) :
4591-
تَعَبَّدَنِي نِمْرُ بْنُ سَعْدٍ وَقَدْ أَرَى ... وَنِمْرُ بْنُ سَعْدٍ لِي مُطِيعٌ وَمُهْطِعُ
وقد تقدم الكلام على هذه المادة في سورة إبراهيم .
قال الضحاك : مضلين . وقال قتادة : عامدين . وقال عكرمة : فاتحين آذانهم إلى المصوت .
قوله : « يَقُولُ الْكَافِرُونَ » قال أبو البقاء : حال من الضمير في « مُهْطِعِينَ » .
وفيه نظر من حيث خُلُوُّ الجملة من رابط يربطها بذي الحال ، وقد يجاب بأن الكافرين هم الضمير في المعنى فيكون من باب الربط بالاسم الظاهر عند من يرى ذلك كأنه قيل : يقولون هذا . وإنما أبرزهم تشنيعاً عليهم بهذه الصفة القبيحة .
وقولهم : { هذا يَوْمٌ عَسِرٌ } أي صعبٌ شديد .
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
قوله : « كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ » مفعوله محذوف أي كذبت الرُّسُلَ؛ لأنهم لما كذبوا نوحاً فقد كذبوا جميع الرسل . ولا يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع؛ إذ لو كانت منه لكان التقدير : كذبت قبلهم قومُ نوح عَبْدَنا فكذبوه ولو لفظ بهذا لكان تأكيداً؛ إذ لم يفد غير الأول ، وشرط التنازع أن لا يكون الثاني تأكيداً ، ولذلك منعوا أن يكون قوله :
4592- ..
أَتَاكِ أَتَاكِ اللاَّحِقُونَ احْبِسِ احْبِسِ
من ذلك .
وفي كلام الزمخشري ما يجوزه ، فإنه أخرجه عن التأكيد ، فقال : فإن قلت : ما معنى قوله « فَكَذَّبُوا » بعد قوله : « كَذَّبَتْ »؟
قلت : معناه كذبوا فكذبوا عبدنا أي كذبوا تكذيباً عقب تكذيب كلما مضى منهم قَرْنٌ مُكَذِّبٌ تبعه قرن مُكَذِّبٌ . هذا معنى حسن يسوغ معه التنازع .
فصل
لما فرغ من حكاية كلام الكافر ، ومن ذكر علامات الساعة أعاد ذكر بعض الأنبياء فقال : كذبت قبلهم قوم نوح أي قبل أهل مكة . واعلم أن إلحاق ضمير المؤنث بالفعل قبل ذكر الفاعل جائزٌ وحسنٌ بالاتفاق وإلحاق ضمير الجمع بالفعل قبيحٌ عند أكثرهم ، فلا يجوزون : كَذَّبُوا قَوْمُ نوحٍ ويجوزون : كَذَّبَتْ فما الفرق؟
قال ابن الخطيب : لأن التأنيث قبل الجمع ، لأن الأنوثة والذكورة للفاعل أمر لا يتبدل ، ولم تحصل الأنُوثَةُ للفاعل بسبب فعله بخلاف الجمع ، لأن الجمع للفاعلين بسبب فعلهم .
فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى : { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } بعد قوله : « كَذَّبَتْ »؟
قال ابن الخطيب : الجواب عنه من وجوه :
الأول : أن قوله « كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ » أي بآياته فكذب هؤلاء عبدنا بآية الانشقاق فَكذَّبُوكَ .
الثاني : كذبت قوم نوح المرسلين وقالوا لم يبعث الله رسولاً وكذبوهم في التوحيد فكذبوا عبدنا كما كذبوا غيره؛ وذلك لأن قومَ نوح كانوا مشركين يعبدون الأصنام ومن يعبد الأصنام يكذب كُلَّ رسول ، وينكر الرسالة ، لأنَّه يقول : لا تعلق لله بالعالم السُّفْلِيِّ ، وإنما أمره إلى الكواكب فكان مذهبهم التكذيبَ فكذَّبُوك .
الثالث : أن قوله تعالى : { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } للتصديق والرد عليهم تقديره : كذبت قوم نوح فكان تكذيبهم تكذيب عبدنا أي لم يكن تكذيباً بحق .
فإن قيل : لو قال : فكذبوا رسولنا كان أدلَّ على قُبْحِ فعلهم فما الفائدة في اختيار لفظ العبد؟
فالجواب : أن قوله : عَبْدَنَا أدلّ في صدقه وقبح تكذيبهم من قوله : « رسولنا »؛ لأن العبد أخوف وأقلّ تحريفاً لكلام السيِّد من الرسول فيكون كقوله : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين } [ الحاقة : 44 - 45 ] .
قوله : « وَقَالُوا مَجْنُونَ » مجنون خبر ابتداء مضمر أي هُو مجنون ، وهذا إشارة إلى أنه أتى بالآيات الدالة على صدقه حيث رأوا ما عجزوا عنه ، وقالوا مصاب الجن أو زيادة بيان لقُبْح صنيعهم حيث لم يَقْنَعُوا بتكذيبهم بل قالوا : مجنون أي تَقَوَّل ما لا يقبله عاقلٌ والكاذب العاقل يقول ما يظن به صدقهُ ، فيكون قولهم : مَجْنُونٌ مبالغة في التَّكْذِيبِ .
قوله : « وَازْدُجِرَ » الدال في « ازدجر » بدل من تاء لِمَا تَقَدَّمَ .
وهل هو من مقولهم أي قالوا إنه ازدجر أي ازْدَجَرَتْهُ الجِنُّ وذهبت بُلبِّه - قاله مجاهد - أو هو من كلام الله تعالى أخبر عنه بأنه انتُهِزَ وزجر بالسبِّ وأنواع الأذى؟ وَقَالوا « لِئَنْ لَمْ تَنْتَهِ لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرْجُومِينَ » . قال ابن الخطيب : وهذا أصح؛ لأن المقصود تقوية قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - بذكر من تقدمه ، وأيضاً ترتب عليه قوله تعالى : { فَدَعَا رَبَّهُ } ، وهذا الترتب في غاية الحسن ، لأنهم لَمَّا زَجَرُوهُ وانْزَجَرَ هو عن دعائهم دعا ربه أَنِّي مَغْلُوبٌ .
قوله : « أَنِّي مغلوب » العامة على فتح الهمزة؛ أي دعا بأَنِّي مغلوبٌ ، وجاء بهذا على حكاية المعنى ولو جاء على حكاية اللفظ لقال : إنِّي مغلوب وهما جائزان .
وعن ابن أبي إسحاق والأعمشِ - ورُوِيَتْ عن عاصمٍ - بالكسر إما على إضمار القول ، أي فقال فسّر به الدعاء ، وهو مذهب البَصْريّين ، وإما إجراء للدعاء مُجْرَى القول . وهو مذهب الكوفيين .
فصل
في معنى مغلوب وجوه :
أحدها : غلبني الكفار فانْتَصْر لي منهم .
ثانيها : غَلَبَتْنِي نَفْسِي وَحَمَلَتْنِي على الدعاء عليهم ، فانْتَصِرْ لي من نفسي . قاله ابن عطية . وهو ضعيف .
ثالثها : أن يقال : إِنَّ النبي لا يدعو على قومه ما دام في نفسه احْتِمَالٌ وحِلْمٌ ، واحتمال نفسه يمتد ما دام الإيمان منهم محتملاً ، ثم إنَّ يأسه يحصل والاحتمال والحلم يفر الناس مدة بدليل قوله لمحمد - صلى الله عليه وسلم - { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } [ الشعراء : 3 ] { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] وقال لنُوحٍ - عليه الصلاة والسلام - : { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ } [ هود : 37 ] و [ المؤمون : 27 ] فقال نوح : يا إِلهي إن نفسي غلبتني وقد أمَرْتَنِي بالدُّعاء عليهم فأهلكتهم فيكون معناه مغلوب بحكم البشرية أي غُلبت وعِيلَ صَبْرِي فانْتَصِرْ لي منهم لا من نفسي .
قال ابن الخطيب : وهذا الوجه مُرَكَّبٌ من الوجهين . وهو أحسنهما .
وقوله : « فَانْتَصِرْ » أي فانتصر لِي أو لنفسك ، فإِنهم كفروا بك ، أو انتصر للحَقِّ .
قوله : ( فَفَتَحْنَا ) تقدم الخلاف في فتحنا في الأنعام . والمراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها وأن للسماء أبواب تُفْتَحُ وتُغْلَقُ .
قال علي - رضي الله عنه - : هي المَجَرَّة وهي شرع السماء ومنها فتحت بماء منهمر . وقيل : هذا على سبيل الاستعارة؛ فإِن الظاهر أن الماء كان من السحاب فهو كقول القائل في المطر الوابل : « جَرَتْ مَيَازِيبُ السَّمَاء » .
وفي قوله : « فَفَتَحْنَا » بيان بأن الله انْتَصَرَ منهم ، وانتقم بماء لا بجُنْدٍ أنزله ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين ، فأهلكهم الله بمَطْلُوبِهِمْ .
قوله : ( بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ) في الباء وجهان :
أظهرهما : أنها للتعدية ويكون ذلك على المبالغة في أنه جعل الماء كالآلة المُفْتَتَحِ بها ، كما تقول فَتَحْتُ بالمَفَاتِيحِ .
والثاني : أنها للحال أي فتحناها ملتبسةً بهذا الماء والمُنْهَمرُ : الغزير النازل بقوة . وأنشد امرؤ القيس :
4593-
رَاحَ تَمْرِيهِ الصَّبَا ثُمَّ انْتَحَى ... فِيهِ شُؤْبُوب جَنُوبٍ مُنْهَمِرْ
واستعير ذلك في قولهم : هَمَرَ الرَّجُلُ في كلامه إذا أكثر الكلام وأسرع ، وفلانٌ يُهَامِرُ الشيء أي يحرفه ، وهَمَّرَ لَهُ من ماله أعطاه بكَثْرَة .
والمنهمر الكثير قاله السُّدِّيُّ ( رحمة الله عليه ) قال الشاعر :
4594-
أَعَيْنَيَّ جُودَا بالدُّمُوعِ الهَوَامِرِ ... عَلَى خَيْرِ بَادٍ مِنْ معَدٍّ وَحَاضِرِ
قال المفسرون : معنى منهمر أي منصب انْصباباً شديداً . قال ابن عباس : منهمر من غير سحاب لم ينقطع أربعين يوماً . وقيل : ثمان .
قوله : « وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ » قرأ عبد الله وأبو حيوة وعَاصِم - في روايةٍ - وفَجَرْنا مخففاً . والباقون مثقلاً .
وقوله : « عُيُوناً » فيه أوجه :
أشهرها : أنه تمييز أي فَجَّرْنَا عُيُونَ الأَرْضِ ، فنقله من المفعولية إلى التمييز كما نقل من الفاعلية . ومنعه بعضهم على ما سيأتي .
وقوله : { وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } أبلغ من فَجَّرْنَا عُيُونَ الأَرْضِ ، لما ذكر في نظيره مراراً .
الثاني : أنه منصوب على البدل من الأرض ، ويُضْعِفُ هذا خلوّه من الضمير ، فإِنه بدل بعض من كل ويجاب عنه بأنه محذوف أي عيوناً منها كقوله : « الأُخْدُودِ النَّارِ » ، فالنار بدل اشتمال ولا ضمير فهو مقدر .
الثالث : أنه مفعول ثان؛ لأنه ضمن فَجَّرْنَا معنى صَيَّرْنَاهَا بالتفجير عُيُوناً .
الرابع : أنها حال ، وفيه تجوز حذف مضاف أي ذَات عُيُونٍ ، وكونها حالاً مقدرةً لا مقارنةً . قال ابن الخطيب : قوله { وفجرنا الأرض عيوناً } فيه من البلاغة ما ليس في قول القائل : وَفجَّرْنا من الأرض عيوناً .
وقال : وفجرنا الأرض عيوناً ، ولم يقل : فَفَتَحْنَا السَّمَاءَ أبواباً؛ لأن السماء أعظمُ من الأرض وهي للمبالغة ، وقال : أبواب السماء ولم يقل : أنابيب ولا منافذ ولا مَجَاري . أما قوله تعالى : { فَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } فلا غنى عنه لأن قول القائل : فجرنا من الأرض عيوناً يكون حقيقة لا مبالغة فيه ويكون في صحة ذلك القول أن يحصل في الأرض عيونٌ ثلاثٌ ولا يصلح مع هذا في السَّمَاءِ ومِيَاهِهَا .
فصل
قال ابن الخطيب : العُيُون جمع عَيْنٍ وهي حقيقية في العين التي هي آلة الإبصار ومجاز في غيرها أما في عيون الماء فلأنها تشبه العين الناظرة التي يخرج منها الدمع ، لأن الماء الذي في العين كالدمع الذي في العين وهو مجاز مشهور صار غالباً حتى لا يفتقر إلى قرينةٍ عند الاستعمال فكما لا يحمل اللفظ على العين الناظرة إلا بقرينة كذلك لا يحمل على الفَوَّارَةِ إلا بقرينة ، مثل شَرِبْتُ مِنَ العَيْنِ واغْتَسَلْتُ مِنْهَا ونحوه .
فإِن قيل : من أين علمت أن العين حقيقة في الناظرة؟ .
قلنا : لأن الأفعال أخذت منه ، ولم تؤخذ من اليُنْبُوع ، فيقال : عَانَهُ يَعِينُهُ إذا أصابه بالعين وعَايَنهُ مُعَايَنَةً وعِيَاناً .
قال عُبَيْدُ بْنْ عُمَيْرٍ : أوحى الله تعالى إلى الأرض أن تُخْرِجَ ماءها فتفجرت بالعيون وأي عين تأخرت غضب عليها فجعل ماءها مُرًّا إلى يوم القيامة .
قوله : « فَالتَقَى المَاءُ » لما كان المراد بالماء الجنس صَحَّ أن يقال : فَالْتَقَى الماءُ كأنه قال : فالتقى ماءُ السماء وماءُ الأرض . وهذه قراءة العامة . وقرأ الحسن والجَحْدَريُّ ومُحَمَّد بن كَعْب وتروى عن أمير المؤمنين أيضاً : « المَاءَانِ » تثنية والهمزة سالمة أي النوعان منه ماء السماء وماء الأرض؛ لأن الالتقاء إنما يكون بين اثنين . وقرأ الحسن أيضاً : « المَاوَانِ » بقلبها واواً ، وهي لغةَ طيِّىءٍ . قال الزمخشري كقولهم : عِلْبَاوَانِ ، يعني أنه شبه الهمزة المنقلبة عن هاء بهمزة الإِلحاق .
وروي عنه أيضاً المَايَان بقلبها ياء ، وهي أشدُّ مما قبلها .
قوله : « قَدْ قُدِرَ » العامة على التخفيف . وقرأ ابن مِقْسِم وأبو حيوة بالتشديد . هما لغتان قرىء بهما في قوله : { قَدَّرَ فهدى } [ الأعلى : 3 ] { فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } [ الفجر : 16 ] كما سيأتي .
فصل
قيل : معنى قد قدر أي حال قدرها الله كما شاء قضى عليهم في أُمّ الكتاب . وقال مقاتل : قدَّر الله أن يكون الماءانِ سواءً ، فكانا على ما قَدَّره . وقيل : على مَقَادِير؛ وذلك لأن المفسّرين اختلفوا ، فمنهم من قال كان ماء السماء أكثر ، ومنهم من قال : ماء الأرض . ومنهم من قال : كانا متساوِيَيْن ، فقال على مقدار كان وقال قتادة : قدر لهم إذا كفروا أن يغرقوا .
قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يقال : التقى الماء أي اجتمع على أمر هلاكهم وهو كأنه مقدور ( مقدر ) . وفيه رد على المنجِّمين الذين يقولون : إن الطوفان كان بسبب اجتماع الكواكب السبعة في برج مائيّ والغرق لم يكن مقصوداً بالذات وإنما ذلك أمر لزم من الطوفان الواجب وقوعه ، فرد الله عليهم بأنه لم يكن ذلك إلا لأمر قد قُدِرَ ، ويدل عليه أن الله تعالى أوحى إلى نوح بأنهم مُغْرَقُونَ .
قوله : { وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } أي سفينة ذاتِ ألواح . قال الزمخشري : وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات فتنوب منابَها وتؤدي مُؤَدَّاها بحيث لا يُفْصَلُ بينها وبينها ونحوه :
4595- . . ...
وَلَكن قَمِيصي مَسْرُودَة مِنْ حَدِيدِ
أراد ولكن قميصي درع ، وكذلك :
4596- . . ...
وَلَوْ فِي عُيُون النَّازِيَاتِ بِأَكْرُعِ
أراد ولو في عيون الجرار ، ألا ترى أنك لو جمعت بين الصفة وبين هذه الصفة ، أو بين الجرار والدرع وهاتين الصفتين لم يصح . وهذا من فصيح الكلام وبَدِيعِهِ .
والدُّسُر ، قيل : المسامير جمع دِسَارٍ ، نحو كُتُب في جمع كِتاب وقال الزمخشري : جمع دِسَارة ، وهو المِسْمَارُ فعالة من دسره إذا دفعه ، لأنه يدسر به منفذه .
وقال الراغب : الواحد دَسْرٌ فيكون مثل سَقْف وسُقُف وقال البغوي : واحدها دِسَار ودَسِيرٌ .
وأصل الدسر الدفع الشديد بقهر ( و ) دَسَرَهُ بالرمح . ومُدْسِر مثل مُطْعِن وروي : ليس في العنبر زَكاة إنَّما هُوَ شَيءٌ دَسَرَهُ البَحْرُ أي دفَعَهُ .
وقيل : إنها الخيوط التي تشد بها السفن . وقيل : هي عراض السفينة وقيل : أضلاعها . وقال الحسن الدسر صدر السفينة ، سميت بذلك لأنها تَدْسُرُ الماء بجؤجؤها أي تدفع . وقال الضحاك : الدسر أَلْوَاحُ جَانِبَيْهَا .
قوله : « تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا » أي بمَرْأى منَّا . وقال مقاتل : بأعيننا أي بحفظنا ، لقولك : اجْعَل هذا نصب عينك . وقيل : بالأعين النابعة من الأرض . وقيل : بأعين أوليائنا من الملائكة . فقوله : بأعيننا أي ملتبسة بحفظنا ، وهو في المعنى كقوله تعالى : { وَلِتُصْنَعَ على عيني } [ طه : 39 ] .
وقرأ زيد ( بن ) علي وأبو السَّمَّال بأَعْيُنَّا بالإدغام . وقال سفيان : معناه بأمرنا .
قوله : ( جزاء ) منصوب على المفعول له ، نَاصبُهُ ( فَفَتَّحْنَا ) وما بعده .
وقيل : منصوب على المصدر إما بفعل مقدر أي جَازَيْنَاهُم جَزَاءً ، وإما على التجوز بأن معنى الأفعال المتقدمة جازيناهم بها جزاءً .
قوله : { لِّمَن كَانَ كُفِرَ } العامة على كُفِرَ مبنيًّا للمفعول ، والمراد بمَنْ كُفِرَ : نوح - عليه الصلاة والسلام - أو الباري تعالى .
وقرأ مُسَيْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ كُفْرَ بإسكان الفاء ، كقوله :
4597-
لَوْ عُصْرَ مِنْهُ المِسْكُ وَالبَانُ انْعَصَرْ ... وقرأ يزيد بن رومان وعيسى وقتادة : كَفَرَ ، مبنياً للفاعل .
والمراد ب « مَنْ » حينئذ قَومُ نوح . و « كَفَر » خبر كان . وفيه دليل على وقوع خبر كان ماضياً من غير قد . وبعضُهمْ يقول : لا بد من ( قد ) ظاهرةً أو مضمرة .
ويجوز أن تكون كان مزيدة ، وأما كفرهم ففيه وجهان :
أحدهما : أن يكون « كَفَرَ » مثل شَكَرَ تعدى بحرف وبغير حرف ، يقال : شَكَرْتُهُ وشَكَرْتُ لَهُ ، قال تعالى : { واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 152 ] .
وقال : { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت } [ البقرة : 256 ] .
الثاني : أن يكون من الكفر لا من الكُفْرَان أي جزاء لمن ستر أمره وأنكر شأنه ، أو جزاء لمن كفر به .
فصل
المعنى فعلنا به من إنجاء نوح وإغراق قومه ثواباً لمن كفر به وجُحِدَ أمره وهو نوح - عليه الصلاة والسلام - . وقيل : « مَنْ » بمعنى « ما » أي جزاء لما كان كفر من أيادي ونقمة عند الذين غرقهم ، وجزاء لما صنع بنوحٍ وأصحابه .
واللام في « لِمَنْ » لام المفعول له . والجزاء هنا بمعنى العقاب أي عقاباً لكفرهم .
قوله : { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً } ضمير تركناها إمَّا للقصة أو للفِعْلَة التي فعلناها آية يعتبر بها ، أو السفينة . وهو الظاهر . والمعنى تركناها أي أبقاها الله بباقِرْدى من أرض الجزيرة آيةً أي عبرة حتى نظرت إليها أوائلُ هذه الأمة ، وكانت على الجُوديِّ . وقيل : بأرض الهِنْدِ ، ومعنى تركناها أي جعلناها ، لأنها بعد الفراغ منها صارت متروكة ومجعولة .
قوله : { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أصله « مُدْتَكر » فأبدلت التاء دالاً مهملة ، ثم أبدلت المعجمة مهملة لمقارنتها وقد تقدم هذا في قوله : { وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] . وقد قرىء « مُدْتَكِرٍ » بهذا الأصل .
وقرأ قتادة فيما نقل عنه أبو الفضل - مُدَكَّرٍ - بفتح الدال مخففة وبتشديد الكاف ، من دَكَّر بالتشديد أي دَكَّر نَفْسَه أو غَيرَه بما بمضى من قصَصِ الأولين .
ونقل عنه ابن عطية كالجماعة إلا أنه بالذَّال المعجمة ، وهو شاذ لأن الأَوَّلَ يُقْلَبُ للثَّانِي ، لا الثاني للأول .
روى زُهَيْرٌ عن أبي إِسْحَاقَ أنه سمعَ رجُلاً يسأل الأسود : فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أو مِنْ مذَّكِرٍ ، قال : سمعت عبد الله يقرأها : فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ دالاً .
فصل
وهذه الآية إشارة إلى أن الأمر من جانب الرسل قد تَمَّ ، ولم يبق إلا جانب المُرْسَلِ إِليهم بأن يتفكروا ويهتدوا . وهذا الكلام يصلح أن يكون حثاً وأن يكون تخويفاً وزجراً ، وقال ابن الخطيب : مُدَّكِرٌ مُفْتَعِلٌ من ذَكَرَ يَذْكُرُ وأصله مُذْتكرٌ . وقرأ بعضهم بهذا الأصل . ومنهم من يقلب التاء دالاً . وفي قوله : مدّكِر إشارة إلى قوله : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] أي هل ممن يتذكر تلك الحالة؟ وإما إلى وضوح الأمر كأنه جعل للكل آيات الله فنَسُوها ، فهل من متذكر يتذكر شيئاً منها؟ .
