حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

ج69.وج70.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب

 ج69.وج70.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب


اولا ج69. 

 كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
والمعنى : والله متم نوره ، أي : بإظهاره في الآفاق .
فإن قيل : الإتمام لا يكون إلاَّ عند النُّقصان ، فما معنى نقصان هذا النور؟ .
فالجواب : إتمامه بحسب نقصان الأثر وهو الظُّهور في سائر البلاد من المشارق إلى المغارب ، إذ الظهور لا يظهر إلا بالإظهار ، وهو الإتمام ، يؤيده قوله تعالى : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] .
وعن أبي هريرة : إن ذلك عند نزول عيسى - عليه الصلاة والسلام - قاله مجاهد .
قوله : { وَلَوْ كَرِهَ } .
حال من هذه الحال فهما متداخلان ، وجواب : « لو » محذوف ، أي : أتمه وأظهره ، وكذا { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } ، والمعنى : ولو كره الكافرون من سائر الأصناف ، فإن قيل : قال أولاً : { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } ، وقال ثانياً : { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } فما الفائدة؟ .
فالجواب : إذا أنكروا الرسول صلى الله عليه وسلم وما أوحي إليه من الكتاب ، وذلك من نعمة الله تعالى ، والكافرون كلهم في كفران النعم سواء فلهذا قال : { ولو كره الكافرون } ، ولأن لفظ الكافر أعم من لفظ المشرك ، فالمراد من الكافرين هنا : اليهود والنصارى والمشركون ، فلفظ الكافر أليق به ، وأما قوله : { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } ، فذلك عند إنكارهم [ التوحيد ] وإصرارهم عليه ، فالنبي صلى الله عليه وسلم دعاهم في ابتداء الدعوة إلى التوحيد ب « لا إله إلا الله » ، فلم يقولوا : « لا إله إلا الله » ، فلهذا قال : { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } .
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
قوله تعالى : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ } يعني : محمداً « بالهُدَى » أي : بالحقِّ والرشاد ، { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } بالحُجَج ، ومن الظهور الغلبة باليد في القتال ، وليس المراد بالظهور : أن لا يبقى دين [ آخر ] من الأديان ، بل المراد : أن يكون أهل الإسلام عالين غالبين ، ومن الإظهار ألا يبقى دين آخر سوى الإسلام في آخر الزمان .
قال مجاهدٌ : ذلك إذا أنزل الله عيسى ، لم يكن في الأرض دين إلاَّ دين الإسلام .
قال أبو هريرة : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } بخروج عيسى ، وحينئذ لا يبقى كافر إلا أسلم .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم » لَيَنْزلنَّ ابنُ مريمَ حكماً عادلاً ، فليَكسرنَّ الصَّليبَ وليقتلنَّ الخِنْزيرَ ، وليضَعَنَّ الجِزيَةَ ، ولتتركن القلاص فلا يسعى إليها ، ولتذهبنَّ الشَّحْناءُ والتَّباغُضُ والتَّحاسُد ، وليَدعُونَّ إلى المالِ فلا يقبلهُ أحدٌ « .
وقيل : ليُظْهرهُ ، أي : ليطلع محمداً صلى الله عليه وسلم على سائر الأديان حتى يكون عالماً بها عارفاً بوجوه بطلانها ، وبما حرفوا وغيَّروا منها » على الدِّينِ « أي : على الأديان؛ لأن الدين مصدر يعبر به عن الجميع .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } الآية .
قال مقاتلٌ : « نزلت في عثمان بن مظعون ، قال : يا رسول الله ، لو أذنت لي فطلقت خولة ، وترهبت واختصيت ، وحرمت اللحم ، ولا أنام بليل أبداً ، ولا أفطر بنهار أبداً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » إنَّ من سُنَّتِي النَّكاحَ فلا رهْبانِيَةَ في الإسْلامِ وإنَّما رَهْبانِيةُ أمَّتِي الجهادُ في سبيلِ اللَّهِ ، وخصاء أمَّتِي الصَّومُ ، فلا تُحرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لكُم ، ومِنْ سُنَّتِي أنَامُ وأقُومُ وأفْطِرُ وأصُومُ ، فمنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فليْسَ منِّي « ، فقال عثمان : لوددت يا نبي الله ، أي التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها » ، فنزلت .
وقيل : « أدُلُّكُمْ » أي : سأدلكم ، والتجارة : الجهاد ، قال الله تعالى : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة } [ التوبة : 111 ] : الآية ، وهذا خطاب لجميع المؤمنين .
وقيل : لأهل الكتاب .
وقيل : نزل هذا حين قالوا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا .
قال البغويُّ : وجعل ذلك بمنزلة التجارة؛ لأنهم يرجون بها رضا الله عز وجل ، ونيل جنته والنجاة من النار .
والتجارة عبارة عن معاوضة الشيء بالشيء ، كما أن التجارة تنجي التاجر من الفقر فكذا هذه التجارة ، وكما أن في التجارة الربح والخسران ، فكذلك هذه التجارة ، فمن آمن وعمل صالحاً ، فله الأجر الوافر ، ومن أعرض عن الإيمان والعمل الصالح ، فله الخسران المبين .
قوله : { تُنجِيكُم } . هذه الجملة صفة ل « تجارة » .
وقرأ ابن عامر : { تُنجّيكُم مِن عَذَابٍ أَلِيمٍ } بالتشديد .
والباقون : بالتخفيف ، من « أنْجَى » ، وهما بمعنى واحد؛ لأن التضعيف والهمزة متعديان .
والمعنى : يخلصكم من عذاب أليم ، أي مؤلم .
قوله : { تُؤْمِنُونَ } .
لا محلّ له لأنه تفسير ل « تجارة » .
ويجوز أن يكون محلها الرفع خبراً لمبتدأ مضمر ، أي تلك التجارة تؤمنون ، والخبر نفس المبتدأ ، فلا حاجة إلى رابط .
وأن تكون منصوبة المحل بإضمار فعل ، أي « أعني تؤمنون » ، وجاز ذلك على تقدير « أن » وفيه تعسف .
والعامة على : « تؤمنون » خبراً لفظياً ثابت النون .
وعبد الله : « آمنُوا ، وجاهدُوا » أمرين .
وزيد بن علي : « تؤمنوا ، وتجاهدوا » بحذف نون الرفع .
فأما قراءة العامة ، فالخبر بمعنى الأمر ، يدل عليه القراءتان الشاذتان فإن قراءة زيد : على حذف لام الأمر ، أي : « لتؤمنوا ، ولتجاهدوا » .
كقوله : [ الوافر ]
4765 -
مُحَمَّدُ تَفْدِ نفسكَ كُلُّ نَفْسٍ .. . . .
وقوله تعالى : { قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة } [ إبراهيم : 31 ] في وجه ، أي : لتَفْدِ ولتقيموا ، ولذلك جزم الفعل في محل جوابه في قوله : « يتقي » .
وكذلك قولهم : « اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه » ، تقديره : ليتق الله .
وقال الأخفش : أن « تؤمنون » : عطف بيان ل « تجارة » .
وهذا لا يتخيل إلا بتأويل أن يكون الأصل : أن تؤمنوا ، فلما حذفت ارتفع الفعل كقوله : [ الطويل ]
4766 -
ألاَ أيُّهَذا الزَّاجِرِي أحْضُرَ الوَغَى ... الأصل : أن أحضر الوغى .
وكأنه قيل : هل أدلّكم على تجارة منجية : إيمان وجهاد ، وهو معنى حسن ، لولا ما فيه من التأويل ، وعلى هذا يجوز أن يكون بدلاً من « تِجارةٍ » .
وقال الفراء : هو مجزوم على جواب الاستفهام ، وهو قوله : « هل أدلكم » .
واختلف الناس في تصحيح هذا القول .
فبعضهم غلطه . قال الزجاج : ليسوا إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم ، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا .
يعني : أنه ليس مرتباً على مجرد الاستفهام ولا على مجرد الدلالة .
قال القرطبي : و « تُؤمِنُونَ » عند المبرد والزجاج في معنى « آمِنُوا » ولذلك جاء « يَغْفِر لَكُمْ » مجزوماً على أنه جواب الأمر .
قال ابن الخطيب : « هَلْ أدلكُمْ » في معنى الأمر عند الفرَّاء ، يقال : هل أنت ساكت أي : اسكت ، وبيانه أن « هَلْ » بمعنى الاستفهام ثم يندرج إلى أن يصير عرضاً وحثًّا ، والحث كالإغراء ، والإغراء أمر .
وقال المهدوي : إنما يصح حمله على المعنى ، وهو أن يكون « تُؤمِنُونَ ، وتجاهدون » : عطف بيان على قوله : « هل أدلكم » .
كأن التجارة لم يدر ما هي فبينت بالإيمان والجهاد ، فهي هما في المعنى ، فكأنه قيل : هل تؤمنون وتجاهدون؟ .
قال : فإن لم يقدر هذا التقدير لم يصح ، لأنه يصير إن دُللتم يغفر لكم والغفران إنما يجب بالقبول والإيمان لا بالدلالة .
وقال الزمشخري قريباً منه أيضاً .
وقال أيضاً : إن « تؤمنون » استئناف كأنهم قالوا : كيف نعمل؟ فقال : تؤمنون .
وقال ابن عطيَّة : « تُؤمِنُونَ » : فعل مرفوع ، تقديره : ذلك أنه تؤمنون .
فجعله خبراً ، وهي وما في حيّزها خبر لمبتدأ محذوف ، وهذا محمول على تفسير المعنى لا تفسير الإعراب فإنه لا حاجة إليه .
فصل
قال ابن الخطيب : فإن قيل : كيف أمرهم بالإيمان بعد قوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ } ؟ .
فالجواب : يمكن أن يكون المراد من هذه الآية المنافقين وهم الذين آمنوا في الظاهر ، ويمكن أن يكون أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى فإنهم آمنوا بالكتب المتقدمة .
فكأنه قال : يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة آمنوا بالله وبمحمد ، ويمكن أن يكون أهل الإيمان كقوله تعالى : { فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً } [ التوبة : 124 ] ، أو يكون المراد الأمر بالثبات على الإيمان ، كقوله : { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت } [ إبراهيم : 27 ] . فإن قيل : كيف ترجى النجاة إذا آمن بالله ورسوله ولم يجاهد في سبيل الله وقد علق بالمجموع؟ .
فالجواب : أن هذا المجموع هو الإيمان بالله ورسوله والجهاد بالنفس والمال في سبيل الله خير في نفس الأمر .
قوله : { بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } .
قال القرطبي : ذكر الأموال أولاً ، لأنها التي يبدأ بها في الإنفاق ، « ذَلِكُمْ » أي : هذا الفعل { خَيْرٌ لَّكُمْ } من أموالكم وأنفسكم ، { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه خير لكم .
قوله : { يَغْفِرُ لَكُمْ } فيه أوجه :
أحدها : أنه مجزوم على جواب الخبر بمعنى الأمر ، كما تقدم .
والثاني : أنه مجزوم على جواب الاستفهام ، كما قاله الفراء .
الثالث : أنه مجزوم بشرط مقدر ، أي : إن تؤمنوا يغفر لكم .
قال القرطبي : « وأدغم بعضهم ، فقرأ : » يَغْفر لَكُمْ « ، والأحسن ترك الإدغام لأن الراء حرف متكرر قويّ فلا يحسن الإدغام في اللام؛ لأن الأقوى لا يدغم في الأضعف » .
قوله : { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً } .
روى الحسنُ قال : « سألت عمران بن حصينٍ وأبا هريرة عن قوله تعالى : { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً } ، فقالا : على الخبير [ سقطت ] ، سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال : » قَصْرٌ مِن لُؤلُؤة في الجنَّةِ ، في ذلِكَ القصْرِ سَبْعُونَ داراً من ياقُوتةٍ حَمْراءَ ، فِي كُل دَار سَبْعُونَ بَيْتاً من زَبرْجدة خَضْراءَ ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيراً ، عَلَى كُلِّ سَريرٍ سَبْعُونَ فِرَاشاً من كُلِّ لَوْنٍ على كُلِّ فِراشٍ سَبعُونَ امْرَأةً ، من الحُورِ العِينِ ، فِي كُلِّ بيتٍ سَبْعُونَ مَائدةً ، عَلى كُلِّ مائدةٍ سَبْعُون لوْناً من الطَّعام ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سبعُون وصيفاً ووصيفَةً ، فيُعْطِي اللَّهُ تعالى المُؤمِنَ القُوَّة في غَدَاةٍ واحدةٍ مَا يَأتِي ذَلِكَ كُلِّهِ « .
قوله : { فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } .
أي دار إقامة . { ذلك الفوزُ العظيمُ } أي : السعادة الدائمة الكبيرة ، وأصل الفوز الظفر بالمطلوب .
قوله : { وأخرى تُحِبُّونَهَا } . فيها أوجه :
أحدها : أنها في موضع رفع على الابتداء وخبرها مقدر ، أي : ولكم أو وثمَّ أو عنده خصلة أخرى أو مثوبة أخرى ، و » تُحِبُّونهَا « : نعت له .
الثاني : أن الخبر جملة حذف مبتدؤها ، تقديره : هي نصر ، والجملة خبر » أخرى « . قاله أبو البقاء .
الثالث : أنها منصوبة بفعل محذوف للدلالة عليه بالسِّياق ، أي : ويعطكم ، أو يمنحكم مثوبة أخرى ، و » تُحِبُّونهَا « نعت لها أيضاً .
الرابع : أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره » تُحِبُّونهَا « فيكون من الاشتغال ، وحينئذ لا يكون » تحبونها « نعتاً لأنه مفسر للعامل فيه .
الخامس : أنها مجرورة عطفاً على » تجارة « .
وضعف هذا بأنها ليست مما دلَّ عليه إنما هي ثواب من عند الله .
قال القرطبي : » هذا الوجه منقول عن الأخفش والفراء « .
قوله : { نَصْرٌ مِّنَ الله } .
خبر مبتدأ مضمر ، أي : تلك النعمة ، أو الخلة الأخرى نصر ، » من الله « نعت له أو متعلق به ، أي : ابتداؤه منه .
ورفع » نَصْرٌ ، وفَتْحٌ « قراءة العامة .
ونصب ابن أبي عبلة الثلاثة . وفيه أوجه ذكرها الزمخشري .
أحدها : أنها منصوبة على الاختصاص .
الثاني : أن ينتصبن على المصدرية ، أي : ينصرون نصراً ، ويفتح لهم فتحاً قريباً .
الثالث : أن ينتصبن على البدل من « أخْرَى » ، و « أخرى » منصوبة بمقدر كما تقدم ، أي يغفر لكم ويدخلكم جنات ويؤتكم أخرى ، ثم أبدل منها نصراً وفتحاً قريباً .
فصل في معنى الآية
ومعنى الآية أي : ولكم نصر من الله { وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } ، أي : غنيمة في عاجل الدنيا قبل فتح مكة . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - يريد فتح فارس والروم { وَبَشِّرِ المؤمنين } برضا الله عنهم .
وقال البغوي : « وبشر المؤمنين » يا محمد بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة .
ثم حضهم على نصر المؤمنين وجهاد المخالفين ، فقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله }
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
أي : كونوا حواريِّي نبيكم ليظهركم الله على من خالفكم كما أظهر حواريِّي عيسى على من خالفهم .
قوله : { أَنصَارَ الله } .
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : « أنصاراً » ، منوناً « لله » جاراً ومجروراً .
والباقون : « أنصار » غير مُنوَّنٍ ، بل مضافاً للجلالة الكريمة .
والرسم يحتمل القراءتين معاً ، واللام يحتمل أن تكون مزيدة في المفعول للتقوية لكون العامل فرعاً ، إذ الأصل « أنصار اللَّهِ » وأن تكون غير مزيدة ، ويكون الجار والمجرور نعتاً ل « أنصار » . والأول أظهر .
وأما القراءة على الإضافة ففرع الأصل المذكور ، ويؤيد قراءة الإضافة الإجماع عليها في قوله تعالى : { نَحْنُ أَنصَارُ الله } ولم يتصور جريان الخلاف هنا ، لأنه مرسوم بالألف .
قال القرطبي : قيل : في الكلام إضمار ، أي : قل لهم يا محمد : كونوا أنصار الله .
وقيل : هو ابتداء خطاب من الله ، أي : كونوا أنصار الله كما فعل أنصار عيسى ، فكانوا بحمد الله أنصاراً وكانوا حواريين .
فصل في الحواريين
قال القرطبيُّ : « الحواريون : خواص الرسل .
قال معمر : كان ذلك بحمد الله تعالى ، أي نصروه سبعون رجلاً ، وهم الذين بايعوه ليلة العقبة ، وقيل هم من قريش ، وسماهم قتادة : أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبو عبيدة واسمه عامر ، وعثمان بن مظعون ، وحمزة بن عبد المطلب ، وعثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف ، ولم يذكر سعيداً فيهم ، وذكر جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنهم - أجمعين » .
قوله : { كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ } .
وهم أصفياؤه اثنا عشر رجلاً ، وقد مضت أسماؤهم في « آل عمران » .
وهم أول من آمن به من بني إٍسرائيل . قاله ابن عباس .
وقال مقاتل : قال الله لعيسى : إذا دخلت القرية فأتِ النهر الذي عليه القصارون فاسألهم النصرة؛ فأتاهم عيسى وقال لهم : من أنصاري إلى الله؟ فقالوا : نحن ننصرك ، فصدقوه ونصروه .
قوله : « كَمَا » . فيه أوجه :
أحدها : أن الكاف في موضع نصب على إضمار القول ، أي : قلنا لهم ذلك كما قال عيسى .
الثاني : أنه نعت لمصدر محذوف تقدير : كونوا كوناً . قاله مكي . وفيه نظرٌ؛ إذ لا يؤمروا بأن يكونوا كوناً .
الثالث : أنه كلام محمول على معناه دون لفظه .
وإليه نحا الزمخشري ، قال : « فإن قلت : ما وجه صحة التشبيه وظاهره تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى صلى الله عليه وسلم من أنصاري؟
قلت : التشبيه محمُول على المعنى ، وعليه يصح ، والمراد : كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم : مَنْ أنصَاري إلى اللَّهِ »؟ .
وتقدم في « آل عمران » تعدي أنصار ب « إلى » واختلاف الناس في ذلك .
وقال الزمخشري هنا : « فإن قيل : ما معنى قوله : { مَنْ أنصاري إِلَى الله } ؟ فالجواب : يجب أن يكون معناه مطابقاً لجواب الحواريين { نَحْنُ أَنصَارُ الله } والذي يطابقه أن يكون المعنى من جندي متوجهاً إلى نصرة الله ، وإضافة أنصاري خلاف إضافة » أنصَار اللَّهِ « فإن معنى { نَحْنُ أَنصَارُ الله } نحن الذين ينصرون الله ، ومعنى » مَنْ أنصَارِي « من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله ، ولا يصح أن يكون معناه : من ينصرني مع الله لأنه لا يطابق الجواب ، والدليل عليه قراءة من قرأ : مَنْ أنَصارُ اللَّهِ » . انتهى .
يعني : أن بعضهم يدعى أن « إلى » بمعنى « مع » أي من أنصاري مع الله؟! .
وقوله : قراءة من قرأ « أنصَار اللَّهِ » ، أي : لو كانت بمعنى « مع » لما صح سقوطها في هذه القراءة .
قال شهاب الدين : « وهذا غير لازم ، لأن كل قراءة لها معنى يخصها إلا أن الأولى توافق القراءتين » .
قوله : { فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ } .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يعني في زمن عيسى - عليه الصلاة والسلام - وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق : فرقة قالوا كان الله فارتفع ، وفرقة قالوا : كان ابن الله فرفعه الله إليه ، وفرقة قالوا : كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه ، وهم المؤمنون ، واتبع كل فرقة طائفة من الناس فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فظهرت فرقة المؤمنين على الكافرين ، فذلك قوله تعالى : { فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } ، غالبين .
وقال مجاهد : أيدوا في زمانهم على من كفر بعيسى؛ والأول أظهر؛ لأن عيسى لم يقاتل أحداً ، ولم يكن في دين أصحابه بعده قتال .
وقال زيد بن علي ، وقتادة : « فأصْبَحُوا ظاهِرينَ » غالبين بالحُجَّة ، والبرهان ، لأنهم قالوا فيما روي : ألستم تعلمون أن عيسى كان ينام ، والله لا ينام ، وأن عيسى كان يأكل ، والله تعالى لا يأكل .
وقيل : نزلت هذه الآية ، في رسل عيسى - عليه الصلاة والسلام - قال ابن إسحاق : وكان الذي بعثهم عيسى من الحواريين والأتباع بطريس وبولس إلى « رومية » ، واندراييس ومتى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس ، وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق ، وفيلبس إلى « قرطاجنة » ، وهي « إفريقية » ، ويحنّس إلى دقسوس قرية أهل « الكهف » ، ويعقوبس إلى أورشليم ، وهي « بيت المقدس » ، وابن تلما إلى العرابية ، وهي أرض الحجاز ، وسيمن إلى أرض البربر ، ويهودا وبروس إلى « الإسكندرية » وما حولها فأيَّدهم الله تعالى بالحجة فأصبحوا « ظاهرين » أي : عالين ، من قولك : ظهرت على الحائط أي علوت عليه .
قوله : { فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } .
من إيقاع الظاهر موقع المضمر مبهماً تنبيهاً على عداوة الكافر للمؤمن ، إذ الأصل فأيدناهم عليهم ، أي : أيدنا المؤمنين على الكافرين من الطائفتين المذكورتين .
روى الثعلبي في تفسيره عن أبيِّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورةَ الصَّف كَان عيسَى مُسْتغفِراً لَهُ مَا دَامَ فِي الدُّنْيَا ، ويَوْمَ القِيَامَةِ هُوَ رَفِيقه » .
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
قوله تعالى : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } تقدم الكلام فيه .
وقوله : { الملك القدوس العزيز الحكيم } .
وجه تعلق هذه السورة بما قبلها ، هو أنه تعالى قال في أول تلك السورة : « سبَّحَ للَّهِ » بلفظ الماضي وذلك لا يدل على التسبيح في المستقبل ، فقال في أول هذه السورة بلفظ [ المستقبل ] ليدل على التسبيح في الزمن الحاضر والمستقبل .
وأما تعلق الأول بالآخر ، فلأنه تعالى ذكر في آخر تلك السورة أنه كان يؤيد أهل الإيمان حتى صاروا غالبين على الكُفَّار وذلك على وفق الحكمة لا للحاجة إليه إذ هو غني على الإطلاق ومنزه عما يخطر ببال الجهلة ، وفي أول هذه السورة ذكر على ما يدل على كونه مقدساً ، ومنزّهاً عما لا يليق بحضرته العليَّة ثم إذا كان خلق السماوات والأرض بأجمعهم في تسبيح حضرة الله تعالى فله الملك ، ولا ملك أعظم من هذا على الإطلاق ، ولما كان الملك كله له تعالى فهو الملك على الإطلاق ، ولما كان الكل خلقه فهو المالك على الإطلاق .
قوله : { الملك القدوس } .
قرأ العامة : بجر « الملكِ » وما بعده نعتاً لله ، والبدل ضعيف لاشتقاقهما .
وقرأ أبو وائل وسلمة بن محارب ورؤبة بالرفع على إضمار مبتدأ مقتضٍ للمدح .
وقال الزمخشري : « ولو قرىء بالنصب على حدّ قولهم : الحمد لله أهل الحمد ، لكان وجهاً » .
وقرأ زيد بن علي : « القَدُّوس » بفتح القاف ، وقد تقدم ذلك . و « يُسَبِّحُ » من جملة ما يجري فيه اللفظان ، ك « شكره وشكر له ونصحه ونصح له وسبحه وسبح له » .
فإن قيل : « الحَكِيمُ » يطلق أيضاً على الغير كما يقال في لقمان : إنه حكيم .
فالجواب : أن الحكيم عند أهل التحقيق هو الذي يضع الأشياء مواضعها ، والله تعالى حكيم بهذا المعنى .
قوله : { هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ } .
تقدم الكلام في « الأميّ والأميين » جمعه .
و « يَتْلُو » وما بعده صفة ل « رسول » صلى الله عليه وسلم .
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : « الأميّون » العرب كلهم من كتب منهم ومن لم يكتب؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب .
وقيل : الأميّون الذين لا يكتبون ، وكذلك كانت قريش .
وروى منصور عن إبراهيم قال : « الأمّي » الذي لا يقرأ ولا يكتب .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - الأميون الذين ليس لهم كتاب ولا نبي بعث فيهم ، وقيل : الأميون الذين هم على ما خلقوا عليه .
وقرىء : « الأمين » بحذف ياء النَّسب .
قوله : { رَسُولاً مِنْهُمْ } .
يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وما من حيّ من العرب إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة وقد ولدوه .
وقال ابن إسحاق : إلا بني تغلب ، فإن الله طهَّر نبيه صلى الله عليه وسلم منهم لنصرانيتهم ، فلم يجعل لهم عليه ولادة ، وكان أميًّا لم يقرأ من كتاب ولم يتعلّم صلى الله عليه وسلم .
قال الماورديُّ : فإن قيل : فما وجه الامتنان بأن بعث اللَّهُ نبيًّا أميًّا؟ .
فالجواب من ثلاثة أوجه :
أحدها : لموافقته ما تقدم من بشارة الأنبياء .
الثاني : لمشاكلة حاله لأحوالهم فيكون أقرب لموافقتهم .
الثالث : لينفي عنه سوء الظن في تعليمه ما دعى إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها .
قال القرطبي : « وهذا كله دليل معجزته وصدق نبوته » .
قوله : { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } يعني القرآن « ويُزكِّيهم » أي : يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان . قاله ابن عباس .
وقيل : يطهرهم من دنس الكفر والذنوب . قاله ابن جريج ومقاتل .
وقال السديُّ : يأخذ زكاة أموالهم ، « ويُعَلِّمُهُم الكِتابَ » يعني : القرآن ، « والحكمة » يعني السُّنة . قاله الحسن .
وقال ابن عباس : « الكتاب » الخط بالقلم ، لأن الخط إنما نشأ في العرب بالشَّرع لما أمروا بتقييده بالخط .
وقال مالك بن أنسٍ : « الحكمة » الفقه في الدين .
وقد تقدم في البقرة .
{
وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ } أي : من قبله وقبل أن يُرسل إليهم { لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي : في ذهاب عن الحق .