قوله : { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } كان الظاهر فيها أنها ناقصة ( و ) « فَكَيْفَ » خبر مقدم . وقيل : يجوز أن تكون تامة ، فتكون « كَيْفَ » في محل نصب إما على الظرف وإِمَّا على الحال كما تقدم تحقيقه في البقرة .
فصل
وحذفت ياء الإضافة من « نُذُر » كما حذفت ياء « يَسْر » في قوله تعالى : { والليل إِذَا يَسْرِ } [ الفجر : 4 ] ؛ وذلك عند الوقف ، ومثله كثير ، كقوله : { فَإِيَّايَ فاعبدون } [ العنكبوت : 56 ] { وَلاَ يُنقِذُونَ } [ يس : 23 ] { ياعباد فاتقون } [ الزمر : 16 ] { وَلاَ تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 152 ] وقرىء بإثبات الياء في : « عَذَابِي ونُذُرِي » .
قوله : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن } هيأناهُ « لِلذِّكْرِ » من قولهم : « يَسَّرَ فَرَسَهُ » أي هَيَّأَهُ للركوب بإِلجامه ، قال :
4598-
فَقُمْتُ إِلَيْهِ باللِّجَامِ مُيَسِّراً ... هُنَالِكَ يَجْزِيني الَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ
وقيل : سهلنا القرآن ليتذكر ويعتبر به . وقال سعيد بن جبير : يسرناهُ للحفظ والقراءة ، وليس شيء من كتب الله يقرأ كله ظاهراً إلا القرآن .
وقوله : { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } مُتَّعِظٍ بمواعظه .
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
ذكر ههنا : { فكيف كان عذابي ونذر } مرتين ، فالأول سؤال ، كقول المعلم للمتعلم : كَيْفَ المَسْأَلَةُ الفُلاَنِيَّةُ؟ ثم بين فقال : « إِنَّا أَرْسَلْنَا » ، والثاني بمعنى التعظيم والتهويل .
فإن قيل : قال في قوم نوح : كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ولم يقل في عاد : كَذَّبَتْ قَوْمُ هُودٍ؛ لأن التعريف كلما أمكن أن يؤتى به على وجه أبلغ فالأولى أن يؤتى به والتعريف بالاسم العلم أقوى من التعريف بالإِضافة؛ لأنك إذا قلت : « بَيْتُ اللَّهِ » لا يفيد ما يفيد قولك : الكَعْبَةُ ، وكذلك إذا قلت : رَسُولُ اللَّهِ وقلت : محمد « فَعَادٌ » اسم علمٍ للقوم .
ولا يقال : قَوْم هُودٍ أعرف لوجهين :
أحدهما : أن الله تعالى وصف عاداً بقوم هود في قوله : { أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } [ هود : 60 ] ولا يوصف الأظهر بالأخفى ، والأخصُّ بالأعمِّ .
ثانيهما : أن قوم هو ( واحد وعَادٌ قيل : ) إنه لفظٌ يقع على أقوام ، ولهذا قال تعالى : { عَاداً الأولى } [ النجم : 50 ] لأنا نقول : أما قوله تعالى : { لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } [ هود : 60 ] فليس ذلك صفة ، وإنما هو بدل ويجوز في البدل أن يكون دون المُبْدَل ( منه ) في المعرفة ، ويجوز أن يبدل من المعرفة بالنكرة . وأما عاداً الأولى فهو لبيان تقدمهم أي عاداً الذين تقدموا ، وليس ذلك للتمييز والتعريف كما تقول : مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ شَفِيعِي واللَّهُ الكَرِيمُ رَبِّي وَرَبُّ الكَعْبَة المُشَرَّفَة ، لبيان الشرف ، لا لبيانها وتعريفها بالشرف كقولك : دَخَلتُ الدَّار المَعْمُورَة مِنَ الدَّارَيْنِ ، وخَدَمْتُ الرَّجُلَ الزَّاهِدَ مِنَ الرَّجُلَيْنِ؛ فتبين المقصود بالوصف .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : فكذبوا هوداً كما قال فكذبوا عَبْدَنَا؟ .
فالجواب : إِما لأن تكذيب قوم نوح أبلغُ لطول مقامه فيهم وكثرة عِنَادِهِمْ ، وإما لأن قصة عادٍ ذكرت مُخْتَصَرَةً .
قوله : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } الصَّرْصَرُ الشَّديدة الصَّوْت من صَرْصَرَ البابُ أو القَلَمُ إِذَا صَوَّت .
وقيل : الشديدة البرد من الصَّرِّ وهو البرد وهو كله أصول عند الجمهور .
وقال مكي : أصله « صَرَّراً » من صَرَّ الشيءُ إِذا صوت ، لكن أبدلوا من الراء المشددة صاداً ، وهذه أقوال الكُوفِيِّين . ومثله : كَبْكَبَ وكَفْكَفَ . وتقدم هذا في فُصِّلَتْ وغيرها .
وقال ابن الخطيب : الصرصر هو الدائمة الهبوب من أَصَرَّ عَلَى الشَّيْءِ إِذا دَامَ وَثَبَت .
فصل
{
يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ } شديد دائم الشُّؤم استمر عليهم بنُحُوسِهِ ، ولم يُبْقِ منهم أحداً إِلا أهلكه . قيل : ذلك يوم الأربعاء في آخر الشهر .
فإن قيل : إذا كان يوم الأربعاء يَوْمَ نَحْسٍ مستمر فكيف يستجاب فيه الدعاء؟! وقد جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استجيب له فيه فيما بين الظهر والعصر .
فالجواب : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « أتاني جبريل فقال : » إنَّ اللَّهَ يأمرك أَنْ تَقْضِي مع الشاهد «
وقال : يَوْمُ الأربعاء يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرّ . ومعلوم أنه لم يرد أنه نحس على المصلحين بل على المفسدين ، كما كانت الأيام النحسات على الكُفار ، لا على نبيهم والمؤمنين .
واعلم أنه تعالى قال ههنا : إِنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً وقال في الذاريات : { إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم } [ الذاريات : 41 ] فعرَّف الريح هناك ، ونكَّرَها ههنا؛ لأن العقم في الريح أظهر من البَرْد الذي يضرّ النبات أو الشدة التي تَعْصِفُ الأشجار ، لأن الريح العقيم هي التي لا تُنْشِىء سحاباً ، ولا تُلَقِّح شجراً وهي كثيرة الوقوع ، وأما الريح المهلكة الباردة فقلما تُوجَد فقال : الريح العقيم أي هذا الجنس المعروف .
ثم زاده بياناً بقوله : { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } [ الذاريات : 42 ] فتميزت عن الريح العقيم ، وأما الصرصر فقليلة الوقوع فلا تكون مشهورة فنكَّرها .
قوله : { فِي يَوْمِ نَحْسٍ } العامة على إضافة يَوْم إلى نَحْسٍ - بسكون الحاء - وفيه وجهان :
أحدهما : أنه من إضافة الموصوف إلى صفته .
والثاني - وهو قول البصريين - أنه صفة لموصوف محذوف أي يوم عذاب نحس .
وقرأ الحسن - ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) بتَنْوِينه ووصفه بنَحْسٍ ولم يقيِّده الزمخشري بكسر الحاء . وقيده أبو حيان . وقد قرىء قوله : { في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } [ فصلت : 16 ] بسكون الحاء وكسرها ، وتنوين « أيام » عند الجميع ما تقدم تقريره ، و « مُسْتَمِرٍّ » صفة « ليوم » أو « نحس » . ومعناه كما تقدم أي عليهم حتى أهلكهم ، أو من المرارة . قال الضحاك : كان مراً عليهم وكذا حكى الكسائي أن قوماً قالوا هو من المرارة يقال : مَرَّ الشَّيْءُ ، وأَمَرَّ أي كان كالشيء المر تكرهه النفوس ، وقد قال : { فَذُوقُواْ } [ آل عمران : 106 ] والذي يُذَاقُ قَدْ يكونُ مُرًّا .
قوله : ( تَنْزِعُ النَّاسَ ) في موضع نصب إما نعتاً ل « رِيحاً » وإما حالاً منها لتخصصها بالصفة؛ ويجوز أن تكون مستأنفة . وقال : « الناس » ليعم ذَكَرَهُمْ وأنثاهم ، فأوقع الظاهر موقع المضمر لذلك فالأصل تَنْزِعُهُمْ .
فصل
قال تعالى هنا : { فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ } وقال في السجدة : { فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ } [ فصلت : 16 ] وقال في الحاقة : { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } [ الحاقة : 7 ] . والمراد من اليوم هنا الوقت والزمان كما في قوله : { يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 33 ] . وقوله « مُسْتَمِرّ » يفيد ما يفيده الأيام؛ لأن الاستمرار ينبىء عن امتداد الزمان كما تنبىء عَنْهُ الأيام . والحكاية هنا مذكورة على سبيل الاختصار فذكر الزمان ولم يذكر مقداره على سبيل الإيجاز .
قوله : « كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ » حال من الناس مقدرةً ، و « مُنْقَعِرٍ » صفة للنَّخل باعتبار الجنس ، ولو أنث لاعتبر معنى الجماعة كقوله : { نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] . وقد مضى تحقيق اللغتين فيه .
وإنما ذكر هنا وأنث في الحاقة مراعاةً للفواصل في الموضعين . وقرأ أبو نُهَيْكٍ : « أَعْجُزُ » على وزن أفْعُلٍ نحو : ضَبُع وأَضْبُع .
وقيل : الكاف في موضع نصب بفعل مقدر تقديره : تَتْرُكُهْم كَأَنَّهم أَعْجَازٌ . قاله مَكِّي .
ولو جعل مفعولاً ثانياً على التضمين أي تصيرهم بالنزع كأنهم لَكَان أقرب .
والأعجاز جمع عَجُز وهو مؤخر الشيء ، ومنه العَجْز ، لأنه يؤدي إلى تأخر الأمور . والمُنْقَعِرُ : المنقلع من أصله ( يقال ) قَعَرْتُ النَّخْلَةَ قَلَعْتُهَا من أصلها فانْقَعَرَتْ . وقَعَرْتُ البئْرَ : وَصلتُ إِلى قَعْرِهَا وقَعَرْتُ الإِناء شَرِبْتُ ما فيه حتى وصلت إِلى قَعْرِهِ ، وأَقْعَرْتُ البِئْرَ أي جَعَلْتُ له قَعْراً .
فصل
تنزع الناس تَقْلَعُهُمْ ثُمَّ تَرْمِي بهم على رؤوسهم فتدق رِقَابَهُمْ . وروي : أنها كانت تنزع الناس من قبورهم كأنهم أعجاز نخل . قال ابن عباس ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) أصولها . وقال الضحاك : أوراك نخل منقعر منقلع من مكانه ساقطٍ على الأرض وقال : أعجاز نخل وهي أصولها التي قلعت فروعها ، لأن الكفّار تبين رؤوسهم من أجسادهم فتبقى أجسادهم بلا رؤوس . قال ابن الخطيب : تَنْزِعُهُمْ بعُنْف كأنهم أعجاز نخل منقعر فينقعروا .
وهذا إشارة إلى قوتهم وثباتهم على الأرض ، ويكون ذلك إشارةً إلى عظم أجسادهم أو إلى ثباتهم في الأرض فكأنهم كانوا يجعلون أرجُلهمْ في الأرض ويقصدون المنع به على الرِّيح .
قال ابن إسحاق : لما هاجت الريح قام سبعة نَفَر من عاد من أقواهُم وأحْسَمِهمْ منهم عمرو بنُ الحُلِيّ ، والحارث بن شدّاد والهِلْقَامُ وابنا تِقْن وخَلْجَانُ بن سعد فألجأوا العِيَالَ في شِعْب بينٍ جَبَلَيْن ثم اصطفّوا على جانبي الشِّعْب ليردُّوا الريح عمن في الشِّعْب من العِيال فجعلت الريح تَجْعفُهُمْ رجلاً بعد رجلٍ ، فقالت امرأة عاد :
4599-
ذَهَبَ الدَّهْرُ بِعَمْرِو بْ ... نِ حُلِيٍّ والهَنِيَّاتِ
ثُمَّ بالحَارِثِ والهِلْ ... لقَام طلاَّعِ الثَّنِيَّاتِ
والَّذِي سَدَّ مَهَبَّ الرْ ... رِيحِ أَيَّامَ البَلِيَّاتِ
أو يكون إشارة إلى يُبْسِهِمْ وجفافهم بالريح ، فهي كانت تقتلهم وتحرقهم ببردها المفرط فيقعون كأنهم أخشاب يابسة .
فصل
(
قال ) المفسرون : ذكر النخل هنا ، وقال : « منقعر » وأنثه في الحاقّة ، وقال : أعجاز نخل خاوية لأجل الفواصل كقوله : مُسْتَمِرّ ، ومُنْهَمِر ، ومُنْتَشِر .
وقيل : إِن النَّخْل لفظه لفظ واحد ، ومعناه الجمع ، فيقال : نَخْلٌ مُنْقَعِرٌ ، ومُنْقَعِرَةٌ ومُنْقَعِرَاتٌ ، ونَخْلٌ خاوٍ وخَاوِيةٌ وخَاوِيَاتٌ ونَخْلٌ بَاسِقٌ وبَاسِقَةٌ وبَاسِقَاتٌ .
فإِذا قيل : « منقعر أو خاو أو باسق » فبالنظر إلى اللفظ ، وإذا قيل : مُنْقَعِرَاتٌ أو خاويات أو باسقاتٌ فلأجل المعنى .
قال أبو بكر بن الأنباري : سُئِلَ المُبَرِّدُ بحضرة القَاضي إسرفيل عن ألف مسألة هذه من جُمْلَتِهَا فقال : ما الفرق بين قوله تعالى : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً } [ الأنبياء : 81 ] وقال : { جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ } [ يونس : 22 ] ، وقوله : { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] و { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } ؟ فقال : كلّ ما ورد عليك من هذا القرآن ، فإن شئت رددته إلى اللفظ تذكيراً أو إلى المعنى تأنيثاً .
قال ابن الخطيب : ذكر الله لفظ النخل في مواضع ثلاثة ووصفها على الأوجه الثلاثة ، قال : { والنخل بَاسِقَاتٍ } [ ق : 10 ] وذلك حال عنها وهي كالوصف وقال : « نَخْلٍ خَاوِيَةٍ » و « نَخْلٍ مُنْقَعرٍ » فحيث قال : « مُنْقَعِرٍ » كان المختار ذلك ، لأن المنقعر في حقيقة الأمر كالمَفْعُول؛ لأنه ورد عليه القَعْر ، فهو مَقْعُورٌ ، و « الخَاوِي والباسق » فاعل وإخلاء المفعول من علامة التأنيث أولى ، تقول : امْرَأَةٌ قَتِيلٌ .
وأما الباسقاتُ فهي فاعلاتٌ حقيقة ، لأن البُسُوقَ اسم قام بها ، وأما الخاويةُ فهو من باب « حَسَنِ الوَجْهِ »؛ لأن الخاوي موضعها فكأنه قال : نَخْلٍ خَاوِيَةِ المَوَاضع ، وهذا غاية الإعجاز حيث أتى بلفظ مناسب للألفاظ السابقة واللاحقة من حيث اللفظ .
قوله : { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } قال أكثر المفسرين :
إن « النُّذُر » ههنا جمع « نَذِير » الذي هو مصدر بمعنى الإِنذار فما الحكمة في توحيد العذاب حيث لم يقال : فكيف أنواعُ عَذَابِي وَقَالَ : إِنذاري؟! .
قال ابن الخطيب : هذا إشارة إِلى غَلَبَةِ الرحمة ، لأن الإِنذار إِشفاقٌ ورحمةٌ فقال : الإنذاراتُ التي هي نِعَمٌ ورحمة تَوَاتَرَتْ ، فلما لم ينفع وقع العذاب دفعة واحدة فكانت النعمُ كثيرةً والنقمةُ واحدةً .
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
قوله : { كَذَّبَتْ ( ثَمُودُ بالنذر } اعلم أَنَّه تعالى لم يقل في قوم نوح : « كَذَّبْت قَوْمُ نُوحِ ) بالنذر » وكذلك في قصة عاد . لأن المراد بقوله : { كذبت قبلهم قوم نوح } أن عادتهم إنكار الرسل وتكذيبهم فكذبوا نوحاً على مذهبهم وعادتهم .
وإنما صرح ههنا ، لأن كل قوم يأتون بعد قوم ، فالمكذِّب المتأخر يكذب المرسلينَ جميعاً حقيقةً ، والأولون يكذبون رسولاً واحداً حقيقة ويلزم منه تكذيب من بعده تبعاً ، ولهذا المعنى قال في قوم نوح : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين } [ الشعراء : 105 ] وقال في عاد : { وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } [ هود : 59 ] فذكر بلفظ الجمع المُسْتَغْرق ثم إنه تعالى قال عن نوح : { رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ } [ الشعراء : 117 ] ولم يقل : كَذَّبُوا رُسُلَكَ إشارةً إلى ما صدر منهم حقيقة لا إلى ما لزم منه ، وقوله تعالى : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر } إن قلنا : إن النذر هم الرسل فهو كما تقدم ، وإن قلنا : إن النذر هي الإنذارات فنقول : قوم نوح وعاد لم تستمر المعجزات التي ظهرت في زمانهم .
وأما ثمود فأُنْذِرُوا وأُخْرِجَ لهم ناقة من صخرةٍ وكانت تدور بينهم وكذبوا فكان تكذيبهم بإِنذاراتٍ وآياتٍ ظاهرة فصرَّح بها .
قوله : « أبَشَراً » منصوب على الاشتغال وهو الراجح ، لتقدم أداة هي بالفعل أولى . و « مِنَّا » نعت له . و « وَاحِداً » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه نعت « لِبَشَراً » إلا أنه يشكل عليه تقديم الصفة المؤولة على الصريحة . ويجاب : بأن « مِنَّا » حينئذ ليس وصفاً بل حال من « وَاحِداً » قُدِّمَ عليه .
والثاني : أنه نصب على الحال من هاء « نَتَّبِعُهُ » . وهو يَخْلُصُ من الإعراب المتقدم ، إِلا أنَّ المرجع لكونه صفة قراءتهما مرفوعين : { أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ } على ما سيأتي ، فهذا يرجّح كون « واحداً » نعتاً « لبَشَرٍ » لا حالاً .
وقرأ أبُو السَّمَّال فيما نقل الهُذَلِيُّ والدَّانِيّ برفعهما على الابتداء ، و « وَاحِدٌ » صفته و « نَتَّبِعُهُ » خبره .
وقرأ أبو السَّمَّال أيضاً فيما نقل ابن خالويه ، وأبو الفضل وابن عطية : برفع « بشر » ونصب « واحداً » وفيه أوجه :
أحدها : أن يكون « أَبَشَرٌ » مبتدأ وخبره مضمر تقديره : أَبَشَرٌ منا يُبْعَثُ إِلينا أو يُرْسَل . وأما انتصاب « واحداً » ففيه وجهان :
أحدهما : أنه حال من الضمير المستتر في ( مِنَّا ) لأنه وقع نعتاً .
الثاني : أنه حال من هاء « نَتَّبِعُهُ » . وهذا كله تخريج أبِي الفضل الرَّازيِّ .
والثاني : أنه مرفوع بالابتداء أيضاً ، والخبر « نَتَّبِعُهُ » و « واحداً » حال على الوجهين المذكورين آنفاً .
الثالث : أنه مرفوع بفعل مضمر مبني للمفعول تقديره : أَيُنَبَّأُ بَشرٌ ، و ( مِنَّا ) نعت و ( واحداً ) حال أيضاً على الوجهين المذكورين آنفاً .
وإليه ذهب ابن عطية .
فصل
قال ابن الخطيب : والحكمة في تأخير الفعل في الظاهر أن البليغ يُقَدِّمُ في الكلام ما يكون تعلق غرضه به أكثر والقوم كانوا يريدون بيان كونهم محقِّين في ترك الاتّباع ، فلو قالوا : أَنَتَّبِعُ بَشَراً أمكن أن يقال : نعم اتَّبِعُوهُ ، وماذا يمنعكم من اتباعه؟ فإذا قدمنا حاله وقالوا : هو من نوعنا بشر من صِفَتِنَا رجل ليس غريباً نعتقد فيه أنه يَعْلَمُ ما لا نَعْلَمُ أو يَقْدِرُ على ما لا نَقْدِرُ وهو واحد وليس له جندٌ ولا حَشَمٌ ولا خَدَمٌ ولا خيلٌ وهو وحيد ونحن جماعة فكيف نتبعه؟! فيكونون قد قدموا الموجب لجواز الامتناع عن اتباعه . وفي الآية إشاراتٌ إلى ذلك ، منها تنكيره حيث قالوا : أَبَشَراً ، ولم يقولوا : أَرَجُلاً ، ومنها : قولهم : مِنَّا وهو يحتمل أمرين :
أحدهما : من صنفنا ليس غريباً .
والثاني : « مِنَّا » أي تَبَعنَا؛ لأن « مِنْ » للتبعيض والبعض يتبع الكل ، لا الكل يتبع البعض .
ومنها قولهم : « واحداً » ، وهو يحتمل أمرين أيضاً :
أحدهما : وحيداً إشارةً إلى ضعفه .
وثانيهما : واحداً أي هو من آحاد النَّاس أي هو ممَّنْ ليس بمشهور بحَسَبٍ ولا نَسَبٍ ، إذا حَدَّث لا يُعْرَفُ ولا يمكن أن يقال عنه : قَال فلانٌ ، بل يقال : قال واحدٌ ، وذلك غاية الخُمول ، أو لأن الأرذَلَ لا يَنْضَمُّ إليه أحد .
قوله : { إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ } خَطَأٍ ، وذهاب عن الصواب « وَسُعُرٍ » ( قال ابن عباس : عذاب . وقال الحسن : شدة العذاب . وقال قتادةً : عَنَاء ) . « وسُعُر » يجوز أن يكون مفرداً أي جُنُون يقال : نَاقَةٌ مَسْعُورَةٌ أي كالمجنونة في سيرها ، قال الشاعر ( - رحمةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - ) :
4600-
كَأَنَّ بِهَا سُعْراً إذَا السُّعْرُ هَزَّهَا ... ذَمِيلٌ وَإِرْخَاءٌ مِنَ السَّيْرِ مُتْعِبُ
وأن يكون جمع « سَعِيرٍ » وهو النار . قاله سفيان بن عُيَيْنة . والاحتمالان منقولان عنه .
والمعنى : إِنَّا إذَنْ لَفِي عَنَاءٍ وعذاب مما يلزمنا مِنْ طاعته . وقال وَهْبٌ : معناه : بُعْدٌ عن الحَقِّ .
قوله : { أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } معناه أأنزل عليه الذكر ، وهُو الوحي « مِنْ بَيْنِنَا » حال من هاء « عليه » ، أي ألقي عليه منفرداً من بيننا أي خصص بالرسالة من بين آلِ ثمود وفيهم من هو أكثر مالاً وأحسن حالاً . وهو استفهام بمعنى الإنكار .