فصل في الرد على بعض الشبه
قال ابن الخطيب : احتج أهل الكتاب بهذه الآية ، فقالوا : قوله تعالى : { بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ } يدل على أنه - عليه الصلاة والسلام كان رسولاً إلى الأميين وهم العرب خاصَّة ، قال : وهذا ضعيف ، فإنه [ لا ] يلزم من تخصيص الشيء بالذكر نفي ما عداه ، ألا ترى قوله تعالى : { وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } [ العنكبوت : 48 ] أنه لا يفهم منه أنه لا يخطه بشماله ، ولأنه لو كان رسولاً إلى العرب خاصة ، كان قوله تعالى { كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } [ سبأ : 28 ] لا يناسب ذلك ، وقد اتفقوا على صدق الرسالة المخصوصة فيكون قوله : { كَآفَّةً لِّلنَّاسِ } دليلاً على أنه - عليه الصلاة والسلام - كان رسولاً إلى الكل .
قوله : { وآخرين منهم } فيه وجهان :
أحدهما : أنه مجرور عطفاً على « الأميين » ، أي : وبعث في آخرين من الأميين و { لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } صفة ل « آخرينَ » .
والثاني : أنه منصوب عطفاً على الضَّمير المنصوب في « يُعلِّمُهُم » .
أي : ويعلم آخرين لم يلحقوا بهم وسيلحقون ، فكلّ من تعلم شريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى آخر الزَّمان فرسول الله صلى الله عليه وسلم معلمه بالقوة؛ لأنه أصل ذلك الخير العظيم والفضل الجسيم .
قوله : { لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } .
أي : لم يكونوا في زمانهم وسيجيئون بعدهم .
قال ابن عمر وسعيد بن جبير : هم العجم .
وفي « صحيح البخاري » ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : « كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه سورة الجمعة ، فلما قرأ : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } قال رجل : من هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثاً قال : وفينا سلمان الفارسي قال : فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال : » لَوْ كَانَ الإيمانُ عِندَ الثُّريَّا لناله رجالٌ مِنْ هؤلاءِ « ، وفي رواية : » لَوْ كَانَ الدِّينُ عندَ الثُّريَّا لذهب بِهِ رجُلٌ من فارسَ ، أو قال : مِنْ أبْناءِ فِارِسَ حتَّى يتناولهُ « لفظ مسلم .
وقال عكرمة : هم التابعون .
وقال مجاهد : هم الناس كلهم ، يعني من بعد العرب الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم .
وقاله ابن زيد ومقاتل بن حيان ، قالا : هم من دخل الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة .
قال سهل بن سعد الساعدي : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » « إنَّ في أصْلاب أمَّتِي رجالاً ونِساءً يدخُلونَ الجنَّة بغيرِ حسابٍ » ثم تلا : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } « والقول الأول أثبتُ .
»
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « رأيتُني أسْقِي غَنَماً سُوداً ثُمَّ أتبعتُهَا غَنَماً عُفْراً أوِّلْها يَا أبا بَكْر » ، قال : يا نبِيَّ الله ، أما السُّودُ فالعربُ ، وأمَّا العُفْرُ فالعجمُ تتبعُك بعد العربِ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « كَذِلكَ أوَّلها الملك يا أبا بكر » « يعني : جبريل عليه السلام ، رواه ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - .
قوله تعالى : { ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } .
قال ابن عباس : حيث ألحق العجم بقريش .
وقيل : يعني : الإسلام فضل الله يؤتيه من يشاء . قاله الكلبي .
وقال مقاتل : يعني الوحي والنبوة .
وقيل : إنه المال ينفق في الطاعة ، لما روى أبو صالح عن أبي هريرة : » أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : ذهب أهل الدُّثُور بالدَّرجات العلى والنعيم المقيم ، فقال : « ومَا ذَاكَ » ، فقالوا : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أفَلاَ أعلِّمُكُمْ شَيْئاً تُدْركُونَ بِهِ من سَبَقكُمْ وتَسبقُونَ من بَعْدكُمْ ولا يكُونُ أحَدٌ أفضل مِنكُمْ إلاَّ من صَنَعَ مِثْلَ ما صَنَعْتُمْ » قالوا بلى يا رسول الله ، قال : « تُسَبِّحُونَ وتُكبِّرُونَ وتحْمدُونَ دُبر كُلِّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثينَ مرَّةً » ، قال أبو صالح : فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : سمع إخواننا من أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } «
وقيل : إنه انقياد الناس إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ودخولهم في دينه ونصرته .
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
قوله : { مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة } .
هذه قراءة العامَّة .
وقرأ زيد بن علي ويحيى بن يعمر : « حَمَلُوا » مخففاً مبنياً للفاعل .
قوله : { كَمَثَلِ الحمار } .
هذه قراءة العامة .
وقرأ عبد الله : « حِمَارٍ » منكراً ، وهو في قوة قراءة الباقين ، لأن المراد بالحمار : الجِنْس ولهذا وصف بالجملة بعده ، كما سيأتي .
وقرأ المأمون بن هارون الرشيد : « يُحَمَّل » مشدداً مبنيًّا للمفعول .
والجملة من « يَحْمِلُ أو يُحَمَّلُ » فيها وجهان :
أشهرهما : أنه في موضع الحال من « الحمار » .
والثاني : أنها في موضع الصفة للحمار ، لجريانه مجرى النكرة ، إذ المراد به الجنس .
قال الزمخشري : أو الجر على الوصف لأن الحمار كاللئيم ، في قوله : [ الكامل ]
4767 -
وَلقَدْ أمُرُّ على اللَّئيمِ يسُبُّنِي ..
وتقدم تحرير ذلك وأن منه عند بعضهم : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ } [ يس : 37 ] ، وأن « نسلخ » نعت لليل ، والجمهور يجعلونه حالاً للتعريف اللفظي .
وأما على قراءة عبد الله : فالجملة وصف فقط ، ولا يمتنع أن تكون حالاً عند سيبويه . والأسفار : جمع سفر ، وهو الكتاب المجتمع الأوراق .
فصل في تفسير هذا المثل
هذا مثل ضرب لليهود لما تركوا العمل بالتوراة ، ولم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم « حُمِّلُوا التَّوراةَ » أي : كلفوا العمل بها . قاله ابن عباس .
وقال الجرجاني : هو من الحمالة بمعنى الكفالة ، أي : ضمنوا أحكام التوراة .
وقوله : { ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } .
لم يعملوا بما فيها ولم يؤدّوا حقها { كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } أي : كتباً من العلم ، واحدها سفر .
قال الفرَّاء : هي الكتب العظام ، لأنها تسفر عما فيها من المعاني إذا قرئت ، ونظيره : شبر وأشبار .
يعني كما أن الحمار يحملها ولا يدري ما فيها ولا ينتفع بها كذلك اليهود يقرأون التوراة ولا ينتفعون بها ، لأنهم خالفوا ما فيها .
قال ميمون بن مهران : الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زبيل ، كذلك اليهود ، وفي هذا تنبيه من الله تعالى لمن حمل الكتاب أن يتعلم معانيه ويعلم ما فيه ويعمل به لئلا يلحقه من الذم ما لحق هؤلاء .
قال الشاعر : [ الطويل ]
4768 -
لَعَمْرُكَ مَا يَدْرِي البَعِيرُ إذَا غَدَا ... بأوسَاقِهِ أوْ رَاحَ مَا فِي الغَرَائِرِ
قوله : { بِئْسَ مَثَلُ القوم } فيه أوجه :
أحدها : وهو المشهُور أن « مثَلُ القَوْمِ » فاعل « بِئْسَ » والمخصوص [ بالذم الموصول بعده ، وهذا مشكل؛ لأنه لا بد من تصادق فاعل « نعم وبئس » والمخصوص هنا : « المثل » ليس بالقوم المكذبين ]
والجواب : أنه على حذف مضاف ، أي : بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا .
الثاني : أن « الَّذينَ » صفة للقوم فيكون مجرور المحلّ ، والمخصوص بالذَّم محذوف لفهم المعنى ، تقديره : بئس مثل القوم المكذبين مثل هؤلاء ، وهو قريب من الأول .
الثالث : أن الفاعل محذوف ، وأن « مثل القوم » هو المخصوص بالذَّم ، وتقديره : بئس المثل مثل القوم ، ويكون الموصول نعتاً للقوم أيضاً ، وإليه ينحو كلام ابن عطية فإنه قال : والتقدير { بئس المثل مثل القوم } .
وهذا فاسد : لأنه لا يحذف الفاعل عند البصريين إلاَّ في مواضع ثلاثة ليس هذا منها ، اللهم إلا أن يقول بقول الكوفيين .
الرابع : أن يكون التمييز محذوفاً ، والفاعل المفسر به مستتر ، تقديره : « بئس مثلاً مثل القوم » وإليه ينحو كلام الزمخشري فإنه قال : « بئس مثلاً مثل القوم » .
فيكون الفاعل مستتراً مفسراً ب « مَثَلاً » ، و « مثلْ القَوْمِ » هو المخصوص بالذم ، والموصول صفة له ، وحذف التمييز ، وهذا لا يجيزه سيبويه وأصحابه ألبتة .
نصوا على امتناع حذف التمييز ، وكيف يحذف وهو مبين .
فصل
قال ابن الخطيب : فإن قيل : ما الحكمة في تعيين الحمار من دون سائر الحيوانات؟ .
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنه تعالى خلق الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة ، كما قال تعالى : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [ النحل : 87 ] ، والزينة في الخيل أظهر وأكثر بالنسبة إلى الركوب والحمل عليه ، وفي البغال دون الخيل ، وفي الحمير دون البغال ، فالحمار كالمتوسط في المعاني الثلاثة ، وحينئذ يكون الحمار في معنى الحمل أظهر وأغلب بالنسبة إلى الخيل والبغال وغيرهما من الحيوانات .
وثانيها : أن هذا التمثيل لإظهار الجهل والبلادة لأولئك القوم ، والحمار يمثل به في الجهل والبلادة .
وثالثها : أن في الحمار من الحقارة ما ليس في غيره من الحيوانات . والغرض من الكلام هاهنا تحقير القوم وتعييرهم ، فيكون تعيين الحمار أليق .
ورابعها : أن حمل الأسفار على الحمار أسهل وأعمّ وأسهل لسرعة انقياده ، فإنه ينقاد للصبي الصغير من غير كلفة ، وهذا من جملة ما يوجب حسن الذكر بالنسبة إلى غيره .
وخامسها : أن رعاية الألفاظ والمناسبة من لوازم الكلام [ وبين ] لفظ الأسفار والحمار مناسبة لفظة [ لا توجد ] في غيره من الحيوانات فيكون ذكره أولى .
فصل
قال القرطبي : « معنى الكلام : بئس مثل القوم المثل الذي ضربناه لهم فحذف المضاف { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الأنبياء يعني من سبق في علمه أنه يكون كافراً » .
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)
قوله : { قُلْ ياأيها الذين هادوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس } . أي : من دون محمَّد وأصحابه . لما ادعت اليهود الفضيلة ، وقالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] ، قال الله تعالى : { إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس } فللأولياء عند الله الكرامة { فَتَمَنَّوُاْ الموت } لتصيروا إلى ما يصير إليه أولياء الله .
قوله : { أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ } .
سادّ مسد المفعولين أو المفعول على الخلاف ، و « لله » متعلق ب « أولياء » أو بمحذوف نعتاً ل « أولياء » ، و { من دون الناس } كذلك .
قوله : { فَتَمَنَّوُاْ الموت } . جواب الشَّرط .
والعامة : بضم الواو وهو في الأصل واو الضمير .
وابن السميفع وابن يعمر وابن إسحاق : بكسرها ، وهو أصل التقاء السَّاكنين .
وابن السميفع أيضاً : بفتحها وهذا طلب للتخفيف .
وتقدم نحوه في : { اشتروا الضلالة } [ البقرة : 16 ] .
وحكى الكسائي إبدال الواو همزة .
قوله : { وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ } ، وقال في البقرة : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ } [ البقرة : 95 ] .
قال الزمخشري : لا فرق بين « لا » و « لن » في أنَّ كل واحد منهما نفي للمستقبل إلا أن في « لن » تأكيداً وتشديداً ليس في « لا » فأتي مرة بلفظ التأكيد « ولن يتمنوه » ومرة بغير لفظه « ولا يتمنونه » .
قال أبو حيان : « وهذا رجوع عن مذهبه وهو أن » لن « تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة وهو أنها لا تقتضيه » .
قال شهاب الدين : وليس فيه رجوع ، غاية ما فيه أنه سكت عنه ، وتشريكه بين « لا » و « لن » في نفي المستقبل لا ينفي اختصاص « لن » بمعنى آخر .
وتقدم الكلام على هذا مشبعاً في « البقرة » .
فصل
المعنى : « ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم » أي : أسلفوه من تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم فلو تمنوه لماتوا ، فكان ذلك بطلان قولهم وما ادعوه من الولاية .
«
قال عليه الصلاة والسلام لما نزلت هذه الآية : » والذي نفسي بيده لو تمنوا الموت ما بقي على ظهرها يهودي إلا مات « » .
وفي هذا إخبار عن الغيب ومعجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقد مضى الكلام على هذه الآية في « البقرة » عند قوله : { فَتَمَنَّوُاْ الموت } [ البقرة : 94 ] .
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
قوله : { قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } .
في هذه الفاء وجهان :
أحدهما : أنها داخلةٌ لما تضمنه الاسم من معنى الشرط ، وحكم الموصوف بالموصول حكم الموصول في ذلك .
قال الزجاج : ولا يقال : إنَّ زيداً فمنطلق ، وهاهنا قال : « فإنَّهُ مُلاقِيكُمْ » لما في معنى « الذي » من الشرط والجزاء ، أي : فررتم منه فإنه ملاقيكم ، وتكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه .
الثاني : أنها مزيدة محضة لا للتضمين المذكور .
وأفسد هؤلاء القول الأول بوجهين :
أحدهما : أن ذلك إنما يجوز إذا كان المبتدأ أو اسم إن موصولاً ، واسم « إن » هنا ليس بموصول ، بل موصوفاً بالموصول .
والثاني : أن الفرار من الموت لا ينجي منه فلم يشبه الشرط يعني أنه متحقق فلم يشبه الشرط الذي هو من شأنه الاحتمال .
وأجيب عن الأول : بأن الموصوف مع صفته كالشيء الواحد؛ ولأن « الذي » لا يكون إلا صفة ، فإذا لم يذكر الموصوف دخلت الفاء ، والموصوف مراد ، فكذلك إذا صرح بها .
وعن الثاني : بأن خلقاً كثيراً يظنون أن الفرار من أسباب الموت ينجيهم إلى وقت آخر .
وجوز مكي : أن يكون الخبر قوله : { الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ } وتكون الفاء جواب الجملة قال : كما تقول : « زيد منطلق فقم إليه » .
وفيه نظر؛ لأنها لا ترتب بين قوله : { إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ } وبين قوله { فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } فليس نظيراً لما مثله .
قال القرطبي : ويجوز أن يتم الكلام عند قوله : { الذي تَفِرُّونَ } ثم يبدأ بقوله { فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } .
وقرأ زيد بن علي : « إنَّهُ » بغير فاء .
وفيها أوجه :
أحدها : أنه مستأنف ، وحينئذ يكون الخبر نفس الموصول ، كأنه قيل : فإن الموت هو الشيء الذي تفرّون منه . قاله الزمخشري .
الثاني : أن الخبر الجملة من قوله : { فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } وحينئذ يكون الموصول نعتاً للموت .
الثالث : أن يكون « إنه » تأكيد ، لأن الموت لما طال الكلام أكد الحرف تأكيد لفظياً ، وقد عرف أنه لا يؤكد كذلك إلا بإعادة ما دخل عليه أو بإعادة ضميره ، فأكد بإعادة ضمير ما دخلت عليه « إن » .
وحينئذ يكون الموصول نعتاً للموت ، و « ملاقيكم » خبره ، كأنه قيل : إن الموت إنه ملاقيكم .
وقرأ ابن مسعود : « ملاقيكم » من غير « فإنه » .
فإن قيل : الموت ملاقيهم على كل حال فروا أو لم يفروا ، فما معنى الشرط والجزاء؟ .
فالجواب : أنَّ هذا على جهة الرَّد عليهم إذ ظنوا أن الفرار ينجيهم ، { ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } وهذا وعيد بليغ وتهديد شديد .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة } الآية .
قرأ العامة : « الجُمُعَة » بضمتين .
وقرأ عبد الله بن الزبير وزيد بن علي والأعمش وأبو حيوة وأبو عمرو في رواية بسكون الميم .
فقيل : هي لغة في الأولى وسكنت تخفيفاً وهي لغة تميم .
وقيل : هو مصدر بمعنى الاجتماع .
وقيل : لما كان فيه معنى الفعل صار « كرجل هُزْأة » أي : يُهزأ به ، فلما كان في « الجمعة » معنى التجمع أسكن؛ لأنه مفعول به في المعنى أو يشبهه ، فصار ك « هزأة » الذي يهزأ به . قاله مكي .
وكذا قال أبو البقاء : هو بمعنى المجتمع فيه ، مثل : رجل ضحكة ، أي يضحك منه .
وقال مكي : يجوز إسكان الميم إستخفافاً ، وقيل : هي لغة .
وقد تقدم أنها قراءة وأنها لغة تميم .
وقال أبو حيان : « ولغة بفتحها لم يقرأ بها » .
قال شهاب الدين : « قد نقلها أبو البقاء قراءة ، فقال : ويقرأ - بفتح الميم - بمعنى الفاعل ، أي : يوم المكان الجامع ، مثل : رجل ضحكة ، أي : كثير الضحك » .
وقال مكي : « وفيه لغة ثالثة - بفتح الميم - على نسبة الفعل إليها كأنها تجمع الناس ، كما يقال : » رجل لحنة « إذا كان يلحن الناس ، وقرأة إذا كان يقرىء الناس » ، ونقلها قراءة أيضاً الزمخشري ، إلا أن الزمخشري جعل « الجمعة » - بالسكون - هو الأصل ، وبالمضموم مخففاً منه يقال : يوم الجمعة ، يوم الفوج المجموع ، كقولهم : « ضُحَكَة » للمضحوك منه ، ويوم الجمعة - بفتح الميم - يوم الوقت الجامع ، كقولهم : ضحكة ولعبة ، ويوم الجمعة ، كما قيل : عُسَرة في عُسْرة ، وقرىء بهن جميعاً .
وتقديره : يوم الوقت الجامع أحسن [ من تقدير أبي البقاء يوم ] المكان الجامع؛ لأن نسبة الجمع إلى الطرفين مجاز ، فالأولى إبقاؤه زماناً على حاله .
قال القرطبي : « وجمعها جُمع وجُمعان » .
وقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما : نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم ، فاقرأوها « جمعة » يعني بضم الميم .
وقال الفرَّاء وأبو عبيد : والتخفيف أحسن وأقيس ، نحو : غُرْفة وغُرَف ، وطُرْفة وطُرَف وحُجرة وحُجَر وفتح الميم لغة بني عقيل . وقيل : إنها لغة النبي صلى الله عليه وسلم .
فصل في الكلام على الآية
فإن قيل : قال ابن الخطيب : قوله : « للصَّلاةِ » ، أي : لوقت الصلاة ، بدليل قوله : { مِن يَوْمِ الجمعة } ولا تكون الصلاة من اليوم وإنما يكون وقتها من اليوم .
فالجواب : روى سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّمَا سُمِّيتْ جُمعَةً لأنَّ اللَّهَ جَمَعَ فِيهَا خلقَ آدَمَ »
وقيل : لأن الله - تعالى - فرغ فيها من خلق كل شيء فاجتمع فيها جميع المخلوقات .
وقيل : لتجتمع الجماعات فيها . وقيل : لاجتماع النَّاس فيها للصلاة .
قوله : { مِن يَوْمِ } .
«
من » هذه بيان ل « إذا » وتفسير لها . قاله الزمخشري .
وقال أبو البقاء : إنها بمعنى « في » أي : في يوم ، كقوله تعالى : { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض } [ فاطر : 40 ] ، أي : في الأرض .
فصل في أول من قال أما بعد وسمى الجمعة
قال القرطبي رحمه الله تعالى : قال أبو سلمة : أول من قال : أما بعد ، كعب بن لؤي وكان أول من سمى الجمعة جمعة لاجتماع قريش فيه إلى كعب ، وكان يقال ليوم الجمعة : العروبة .
وقيل : أول من سماها جمعة : الأنصار .
قال ابن سيرين : جمَّع أهل « المدينة » من قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، وقبل أن ننزل الجمعة ، وهم الذين سموها الجمعة ، وذلك أنهم قالوا : إن اليهود يجتمعون فيه في كل سبعة أيام وهو يوم السَّبت ، وللنصارى يوم مثل ذلك وهو الأحد ، فتعالوا فلنجتمع حتى نجعل يوماً لنا نذكر الله فيه ونصلي فيه ونستذكر ، فقالوا : يوم السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى ، فاجعلوه يوم العروبة ، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكّرهم ، فسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا ، فذبح لهم أسعد شاةً فتعشَّوا وتغدَّوا منها لقلتهم فهذه أول جمعة في الإسلام .
وروي أنهم كانوا اثني عشر رجلاً .
وقال البيهقي : وروينا عن موسى بن عقبة عن الزهري أن مصعب بن عمير كان أول من جمع الجمعة للمسلمين بالمدينة قبل أن يقدمها النبي صلى الله عليه وسلم قال البيهقي : يحتمل أن يكون مصعب جمع بهم بمعونة أسعد بن زرارة ، فأضافه كعب إليه .
وروي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب : أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحَّم لأسعد بن زرارة ، فقلت له : إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة قال : لأنه أول من جمع بنا في هزم النَّبيت من حرَّة بني بياضة في بقيع يقال له : بَقِيعُ الخضمات ، قلت له : كم كنتم يومئذ؟ قال : أربعين .
ذكره البغوي .
وأما أول جمعة جمعها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ، [ فقال أهل السير : « قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ] مهاجراً حتى نزل ب » قباء « على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لاثنين عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين اشتد الضحى ، ومن تلك السَّنة يُعَدُّ التاريخ فأقام بها إلى يوم الخميس وأسس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة فأدركته في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجداً ، فجمع بهم وخطب ، وهي أول جمعة خطبها بالمدينة ، وقال فيها : » الحَمْدُ لِلَّهِ ، أحْمَدهُ ، وأسْتَعينُهُ ، وأسْتَغفِرُهُ ، وأسْتَهْدِي بِهِ ، وأومِنُ بِهِ ، ولا أكْفُرُهُ ، وأعَادِي من يَكْفُرُ بِهِ ، وأشْهَدُ ألا إلهَ إلاَّ اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وأشْهَدُ أنَّ مُحَمداً عَبْدُهُ ورسُولهُ ، أرْسلَهُ اللَّهُ بالهُدَى ودَيِنِ الحَقِّ ليظهره على الدين كله والنُّورِ والمَوعِظَةِ والحِكْمَةِ ، على فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ ، وقلَّةِ العِلْمِ وضَلالةٍ مِنَ النَّاسِ ، وانقِطاعٍ مِنَ الزَّمانِ ، ودُنُوٍّ مِنَ السّاعةِ ، وقُرْبٍ مِنَ الأَجَلِ؛ مَن يُطِع الرَّسُول فَقَدْ رَشَدَ ومن يَعْصِي اللَّهَ ورسُولَهُ فَقَدْ غَوَى وفرَّطَ وضَلَّ ضلالاً بَعِيداً . وأوصِيكُمْ بتَقْوَى اللَّهِ فإنَّهُ خَيْرُ ما أوصيكم وخير ما أوصى بِهِ المُسْلِمُ المُسْلِمَ أنْ يَحُضَّهُ على الآخِرةِ وأنْ يأمرهُ بتَقْوَى اللَّهِ ، واحْذَرُوا ما حذَّرَكُمُ اللَّهُ من نَفْسِهِ ، فإنَّ تَقْوَى اللَّهِ مِنْ عَمِلَ بِهِ على وجَلٍ ومخَافَةٍ من ربِّهِ عُنْوانُ صِدْقٍ عَلَى مَا تَبْغُونَ مِنَ الآخِرةِ ومَن يُصْلِح الذي بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ مِنْ أمْرِهِ في السِّرِّ والعَلانِيَةِ لا يَنْوِي بِهِ إلاَّ وجْهَ اللَّهِ يَكُنْ لَهُ ذِكْراً في عَاجل أمْرِهِ وذُخْراً فِيمَا بَعْدَ المَوْتِ حِينَ يَفْتَقِرُ المَرْءُ إلى ما قدَّم ومَا كَانَ ممَّا سِوَى ذلك { تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ والله رَؤُوفٌ بالعباد } [ آل عمران : 30 ] .
هُوَ الَّذي صدقَ قولهُ ، وأنجَزَ وعْدَهُ ، لا خُلْفَ لذَلِكَ فإنَّه يقولُ : { مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ سورة ق : 29 ] .
فاتَّقُوا اللَّهِ في عاجلِ أمْركُمْ وآجلهِ ، فِي السِّرِّ والعلانيةِ ، فإنَّهُ { وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } [ الطلاق : 5 ] .
ومَنَ يتَّقِ اللَّهَ فقد فَازَ فَوْزاً عَظِيماً .
وإنَّ تَقْوَى اللَّهِ تُوقِي مقْتَهُ وتُوقِي عُقوبتَهُ وتُوقِي سُخْطَهُ ، وإنَّ تَقْوَى اللَّه تُبَيِّضُ الوُجُوه وتُرْضي الرَّبَّ ، وترفعُ الدَّرجة ، فخُذُوا حِذْركُمْ ولا تُفَرِّطُوا في جَنْب اللَّهِ فقدْ عَلَّمَكُمْ في كتابهِ ونَهَجَ لَكُمْ سبيلهُ ، ليَعْلَمَ الَّذينَ صَدَقُوا وليَعْلَمَ الكَاذِبِينَ ، فأحْسِنُوا كَمَا أحسن اللَّهُ إليْكُمُ ، وعادُوا أعْدَاءهُ ، وجَاهِدُوا في اللَّهِ حقَّ جِهَادِهِ هُو اجتبَاكُمْ وسمَّاكُمُ المُسلِمينَ ، { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] ، ولا حَولَ ولا قُوَّة إلاَّ باللَّهِ العليِّ العظيم ، فأكْثِرُوا من ذِكْرِ اللَّهِ تعالى واعْمَلُوا لِمَا بَعْدَ المَوْتِ ، فإنَّه من يُصْلِحْ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ يَكْفِهِ اللَّهِ مَا بَيْنَه وبيْنَ النَّاسِ ، ذلِكَ بأنَّ اللَّهِ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ ولا يَقْضُون عليْهِ ، ويَمْلِكُ مِنَ النَّاسِ ولا يَمْلِكُونَ مِنْهُ ، اللَّهُ أكبرُ ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ « .
فصل في خطاب الله للمؤمنين
خاطب اللَّهِ المؤمنين بالجمعة دون الكافرين تشريفاً لهم وتكريماً ، فقال : { ياأيها الذين آمنوا } ، ثُمَّ خصه بالنِّداء وإن كان قد دخل في عموم قوله تعالى : { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة } [ المائدة : 58 ] ليدلّ على وجوبه وتأكيد فرضه .
وقال بعض العلماء : كون الصَّلاة الجمعة ها هنا معلُوم بالإجماع لا من نفس اللفظ .
وقال ابن العربي : « وعندي أنه معلوم من نفس اللفظ بنكتة ، وهي قوله : { مِن يَوْمِ الجمعة } وذلك يفيده لأن النداء الذي يختصّ بذلك اليوم هو نداء تلك الصلاة ، وأما غيرها فهو عام في سائر الأيام ، ولو لم يكن المراد به نداء الجمعة لما كان لتخصيصه بها وإضافته إليها معنى ولا فائدة » .
فصل
كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في سائر الصلوات مؤذن واحد إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك فعل أبو بكر وعمر وعلي ب « الكوفة » ثم زاد عثمان أذاناً ثانياً على داره التي تسمى الزوراء حين كثر الناس بالمدينة ، فإذا سمعوا أقبلوا حتى إذا جلس عثمان على المنبر أذّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخطب عثمان . أخرجه ابن ماجه في سننه .
وقال الماوردي : فأما الأذان الأول فمحدث ، فعله عثمان بن عفَّان ليتأهب النَّاس لحضور الخطبة عند اتساع « المدينة » وكثرة أهلها ، وقد كان عمر - رضي الله عنه - أمر أن يؤذن في السوق قبل المسجد ليقوم الناس عن بيوعهم ، فإذا اجتمعوا أذن في المسجد فجعله عثمان - رضي الله عنه - أذانين في المسجد .
قال ابن العربي : وفي الحديث الصحيح : أن الأذان كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً ، فلما كان زمن عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء ، وسماه في الحديث : ثالثاً ، لأنه إضافة إلى الإقامة ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - : « بَيْنَ كُلِّ أذَانَينِ صلاةٌ لِمن شَاءَ » يعني الأذان والإقامة .
وتوهّم بعض الناس أنه أذان أصلي ، فجعلوا المؤذنين ثلاثة ، فكان وَهْماً ، ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهماً على وهم .
قوله : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } .
قيل : المراد بالسعي هنا القصد . قال الحسن : والله ما هو بسعي على الأقدام ولكنه سعي بالقلوب والنية .
وقال الجمهور : السعي العمل كقوله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [ الإسراء : 19 ] ، وقوله : { إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى } [ من سورة الليل : 4 ] ، وقوله : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] .
والمعنى : فاعملوا على المضي إلى ذكر الله واشتغلوا بأسبابه من الغسل والطهر والتوجه إليه .
وقيل : المراد به السعي على الأقدام ، وذلك فضل ، وليس بشرط ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - : « مَن اغْبرَّتْ قَدمَاهُ في سبيل اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلى النَّارِ » .
قال القرطبي : « ويحتمل ظاهره وجهاً رابعاً ، وهو الجري والاشتداد » .
قال ابن العربي : وهو الذي أنكره الصَّحابة والفقهاء الأقدمون ، فقرأها عمر - رضي الله عنه - : { فامضُوا إلى ذِكْرِ اللَّهِ } فرارا عن طريق الجري والاشتداد الذي يدل عليه الظاهر .
وقرأ ابن مسعود كذلك ، وقال : لو قرأت : « فاسْعَوا » لسعيت حتى يسقط ردائي .
وقال ابن شهاب : [ فامضوا ] إلى ذكر الله ، سالكاً تلك السبيل ، وهو كله تفسير منهم لا قراءة قرآن منزل ، وجائز قراءة القرآن بالتفسير في معرض التفسير .
قال أبو بكر بن الأنباري : وقد احتج من خالف المصحف بقراءة عمر وابن مسعود ، وأن خرشة بن الحر قال : رآني عمر - رضي الله عنه - ومعي قطعة فيها : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } فقال عمر : من أقرأك هذا؟ قلت : أبيٌّ ، فقال : إن أبيًّا أقرؤنا للمنسوخ ثم قرأ عمر : { فامضُوا إلى ذِكْرِ اللَّهِ } .
وقال الفراء وأبو عبيدة : معنى السَّعي في الآية المضي للجمعة .
واحتج الفراء بقولهم : هو يسعى في البلاد يطلب فضل الله .
واحتج أبو عبيدة بقول الشاعر : [ السريع ]
4769 -
أسْعَى عَلَى جدِّ بَنِي مَالِكٍ ... كُلُّ امْرِىءٍ فِي شأنِهِ سَاعِ
فهل يحتمل السعي في هذا البيت المضي والانكماش ، ومحال أن يخفى هذا المعنى على ابن مسعود وعلى فصاحته وإتقان عربيته .
قال القرطبي : وما يدلّ على أن المراد هنا العدو ، قوله - عليه الصلاة والسلام - : « إذَا أقِيمَتِ الصَّلاةُ فَلاَ تَأتُوهَا وأنتُمْ تَسْعونَ ولكِن ائْتُوهَا وعَليْكُمُ السَّكِينَةُ » .
قال الحسنُ رضي الله عنه : أما والله ما هو بالسَّعْي على الأقدام ، ولقد نهوا أن يأتوا الصَّلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ، ولكن بالقلوب والنية والخشوع .
وقال قتادة : السعي أن تسعى بقلبك وعملك .
فصل في أن الآية خطاب للمكلفين
هذه الآية خطاب للمكلفين [ بالإجماع ] ويخرج منه المرضى والزمنى والمسافرون والعبيد والنساء بالدليل والعميان والشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد عند أبي حنيفة .
لما روى الدارقطني عن أبي الزبير عن جابر « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال » مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَعليْهِ الجُمُعة يَوْمُ الجُمُعةِ إلاَّ مَريضٌ أو مُسافِرٌ أو امْرَأةٌ أوْ صَبِيٌّ أو مَمْلوكٌ ، فمن اسْتَغْنَى بِلَهْوٍ أو تجارة اسْتَغْنَى اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - عَنْهُ ، واللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ « .
قال العلماء رضي الله عنهم : لا يتخلف أحد عن الجمعة ممن عليه إتيانها إلا بعذر لا يمكنه معه الإتيان إليها كالمرض الحابس أو خوف الزيادة في المرض أو خوف جور السلطان عليه في مال أو ولد دون القضاء عليه بحق . والمطر الوابل مع الوَحْل عذر إن لم ينقطع .
وروى المهدوي عن مالك أنهما ليسا بِعُذْرٍ .
ومن له ولي حميم قد حضرته الوفاة ، ولم يكن عنده من يقوم بأمره فهو معذور ، وقد فعل ذلك ابن عمر رضي الله عنه ، ومن تخلف عنها لغير عذر فصلى قبل الإمام أعاده ولا يجزيه أن يصلي قبله وهو عاص في تخلفه ذلك مع إمكانه .
فصل في وجوب السعي
وجوب السعي يختص بالقريب الذي يسمع النداء ، فأما البعيد الذي لا يسمع النداء فلا يجب عليه السعي .
واختلف الناس في القريب والبعيد .
فقال ابن عمرو وأبو هريرة رضي الله عنهما وأنس : تجب الجمعة على من كان في المصر على ستة أميال .
وقال ربيعة : أربعة أميال .
وقال مالك والليث : ثلاثة أميال .
وقال الشافعيُّ : اعتبار سماع الأذان أن يكون المؤذن صَيِّتاً ، والأصوات هادئة ، والريح ساكنة ، وموقف المؤذن عند سور البلد .
«
وروت عائشةُ - رضي الله عنها - أن الناس كانوا ينتابُون الجمعة من منازلهم من العوالي فيأتون في الغبار ويصيبهم الغبار فيخرج منهم الريح ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم » لو اغْتسَلْتُمْ ليَوْمِكُمْ هَذَا « .
قال العلماء : والصوت إذا كان رفيعاً والناس في هدوء وسكون ، فأقصى سماع الصوت ثلاثة أميال ، والعوالي من » المدينة « أقربها على ثلاثة أميال .
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق : تجب الجمعة على من سمع النداء لقوله - عليه الصلاة والسلام - : » إنَّمَا الجُمعَةُ عَلَى مَن سَمِعَ النِّداءَ « .
وقال أبو حنيفة وأصحابه : تجب الجمعة على من في المصر سمع النداء أو لم يسمعه ولا تجب على من هو خارج المصر ولو سمع النداء ، حتى سئل : وهل تجب الجمعة على أهل » زبارة « وهي بينها وبين الكوفة مجرى نهر؟ فقال : لا .
وروي عن ربيعة أيضاً : أنها تجب على من إذا سمع النداء وخرج من بيته ماشياً أدرك الصلاة .
فصل في وجوب الجمعة بالنداء .
دلّت هذه الآية على أن الجمعة لا تجب إلا بالنداء ، والنداء لا يكون إلا بدخول الوقت لقوله - عليه الصلاة والسلام - : » إذَا حَضرتِ الصَّلاةُ فليُؤذِّنْ أحَدُكُمَا وليَؤُمّكما أكْبَركُمَا « .
وروى أنس بن مالك » أن النبي صلى الله عليه وسلم « كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس » « .
وروي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وأحمد بن حنبل : أنها تصلى قبل الزوال ، واستدل أحمد بحديث سلمة بن الأكوع : » كنا نصلّي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم ننصرف وليس للحيطان ظلٌّ « .
وحديث ابن عُمَر : » ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة « .
وأخرج مسلم مثله عن سهل .
قال القرطبي : وحديث سلمة محمول على التكبير ، لقول سلمة : » كنا نُجمِّعُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشَّمس ثم نرجع ونتتبّع الفيء « .
فصل
نقل عن بعض الشافعية أن الجمعة فرض على الكفاية ، وجمهور الأمة على أنها فرض عين لقوله تعالى : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع } .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : » ليَنْتَهينَّ أقْوامٌ عَنْ ودْعِهِمُ الجُمعاتِ أو ليَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلوبِهِم ثُمَّ ليَكونُنَّ مِنَ الغَافِلِينَ « .
وروى ابن ماجه في » سننه « قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«
مَن تركَ الجُمَعَة ثَلاثَ مرَّاتٍ طَبَعَ اللَّهُ على قَلْبِهِ » ، إسناده صحيح .
وقال ابن العربي : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الرَّواحُ إلى الجُمُعَةِ واجِبٌ على كُلِّ مُسْلمٍ » .
فصل في العدد الذي تنعقد به الجمعة
اختلفوا في العدد الذي تنعقد به الجمعة .
فذهب قوم إلى أن كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلاً أحراراً عاقلين مقيمين لا يظعنون عنها شتاء ولا صيفاً إلا ظعن حاجة تجب عليهم إقامة الجمعة فيها ، وهو قول عبيد الله بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز ، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق ، قالوا : لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلاً على هذه الصفة ، وشرط عمر بن عبد العزيز مع الأربعين أن يكون فيهم والٍ ، وعند أبي حنيفة تنعقد بأربعة والوالي شرط .
وقال الأوزاعي وأبو يوسف : تنعقد بثلاث إذا كان فيهم وال .
وقال الحسن وأبو ثور : تنعقد باثنين كسائر الصلوات .
وقال ربيعة : تنعقد باثني عشر رجلاً .
فصل في اجتماع العيد والجمعة .
إذا اجتمع العيد والجمعة سقط فرض الجمعة عند أحمد لتقدم العيد عليها واشتغال الناس به عنها ، ولما روي أن عثمان أذن في [ يوم ] عيد لأهل العوالي أن يتخلفوا عن الجمعة .
وقال غيره : لا يسقط فرض الجمعة لأن الأمر بالسعي متوجه يوم العيد كتوجهه في سائر الأيام ، وقول الصحابي ليس بحجة إذا خولف فيه ولم يجمع معه عليه .
وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى } [ الأعلى : 1 ] و { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية } [ الغاشية : 1 ] قال وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضاً في الصَّلاتين » أخرجه أبو داود والترمذي والنَّسائي وابن ماجه .
قوله : { إلى ذِكْرِ الله } .
أي : الصلاة .
وقيل : الخطبة والمواعظ . قاله سعيد بن جبير .
قال ابن العربي : والصحيح أنه واجب في الجميع؛ لأنها تحرم البيع ، ولولا وجوبها ما حرمته؛ لأن المُستحبَّ لا يحرم المباح .
قال القرطبي : وإذا قلنا : إنَّ المراد بالذِّكر الصَّلاة فالخطبة من الصَّلاة ، والعبد يكون ذاكراً لله بقلبه كما يكون مسبحاً لله بفعله .
قال الزمخشري : « فإن قلت : كيف يفسر ذكر الله بالخطبة وفيها غير ذلك؟ .
قلت : ما كان من ذكر رسول الله والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير ، فهو في حكم ذكر الله ، فأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم وهم أحقاء بعكس ذلك » .
فصل في السفر يوم الجمعة
ذهب بعضهم إلى أنه إذا أصبح يوم الجمعة مقيماً فلا يسافر حتى يصلي الجمعة ، وذهب بعضهم إلى الجواز ، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال :
«
بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة ، فغدا أصحابه وقال أتخلف فأصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ألحقهم ، فلما صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رآه فقال : » مَا مَنَعَكَ أن تَغْدُوَ مَعَ أًصْحَابِكَ « ، قال : أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم ، فقال : » لَوْ أنفقْتَ مَا فِي الأرْضِ مَا أدْرَكْتَ « . فصلى غدوتهم » .
وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً عليه أهبة السفر ، يقول : لولا أن اليوم الجمعة لخرجت ، فقال له عمر : اخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفرٍ .
قوله : { وَذَرُواْ البيع } .
يدل على تحريم البيع في وقت الجمعة على من كان مخاطباً بفرضها ، والبيع لا يخلو عن شراء فاكتفى بذكر أحدهما ، كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } [ النحل : 81 ] وخص البيع لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق ، ومن لا يجب عليه حضور الجمعة ، فلا ينهى عن البيع والشراء .
وفي وقت التحريم قولان :
أحدهما : أنه من بعد الزَّوال إلى الفراغ منها . قاله الضحاك ، والحسن ، وعطاء .
الثاني : أنه من وقت أذان الخطبة إلى وقت الصَّلاة . قاله الشافعي .
قال القرطبي : « ومذهب مالك أن البيع يفسخ إذا نودي للصلاة ، ولا يفسخ العتق والنكاح والطلاق وغيره ، إذ ليس من عادة الناس اشتغالهم به كاشتغالهم بالبيع ، قال : وكذلك الشرك والهبة والصدقة نادر لا يفسخ » .
قال ابن العربي : « والصحيح فسخ الجميع؛ لأن البيع إنما منع منه للاشتغال به فكل أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعاً مفسوخ » .
وحمل بعضهم النهي على الندب لقوله تعالى : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } ، وهو مذهب الشافعي؛ فإن البيع عنده ينعقد ولا يفسخ .
وقال الزمخشري : إن عامة العلماء على أن ذلك النهي لا يؤدي إلى فساد البيع ، قالوا : لأن البيع لم يحرم لعينه ، ولكن لما فيه عن الذُّهُول عن الواجب ، فهو كالصلاة في الدار والثوب والمغضوب ، والوضوء بماء مغصُوب .
قال القرطبي : « والصَّحيح فساده وفسخه لقوله - عليه الصلاة والسلام - » كُلُّ عملٍ ليْسَ عليْهِ أمْرُنَا فهُو ردٌّ « أي : مردود .
ثم قال : » ذَلِكُمْ « أي : ذلك الذي ذكرت من حضور الجمعة وترك البيع { خَيْرٌ لَّكُمْ } من المبايعة { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } مصالح أنفسكم .
قوله : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض } .
هذا أمر إباحة كقوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } [ المائدة : 2 ] ، والمعنى : إذا فرغتم من الصلاة { فانتشروا فِي الأرض } للتجارة والتصرف في حوائجكم { وابتغوا مِن فَضْلِ الله } أي : من رزقه .
وكان عراك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال : اللهم إني أجبت دعوتك ، وصلّيت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني ، فارزقني من فضلك رزقاً حلالاً وأنت خير الرازقين .
وقال جعفر بن محمد في قوله تعالى : { وابتغوا مِن فَضْلِ الله } : إنه العمل في يوم السبت .
وقال سعيد بن المسيب : طلب العلم .
وقيل : صلاة التطوع .
وقال ابن عباس : لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا ، إنما هي عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيادة الأخ في الله تعالى .
فصل
في فضل يوم الجمعة أحاديث كثيرة .
منها ما روي عن أبي هريرة قال : « خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار ، فجلست معه ، فحدثني عن التوراة وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان فيما حدثته أن قلت له : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الجُمُعَةِ ، فيه خُلِقَ آدمُ ، وفيه هَبَطَ من الجنة ، وفيه مَاتَ ، وفِيهِ تِيبَ علَيْهِ ، وفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ ، ومَا مِن دابَّةٍ إلاَّ وهِيَ مُسَبِّحَةٌ فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ مِنْ حِين تُصْبحُ حتَّى تطلُعَ الشَّمْسُ شفقاً من السَّاعَة إلاَّ الجِنَّ والإنْسَ وفيهَا سَاعَةٌ لا يُصادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وهُو يُصلِّي فيسألُ اللَّهَ شَيْئاً إلاَّ أعْطَاهُ إيَّاهُ « .
قال كعب : ذلك في كل سنة يوم؟ فقلت : بل في كل جمعة ، قال : فقرأ كعب التوراة فقال : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أبو هريرة : ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة ، قال عبد الله بن سلام : قد علمت أية ساعة هي؟ هي في آخر ساعة من يوم الجمعة .
قال أبو هريرة : وكيف تكون آخر ساعة من يوم الجمعة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لا يُصادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ ، وهُو يُصلِّي « وتِلْكَ السَّاعَةُ لا يُصلَّى فِيهَا؟ فقال عبد الله بن سلام : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : » مَن جَلَسَ مَجْلِساً يَنتظِرُ الصَّلاة فَهُوَ فِي صلاةٍ حتَّى يُصلِّيهَا «؟ .
قال أبو هريرة : بلى . قال : » فهو ذاك « » .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : « مَن اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمعة واسْتَنَّ ومسَّ طِيْباً إن كان عِندَهُ ولبِسَ مِنْ أحْسَن ثيابهِ ثُمَّ خَرَجَ حتَّى يَأتِيَ المَسْجِدَ ولمْ يتَخَطَّ رِقَاب النَّاسِ ثُمَّ رَكَعَ مَا شَاءَ اللَّهُ أن يَرْكَعَ وأنصَتَ إذا خَرَجَ الإمامُ ، كَانَتْ كفَّارة لما بَيْنهُمَا وبَيْنَ الجُمُعةِ الأخْرَى الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهَا » .
وقال أبو هريرة : وزيادة ثلاثة أيام؛ لأن اللَّه تعالى يقول : { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] .
وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذَا كَانَ يَوْمُ الجمعة كَانَ عَلى كُلِّ بَابٍ مِنْ أبْوابِ المَسْجدِ ملائِكةٌ يَكْتُبُونَ [ النَّاسَ على مَنَازلِهِم ] ، الأوَّل فالأوَّلَ ، فإذا خرج الإمامُ طُويتِ الصُّحَفُ واستَمَعُوا الخُطْبَةَ » .
وقال : « مَن اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمعَةِ ، ثُمَّ رَاحَ في السَّاعةِ الأولى ، فكَأنَّما قَرَّب بَدَنةً ، ومن رَاحَ فِي السَّاعةِ الثَّانيةِ فكأنَّما قرَّب بقرةً ، ومَن راحَ في السَّاعةِ الثَّالثة فكأنَّما قرَّب كبْشاً ، ومن رَاحَ في السَّاعةِ الرَّابعةِ فكأنَّما قرَّب دَجَاجَةً [ ومن راح في الساعة الخامسة ، فكأنما قرب عصفوراً ] ، ومن رَاحَ فِي السَّاعةِ السادسة ، فكَأنَّما قَرَّبَ بَيْضَةً فإذا خَرَجَ الإمامُ حَضرتِ الملائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ » .
قوله : { واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : بالطاعة واللسان ، وبالشكر على ما أنعم به عليكم من التوفيق لأداء فرائضه { لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ كي تفلحوا ] .
وقال سعيد بن جبير : الذكر طاعة الله ، فمن أطاع الله فقد ذكره؛ ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن كان كثير التسبيح .
قال ابن الخطيب : فإن قيل : ما الفرق بين ذكر الله أولاً وذكر الله ثانياً؟ .
فالجواب : أن الأول من جملة ما لا يجتمع مع التجارة أصلاً إذ المراد منه الخطبة والصلاة والثاني من جملة ما يجتمع مع التجارة كما في قوله تعالى : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } [ النور : 37 ] .
قوله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } .
روى مسلم عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً يوم الجمعة فجاءت عير من « الشام » فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثني عشر رجلاً ، وفي رواية : أنا فيهم ، فنزلت هذه الآية : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } .
وذكر الكلبي : أن الذي قدم بها دحية بن خليفة الكلبي من « الشام » في مجاعةٍ وغلاء سعر وكان معه جميع ما يحتاج إليه الناس من برّ ودقيق وغيره فنزلت عند أحجار الزيت وضرب بالطبل ليعلم الناس بقدومه فخرج الناس إلا اثني عشر رجلاً وقيل إلا أحد عشر رجلاً وحكى البغوي قال : فلما رأوه قاموا إليه خشية أن يسبقوا إليه قال الكلبي وكانوا في خطبة الجمعة فانفضوا إليه وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية رجال حكاه الثعلبي عن ابن عباس وذكر الدارقطني من حديث جابر قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عير تحمل الطعام حتى نزلت بالبقيع فالتفتوا إليها وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس معه إلاّ أربعين رجلاً أنا منهم قال : وأنزل الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً } قال الدارقطني لم يقل في هذا الآثار إلاّ أربعين رجلاً غير علي بن عاصم بن حصين وخالفه أصحاب حصين فقالوا لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ اثني عشر رجلاً . واحتج بهذا الحديث من يرى أن الجمعة تنعقد باثني عشر رجلاً وليس فيه بيان أنه أقام بهم الجمعة وذكر الزمخشري أن النبي صلى الله عيله وسلم قال :
«
والذي نفسي بيده لو خرجوا جميعاً لأضرم الله عليهم الوادي ناراً » .
وروي في حديث مرسل عن أسد بن عمرو والد أسد بن موسى بن أسد وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق معه إلا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة عامر بن الجراح وسعيد بن زيد وبلال وعبد الله بن مسعود في إحدى الروايتين وفي الرواية الأخرى عمار بن ياسر قال القرطبي ولم يذكر جابراً وذكر مسلم أنه كان فيهم والدارقطني أيضاً فيكونون ثلاثة عشر وإن كان عبد الله بن مسعود بينهم فهم أربعة عشر .
وروى البغوي قال : « وكان ذلك قبل أن يسلم دحية ، قال : فخرج الناس إليه ، ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلاً وامرأة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » لو قام هؤلاء لقد سومت لهم الحجارة من السماء « » فأنزل الله هذه الآية .
فصل
وذكر أبو داود في مراسيله : السبب الذي ترخصوا لأنفسهم في ترك سماع الخطبة ، وقد كانوا خليقاً بفضلهم ألاَّ يفعلوا ، فقال : حدثنا محمود بن خالد ، قال : حدثنا الوليد ، قال : أخبرني أبو معاذ بكير بن معروف أنه سمع مقاتل بن حيان قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وقد صلى الجمعة ، فدخل رجل فقال : إن دحية بن خليفة قدم بتجارته ، وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفوف ، فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء ، فأنزل الله - عز وجل - { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة فكان لا يخرج أحد لرعاف أو إحداث بعد النهي حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام ، فيأذن له النبي صلى الله عيله وسلم ثم يشير إليه بيده ، فكان في المنافقين من يثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد ، فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق في جنبه مستتراً به حتى يخرج ، فأنزل الله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً } [ النور : 63 ] الآية .
قال السُّهيلي : وهذا الخبر وإن لم ينقل من وجه ثابت فالظن الجميل بأصحاب النبي صلى الله عيله وسلم يوجب أن يكون صحيحاً . والله أعلم .
وقال قتادة : وقد بلغنا أنهم فعلوه ثلاث مرات ، كل مرة عير تقدم من « الشام » وكل ذلك يوافق يوم الجمعة .
وقيل : إن خروجهم لقدوم دحية الكلبي بتجارة ونظرهم إلى العير تمر لهوٌ لا فائدة فيه ، إلا أنه كان مما لا إثمَ فيه لو وقع على ذلك الوجه ، ولكنه لما اتصل به الإعراض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والانفضاض عن حضرته غلظ وكبر ، ونزل فيه من القرآن وتهجينه باسم اللهو ما نزل .
وكان معه جميع ما يحتاج إليه الناس من بر ودقيق وغيره ، فنزل عند أحجار الزيت ، وضرب بالطبل [ ليؤذن ] الناس بقدومه ، فخرج الناس إلا اثنا عشر رجلاً .
وقيل : أحد عشر رجلاً .
وحكى البغوي قال : « فلما رأوه قام خشية أن يسبقوا إليه » .
قال الكلبي : كانوا في خطبة الجمعة فانفضوا إليه وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية رجال ، وحكاه الثعلبي عن ابن عباس .
وذكر الدارقطني من حديث جابر قال : « بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عير تحمل الطعام حتى نزلت بالبقيع فالتفتوا إليها ، وانفضوا إليها ، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس معه إلا أربعين رجلاً أنا فيهم » ، قال : وأنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } .
قال الدارقطني : لم يقل في هذا الاسناد : « إلا أرْبعِينَ رَجُلاً » غير علي بن عاصم عن حصين ، وخالفه أصحاب حصين ، فقالوا : لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً .
واحتج بهذا الحديث من يرى أن الجمعة تنعقد باثني عشر رجلاً ، وليس فيه بيان أنه أقام بهم الجمعة . وذكر الزمخشري أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : « والَّذي نَفْسِي بِيدِهِ لوْ خَرَجُوا جَمِيعاً لأضرَمَ اللَّهُ عليْهِمُ الوَادِي نَاراً » .
وروي في حديث مرسل عن أسد بن عمرو والد أسد بن موسى بن أسد ، وفيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق معه إلا أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وسعيد بن زيد ، وبلال وعبد الله بن مسعود في إحدى الروايتين ، وفي الرواية الأخرى عمار بن ياسر .
قال القرطبي : « لم يذكر جابراً .
وذكر مسلم : أنه كان فيهم .
والدارقطني أيضاً فيكونون ثلاثة عشر ، وإن كان عبد الله بن مسعود فيهم فهم أربعة عشر » .
قوله : { انفضوا إِلَيْهَا } .
أعاد الضمير على التجارة دون اللهو لأنها الأهم في السبب .
قال ابن عطية : « وقال : إليها ، ولم يقل : إليهما ، تهمُّماً بالأهم ، إذ كانت هي سبب اللهو ، ولم يكن اللَّهْو سببها ، وتأمل أن قدمت التجارة على اللهو في الرؤية؛ لأنها أهم ، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولاً على الأبْيَن » انتهى .
وفي قوله : « لم يقل : إليهما » ثم أجاب بما ذكر نظر ، لأن العطف « بأو » لا يثنى معه الضمير ولا الخبر ولا الحال ، ولا الوصف؛ لأنها لأحد الشيئين ، ولذلك تأول الناس :
{
إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] كما تقدم في موضعه .
وإنما الجواب عنه : أنه وحَّد الضمير؛ لأن العطف ب « أو » ، وإنما جيء بضمير التجارة دون ضمير اللهو ، وإن كان جائزاً للأهتمام كما قاله ابن عطية وغيره .
وقال الزمخشري قريباً من ذلك فإنه قال : فإن قلت : كيف قال : إليها ، وقد ذكر شيئين؟ فالجواب : تقديره : إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه ، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه ، وكذلك قراءة من قرأ : انفضوا إليه . انتهى .
فقوله : « قلت : تقديره » إلى آخره ، يشعر بأنه كان حق الكلام أن يثنى الضمير ولكنه حذف ، وفيه ما تقدم من المانع من ذلك أمر صناعي وهو العطف ب « أو » .
وقرأ ابن أبي عبلة : « إلَيْهِ » .
أعاد الضمير إلى اللهو ، وقد نصَّ على جواز ذلك الأخفش سماعاً من العرب ، نحو : إذا جاءك زيد أو هند فأكرمه ، وإن شئت فأكرمها .
وقرأ بعضهم : « إليْهِمَا » بالتثنية .
وتخريجها كتخريج : « إن يَكُنْ غَنِيًّا أو فَقِيراً فالله أولى بهما » كما تقدم تحريره .
والمراد باللهو الطبل .
وقيل : كانت العير إذا قدمت « المدينة » استقبلوها بالتصفيق والصفير .
قوله : « وتَركُوكَ » .
جملة حالية من فاعل « انفضَّوا » و « قد » مقدرة عند بعضهم .
فصل في أن الخطبة فريضة في صلاة الجمعة .
الخطبة فريضة في صلاة الجمعة ، ويجب أن يخطب قائماً فإن هذه الآية تدل على أن القيام شرط ، ويخطب متوكئاً على قوس أو عصا ، لما روى ابن ماجه في سننه « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس ، وإذا خطب في الجمعة خطب على عصا » .
وأن يخطب على منبر؛ لأنه أبلغ في إعلام الحاضرين ، ويسلم إذا صعد المنبر على الناس . لما روى ابن ماجه عن جابر بن عبد الله : « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر سلم » .
ولم ير ذلك مالك .
وهل تشترط الطهارة في الخطبة؟
فيه قولان مبنيان على أن الجمعة ظهر مقصورة ، أو فريضة مستقلة .
فإن قيل : بأنها ظهر مقصورة .
فقيل : الخطبتان عوض عن الركعتين الأخريين ، وعلى هذا فيشترط لهما الطهارة .
وإن قيل : بأنها فريضة مستقلة فالخطبتان وعظ وتذكير ، وذلك لا يشترط لها طهارة ، وأقل ما يجزىء في الخطبة أن يحمد الله - تعالى - ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ويوصي بتقوى الله ، ويقرأ آية من القرآن ، وكذلك في الخطبة الثانية إلا أن الواجب بدلاً من قراءة الآية الدعاء في قول أكثر الفقهاء .
وقال أبو حنيفة : لو اقتصر على التحميد ، أو التسبيح ، أو التكبير أجزأه .
وقال أبو يوسف ومحمد : الواجب ما تناوله اسم الخطبة .
وقال ابن عبد البر : وهذا أصح ما قيل في ذلك .
قال القرطبي : « والسكوت للخطبة واجب على من سمعها وجوب سُنَّة » .
قوله : { مَا عِندَ الله خَيْرٌ } .
«
ما » موصولة مبتدأ ، و « خير » خبرها .
والمعنى : ما عند الله من ثواب صلاتكم خيرٌ من لذَّة لهوكم ، وفائدة تجارتكم .
وقيل : ما عندكم من رزقكم الذي قسمه لكم خير مما أصبتموه من لهوكم وتجارتكم .
وقرأ أبو رجاء العطاردي : { قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة للذين آمنوا } .
{
والله خَيْرُ الرازقين } .
أي : خير من رَزَقَ وأعْطَى ، فمنه فاطلبوا واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيْرَي الدنيا والآخرة .
قال ابن الخطيب : قوله { والله خَيْرُ الرازقين } من قبيل أحكم الحاكمين وأحسن الخالقين ، والمعنى : إن أمكن وجودُ الرازقين فهو خيرُ الرازقين .
وقيل : لفظ الرَّازق لا يطلقُ على غيره إلا بطريقِ المجازِ .
فإن قيل : التِّجارةُ واللَّهْوُ من قبيل ما لا يرى غالباً ، فكيف يصحُّ قوله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً } ؟ .
فالجواب : ليس المراد إلا ما يقرب منه اللهو والتجارة ، كقوله : { حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله } [ التوبة : 6 ] إذ الكلام غيرُ مسموعٍ .
وروى الثعلبي عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورَةَ الجُمُعَةِ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَناتٍ بعددِ مَنْ ذَهبَ إلى الجُمعةِ من مِصْرٍ مِنْ أمْصَارِ المُسْلمينَ ومَنْ لَمْ يَذْهَبْ » .
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
قوله تعالى : { إِذَا جَآءَكَ المنافقون } .
«
إذا » : شرط ، قيل : جوابه « قالوا » .
وقيل : محذوف ، و « قالوا » : حال أي إذا جاءوك قائلين كيت وكيت فلا تقبل منهم .
وقيل : الجواب { اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } ، وهو بعيد ، و « قالُوا » أيضاً : حال .
فصل في تعلق هذه السورة بالتي قبلها
قال ابنُ الخطيب : وجه تعلق هذه السورة بما قبلها هو أن تلك السورة مشتملةٌ على ذكر بعثة الرسول ، وذكر من كان يُكذِّبهُ قلباً ولساناً فضرب لهم المثل بقوله : { مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [ الجمعة : 5 ] .
وهذه السورة مشتملةٌ على ذكر من كان يكذِّبُ قلباً دون اللسان ، ويصدقه لساناً دون القلب .
وأما تعلق الأول بالآخر ، فلأن في آخر تلك السُّورة تنبيه للمؤمنين على تعظيم الرسول - عليه الصلاة والسلام - ورعايةِ حقِّه بعد النداء لصلاةِ الجمعةِ ، وتقديم متابعته على غيره ، فإنَّ ترك التعظيم والمتابعةِ من شيمِ المنافقين ، والمنافقون هم الكاذبون .
فصل في نزول السورة .
روى البخاري عن زيد بن أرقم ، قال : « كنت مع عمي فسمعتُ عبد الله بن أبيِّ ابْنَ سلول يقول : { لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ } ، وقال : { لَئِن رَجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } ، فذكرتُ ذلك لعمي ، فذكر عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه ، فحلفوا ما قالوا ، فصدَّقهُمْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وكذَّبني فأصابَنِي همٌّ لمْ يُصبني مثلُه ، فجلست في بيتي ، فأنزل اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - : { إِذَا جَآءَكَ المنافقون } إلى قوله : { هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ } ، وقوله : { لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } ، فأرسل إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال » إنَّ اللَّهَ قدْ صدقَكَ « .
وروى الترمذي عن زيد بن أرقم ، قال : » غَزوْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا أناسٌ من الأعراب ، فكُنَّا نبدر الماء ، أي : نقسمه ، وكان الأعرابُ يسبقُوننا إلى الماء ، فيسبق الأعرابي أصحابه ، فيملأ الحوض ، ويجعلُ حوله حجارة ، ويجعلُ النِّطع عليه حتى يجيء أصحابه ، قال : فأتى رجلٌ من الأنصار أعرابيًّا فأرخى زِمامَ ناقته لتِشرب ، فأبَى أن يدعهُ ، فانتزع حجراً ففاض الماءُ ، فرفع الأعرابيُّ خشبة ، فضرب بها رأس الأنصاريِّ فشجَّهُ ، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره - وكان من أصحابه - فغضب عبد الله بن أبي ، ثم قال : { لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ } [ المنافقون : 7 ] من حوله ، يعني : الأعراب ، وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام ، فقال عبد الله : فإذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمداً بالطعام فليأكل هو ومن عنده ، ثم قال لأصحابه : { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } .
قال زيد : وأنا ردف عمي ، فسمعت عبد الله بن أبي ، فأخبرت عمي ، فانطلق ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحلف وجحد قال : فصدَّقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذَّبني ، قال : فجاء عمّي إليَّ فقال : ما أردت إلى أن مقتك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وكذبك ، والمنافقون .
قال : فوقع عليّ من جرأتهم ما لم يقع على أحدٍ .
قال : فبينما أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خفقتُ برأسي من الهمِّ إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك في أذني وضحك في وجهي ، فما كان يسرّني أنَّ لي بها الخُلدَ في الدنيا ، ثم إن أبا بكرٍ لحقني فقال : ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ .
قلت : ما قال لي شيئاً إلا أنه عرك أذني ، وضحك في وجهي ، فقال : أبْشِرْ ثم لحقني عمرُ ، فقلتُ له مثل قولي لأبي بكر ، فلما أصبحنا قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين « .
قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
فصل في المنافق
سُئلَ حُذيفةُ بنُ اليمانِ عن المنافقِ ، فقال : الذي يصفُ الإسلامَ ولا يعملُ به .
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » آيةُ المُنافقِ ثلاثٌ : إذا حدَّث كَذَبَ ، وإذَا وعَدَ أخْلف ، وإذا ائتُمِنَ خَانَ « .
وروى عبدُ الله بن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » أربعٌ من كُنَّ فيه كانَ مُنافقاً خَالِصاً ، ومَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلةٌ مِنهُنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ من النِّفاقِ حتَّى يدعها : إذا ائتُمِنَ خَانَ ، وإذَا حدَّث كَذَبَ ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ « .
وروي عن الحسن أنه ذُكِرَ له هذا الحديثُ ، فقال : إن بني يعقوب حدَّثوا فكذبُوا ، ووعدوا فأخلفوا وائتمنوا فخانوا . إنما هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإنذار للمسلمين ، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال شفقاً أن تفضي بهم إلى النفاق .
وليس المعنى : أن من بدرت منه هذه الخصالُ من غير اختيارٍ واعتيادٍ أنه منافقٌ وقال - عليه الصلاة والسلام - » المُؤمِنُ إذَا حدَّثَ صَدَقَ ، وإذَا وَعَدَ نجَّزَ ، وإذا ائتُمِنَ وفَّى « .
والمعنى : أن المؤمن الكامل إذا حدَّث صدق .
قوله : » نَشْهَدُ « .
يجري مجرى القسم كفعلِ العلم واليقين ، ولذلك تلقي بما يتلقى به القسم في قوله : { إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } .
وفي قوله : [ الكامل ]
4770 -
ولَقَدْ عَلِمْتُ لتَأتِيَنَّ مَنِيَّتِي ... إنَّ المَنَايَا لا تَطِيشُ سِهَامُهَا
وقد تقدم [ الخلاف ] في الصدق والكذب ، واستدلالهم بهذه الآية ، والجواب عنها في أول البقرة .
وقال القرطبي هنا : معنى « نَشْهَدُ » نحلفُ ، فعبر عن الحلف بالشهادة؛ لأن كل واحدٍ من الحلف والشهادة إثباتٌ لأمر مُغَيَّب ، ومنه قول قيس بن ذريح : [ الطويل ]
4771 -
وأشْهَدُ عِنْدَ اللَّهِ أني أحِبُّهَا ... فَهَذَا لَهَا عِنْدِي ، فَمَا عِنْدهَا لِيَا؟
ونظيره قول الملاعن : أشهدُ بالله .
قال الزمخشري : « والشهادة تجري مجرى الحلف في التوكيد . يقول الرجلُ : أشهدُ ، وأشهدُ بالله ، وأعزمُ ، وأعزمُ بالله في موضع » أقْسِمُ وأُولي « ، وبه استشهد أبو حنيفة على أن » أشهدُ « يمين » .
ويحتمل أن يكون ذلك محمولاً على ظاهره أنهم يشهدون أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم اعترافاً بالإيمان ونفياً للنفاق عن أنفسهم وهو الأشبه .
قوله : { والله يَعْلَمُ } .
جملة معترضة بين قوله : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } وبين قوله : { والله يَشْهَدُ } [ لفائدة .
قال الزمخشري : « ولو قال : » قالوا : نشهد إنك لرسول الله ، واللَّهُ يشهدُ إنَّهُم لكاذبُون « لكان يُوهِمُ أن قولهم هذا كذبٌ ، فوسط بينهما قوله : » واللَّهُ يعلمُ إنَّكَ لرسُولُه « ليُميطَ هذا الإبهام » .
قال القرطبي : { والله يعلم إنك لرسوله } كما قالوه بألسنتهم ] ، { والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ } بضمائرهم ، فالتكذيبُ راجع إلى الضمائر وهذا يدلُّ على أن الإيمان تصديقُ القلب ، وعلى أنَّ الكلام الحقيقي كلامُ القلب ، ومن قال شيئاً واعتقد خلافه فهو كاذبٌ ، وقيل : أكذبهم الله في أيمانهم ، وهو قوله : { وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ } [ التوبة : 56 ] .
قال ابن الخطيب : فإن قيل : لو قالوا : نعلم إنَّك لرسولُ الله مكان قولهم : نشهد إنَّكَ لرسُولُ اللَّهِ ، تفيد ما أفاد قولهم : نشهد؟ .
فالجواب : لا؛ لأن قولهم : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } صريحٌ في الشَّهادة على إثبات الرسالة ، وقولهم : نعلم ليس بصريح في ذلك .
قوله : { اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } .
قد تقدم الكلام أنه يجوز أن يكون جواباً للشرط .
ويجوز أن يكون مستأنفاً جيء به لبيان كذبهم وحلفهم عليه ، أي أنَّ الحامل لهُم على الأيمانِ اتقاؤهم بها عن أنفسهم .
والعامة : على فتح الهمزة ، جمع يمين .
والحسن : بكسرها مصدراً .
وتقدم مثله في « المجادلة » ، والجُنَّةُ : التُّرْس ونحوه ، وكل ما يقيك سوءاً . ومن كلام الفصحاء : [ جُبَّةُ البرد ] جُنَّةُ البردِ .
قال أعشى همدان الشاعر : [ الطويل ]
4772 -
إذَا أنْتَ لَمْ تَجْعَلْ لعرضِكَ جُنَّةً ... مِنَ المَالِ سَارَ الذَّمُّ كُلَّ مَسِيرِ
فصل
قال القرطبي وغيره : اتَّخذُوا أيمانهُم جُنَّةً ، أي : سُترةً ، وليس يرجع إلى قوله : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } وإنَّما يرجعُ إلى سبب الآيةِ التي نزلت عليه حسب ما ذكره البخاري والترمذي عن أبيّ أنه حلف ما قال ، وقد قال ، وقال الضحاك : يعني : حلفهم بالله « إنهم لمنكم » .
وقيل : يعني بأيمانهم ما أخبر الرب عنهم في سورة « براءة » في قوله :
{
يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ } [ التوبة : 74 ] .
فصل في نص اليمين
قال القرطبي : « من قال : أقسمُ باللَّهِ ، وأشهد بالله ، أو أعزم بالله ، أو أحلف بالله ، أو أقسمت بالله ، أو شهدت ، أو عزمت ، أو حلفت ، وقال في ذلك كله : » بالله « فلا خلاف أنها يمينٌ ، وكذلك عند مالكٍ وأصحابه أن من قال : أقسمُ ، أو أشهد ، أو أعزم ، أو أحلف ، ولم يقل » بالله « إذا أراد » بالله « ، وإن لم يرد » بالله « فليس بيمين » .
وقال أبو حنيفة وأصحابه : لو قال : أشهد بالله لقد كان كذا كان يميناً ، ولو قال : أشهد لقد كان كذا - دون النية - كان يميناً لهذه الآية؛ لأن الله تعالى ذكر منهم الشهادة ثم قال : { اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } .
وعند الشافعي : لا يكون ذلك يميناً وإن نوى اليمينَ؛ لأنَّ قوله تعالى : { اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } ليس يرجعُ إلى قوله : « قالوا : نَشهدُ » ، وإنما يرجعُ إلى ما في براءة من قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ } .
قوله : { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } .
أي : أعرضوا ، وهو من الصُّدود ، أو صرفوا المؤمنين عن إقامة حدود الله عليهم من القَتْل ، والسبي ، وأخذ الأموال ، فهو من الصَّدِّ ، أو منعوا الناس عن الجهاد بأن يتخلفوا أو يقتدي بهم غيرهم .
وقيل : فصدوا اليهود والمشركين عن الدُّخول في الإسلام بأن يقولوا : ها نحن كافرون بهم ، ولو كان ما جاء به محمد حقًّا لعرف هذا منا ، ولجعلنا نكالاً ، فبيَّن الله أنَّ حالهم لا يخفى عليه ، ولكن حكمه أن من أشهر [ الإيمان ] أجري عليه في الظَّاهر حكم الإيمان .
قوله : { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
أي : سيئت أعمالهم الخبيثةُ في نفاقهم ، وأيمانهم الكاذبةِ ، وصدِّهم عن سبيل الله . و « ساء » يجوز أن تكون الجارية مجرى « بِئْسَ » ، وأن تكون على بابها ، والأول أظهر وقد تقدم حكم كل منهما .
فإن قيل : إنه تعالى ذكر أفعال الكفرة من قبل ، ولم يقل : إنَّهم ساء ما كانوا يعملون؟ .
قال ابن الخطيب : والجواب أن أفعالهم مقرونة بالأيمان الكاذبة التي جعلوها جُنَّة أي : سُترة لأموالهم ودمائهم عن أن يستبيحها المسلمون .
قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُوا } .
هذا إعلامٌ من الله بأن المنافقين كفار ، إذْ أقروا باللسان ثم كفروا بالقلب .
وقيل : نزلت الآية في قوم آمنوا ثم ارتدوا { فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ } أي ختم عليها بالكفر { فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } الإيمان ولا الخير .
وقرأ العامَّةُ : « فَطُبِعَ » مبنياً للمفعول ، والقائم مقام الفاعل الجار بعده .
وزيد بن علي : « فَطَبَعَ » مبنياً للفاعل .
وفي الفاعل وجهان :
أحدهما : أنه ضمير عائد على الله تعالى ، ويدل عليه قراءة الأعمشِ ، وقراءته في رواية عنه : « فَطَبَعَ اللَّهُ » مُصرحاً بالجلالة الكريمة .
وكذلك نقله القرطبي عن زيد بن علي .
فإن قيل : إذا كان الطَّبْع بفعل الله - تعالى - كان ذلك حجة لهم على الله تعالى فيقولون : إعراضنا عن الحق لغفلتنا بسبب أنه - تعالى - طبع على قلوبنا؟ .
فأجاب ابن الخطيب : بأن هذا الطبع من الله - تعالى - لسوء أفعالهم ، وقصدهم الإعراض عن الحق فكأنه تعالى تركهم في أنفسهم الجاهلة وغوايتهم الباطلة .
والثاني : أن الفاعل ضميرٌ يعودُ على المصدر المفهوم مما قبله ، أي : فطبع هو أي بلعبهم بالدين .
قوله : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ } .
أي : هيئاتهم ، ومناظرهم ، { وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } يعني : عبد الله بن أبي وقال ابن عباس : كان عبد الله بن أبي وسيماً جسيماً صحيحاً صبيحاً ذلق اللسان ، فإذا قال ، سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالته ، وصفه الله بتمامِ الصُّورةِ وحسن الإبانةِ .
وقال الكلبي : المراد ابن أبي وجدُّ بن قيس ومعتِّب بن قشير ، كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة .
وفي صحيح مسلم : وقوله : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } . كانوا رجالاً [ أجمل ] شيء كأنهم خشبٌ مسنَّدةٌ شبههم بخشب مسندة إلى الحائطِ لا يسمعون ولا يعقلون أشباحٌ بلا أرواحٍ ، وأجسامٌ بلا أحلامٍ .
وقيل : شبههم بالخشب التي قد تآكلت فهي مسندة بغيرها لا يعلم ما في بطنها .
قال الزمخشري : شبهوا في استنادهم بالخشب المسندة إلى حائط؛ لأنهم أجرام خاليةٌ عن الإيمان والخير بالخشب المسندة إلى الحائط ، لأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار ، أو غيرهما من مظان الانتفاع ، وما دام متروكاً فارغاً غير منتفع به فأسند إلى الحائط ، فشبهوا به في عدم الانتفاع ، ويجوز أن يراد بها الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان .
فصل في قراءة خشب
قرأ قنبل وأبو عمرو والكسائي : « خُشْبٌ » بإسكان الشين . وهي قراءة البراء بن عازب ، واختيارُ عُبيدٍ .
لأنَّ واحدتها خشبة كما تقول : بدنة وبُدْن . قاله الزمخشري .
وقال أبو البقاء : و « خُشبٌ » - بالإسكان والضم - جمع خَشَب ، مثل : أَسَد وأُسْد .
قال القرطبي : وليس في اللغة : « فَعَلَة » يجمع على « فُعُل » ، ويلزم من ثقلها أن تقول : « البُدُن » فتقرأ : « والبُدُنَ » ، وذكر اليزيدي أنه جمع الخشباءِ ، كقوله تعالى : { وَحَدَآئِقَ غُلْباً } [ عبس : 30 ] واحدتها : حديقة غلباء .
وقرأ الباقون من السبعة : بضمتين .
وقرأ سعيد بن جبير ، وابن المسيب : بفتحتين .
ونسبها الزمخشري لابن عبَّاس ، ولم يذكر غيره .
فأما القراءة - بضمتين - فقيل : يجوز أن تكون جمع خشبة ، نحو : ثمرة وثُمُر . قاله الزمخشري .
وفيه نظر؛ لأن هذه الصيغة محفوظة في « فَعَلَة » لا ينقاس نحو : ثَمَرَة وثُمُر .
ونقل الفارسي عن الزبيدي : « أنه جمع : خَشْبَاء ، وأخْشِبَة » غلط عليه؛ لأنه قد يكون قال : « خُشْب » - بالسكون - جمع « خَشْبَاء » نحو : « حَمْرَاء وحُمْر » لأن « فَعْلاء » الصفة لا تجمع على « فُعُل » بضمتين ، بل بضمة وسكون .
وقوله : الزبيدي ، تصحيف ، إما منه ، وإما من الناسخ ، إنما هو اليزيدي تلميذ أبي عمرو بن العلاء ، ونقل ذلك الزمخشري .
وأما القراءة بضمة وسكون .
فقيل : هي تخفيف الأولى .
وقيل : هي جمع خشباء ، كما تقدم .
وهي الخشبة التي نُخِر جوفها ، أي : فرغ ، شبهوا بها لفراغ بواطنهم مما ينتفع به .
وأما القراءة - بفتحتين - فهو اسم جنس ، وأنِّثَتْ صفته ، كقوله : { نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] وهو أحد الجائزين .
وقول : « مُسَنَّدَةٌ » .
تنبيه على أنه لا ينتفعُ بها كما ينتفعُ بالخشب في سقفٍ وغيره ، أو شبهوا بالأصنام؛ لأنهم كانوا يسندونها إلى الحيطان شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم .
وقيل : شُبِّهُوا بالخشب المُسنَّدةِ إلى الحائط ، لأن الخشبة المسنَّدة إلى الحائط أحدُ طرفيها إلى جهة ، والآخرُ إلى جهة أخرى .
والمنافق كذلك لأن أحد طرفيه وهو الباطن إلى جهة أهل الكفر ، والطرف الآخر وهو الظاهرُ إلى جهة أهلِ الإسلام .
ونقل القرطبي عن سيبويه أنه يقال : « خَشَبةٌ وخِشَابٌ وخُشُبٌ » مثل : ثَمَرة وثِمَار وثُمُر ، والإسناد : الإمالة ، تقول : أسندتُ الشيء أي : أملته ، و « مُسَنَّدةٌ » للتكثير ، أي : استندوا إلى الإيمان لحقن دمائهم .
قوله : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } .
فيه وجهان :
أظهرهما : أن « عليهم » هو المفعول الثاني للحسبان ، أي واقعة وكائنة عليهم ويكون قوله : { هُمُ العدو } جملة مستأنفة ، أخبر الله عنهم بذلك .
والثاني : أن يكون « عليهم » متعلقاً ب « صَيحةٍ » و « هُمُ العَدُوُّ » جملة في موضع المفعول الثاني للحسبان .
قال الزمخشري : « ويجوز أن يكون » هُمُ العَدُوُّ « هو المفعولُ الثَّاني كما لو طرحت الضمير .
فإن قلت : فحقه أن يقال : هي العدُوُّ ، قلت : منظور فيه إلى الخبر كما في قوله : { هذا رَبِّي } [ الأنعام : 77 ] ، وأن يقدر مضافٌ محذوفٌ أي : يحسبون كل أهلِ صيحةٍ » انتهى .
وفي الثاني بعد بعيد .
فصل
وصفهم الله تعالى بالجُبْنِ والخَوَر .
قال مقاتل والسدي : إذا نادى مناد في العسكر أن أنفلتت دابة ، أو أنشدت ضالّة ظنوا أنهم هم المرادون ، لما في قلوبهم من الرعب .