قوله : { بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } الأشِرُ البَطِرُ ، يقال : أَشِرَ يأشَرُ أَشَراً فَهُو أشِرٌ كَفِرحَ ، وآشِرٌ كَضَارِبٍ وأَشْرَانُ كَسَكْرَانَ ، وأُشَارَى كَأُسَارَى .
وقرأ أبو قِلاَبَةَ : { بل هو الكَذَّابُ الأَشَرُّ } ، { مَنِ الكَذَّابُ الأَشَرُ } ؟ بفتح الشين وتشديد الراء ، جَعَلَهُمَا أفعلَ تَفْضِيلٍ . وهو شاذ ، لأنه ( لم ) يحْذف الهمزة من لفظ الخَيْرِ والشّرّ في « أفعل » التفضيل ، تقول : زَيْدٌ خَيْرٌ مِنْ عَمْرو وشَرٌّ مِن بَكْرٍ ، ولا تقول : أخْيَرُ ولا أَشَرّ إلاَّ في نُذُورٍ كهذه القراءة وكقول رؤبة :
4601-
بِلاَلُ خَيْرُ النَّاسِ وَابْنُ الأَخْيَرِ ... وتثبت فيهما في التعجب نحو : ما أَخْيَرَهُ ومَا أَشَرَّهُ . ولا يحذف إلى في نُدَورٍ عكس أفعل التفضيل ، قالوا : مَا خَيْرَ اللَّبَنَ للصّحيح ، وَمَا شَرَّهُ لِلْمَبطُونِ . وهذا من محاسن الصِّناعة . وقرأ أبو قَيْس الأَوْدِيُّ ومجاهدٌ الحرف الثاني الأشُرُ بثلاث ضمات ، وتخريجها على أن فيه لغةً أُشُر بضم الشين كحُذُر وَحَذُر ، ثم ضمت الهمزة إِتباعاً لضمِّ الشين . ونقل الكسائي عن مجاهد ضم الشين وفتح الهمزة على أصل تِيكَ اللغة كَحَذُرٍ .
فصل
(
الأَشر ) التحيّر والنشاط ، يقال : فَرَسٌ أَشِرٌ إذا كان مَرِحاً نَشِطاً . قال امرؤ القيس يصف كلباً :
4602-
فَيُدْرِكُنَا فَغِمٌ دَاجِنٌ ... سَمِيعٌ بَصِيرٌ طَلُوبٌ نَكِرْ
أَلَصّ الضُّرُوسِ حَنِيُّ الضُّلُوعِ ... تَبُوعٌ أَرِيبٌ نَشِيطٌ أَشِرْ
(
و ) قيل : إنه المتعدي إلى منزلةٍ لا يستحقها . وقال ابن زيد وعبد الرحمن بن حماد : الأَشِرُ الذي لا يُبَالِي ما قال .
وفي قراءة أبي قلابة بفتح الشين وتشديد الراء فالمعنى أَشَرُّنَا وأَخْبَثُنَا .
فإن قيل : قولهم : بل هو كذاب يستدعي أمراً مضروباً عنه فما هو؟
فالجواب : قولهم : أألقي للإنكار فكأنهم قالوا : مَا ألقي ، ثم إنَّ قولَهم : أألقي عليه الذكر لا يقتضي إلا أنه ليس بِنبِيٍّ ، وقول القائل : ليس بِنبي لا يلزم منه أنه كاذب فكأنهم قالوا ليس بنبي ، ثم قالوا : بل هو ليس بصادقٍ .
قوله : « فَسَيَعْلَمُونَ » قرأ ابنُ عامر وحمزةُ بالخطاب . وفيه وجهان :
أحدهما : أنه حكاية قول صالح لقومه .
والثاني : أنه خطاب الله على جهة الالتفات . والباقون بياء الغيبة جَرْياً على الغيب قبله في قوله : « فَقَالُوا أَبَشراً » ، واختارها مَكِّيٌّ ، قال : لأن عليها الأكثر .
و « غَداً » ليس المراد به الذي يلي يومك بل الزمان المستقبل ، كقول الطِّرمَّاح ( رحمةُ الله عليه ورضاه ) :
4603-
أَلاَ عَلِّلاَنِي قَبْلَ نَوْحِ النَّوَائِحِ ... وَقَبْلَ اضْطِرَابِ النَّفْسِ بَيْنَ الجَوَانِحِ
وَقَبْلَ غَدٍ يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى غَدٍ ... إذَا رَاحَ أَصْحَابِي وَلَسْتُ بِرَائِحِ
والمعنى « سَيَعْلَمُون غَداً » حين يَنْزِلُ عليهم العذاب . قال الكلبي : يعني يوم القيامة . وذكر الغد للتقرِيبِ على عادة الناس يقولون : إنَّ مَعَ الْيَوْم غَداً .
فصل
الكذَّاب فعال صيغة مبالغة ، لأن المنسوب إلى الشيء لا بدَّ له من أن يكثر من مزاولة الشيء ، فإنَّ من خاط يوماً لا يقال له : خيَّاط فالمبالغة ههنا إما في الكثرة بأن يكون كثيرَ الكذب ، وإمّا في الشدة أي شديد الكذب ، يقول ما لا يقبله العقل . ويحتمل أن يكونوا وصفوه بذلك لاعتقادهم الأمرين جميعاً . وقولهم « أشِرٌ » إشارة إلى أنه كذب لا لضرورة وحاجة وإنما هو استغنى فبَطَرَ وطلب الرِّئَاسَةَ .
قوله : { إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة } أي مُخْرِجُوهَا من الهَضَبَة التي سألوا .
وأتى باسم الفاعل والإضافة مبالغة في حقيقته كأنه وقع « فِتْنَةً » مفعول به ، أو مصدر من معنى الأول أو في موضع الحال .
روي أنهم تعنتوا على صالح فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقةً حمراءَ عُشَرَاءَ ، فقال الله : { إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة فِتْنَةً لَّهُمْ } محنةً واختباراً؛ فقوله : « فتنة » مفعول له؛ لأن المعجزة فتنة؛ لأن بها يتميز المُثَابُ من المعذب ، فالمعجزة تصديق ، وحينئذ يفترق المصدِّق من المُكَذِّب .
أو يقال : إخراج الناقة من الصخرة معجزة ، ودورانها بينهم ، وقسمة الماء كان فتنةً ، ولهذا قال : « إنَّا مُرْسِلُواْ » ولم يقل : مُخْرِجُو .
قوله : « فَارْتَقِبْهُمْ » أي انتظر ما يصنعون « وَاصْطَبِرْ » أي اصبر على أَذَاهُمْ وأصل الطاء في « اصْطَبِرْ » « تاء » فتحولت طاءً ، لتكون موافقةً للصاد في الإطباق .
قوله : « وَنَبِّئْهُمْ » أي أخبرهم { أَنَّ المآء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } أي بين آل ثمود وبين الناقة لها يوم ولهم يوم ، كقوله تعالى : { لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [ الشعراء : 155 ] فالضمير في ( بينهم ) لقوم صالح والناقة فغلّب العاقل .
وقرأ العامة : قِسْمة بكسر القاف - ورُوِيَ عن أبي عمرو فَتْحُها - وهو قياس المرة . والمعنى : أن الماءَ مقسومٌ بَيْنَهُمْ فوصف بالمصدر مبالغة ، كقولك : فُلانٌ عَيْنُ الكرم .
قوله : { كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } أي يحضره من هُو له ، فالناقة تحضر الماء يوم وُرُودِهَا وتغيب عنهم يوم وُرُودِهِمْ . قاله مقاتل . وقال مجاهد : إن ثمود يحضرون الماء يوم غَبِّها عنهم فيشربون ، ويحضرون اللبن يوم ورودها فيحتلبون . والشِّرْبُ - بالكسر - الحظ من الماء . وفي المثل : آخرها أقلُّها شِرْباً وأصله من سقي الإناء ، لأن آخرها يرد وقد نَزفَ الحَوْضُ .
واعلم أن قسمة الماء إما لأن الناقة عظيمةُ الخَلْق ينفر منها حيواناتهم فكان يوم للناقة ويوم لهم ، وإما لقلة الماء فلا يحملهم ، وإما لأن الماء كان مقسوماً بينهم لكل فريق منهم فيوم وُرُودِ الناقة على هؤلاء يرجعون على الآخرين وكذلك الآخرون فيكون النُّقْصَان على الكل ، ولا تختص الناقة بجميع الماء .
رُوِيَ أنهم كانوا يكتفون في يوم ورودها بلبنها ، وليس في الآية إلا القسمة دون كيفيتها ، وظاهر قوله تعالى : { كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } يعضد الوجه الثالث ، وحَضَر واحْتَضَرَ بمعنًى واحد .
قوله : « فَنَادَوْا صَاحِبَهْم » قبله محذوف أي فتمادوا على ذلك ثم عزموا على عقرها فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر . و « تعاطى » مطاوع عَاطَى كأنهم كانوا يتدافعون ذلك حتى تولاه أشقاها . والمعنى فنادوا صاحبهم نداء المُسْتَغِيث وهو قُدار بنُ سَالف وكان أشجعهم . وقيل : كان رئيسهم . فتعاطى أي آلةَ العقر أو الناقةَ ، أو هو عبارة عن الإقدام على الفعل العظيم . وتحقيقه أن الفعلَ العظيمَ يتبرأ منه كُلُّ أحد ويعطيه صاحبَه أو جَعَلُوا لَهُ جُعْلاً فَتعَاطَاهُ .
قال مُحَمَّدُ بن إسْحَاقَ : كمن لها في أصل شجرة على طريقها فرماها فانتظم به عضلة ساقها ثم شد عليها بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورَغَتْ رغاة واحدة ، ثم نَحَرَها .
قال ابن عباس : كان الذي عقرها أحمر أشقر أكشف أقعى يقال له : قُدار بن سالف . والعرب تسمي الجَزَّار قُدَاراً تشبيهاً بقُدار بْنِ سالف مشؤوم آل ثمود ، قال مهلهل :
4604-
إنَّا لَنَضْرِبُ بالسُّيُوف رُؤُوسَهُمْ ... ضَرْبَ القُدَارِ نَقِيعَةَ القُدَّامِ
قوله : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً } يريد صيحة جبريل كما تقدم { فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر } العامة على كسر الظاء اسم فاعل وهو الذي يتخذه حظيرةً من حَطَب وغيره .
وقرأ أبو السَّمال وأبو حَيْوة وأبو رجاء وعمرُو بن عُبَيْد بفتحها . فقيل : هو مصدر أي كَهَشِيم الاحْتِظَارِ .
وقيل : هو اسم مكان . وقيل : هو اسم مفعول وهو الهَشِيمُ نفسه ، ويكون من باب إضافة الموصوف لصفته كمَسْجِدِ الجَامِعِ . والحَظْر المَنْع ، وقد تقدم تحريره في « سُبْحَانَ » .
فصل
«
كان » في قوله « فكانوا » قيل : بمعنى صاروا كقوله :
4605- . ...
كَانَت فِرَاخاً بُيُوضُهَا
أي صارت . والهشيم : المهشوم المكسور ، ومنه سمي هاشِمٌ لهشمه الثَّرِيد في الجفان غير أن الهشيم يستعمل كثيراً في الحطب المتكسر اليابس .
قال المفسرون : كانوا كالخشب المُنْكَسِرِ الذي يخرج من الحظائر بدليل قوله : { هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح } [ الكهف : 45 ] وهو من باب إقامة الصّفة مقَام الموصوف .
وتشبيههم بالهشيم إما لكونهم يابسين كالموتى الذين ماتوا من زمان ، أو لانضمام بعضهم إلى بعض ، كما ينضم الرفقاء عند الخوف يدخل بعضهم في بعض ، فاجتمعوا بعضهم فوق بعض كما يجمع الحاطب الحَطَبَ يصف شيئاً فوق شيء منتظراً حضور من يشتري منه .
ويحتمل أن يكون ذلك لبيان كونهم في الجحيم أي كانوا كالحطب اليابس الذي للوَقِيد كقوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] وقوله : { فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] .
فصل
ذكر في الآية مباحث :
منها : قوله تعالى : { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } . اعلم أن هذه الآية ذكرت في ثلاثة مواضع ذكرها في حكاية نوح بعد بيان العذاب ، وذكرها هنا قبل بيان العذاب ، وذكرها في حكاية عاد قبل بيانه وبعد بيانه ، فحيث ذكر قبل بيان العذاب فَلِلْبَيَانِ كقول العارف بحكايته لغير العارف : هَلْ تَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ أَمْرُ فُلان؟ وغرضه أن يقول : أخبرني عنه . وحيث ذكرها بعد بيان العذاب ذكرها للتعظيم كقول القائل : ضرب فُلاَنٌ أَيَّ ضَرْب وأيّما ضرب ، وتقول : ضَرَبْتُهُ وكَيْفَ ضَرَبْتُهُ أي قويًّا . وفي حكاية عاد ذكرها مرتين للبيان والاستفهام ومنها في حكاية نوح ذكر الذي للتعظيم ، وفي حكاية ثمود ذكر الذي للبيان ، لأن عذاب قوم نوح كان بأمر عظيم عام وهو الطوفان الذي عم العالم ولا كذلك عذاب قوم ( هود ) فإنه كان مختصاً بهم .
فصل
اعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة خمس قصص ، وجعل القصة المتوسطة مذكورة على أتمِّ وجه؛ لأن حال صالح كان أكثر مشابهةً بحال محمد - عليهما الصلاة والسلام - لأنه أتى بأمر عجيب أَرْضِيٍّ ، وكان أعجب مما جاء به للأنبياء ، لأن عيسى عليه الصلاةُ والسَّلاَمُ ، أحيا الميت لكن الميت كان محلاً للحياة فقامت الحياة بإذن الله في محل كان قابلاً لها وموسى - عليه الصلاة والسلام - انقلبت عصاه ثُعْبَاناً فأثبت الله له في الخشب الحياة بإذن الله؛ لكن الخشبة نبات كان له قوة في النمو فأشبه الحيوان في النمو ، وصالح - عليه الصلاة والسلام - كان الظاهر في يده خروج الناقة من الحجر ، والحجر جماد ، وليس محلاً للحياة ، ولا محلاً للنمو والنبي - عليه الصلاة والسلام - أتى بأعجبَ من الكُلِّ ، وهو التصرف في الجرْم السَّماويِّ الذي يقول المشرك : لا وصول لأحد إلى السماء ، وأما الأرضيات فقالوا : إنها أجسام مشتركة المواد يقبل كلُّ واحد منها صورة الأخرى ، والسماوات لا تقبل ذلك فلما أتى بما اعترفوا بأنه لا يقدر على مثله آدَمِيٌّ كان أتم وأبلغ من معجزة صالح - عليه الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - التي هي أتم من معجزة سَائر الأنبِياء غير محمد - عليه الصَّلاة والسلام - .
فصل
من قرأ المُحْتَظَر - بفتح الظاء - أراد الحظيرة ، ومن قرأ بالكسر أراد صاحب الحظيرة . ونقل القرطبي عن صاحب الصِّحَاح ، قال : من كسر جعله الفاعل ، ومن فتح جعله المفعول ، ويقال للرجل القليل الخير : إنَّه لَنَكِدُ الحَظِيرَةِ . قال أبو عبيدة : أراه سمى أمواله حظيرة ، لأنه حظرها عنده ومنعها ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة . وقال المَهْدَوِيُّ : من فتح الظاء من المُحْتَظَر فهو مصدر ، والمعنى كهشيم الاحتظار . ويجوز أن يكون المحتظر هو الشجر المتخذ منه الحظيرة ، قال ابن عباس ( - رضي الله عنهما - ) : المحتظر هو الرجل يجعل لغنمه حظيرةً بالشجر والشوك فما سقط من ذلك وداسته الغَنَم فَهُوَ الهَشِيمُ قال :
4606-
أَثَرْنَ عَجَاجَةً كَدُخَانِ نَارٍ ... تَشِبُّ بِغَرْقَدٍ بَالٍ هَشِيمِ
وعنه : الحشيش تأكله الغنم ، وعنه أيضاً : كالعظام النَّخِرة المحترقة . وهو قول قتادة . وقال سعيد بن جبير : هو الترابُ المتناثر من الحِيطَان في يوم ريح . وقال سفيان الثوري : هو ما تناثر من الحظيرة إذا ضَرَبْتَهَا بالعصا ، وهو فَعِيلٌ من مَفْعُولٍ . وقال ابن زيد : العرب تسمي كل شيء كان رطباً فيَبِسَ هشيماً والحَظْر المنع . والمُحَتَظرُ المُفْتَعَلُ يقال منه : احْتَظَرَ على إِبِلِهِ ، وحظر أي جمع الشجر بعضَه على بعض ليمنع برد الريح والسِّباع عن إبله ، قال الشاعر :
4607-
تَرَى جِيفَ المَطِيِّ بِجَانِبَيْهِ ... كَأَنَّ عِظَامَهَا خَشَبُ الْهَشِيمِ
وعن ابن عباس - ( رضي الله عنهما - ) أيضاً : أنهم كانوا مثل القمح الذي دِيسَ وهُشِمَ - . ( والهشيم : ) فُتَات السُّنْبُلَةِ والتِّبْن .
روى أَبُو الزُّبَيْرِ عن جابر قال : « لما نزلنا الحِجْر في مَغْزَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبوك ، قال : أيها الناس لا تسألوني الآياتِ ، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث لهم ناقةً ، فبعث الله عزّ وجلّ إليهم الناقةَ وكانت ترد من ذلك الفجّ فتشرب ماءهم يوم ورْدِها ويحلبون منها مثل الذي كانوا يشربون منها يوم غِبِّها » .
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
قوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر } أخبر عن قوم لوط لما كذبوا لوطاً . ثم قال : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً } والحاصب فاعل من حصب إذا رَمَى بالحَصَا وهي الحجارة . وقال النَّضْرُ : الحَاصِبُ الحَصْبَاءُ في الرِّيح . وقال أبو عبيدة : الحاصب الحِجارة . وفي الصِّحاح : الحَاصِبُ الريح الشديدة التي تثير الحَصْبَاء ، وكذلك الحَصْبَةُ ، قال لَبيدٌ :
4608-
جَرَّتْ عَلَيْهَا أَنْ خَوَتْ مِنْ أَهْلِهَا ... أَذْيَالَها كُلُّ عَصُوفٍ حَصِبَهْ
(
يقال ) : عَصَفَتِ الرِّيحُ أي اشتدت فهي ريحٌ عَاصِفٌ وعَصُوفٌ . وقال الفرزدق :
4609-
مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الشَّأْمِ تَضْرِبُنَا ... بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ
قوله : { إِلاَّ آلَ لُوطٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه متصل ويكون المعنى : أنه أرسل الحاصب على الجميع إلا أهله ، فإنه لم يرسلْ عليهم .
والثاني : أنه منقطع . قال شهاب الدين : ولا أدري ما وَجْهُهُ؛ فإن الانقطاع وعدمه عبارة عن عدم دخول المستثنى في المستثنى منه ، وهذا داخلٌ ليس إلاَّ .
وقال أبو البقاء : هو استثناء منقطع . وقيل : متصل؛ لأن الجميع أرسل عليهم الحاصب فهَلَكُوا إلا آلَ لوط . وعلى الوجه الأول يكون الحاصب لم يرسل على آل لوط . انتهى . وهو كلام مُشْكِلٌ .
فصل
قال ابن الخطيب : الحاصب رامي الحَصْبَاء ، وهي الحجارة؛ كقوله : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } [ الحجر : 74 ] وقول الملائكة : { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } [ الذاريات : 33 ] مع أنَّ المرسلَ عليهم ليس بحاصب فيحتمل أن يكون المعنى : لنرسل عليهم ريحاً حاصباً بالحجارة . ويجوز تذكير الرِّيح؛ لأن تأنيثها غير حقيقي . ويحتمل أن يكون المراد عذاب حاصب لأن ( أَرْسَلْنَا ) يدل على مُرسلِ وهو مرسل الحجارة وحاصبها ، وأفرد للجنس . وقوله : « إنَّا أَرْسَلْنَا » كأنه جواب من قال : كَيْفَ كَانَ أَمْرُهُمْ؟ والاستثناء في قوله : { إِلاَّ آلَ لُوطٍ } من الضمير في « عَلَيْهِمْ » وهو يعود على قوم لوط فيقتضي أن آلَهُ كَذَّبُوا ، لكن قد يكون أهله قليلاً فعمهم ظاهر اللفظ فبين بالاستثناء خروجهم لأن المقصودَ بيانُ هلاكهم ومن نجا أو يكون الاستثناء من كلامٍ مدلول عليه أي فما أنجينا من الحاصب إلا آل لوط ، ويكون الإرسال عليهم والإهلاك عامًّا ، فكأن الحاصب أهلك من كان الإرسال عليه مقصوداً وغيرهم ، كالأطفال والدَّوَابِّ .
والمراد بآل لوط : من تبع على دينه إلا بِنْتَاهُ .
قوله : « نَجَّيْنَاهُمْ » تفسير وجواب لقائل يقول : فَمَا كان من شأن آلِ لوط؟ كقوله تعالى : { أبى } [ البقرة : 34 ] بعد قوله : « إلاَّ إبْلِيسَ » . وقد تقدم في البقرة .
قوله : « بِسَحَرٍ » الباء حالية أو ظرفية ، وانصرف « سَحَرٌ » لأنه نكرة ، ولو قصد به وقتٌ بعينه لمنع ( مِنَ ) الصَّرف للتعريف والعدل عن أل هذا هو المشهور .
وزعم صَدْرُ الاَفَاضِلِ أنه مبني على الفتح كَأَمْسِ مبنياً على الكسر .
و « نِعْمَةً » إما مفعولٌ له ، وإما مصدرٌ بفِعلٍ من لفظهما أو من معنى « نَجَّيْنَاهُمْ »؛ لأن تنجيتهم إنعامٌ ، فالتأويل إما في العامل وإما في المصدر .
و « مِنْ عِنْدِنَا » إما متعلق بنعْمةٍ ، وإما بمحذوفٍ صفةً لها .
والكاف في « كَذَلِكَ » نعت مصدر محذوف أي مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ نَجْزِي .
فصل
قال الأخفش : إنّما جُرَّ سَحَر ، لأنه نكرة ، ولو أراد يوماً بعينه لم يَجُرَّه . وكذا قال الزجاج : سحرٌ إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار يصرف ، نقول : سَحرُنَا هذا ، وأتيته بسَحَرٍ ، والسَّحَرُ هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر ، وهو في كلام العرب اختلاط سواد الليل بِبَيَاضِ النهار؛ لأن في هذا الوقت تكون مخاييل الليل ومخاييل النهار .
{
نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا } إنعاماً على لوط وابْنَتَيْهِ .
{
كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ } ، أي كما جازينا لوطاً وأهله بالإنجاء ، فكذلك نجزي من شكر أي آمن بالله وأطاعه .
قال المفسرون : هو وعد لأمة محمد - عليه الصلاة والسلام - بأنه يصونهم عن الهلاك العام .
قال ابن الخطيب : ويمكن أن يقال : هو وعد لهؤلاء بالثواب يوم القيامة ، كما أنجاكم في الدنيا من العذاب؛ لقوله تعالى : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين } [ آل عمران : 145 ] .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا } هي العذاب الذي أصابهم ، أو هي عذاب الآخرة ، لقوله : { يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى } [ الدخان : 16 ] ، وقوله : « فَتَمَارَوا بِالنُّذُرِ » أي فشكُّوا فيما أنذرهم به الرسول ولم يصدقوه ، وهو تَفَاعَلُوا من المِرْيَة . وهذه الآية تدل على أن المراد بالنذر الإنذارات .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ } المراودة من الرَّوْدِ ، يقال : رَاوَدْتُهُ عَلَى كَذَا مُرَاوَدَةً ، ورَواداً أيْ أَرَدْتُهُ . وَرادَ الكَلأَ يَرُودُهُ رَوْداً وَرِياداً ، وارْتَادَهُ أيضاً أي طَلَبَهُ . وفي الحديث : « إذَا بَالَ أَحَدكُمْ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ » أي يطلب مكاناً ليناً أو منْحَدراً . قال ابن الخطيب : ومنه الإرادة وهي المطالبة غَيْرَ أن المطالبة تستعمل في العين ، يقال : طَالَبَ زَيْدٌ عَمْراً بالدَّرَاهِمِ ، والمراودة لا تستعمل إلا في العمل ، فيقال : رَاوَدَهُ عَنِ الْمُسَاعَدَةِ ، ولهذا تعدى المراودة إلى مفعول ثانٍ والمطالبة بالباء وذلك لأن الشغل منوطٌ باختيار الفاعل ، والعين قد توجد من غير اختيار منه فلهذا يفترق الحال بين قولك : أَخْبِرْنِي عَنْ أَمْرِ زَيْدٍ وأَخْبِرْنِي بأَمْر زَيْدٍ ، وكذا قوله : « أَخْبَرَنِي زَيْدٌ عَنْ مَجِيءِ فُلاَنٍ » وقوله : « أَخْبَرَنِي بمجيئه »؛ فإن من قال عن مجيئه ربما يكون الإخبار عن كيفية المجيء لا عن نفسه ، وأخبرني بمجيئه ، لا يكون إلا عن نفس المجيء .
والضيف يقع على الواحد والجماعة ، والمعنى أرادوا منه تمكينهم ممن أتاه من الملائكة .
قوله : « فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ » قرأ العامّة فَطَمسنَا مخففاً . وابن مِقْسِم مشدَّداً على التكثير ، لأجل المتعلق أو لشدة الفعل في نفسه .
والضمير في : « رَاوَدُوهُ » عائد على قومِ لوط .
وأسند إليهم لأن جميعهم راضٍ بذلك ، والمراد الذين دخلوا عليه . روي أن جِبْرِيلَ - عليه الصلاة والسلام - ضربهم بجناحه فَعَمُوا . وقيل : صارت أعينهم كسائر الوجه لا يرى لها شِقّ ، كما تطمس الريح الأثر والأعلام بما تَسْفِي عليهم من التراب ، وقال الضحاك : بل أعماهم الله تعالى فلم يَرَوا الرسل . وقالوا : لقد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا فرجعوا ولم يروهم . وهذا قول ابن عباس .
فإن قيل : قال ههنا : فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ، وقال في يس : { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ } [ يس : 66 ] فما الفرق؟
فالجواب : هذا يؤيد قول ابن عباس : بأن المراد من الطمس الحَجْبُ عن الإدراك ، ولم يجعل على بصرهم شيء . وفي « يس » أراد أنه لو شاء لجعل على بصرهم غشاوة أو أَلْزَقَ أحد الجَفْنَيْن بالآخَرِ فتكون العينُ جلدةً .
وروي أنهم صارت أعينهم مع وجودهم كالصفحة الواحدة .
قوله : { فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ } الخطاب لهم ، أي قلنا على لسان الملائكة فذوقوا ، وهو خطاب كل مكذب ، أي إنْ كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ فَذُوقُوا .
قال القرطبي : والمراد من هذا الأمر الخبر أي : فَأَذَقْتُهُمْ عَذَابي الذي أنذرَهُمْ به لوطٌ .
فإن قيل : إذا كان المراد بقوله : « عذابي » هو العذاب العاجل ، وبقوله : « ونُذُر » هو العذاب الآجل فهما لم يكونا في زَمَانٍ واحد فكيف قال : ذوقوا؟
فالجواب : أن العذاب الآجل أوله متصل بآخر العذاب العاجل فهما كالواقع في زمان واحد وهو كقوله تعالى : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [ نوح : 25 ] .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً } انصرف « بكرةً »؛ لأنه نكرة ولو قصد به وقت بعينه امتنع الصرف للتأنيث والتعريف . وهذا كما تقدم في « غَدْوَةٍ » .
ومنعها زيدُ بن عليٍّ الصرف ، ذهب بها إلى وقتٍ بعينه .
قال صاحب المختصر : انتصب بُكْرَة على الظرف أي بكرة من البكر كقوله : { أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } [ الإسراء : 1 ] . قال الزمخشري : والتنكير يدل على أنه كان في بعض الليل وتمسك بقراءة من قرأ : مِنَ اللِّيْلِ . قال ابن الخطيب : وهو غير ظاهر ، والأظهر أن يقال : بأن الوقت المبهم يذكر لبيان أن تَعْيِينَ الوقت ليس بمقصود للمتكلم ، كقوله : خَرَجْنَا فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ مَعَ أن الخروج لا بدّ وأن يكون في بعضِ الأوقات ، وكذلك قوله : « صَبّحَهُمْ بُكْرَةً » أي بكرة من البكر ، و { أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [ الإسراء : 1 ] أي ليلاً من الليالي .
ومعنى صبحهم قال لهم : عِمُوا صباحاً ، كقوله : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] . والمراد بقوله : بكرة أول أزمنة الصبح . أو انتصب « بُكْرَةً » على المصدر كقولك : ضَرَبْتُهُ سَوْطاً؛ لأن الضرب يكون بالسَّوْطِ وغيره ، وكذلك الصبح يكون بكرةً وبَعْدَها .
ومعنى « مستقر » أي ثابت عليهم لا يدفعه أحد عنهم ، أو دائم لأنهم انتقلوا منه إلى عذاب الجحيم ، وهو دائم ، أو بمعنى قدر الله عليهم وقوعه ولم يصبهم بطريق الاتفاق وذلك العذاب قلب قريتهم عليهم ، وجعل أعلاها أسْفَلَهَا .
وقوله : { فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي العذاب الذي نزل بهم من طَمْسِ الأَعْيُن غير العذاب الذي أهلكوا به ، فلذلك حسن التكرير .
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ النذر } المراد بآله خواصُّه ، والنُّذُر مُوسَى وهَارُونُ . ولقد يطلق لفظ الجمع على الاثنين . وقيل : المراد بآل فرعون القِبط .
فإن قيل : ما الفائدة في قوله : « آلَ فِرْعَوْنَ » بدل « قَوْمِ فِرَعوْنَ »؟
فالجواب : أن القوم أعم من الآل فالقوم كل من يقوم الرئيس بأمرهم ، أو يقومون هم بأمره وقوم فرعون : كانوا تحت قهره بحيث لا يخالفونه في قليل ولا كثير ، فأرسل إليه الرسول وحده غير أنه كان عنده جماعة من المقربين مثل قَارُون . مقدم عنده لمالِهِ العَظِيم ، وهَامَان لِدَهَائِهِ ، فاعتبرهم الله في الإرسال ، حيث قال في مواضع : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } [ الزخرف : 46 ] وقال : { إلى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ } [ غافر : 24 ] وقال في العنكبوت : { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُم موسى } [ العنكبوت : 39 ] لأنهم إن آمنوا آمن الكل ، بخلاف الأقوام الذين كانوا قبلهم وبعدهم ، فقال : { وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ النذر } وقال : { أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } [ غافر : 46 ] .
فإن قيل : كيف قال : « ولقد جاءهم » ولم يقل في غيره : جاء؟
فالجواب : لأن موسى - عليه الصلاة والسلام - لما جاءهم كان غائباً عن القوم فقدم عليهم ، كما قال : { فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ المرسلون } [ الحجر : 61 ] ، وقال تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] حقيقة أيضاً ، لأنه جاءهم من الله من السموات بعد المعراج ، كما جاء موسى قومه من الطور حقيقة .
والنذر : الرسل وقد جاءهم يوسف وبنوه إلى أن جاءهم موسى . وقيل : النذر الإنذاراتُ .
قوله : « كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا » فيه وجهان :
أحدهما : أن الكلام تمّ عند قوله : { وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ النذر } وقوله : « كَذَّبُوا » كلام مستأنف ، والضمير عائد إلى كل مَنْ تقدم ذكرهم من قوم نوح إلى آل فرعون .
والثاني : أن الحكاية مسوقةٌ على سياق ما تقدم فكأنه قيل : فَكَيْفَ كَانَ؟ فقال : كذبوا بآياتنا كلها فَأَخَذْنَاهُمْ .
فعلى الوجه الأولى آياتنا كلها ظاهر ، وعلى الثاني المراد بالآيات التي كانت مع موسى - عليه الصلاة والسلام - كالعصا ، واليد ، والسِّنِينَ ، والطمسِ ، والجرادِ ، والطوفانِ ، والجرادِ ، والقُمَّلِ ، والضفادعِ والدَّمِ .
قوله : { فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ } هذا مصدر مضاف لِفاعله ، والمعنى أخَذْنَاهُمْ بالعذاب أخَذْ عَزِيزٍ غالب في انتقامه ( مُقْتَدِرٍ ) قادرٍ على إهلاكهم ، لا يُعْجِزُه مَا أرَادَ .
ثم خوف أهل مكة فقال : { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ } أي أشد وأقوى من الذين أحللت بهم نِقْمَتي من قوم نوح وعاد وثمود ، وقم لوط . وهذا استفهام بمعنى الإنكار ، أي ليسوا بأقوى منهم ، فمعناه نفي أي ليس كفاركم خيراً من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم .
وقوله : « خَيْرٌ » مع أنه لا خير فيهم إما أن يكون كقول حسان :
4610- . . ...
فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
أهو بحسب زعمهم ، واعتقادهم ، أو المراد بالخير شدة القوة ، أو لأن كل مُمْكِن فلا بدّ وأن يكون فيه صفات محمودة ، والمراد تلك الصفات .
{
أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزبر } أي في الكتب المنزلة على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بالسلامة من العقوبة . وقال ابن عباس - ( رضي الله عنهما - ) أم لكم في اللوح المحفوظ براءة من العذاب .
قوله : « أَمْ يَقُولُونَ » العامة على الغيبة ، وأبو حيوة وأبو البَرَهسم وموسى الأسوَاريّ بالخطاب ، جرياً على ما تقدم من قوله : « كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ » . . . إلى آخره . والمعنى نحن جماعة لا نُطَاقُ لكثرة عددهمْ وقوتهم ، ولم يقل : منتصرين اتباعاً لرؤوس الآي .
وقال ابن الخطيب : قولهم : « جميعٌ » يحتمل الكثرة ، والاتّفاق ، ويحتمل أن يكون معناه نحن جميع الناس إشارة إلى أن من آمن لا عبرة به عندهم كقول قوم نوح : { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ] فيكون التنوين فيه عوضاً من الإضافة . وأفرد منتصر مراعاةً للفظ « جميع » أو يكون مرادهم كل واحد منتصر كقولك : كُلُّهُمْ عَالِمٌ أي كل واحد فيكون المعنى أن كل واحد منا غالب؛ فردّ الله تعالى عليهم بأنهم يهزمون جَمِيعُهُمْ .
قوله : « سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ » العامة على سَيُهْزَمُ مبنياً للمفعول و « الجَمْعُ » مرفوعٌ به . وقرىء : سَتَهْزِمُ بتاء الخطاب ، خطاباً للرسول - عليه الصلاة والسلام - « الْجَمْعَ » مفعول به . وأبو حيوة في رواية يعقوب : سَنَهْزِمُ بنون العظمة ، و « الْجَمْعَ » منصوب أيضاً . وابْنُ أَبِي عَبْلَةَ : سَيَهْزِمُ بياء الغيبة مبنياً للفاعل ( الجَمْعَ ) منصوب أي سيَهْزِمُ اللَّهُ .
و « يُوَلُّونَ » العامة على الغيبة . وأبو حيوة وأبو عمرو - في رواية - وتُوَلُّونَ بتاء الخطاب ، وهي واضحة والدُّبُر هنا اسم جنس ، وحسن هنا لوقوعه فاصلةً بخلاف : { لَيُوَلُّنَّ الأدبار } [ الحشر : 12 ] .
وقال الزمخشري : أي الأدبار ، كما قال :
4611-
كُلُوا فِي بَعْضِ بطْنِكُمُ تَصِحُّوا .. .
وقرىء الأدبار .
قال أبو حيان : وليس مثل بعضِ بَطْنِكُمْ؛ لأن الإفراد هنا له محسّن ، ولا محسن لإِفراد بَطْنِكُمْ .
قال ابن الخطيب : وأفْردَ « الدُّبُرُ » هنا وجُمع في غيره؛ لأن الجمع هو الأصل ، لأن الضمير ينوب مناب تَكْرار العاطف فكأنه قيل : تولى هذا وهذا . وأفرد لمناسبة المقاطع . وفيه إشارة إلى أن جميعهم يكونون في الانهزام كشخص واحد ، وأما قوله : { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار } [ الأنفال : 15 ] فجمع لأن كل واحد برأسه منهيّ عن رأسه ، وأما قوله : { وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار } [ الأحزاب : 15 ] أي كل واحد قال : أنا أثبت ولا أوَلِّي دُبُرِي .
فصل
قال مقاتل : ضرب أبو جهل فرسه يوم بدر فتقدم من الصف وقال : نحن نَقْتَصُّ اليومَ من مُحَمَّد وأصحابِهِ فأنزل الله تعالى : { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } .
وقال سعيد بن المسيب : « سمعت عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) يقول : لما نزل : سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّون الدُّبُرَ كنت لا أدري أي جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يثب في درعه ويقول : { سَيُهْزَمُ الجَمْع وَيُوَلُّون الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } أعظم نائبةً وأشدّ مرارةً من الأسر والقتل يوم بدر »
، وفي رواية « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَثِبُ في دِرْعِهِ ويقول : » اللَّهُمَّ إنَّ قُرَيْشاً حَادَّتْكَ وتُحَادّ رَسُولَكَ بفَخْرِهَا بخَيْلِهَا فَأَخْنِهِمُ العَدَاوَةَ « ، ثم قال : { سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } » وقال عمر - ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) - : فَعَرَفْتُ تَأْويلهَا . وهذا من معجزات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه أخبر عن غيب فكان كما أخبر قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبعُ سِنينَ ، فالآية على هذا مكية . وفي البخاري عن عائشةَ أمِّ المؤمنين - ( رضي الله عنهما ) - قالت : لقد أنْزِلَ على مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - بمكة ، وإني لجارية ألعبُ : { بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى وَأَمَرُّ } . « وعن ابن عباس ( - رضي الله عنهما - ) أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال وهو في قُبَّةٍ له يوم بدر : » أَنْشُدُكَ عَهْدَك ووَعْدَكَ ، اللَّهمَّ إنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ اليَوْم أبداً « . فأخذ أبو بكر بيده وقال : حَسْبُك يا رسول الله قد أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّك وهو في الدِّرع فخرج وهو يقول : سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيولُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ » .
{
بل الساعة موعدهم } يريد يوم القيامة { والساعة أدهى وأمر } مما لَحِقَهُمْ .
فصل
«
أدْهَى » من الداهية وهي الأمر العظيم يقال : أَدْهَاهُ أَمْرُ كَذَا أي أصابه دَهْواً ودَهْياً . وقال ابن السِّكِّيت : دَهَتْهُ دَاهِيَةٌ دَهْوَاءُ ودَهْيَاءُ ، وهي توكيد لها .
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
قوله : { إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } قيل : في ضلال بعد عن الحق . قال الضحاك : وسعر أي نار تسعّر عليهم . وقيل : ضلال ذهب عن طريق الجنة في الآخرة . وسُعُر جمع سَعِير : نار مستعرة . وقال الحسين بن الفضل : إن المجرمين في ضلال في الدنيا ونارٍ في الآخرة . قال قتادة : في عناء وعذاب .
ثم بين عذابهم فقال : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ } ويقال لهم : { ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } .
فصل
أكثر المفسرين على أن هذه الآية في القَدَرِيَّة . وفي الحديث : أَنَها نزلت في القَدَرِيَّة . وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « مَجُوسُ هَذِه الأُمَّةِ القَدَرِيَّةُ فَهُمُ المُجُرِمُونَ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى في قوله : { إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } » .
واعلم أن الجَبْريَّ من يقول : القدريُّ من يقول الطاعة والمعصية بفعلِي فهم ينكرون القَدَر . والفريقان متّفقان على أن السُّنِّيَّ القائلَ بأن الأفعال خلق الله وبسببٍ من العبد ليس بقَدَرٍ . قال ابن الخطيب : والحقُّ أن القَدَرِيَّ هو الذي يُنْكِرُ القَدَرَ ، ويَنْسِبُ الحوادث لاتصال الكواكب لما رُوِيَ أنَّ قريشاً خَاصَمُوا في القَدَر ومذهبهم أن الله مكَّن العبد مِن الطاعة والمعصية ، وهو قادر على خلق ذلك في العبد ، وقادر على أن يُطْعِمَ الفَقِيرَ ، ولهذا قالوا : { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ } [ يس : 47 ] منكرين لقدرته تعالى على الإِطعام . وأما قوله - عليه الصلاة والسلام - : « القَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأمة » فإِن أريد بالأمة المرسل إليهم مطلقاً كالقَوْم ، فالقدرية في زمانه هم المشركون المنكرون قدرته على الحوادث ، فلا يدخل فيهم المعتزلة . وإن كان المراد بالأمة من آمن به - عليه الصلاة والسلام - فمعناه أن نسبة القدرية إليهم كنسبة المَجُوس إلى الأمة المتقدمة ، فإن المجوس أضعفُ الكَفَرَة المتقدمين شبهةً وأشدّهم مخالفةً للعقل ، وكذا القدرية في هذه الأمة وكونهم كذلك لا يقتضي الجَزْم بكونهم في النار . فالحق أن القدريَّ هو الذي يُنْكِر قدرةَ الله تَعَالَى .
فصل
روى مُسْلِمٌ عن أبي هريرة ، قال : جاءَ مشركو قريش يخاصمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القدر ، فنزلت هذه الآية : { إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } إلى قوله : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [ القمر : 49 ] . وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلاَئِقِ كُلَّهَا مِنْ قَبْلِ أن يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ قال : وَعَرْشُهُ عَلَى الماء » وعن طاوس اليماني قال : أدركت ما شاء الله من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون : كُلّ شيء بقدر الله . وسمعت من عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
«
كُلُّ شَيْءٍ بقَدَرٍ حَتَى العَجْزُ والكَيْسُ أو الكَيْسُ والعَجْزُ » .
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : « قال رسول الله : لا يؤمن بالله عبدٌ حتى يؤمن بأربع : يشهدُ أن لا إلهَ إلا اللَّه ، وأَنِّي رسولُ الله بَعَثَنِي بالحقِّ ويؤمن بالبعث بعد الموت ويؤمن بالقَدَر . وزاد عُبَيْدُ الله : خَيْرِهِ وشَرِّهِ » وهذه الأدلة تبطل مذاهب القدرية .
قوله : « ذُوقُوا » فيه إضمار القول . وقرأ أبو عمرو - في رواية محبوب عنه - مَسَّقَرَ .
وخطَّأَهُ ابنُ مجاهد ، وهو معذُورٌ؛ لأن السِّين الأخيرة من « مَسَّ » مدغم فيها فلا تدغم في غيرها لأنه متى أدغم فيها لزم تحريكها ومتى أدغمت هي لزم سكونها فتَنَافَى الجمعُ بينهما .
قال أبو حيان : والظَّنُّ بأبي عمرو أنه لم يُدْغِمْ حتى حذفَ أحد الحرفين لاجتماع الأمثال ثم أدغم .
قال شهاب الدين : كلام ابن مجاهد إنما هو فيما قالوه أنه أدغم أما إِذا حَذَف وأدغم فلا إِشكال .
و ( سَقَرُ ) علم لجهنّم أعَاذَنَا الله منها ، مشتقة من سَقَرَتْهُ الشَّمْسُ والنارُ أي لَوَّحَتْهُ . ويقال : صَقَرَ بالصاد ، وهي مبدلة من السين لأجلِ القاف . قال ذو الرمة :
4612-
إِذَا ذَابَت الشَّمْسُ اتَّقَى صَقراتِهَا ... بِأَفْنَانِ مَرْبُوع الصَّرِيمَةِ مُعْبِل
و « سَقَرُ » متحتِّم المنع من الصرف؛ لأن حركة الوسط تنزلت منزلة الحرف الرابع ، كعَقْرَبَ وزَيْنَبَ .
قال القرطبي : و « سقر » اسم من أسماء جهنم مؤنث لا ينصرف ، لأنه اسم مؤنث معرفة وكذلك « لظى وجهنم » . وقال عطاء : « سقر » الطابق السادس من النار . وقال قطرب : ويَوْمٌ مُسْمَقِرٌّ ومُصْمَقِرٌّ : شديد الحر .
ومسها ما يوجد من الألم عند الوقوع فيها .
فصل
العامل في ( يَوْمَ يُسْحَبُونَ ) يحتمل أن يكون منصوباً بعامل مفهوم غير مذكور . وهذا العالم يحتمل أن يكون سابقاً وهو قوله : { إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ } . والعامل في الحقيقة على هذا الوجه أيضاً مفهوم من ( فِي ) كأنه فيه بمعنى كائن غير أن ذلك صار نَسْياً مَنْسيًّا . ويحتمل أن يكون متأخراً وهو قوله : « ذُوقُوا » تقديره : « ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ يَوْمَ يُسْحَبُ المُجْرمُونَ » . والخطاب حينئذ مع من خوطب بقوله : { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم } [ القمر : 43 ] . ويحتمل أن يكون منصوباً بالقول المقدر أي يُقَالُ لهم يَوْمَ يُسْحَبُونَ ذُوقوا . وهو المشهور .
والذوق استعارة للمبالغة لقوة الإدراك في الذَّوْقِ؛ فإن الإنسان يشارك غيره في اللَّمْس ، ويُخْتَصُّ بإدراك المطعوم فيحصل الألم العظيم ، والمعنى ذوقوا أيها المُكَذِّبُونَ بمحمد صلى الله عليه وسلم - مَسَّ سَقَر يَوْم يُسحب المجرمون المتقدمون في النار .