كما قال الأخطل : [ الكامل ]
4773 -
مَا زِلْتَ تَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَهُمْ ... خَيْلاً تكرُّ عَليْهِمُ ورِجَالا
وقيل : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ } ، أنهم قد فطن بهم وعلم بنفاقهم؛ لأن للريبة خوفاً ، استأنف الله خطاب نبيه - عليه الصلاة والسلام - فقال : « هم العَدُوُّ » وهذا معنى قول الضحاك .
وقيل : يَحْسَبُونَ كُلَّ صيحةٍ يسمعونها في المسجد أنها عليهم ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر فيها بقتلهم ، فهم أبداً وجلُون من أن ينزل الله فيهم أمراً يبيح به دماءهم ، ويَهْتِكُ به أسْتارهُم ، ثم وصفهم الله بقوله { هُمُ العدو فاحذرهم } حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم .
قوله : { فاحذرهم } . فيه وجهان :
أحدهما : فاحذر أن تثق بقولهم ، أو تميل إلى كلامهم .
الثاني : فاحذر ممايلتهُم لأعدائك ، وتخذيلهم لأصحابك .
{
قَاتَلَهُمُ الله } .
قال ابن عباس : أي : لعنهم الله .
قال أبو مالك : هي كلمةُ ذمٍّ وتوبيخ .
وقد تقول العرب : قاتله اللَّه ما أشعرهُ ، فيضعونه موضع التعجب .
وقيل : معنى { قَاتَلَهُمُ الله } أي : أحلَّهُم محلَّ من قاتله عدو قاهر ، لأن الله تعالى قاهرٌ لكلِّ معاندٍ . حكاه ابن عيسى .
قوله : { أَنَّى يُؤْفَكُونَ } .
«
أنى » بمعنى : كيف .
قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون « أنى » ظرفاً ل « قاتلهم » ، كأنه قال : قاتلهم الله كيف انصرفوا ، أو صرفوا ، فلا يكون في القولِ استفهام على هذا . انتهى .
قال شهاب الدين : وهذا لا يجوز؛ لأن « أنَّى » إنما تستعمل بمعنى « كيف » ، أو بمعنى « أين » الشرطية أو الاستفهامية ، وعلى التقادير الثلاثة فلا تتمحض للظرف ، فلا يعمل فيها ما قبلها ألبتَّة كما لا يعملُ في أسماءِ الشرط والاستفهام .
فصل
قال ابن عباس : « أنَّى يؤفكُونَ » أي : يكذبون .
وقال قتادة : أي يعدلون عن الحق .
وقال الحسن : يُصْرفُونَ عن الرشدِ .
وقيل : معناه كيف تضل عقولهم على هذا مع وضوح الدَّلائل ، وهو من الإفك .
قوله : « أنَّى » بمعنى : « كيف » ، وقد تقدم .
قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ } .
هذه المسألة عدها النحاة من الإعمال ، وذلك أن « تعالوا » يطلب « رسُولُ اللَّهِ » مجروراً ب « إلى » أي : تعالوا إلى رسول الله .
و « يَستَغْفِرْ » يطلبه فاعلاً ، فأعمل الثاني ، ولذلك رفعه ، وحذف من الأول ، إذ التقديرُ : تَعَالوا إليْهِ . ولو أعمل الأول لقيل : تعالوا إلى رسول الله يستغفر ، فيضمر في « يستغفر » فاعل .
ويمكن أن يقال : ليست هذه من الإعمالِ في شيء؛ لأن قوله « تعالوا » أمر بالإقبال من حيث هو ، لا بالنظر إلى مقبل عليه .
قوله : { لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ } هذا جواب « إذا » .
وقرأ نافع : « لَوَوْا » مخففاً ، والباقون مشدداً على التكثير .
و « يَصُدُّونَ » حالٌ؛ لأن الرؤية بصرية ، وكذا قوله : « وهُمْ يَسْتَكبرُونَ » حال أيضاً ، إما من أصحاب الحال الأولى ، وإما من فاعل « يصدون » فتكون متداخلة .
وأتي ب « يَصُدُّون » مضارعاً دلالة على التجدُّدِ والاستمرارِ .
وقرىء : « يَصِدُّونَ » بالكسر .
وقد تقدمتا في « الزخرف » .
فصل في نزول الآية
لما نزل القرآن بصفتهم مشى إليهم عشائرهم وقالوا : افتضحتم بالنفاقِ فتوبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النفاق ، واطلبوا أن يستغفر لكم ، فلوو رءوسهم أي : حرَّكُوها استهزاء وإباء .
قاله ابن عباس .
وعنه أنه كان لعبد الله موقف في كل سبب يحُضُّ على طاعة الله ، وطاعة رسوله ، فقيل له : وما ينفعك ذلك ورسول الله صلى الله عيله وسلم عليك غضبان ، فأته يستغفر لك فأبى ، وقال : لا أذهب إليه .
قال المفسِّرون : « وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق على ماء يقال له : » المُريْسِيعُ « من ناحية » قُدَيد « إلى السَّاحل فازدهم أجير لعمر يقال له : » جهجاه بن سعيد الغفاري « يقود له فرسه بحليف لعبد الله بن أبيٍّ ، يقال له : » سِنَانُ بنُ وبرة الجهنِيُّ « حليفُ بني عوفٍ من الخزرج على ماء » بالمشلِّل « فصرخ جهجاه بالمهاجرين ، وصرخ سنان بالأنصار فلطم جهجاه سناناً وأعان عليه جهجاه فأعان جهجاه رجل من المهاجرين يقال له : حقالٌ ، وكان فقيراً ، فقال عبد الله بن أبي : أوقد فعلوها؟ والله ما مثلنُا ومثلهُم إلاَّ كما قال الأولُ : » سَمِّنْ كلْبَكَ يأكلْكَ « أما - والله - لَئِنْ رَجَعْنَا إلى » المدينة « ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ ، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ثم قال لقومه : كفوا طعامكُم عن هذا الرجل ، لا تنفقوا على من عنده حتى ينفضّوا ويتركوه ، فقال زيد بن أرقم - وهو من رهط عبد الله - أنت - والله - الذليلُ المنتقص في قومك ، ومحمد صلى الله عليه وسلم في عز من الرحمن ، ومودة من المسلمين ، والله لا أحبّك بعد كلامك هذا أبداً ، فقال عبد الله : اسكت إنما كنتُ ألعبُ ، فأخبر زيد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ، فأقسم بالله ما فعل ولا قال ، قال : فعذره النبي صلى الله عليه وسلم قال زيد بن أرقم : فوجدت في نفسي ولامني الناسُ ، فنزلت سورةُ المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله ، فقيل لعبد الله : قد نزلت فيك آياتٌ شديدة ، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لك ، فألوى رأسه » فنزلت الآيات . خرجه البخاري والترمذي بمعناه .
وقيل : معنى قوله : { يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ } يستتبكم من النِّفاق ، لأن التوبة استغفارٌ { ورَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ } أي يعرضُون عن الرسول { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } أي متكبرون عن الإيمان .
قيل : قال ابن أبيّ لما لوى رأسه : أمرتموني أن أومن فقد آمنت ، وأن أعطي الزكاة من مالي فقد أعطيتُ ، فما بقي إلا أن أسجدَ لمحمدٍ .
قوله : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ } .
قرأ العامَّة : « أسْتَغْفَرْتَ » بهمزةٍ مفتوحةٍ من غير مدٍّ ، وهي همزة التسوية التي أصلُها الاستفهامُ .
وقرأ يزيد بن القعقاع : « آسْتغَفرْتَ » بهمزة ثم ألف .
فاختلف الناسُ في تأويلها :
فقال الزمخشري : إشباعاً لهمزة الاستفهام للإظهار والبيانِ لا قلباً لهمزة الوصل كما في { آلسَّحْرُ } [ يونس : 81 ] و { آللّهُ } [ يونس : 59 ] .
يعني إنما أشبع همزة التسوية فتولد منها ألف .
وقصده بذلك إظهار الهمزة وبيانها ، إلا أنه قلب الوصل ألفاً كما قلبها في قوله : { آلسحر ، آلله أذن لكم } لأنَّ هذه الهمزة للوصل ، فهي تسقط في الدرج ، وأيضاً فهي مكسورة فلا يلتبس معها الاستفهام بالخبر بخلاف « آلسّحر » ، { آللّه أذن لكم } .
وقال آخرون : هي عوض عن همزة الوصلِ ، كما في { ءَآلذَّكَرَيْنِ } [ الأنعام : 143 ] .
وهذا ليس بشيء؛ لأن هذه مكسُورة فكيف تبدل ألفاً .
وأيضاً فإنما قلبناها هناك ألفاً ولم نحذفها وإن كان حذفها مستحقاً لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر ، وهنا لا لبس .
وقال ابن عطية : وقرأ أبو جعفر يعني يزيد بن القعقاع : « آسْتغْفَرتَ » بمدَّةٍ على الهمزة وهي ألف التسوية . وقرأ أيضاً : بوصل الألف دون همزة على الخبر ، وفي هذا كله ضعف ، لأنه في الأولى أثبت همزة الوصل وقد أغنت عنها همزة الاستفهام ، وفي الثانية حذف همزة الاستفهام ، وهو يريدُها ، وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر .
قال شهاب الدين : أما قراءته « استغفرت » بوصل الهمزة فرويت أيضاً عن أبي عمرو ، إلا أنه يضم ميم « عَليْهِمُ » عند وصله الهمزة لأن أصلها الضم ، وأبو عمرو يكسرها على أصل التقاءِ الساكنينِ .
وأما قوله : وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر ، فإن أراد بهذا مدَّ هذه الهمزة في هذا المكان فصحيح ، بل لا تجده أيضاً ، وإن أراد حذف همزة الاستفهامِ ، فليس بصحيح؛ لأنه يجوز حذفها إجماعاً قبل « أم » نثراً ونظماً ، فأما دون « أم » ففيه خلاف :
والأخفش رحمه الله يجُوِّزه ، ويجعل منه { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ } [ الشعراء : 22 ] .
وقول الآخر : [ الطويل ]
4774 - [
طَرِبْتُ ومَا شَوْقاً إلى البِيضِ أطْرَبُ ... ولا لَعِباً مِنِّي وذُو الشَّيْبِ يلعَبُ ]
وقول الآخر : [ المنسرح ]
4775 -
أفْرَحُ أنْ أرْزأ الكِرَامَ وأنْ ... أورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاً نَبَلاَ
وأما قبل « أم » فكثير ، كقوله : [ الطويل ]
4776 -
لَعَمْرُكَ مَا أدْرِيَ وإنْ كُنْتَ دَارِياً ... بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أمْ بِثَمَانِ
وقد تقدمت هذه المسألة مستوفاة .
فصل في نزول هذه الآية .
قال قتادةُ : « هذه الآية نزلت بعد قوله : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } ، وذلك أنَّها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أخبرني رب فلأزيدنهم على السبعين « ، فأنزل الله تعالى : { فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] الآية » .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بالفاسِقينَ المُنافقُونَ .
فصل في تفسير الآية
معنى قوله : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } .
أي : كل ذلك سواء لا ينفع استغفارك شيئاً؛ لأن الله تعالى لا يغفر لهم ، نظيره : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] ، { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين } [ الشعراء : 136 ] ، { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } .
قال ابن الخطيب : قال قوم : فيه بيان أن الله - تعالى - يملك هداية وراء هداية البيان ، وهي خلق فعل الاهتداء فيمن علم منه ذلك .
وقيل : معناه لا يهديهم لفسقهم ، وقالت المعتزلة : لا يُسمِّيهم المهتدينَ إذا فَسَقُوا وضلُّوا .
فإن قيل : لم ذكر الفاسقين ولم يقل : الكافرين أو المنافقين أو المستكبرين مع أن كلاًّ منهم تقدم ذكره؟ .
فالجواب : أن كل واحد منهم دخل تحت الفاسقين .
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
قوله : { هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ } .
قد تقدم سببُ النزول ، وأن ابن أبي قال : لا تنفقوا على من عند محمد « حتى ينفضوا » أي يتفرقوا عنه ، فأعلمهم الله سبحانه وتعالى أن خزائن السماوات والأرض له ينفق كيف يشاء .
قال رجل لحاتم الأصم : من أين تأكل؟ فقال : { وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات والأرض } .
وقال الحسن : « خزائنُ السماوات » الغُيوبُ ، وخزائنُ الأرضِ القلوبُ ، فهو علاَّمُ الغيوب ومُقلبُ القُلوبِ .
قوله : { يَنفَضُّواْ } .
قرأ العامَّةُ : « ينفضُّوا » من الانفضاضِ وهو التفرقُ .
وقرأ الفضلُ بن عيسى الرقاشي : « يُنْفِضُوا » من أنفض القوم ، فني زادهم .
ويقال : نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفضَّ .
فيتعدى دون الهمزة ولا يتعدى معها ، فهو من باب « كَبَبتهُ فانْكَبَّ » .
قال الزمخشري : وحقيقته جاز لهم أن ينفضوا مزاودهم .
ثم قال تعالى : { ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ } أنه إذا أراد أمراً يسره .
قوله : { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } .
القائل ابن أبيّ ، كما تقدم .
وقيل : إنه لما قال : { لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } ورجع إلى المدينة لم يلبث إلا أياماً يسيرة حتى مات ، فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم وألبسه قميصه ، فنزل قوله : { لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ } .
وروي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سَلُولَ قال لأبيه : والله الذي لا إله إلا هو لا تدخل المدينة حتى تقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعزُّ وأنا الأذلُّ ، فقاله .
توهموا أن العزة لكثرةِ الأموال والأتباعِ فبيَّن اللَّهُ - تعالى - أنَّ العزَّة والمنَعَة والقُوَّة لله .
قوله : { لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } .
قرأ العامَّةُ : بضم الياء وكسر الراء مسنداً إلى « الأعزّ » و « الأذلّ » مفعول به ، والأعزُّ بعضُ المنافقين على زعمه .
وقرأ الحسن وابنُ أبي عبلة والمسيبي : « لنُخْرجَنَّ » بنون العظمة ، وبنصب « الأعزَّ » على المفعول به ، ونصب « الأذَلَّ » على الحالِ .
وبه استشهد من جوز تعريفها .
والجمهور جعلوا « أل » مزيدة على حدّ « أرسلها العراك » و « ادخلوا الأول فالأول » .
وجوَّز أبو البقاء : أن يكون منصوباً على المفعولِ ، وناصبه حال محذوفةٌ ، أي : مشبهاً الأذلَّ .
وقد خرجه الزمخشري على حذف مضافٍ ، أي : خروج الأول أو إخراج الأول .
يعني بحسب القراءتين من « خرج وأخرج » فعلى هذا ينتصب على المصدر لا على الحال .
ونقل الدَّاني عن الحسن أيضاً : « لنخرُجَنَّ » بفتح نون العظمة وضم الراء ، ونصب « الأعزَّ » على الاختصاص كقولهم : « نحن العرب أقرى النَّاس للضيفِ » و « الأذلَّ » نصب على الحال أيضاً .
قاله أبو حيان .
وفيه نظر ، كيف يخبرون عن أنفسهم أنهم يخرجون في حال الذل مع قولهم : « الأعز » أي : « أخُصُّ الأعزَّ » ويعنون ب « الأعزِّ » أنفسهُم .
وقد حكى هذه القراءة أيضاً أبو حاتم .
وحكى الكسائي والفرَّاء : أن قوماً قرأوا : « ليَخْرُجنَّ » - بفتح الياء وضم الراء - ورفع « الأعزّ » فاعلاً ونصب « الأذل » حالاً .
وهي واضحة .
وقرىء : « ليُخْرجَنَّ » - بضم الياء - مبنيًّا للمفعول ، « الأعز » قائم مقام الفاعل « الأذلّ » حال أيضاً .
فصل في ختم الآية ب « لا يفقهون »
قال ابن الخطيب : فإن قيل : ما الحكمةُ في أنه تعالى ختم الآية الأولى بقوله : « لا يَفْقَهُونَ » وختم الثَّانية بقوله : « لاَ يَعْلمُونَ »؟ .
فالجواب : ليعلم بالأولى قلة كياستهم وفهمهم ، وبالثانية حماقتهم وجهلهم ، ولا يفقهون من فِقهَ يَفْقَهُ ، كعلِمَ يَعْلَمُ ، أو من فقُهَ يَفقهُ ، كعَظُمَ يَعظُمُ ، فالأول لحصولِ الفقه بالتكلُّفِ ، والثاني لا بالتكلُّفِ ، فالأول علاجيٌّ ، والثاني مزاجي .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله } .
حذَّر المُؤمنين أخلاق المنافقين ، أي : لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المُنافقُون إذ قالُوا - لأجْلِ الشُّحِّ بأموالهم - : { لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ } .
وقوله : { عَن ذِكْرِ الله } .
أي : عن الحجِّ والزكاة .
وقيل : عن قراءة القرآن .
وقيل : عن إدامة الذكر .
وقال الضحاك : عن الصلواتِ الخمس .
وقال الحسنُ : عن جميعِ الفرائضِ ، كأنه قال : عن طاعة الله .
وقيل : هذا خطاب للمنافقين ، أي : آمنتم بالقول فآمنوا بالقلب ، { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ } يشتغل بالمالِ والولدِ عن طاعةِ ربهِ { فأولئك هُمُ الخاسرون } .
قوله : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ } .
قال ابن عباس : يُريدُ زكاة الأمْوالِ .
{
مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت } .
قال القرطبي : « هذا يدل على وجوب تعجيل إخراج الزَّكاةِ ولا يجوزُ تأخيرها أصلاً وكذلك سائر العبادات إذا دخل وقتها » .
قال ابن الخطيب : وبالجملة فقوله : { لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله } تنبيه على المحافظة على الذِّكرِ قبل المَوْتِ . وقوله : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ } : تنبيه على الشكر كذلك .
قوله : { فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتنيا } .
أي : هلاَّ أخَّرتَنِي .
وقيل : « لا » صلة ، فيكونُ الكلامُ بمعنى التَّمنِّي .
أي لو أخرتني إلى أجل قريب فنسأل الرجعة إلى الدنيا لنعمل صالحاً .
روى الترمذي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال : « مَنْ كَانَ لَهُ مالٌ يُبلِّغهُ حَجَّ بَيْتِ ربِّهِ أو يَجبُ عليهِ فِيهِ زكاةٌ فَلمْ يَفْعَلْ ، سَألَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الموْتِ ، فقال رجُلٌ : يا ابْنَ عبَّاسٍ ، اتَّق اللَّهِ ، إنَّما سأل الرَّجعة الكُفَّارُ ، فقال : سأتلُو عليْكَ بذلك قرآناً { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله } إلى قوله { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } قال : فما يوجبُ الزَّكاة؟ قال : إذا بلغ المال مائتين فصاعداً ، قال : فما يوجبُ الحجَّ؟ قال : الزادُ والراحلةُ » .
قال القرطبيُّ : ذكره الحليمي في كتاب « منهاج الدين » مرفوعاً ، فقال : وقال ابن عبَّاس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ كَانَ عِنْدهُ مالٌ يُبلِّغهُ الحَجَّ » الحديث .
قال ابنُ العربيِّ : « أخذ ابنُ عباس بعموم الآية في إنفاق الواجب خاصة دون النفلِ ، فأما تفسيره بالزَّكاةِ فصحيح كلُّه عموماً وتقديراً بالمائتين .
وأما القولُ بالحج ففيه إشكالٌ؛ لأننا إن قلنا : الحج على التراخي ففي المعصية بالموتِ قبل الحج خلافٌ بين العلماءِ ، فلا تخرج الآية عليه .
وإن قلنا : الحج على الفور فالعمومُ في الآية صحيحٌ لأنَّ من وجب عليه الحج فلم يؤده لقي من الله ما يودُّ لو أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات .
وأما تقدير الأمر بالزاد والراحلة ففي ذلك خلاف مشهور بين العلماء ، وليس لكلام ابن عباس فيه مدخل ، لأجل أن الرجعة والوعيد لا يدخل في المسائل المجتهد فيها ولا المختلف عليها ، وإنما تدخلُ في المتفقِ عليه .
والصحيح تناوله للواجب من الإنفاق بالإجماع أو بنصّ القرآن؛ لأن ما عدا ذلك لا يتحقق فيه الوعيدُ « .
قوله : { فَأَصَّدَّقَ } .
نصب على جواب [ التمني ] في قوله : { لولا أخرتنيا } .
وقرأ أبي وعبد الله وابن جبير : » فأتَصَدَّقَ « ، وهي أصل قراءة العامة ولكن أدغمت الفاء في الصاد .
قوله : » وأكُنْ « .
قرأ أبو عمرو : » وأكونَ « بنصب الفعل عطفاً على » فأصَّدَّقَ « .
والباقون : » وأكُنْ « مجزوماً ، وحذفت الواوُ لالتقاءِ الساكنين .
واختلف عباراتُ الناس في ذلك .
فقال الزمخشري : » عطفاً على محل « فأصَّدَّقَ » كأنَّه قيل : إنْ أخَّرتني أصَّدقْ وأكُنْ « .
وقال ابن عطية : » عطفاً على الموضع : لأنَّ التقدير : إن أخرتني أصَدقْ وأكُنْ ، وهذا مذهب أبي علي الفارسي « .
وقال القرطبي : » عطلفٌ على موضع الفاء ، لأن قوله : « فأصدق » لو لم تكن الفاء لكان مجزوماً ، أي « أصَّدَّقْ » ، ومثله : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ } [ الأعراف : 186 ] فيمن جزم .
فأما ما حكاه سيبويه عن الخليل فهو غيرُ هذا ، وهو أنه جزمٌ على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني ، ولا موضع له هنا لأنَّ الشرط ليس بظاهر ، وإنما يعطف على الموضع بحيث يظهرُ الشرطُ ، كقوله : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] فمن جزم عطفه على موضع { فلا هَادِي لَه } ؛ لأنه لو وقع موقعه فعل لانجزم « انتهى .
وهذا الذي نقله سيبويه هو المشهور عند النحويين .
ونظَّر ذلك سيبويه بقول زهير رحم الله المؤمنين : [ الطويل ]
4777 -
بَدَا لِيَ أنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ ما مَضَى ... ولا سَابِقٍ شَيْئاً إذَا كَانَ جَائِيَا
فخفض » ولا سابقٍ « عطفاً على » مدركٍ « الذي هو خبرُ » ليس « على توهم زيادة الباء فيه قد كثر جرّ خبرها بالباء المزيدةِ ، وهو عكسُ الآية الكريمة؛ لأنه في الآيةِ جزم على توهُّم سقوطِ الفاءِ ، وهنا خفض على توهُّم وجود الباء ، ولكن الجامع توهم ما يقتضي جواز ذلك .
قال شهاب الدين : » ولكني لا أحب هذا اللفظ مستعملاً في القرآن الكريم ، فلا يقال : جزم على التوهم لقبحه لفظاً « .
وقال أبو عبيد : رأيت في مصحف عثمان » أكن « بغير واو .
وقد فرق أبو حيان بين العطف على الموضع والعطف على التوهم فقال : » الفرقُ بينهما أنَّ العامل في العطف على الموضع موجودٌ ، وأثره مفقودٌ ، والعامل في العطفِ على التوهم مفقود ، وأثره موجود « . انتهى .
قال شهاب الدين : » مثال الأول « هذا ضارب زيد وعمراً » فهذا من العطف على الموضع فالعامل وهو « ضارب » موجود ، وأثره وهو النصب مفقود ، ومثال الثاني ما نحن فيه ، فإن العامل للجزم مفقود وأثره موجود ، وأصرحُ منه بيتُ زهيرٍ ، فإن الباء مفقودةٌ وأثرُها موجود ، ولكن أثرها إنما ظهر في المعطوفِ لا في المعطوفِ عليه ، وكذلك في الآية الكريمة ، ومن ذلك أيضاً بيت امرىء القيس : [ الطويل ]
4778 -
فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ ... صَفِيفِ شِواءٍ أو قَدِيدٍ مُعَجَّلِ
فإنهم جعلوه من العطف على التوهُّم ، وذلك أنه توهّم أنه أضاف « منضج » إلى « صفيف » وهو لو أضافه إليه فجره فعطف « قديدٍ » على « ضعيفٍ » بالجر توهماً لجرّه بالإضافة « .
وقرأ عبيد بن عمير : » وأكُونُ « برفع الفعل على الاستئناف ، أي : » وأنَا أكُونُ « ، وهذا عدةٌ منه بالصلاح .
فصل فيما تدل عليه الآية
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هذه الآية تدل على أن القوم لم يكونوا من أهل التوحيد؛ لأنه لا يتمنى الرجوع إلى الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند اللَّه خير في الآخرة .
قال القرطبي : » إلا الشَّهيد فإنه يتمنّى الرجوع حتى يقتل لما يرى من الكرامة « .
وقال الضحاك : لم ينزل بأحد لم يحج ولم يؤد الزكاة الموت إلا طلب الرجعة وقرأ هذه الآية { وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من خير وشرّ .
قرأ أبو بكر عن عاصم والسلمي : بالياء من تحت على الخبر على من مات ، وقال هذه المقالة .
والباقون : بالخطاب ، وهما واضحتان .
روى الثعلبي في تفسيره عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » مَنْ قَرَأ سُورةَ المُنافقينَ بَرِىءَ مِنَ النِّفَاقِ « والله أعلم .
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
قوله تعالى : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } . تقدم نظيره .
قال ابن الخطيب : وجه تعلق هذه السورة بما قبلها ، هو أن تلك السورة للمنافقين الكاذبين ، وهذه السورة للموافقين الصادقين ، وأيضاً فإن تلك السورة مشتملة على ذكر النفاق سرًّا وعلانية ، وهذه السورة مشتملة على التهديد البالغ لهم عن ذلك ، وهو قوله تعالى : { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } ، وأما تعلق هذه السورة بآخر التي قبلها فلأن في آخر تلك السورة التنبيه على الذكر والشكر كما تقدم ، وفي أول هذه السورة أشارة إلى أن في الناس أقواماً يواظبون على الذِّكر والشكر دائماً وهم الذين يُسَبِّحُون ، كما قال تعالى : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } .
قوله : { لَهُ الملك } .
مبتدأ وخبر ، وقدم الخبر ليفيد اختصاص الملك والحمد لله تعالى ، إذ الملك والحمد له - تعالى - حقيقة { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
قوله : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً ، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمناً وكافراً .
وروى أبو سعيد الخدري قال : « خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية فذكر شيئاً مما يكون ، فقال : » يُولَدُ النَّاسُ على طَبقاتٍ شَتَّى : يُولَدُ الرَّجُلُ مؤمِناً ويَعيشُ مُؤمِناً ويمُوتُ مُؤمِناً ويُولَدُ الرَّجُلُ كَافِراً ويعيشُ كَافِراً ويمُوتُ كَافِراً ، ويُولَدُ الرَّجُلُ مُؤِمناً ويَعِيشُ مُؤمِناً ويَمُوتُ كَافِراً ، ويُولَدُ الرَّجلُ كَافِراً ويَعيشُ كَافِراً ويَمُوتُ مُؤمِناً « » .