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
قوله : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ } العامة على نصب « كل » على الاشتغال . وأبو السَّمَّالِ بالرفع وقد رجح الناس - بل بعضُهُمْ أَوْجَبَ - النَّصَب ، قال : لأن الرفع يوهم ما لا يجوز على قواعد أهل السنة ، وذلك أنه إذا رفع : « كل شيء » كان مبتدأ ، و « خلقناه » صفة ل « كُلّ » أو « شَيْء » و « بِقَدَرٍ » خبره .
وحيئنذ يكون له مفهومٌ لا يخفى على مُتَأَمِّلِهِ ، فيلزم أن يكون الشيء الذي ليس مخلوقاً لله تعالى لا بقدر كذا قدره بعضهم . وقال أبو البقاء : وإنما كان النصب أولى لدلالته على عموم الخلق ، والرفع لا يدل على عمومية بل يفيد أن كل شيء مخلوق فهو بقدر .
وقال مكي بن أبي طالب : كان الاختيار على أصول البصريين رفع « كُلّ » كما أن الاختيار عندهم في قولك : « زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ » الرفع والاختيار عند الكوفيين النصب فيه بخلاف قولنا : زَيْد أَكْرَمْتُهُ ، لأنه قد تقدم في الآية شيء عمل فيما بعده وهو « إنَّ » . والاختيار عندهم النصب فيه . وقد أجمع القراء على النصب في ( كُلَّ ) على الاختيار فيه عند الكوفيين ليدل ذلك على عموم الأشياء المخلوقات أنها لله تعالى بخلاف ما قاله أهلُ الزَّيْغِ من أن ثَمَّ مخلوقاتٍ لغير الله تعالى . وإنما دل النصب في « كل » على العموم ، لأن التقدير : إنّا خَلَقْنَا كُلَّ شَيْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَر « فخلقناه » تأكيد وتفسير « لخَلَقْنَا » المضمر الناصب ل « كُلَّ شَيْءٍ » فهذا لفظ عام يَعُمُّ جميع المخلوقات .
ولا يجوز أن يكون « خَلَقْنَاهُ » صفة ل « شَيْءٍ »؛ لأن الصفة والصلة لا يعملان قبل فيما قبل الموصوف ولا الموصول ، ولا يكونان تفسيراً لما يعمل فيما قبلهُما ، فإذا لم يبق « خَلَقْنَاهُ » صفة لم يبق إلا أنَّه تأكيدٌ وتفسيرٌ للمضمر الناصب وذلك يدل على العموم .
وأيضاً فإن النصب هو الاختيار؛ ( لأن « إنَّا » عندهم تطلب الفعل ، فهُو أولى به فالنصب عندهم في « كل » هو الاختيار ) فإذا انضاف إليه معنى العموم والخروج عن الشبه كان النصب أولى من الرفع .
وقال ابن عطيه وقومٌ من أهل السنة : بالرفع . قال أبو الفتح : هو الوجهُ في العربية وقراءتنا بالنصب مع الجماعة .
وقال الزمخشري : كل شيء منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر .
وقرىء : كُلُّ شَيْءٍ بالرفع . والقَدَرُ والقَدْرُ : التقديرُ . وقرىء بهما أي خَلَقْنَا كل شيء مقدَّراً محكماً مرتباً على حَسْب ما اقتضته الحكمة أو مقدراً مكتوباً في اللوح المحفوظ معلوماً قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه انتهى .
وهو هنا يتعصب للمعتزلة لضعْف وجه الرفع .
وقال قومٌ : إذا كان الفعل يتوهم فيه الوصف ، وأن ما بعده يَصْلُحُ للخبر وكان المعنى على أن يكون الفعل هو الخبر اختار النصب في الاسم الأول حتى يتضح أن الفعل ليس بوصف . ومنه هذا الموضع ، لأن قراءة الرفع تخيل أن النصب وصف وأن الخبر : « بَقَدَرٍ » .
وقد تنازع أهل السنة والقدرية في الاستدلال بهذه الآية ، فأهل السنة يقولون : كُلّ شيء مخلوق لله تعالى ، ودليلهم قراءة النصب؛ لأنه لا يفسر في هذا التركيب إلا ما يَصِحُّ أن يكون خبراً لو رفع الأول على الابتداء .
وقال القَدَريَّة : القراءة برفع « كل » و « خَلَقْنَاهُ » في موضع الصفة ل « كُلّ » أي أمْرُنَا أو شَأْنُنَا كُلُّ شيء خَلَقْنَاه فهو بقدر أو بمقدار . وعلى حد ما في هيئَتِهِ وزمنِهِ ( وَغيْرِ ذَلِكَ ) .
وقال بعض العلماء في القدر هنا وجوه :
أحدها : أنه المقدار في ذاته وفي صفاته .
الثاني : ( أنه ) التقدير لقوله : { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون } [ المرسلات : 23 ] وقال الشاعر :
4614- ...
وَقَدْ قَدَرَ الرَّحْمَنُ مَا هُوَ قَادِرُ
أي ما هو مقدِّر .
الثالث : القدر الذي يقال مع القضاء ، كقولك : كَان بِقَضَاءِ اللَّهِ وقَدَرِهِ ، فقوله : ( بقَدَرٍ ) على قراءة الناصب متعلق بالفعل الناصب ، وفي قراءة الرفع في محلّ رفع ، لأنه خبرٌ ل « كُلّ » و « كُلّ » وخبرها في محل رفع خبر « لإِنَّ » . وسيأتي قريباً أنه عكس هذه؛ أعني في اختيار الرفع وهي قوله تعالى : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر } [ القمر : 52 ] ، فإنه يختلف في رفعه ، قالوا : لأن نَصْبَه يؤدي إلى فساد المعنى لأن الواقع خلافه ، وذلك أنك لو نصبته لكان التقدير : فَعلُوا كُلَّ شَيْءٍ فِي الزُّبُرِ . وهو خلافُ الواقع ، إذ في الزبر أشياء كثيرة جداً لم يَفْعَلُوها . وأما قراءة الرفع فتؤدي إلى أن كل شيء فعلوه هو ثابتٌ في الزُّبُرِ . وهو المقصود فلذلك اتفق على رَفْعِهِ .
وهذان الموضعان من نُكَت المسائل الغَريبة التي اتُّفِقَ مجيئُها في سورة واحدةٍ ومَكَانَيْن مُتَقَارِبَيْن ، ومما يدل على جلالة علم الإعراب وإفهامِهِ المعانيَ الغَامِضَة .
فصل
قال أهل السنة : إن الله تعالى قدر الأشياء أَيْ أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد منها ما سبق في علمه فلا محدث في العالم العلويّ والسفليّ إلا وهو صادرٌ عن علمِهِ تعالى وقدرتِهِ وإرادته دون خلقه ، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوعُ اكتساب ومحاولةٍ ونسبةٍ وإضافةٍ ، وأن ذلك كله إنما جُعِلَ لهم بتيسير الله وبقدرة الله وإلهامه سبحانه وتعالى لا إله إلا هو ولا خالقَ غيره كما نص عليه القرآن والسنة . لا كما قال القَدَريَّة وغيرهمُ من أن الأعمال إلينا ، والآجال بيد غَيرِنا .
قال أبو ذرٍّ : « قَدِمَ وَفْد نَجْرَانَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : الأعمال إلينا والآجال بيد غيرِنا ، فنزلت هذه الآيات إلى قوله : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } فقالوا يا محمد : يكتب علينا الذنب ويعذبنا؟ فقال : أنتم خصماء الله يَوْمَ القيامة » .
فصل
روى أبو الزُّبَيْر عن جابرِ بنِ عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ مَجُوسَ هَذِهِ الأُمَّةِ المُكَذِّبُونَ لِقَدَر اللَّهِ ، إنْ مَرِضُوا فَلاَ تَعُودُوهُم وإنْ مَاتُوا فَلاَ تَشْهَدُوهُم وإنْ لَقِيتُمُوهم فَلاَ تُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ » أخرجه ابن ماجه في سننه . وخرج أيضاً عن ابن عباس وجابر قالا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَيْسَ لهم في الإِسْلاَم نَصِيبٌ أَهْلُ الإرْجَاء والقَدَر » .
قوله : { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ } أي إلا كلمة واحدة وهو قوله « كُنْ » . « كَلَمْحِ بِالبَصَرِ » أي قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر . واللمح : النظر بالعَجَلة يقال : لَمَحَ البَرْق ببَصَره؛ وفي الصحاح : لَمَحَهُ وأَلْمَحَهُ إِذا أبصره بنظرٍ خفيف ، والاسم اللَّمْحَة ، ولَمَحَ البَرْقُ والنَّجْمُ لَمحاً ، أي لَمَعَ .
قال البغوي : قوله « وَاحِدَةٌ » يرجع إلى المعنى دون اللفظ أي وما أمرنا إلا واحدة .
وقيل : معناه وأما أمرنا للشيء إذا أردنا تكوينه إلا كلمة واحدة كما تقدم ، وهي رواية عَطَاءٍ عن ابْن عبَّاس ، وروى الكلبي عنه : وما أمرنَا بمجيء الساعة في السرعة إلاَّ كَطَرْف البَصَر .
فصل
قال ابن الخطيب : إنَّ الله تعالى إذا أراد شيئاً قال له : كُنْ فهناك شيئان الإرادة والقَوْل ، فالإرادة قَدَر ، والقول قضاء ، وقوله : « وَاحِدَةٌ » يحتمل أمرين :
أحدهما : بيان أنه لا حاجة إلى تكرير القول إشارة إلى نَفَاذِ القَوْل .
ثانيهما : بيان عدم اختلاف الحال فأمره عند خلق العرش العظيم كأمره عند خلق النَّمْلَة الصغيرة فأمره عند الكل واحد . وقوله : « كَلَمْحٍ بالبَصَرِ » تشبيه للكون لا تشبيه الأَمْر ، فكأنه قال : أمرنا واحدة ، فإذا المأمور كائنٌ كلمح بالبصر ، لأنه لو كان راجعاً إلى الأمر لا يكون ذلك صفة مدح يليق به ، فإن كلمة « كُنْ » شيء أيضاً يوجد كلمح بالبصر . ومعنى « كَلَمْحٍ بالبصَرِ » أي كنَظَر العَيْن . والباء للاستعانة مثل : كَتَبْتُ بالقَلَم ، دخلت على الآلة ومثل بها؛ لأنها أسرع حركة في الإنسان؛ لأن العين وجد فيها قرب المحرَّك منها ، ولا يفضل عليه بخلاف العِظام ، واستدارة شكلها ، فإن دَحْرَجَةَ الكُرَة أسرع من دحرجة المُثَلَّثِ والمربَّعِ ، ولأنها في رُطُوبةٍ مخلوقة في العضو الذي هو موضعها ، وهو الحكمة في كثرة المرئيَّات بخلاف المأكولات والمسموعات والمفاصل التي تُفْصَل بالأرجل والمذُوقات فلَوْلاَ سرعة حركة الآلة التي بها إدراك المبْصرات لما وصل إلى الكل إلا بعد طول بَيَان .
وقيل : معنى : « كلمح بالبصر » البرق يمر به سريعاً ، فالباء تكون للإلصاق ، نحو : مَرَرْتُ بِهِ ، وفي قوله : « كَلَمْحِ بِالبَصَرِ » ولم يقل : كلمح البرق فائدةٌ ، وهي أن لَمْحَ البرق له مبدأٌ ونهاية فالذي يمر بالبصر منه يكون أدل من جملته مبالغة في القلة ، ونهاية السرعة .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ } أي أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السابقة .
وقيل : أتباعكم وأعوانكم .
{
فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } ، أي يتذكر ويعلم أن ذلك حق فيخاف ويعتبر .
(
قوله ) { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر } أي جميع مَا فَعَلَتْهُ الأمم قبلهم من خير وشر فإنه مكتوب عليهم أي في كتب الحفظة . وقيل : في اللوح المحفوظ .
وقيل : في أم الكتاب . قال القرطبي : وهذا بيان لقوله : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } أي « في الزُّبُرِ » أي في اللوح المحفوظ .
قوله : { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } أي كل صغير وكبير مكتوب على عامله قبل أن يفعلوه .
وقرأ العامة مُسْتَطَرٌ بتخفيف الراء من السَّطْر وهو الكَتْب أي مُكْتَتَبٌ يقال : سَطَرْتُ واسْتَطَرْتُ وكَتَبْتُ وَاكْتَتَبْتُ وقرأ الأعمش وعِمْرَانُ بنُ حُدَيْر - وتروى عن عاصمٍ - بتشديدها ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مشتق من طَرّ الشاربُ والنباتُ أي ظَهَرَ وثَبَتَ بمعنى أن كل شيء قَلّ أو كَثُر ظاهرٌ في اللّوح غير خفي ، فوزنه مُسْتَفْعَلٌ كمُسْتَخْرجٍ .
والثاني : أنه من الاسْتِطَار كقراءة العامة ، وإنما شددت الراء من أجل الوقوف كقولهم : هذا جَعْفَرّ ونفعلّ ، ثم أجري الوصل مجرى الوقف فوزنه مُفْتَعَلٌ كقراءة الجمهور .
قوله تعالى : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } العامة بالإفراد ، وهو اسم جنس بدليل مقارنته للجمع والهاء مفتوحة كما هو الفصيح .
وسكّنها مجاهدٌ والأعرج وأبو السَّمَّال « والفَيَّاض » . وهي لغة تقدم الكلام عليها أول البقرة .
قال ابن جُرَيْجٍ : معنى ( نهر ) أنهار الماء والخَمْر والعَسَل . ووُحِّدَ؛ لأنه رأس آية . ثم الواحد قد ينبىء عن الجمع . وقال الضحاك ليس المراد هنا نهر الماء ، وإنما المراد سَعَةُ الأرزاق؛ لأن المادة تدل على ذلك كقول قَيْس بن الخَطِيمِ :
4615-
مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا ... يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونها مَا وَرَاءَهَا
أي وسعته . ومنه : أَنْهَرْتُ الجُرْحَ . ومنه : النَّهَار ، لضيائه .
وقرأ أبو نهيك وأبو مجْلَز والأعمش وزهير الفُرْقُبيّ - ونقله القرطبي أيضاً عن طَلْحَة بن مُصَرِّف والأعرج وقتادة - : « ونُهُر » بضم النون والهاء وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون نهر بالتحريك وهو الأولى نحو : أُسُد في أَسَدٍ .
والثاني : أن يكون جمع الساكن نحو : سُقُف في سَقْفٍ ، ورُهُن في رَهْن . والجمع مناسب للجمع قبله في جَنَّات . وقراءة العامة بإفراده أبلغ ، وقد تقدم كلام ابن عباس في قوله تعالى آخر البقرة { وَمَلائكته وكتابه } [ البقرة : 285 ] بالإِفراد أنه أكثر من الكُتُب ، وتقدم أيضاً تقرير الزمخشري لذلك . قال القرطبي ( رحمةُ الله عليه ) كأَنه جمع نهار لا ليل لهم كسَحَاب وسُحُب . قال الفراء : أنشدني بعض العرب :
4616-
إِنْ تَك لَيْلِيًّا فَإِنِّي نَهِرُ ... مَتَى أَرَى الصُّبْحَ فَلاَ أَنْتَظِرُ
أي صاحب النهار . وقال آخر :
4617-
لَوْلاَ الثَّرِيدُ إِنْ هَلَكْنَا بِالضُّمُرْ ... ثَرِيدُ لَيْلٍ وَثَرِيدٌ بِالنُّهُرْ
فصل
لما وصف الكفار وصف المؤمنين أيضاً ، فقال : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ } الجنات : اسم للأشجار أي هم خلالها وكذلك الأنهر ، والمعنى : جنات وعند عيون كقوله :
4618-
عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً .. .
وجمعت الجنات إشارة إلى سَعَتِها وتنوعها ، وأفرد النَّهَر؛ لأن المعنى في خلاله ، فاستغني عن جمعه ، وجمع في قوله : { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } لئلا يتوهم أنه ليس في الجنة إلاّ نهر فيه . والتنكير فيه للتعظيم .
قوله : « فِي مَقْعَدِ » يجوز أن يكون خبراً ثانياً وهو الظاهر ، وأن يكون حالاً من الضمير في الجار لوقوعه خبراً ، وجوّز أبو البقاء : أن يكون بدلاً من قوله : « فِي جَنَّاتٍ » . وحيئنذ يجوز أن يكون بدلَ بعض ، لأن المقعد بعضها ، وأن يكون اشتمالاً ، لأنها مشتملة ، والأول أظهر . والعامة على إفراد مَقْعَدٍ مراداً به الجنس كما تقدم في : « نَهَر » . وقرأ عُثْمَانُ البَتِّيُّ : مَقَاعِدَ . وهو مناسب للجمع قبله .
و « مَقْعَدُ صِدْقٍ » من باب رَجُلُ صِدْقٍ في أنه يجوز أن يكون من إضافة الموصوف لصفته والصدق يجوز أن يراد به ضد الكذب أي صدقوا في الإخبار عنه . وأن يراد به الجَوْدَة والخَيْرِيَّة . وَمَلِيكٍ مثال مُبالغة ، وهو مناسب هنا ولا يتوهم أن أصله « ملك »؛ لأنه هو الوارد في غير موضع وأن الكسرة أُشْبِعَتْ فتولد منها ياء؛ لأن الإشباع لم يرد إلا ضرورةً أو قليلاً وإن كان قد وقع في قراءة هشام : { أفئدة } [ إبراهيم : 43 ] في آخر إبراهيم . فَلْيُلْتَفَتْ إليه .
فصل
قال : في مقعد صدق ولم يقل : في مجلس صدق؛ لأن القعود جلوس فيه مكثٌ ومنه : « قَوَاعِدَ البَيْتِ » [ و ] { والقواعد مِنَ النسآء } [ النور : 60 ] ، ولا يقال جوالس فأشار إلى دَوَامِه وثَبَاتِهِ ، ولأن حروف « ق ع د » كيف دارتْ تدل على ذلك والاستعمال في القعود يدل على ذلك ومنه : { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين } [ النساء : 95 ] ، وقوله { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [ آل عمران : 121 ] إشارة إلى الثبات وكذا قوله : { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ } [ ق : 17 ] ، فذكر المقعد لدوامه أو لطوله وقال في المجلس : { تَفَسَّحُواْ فِي المجالس } [ المجادلة : 11 ] إشارة إلى الحركة ، وقال { انشزوا } [ المجادلة : 11 ] إشارة إلى ترك الجلوس أي هو مجلس فلا يجب ملازمته بخلاف المقعد .
فصل
قال المفسِّرون : في مقعد صدق أي حق لا لغو فيه ولا تأثيم { عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } أي مالك قادر لا يعجزه شيء و « عِندَ » ههنا عندية القُرْبَة والزُّلْفَةِ والمكانة والرتبة والكرامة والمنزلة . قال ( جَعفرُ ) الصادق : مَدَحَ الله المكانَ بالصِّدق فلا يقع فيه إلا أهل الصدق .
وروى الثعلبي في تفسيره عن أبيّ بن كعب ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ قَرَأَ سُورَةَ اقْتَرَبَت السَّاعَةُ فِي كُلّ غِبٍّ بُعِثَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَوَجْهُهُ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ . وَمَنْ قَرَأَهَا كُلَّ لَيْلَةٍ كَانَ أَفْضَلَ وَجَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَوَجْهُهُ مُسفرٌ عَلَى وُجُوهِ الخَلاَئِقِ » .
(
اللَّهُمّ ارحمْنا ، وارزقْنَا واسْتُرْنَا ) . ( واللَّهُ أَعْلَمُ ) .
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
قال تعالى : « الرَّحْمن » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : « الله الرحمن » .
الثاني : أنه مبتدأ وخبره مضمر ، أي : « الرحمن ربنا » وهذان الوجهان عند من يرى أن « الرحمن » آية مع هذا المضمر معه ، فإنهم عدُّوا الرحمن « آية » .
ولا يتصور ذلك إلا بانضمام خبر أو مخبر عنه إليه؛ إذ الآية لا بد أن تكون مفيدة ، وسيأتي ذلك في قوله : { مُدْهَآمَّتَانِ } [ الآية : 64 ] .
الثالث : أنه ليس بآية ، وأنه مع ما بعده كلام واحد ، وهو مبتدأ ، خبره « عَلَّم القُرْآنَ » .
فصل في بيان مناسبة السورة
افتتح السورة التي قبلها بذكر معجزة تدل على القهر [ والغلبة ] والجبروت ، وهو انشقاق القمر ، فمن قدر عليه قدر على قطع الجبال وإهلاك الأمم ، وافتتح هذه السورة بذكر معجزة تدلّ على الرحمة ، وهي القرآن ، وأيضاً فأولها مناسب لآخر ما قبلها؛ لأن آخر تلك أنه { مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [ القمر : 55 ] وأول هذه أنه رحمن .
قال بعضهم : إن « الرحمن » اسم علم ، واحتج بقوله تعالى : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى } [ الإسراء : 110 ] .
وأجاز أن يقال : « يالرحمن » باللام ، كما يقال : « يا الله » وهذا ضعيف ، وهو مختص بالله تعالى ، فلا يقال لغيره .
قال سعيد بن جبير ، وعامر الشعبي : « الرحمن » فاتحة ثلاثة سور إذا جمعن كن اسماً من أسماء الله تعالى : « الر » و « حم » و « نون » ، فيكون مجموع هذه « الرحمن » .
ولله - تعالى - رحمتان :
رحمة سابقة بها خلق الخلق ، ورحمة لاحقة بها أعطاهم الرزق والمنافع ، فهو رحمن باعتبار السَّابقة ، رحيم باعتبار اللاحقة ، ولما اختص بالإيجاد لم يقل لغيره : رحمن ، ولما تخلق بعض خلقه الصالحين ببعض أخلاقه بحسب الطَّاقة البشرية ، فأطعم ونفع ، جاز أن يقال له : رحيم .
قوله : « عَلَّم القُرآن » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه « علم » المتعدية إلى اثنين أي عرف من التعليم ، فعلى هذا المفعول الأول محذوف .
قيل : تقديره : علم جبريل القرآن .
وقيل : علم محمداً .
وقيل : علم الانسان ، وهذا أولى لعمومه ، ولأن قوله : « خَلَقَ الإنْسان » دال عليه .
والثاني : أنها من العلامة ، والمعنى : جعله علامة ، وآية يعتبر بها ، أي : هو علامة النبوة ومعجزة ، وهذا مناسب لقوله تعالى : { وانشق القمر } [ القمر : 1 ] . على ما تقدم أنه ذكر في أول تلك السورة معجزة من باب الهيبة ، وذكر في هذه السورة معجزة من باب الرحمة ، وهو أنه يسر من العلوم ما لا يسره غيره ، وهو ما في القرآن ، أو يكون بمعنى أنه جعله بحيث يعلم كقوله تعالى :
{
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ } [ القمر : 17 ] ، فالتعليم على هذا الوجه مجاز كما يقال لمن أنفق على متعلم وأعطى أجرة معلمه : علمته .