وقال ابن مسعود : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « خَلَق اللَّهُ فِرْعونَ في بَطْنِ أمِّهِ كَافِراً ، وخلق يَحْيَى بْنَ زكريَّا في بَطْنِ أمِّهِ مُؤمِناً » .
وفي الصحيح من حديث ابن مسعود : « وإنَّ أحَدَكُمْ ليَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ حتَّى ما يكُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاعٌ أو باعٌ فيَسبقُ عليْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بعَملِ أهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا ، وإن كان أحَدُكُمْ ليَعْمَلُ بِعَملِ أهْلِ النَّارِ حتَّى ما يكُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَهَا إلاَّ ذراعٌ أو باعٌ فَيَسْبِقُ عليْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمِل أهْلِ الجنَّةِ فَيدخُلُهَا » .
وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّ الرَّجُلَ ليَعملُ عَمَلَ أهْلِ الجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو للنَّاسِ وهُوَ مِنْ أهْلِ النَّارِ ، وإنَّ الرَّجُلَ ليَعْمَلُ عَمَلَ أهْلِ النَّارِ فيمَا يَبْدُو للنَّاسِ وهُوَ من أهْلِ الجَنَّةِ » .
قال القرطبي رحمه الله : قال علماؤنا : والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم ، فيجري ما علم وأراد وحكم ، فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال ، وقد يريده إلى وقت معلوم ، وكذلك الكفر . وقيل : في الكلام محذوف تقديره : فمنكم كافر ومنكم مؤمن ومنكم فاسق ، فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه .
قاله الحسن .
وقال غيره : لا حذف فيه؛ لأن المقصود ذكر الطرفين .
وقيل : إنه خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا ، والتقدير : « هُو الَّذي خَلقُكُمْ » ، ثم وصفهم فقال : { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } كقوله تعالى : { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ } [ النور : 45 ] الآية ، قالوا : فالله خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } ، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام : « كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ فأبواهُ يَهوِّدانهِ ويُنصِّرانهِ ويُمْجِّسانِهِ » .
قال البغوي : وروينا عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الغلامَ الذي قَتلهُ الخضِرُ طُبعَ كافراً » .
وقال تعالى : { وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [ نوح : 27 ] .
وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « وكل اللَّهُ بالرَّحمِ مَلكاً ، فيقُولُ : أي : ربِّ نُطفَةٌ ، أي ربِّ علقَةٌ ، أي : ربِّ مُضغَةٌ ، فإذا أرَادَ اللَّهُ أن يقْضِيَ خَلْقَهَا ، قال : ربِّ أذكرٌ أم أنْثَى؟ أشقيٌّ أم سعيدٌ؟ فما الرِّزْقُ؟ فما الأجلُ؟ فيُكْتَبُ ذلِكَ في بَطْنِ أمِّهِ » .
وقال الضحَّاك : فمنكم كافر في السِّر ، مؤمن في العلانية كالمنافق ، ومنكم مؤمن في السر ، كافر في العلانية كعمّار وذويه .
وقال عطاء بن أبي رباح : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكوكب ، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكوكب يعني في شأن الأنْوَاء ، كما جاء في الحديث .
قال القرطبي : وقال الزجاج - وهو أحسن الأقوال - : والذي عليه الأئمة أن الله خلق الكافر ، وكُفره فعل له وكسبٌ ، مع أن الله خالق الكفر ، وخلق المؤمن ، وإيمانه فعل له وكَسْب ، مع أنَّ الله خالق الإيمان ، والكافر يكفر ، ويختار الكفر بعد خلق اللَّه تعالى إياه؛ لأن اللَّه - تعالى - قدّر ذلك عليه وعلمه منه؛ لأن وجود خلاف المقدور عجز ، ووجود خلاف المعلوم جهل ، ولا يليقان باللَّه تعالى ، وفي هذا سلامة من الجَبْر والقدر . وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : فمنكم كافر حياته مؤمن في العاقبة ، ومنكم مؤمن حياته كافر في العاقبة .
وقيل : فمنكم كافر بأن الله خلقه ، وهو مذهب الدَّهْرية ، ومنكم مؤمن بأن الله خلقه .
قال ابن الخطيب : فإن قيل : إنه - تعالى - حكيم وقد سبق في علمه أنه إذا [ خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر ، فأي حكمة دعته إلى خلقهم؟ ] .
فالجواب إذا علمنا أنه تعالى حكيم ، علمنا أن أفعاله كلها على وفق الحكمة ، ولا يلزم من عدم علمنا بذلك أن لا يكون كذلك ، بل اللازم أن يكون خلقهم على وفق الحكمة .
قوله : { خَلَقَ السماوات والأرض بالحق } .
أي : خلقها يقيناً لا ريب فيه .
وقيل : الباء بمعنى اللام ، أي : خلقها للحق ، وهو أن يجزي الذي أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى .
قوله : { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } .
قرأ العامة : بضم صاد « صُوركم » ، وهو القياس في فعله .
وقرأ زيد بن علي والأعمش ، وأبو رزين : بكسرها ، وليس بقياس وهو عكس لُحَى - بالضم - والقياس « لِحى » بالكسر .
فصل
معنى « وَصَوَّركُمْ » يعني آدم - عليه الصلاة والسلام - خلقه بيده كرامة له . قاله مقاتل .
وقيل : جميع الخلائق ، وقد مضى معنى التصوير ، وأنه التخطيط والتشكيل .
فإن قيل : كيف أحسن صوركم؟ .
قيل : بأن جعلهم أحسن الحيوان كلِّه وأبهاه صورة ، بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصُّور ، ومن حسن صورته أنه خلق منتصباً غير منكب كما قال - عزَّ وجلَّ - : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] كما يأتي إن شاء الله تعالى .
قال ابن الخطيب : فإن قيل : قد كان من أفراد هذا النوع من كان مشوه الخِلقة سمج الصورة؟ .
فالجواب : لا سماجة لأن الحسن في المعاني ، وهو على طبقات ومراتب ، فانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقه لا يمنع حسنه ، فهو داخل في خير الحسن غير خارج عن حده . قوله { وَإِلَيْهِ المصير } . أي : المرجع ، فيجازي كلاًّ بعمله .
قال ابن الخطيب : فإن قيل : قوله تعالى : { وَإِلَيْهِ المصير } يوهم الانتقال من جانب إلى جانب ، وذلك على الله تعالى مُحال؟ .
فالجواب : أن ذلك الوهْمَ بالنسبة إلينا وإلى زماننا لا بالنسبة إلى ما يكون في نفسه بمعزل عن حقيقة الانتقال إذا كان المنتقل منزهاً عن الجانب والجهة .
قوله : { يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } . تقدم نظيره .
قال ابن الخطيب : إنه - تعالى - نبَّه بعلمه ما في السماوات وما في الأرض ، ثم بعلمه ما يسرونه وما يعلنونه ثم بعلمه ما في الصدور من الكليات والجزئيات على أنه لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض ألبتة .
ونظيره قوله : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض } [ سبأ : 3 ] .
وقرأ العامّة : بتاء الخطاب في الحرفين .
وروي عن أبي عمرو وعاصم : بياء الغيبة ، فيحتمل الالتفات وتحمل الإخبار عن الغائبين .
{
والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } فهو عالم الغيب والشهادة لا يخفى عليه شيء .
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
قوله : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } .
الخطاب لقريش ، أي : ألم يأتكم خبر كُفَّار الأمم السالفة { فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } أي : عوقبوا { وَلَهُمْ } في الآخرة { عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : مُؤلم .
قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُ }
الهاء للشأن والحديث ، و { كَانَت تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُم } : خبرها ، ومعنى الإشارة أي : هذا العذاب لهم بكفرهم بالرسل تأتيهم بالبينات ، أي : بالدلائل الواضحة .
قوله : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } .
يجوز أن يرتفع « بشر » على الفاعلية ، ويكون من الاشتغال ، وهو الأرجح ، لأن الأداة تطلب الفعل ، وأن يكون مبتدأ وخبراً .
وجمع الضمير في « يَهْدُونَنَا » إذ البشر اسم جنس .
أنكروا أن يكون الرسول من البشر .
وقد يأتي الواحد بمعنى الجمع ، فيكون اسماً للجنس ، وقد يأتي الجمع بمعنى الواحد كقوله تعالى : { مَا هذا بَشَراً } [ يوسف : 31 ] .
قوله : « فَكَفَرُوا » أي : بهذا القول إذ قالوه استصغاراً ، ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده .
فصل
فإن قيل : قوله « فَكَفَرُوا » يفهم منه التولي ، فما الحاجة إلى ذكره؟ فالجواب : قال ابن الخطيب : إنهم كفروا وقالوا : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } وهذا في معنى الإنكار والإعراض بالكلية ، وهذا هو التولي ، فكأنهم كفروا وقالوا قولاً يدلّ على التولي ، فلهذا قال : { فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ } .
وقيل : كفروا بالرسل وتولوا عن البرهان وأعرضوا عن الإيمان والموعظة .
قوله : { واستغنى الله } استغنى بمعنى المجرد .
وقال الزمخشري : « ظَهَر غناه » ، فالسين ليست للطلب .
قال مقاتل : استغنى الله ، أي : بسلطانه عن طاعة عباده .
وقيل : استغنى الله ، أي : بما أظهره لهم من البرهان ، وأوضحه لهم من البيان عن زيادة تدعو إلى الرشد ، وتعود إلى الهداية { والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } غنيٌّ عن خلقه حميد في أفعاله .
فإن قيل : قوله : { وَتَوَلَّواْ واستغنى الله } يوهم وجود التولّى والاستغناء معاً ، والله تعالى لم يزل غنيًّا؟ .
فأجاب الزمخشري : بأن معناه أنه ظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك .
ثم أخبر عن إنكارهم للبعث فقال - عز وجل - :
{
زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ } أي : ظنوا ، والزعم هو القول بالظن .
وقال الزمخشري : الزعم ادِّعاء العلم ، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - : « زَعَمُوا مطيَّة الكَذِب » .
وقال شريح : لكل شيء كنية وكنية الكاذب زعموا .
وقيل : نزلت في العاص بن وائل السهمي مع خباب كما تقدم في آخر سورة « مريم » ثم عمّت كل كافر .
قوله : { أَن لَّن يُبْعَثُواْ } .
«
أن » مخففة لا ناصبة لئلا يدخل ناصب على مثله ، و « أن » وما في خبرها سادة مسدَّ المفعولين للزعم أو المفعول .
قوله : « بَلَى » إيجاب للنفي ، و « لتُبْعثُنَّ » جواب قسم مقدر ، أي : لتخرجن من قبوركم أحياء ، « ثُمَّ لتُنَبَّؤُنَّ » لتخبرن « بِمَا عَمِلْتُمْ » أي : بأعمالكم ، { وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } إذ الإعادة أسهل من الابتداء .
فإن قيل : كيف يفيد القسم في إخباره عن البعث وهم قد أنكروا الرسالة؟ .
قال ابن الخطيب : والجواب : أنهم أنكروا الرسالة لكنهم يعتقدون أنه يعتقد ربه اعتقاداً جازماً لا مزيد عليه فيعلمون أنه لا يقدم على القسم بربه إلا وأن يكون صدق هذا الإخبار عنده أظهر من الشمس في اعتقاده ثم إنه أكد الخبر باللام والنون فكأنه قسم بعد قسم .
ثم إنه تعالى لما أخبر عن البعث ، والاعتراف بالبعث من لوازم الإيمان ، قال : { فآمنوا بالله ورسوله } وهذا يجوز أن يكون صلة لما تقدم؛ لأنه تعالى ذكر ما نزل من العقوبة بالأمم الماضية ، وذلك لكفرهم بالله ، وتكذيبهم للرسل فقال « فآمِنُوا » أنتم « باللَّه ورسُولِهِ » لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من العقوبة .
وقال القرطبي : قوله : { فآمنوا بالله ورسوله } أمرهم بالإيمان بعد أن عرفهم قيام الساعة { والنور الذي أنزلنا } وهو القرآن لأنه نور يهتدى به من ظلمة الضلال كما يهتدى بالنور في الظلمات .
فإن قيل : هلا قيل : ونوره بالإضافة كما قال : ورسوله؟ .
فالجواب : إن الألف واللام في النور بمعنى الإضافة ، فكأنه قال : ورسوله ونوره ، ثم قال : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : بما تسرّون وما تعلنون فراقبوه في السر والعلانية .
قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ } . منصوب بقوله : « لتُنبَّؤنَّ » عند النحاس ، وب « خَبِير » عند الحوفي ، لما فيه من معنى الوعيد ، كأنه قال : والله يعاقبكم يوم يجمعكم .
وب « اذكر » مضمراً عند الزمخشري ، فيكون مفعولاً به .
أو بما دلّ عليه الكلام ، أي يتفاوتون يوم يجمعكم . قاله أبو البقاء .
وقرأ العامَّة : « يَجْمعُكُمْ » بفتح الياء وضم العين .
ورُوِي سكونُها وإشمامها عن أبي عمرو ، وهذا منقول عنه في الراء نحو « ينصركُمْ » وبابه كما تقدم في البقرة .
وقرأ يعقوب وسلام وزيد بن علي والشعبي ونصر وابن أبي إسحاق والجحدري : « نَجْمعُكُمْ » بنون العظمة ، اعتباراً بقوله : { والنور الذي أَنزَلْنَا } . والمراد ب « يَوْمَ الجَمْعِ » أي : يوم القيامة ، يوم يجمع الله الأولين والآخرين والإنس والجن وأهل السماء وأهل الأرض .
وقيل : يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله .
وقيل : يجمع فيه بين الظالم والمظلوم .
وقيل : يجمع فيه بين كل نبي وأمته .
وقيل : يجمع فيه ثواب أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصي .
قوله : { ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } .
«
التَّغَابُن » تفاعل من الغبن في البيع والشراء على الاستعارة ، وهو أخذ الشيء بدون قيمته .
وقيل : الغبن : الإخفاء ، ومنه غبن البيع لاستخفائه ، والتفاعل هنا من واحد لا من اثنين .
ويقال : غبنت الثوب وخبنته ، أي : أخذت ما طال منه من مقدارك : فهو نقص وإخفاء .
وفي التفسير : هو أن يكتسب الرجل مالاً من غير وجهه فيرثه غيره ، فيعمل فيه بطاعة الله ، فيدخل الأول النار ، والثاني الجنة بذلك المال ، فذلك هو الغَبْن البَيِّن والمغابن : ما انثنى من البدن نحو الإبطين والفخذين .
والمغبون : من غبن في أهله ومنازله في الجنة ، ويظهر يؤمئذ غَبْن كُلِّ كافر بتركه الإيمان ، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيام .
قال الزجاج : ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة بالنسبة إلى من هو أعلى منزلة منه .
فإن قيل : فأيُّ معاملة وقعت بينهما حى يقع الغبن فيها؟ .
فالجواب : هو تمثيل للغَبْنِ في الشِّراء والبيع كقوله : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } [ البقرة : 16 ] ، فلما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خَسِرُوا ، ذكر أيضاً أنهم غُبِنُوا ، وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا ، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة ، وهذا نوع مبادلة اتساعاً ومجازاً ، وقد فرق الله الخلق فريقين : فريقاً للجنة وفريقاً في السعير .
وقال الحسن وقتادة : بلغنا أن التغابن على ثلاثة أصناف :
رجل علم علماً فضيعه ولم يعمل به فشقي به ، ورجل علم علماً وعمل به فنجا به ، ورجل اكتسب مالاً من وجوه يُسَألُ عنها وشحَّ عليه وفرط في طاعة ربه بسببه ، ولم يعمل فيه خيراً وتركه لوارث لا حساب عليه ، فعمل ذلك الوارث في بطاعة ربه ، ورجل كان له عبد ، فعمل العبد بطاعة ربه فسعد ، وعمل السيد بمعصية ربه فشقي .
وروى القرطبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقِيمُ الرَّجُلَ والمَرْأةَ يَوْم القِيامَةِ بَيْنَ يَديْهِ ، فيقُولُ اللَّهُ تَعَالى لَهُمَا : قُولا مَا أنتما بِقَائِلين ، فيقُولُ الرَّجُلُ : يَا ربِّ أوْجَبْتَ نَفَقَتَهَا عليَّ فَتَعَسَّفْتُها من حلالٍ أو مِنْ حَرامٍ ، وهؤلاءِ الخُصُومُ يَطْلبُونَ ذلِكَ ، ولَمْ يَبْقَ لي ما أوفِّي فتقُولُ المَرْأةُ : يا ربِّ ، وما عَسَى أَن أقُولَ ، اكتسَبَهُ حَرَاماً وأكَلْتُهُ حلالاً ، وعَصَاكَ فِي مَرْضَاتِي ولَمْ أرْضَ لَهُ بِذَلِكَ ، فبُعْداً لَهُ ومُحْقاً ، فيقُولُ اللَّهُ تعالى : قَدْ صَدَقْتِ فيُؤمَرُ بِهِ إلى النَّارِ ، ويُؤمَرُ بِهَا إلى الجَنَّةِ فتطلعُ عليْهِ من طبقَاتِ الجَنَّة ، فتقُولُ لَهُ : غَبنَّاكَ غَبنَّاكَ ، سَعِدْنَا بِمَا شَقِيتَ أنت؛ فذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ » .
فصل
استدلّ بعض العلماء بقوله تعالى : { ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } على أنه لا يجوز الغبن في المعاملات الدنيوية ، لأن الله تعالى خَصَّ التغابن بيوم القيامة فقال : { ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } ، وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا ، فكل من اطلع على غبن في بيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث . واختاره البغداديون ، واحتجوا عليه بقوله - عليه الصلاة والسلام - لحبان بن منقد : « إذا بِعْتَ فَقُل : لا خَلابَةَ ولَكَ الخِيَارُ ثلاثاً » .
ولأن الغَبْنَ في الدنيا ممنوع منه بالإجماع في حكم الدين إذ هو من باب الخِدَاع المحرم شرعاً في كل ملّة ، لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه فمضى في البيوع ، إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبداً؛ لأنه لا يخلو منه ، فإذا كان كثيراً أمكن الاحتراز منه فوجب الرد به ، والفرق بين القليل والكثير في الشريعة معلوم فقدرناه بالثلث ، وهذا الحد اعتبر الشارع في الوصية وغيرها .
ويكون معنى الآية على هذا : يوم التغابن الجائز مطلقاً من غير تفصيل ، وذلك يوم التَّغابن الذي لا يستدرك أبداً .
قال بعض علماء الصُّوفية : إنَّ الله - تعالى - كتب الغَبْنَ على الخَلْقِ أجمعين ، فلا يلقى أحد ربه إلا مغبوناً؛ لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب .
قال - عليه الصلاة والسلام - : « لاَ يَلْقَى اللَّهَ أحَدٌ إلاَّ نَادِماً إن كَان مُسِيئاً أن لَمْ يُحْسِنْ ، وإن كَانَ مُحْسِناً أنْ لَمْ يَزْدَدْ » .
قوله : { وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ } .
قرأ نافع وابن عامر : بالنون ، والباقون : بالياء .
قوله : { والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ } يعني القرآن { أولئك أَصْحَابُ النار خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ المصير } .
قال ابن الخطيب : فإن قيل : قال الله تعالى في حق المؤمنين : { وَمَن يُؤْمِن بالله } بلفظ المستقبل ، وفي حق الكُفَّار قال : « والذين كفروا » بلفظ الماضي؟ .
فالجواب : أن تقدير الكلام : ومن يؤمن بالله من الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ندخله جنات ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النار .
فإن قيل : قال تعالى : { وَمَن يُؤْمِن } بلفظ الواحد و « خَالدِينَ » بلفظ الجمع؟ .
فالجواب : ذلك بحسب اللفظ وهذا بحسب المعنى .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : { وَبِئْسَ المصير } بعد قوله : { خَالِدِينَ فِيهَآ } وذلك بئس المصير؟ .
والجواب : أن ذلك وإن كان في معناه فلا بد من التصريح [ بما ] يؤكده .
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
فصل
لما ذكر ما للمؤمنين ذكر ما للكفار فقال :
{
مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي : بإرادته وقضائه .
وقال الفراء : يريد إلا بأمر الله .
وقيل : إلا بعلم الله .
وقيل : سبب نزول هذه الآية : أنَّ الكُفَّار قالوا : لو كان ما عليه المسلمون حقًّا لصانهم الله عن المصائب في الدنيا فبيّن الرب تعالى أن ما أصاب من مصيبة في نفس أو مال أو قول أو فعل يقتضي همّاً أو يوجب عقاباً آجلاً أو عاجلاً فبعلم الله وقضائه .
فإن قيل : بم يتصل قوله : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } ؟ .
فالجواب : يتعلق بقوله : { فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } [ التغابن : 8 ] كما أن من يؤمن بالله يصدق بأنه لا تصيبه مصيبة إلا بإذن الله .
قوله : { وَمَن يُؤْمِن بالله } يصدق ويعلم أنه لا تصيبه مصيبة إلا بإذن الله { يَهْدِ قَلْبَهُ } للصبر والرضا .
وقيل : يثبته على الإيمان .
وقال أبو عثمان الجيزي : من صح إيمانه يهد الله قلبه لاتباع السنة .
وقيل : { وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ } عند المصيبة فيقول : { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [ البقرة : 156 ] . قال ابن جبير .
وقال ابن عباس : هو أن يجعل في قلبه اليقين ليعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه .
وقال الكلبي : هو إذا ابتلي صبر وإذا أنْعِمَ عليه شكر وإذا ظلم غفر .
وقيل : { يَهْدِ قَلْبَهُ } إلى نَيْل الثَّواب في الجنَّة .
قوله : { يَهْدِ قَلْبَهُ } .
قراءة العامة : بالياء مجزوماً جواباً للشرط لتقدم ذكر الله .
وابن جبير وابن هرمز طلحة والأزرق : بالنون على التعظيم .
والضحاك وأبو حفص وأبو عبد الرحمن وقتادة : « يُهْدَ » مبنياً للمفعول « قَلْبُهُ » قائم مقام الفاعل .
ومالك بن دينارٍ ، وعمرو بن دينار ، وعكرمة : « يَهْدَأ » بهمزة ساكنة « قلبه » فاعل به ، بمعنى يطمئن ويسكن .
وعمرو بن فائد : « يَهْدَا » بألف مبدلة من الهمزة كالتي قبلها ، ولم يحذفها نظراً إلى الأصل ، وهي أفصح اللغتين .
وعكرمة ومالك بن دينار أيضاً : « يَهْدَ » بحذف هذه الألف إجراء لها مُجرى الألف الأصلية ، كقول زهير : [ الطويل ]
4779 -
جَرِيءٌ مَتَى يُظْلَمُ يُعَاقِبْ بظُلْمِهِ ... سريعاً ، وإلاَّ يُبْدَ بالظُّلْمِ يَظْلِمِ
وقد تقدم إعراب ما قبل هذه الآية وما بعدها .
{
والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . لا يخفى عليه تسليم من انقاد لأمره ، ولا كراهة من كرهه .
قوله : { وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } . أي : هونوا على أنفسكم المصائب واشتغلوا بطاعة الله واعملوا بكتابه ، وأطيعوا الرسول في العمل بسنته { فَإِن تَولَّيْتُمْ } عن الطاعة فليس على الرسول إلا البلاغ المبين .
قوله : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ } . أي : لا معبود سواه ، ولا خالق غيره .
قال ابن الخطيب : « قوله { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } يحتمل أن يكون من جملة ما تقدم من الأوصاف الجميلة بحضرة الله تعالى من قوله : { لَهُ الملك وَلَهُ الحمد وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ التغابن : 1 ] ، فإن من كان موصوفاً بهذه الأوصاف هو الذي لا إله إلا هو » .
قوله : { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } .
قال الزمخشري : هذا بعث لرسول الله صلى الله عليه وسلم على التوكل عليه حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم } .
قال ابن عبَّاس : نزلت هذه الآية بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده ، فنزلت ، ذكره النحاس .
وحكاه الطَّبريّ عن عطاء بن يسار قال : نزلت سورة التَّغابن كلها ب « مكة » إلا هؤلاء الآيات : { ياأيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم } نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، كان ذا أهل وولد وكان إذا أراد الغزو بكوه ورققوه ، فقالوا : إلى من تدعنا فيَرقّ فيقيم فنزلت هذه الآية إلى آخر السورة بالمدينة .
روى الترمذي عن ابن عباس ، وسئل عن هذه الآية قال : هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتوا للنبي صلى الله عليه وسلم فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وإذا الناس قد تفقهوا في الدين فهموا أن يعاقبوهم ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .
حديث حسن صحيح .
فصل
قال ابن العربي : هذا يبين وجه العداوة ، فإن العدو لم يكن عدواً لذاته ، وإنما كان عدواً بفعله ، فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدواً ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد والطاعة .
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدَمَ فِي طريقِ الإيمانِ ، فقَال لَهُ : أتُؤمِنُ وتَذَرُ دينكَ ودينَ أهْلكَ ومالكَ فخالفه فآمن ، ثم قعد له على طريق الهجرة ، فقال له : أتهاجر وتترك أهلك فَخالفَهُ وهاجَرَ ، ثُمَّ قَعدَ لَهُ على طريقِ الجهادِ ، فقَالَ لَهُ : أتُجَاهدُ فتَقْتُلَ نَفْسَك فتنُكَحَ نِسَاؤكَ ويُقسَّم مالك فخَالفَهُ فَجَاهَدَ فقُتِلَ فحقٌّ على اللَّهِ أن يُدْخِله الجَنَّة » .
وقعود الشَّيطان يكون بوجهين :
أحدهما : أن يكون بالوسوسة .
والثاني : أن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب ، فقال تعالى : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } [ فصلت : 25 ] ، وفي حكمة عيسى - عليه الصلاة والسلام - : من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان في الدنيا عبداً .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : « تَعِسَ عَبدُ الدِّينارِ ، تَعِسَ عبدُ الدِّرهَمِ ، تعِسَ عبْدُ الخَميصَةِ ، تَعِسَ عَبْدُ القَطِيفَة » ، ولا دَنَاءَةَ أعْظَمُ مِنْ عبادَة الدِّينار والدِّرهم ، ولا همَّة أخسُّ من همَّة تَرْتَفِعُ بثَوبٍ جَديدٍ .
واعلم أن قوله : { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ } يدخل فيه الذكر والأنثى ، فكما أن الرجل تكون زوجته وولده عدوّاً له ، كذلك المرأة يكون زوجها عدوّاً لها بهذا المعنى .
قوله : { فاحذروهم } . أي : فاحذروهم على أنفسكم ، والحذر على النفس يكون بوجهين : إما لضرر في البدنِ ، أو لضررٍ في الدين ، وضرر البدن يتعلق بالدنيا ، وضرر الدين يتعلق بالآخرة ، فحذر الله تعالى العبد من ذلك .
قال ابن الخطيب : وقيل : أعلم الله تعالى أن الأموال والأولاد من جملة ما تقع به الفتنة ، وهذا عام يعم جميع الأولاد ، فإن الإنسان مفتون بولده ، فإنه ربما عصى الله تعالى بسببه وباشر الفعل الحرام لأجله كغصب مال الغير وغيره .
قوله : { وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
روى الطَّبري عن عكرمة في قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم } . قال : كان الرجل يريد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول أهله : أين تذهب وتدعنا؟ .
قال : فإذا أسلم وفَقُهَ قال : لأرجعن إلى الذين كانوا ينهون عن هذا الأمر فلأفعلن ولأفعلن . قال : فأنزل الله - عز وجل - { وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
وقال مجاهد في هذه الآية : ما عادوهم في الدنيا ، ولكن حملتهم مودتهم لهم على أن اتخذوا لهم الحرام فأعطوه إياهم .
والآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد ، وخصوص السبب لا يمنع عموم الحكم .
قوله : { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } .
أي : بلاء واختبار يحملكم على كسب الحرام ومنع حق الله تعالى فلا تطيعوهم في معصية الله .
وفي الحديث : « يُؤتى بِرَجُلٍ يوم القِيامَةِ ، فيُقال : أكَلَ عياله حَسَنَاته » .
وقال بعض السلف : العيال سوس الطاعات .
وقال ابن مسعود : لا يقولن أحدكم ، اللهم اعصمني من الفتنة ، فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال ولا ولد إلا وهو مشتمل على فتنةٍ ، ولكن ليقل : اللهم إني أعوذ بك من مُضلاّت الفتن .
وقال الحسنُ في قوله تعالى : { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ } ، أدخل « من » للتبعيض؛ لأن كلهم ليسوا بأعداء ، ولم يذكر من في قوله تعالى : { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } ؛ لأنهما لا يخلوان من الفتنة ، واشتغال القلب بهما .
روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : « رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، فجاء الحسن والحُسَين - رضي الله عنهما - وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملهما ووضعهما بين يديه ، ثم قال : صدق الله - عز وجل - : { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } نظرتُ إلى هذينِ الصَّبيَّين يمشيان ويعثُرانِ فلمْ أصْبِرْ حتَّى قطعتُ حديثي ورَفعتُهُمَا ثُمَّ أخَذَا في خُطْبَتِهِ » .
{
والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } . يعني : الجنة ، فلا أعظم أجراً منها .
قوله : { فاتقوا الله مَا استطعتم } .
قال قتادة ، والربيع بن أنس ، والسُّدي ، وابن زيد : هذه الآية ناسخة لقوله { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] .
ذكر الطبري عن ابن زيد في قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] قال : جاء أمر شديد ، قال : ومن يعرف هذا ويبلغه ، فلما عرف الله أنه اشتد ذلك عليهم نسخها عنهم ، وجاء بهذه الآية الأخرى فقال : { فاتقوا الله مَا استطعتم } .
وقال ابن عباس : هي محكمة لا نسخ فيها ، ولكن حق تقاته أن تجاهد لله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم .
فإن قيل : إذا كانت الآية غير منسوخة ، فكيف الجمع بين الآيتين ، وما وجه الأمر باتقائه حق تقاته مطلقاً من غير تخصيص ، ولا مشروط بشرط ، والأمر باتقائه بشرط الاستطاعة؟ .
فالجواب : أن قوله تعالى : { فاتقوا الله مَا استطعتم } معناه فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه فيما جعله فتنة لكم من أموالكم وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فتتركوا الهجرة وأنتم مستطيعون ، وذلك أن الله - تعالى - قد كان عذر من لم يقدر على الهجرة بتركها ، لقوله تعالى : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ } [ النساء : 97 ] إلى قوله : { فأولئك عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } [ النساء : 99 ] ، فأخبر أنه قد عفا عمن لا يستطيعون حيلة ، ولا يهتدون سبيلاً بالإقامة في دار الشرك ، فكذلك معنى قوله : { مَا استطعتم } في الهجرة من دار الشِّرك إلى دار الإسلام أن تتركوها بفتنة أموالكم وأولادكم .
ويدل على صحة هذا قوله تعالى : { فاتقوا الله مَا استطعتم } عقيب قوله : { ياأيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم } ، ولا خلاف بين علماء التأويل أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كانوا تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك كما تقدم ، وهذا اختيار الطبري .
وقال ابن جبير : قوله : { فاتقوا الله مَا استطعتم } فيما تطوع به من نافلة أو صدقة ، فإنه لما نزل قوله تعالى : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] اشتدت على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرَّحت جباهُهُمْ ، فأنزل الله تخفيفاً عنهم : { فاتقوا الله مَا استطعتم } فنسخت الأولى .
قال الماوردي : ويحتمل أن يثبت هذا النَّقْل ، لأن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها ، لأنه لا يستطيع اتقاءها .
قوله : { واسمعوا وَأَطِيعُواْ } .
أي : اسمعوا ما توعظون به ، وأطيعوا ما تؤمرون به ، وتنهون عنه .
وقال مقاتل : « اسْمَعُوا » أي : أصغوا إلى ما ينزل عليكم من كتاب الله ، وهو الأصل في السَّماع « وأطِيعُوا » الرسول فيما يأمركم أو ينهاكم .
وقيل : معنى « واسْمَعُوا » أي : اقبلوا ما تسمعون وعبر عنه بالسماع؛ لأنه فائدته .
قوله : { وَأَنْفِقُواْ } .
قال ابن عباس : هي الزكاة .
وقيل : هي النفقة في النفل .
وقال الضحاك : هي النفقة في الجهاد .
وقال الحسن : هي نفقة الرجل لنفسه .
وقال ابن العربي : وإنما أوقع قائل هذا ، قوله : « لأنفُسِكُمْ » وخفي عليه قوله : إن نفقة الفرض والنَّفْل في الصَّدقة على نفسه ، قال الله تعالى : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا }
[
الإسراء : 7 ] . فكل ما يفعله الرجل من خير فإنما هو لنفسه ، والصحيح أنها عامة .
قوله : { خَيْراً لأَنفُسِكُمْ } .
في نصبه أوجه :
أحدها : قال سيبويه : إنه مفعول بفعل مقدر ، دلَّ عليه « وأنفقوا » ، تقديره : ايتوا في الإنفاق خيراً لأنفسكم وقدموا لأنفسكم كقوله : { انتهوا خَيْراً لَّكُمْ } [ النساء : 171 ] .
الثاني : تقديره : يكن الإنفاق خيراً ، فهو خبر كان المضمرة ، وهو قول أبي عبيدة .
الثالث : أنه نعت مصدر محذوف ، وهو قول الكسائي والفراء ، أي : إنفاقاً خيراً .
الرابع : أنه حال ، وهو قول الكوفيين .
الخامس : أنه مفعول بقوله « أنفِقُوا » ، أي : أنفقوا مالاً خيراً .
قوله : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } .
تقدم نظيره .
وكذا { إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ } .
تقدم في سورة البقرة والحديد .
{
وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله شَكُورٌ حَلِيمٌ } .
تقدم معنى الشكر في « البقرة » . والحليم : الذي لا يعجل .
قال بعضهم القَرْض الحسن : هو التصدق من الحلال .
وقيل : التصدق بطيب النفس ، والقرض هو الذي يرجى بدله .
قوله : { عَالِمُ الغيب والشهادة } .
أي : ما غاب وحضر ، « وهُوَ العَزيزُ » الغالب القاهر ، فهو من صفات الأفعال ، ومنه قوله - عز وجل - : { تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم } [ الزمر : 1 ] أي : من الله القاهر المُحْكم خالق الأشياء .
وقال الخطابي : وقد يكون بمعنى نفاسة القدر ، يقال منه : « عَزَّ يَعِزُّ » - بكسر العين - فيكون معنى العَزِيز على هذا أنه لا يعادله شيء وأنه لا مثل له « الحَكِيمُ » في تدبير خلقه .
وقال ابن الأنباري : « الحَكِيمُ » هو المُحْكِم الخلق للأشياء ، صرف عن « مفعل » إلى « فعيل » ومنه قوله - عز وجل - : { الم تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم } [ لقمان : 1 ، 2 ] .
فصرف عن « مفعل » إلى « فعيل » والله أعلم .
روى الثعلبي عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا مِنْ مولُودٍ يُولَدُ إلاَّ وهو على الفطرة فِي تَشَابِيكِ رَأسِهِ مَكتُوبٌ خَمْسُ آيَاتٍ من فَاتحةِ سُورةِ التَّغَابنِ » .
وعن زرّ بن حبيش قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَن قَرَأ سُورَةَ التَّغَابُنِ رَفَعَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْتَ الفُجَاءَةِ » والله أعلم .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
قوله تعالى : { ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء } .
قال ابن الخطيب : وجه تعلق هذه السورة بآخر ما قبلها ، هو أنه تعالى أشار في آخر التي قبلها إلى كمال علمه بقوله : { عَالِمُ الغيب والشهادة } [ التغابن : 18 ] ، وفي أول هذه السورة أشار إلى كمال علمه بمصالح النِّساء ، والأحكام المخصوصة بطلاقهن ، فكأنه بيّن ذلك الكلي بهذه الجزئيات .
فصل في هذا الخطاب .
وهذا الخطاب فيه أوجه :
أحدهما : أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خوطب بلفظ الجمع تعظيماً له؛ كقوله : [ الطويل ]
4780 -
فَإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّساءَ سِوَاكُمُ ... وإنْ شِئْتُ لَمْ أطْعَمْ نُقَاخاً ولا بَرْداً
الثاني : أنه خطاب له ولأمته ، والتقدير : يا أيها النبي وأمته إذا طلقتم فحذف المعطوف لدلالة ما بعده عليه ، كقوله : [ الطويل ]
4781 - . ...
إذَا أنْجَلَتْهُ رِجْلُهَا . . .
أي : ويدها .
كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] ، أي : والبرد .
الثالث : أنه خطاب لأمته فقط بعد ندائه - عليه الصَّلاة والسلام - وهو من تلوين الخطاب ، خاطب أمته بعد أن خاطبه .
الرابع : أنه على إضمار قول ، أي : يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم النساء .
قال القرطبي : قيل : إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ، وغاير بين اللفظين من حاضر وغائب ، وذلك لغة فصيحة ، كقوله : { إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] ، والتقدير : يا أيها النبي قل لهم : إذا طلقتم النساء ، فطلقوهن لعدتهن ، وهذا هو قولهم : إن الخطاب له وحده ، والمعنى له وللمؤمنين ، وإذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقوله : { ياأيها النبي } ، وإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعاً له قال : { يا أيها الرسول } .
قال القرطبي : ويدلّ على صحة هذا القول نزول العدة في أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية .
روى أبو داود : أنها طُلِّقت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن للمطلَّقة عدّة ، فأنزل الله - تعالى - العِدّة للطلاق حين طُلقت أسماء ، فكانت أولَّ من أُنزل فيها العدة للطلاق .
الخامس : قال الزمخشري : « خصّ النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعمّ بالخطاب؛ لأن النبي إمام أمته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت اعتباراً لتقدمه وإظهاراً لترؤسه » في كلامٍ حسنٍ .
وهذا هو معنى القول الثالث المتقدم .
قال القرطبي : وقيل : المراد به نداء النبي صلى الله عليه وسلم تعظيماً له ، ثم ابتدأ : { إذا طلّقتم النساء } ، كقوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام } [ المائدة : 90 ] الآية فذكر المؤمنين تكريماً لهم ، ثم افتتح فقال : { إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام } [ المائدة : 90 ] الآية .
وقوله : { إِذَا طَلَّقْتُمُ } أي : إذا أردتم ، كقوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } [ المائدة : 6 ] { فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن } [ النحل : 98 ] . وتقدم تحقيقه .
فصل في طلاق النبي صلى الله عليه وسلم
روى ابن ماجة عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلّق حفصة ثم راجعها .
وعن أنس قال : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة - رضي الله عنها - فأتَتْ أهلها ، فأنزل الله تعالى عليه : { ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } ، وقيل له : راجعها فإنها صوَّامة قوَّامة ، وهي من أزواجك في الجنة . ذكره القشيري والماوردي والثعلبي .
زاد القُشيريّ : ونزل في خروجها إلى أهلها قوله تعالى : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } .
وقال الكلبي : سبب نزول هذه الآية غضبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفصة لما أسر إليها حديثاً فأظهرته لعائشة ، فطلقها تطليقة ، فنزلت الآية .
وقال السُّديُّ : نزلت في عبد الله بن عمر ، طلق امرأته حائضاً تطليقة واحدة ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، فإن أراد أن يطلقها فليطلِّقها حين تطهر من قبل أن يجامعها فتلك العدَّة التي أمر اللَّه أن تطلق لها النساء .
وقد قيل : إن رجالاً فعلوا مثل ما فعل عبد الله بن عمر ، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعمرو بن سعيد بن العاص ، وعتبة بن غزوان ، فنزلت الآية فيهم .
قال ابن العربي : وهذا كله وإن لم يكن صحيحاً فالقول الأول أمثل وأصح ، والأصح فيه أنه بيان لشرع مبتدأ .
فصل في الطلاق
روى الثعلبي من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّ مِنْ أبْغَضِ الحَلالِ إلى اللَّهِ الطَّلاقُ » .
وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « تَزَوَّجُوا ولا تُطَلِّقُوا ، فإنَّ الطَّلاقَ يَهْتَزُّ مِنْه العَرْشُ » .
وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تُطلِّقُوا النِّساءَ إلاَّ من ريبَةٍ فإنَّ اللَّه - عزَّ وجلَّ - لا يُحِبُّ الذَّوَّاقِينَ ولا الذواقات » .
وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا حَلَفَ بالطَّلاقِ ولا اسْتَحْلَفَ بِهِ إلاَّ مُنَافِقٌ » أسنده الثعلبي .
وروى الدارقطني عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَا مُعَاذُ مَا يَخْلُقُ اللَّهُ تَعالَى شَيْئاً عَلَى وَجْهِ الأرْضِ أحَبُّ إليْهِ مِنَ العِتَاقِ ، ولا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئاً أبْغَضَ إِليْهِ من الطَّلاقِ ، فإذَا قَالَ الرَّجُلُ لمَمْلُوكَهِ : أنتَ حُرٌّ - إن شَاءَ اللَّهُ - فَهُو حُرٌّ ولا اسْتِثْنَاءَ لَهُ ، وإذَا قَالَ الرَّجلُ لامْرأتِهِ : أنت طَالِقٌ إن شَاءَ الله فَلهُ اسْتِثْنَاؤهُ ، ولا طَلاقَ عَلَيْهِ » .
وعن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا أحَلَّ اللَّهُ شَيْئاً أبْغَضَ إلَيْهِ مِنَ الطَّلاقِ ، فَمَن طلَّقَ واسْتَثْنَى فَله ثنياه » .
قال ابن المنذر : واختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق : فقالت طائفة بجوازه ، وهو مروي عن طاووس .
قال حماد الكوفي : والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي .
وقال مالك والأوزاعي : لا يجوز الاستثناء في الطلاق خاصة .
قال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول .
فصل في وجوه الطلاق
روى الدارقطني عن ابن عباس أنه قال : الطلاق على أربعة وجوه وجهان حلالان ، ووجهان حرامان .
فأما الحلال ، فأن يطلقها [ طاهراً ] من غير جماع ، وأن يطلّقها حاملاً متبيناً حملها ، وأما الحرام فأن يطلقها حائضاً ، وأن يطلقها حين يجامعها لا يدري أشْتَمَلَ الرَّحمُ على ولدٍ أمْ لاَ .
واعلم أن الطلاق في حال الحيض والنفاس بدعة ، وكذلك في الطُّهر الذي جامعها فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « وإن شَاءَ طلَّق قَبْلَ أن يمضي » .
وطلاق السُّنة : أن يُطلِّقها في طُهْرٍ لم يجامعها فيه ، وهذا في حقِّ المرأة يلزمها العدة بالأقراء .
وأما طلاق غير المدخول بها في حيضها ، أو الصغيرة التي لم تحض ، والآيسة بعدما جامعها ، أو طلق الحامل بعد ما جامعها ، أو في حال رؤية الدم لا يكون بدعيًّا ولا سنيًّا لقوله - عليه الصلاة والسلام - : « ثُمَّ ليُطلِّقْهَا طَاهِراً أو حَاملاً » .
والخُلْع في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه فلا يكون بدعياً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لثابت بن قيس في مخالعة زوجته من غير أن يعرف حالها ، ولولا جوازه في جميع الأحوال لاستفسره .
قوله : { لِعِدَّتِهِنَّ } .
قال الزمخشري : « مستقبلات لعدتهن » ، كقولك : أتيته لليلة بقيت من المحرم أي : مستقبلاً لها ، وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من قبل عدتهن } انتهى .
وناقشه أبو حيان في تقدير الحال التي تعلق بها الجار كوناً خاصًّا .
وقال : « الجار إذا وقع حالاً إنما يتعلق بكون مطلق » .
وفي مناقشته نظر ، لأن الزمخشري لم يجعل الجار حالاً ، بل جعله متعلقاً بمحذوف دلّ عليه معنى الكلام .
وقال أبو البقاء : « لعدَّتهنَّ » أي : عندما يعتد لهن به ، وهن في قبل الطهر . وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب .
وقال أبو حيان : « هو على حذف مضاف ، أي : لاستقبال عدتهن ، واللام للتوقيت ، نحو : لقيته لليلة بقيت من شهر كذا » انتهى .
فعلى هذا تتعلق اللام ب « طلقوهن » .
وقال الجرجاني : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } صفة للطَّلاق .
كيف يكون ، وهذه اللام تجيء لمعان مختلفة؟
للإضافة ، وهي أصلها ، أو لبيان السبب والعلة ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله } [ الإنسان : 9 ] .
أو بمعنى « عند » كقوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء : 78 ] أي : عنده .
وبمنزلة « في » كقوله تعالى : { أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر } [ الحشر : 2 ] ، أي : في أول الحشر .
وهي في هذه الآية بهذا المعنى ، لأن المعنى : فطلقوهن في عدتهن ، أي : في الزمان الذي يصلح لعدتهن .
فصل في قوله : لعدتهن
قال القرطبي : قوله : « لعدَّتِهِنَّ » يقتضي أنهن اللاتي دخل بهن الأزواج ، لأن غير المدخول بهن خرجن بقوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [ الأحزاب : 49 ] وحصل الإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع منه ، وفي الطهر مأذون فيه ، وهذا يدل على أن القرء هو الطهر .
فإن قيل : معنى قوله : « فطَلِّقُوهُنَّ لعِدَّتِهِنَّ » أي : في قُبُل عدتهن ، أو لقبل عدتهن وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال ابن عمر ، فقبول العدة آخر الطهر حتى يكون القرء الحَيْض؟ .
قيل : هذا هو الدليل الواضح لمن قال : بأن الأقْراءَ هي الأطْهَار ، ولو كان كما قال الحنفي ، ومن تابعه لوجب أن يقال : إن من طلق في أول الطهر لا يكون مطلقاً لقبل الحيض لأن الحيض لم يُقْبِل بعد ، وأيضاً إقبال الحيض يكون بدخول الحيض ، وبانقضاء الطهر لا يتحقق إقبال الحيض ، ولو كان إقبال الشيء إدبار ضده لكان الصائم مفطراً قبل انقضاء النهار ثُمَّ إذا طلق في آخر الطهر فبقيّة الطهر قرء ، ولأن بعض القرء يسمى قرءاً ، كقوله تعالى : { الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } [ البقرة : 197 ] ، يعني شوال وذو القعدة وذو الحجة ، وكقوله : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } [ البقرة : 203 ] وهو ينفر في بعض اليوم الثاني .
وقال البغوي : معنى قوله « لِعدَّتهِنَّ » أي : لطهرهن الذي يحضنه من عدتهن ، وكان ابن عبَّاس وابن عمر يقرآن : { فطلقوهن في قبل عدتهن } ، والآية نزلت في عبد الله بن عمر .
فصل في الطلاق في الحيض
من طلق في طهر جامع فيه أو حائضاً نفذ طلاقه ، وأخطأ السُّنة .
وقال سعيد بن المسيب في آخرين : لا يقع الطلاق في الحيض لأنه خلاف السنة ، وإليه ذهبت الشيعة .
فصل في طلاق السنة
قال عبد الله بن مسعود : طلاق السنة أن يطلقها في كل طُهْر تطليقة ، فإذا كان آخر ذلك ، فتلك العدّة التي أمر الله بها .
قال القرطبي : قال علماؤنا : طلاق السُّنة ما جمع شروطاً سبعة : وهو أن يطلقها واحدة ، وهي ممن تحيض طاهراً ، لم يمسّها في ذلك الطُّهر ، ولا تقدمه طلاق في حيض ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه ، وخلا عن العوض ، وهذه الشروط السبعة من حديث ابن عمرو . وقال الشافعي : طلاق السُّنة : أن يطلقها في كل طُهْرٍ خاصة ، ولو طلقها ثلاثاً في طُهْر لم يكن بدعة .
قال ابن العربي : « وهذه غفلة عن الحديث الصحيح ، فإنه قال فيه : » مُرةُ فَليُرَاجِعْهَا « وهذا يدفع الثلاث » .
وفي الحديث أنه قال : « » أرَأيْتَ لَوْ طَلقَّهَا ثلاثاً «؟ قَال : » حَرُمَتْ عليْكَ ، وكَانَتْ مِنكَ بِمَعْصيَةٍ « » .
وقال أبو حنيفة : ظاهر الآية يدل على أن الطلاق الثلاث والواحد سواء .
وهو مذهب الشافعي . لولا قوله بعد ذلك : { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } [ الطلاق : 1 ] ، وهذا يبطل دخول الثلاث تحت الآية ، وبذلك قال أكثر العلماء .
قال القرطبي : وأما مالك فلم يخف عليه إطلاق الآية ، ولكن الحديث فسرها ، وأما قول الشعبي فمردود بحديث ابن عمر .
واحتج الشافعي بأن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبية وهي أم أبي سلمة ثلاث تطليقات في كلمة واحدة ، ولم يبلغنا أن أحداً من الصحابة عاب ذلك عليه .
وأن حفص بن المغيرة طلق امرأته فاطمة بنت قيس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث تطليقات في كلمة واحدة ، فأبانها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاب ذلك عليه .
وبحديث عويمر العجلاني ، لما لاعن ، قال : يا رسول الله ، هي طالق ثلاثة ، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم .
فصل في نزول العدة للطلاق
روى أبو داود عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية ، أنها طلقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكُن للمطلقة عدة فأنزل الله - تعالى - حين طلقت أسماء العدّة للطلاق ، فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق .
قوله : { وَأَحْصُواْ العدة } .
يعني في المدخول بها ، أي : احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق .
قيل : أمر بإحصاء العدة لتفريق الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثاً ، وقيل : للعلم ببقاء زمان الرجعة ومراعة أمر النفقة والسكن .
وفي المخاطب الإحصاء أقوال .
أحدها : أنهم الأزواج .
والثاني : هم الزوجات .
والثالث : هم المسلمون .
قال ابن العربي : والصحيح أنهم الأزواج؛ لأن الضمائر كلها من « طَلَّقتُمْ » ، و « أحْصُوا العِدَّة » و « لا تُخْرجُوهُنَّ » على نظام واحد ، فرجع إلى الأزواج ، ولكن الزوجات داخلة فيه بالإلحاق ، لأن الزوج يُحْصِي ليراجع ، وينفق أو يقطع ، وليسكن أو يخرج ، وليلحق نسبه أو يقطع ، وهذه أمور كلها مشتركة بينه وبين المرأة ، وتنفرد المرأة دونه بغير ذلك وكذلك الحاكم يفتقر إلى إحصاء العدة للفَتْوَى عليها ، وفصل الخصومة عند المنازعة ، وهذه فوائد الأمر بإحصاء العدّة .
قوله : { واتقوا الله رَبَّكُمْ } . أي : لا تعصوه .
{
لا تخرجوهنَّ من بيوتهنَّ } . أي : ليس للزَّوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدّة ، ولا يجوز لها الخروج أيضاً لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة ، فإن خرجت أثِمَتْ ، ولا تنقطع العدّة .
فإن قيل : ما الحِكمةُ في قوله تعالى : { واتقوا الله رَبَّكُمْ } ولم يقتصر على قوله { واتقوا الله } ؟ .
فالجواب : إن في هذا من المبالغة ما ليس في ذاك ، فإن لفظ الرَّبِّ يفهم منه التربية ، وينبه على كثرة الإنعام بوجوه كثيرة ، فيبالغون في التَّقوى حينئذ خوفاً من فوت تلك التربية .
فصل في الرجعية والمبتوتة .
والرجعية والمبتوتة في هذا سواء ، وذلك لصيانة ماء الرجل ، وهذا معنى إضافة البيوت إليهن ، كقوله تعالى : { واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ } [ الأحزاب : 24 ] ، وقوله تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [ الأحزاب : 33 ] فهو إضافة إسكان لا إضافة تمليك ، وقوله { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ } يقتضي أن يكون حقًّا على الأزواج ، وقوله : { ولا يخرجن } يقتضي أنه حق على الزوجات ، فلا يجوز لها أن تخرج ما لم تنقض عدتها ، فإن خرجت لغير ضرورة أو حاجة أثمت ، فإن وقعت ضرورة أو خافت هدماً أو غرقاً ، فلها أن تخرج إلى منزل آخر ، وكذلك إن كانت لها حاجة من بيع غَزْل أو شراء قطن ، فيجوز لها الخروج نهاراً ولا يجوز ليلاً؛ فإن رجالاً استشهدوا ب « أحد » ، فقالت نساؤهم : نستوحش في بيوتنا فإذِنَ لهن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحدثن عند إحداهن ، فإذا كان وقت الليل تأوي كل امرأة إلى بيتها .
وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لخالة جابر لما طلقها زوجها أن تخرج لجداد نخلها .