فإن قيل : لم ترك المفعول الثاني؟ .
فالجواب : أن ذلك إشارة إلى أن النعمة في التعليم لا تعليم شخص دون شخص؛ فإن قيل : كيف يجمع بين هذه الآية ، وبين قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } [ آل عمران : 7 ] ؟ فالجواب : إن قلنا بعطف الرَّاسخين على « الله » فظاهر .
وإن قلنا بالوقف على الجلالة ، ويبتدأ بقوله : « والرَّاسِخُون » فلأن من علم كتاباً عظيماً فيه مواضع مشكلة قليلة ، وتأملها بقدر الإمكان ، فإنه يقال : فلان يعلم الكتاب الفلاني ، وإن كان لم يعلم مراد صاحب الكتاب بيقين في تلك المواضع القليلة ، وكذا القول في تعليم القرآن ، أو يقال : المراد لا يعلمه من تلقاء نفسه ، بخلاف الكتب التي تستخرج بقوّة الذكاء .
فصل في نزول هذه الآية
قال المفسرون : نزلت هذه الآية حين قالوا : وما الرحمن؟ .
وقيل : نزلت جواباً لأهل « مكة » حين قالوا : { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } [ النحل : 103 ] ، وهو رحمن « اليمامة » ، يعنون : مسيلمة الكتاب فأنزل الله - تعالى - { الرحمن ، علَّم القُرآن } أي : سهله لأن يذكر ويُقرأ .
كما قال : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ } [ القمر : 22 ] .
قوله تعالى : « خلق الإنسان » .
قال ابن عباس وقتادة ، والحسن : يعني آدم - عليه الصلاة والسلام - .
قوله : « علَّمهُ البَيانَ » علمه أسماء كل شيء .
وقيل : علمه اللغات كلها ، وكان آدم يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية . وعن ابن عباس أيضاً ، وابن كيسان : المراد بالإنسان هنا محمد - عليه الصلاة والسلام - والمراد من البيان بيان الحلال من الحرام ، والهدى من الضلالة .
وقيل : ما كان وما يكون؛ لأنه ينبىء عن الأولين ، والآخرين ، ويوم الدين .
وقال الضحاك : « البيان » : الخير والشر وقال الربيع بن أنس : هو ما ينفعه مما يضره .
وقيل : المراد ب « الإنسان » جميع الناس ، فهو اسم للجنس ، والبيان على هذا الكلام : الفهم وهو مما فضل به الإنسان على سائر الحيوان .
قال السدي : علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به .
وقال يمان : الكتابة والخط بالقلم نظيره { عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 4 ، 5 ] .
فصل في كيفية النظم
إنه علم الملائكة أولاً ، ثم خلق الإنسان ، وعلمه البيان ، فيكون ابتدأ بالعلوي ، وقابله بالسفلي ، وقدم العلويات على السفليات ، فقال : « علم القرآن » إشارة إلى تعليم العلويين .
ثم قال : { خَلَقَ الإنسانَ ، علَّمهُ البيانَ } إشارة إلى تعليم السفليين ، وقال : { الشمس والقمر بحسبان } [ في العلويات ] { والنجم والشجر يسجدان } [ في السفليات ] .
ثم قال : { والسمآء رَفَعَهَا } [ الرحمن : 7 ] ، وفي مقابلتها { والأرض وَضَعَهَا } [ الرحمن : 10 ] .
فصل في وصل هذه الجمل
هذه الجمل من قوله : { عَلَّمَ القُرآنَ ، خلق الإنسَانَ ، علَّمه البيان } جيء بها من غير عاطف؛ لأنها سيقت لتعديد نعمه ، كقولك : « فلان أحسن إلى فلان ، أشاد بذكره ، رفع من قدره » فلشدة الوصل ترك العاطف ، والظاهر أنها أخبار .
وقال أبو البقاء : و « خَلَقَ الإنسَانَ » مستأنف ، وكذلك « علَّمَهُ » ، ويجوز أن يكون حالاً من الإنسان مقدرة ، وقدَّر معها مرادة انتهى .
وهذا ليس بظاهر ، بل الظاهر ما تقدم ، ولم يذكر الزمخشري غيره .
فإن قيل : لم قدم تعليم القرآن للإنسان على خلقه ، وهو متأخر عنه في الوجود؟ .
فالجواب : لأن التعليم هو السبب في إيجاده وخلقه .
فإن قيل : كيف صرح بذكر المفعولين في « علَّمهُ البَيانَ » ، ولم يصرح بهما في « علَّم القُرآن »؟ .
فالجواب : أن المراد من قوله « علَّمه البَيَانَ » تعديد النِّعم على الإنسان ، واستدعاء للشكر منه ، ولم يذكر الملائكة؛ لأن المقصود ذكر ما يرجع إلى الإنسان .
فإن قيل : بأنه علم الإنسان القرآن .
فيقال : بأن ذكر نعمة التعليم وعظمها على سبيل الإجمال ، ثم بين كيفية تعليمه القرآن ، فقال : { خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان } .
واستدلّ بعضهم بهذه الآية على أن الألفاظ توقيفية .
قوله : { والشمس والقمر بحسبان } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الشمس مبتدأ ، و « بِحُسْبَان » خبره على حذف مضاف ، تقديره : جري الشمس والقمر بحسبان ، أي كائن ، أو مستقر ، أو استقر بحُسْبَان .
الثاني : أن الخبر محذوف يتعلق به هذا الجار ، تقديره : يجريان بحُسْبَان .
وعلى هذين القولين ، فيجوز في الحسبان وجهان :
أحدهما : أنه مصدر مفرد بمعنى « الحُسْبان » ، فيكون ك « الشُّكْران » و « الكُفْران » .
والثاني : أنه جمع حساب ، ك « شهاب » و « شُهْبَان » .
والثالث : أن « بحسبان » خبره ، و « الباء » ظرفية بمعنى « في » أي : كائنان في حسبان .
وحسبان على هذا اسم مفرد ، اسم للفلك المستدير ، مشبهة بحسبان الرَّحَى الذي باستدارته تدور الرّحى .
فصل
لما ذكر خلق الإنسان وإنعامه عليه لتعليمه البيان ، ذكر نعمتين عظيمتين ، وهما : الشمس والقمر ، وأنهما على قانون واحد وحسابٍ لا يتغيران ، وبذلك تتم منفعتهما للزراعات وغيرها ، ولولا الشمس لما زالت الظلمة ، ولولا القمر لفات كثير من المنافع الظاهرة ، بخلاف غيرهما من الكواكب ، فإن نعمها لا تظهر لكل أحد مثل ظهور نعمتهما ، وأنهما بحساب لا يتغير أبداً ، ولو كان مسيرهما غير معلوم للخلق لما انتفعوا بالزِّراعات في أوقاتها ، ومعرفة فصول السَّنة .
ثم لما ذكر النعم السماوية وذكر في مقابلتها أيضاً نعمتين ظاهرتين من الأرض ، وهما : النبات الذي لا ساق له ، وما له ساق؛ لأن النبات أصل الرزق من الحبوب والثمار ، والحشيش للحيوان .
وقيل : إنما ذكر هاتين النعمتين بعد تعليم القرآن إشارة إلى أن من الناس من لا تكون نفسه زكيّة ، فيكتفي بأدلة القرآن ، فذكر له آيات الآفاق ، وخص الشمس والقمر؛ لأن حركتهما بحسبان تدل على الفاعل المختار .
ولو اجتمع العالم ليبيّنوا سبب حركتهما على هذا التقدير المعين لعجزوا ، وقالوا : إن الله حركهما بالإرادة كما أراد .
وقيل : لما ذكر معجزة القرآن بإنزاله أنكروا نزول الجرم من السماء وصعوده إليها ، فأشار تعالى بحركتهما إلى أنها ليست بالطبيعة .
وهم يقولون بأن الحركة الدّورية من أنواع الحركات لا يكون إلا اختيارياً ، فقال تعالى : من حرّكهما على الاستدارة أنزل الملائكة على الاستقامة ، والثقيل على مذهبكم لا يصعد ، وصعود النَّجم والشجر إنما هو بقدرة الله تعالى ، فحركة الملك كحركة الفلك جائزة .
فصل في جريان الشمس والقمر
قال المفسرون : [ المعنى ] يجريان بحسبان معلوم فأضمر الخبر .
قال ابن عباس وقتادة وأبو مالك : يجريان بحساب في منازل لا تعدوها ولا يحيدان عنها .
وقال ابن زيد وابن كيسان : بهما تحسب الأوقات والأعمار ، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدرك أحد كيف يجد شيئاً إذا كان الدهر كله ليلاً أو نهاراً .
وقال السدي : « بحسبان » تقدير آجالهما ، أي : يجريان بآجال كآجال الناس ، فإذا جاء أجلهما هلكا ، نظيره : { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } [ الرعد : 2 ] .
وقال الضحاك : بقدر .
وقال مجاهد : « بحسبان » كحُسْبَان الرَّحى يعني : قطعها ، يدوران في مثل القُطْب .
والحُسْبَان : قد يكون مصدر « حسبته أحسبُه بالضم حَسْباً وحِسَاباً وحُسْبَاناً » مثل الغُفْرَان والكُفْران والرُّجحان .
وحسبته أيضاً : أي عددته .
وقال الأخفش : ويكون جماعة الحساب ، مثل « شِهَاب ، وشُهْبَان » .
والحُسْبَان - بالضم - أيضاً : العذاب والسِّهام القصار ، الواحدة : حُسْبَانة .
والحُسْبانة أيضاً : الوِسادَة الصغيرة تقول منه : « حَسَّبْتُهُ » إذا وسدته . قال : [ مجزوء الكامل ]
4619- ...
لَثَوَيْتَ غَيْرَ مُحَسَّبِ
أي غير مُوسَّد ، يعني : غير مكرم ولا مكفن .
قوله تعالى : { والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 6 ] .
قال ابن عباس وغيره : النَّجْم : ما لا ساق له ، والشَّجر : ما له ساق .
وأنشد ابن عباس قول صفوان التيمي : [ الطويل ]
4620-
لَقَدْ أنجمَ القَاعُ الكَبيرُ عِضَاههُ ... وتَمَّ بِهِ حيَّا تَميمٍ ووَائِلِ
وقال زهير بن أبي سُلْمَى : [ البسيط ]
4621-
مُكَلَّلٌ بأصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ ... رِيحُ الجَنُوبِ لِضاحِي مَائِهِ حُبُكُ
واشتقاق النجم من « نَجَمَ الشيء يَنْجُمُ » - بالضم - نُجُوماً : ظهر وطلع .
ومنه : نَجَمَ نابُ البعير ، أي : طلع . وسجودهما : سجود ظلالهما؛ قاله الضحاك . وقال الفرّاء : سجودهما أنهما يستقبلان إذا طلعت ، ثم يميلان معهما حتى ينكسر الفيء .
وقال الزجاج : سجودهما : دوران الظِّل معهما ، كما قال : { يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ } [ النحل : 48 ] .
وقال الحسن ومجاهد : النجم نجم السماء ، وسجوده في قول مجاهد : « دوران ظله » وهو اختيار الطبري ، حكاه المهدوي .
وقيل : سجود النجم : أفوله ، وسجود الشجر : إمكان الاجتناء لثمارها ، حكاه الماوردي .
والأول أظهر .
وقيل : إن جميع ذلك مسخر لله تعالى ، فلا تعبدوا النجم كما عبد قوم من الصَّابئين النجوم ، وعبد كثير من العجم الشجر .
والسجود : الخضوع ، والمعني به آثار الحدوث ، حكاه القشيري .
وقال النحاس : أصل السجود في اللغة : الاستسلام والانقياد لله - عز وجل - فهو من السموات كلها استسلامها لأمر الله - عز وجل - وانقيادها له .
ومن الحيوان كذا ، ويكون من سجود الصلاة .
وأنشد محمد بن يزيد في النجم بمعنى النجوم؛ قال : [ الطويل ]
4622-
فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ في مُسْتجيرِهِ ... سَرِيعٍ بأيْدِي الآكلينَ جُمُودهَا
قوله تعالى : { والسمآء رَفَعَهَا } .
العامة : على النصب على الاشتغال مراعاة لعجز الجملة التي يسميها النحاة ذات وجهين ، وفيها دليل لسيبويه الذي يجوز النصب ، وإن لم يكن في جملة الاشتغال ضمير عائد على المبتدأ الذي تضمنته الجملة ذات الوجهين .
والأخفش يقول : لا بد من ضمير ، مثاله : « هند قامت وعمراً أكرمته لأجلها » .
قال : « لأنك راعيْتَ الخبر وعطفت عليه ، والمعطوف على الخبر خبر ، فيشترط فيه ما يشترط فيه » .
ولم يشترط الجمهور ذلك ، وهذا دليلهم .
فإن القراء كلهم نصبوا مع عدم الرابط إلا من شذ منهم وقد تقدم تحرير هذا في سورة « يس » عند قوله : { والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } [ يس : 39 ] .
وقرأ أبو السمال : برفع السماء على الابتداء ، والعطف على الجملة الابتدائية التي هي قوله « والشمس والقمر » .
قال القرطبي : « فجعل المعطوف مركباً من ابتداء وخبر كالمعطوف عليه » .
قوله : « ووَضَع المِيزانَ » .
العامة على « وَضَع » فعلاً ماضياً ، و « الميزان » نصب على المفعول به .
وقرأ إبراهيم : « ووضْع الميزانِ » - بسكون الضاد - وخفص « الميزان » وتخريجها : على أنه معطوف على مفعول « رفعها » أي : « ورفع ووضْع الميزان » أي جعل له مكانة ورفعة لأخذ الحُقُوق به ، وهو من بديع اللفظ حيث يصير التقدير : « ورفع ووضع الميزان » .
قال الزمخشري : « فإن قيل : كيف أخلّ بالعاطف في الجمل الأول وجيء به بعده؟ .
قلت : بَكَّتَ بالجمل : الأول ، وأورده على سننِ التعديد للذين أنكروا الرحمن وآلاءه كما تبكت منكر أيادي المنعم من الناس بتعدّدها عليه في المثال الذي قدمته ، ثم رد الكلام إلى منهاجه بعد التَّبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعاطف .
فإن قلت : أي تناسب بين هاتين الجملتين حتى وسط بينهما العاطف؟ .
قلت : إن الشمس والقمر سماويَّان ، والنجم والشجر أرضيَّان فبينهما تناسب من حيث التقابل ، وإن السماء والأرض لا يزالان يذكران قرينتين ، وإن جري الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله ، فهو مناسب لسجود النجم والشجر » .
فصل في المراد بوضع الميزان
قال مجاهد وقتادة : وضع الميزان عبارة عن العدل .
قال السدي : « ووضع الميزان » وضع في الأرض العدل الذي أمر به ، يقال : وضع الله الشريعة ، ووضع فلان كذا أي ألقاه .
وقيل : على هذا الميزان القرآن ، لأن فيه بيان ما يحتاج إليه .
وهو من قول الحسين بن الفضل .
وقال الحسن وقتادة - أيضاً - والضحاك : هو الميزان الذي يوزن به لينتصف به الناس بعضهم من بعض ، وهو خبر بمعنى الأمر بالعدل يدل عليه قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط } [ الرحمن : 9 ] .
والقسْط هو العَدْل ، وقيل : هو الحكم .
وقيل : المراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال . وأصل « ميزان » « يوزان » . وقد مضى القول فيه في « الأعراف » .
قال ابن الخطيب : قوله : « ووَضَعَ المِيزانَ » إشارة إلى العدل ، كقوله : { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان } [ الحديد : 25 ] أي : ليعلموا بالكتاب ، ويعملوا بالميزان ، فكذا هنا « عَلَّمَ القُرآن » ووضع الميزانَ ، فالمراد ب « الميزان » : العدل بوضعه شرعة ، كأنه قيل : شرع العدل لئلا تطغوا في الميزان الذي هو آلة العَدْل ، هذا هو المنقول ، قال : والأولى العكس كالأول وهو الآلة ، والثاني : بمعنى الوزن ، أو بمعنى العدل .
قوله : { أَلاَّ تَطْغَوْاْ } ، في « أنْ » هذه وجهان :
أحدهما : أنها الناصبة ، و « لا » بعدها نافية ، و « تطغوا » منصوب ب « أن » ، و « أن » قبلها لام العلة مقدّرة تتعلق بقوله : « ووضَعَ المِيزانَ » ، التقدير : « لئلاَّ تَطغَوا » ، كقوله تعالى : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] .
وأجاز الزمخشري وابن عطية : أن تكون المفسرة ، وعلى هذا تكون « لا » ناهية ، والفعل مجزوم بها .
قال القرطبي : فلا يكون ل « أنْ » موضع من الإعراب ، فتكون بمعنى « أي » ، و « تطغوا » مجزوم بها كقوله : { وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا } [ ص : 6 ] ، أي : « امْشُوا » .
إلا أن أبا حيان رد هذا القول بأن شرط التفسيرية تقدم جملة متضمنة لمعنى القول ، وليست موجودة .
قال شهاب الدين : « وإلى كونها مفسرة ذهب مكي ، وأبو البقاء ، إلا أن أبا البقاء كأنه تنبه للاعتراض ، فقال : » وأن - بمعنى أي - والقول مقدر « .
فجعل الشيء المفسر ب » أن « مقدراً لا ملفوظاً به ، إلا أنه قد يقال إن قوله » والقول مقدر « ليس بجيّد؛ لأنها لا تفسر القول الصريح ، فكيف يقدر ما لا يصحّ تفسيره ، فإصلاحه أن يقول : وما هو بمعنى القول مقدر » .
فصل في الطغيان في الميزان
والطغيان مجاوزة الحد ، فمن قال : الميزان العدل ، قال : الطغيان الجور ومن قال : إنه الميزان الذي يوزن به ، قال : طغيانه النّجس .
قال ابن عباس : لا تخونوا من وزنتم له .
وعنه أيضاً أنه قال : يا معشر الموالي وليتم أمرين بهما هلك الناس : المكيال والميزان .
ومن قال : إنه طغيان الحكم ، قال : طغيانه التحريف .
وقيل : فيه إضمار ، أي : وضع الميزان وأمركم ألا تطغوا فيه .
فإن قيل : العلم لا شك في كونه نعمة ، وأما الميزان فأي نعمة عظيمة فيه حتى يعد بسببها في الآلاء؟ .
فالجواب : أن النفوس تأبى الغَبْنَ ، ولا يرضى أحد بأن يغلبه غيره ، ولو في الشيء اليسير ، ويرى أن ذلك استهانة به ، فلا يترك خَصْمه يغلبه ، ثم إن عند عدم المعيار الذي به تُؤخذ الحقوق ، كل أحد يذهب إلى أن خصمه يغلبه ، فوضع الله - تعالى - معياراً بين به التَّساوي ، ولا يقع به البغضاء بين الناس ، وهو الميزان ، فهو نعمة كاملة ، ولا ينظر إلى عدم ظهور نعمته وكثرته ، وسهولة الوصول إليه كالهواء والماء الذي لا يبين فضلهما إلاَّ عند فقدهما .
قوله : { وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط } .
أي : افعلوه مستقيماً بالعدل .
وقال أبو الدرداء : أقيموا لسان الميزان بالقسط والعدل .
وقال ابن عيينة : الإقامة باليد ، والقسط بالقلب .
وقال مجاهد : القسط : العدل بالرومية .
وقيل : هو كقولك : أقام الصلاة ، أي : أتى بها في وقتها ، وأقام الناس أسواقهم ، أي : أتوا بها لوقتها ، أي : لا تدعوا التعامل بالوزن والعدل .
قوله : « ولا تُخْسِرُوا » .
العامة على ضم التاء وكسر السين ، من « أخْسَرَ » أي : نقص ، كقوله : { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [ المطففين : 3 ] .
وقرأ زيد بن علي ، وبلال بن أبي بردة : بفتح التاء وكسر السين ، فيكون « فَعِل ، وأفْعَل » بمعنى ، يقال : خَسِر الميزان ، وأخْسَره « بمعنى واحد ، نحو : جَبِر وأجْبر » .
ونقل أبو الفتح وأبو الفضل عن بلال : فتح التاء والسين ، ونقلها أيضاً القرطبي عن أبان بن عثمان ، قال : وهما لغتان ، يقال : أخسرت الميزان ، وخسرته ، ك « أجبرته » و « جبرته » .
قال شهاب الدين : وفيها وجهان :
أحدهما : أنه على حذف حرف الجر ، تقديره : « ولا تخسروا في الميزان » ، ذكره الزمخشري وأبو البقاء ، إلا أن أبا حيان قال : لا حاجة إلى ذلك؛ لأن « خَسِر » جاء متعدياً ، قال تعالى : { خسروا أَنفُسَهُمْ } [ الأنعام : 12 ] و { خَسِرَ الدنيا والآخرة } [ الحج : 11 ] .
قال شهاب الدين : « وهذا أليق من ذاك ، ألا ترى أن » خسروا أنفسهم « و » خسر الدنيا والآخرة « معناه : أن الخسران واقع بهما ، وأنهما معدومان ، وهذا المعنى ليس مراداً في الآية قطعاً ، وإنما المراد : لا تخسروا الموزُون في الميزان » .
وقرىء : « تَخْسُروا » بفتح التاء وضم السين .
قال الزمخشري : « وقرىء : » ولا تَخْسروا « بفتح التاء وضم السين وكسرها وفتحها ، يقال : خَسِر الميزان يَخْسُره ويَخْسِره ، وأما الفتح فعلى أن الأصل : » في الميزان « فحذف الجار ، وأوصل الفعل إليه » .
وكرر لفظ « الميزان » ولم يضمره في الجملتين بعده تقوية لشأنه .
وهذا كقول الآخر : [ الخفيف ]
4623-
لا أرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ ... نَغَّصَ المَوْتُ ذَا الغِنَى والفَقِيرَا
فصل في معنى الآية
المعنى : ولا تنقصوا ولا تبخسوا الوزن والكيل ، كقوله : { وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان } [ هود : 84 ] .
وقيل : لا تخسروا ميزان حسناتكم يوم القيامة ، فيكون ذلك حسرة عليكم ، وكرَّر الميزان لحال رُءُوس الآي .
وقيل : التكرير للأمر بإيفاء الوزن ، ورعاية العدل فيه .
وقال ابن الخطيب : { ولا تخسروا الميزان } أي : لا تنقصوا الموزون .
وذكر « الميزان » ثلاث مرات ، فالأول : بمعنى الآلة ، وهو قوله « وَضَعَ المِيزانَ » .
والثاني : بمعنى المصدر أي : لا تطغوا في الوزن .
والثالث : للمفعول ، أي : لا تخسروا الموزون .
وبين القرآن و « الميزان » مناسبة ، فإن القرآن فيه العلم الذي لا يوجدُ في غيره من الكتب ، والميزان به يقام العدل الذي لا يقام بغيره من الآلات .
قوله : { والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } ، كقوله : { والسمآء رَفَعَهَا } .
قرأ أبو السمال : بالرفع مبتدأ ، و « الأنام » علّة للوضع .
«
الأنام » . قيل : كل الحيوان .
وقيل : بنو آدم خاصة ، وهو مروي عن ابن عبَّاس نقل النووي في « التهذيب » عن الزبيدي : « الأنام » : الخَلْق ، قال : ويجوز الأنيم .
وقال الواحدي : قال الليث : « الأنامُ » ما على ظهر الأرض من جميع الخلق .
وقيل : هم الإنس والجن . قاله الحسن ، والأول قاله الضَّحاك .
ووزنه : « فَعَال » ك « قَذَال » فيجمع في القلة على « أنِمّة » بزنة : « امرأة أنمّة » ، وفي الكثرة على « أنْم » ك « قَذَال وأقذلة وقُذْل » .
قوله : « فيها فاكهة » يجوز أن تكون هذه الجملة حالاً من « الأرض » إلا أنها حال مقدرة ، والأحسن أن يكون الجار والمجرور هو الحال .
و « فاكهةٌ » رفع بالفاعلية ، ونكرت لأن الانتفاع بها دون الانتفاع بما ذكر بعدها ، وهو من باب الترقّي من الأدنى إلى الأعلى .
قال ابن الخطيب : الأرض موضوعة لكل ما عليها ، وإنما خصّ الإنسان بالذِّكْر؛ لأن الانتفاع بها أكثر ، فإنه ينتفع بها ، وبما فيها ، وبما عليها ، فقال : « للأنام » لكثرة انتفاع الأنام بها .
وقوله : « فِيهَا فَاكِهَةٌ » .
أي : ما يتفكّه به الإنسان من ألوان الثمار .
قوله : { والنخل ذَاتُ الأكمام } إشارة إلى الأشجار .
و « الأكمام » جمع « كِمّ » - بالكسر - وهو وعاء الثمر .
قال الجوهري : و « الكِمُّ » - بالكسر - و « الكِمَامة » : وعاء الطلع ، وغطاء النَّوْر ، والجمع : « كِمَام » و « أكِمَّة » ، و « الأكاميم » أيضاً ، و « كم » الغسيل إذا أشفق عليه ، فسُتر حتى يقوى ، قال العجاج : [ الرجز ]
4624-
بَلْ لَوْ شَهِدتَ النَّاسَ إذْ تُكُمُّوا ... غُمَّةٍ لَوْ لَمْ تُفَرَّجْ غُمُّوا
و « تكمّوا » : أي أعمى عليهم وغطّوا .
وأكممتُ وكَمَمْت أي : أخرجت كمامها ، والكِمَامُ - بالكسر - والكمامة أيضاً : ما يكمّ به فَمُ البعير لئلا يعضّ ، تقول منه بعير مكموم أي محجوم ، وكممت الشيء : غطّيته ، ومنه كُمُّ القميص - بالضم - والجمع : « أكْمَام وكِمَمَة » مثل : جُبّ وجببة .
و « الكُمَّةُ » : القَلَنْسُوَة [ المدورة ] ؛ لأنها تغطي الرأس .
قال رحمه الله : [ الطويل ]
4625-
فَقُلْتُ لَهُمْ : كِيلُوا بِكُمَّةِ بَعْضِكُمْ ... دَرَاهِمَكُمْ ، إنِّي كذلِك أكْيَل
قال الحسن : « ذات الأكمام » أي : ذات اللّيف ، فإن النخلة قد تكمم بالليف وأكمامها : ليفها الذي في أعناقها .
وقال ابن زيد : ذات الطلع قبل أن يتفتّق .
وقال عكرمة : ذات الأحْمَال .
وقال الضَّحاك : « ذات الأكمام » : ذات الغلف .
والأكمام : الأوعية التي يكون فيها الثمر؛ لأن ثمر النخل يكون في غلاف ما لم يتشقق ، والمراد بالفاكهة : الفواكهة .
قال ابن كيسان : ما يتفكّهون به من النعم التي لا تُحْصَى ، ونكّر الفاكهة للتكثير والتعظيم .
قوله : { والحب ذُو العصف والريحان } .
قرأ ابن عامر : بنصب الثلاثة . وفيه ثلاثة أوجه :
النصب على الاختصاص ، أي « وأخص الحبَّ » قاله الزمخشري .
وفيه نظر ، لأنه لم يدخل في مسمى الفاكهة والنخل حتى يخصّه من بينها ، وإنما أراد إضمار فعل ، وهو « أخص » فليس هو الاختصاص الصّناعي .
الثاني : أنه معطوف على « الأرض » .
قال مكي : « لأن قوله » والأرض وضعها « أي : خلقها ، فعطف » الحب « على ذلك » .
الثالث : أنه منصوب ب « خلق » مضمراً ، أي « وخلق الحب » .
وقال مكي : « أو وخلق الحب » ، وقراءته موافقة لرسم مصاحف بلدهِ ، فإن مصاحف « الشام » « ذا » بالألف .
وجوزوا في « الرَّيْحَان » أن يكون على حذف مضاف ، أي « وذا الريحان » فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، ك { وَسْئَلِ القرية } [ يوسف : 82 ] .
وقرأ الأخوان برفع الأولين وجرّ « الرَّيْحَان » عطفاً على « العَصْف » وهي تؤيد قول من حذف المضاف في قراءة ابن عامر .
والباقون : برفع الثلاثة عطفاً على « فاكهة » أي : وفيها أيضاً هذه الأشياء .
ذكر أولاً ما يتلذّذون به من الفواكهة .
وثانياً : الشيء الجامع بين التلذّذ والتغذِّي ، وهو ثمر النخل .
وثالثاً : ما يتغذى به فقط ، وهو أعظمها؛ لأنه قوت غالب الناس .
ويجوز في « الرَّيْحَان » على هذه القراءة أن يكون معطوفاً على ما قبله ، أي : « وفيها الريحان » أيضاً ، وأن يكون مجروراً بالإضافة في الأصل ، أي : « وذو الريحان » ففعل به ما تقدم .
و « العَصْفُ » قال مجاهد رضي الله عنه : ورق الشَّجر والزرع .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : تِبْن الزرع وورقه الذي تَعْصِفُه الرياح .
قال الراغب : « أصله : من » العَصْفِ والعَصِيفَة « ، وهو ما يُعصف ، أي : يقطع من الزرع » .
وقال سعيد بن جبير : بقل الزرع أي ما ينبت منه ، وهو قول الفراء .
والعرب تقول : خرجنا نعصف الزرع إذا قطعوا منه قبل أن يدرك ، وكذا في « الصِّحاح » وكذا نقله القرطبي .
وعصفت الزرع ، أي : جَزَرته قبل أن يدرك .
وعن ابن عباس أيضاً : العصف : ورق الزرع الأخضر إذا وقع رءوسه ويبس نظيره : { كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ } [ الفيل : 8 ] .
قال الجوهري : « وقَدْ أعْصَفَ الزَّرْعُ ، ومكانٌ مُعْصفٌ ، أي : كثير الزرع » .
قال أبو قيس بنُ الأسلت الأنصاريُّ : [ السريع ]
4626-
إذا جُمَادَى مَنَعَتْ قَطْرَهَا ... زَانَ جَنَابِي عَطَنٌ مُعْصِفُ
وقيل : « العَصْفُ » : حُطام النبات ، والعَصْفُ أيضاً : الكسب .
قال الراجز : [ الرجز ]
4627-
بِغَيْرِ مَا عَصْفٍ ولا اكْتسَابِ ... وكذلك « الاعتصاف والعصيفة » : الورق المجتمع الذي يكون فيه السّنبل .
وحكى الثعلبي : وقال ابن السكيت : « تقول العرب لورق الزرع : العَصْف والعَصِيفة ، والجِلُّ بكسر الجيم » .
قال علقمة بن عبدة : [ البسيط ]
4628-
تَسْقِي مَذانِبَ قَدْ مَالتْ عَصيفتُهَا ... حُدُورُهَا مِنْ أتِيِّ المَاءِ مَطْمُوم
في « الصحاح » : « والجِلّ - بالكسر - قصب الزرع إذا حصد » .
والرَّيحان في الأصل مصدر ، ثم أطلق على الرزق .
قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : هو الرزق بلغة « حِمْير » ، كقولهم : « سبحان الله وريحانه » أي : استرزاقه .
وعن ابن عباس أيضاً والضحاك وقتادة : أنه الريحان الذي يشمّ وهو قول ابن زيد أيضاً .
وعن ابن عباس أيضاً : أنه خُضْرة الزرع .
وقال سعيد بن جبير : هو ما قام على ساق .
وقال الفراء : « العصفُ » المأكول من الزرع .
و « الريحان » ما لا يؤكل .
وقال الكلبي العَصْف : الورق الذي لا يؤكل .
و « الريحان » : هو الحب المأكول .
وقيل : كل فلّة طيبة الريح سميت ريحاناً؛ لأن الإنسان يراح لها رائحة طيبة أي : يشم . وفي « الريحان » قولان :
أحدهما : أنه على « فَعْلان » وهو من ذوات « الواو » ، والأصل « رَوْحَان » من الرائحة .
قال أبو علي : فأبدلت « الواو » ياء كما أبدلت الياء واواً في « أشاوى » وإنما قلبت الواو ياء للفرق بينه وبين « الرَّوْحَان » وهو كل شيء له روح .
قال القرطبي : والثاني : أن يكون أصله « رَيْوَحَان » على وزن « فَيْعَلان » فأبدلت الواو ياء ، وأدغمت فيها الياء ، ثم خفف بحذف عين الكلمة ، كما قالوا : كَيْنُونة وبَيْنُونَة والأصل تشديد الياء ، فخفف كما خفف « هَيْن ولَيْن » .
قال مكي : ولزم تخفيفه لطوله بلُحُوق الزيادتين ، وهما الألف والنون .
ثم ردّ قول الفارسي بأنه : لا موجب لقلبها ياء .
ثم قال : « وقال بعض الناس » وذكر ما تقدم عن أبي علي .
قال القرطبي : « والأصل فيما يتركب من الراء والواو والحاء : الاهتزاز والحركة » .
وفي الصحاح : « والريحان نبات معروف ، والرَّيْحَان : الرزق ، تقول : خرجت أبتغي ريحان الله » .
وفي الحديث : « الولدُ مِنْ رَيْحانِ اللَّهِ » .
وقولهم : سُبْحَانَ اللَّهِ ورَيْحَانه « نصبوهما على المصدر ، يريدون : تنزيهاً له واسترزاقاً .
قوله : { والحب ذُو العصف والريحان } فالعَصْفُ : ساق الزرع ، والرَّيْحَان : ورقه قاله الفراء .
قوله : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] ، » فبأي « متعلق ب » تكذبان « .
والعامة على إضافة » أي « إلى » الآلاء « .
وقرىء في جميع السورة بتنوين » أيّ « .
وتخريجها : على أنه قطع » أيًّا « عن الإضافة إلى شيء مقدر ، ثم أبدل منه » آلاء ربكما « بدل معرفة من نكرة ، وتقدم الكلام في » الآلاء « ومفردها في الأعراف » .
والخطاب في « ربكما » قيل : للثقلين من الإنس والجن؛ لأن الأنام تضمنهما ، وهو قول الجمهور ، ويدل عليه حديث جابر .
وفيه : « للْجِنُّ أحْسَنُ مِنْكُم رَدًّا » .
وقيل : لما قال : { خَلَقَ الإنسان ، وَخَلَقَ الجآن } [ الرحمن : 14 ، 15 ] . دل ذلك على ما تقدم وما تأخر لهما .
وكذا قوله : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان } [ الرحمن : 31 ] خطاب للإنس والجن .
وقال أيضاً : { يامعشر الجن والإنس } [ الرحمن : 33 ] .
وقال الجرجاني : خاطب الجن مع الإنس ، وإن لم يتقدم للجن ذكر . كقوله تعالى : { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] .
فقد سبق ذكر الجن فيما سبق نزوله من القرآن ، والقرآن كالسورة الواحدة ، فإذا ثبت أنهم مكلَّفُون كالإنس ، خوطب الجنسان بهذه الآيات .
وقيل : الخطاب للذكر والأنثى .
وقيل : هو مثنّى مراد به الواحد ، كقوله تعالى : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } [ ق : 24 ] .
وكقول الحجاج بن يوسف : « يا حرسي اضربا عنقه » ، وكقول امرىء القيس : [ الطويل ]
4629-
قِفَا نَبكِ .. .
و [ الطويل ]
4630-
خَلِيلَيَّ مُرَّا بِي ..
وقيل : التثنية للتأكيد .
وقيل : التكذيب يكون بالقلب ، أو باللسان ، أو بهما ، فالمراد هما .
فصل في آلاء الله تعالى
قال ابن زيد : المراد بالآلاء : القدرة ، والمعنى : فبأي قدرة ربكما تكذبان ، وهو قول الكلبي .
واختار محمد بن علي الترمذي ، وقال : هذه السورة من بين السور علم القرآن ، والعلم : إمام الجند ، والجند تتبعه ، وإنما صارت علماً؛ لأنها سورة صفة الملك والقدرة ، فقال : { الرحمن عَلَّمَ القرآن } فافتتح السورة باسم الرحمن من بين الأسماء ليعلم العباد أن جميع ما يصفه بعد هذا من أفعاله ومن ملكه وقدرته خرج إليهم من الرحمة ، فقال : { الرحمن عَلَّمَ القرآن } .
ثم ذكر الإنسان فقال : « خَلَقَ الإنسان » ثم ذكر ما صنع به ، وما من عليه به ، ثم ذكر حُسْبَان الشمس والقمر ، وسجود الأشياء من نجم وشجر ، وذكر رفع السماء ، ووضع الميزان وهو العدل ، ووضع الأرض للأنام ، فخاطب هذين الثقلين : الإنس والجن ، حين رأوا ما خرج من القدرة والملك برحمانيته التي رحمهم بها من غير منفعة ، ولا حاجة إلى ذلك ، فأشركوا به الأوثان ، وكل معبود اتخذوه من دونه ، وجحدوا الرحمة التي خرجت هذه الأشياء بها إليهم .
فقال سائلاً لهم : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } أي : بأي قدرة ربكما تكذبان ، وإنما كان تكذيبهم أنهم جعلوا له في هذه الأشياء التي خرجت من قدرته وملكه شريكاً يملك معه ، ويقدر معه ، فذلك تكذيبهم ، ثم ذكر خلق الإنسان من صلصال ، وذكر خلق الجانّ من مارجٍ من نارٍ ، ثم سألهم فقال : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : بأي قدرة ربكما تكذبان ، فإن له في كل خلق قدرة بعد قدرة ، فالتكرير في هذه الآيات للتأكيد ، والمبالغة في التقرير ، واتخاذ الحجة عليهم بما وقفهم على خلقٍ بعد خلق .
وقال القتبي : إن الله - تعالى - عدد في هذه السورة نعماءه ، وذكر خلقه آلاءه ، ثم أتبع كل خلّة وصفها ونعمة وضعها في هذه الآية ، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين ليبينهم على النعم ، ويقررهم بها ، كما يقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو يكفره وينكره : ألم تكن فقيراً فأغنيتك ، أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملاً فعززتك ، أفتنكر هذا؟ ألم تكن راجلاً فحملتك ، أفتنكر هذا؟ والتكرير حسن في مثل هذا .
قال الشاعر : [ مشطور الرجز ]
4631-
كَمْ نِعْمَةٍ كَانَتْ لَكُمْ كَمْ كَمْ وكَمْ ... وقال الشاعر رحمه الله : [ البسيط ]
4632-
لا تَقْتُلِي مُسْلِماً إن كُنْتِ مُسْلمَةً ... إيَّاكِ من دمِهِ إيَّاكِ إيَّاكِ
وقال آخر : [ المنسرح ]
4633-
لا تَقْطَعَنَّ الصَّديقَ ما طَرَفَتْ ... عَيْنَاكَ من قَوْلِ كَاشحٍ أشِرِ
ولا تَمَلَّنَّ مِنْ زيَارتِهِ ... زُرْهُ وَزُرْهُ وَزُرْ وَزُرْ وَزُرِ
وقال الحسين بن الفضل : التكرير طرد للغفلة ، وتأكيد للحجَّة .
قال شهاب الدين : والتكرير - هاهنا - كما تقدم في قوله : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ } [ القمر : 17 ] ، وكقوله فيما سيأتي : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات : 45 ] .
وذهب جماعة منهم ابن قتيبة : إلى أن التكرير لاختلاف النِّعم ، فلذلك كرر للتوقيف مع كل واحدة .
قال ابن الخطيب : وذكره بلفظ الخطاب على سبيل الالتفات ، والمراد به التقريع والزَّجْر ، وذكر لفظ الرب؛ لأنه يشعر بالرحمة .
قال : « وكررت هذه اللفظة في هذه السورة نيفاً وثلاثين مرة إما للتأكيد ، ولا يعقل بخصوص العدد معنى .
وقيل : الخطاب مع الإنس والجن ، والنعمة منحصرة في دفع المكروه ، وتحصيل المقصود ، وأعظم المكروهات عذاب جهنم ، و { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } [ الحجر : 44 ] ، وأعظم المقاصد : نعيم الجنة ، ولها ثمانية أبواب ، فالمجموع خمسة عشر ، وذلك بالنسبة للجن والإنس ثلاثون ، والزائد لبيان التأكيد » .
روى جابر بن عبد الله ، قال : « قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة » الرحمن « حتى ختمها ، ثم قال : » مَا لِي أراكُمْ سُكُوتاً؟ للجِنُّ كانُوا أحسنَ مِنكُم رَدًّا؛ ما قرأتُ عليهمِ هذهِ الآية مرَّة : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلا قالوا : ولا بِشيءٍ من رحْمَتِكَ ربَّنا نكذِّبُ ، فلكَ الحمد « .
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)
قوله : { خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار } . لما ذكر الله - تعالى - خلق العالم الكبير من السماء والأرض ، وما فيها من الدلالات على وحدانيته وقدرته ، ذكر خلق العالم الصَّغير ، فقال : { خَلَقَ الإنسان } .
قال المفسرون : يعني : آدم من صلصال وهو الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة ، وشبهه بالفخَّار الذي طبخ .
وقيل : هو طين خلط برملٍ .
وقيل : هو الطين المُنتنُ ، من صلَّ اللحم وأصلَّ : إذا أنْتَنَ .
وقال هنا : { مِن صَلْصَالٍ كالفخار } .
وقال في « الحجر » : { مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 26 ] وقال : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [ الصافات : 11 ] .
وقال : { كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] .
وكله متفق المعنى ، وذلك أنه أخذ من تراب الأرض ، فعجنه فصار طيناً ، ثم انتقل فصار كالحَمَأ المسنون ، ثم يبس فصار صلصالاً كالفخار .
فقوله : « كالفخَّار » نعت ل « صَلْصَالٍ » . وتقدم تفسيره .
قوله : { وَخَلَقَ الجآن } .
قيل هو اسم جنس كالإنسان .
وقيل : هو أبو الجن « إبليس » .
وقيل : هو أبوهم ، وليس ب « إبليس » .
قوله : { مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } « من » الأولى لابتداء الغاية .
وفي الثانية وجهان :
أحدهما : أنها للبيان .
والثاني : أنها للتبعيض .
و « المَارِجُ » : قيل : ما اختلط من أحمر وأصفر وأخضر ، وهذا مشاهد في النار ترى الألوان الثلاثة مختلطاً بعضها ببعض .
وقيل : الخالص .
وقيل : الأحمر وقيل : الحمرة في طرف النَّار .
وقيل المختلط بسواد .
وقيل : اللهب المضطرب .
وقال الليث : « المارج » : الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه اللهب الذي يعلو النَّار ، فيختلط بعضه ببعض أحمر وأخضر وأصفر ، ونحوه عن مجاهد .
وقيل : « المَارِجُ » المرسل غير ممنوع .
قال المبرد : « المارج » : النار المرسلة التي لا تمنع .
وقال أبو عبيدة والحسن : « المارج » : المختلط النار ، وأصله من مرج إذا اضطرب ، واختلط .
قال القرطبي : يروى أن الله - تعالى - خلق نارين ، فمرج إحداهما بالأخرى ، فأكلت إحداهما الأخرى ، وهي نار السَّمُوم ، فخلق منها « إبليس » .
قال القشيري : « والمارج » في اللغة : المرسل أو المختلط ، وهو فاعل بمعنى مفعول كقوله : { مَّآءٍ دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] و { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] ، والمعنى : « ذو مرج » .
{
مِّن نَّارٍ } نعت ل { مَّارِجٍ } .
وتقدم الكلام على قوله : « فبأي آلاء » إلى آخرها .
قوله تعالى : { رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين } .
العامة على رفعه .
وفيه ثلاثة أوجه :
أحدهما : أنه مبتدأ ، خبره { مَرَجَ البحرين } ، وما بينهما اعتراض .
الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : « هُو ربُّ » أي : ذلك الذي فعل هذه الأشياء .
الثالث : أنه بدل من الضمير في « خلق » .
وابن أبي عبلة : « ربّ » بالجر ، بدلاً أو بياناً ل « ربّكما » .
قال مكي : ويجوز في الكلام الخفض على البدل من « ربكما » ، كأنه لم يطلع على أنها قراءة منقولة .
و « المشرقان » : قيل : مشرقا الشتاء والصيف ومغرباهما .
وقيل : مشرقا الشمس والقمر ومغرباهما ، وذكر غاية ارتفاعهما ، وغاية انحطاطهما إشارة إلى أن الطرفين يتناول ما بينهما كقولك في وصف ملك عظيم : ( له المشرق والمغرب ) فيفهم منه أن له ما بينهما .
ويؤيده قوله تعالى : { بِرَبِّ المشارق والمغارب } [ المعارج : 40 ] .
قوله تعالى : { مَرَجَ البحرين } أي : خلَّى وأرسل وأهمل ، يقال : مرج الناس السلطان ، أي : أهملهم ، وأصل المَرْج الإهمال كما تمرج الدَّابة في المَرْعى ويقال : مرج خلط .
وقال الأخفش : ويقول قوم : أمرج البحرين مثل « مرج » فيكون « فَعَلَ وأفْعَلَ » بمعنى .
و « البَحْرين » : قال ابن عباس رضي الله عنهما : بحر السماء ، وبحر الأرض .
قال سعيد بن جبير : يلتقيان في كل عام .
وقيل : يلتقي طرفاهما .
وقال الحسن وقتادة : بحر « فارس » و « الروم » .
وقال ابن جريج : البحر المالح ، والأنهار العذبة .
وقيل : بحر المشرق ، وبحر المغرب يلتقي طرفاهما .
وقيل : بحر اللؤلؤ والمرجان .
«
بينهما برزخ » حاجز .
قوله : « يلتقيان » حال من « البَحريْنِ » وهي قريبة من الحال المقدرة ، ويجوز بتجوّز أن تكون مقارنة .
و « بَينهُمَا بَرزخٌ » يجوز أن تكون جملة مستأنفة ، وأن تكون حالاً ، وأن يكون الظَّرف وحده هو الحال ، و « البَرْزَخُ » فاعل به ، وهو أحسن لقربه من المفرد .
وفي صاحب الحال وجهان :
أحدهما : هو البحرين .
والثاني : هو فاعل « يَلْتقيان » .
و « لا يَبْغِيَان » حال أخرى كالتي قبلها ، أي : مرجهُمَا غير باغيين أو يلتقيان غير باغِيين ، أو بينهما برزخٌ في حال عدم بغيهما ، وهذه الحال في قوة التعليل ، إذ المعنى : « لئلاَّ يَبْغِيانِ » .
وقد تمحّل بعضهم ، وقال : أصل ذلك لئلا يبغيا ثم حذف حرف العلة ، وهو مطّرد مع « أن » و « إن » ، ثم حذفت « أن » أيضاً ، وهو حذف مطرد ، كقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] ، فلما حذفت « أن » ارتفع الفعل ، وهذا غير ممنوع ، إلا أنه تكرر فيه الحذف .
وله أن يقول : قد جاء الحذف أكثر من ذلك فيما هو أخفى من هذا ، كما سيأتي في قوله : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } [ الواقعة : 82 ] .
فصل في مناسبة هذه الآية لما قبلها
لما ذكر الشمس والقمر ، وهما يجريان في الفلك كما يجري الفلك في البحر ، كقوله : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] ، فذكر البحرين عقيب المشرقين والمغربين ، أو لأن المشرقين والمغربين يكونان في البر والبحر ، فذكر البحر بعد ذكر البر؛ لانحصار البر والبحر بين المشرق والغرب .
قوله : « بينهما بَرْزَخ » أي : حاجز ، « لا يبْغِيَان » ، فعلى القول الأول بأنهما بحر السماء ، وبحر الأرض ، فالحاجز الذي بينهما هو ما بين السماء والأرض . قاله الضحاك .
وعلى الأقوال الباقية : الحاجز : هو الأرض التي بينهما . قاله الحسن وقتادة .
وقال بعضهم : الحاجز : هو القدرة الإلهية .
وقوله : « لا يَبْغِيَان » . قال قتادة : لا يبغيان على النَّاس فيغرقانهم ، جعل بينهم وبين الناس اليبس .
وقال مجاهد وقتادة أيضاً : لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه .
وقال ابن زيد : « لا يبغيان » أي يلتقيان ، تقديره : مرج البحرين يلتقيان لولا البرزخ الذي بينهما لا يبغيان أن يلتقيا .
وقيل : البرزخ ما بين الدنيا والآخرة ، أي : بينهما مدة قدرها الله تعالى ، وهي مدة الدنيا فهما لا يبغيان ، فإذا أذنَ الله بانقضاء الدنيا صار البحران شيئاً واحداً ، وهو كقوله تعالى : { وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ } [ الانفطار : 3 ] .
وقال سهل بن عبد الله : البحران : طريق الخير والشر ، والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة .
فصل في إحاطة البحار بالأرض
قال ابن الخطيب : إن الله - تعالى - خلق في الأرض بحاراً تحيط بها الأرض ، وخلق بحراً محيطاً بالأرض أحاط به الهواء ، كما قال به أهل الهيئةِ ، وهذه البحار التي في الأرض لها اتصال بالبحر المحيط ، ثم إنهما لا يبغيان على الأرض ، ولا يغطيانها بفضل الله لتكون الأرض بارزة يتخذها الإنسان مكاناً ، وعند النظر إلى أمر الأرض يحار الطبيعي ويتلجلج في الكلام ، فإن عندهم أن طبع الأرض يكون في المركز مغموراً بالماء ، ويكون الماء محيطاً بجميع جوانبه ، فإذا سئلوا عن ظهور الأرض من الماء قالوا : جذب في الأرض .
فإذا قيل لهم : لماذا تجذب؟ وما سبب الجذب؟ .
فالذي عنده قليل من الحق أسند ذلك إلى إرادة الله تعالى ومشيئته ، والآخر يقول : ذلك بحسب اتصالات الكواكب وأوضاعها .
فإن قيل له : لماذا اختلفت أوضاع الكواكب على الوجه الذي أوجب البرد في بعض الأرض دون بعض؟ بهت كما بهت الذي كفر ، ويرجع إلى الحق إن هداه الله تعالى .
وقال ابن الخطيب : ومعنى الآية أن الله - تعالى - أرسل بعض البحرين إلى بعض ، ومن شأنهما الاختلاط فحجزهما ببرزخ من قدرته ، فهما لا يبغيان ، أي : لا يجاوز كل واحدٍ منهما ما حد له .
و « البَغْي » : مجاوزة الحد ، أو من الابتغاء وهو الطَّلب ، أي : لا يطلبان غير ما قدر لهما .
قوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } قرأ نافع ، وأبو عمرو : « يُخْرَجُ » مبنيًّا للمفعول ، والباقون : مبنيًّا للفاعل على المجاز .
قالوا : ثم مضاف محذوف ، أي « من أحدهما »؛ لأن ذلك لم يؤخذ من البحر العذب حتى عابُوا قول الشاعر : [ الطويل ]
4634-
فَجَاءَ بِهَا ما شِئْتَ مِنْ لطَمِيَّةٍ ... على وجْهِهَا مَاءُ الفُراتِ يَمُوجُ
قال مكي : « كما قال : { على رَجُلٍ مِّنَ القريتين } [ الزخرف : 31 ] ، أي : من إحدى القريتين ، فحذف المضاف كثير شائع » .
وقيل : هو كقوله : { نَسِيَا حُوتَهُمَا } [ الكهف : 61 ] وإنما الناسي فتاه ، ويعزى هذا لأبي عبيدة .
قال البغوي : وهذا جائز في كلام العرب أن يذكر شيئين ، ثم يخص أحدهما بفعل ، كقوله : { يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ } [ الأنعام : 130 ] ، ثم كانت الرسل من الإنس .
وقيل : يخرج من أحدهما اللؤلؤ ، ومن الآخر المرجان .
وقيل : بل يخرجان منهما جميعاً .
ثم ذكروا أقاويل .
منها : أنهما يخرجان من المِلْح في المواضع الذي يقع فيه العذب ، وهذا مشاهد عند الغواصين ، وهو قول الجمهور ، فناسب ذلك إسناده إليهما .
ومنها : قول ابن عباس رضي الله عنهما : تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر ، والصدف تفتح أفواهها للمطر ، وقد شاهده الناس ، فيكون تولده من بحر السماء ، وبحر الأرض . وهذا قول الطبري .
ومنها : أن العذب في الملح كاللقاح ، كما يقال : الولد يخرج من الذَّكر والأنثى .
ومنها : أنه قيل : منهما من حيثُ هما نوع واحد ، فخروج هذه الأشياء إنما هي منهما ، كما قال تعالى : { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً } [ نوح : 16 ] وإنما هو في واحدةٍ منهن .
وقال الزمخشري : « فإن قلت : لم قال : » منهما « ، وإنما يخرجان من الملح؟
قلت : لما التقيا ، وصارا كالشيء الواحد ، جاز أن يقال : يخرجان منهما كما يقال : يخرجان من البحر ، ولا يخرجان من جميع البحر ، وإنما يخرجان من بعضه ، وتقول : خرجت من البلد ، وإنما خرجت من محلَّةٍ واحدة من محاله ، بل من دارٍ واحدة من دُورهِ ، وقيل : لا يخرجان إلاَّ من ملتقى الملح والعذب » . انتهى .
وقال بعضهم : كلام الله أولى بالاعتبار من كلام بعض النَّاسِ ، فمن الجائز أن يسوقها من البحر العذب إلى الملح ، واتفقُوا أنهم لم يخرجوها إلا من الملح ، وإذا كان في البر أشياء تخفى على التُّجَّار المترددين القاطعين المفاوز ، فكيف بما هو في قَعْرِ البحر؟ .
فالجواب عن هذا : أن الله لا يخاطب الناس ، ولا يمنن عليهم إلا بما يألفون ، ويشاهدون .
و « اللؤلؤ » : قيل : كِبارُ الجوهر ، والمرجان : صغاره . قاله علي ، وابن عباس ، والضحاك رضي الله عنهم .
وقيل بالعكس ، وأنشدوا قول الأعشى رحمه الله : [ البسيط ]
4635-
مِنْ كُلِّ مَرْجَانةٍ فِي البَحْرِ أحْرَزَهَا ... تيَّارُهَا ووقَاهَا طينهَا الصَّدَفُ
أراد اللؤلؤة الكبيرة . قاله علي ، وابن عباس أيضاً .
وقيل : « المرجان » : حجر أحمر .
وقيل : حجر شديد البياض ، والمرجان أعجمي .
قال ابن دريد : لم أسمع فيه كلاماً منصرفاً .
و « اللؤلؤ » ، بناء غريب لم يرد على هذه الصيغة إلا خمسة ألفاظ : اللؤلؤ ، و « الجُؤجؤ » وهو الصَّدر ، و « الدُّردؤ » ، و « اليُؤيُؤ » - لطائر - و « البُؤبؤ » - بالموحدتين - وهو الأصل ، و « اللُّؤلُؤ » - بضمتين - والهمز هو المشهور .
وإبدال الهمزة واواً شائع فصيح وقد تقدم ذلك .
وقرأ طلحة : « اللُّؤلِىء » - بكسر اللام الثالثة - وهي لغة محفوظة ، ونقل عنه أبو الفضل : « اللُّولِي » بقلب الهمزة الأخيرة ياء ساكنة ، كأنه لما كسر ما قبل الهمزة قلبها ياء استثقالاً .
وقرأ أبو عمرو في رواية : « يُخْرِجُ » أي : الله تعالى ، وروي عنه ، وعن ابن مقسم : « نُخْرِج » بنون العظمةِ .
و « اللؤلؤ والمرجان » على هاتين القراءتين منصوبان .
فصل في مناسبة نعمة اللؤلؤ والمرجان للنعم السابقة
قال ابن الخطيب : فإن قيل : أي نعمة عظيمة في « اللُّولؤ والمرجان » حتى ذكرهما مع نعمة تعليم القرآن وخلق الإنسان؟ .
وأجاب بأن النعم منها خلق الضَّروريات كالأرض التي له مكاناً ، وكذا الرزق الذي به بقاؤه .
ومنها ما يحتاج إليه ، وإن لم يكن ضروريًّا كالحيوان ، وإجراء الشمس والقمر .
ومنها المنافع وإن لم يكن محتاجاً إليها كالفاكهة ، وخلق البحار ، كقوله تعالى : { والفلك التي تَجْرِي فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس } [ البقرة : 164 ] .
ومنها الزينة وإن لم يكن نافعاً كاللؤلؤ والمرجان ، كقوله تعالى : { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } [ النحل : 14 ] ، فالله تعالى ذكر أنواع النعم الأربعة ، وصدرها بالنعمة العظيمة التي هي الروح وهو العلم بقوله : { عَلَّمَ القرآن } [ الرحمن : 2 ] ، أو يقال : بأن المقصود منه عجائب الله لا بيان النعم؛ لأن النعم سبق ذكرها فذكر خلق الإنسان من صلصال ، وخلق الجان من مارج من نارٍ ، وهذان من العجائب الدَّالة على القدرة ، لا من النعم .
واعلم أن الأركان أربعة : التراب والماء والهواء والنار ، فالله تعالى بيّن بقوله : { خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ } ، أن التراب أصل لمخلوق عجيب ، وبين بقوله : { وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } ، أن النار أيضاً أصل لمخلوق عجيب ، وبين بقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } أن الماء أصل لمخلوق آخر كالحيوان عجيب ، بقي الهواء لكنه غير محسوس ، فلم يذكر أنه أصل مخلوق ، لكن بين كونه منشئاً للجواري التي في البحر كالأعلام .
فقال : « ولهُ الجوارِ » .
العامة على كسر « الراء »؛ لأنه منقوص على « مفاعِل » والياء محذوفة لفظاً لالتقاء الساكنين .
وقرأ عبد الله والحسن ، ويروى عن أبي عمرو ، « برفع الراء تناسياً للمحذوف » . ومنه : [ الرجز ]
4636-
لَهَا بَنَاتٌ أرْبَعٌ حِسَانُ ... وأرْبَعٌ فثَغْرُهَا ثَمَانُ
وهذا كما قالوا : هذا شاكٍ وقد تقدم تقرير هذا في الأعراف عند قوله : { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [ الأعراف : 41 ] .
قوله : « المُنشآتُ » .
قرأ حمزة ، وأبو بكر بخلاف عنه بكسر الشِّين ، بمعنى أنها تنشىء الموج بجريها ، أو تنشىء السير إقْبَالاً وإدباراً ، أو التي رفعت شراعها ، والشِّراع : القلاع .
وعن مجاهد : كل ما رفعت قلعها فهي من المنشآت ، وإلا فليست منها ونسبة الرَّفع إليها مجاز ، كما يقال : أنشأت السَّحابة المطر .
والباقون : بالفتح ، وهو اسم مفعول ، أي أنشأها الله ، أو الناس ، أو رفعوا شراعها .
وقرأ ابن أبي عبلة : « المُنَشَّآت » بتشديد الشين مبالغة .
والحسن : « المُنشَّأة » بالإفراد وإبدال الهمزة ألفاً وتاء محذوفة خطاً ، فأفرد الصفة ثقة بإفهام الموصوف الجمعية ، كقوله : { وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } [ آل عمران : 15 ] .
وأما إبداله الهمزة ألفاً وإن كان قياسها بين بين ، فمبالغة في التخفيف .
كقوله : [ البسيط ]
4637-
إنَّ السِّباعَ لَتَهْدَا فِي مَرَابِضِهَا ..
أي : « لتهدأ » وأما كتابتها بإلقاء المحذوفة ، فاتباعاً للفظها في الوصل .
و « في البَحْر » متعلق ب « المنشآت » أو « المنشأة » ، ورسمه بالتاء بعد الشين في مصاحف « العراق » يقوي قرءاة الكسر ، ورسمه بدونها يقوي قراءة الفتح ، وحذفوا الألف كما تحذف في سائر جمع المؤنث السالم .
و « كالأعلام » حال ، إما من الضمير المستكنّ في « المنشآت » ، وإما من « الجواري » وكلاهما بمعنى واحد .
فصل في المراد بالجواري
«
الجَوَارِي » جمع جارية . وهي اسم أو صفة للسفينة ، وخصها بالذكر؛ لأن جريها في البحر لا صنع للبشر فيه ، وهم معترفون بذلك ، فيقولون : « لك الفُلْك ، ولك المُلْك » .
وإذا خافوا الغرقَ دعوا الله خاصة ، وسميت السفينة جارية؛ لأن شأنها ذلك وإن كانت واقفةً في السَّاحل كما سماها في موضع آخر ب « الجارية » ، فقال تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية } [ الحاقة : 11 ] .
وسماها بالفلك قبل أن تكون كذلك ، فقال لنوح عليه الصلاة والسلام : { واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا } [ هود : 37 ] ثم بعد ما عملها سمَّاها سفينة ، فقال : { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة } [ العنكبوت : 15 ] .
واعلم أن المرأة المملوكة تسمى أيضاً جارية؛ لأن شأنها الجري والسعي في حوائج سيدها ، بخلاف الزَّوجة ، فهو من الصفات الغالبة .
و « السفينة » : « فعيلة » بمعنى « فاعلة » عند ابن دريد ، أي : تسفن الماء و « فَعِيلَة » بمعنى « مفعولة » عند غيره بمعنى منحوتة ، قال ابن الخطيب : فالفُلك أولاً ، ثم السفينة ، ثم الجارية .
والأعلام : الجبال ، والعلم : الطويل ، قال : [ الرجز ]
4638-
إذَا قطعْنَ علماً بَدَا عَلَمْ ... وقالت الخنساء في صخر : [ البسيط ]
4639-
وإنَّ صَخْراً لتَأتَمُّ الهُدَاةُ بِهِ ... كَأنَّهُ علمٌ فِي رَأسِهِ نَارُ
أي « جبل » ، فالسفن في البحر كالجبال في البر .
وجمع « الجواري » ووحد « البحر » ، وجمع « الأعلام » إشارة إلى عظمةِ البحر .
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
قوله تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } غلب من يعقل على غيره ، وجميعهم مراد .
والضمير في « عليها » للأرض .
قال بعضهم : وإن لم يجر لها ذكر ، كقوله : { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] .
ورد هذا بأنه قد تقدم ذكرها في قوله : { والأرض وَضَعَهَا } [ الرحمن : 10 ] .
وقيل : الضمير عائد إلى الجارية .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة : هلك أهل الأرض . فنزلت { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] فأيقنت الملائكة بالهلاك . وقاله مقاتل .
ووجه النعمة في فناء الخلق : التسوية بينهم في الموت .
وقيل : وجه النِّعمة أن الموت سبب النَّقل إلى دار الجزاء والثواب .
قوله : { ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ } أي ويبقى الله ، فالوجه عبارة عن وجود ذاته سبحانه وتعالى .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : الوجه عبارة عنه ، كما قال { ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام } .
ويقال : هذا وجه الأمر ، ووجه الصواب ، وعين الصواب ، ومعنى { ذو الجلال والإكرام } أي : هو أهل لأن يكرم ، وهذا خطاب مع كل سامع .
وقيل : خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : كيف خاطب الاثنين بقوله : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا } .
وخاطب هاهنا الواحد فقال : { ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ } ، ولم يقل : « وجْه ربِّكُمَا »؟ .
فالجواب : أن الإشارة هاهنا وقعت إلى فناء كل أحد ، فقال : { ويبقى وجه ربك } أيها السامع ليعلم كل أحد أن غيره فانٍ ، فلو قال : ويبقى وجه ربكما ، لكان كل أحد يخرج نفسه ، ورفيقه المخاطب عن الفناء .
فإن قيل : فلو قال : « ويبقى وجه الرّب » من غير خطاب ، كان أدَلَّ على فناء الكل؟ .
فالجواب : إن كان الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف ، والإبقاء إشارة إلى القهر ، والموضع موضع بيان اللطف ، وتعديد النعم ، فلهذا قال : بلفظ الرب وكاف الخطاب .
قوله تعالى : { ذُو الجلال والإكرام } .
العامة على « ذو » بالواو صفة للوجه ، وأبي ، وعبد الله : « ذي » بالياء صفة ل « ربّك » . وسيأتي خلاف القراء في آخر السورة إن شاء الله تعالى .
و « الجلال » : العظمة والكبرياء .
و « الإكرام » : يكرم أنبياء وأولياءه بلُطفه مع جلاله وعظمته .
قوله تعالى : { يَسْأَلُهُ مَن فِي السماوات والأرض } فيه وجهان :
أحدهما : أنه مستأنف .
والثاني : أنه حال من « وجه » ، والعامل فيه « يبقى » أي يبقى مسئولاً من أهل السموات والأرض .
وفيه إشكال؛ لأنه لما قال : { ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ } كان إشارة إلى بقائه بعد فناء من على الأرض ، فكيف يكون في ذلك الوقت مسئولاً لمن في الأرض؟ .
قال ابن الخطيب : والجواب من وجوه .
الأول : أنهم يفنون بالنظر إليه ، لكنهم يبقون بإبقاءِ الله ، فيصح أن يكون الله مسئولاً .
الثاني : أن يكون مسئولاً معنًى لا حقيقة؛ لأنهم إذا فنوا فهم يسألونه بلسان الحالِ .
الثالث : أن قوله : « ويبقى » للاستمرار فهو يبقى ويعيد من كان في الأرض ، ويكون مسئولاً .
الرابع : أنَّ السَّائلين هم الملائكة الذين هم في الأرض فأنهم فيها ، وليسوا عليها ، ولا يضرّهم زلزلتها ، فعندما يفنى من عليها يبقى الله تعالى ، ولا يفنى في تلك الحال الملائكة ، فيسألونه ماذا نفعل؟ فيأمرهم بما يريد .
فصل في تحرير السؤال المقصود
وهذا السُّؤال إما استعطاف ، وإما استعطاء ، فيسأله كل أحد ما يحتاج إليه .
قال ابن عباس وأبو صالح : أهل السموات يسألونه المغفرة ، ولا يسألونه الرزق ، وأهل الأرض يسألونهما جميعاً .
قال ابن جريج : تسأله الملائكة الرزق لأهل الأرض ، فكانت المسألتان جميعاً من أهل السماء ، وأهل الأرض لأهل الأرض .
قال القرطبي : وفي الحديث : « إنَّ مِنَ الملائكةِ ملكاً لهُ أربعةُ أوجهٍ ، وجهٌ كوجْهِ الإنسانِ وهو يَسْألُ اللَّه الرِّزْقَ لِبَنِي آدَمَ ، ووجهُ كوجْهِ الأسَدِ وهو يسألُ الله الرِّزْقَ للسِّباع ، ووجْه كوجه الثَّوْر وهو يسألُ الله الرِّزْق للبهَائِمِ ، ووجْه كوجْهِ النَّسْر وهو يَسْأَلُ الله الرِّزْق للطَّيْرِ »
وقال ابن عطاء : إنهم يسألونه القوة على العباد .
قوله تعالى : { كُلَّ يَوْمٍ } منصوب بالاستقرار الذي تضمنه الخبر ، وهو قوله : « فِي شأن » .
والشأن : الأمر .
فصل في تفسير هذه الآية
روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « » كُلَّ يوم هُوَ في شأنٍ « قال : » مِنْ شَأنِه أن يَغْفِرَ ذَنْباً ، ويُفَرِّجَ كُرْبَةً ، ويرفعَ أقواماً ، ويضع آخرين « » .
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } قال : يَغْفِرُ ذَنْباً ، ويكْشِفُ كَرْباً ويُجِيْبُ داعياً .
وقيل : من شأنه أنه يُحْيي ويميت ، ويعزّ ويذلّ ، ويرزق ويمنع .
وقال ابن بحر : الدّهر كله يومان :
أحدهما : مدة أيام الدنيا .
والآخر : يوم القيامة ، فشأنه - سبحانه وتعالى - في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع ، وشأنه يوم القيامة : الجزاء والحساب والثواب والعقاب .
والظَّاهر أن المراد بذلك الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا .
وقال عمرو بن ميمون : في قوله تعالى : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } من شأنه أن يميت حيًّا ، ويحيي ميّتًا ويقرّ في الأرحام ، ويعز ذليلاً ، ويذلّ عزيزاً .
وقيل : من شأنه أن يولج الليل في النهار ، ويولج النَّهار في الليل ، ويخرج الحي من الميت ، ويشفي سقيماً ، ويسقم سليماً ، ويبتلي معافى ويعافي مُبْتلى ، ويعز ذليلاً ، ويذل عزيزاً ، ويفقر غنيًّا ، ويغني فقيراً .
وقال الكلبي : هو سوق المقادير المواقيت .
وعن عبد الله بن طاهر أنه دعا الحسين بن الفضل ، وقال له : أشكلت عليّ ثلاث آيات ، دعوتك لتكشفها لي قوله تعالى

قلت المدون التالي بمشيئة الله تعالي هو ج67.وج68.

 :


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...