وإذا لزمتها العدة في السفر تعتد ذاهبة وجائية ، والبدوية تَنْتَوي حيث يَنْتَوي أهلها في العدة ، لأن الانتقال في حقهم كالإقامة في حق المقيم .
وقال أبو حنيفة : ذلك في المتوفى عنها زوجها ، وأما المطلقة فلا تخرج ليلاً ولا نهاراً . وهذا مردود بحديث فاطمة بنت قيس « لما قدمت أرسل زوجها أبو حفص بن عمرو بتطليقة كانت بقيت من طلاقها ، وأرسل إليها وكيله بشير فسخطته ، فقال لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة : والله ما لك من نفقة إلا أن تكوني حاملاً ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له قولهما ، فقال : لا نفقة لك » ، وفي رواية : « ولاَ سَكَنَ » ، فاستأذنت في الانتقال ، فأذن لها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم ، فلما انقضت عدتها أنكحها النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد ، فأرسل إليها مروان قبيصة بن ذؤيب يسألها عن الحديث ، فحدثته ، فقال مروان : لم نسمع بهذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصْمَةِ التي وجدنا النَّاس عليها ، فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان : فبيني وبينكم القرآن ، قال الله عز وجل : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } ، قالت : هذا لما كانت له رجعة ، لقوله : { لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً } ، فأي أمر يحدث بعد الثَّلاث؟ فكيف تقولون : « لا نَفقَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ حامِلاً ، فعلام تَحبسُونهَا » لفظ مسلم .
فبين أن الآية في تحريم الإخراج ، والخروج إنما هو في الرجعية .
فاستدلّت فاطمة أن الآية إنما تضمنت النهي عن خروج المطلقة الرجعية لأنها بصدد أن يحدث لمطلقها رأي في ارتجاعها ما دامت في عدتها فكانت تحت تصرف الزوج في كل وقت .
وأما البائن فليس له شيء في ذلك ، فيجوز أن تخرج إذا دعتها لذلك حاجة .
قوله : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ } .
قال ابن عباس ، وابن عمر ، والحسن ، والشعبي ، ومجاهد : هو الزِّنا ، فتخرج ويقام عليها الحد .
وعن ابن عباس أيضاً : أنه البذاء على أحمائها ، فيحل لهم إخراجها .
وعن سعيد بن المسيب أنه قال في فاطمة : تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها فأمرها النبي - عليه الصلاة والسلام - أن تنتقل .
وفي كتاب أبي داود ، قال سعيد : تلك امرأة فتنت النَّاس ، إنها كانت لسنةً فوضعت على يدي أم مكتوم الأعمى .
قال عكرمة : في مصحف أبيٍّ { إلا أن يفحشن عليْكم } .
ويقوي هذا أن محمد بن إبراهيم بن الحارث روي أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس : اتَّقي الله ، فإنك تعلمين لم أخرجت .
وعن ابن عبَّاس أيضاً : أن الفاحشة كل معصية كالزِّنا والسرقة والبذاء على الأهل ، وهو اختيار الطبري .
وعن ابن عباس أيضاً والسدي : « الفاحشة خروجها من بيتها في العدة » .
وتقدير الآية : إلا أن يأتين بفاحشة لخروجهن من بيوتهن بغير حق ، أي : لو خرجت كانت عاصية .
وقال قتادة : « الفاحشة » النشوز ، وذلك أن يطلقها على النُّشوز ، فتتحول عن بيته .
وقال ابن العربي : أما من قال : إنه الخروج للزنا ، فلا وجه له؛ لأن ذلك الخروج هو خروج القَتْل والإعدام ، وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام ، وأما من قال : إنه البذاء ، فهو معتبر في حديث فاطمة بنت قيس ، وأما من قال : إنه كل معصية فوهم ، لأن الغيبة ونحوها من المعاصي لا تبيح الإخراج ولا الخروج ، وأما من قال : إنه الخروج بغير حقًّ فهو صحيح ، وتقدير الكلام : لا تخرجوهن من بيوتهن ، ولا يخرجن شرعاً إلا أن يخرجن تعدِّياً .
قوله : { مُّبَيِّنَةٍ } .
قرىء : بكسر الياء .
ومعناه : أن الفاحشة إذا تفكَّرت فيها تبين أنها فاحشة .
وقرىء : بفتح الياء المشددة .
والمعنى : أنها مبرهنة بالبراهين ، ومبينة بالحُجَجِ .
قوله : { وَتِلْكَ حُدُودُ الله } .
أي : هذه الأحكام المبينة أحكام الله على العباد ، وقد منع التجاوز عنها ، فمن تجاوزها فقد ظلم نفسه وأوردها مورد الهلاك .
قوله : { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } .
الأمر الذي يحدث الله أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها ، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها ، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليها فيراجعها .
وقال جميع المفسرين : أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة ، ومعنى الكلام : التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث ، فإنه إذا طلق ثلاثاً أضر بنفسه عند الندم على الفراق والرغبة في الارتجاع فلا يجد للرجعة سبيلاً .
وقال مقاتل : « بعد ذلك » أي بعد طلقة أو طلقتين « أمراً » أي : المراجعة من غير خلاف .
قوله : { لَعَلَّ الله } .
هذه الجملة مستأنفة ، لا تعلُّق لها بما قبلها ، لأن النحاة لم يعدوها في المعلقات .
وقد جعلها أبو حيَّان مما ينبغي أن يعد فيهن ، وقرر ذلك في قوله : { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ } [ الأنبياء : 111 ] .
فهناك يطلب تحريره .
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
قوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } .
قرأ العامة : « أجَلَهُنَّ »؛ لأن الأجل من حيثُ هو واحد ، وإن اختلفت أنواعه بالنسبة إلى المعتدات .
والضحاك وابن سيرين : « آجَالهُنّ » جمع تكسير .
اعتباراً بأن أجل هذه غير أجل تلك .
فصل في معنى الآية
معنى قوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي : قاربن انقضاء العدة ، كقوله تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ } [ البقرة : 131 ] أي : قربن من انقضاء الأجل { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } يعني المراجعة بالمعروف أي : بالرغبة من غير قصد المضارة في المراجعة تطويلاً لعدتها كما تقدم في البقرة { أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي : اتركوهن حتَّى تنقضي عدّتهن ، فيملكن أنفسهن .
وفي قوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } ما يوجب أن يكون القول قول المرأة في انقضاء عدتها إذا ادعت ذلك على ما تقدم في « البقرة » عند قوله تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ } [ البقرة : 228 ] الآية .
فصل
قال بعض العلماء في قوله تعالى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [ البقرة : 231 ] وقوله : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [ البقرة : 229 ] أن الزوج له حق في بدنه وذمته ، فكل من له دَيْن في ذمة غيره سواء كان مالاً ، أو منفعة من ثمنٍ ، أو مثمن ، أو أجرة ، أو منفعة ، أو صداق ، أو نفقة ، أو بدل متلف ، أو ضمان مغصوب ، فعليه أن يؤدي ذلك الحق الواجب بإحسان ، وعلى صاحب الحق أن يتبع بإحسان كما قال تعالى في آية القصاص : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } [ البقرة : 178 ] .
وكذلك الحق الثابت في بدنه مثل حق الاستمتاع والإجارة على عينه ونحو ذلك ، فالطالب يطلب بمعروف والمطلوب يؤدى بإحسان .
قوله : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ } .
أمر بالإشهاد على الطلاق ، وقيل على الرجعة .
قال القرطبي : « والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق ، فإن راجع من غير إشهاد ففي صحة الرجعة قولان .
وقيل : المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقه جميعاً وهذا الإشهاد مندُوب إليه عند أبي حنيفة ، كقوله تعالى : { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [ البقرة : 282 ] ، وعند الشَّافعي واجبٌ في الرَّجعة مندوب إليه في الفرقة ، وفائدة الإشهاد ألا يقع بينهما التجاحد ، وألاَّ يتهم في إمساكها ، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي بثبوت الزوجية فيرث » .
فصل في الإشهاد على الرجعية
الإشهاد على الرجعية ندب عند الجمهور ، وإذا جامع أو قبل أو باشر يريد بذلك الرَّجعة ، فليس بمراجع .
وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا قبل أو باشر أو لمس بشهوة ، فهو رجعة وكذلك النظر إلى الفَرْج رجعة .
وقال الشافعي وأبو ثور : إذا تكلم بالرجعة ، فهي رجعة .
وقيل : وطؤه مراجعة على كُلِّ حال ، نواها أو لم ينوها ، وهو مذهب أحمد وإليه ذهب الليث وبعض المالكية .
قال القرطبي رضي الله عنه : وكان مالك يقول : إذا وطىء ولم ينو الرجعة ، فهو وَطْء فاسد ، ولا يعود إلى وطئها حتى يستبرئها من مائهِ الفاسد ، وله الرجعة في بقية العدة الأولى ، وليست له رجعة في هذا الاستبراء .
فصل فيمن أوجب الإشهاد في الرجعة
أوجب الإشهاد في الرجعة الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه ، والشافعي كذلك لظاهر الأمر .
وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في القول الآخر : إنَّ الرجعة لا تفتقر إلى القبول فلم تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق ، وخصوصاً حل الظهار بالكفارة .
فصل
إذا ادّعى بعد انقضاء العدة أنه راجع امرأته في العدة ، فإن صدقته جاز ، وإن أنكرت حلفت ، فإن أقام بينةً أنه ارتجعها في العدة ، ولم تعلم بذلك لم يضرّه جهلها ، وكانت زوجته وإن كانت قد تزوجت ولم يدخل بها ، ثم أقام الأول البيّنة على رجعتها ، فعن مالك - رحمه الله - في ذلك روايتان :
إحداهما : أن الأول أحق بها .
والأخرى : أن الثاني أحق بها ، فإن كان الثاني قد دخل بها فلا سبيل للأول إليها .
قوله : { ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ } .
قال الحسنُ : من المسلمين .
وعن قتادة : من أحراركم ، وذلك يوجب اختصاص الشهادة على الرجعة بالذكور دون الإناث؛ لأن « ذَوَيْ » للمذكر .
قال القرطبي : « ولذلك قال علماؤنا : ولا مدخل للنساء فيما عدا الأموال » .
قوله : { وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ } كما تقدم في « البقرة » .
أي : تقرباً إلى الله في إقامة الشهادة على وجهها إذا مست الحاجة إليها من غير تبديل ولا تغيير .
قوله : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ } أي : يرضى به { مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر } فأما غير المؤمن فلا ينتفع بهذه المواعظ .
قوله : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } .
قال الزمخشري : « قوله : { وَمَن يَتَّقِ الله } جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من أمر الطلاق على السُّنَّة » كما مر .
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن طلق زوجته ثلاثاً أو ألفاً هل له من مخرج؟ [ فتلاها ] .
وقال ابن عباس والشعبي والضحاك : هذا في الطلاق خاصة ، أي : من طلق كما أمره الله يكن له مخرج في الرجعة في العدة ، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة .
وعن ابن عبَّاس أيضاً : يجعل له محرجاً ينجِّيه من كل كربٍ في الرجعة في الدنيا والآخرة .
وقيل : المخرج هو أن يقنعه الله بما رزقه . قاله علي بن صالح .
وقال الكلبي : { وَمَن يَتَّقِ الله } بالصَّبر عند المصيبة { يجعل له مخرجاً } من النار إلى الجنة .
وقال الحسن : مخرجاً مما نهى الله عنه .
وقال أبو العالية : مخرجاً من كل شدة .
وقال الربيع بن خيثم : مخرجاً من كل شيء ضاق على الناس .
وقال الحسين بن الفضل : { وَمَن يَتَّقِ الله } في أداء الفرائض { يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } من العقوبة { وَيَرْزُقْهُ } الثواب { مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } أن يبارك له فيما آتاه .
وقال سهل بن عبد الله : { وَمَن يَتَّقِ الله } في اتباع السُّنَّة { يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } من عقوبة أهل البدع { مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } .
وقال أبو سعيد الخدري : ومن تبرأ من حوله وقوَّتهِ بالرجوع إلى اللَّه { يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } مما كلفه الله بالمعونة .
وقال ابن مسعود ومسروق : الآية على العموم .
وقال أبو ذر : « قال النبي صلى الله عليه وسلم : » إنِّي لأعلمُ آيَةً لوْ أخَذَ النَّاسُ بِهَا لَكَفَتهُمْ « وتلا : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ فما زال يكررها ويعيدها » .
وقال ابن عباس : « قرأ النبي صلى الله عليه وسلم { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويزرقه من حيث لا يحتسب } ] قال : » مخرجاً من شُبهات الدنيا ، ومن غمرات الموتِ ، ومن شدائد يوم القيامة « » .
وقال أكثر المفسرين : « نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، أسر المشركون ابناً له يسمى سالماً ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي إليه الفاقة ، وقال : إن العدوّ أسر ابني وجزعت الأم ، فما تأمرني؟ قال - عليه الصلاة والسلام - : » اتِّق اللَّهَ واصْبِرْ ، وآمُرُكَ وإيَّاهَا أن تَسْتَكْثِرَا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم « ، فعاد إلى بيته ، وقال لامرأته : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني وإياك أن نستكثر من قول » لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم « فقالت : نِعْمَ ما أمرنا به ، فجعلا يقولان ، فغفل العدو عن ابنه فساق غنمهم ، وجاء بها إلى أبيه ، وهي أربعة آلاف شاةٍ ، فنزلت الآية ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأغنام له » .
وروي أنه جاء وقد أصاب إبلاً من العدو ، وكان فقيراً . فقال الكلبي : إنه أصاب خمسين بعيراً .
وفي رواية : فانفلت ابنه من الأسر وركب ناقة للقوم ومر في طريقه بسرح لهم فاستاقه .
وقال مقاتل : « أصاب غنماً ومتاعاً ، فقال أبوه للنبيّ صلى الله عليه وسلم أيحل لي أن آكل مما أتى به ابني؟ قال : نعم » ، ونزلت : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } .
وروى الحسن عن عمران بن الحصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَن انقَطَعَ إلى اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ كُلَّ مَؤونةٍ ورَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ، ومن انقطع إلى الدُّنيا وكلها اللَّهُ إليهِ » .
وقال الزجاج : أي : إذا اتقى وآثر الحلال والصبر على أهله فتح الله عليه إن كان ذا ضيق ورزقه من حيث لا يحتسب .
وعن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ أكْثَرَ الاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ من كُلِّ هَمٍّ فَرجاً ، ومِن كُلِّ ضيقٍ مَخْرَجاً ، ورَزقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ » .
قوله : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ } .
أن من فوّض إليه أمره كفاهُ ما أهمَّه .
وقيل : من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية ، ولم يرد الدنيا؛ لأن المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : « لَوْ أنَّكُمْ تَتوكَّلُونَ على اللَّهِ حقَّ تَوكُّلِهِ لرزقَكُم كَمَا يَرزقُ الطَّيْر تَغْدُو خِمَاصاً وتَرُوحُ بِطَاناً » .
قوله : { إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ } .
قرأ حفص : « بَالِغُ » من غير تنوين « أمْرِهِ » مضاف إليه على التخفيف .
والباقون : بالتنوين والنصب ، وهو الأصل ، خلافاً لأبي حيان .
وقرأ ابن أبي عبلة وداود بن أبي هند ، وأبو عمرو في رواية : « بَالِغٌ أمْرُهُ » بتنوين « بالغ » ورفع « أمره » .
وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون « بالغ » خبراً مقدماً ، و « أمره » مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر « إن » .
والثاني : أن يكون « بالغ » خبر « إن » و « أمره » فاعل به .
قال الفراء : أي : أمره بالغ .
وقيل : « أمره » مرتفع ب « بالغ » والمفعول محذوف ، والتقدير : بالغ أمره ما أراد .
وقرأ المفضل : « بالغاً » بالنصب ، « أمرُه » بالرفع . وفيه وجهان :
أظهرهما : وهو تخريج الزمخشري : أن يكون « بالغاً » نصباً على الحال ، و { قَدْ جَعَلَ الله } هو خبر « إن » تقديره : إن الله قد جعل لكل شيء قدراً بالغاً أمره .
والثاني : أن يكون على لغة من ينصب الاسم والخبر بها ، كقوله : [ الطويل ]
4782 - . ..
إنَّ حُرَّاسنَا أسْدَا
ويكون « قَدْ جَعَلَ » مستأنفاً كما في القراءة الشهيرة .
ومن رفع « أمره » فمفعول « بالغ » محذوف ، تقديره : ما شاء ، كما تقدم في القرطبي .
فصل في معنى الآية
قال مسروق : يعني قاضٍ أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه إلا أن من توكل عليه يكفر عنه سيئاته ، ويعظم له أجراً .
قوله : { قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } .
قيل : إن من قوله تعالى : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } إلى قوله : { مَخْرَجاً } آية ، ومنه إلى قوله تعالى : { قَدْراً } آية أخرى ، وعند الكوفي والمدني المجموع آية واحدة .
وقرأ جناح بن حبيش : « قَدراً » بفتح الدال .
والمعنى : لكل شيء من الشدة والرخاء أجلاً ينتهي إليه .
وقيل : تقديراً .
وقال السدي : هو قدر الحيض في الأجل والعدة .
وقال عبد الله بن رافع : لما نزل قوله تعالى : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ } فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : « فَنَحْنُ إذَا توكلنَا عليْهِ يُرسِلُ مَا كَانَ لَنَا وَلاَ نَحْفَظُهُ » ، فنزلت : { إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ } فيكم وعليكم .
وقال الربيع بن خيثم : إنَّ الله قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ، ومن آمن به هداه ، ومن أقرضه جازاه ، ومن وثق به نجَّاه ، ومن دعاه أجاب له .
وتصديق ذلك في كتاب الله : { وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] ، { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ } ، { إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ } [ التغابن : 17 ] ، { وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ آل عمران : 101 ] ، { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] .
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
قوله : { واللائي يَئِسْنَ } .
تقدم الخلاف فيه .
وأبو عمرو يقرأ هنا : « واللاّئي يئسن » بالإظهار .
وقاعدته في [ مثله ] الإدغام ، إلا أن الياء لما كانت عنده عارضة لكونها بدلاً من همزة ، فكأنه لم يجتمع مثلان ، وأيضاً فإن سكونها عارض ، فكأن ياء « اللائي » متحركة ، والحرف ما دام متحركاً لا يدغم في غيره ، وقرىء : « يَئِسْنَ » فعلاً ماضياً .
وقرىء : « يَيْئَسْنَ » مضارع .
و { مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ } .
«
من » الأولى لابتداء الغاية ، وهي متعلقة بالفعل قبلها ، والثانية للبيان متعلقة بمحذوف .
و « اللاَّئِي » مبتدأ ، و « فَعدَّتُهُنَّ » مبتدأ ثانٍ ، و « ثَلاثةُ أشْهُرٍ » خبره ، والجملة خبر الأول ، والشرط معترض ، وجوابه محذوف .
ويجوز أن يكون « إن ارْتَبْتُمْ » جوابه { فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ } ، والجملة الشرطية خبر المبتدأ ، ومتعلق الارتياب محذوف ، تقديره : إن ارتبتم في أنها يئست أم لا لإمكان ظهور حمل وإن كان انقطع دمها .
وقيل : إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس أهو دم حيض ، أو استحاضة ، وإذا كان هذا عدة المرتاب فيها فغير المُرتَاب فيها أولى .
وأغرب ما قيل : إن « إنِ ارتَبْتُمْ » بمعنى : تَيَقَّنْتُمْ ، فهو من الأضداد .
قوله : { واللاتي لَمْ يَحِضْنَ } .
مبتدأ ، خبره محذوف ، فقدره جملة كالأولى ، أي : فعدتهن ثلاثة أشهر أيضاً ، والأولى أن يقدر مفرداً ، أي : فكذلك أو مثلهن .
ولو قيل : بأنه معطوف على « اللاَّئِي يَئِسْنَ » عطف المفردات ، وأخبر عن الجمع بقوله : « فعدَّتُهُنَّ » لكان وجهاً حسناً ، وأكثر ما فيه توسُّطُ الخبر بين المبتدأ وما عطف عليه . وهذا ظاهر قول أبي حيان : و { واللائي لَمْ يَحِضْنَ } معطوف على قوله « واللاَّئِي يَئِسْنَ » ، فإعرابه مبتدأ كإعراب « واللائي » .
قوله : { وَأُوْلاَتُ الأحمال } مبتدأ ، و « أجَلُهُنَّ » مبتدأ ثانٍ ، و « أن يَضَعْنَ » خبر المبتدأ الثاني وهو وخبره خبر الأول .
والعامَّة : على إفراد « حَمْلَهُنَّ » .
والضحاك : « أحْمَالهُنَّ » .
فصل في عدة التي لا ترى الدم
لما بين أمر الطلاق والرجعة في التي تحيض ، وكانوا قد عرفوا عدة ذوات الأقراء عرفهم في هذه السورة عدة التي لا ترى الدم .
قال أبو عثمان عمير بن سليمان : لما نزل عدة النِّساء في سورة البقرة في المطلقة والمتوفى عنها زوجها ، قال أبيُّ بن كعب : يا رسول الله ، إن ناساً يقولون : قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شيء ، الصغار والكبار وذوات الحَمْل ، فنزلت : { واللائي يَئِسْنَ } الآية .
وقال مقاتل : لما ذكر قوله تعالى : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء } [ البقرة : 228 ] قال خلاّد بن النعمان : يا رسول الله ، فما عدّة التي لم تَحِضْ ، وعدة التي انقطع حيضها وعدة الحُبْلى؟ فنزلت : { واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ } ، يعني : قعدن عن الحيض .
وقيل : إن معاذ بن جبل سأل عن عدّة الكبيرة التي يئست ، فنزلت الآية .
وقال مجاهد : الآية واردة في المستحاضة لا تدري دم حيض هو أو دم علة؟ .
فصل في تفسير الآية
قال المفسرون : { واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ } ، فلا يرجون أن يحضن « إن ارتبْتُمْ » أي : شككتم .
وقيل : تيقنتم ، وهو من الأضداد ، يكون شكًّا ويقيناً كالظَّن .
واختيار الطَّبري : أن يكون المعنى إن شككتم ، فلم تدروا ما الحكم فيهن .
وقال الزجاج : إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها .
قال القشيري : وفي هذا نظر ، لأنا إذا شككنا ، هل بلغت سن اليأس لم نقل : عدتها ثلاثة أشهر .
والمعتبر في سن اليأس أقصى عادة امرأة في العالم .
وقيل : غالب نساء عشيرة المرأة .
وقال مجاهد : قوله : « إن ارْتَبْتُمْ » للمخاطبين ، يعني إن لم تعلموا كم عدة الآيسة ، والتي لم تحضْ فالعدّة هذه .
وقيل : المعنى إن ارتبتم أن الدم الذي يظهر منها من أجل كبر أو من الحيض المعهود أو من الاستحاضة فالعدة ثلاثة أشهر .
وقال عكرمة وقتادة : من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض تحيض في أول الشهر مراراً ، وفي الأشهر مرة .
وقيل : إنه متصل بأول السورة ، والمعنى لا تخرجوهن من بيوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدة .
قال القرطبي : « وهو أصح ما قيل فيه » .
فصل في المرتابة في عدتها
المرتابة في عدتها لم تنكح حتى تستبرىء نفسها من ريبتها ، ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الرِّيبة ، وقد قيل في المرتابة التي ارتفع حيضها ، لا تدري ما رفعه إنها تنتظر سنة من يوم طلَّقها زوجها ، منها تسعة أشهر استبراء ، وثلاثة عدة ، فإن طلقها فحاضت حيضة ، أو حيضتين ، ثم ارتفع حيضها بغير يأس منها انتظرت تسعة أشهر ثم ثلاثة من يوم طهرت من حيضها ثم حلت [ للأزواج ] . وهذا قول الشافعي بالعراق .
فعلى قياس هذا القول تقيم الحرة المتوفى عنها زوجها المستبرأة بعد التسعة أشهر [ أربعة أشهر وعشراً ، والأمة شهرين وخمس ليال بعد التسعة أشهر ] .
وروي عن الشافعي أيضاً : أن أقراءها على ما كانت حتى تبلغ سنَّ اليائسات .
وهو قول النخعي والثوري وغيرهما ، وحكاه أبو عبيدة عن أهل العراق .
فصل في ارتياب المرأة الشابة
إذا ارتابت المرأة الشابة هل هي حامل أم لا؟ .
فإن استبان حملها فأجلها وضعه ، وإن لم يستبن ، فقال مالك : عدة التي ارتفع حيضها وهي شابة سنة ، وبه قال أحمد وإسحاق وروي عن عمر بن الخطَّاب وغيره .
وأهل « العراق » يرون أن عدتها ثلاث حيض بعد ما كانت حاضت مرة واحدة في عمرها وإن مكثت عشرين سنةً ، إلا أن تبلغ من الكبر سنًّا تيأس فيه من الحيضِ فتكون عدتها بعد الإياس ثلاثة أشهر .
قال الثعلبي : وهذا الأصح من مذهب الشافعي وعليه جمهور العلماء ، وروي ذلك عن ابن مسعود وأصحابه .
قال إلكيا : وهو الحق ، لأن الله تعالى جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر . والمرتابة ليست آيسة .
فصل فيمن تأخر حيضها لمرض
فأما من تأخر حيضها لمرض ، فقال مالك وبعض أصحابه : تعتد تسعة أشهر ثم ثلاثة كما تقدم .
وقال أشهب : هي كالمرضع بعد الفطام بالحيض أو بالسنة .
وقد طلق حبان بن منقذ امرأته وهي ترضع ، فمكثت سنة لا تحيض لأجل الرضاع ثم مرض حبان فخاف أن ترثه فخاصمها إلى عثمان وعنده عليّ وزيد فقالا : نرى أن ترثه ، لأنها ليست من القواعد ولا من الصغار ، فمات حبان فورثته واعتدت عدة الوفاة .
فصل
لو تأخّر الحيض بغير مرض ولا رضاع فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها ، تسعة أشهر ثم ثلاثة على ما تقدم ، فتحل ما لم ترتب بحمل ، فإن ارتابت بحمل أقامت أربعة أعوام أو خمسة أو سبعة على الاختلاف .
قال القرطبي : « وأشهر الأقوال خمسة أعوام ، فإن تجاوزتها حلت » .
وقال أشهب : لا تحل أبداً حتى تنقطع عنها الريبة .
قال ابن العربي : « وهو الصحيح ، إذا جاز أن يبقى الولد في بطنها خمسة أعوام جاز أن يبقى عشرة أو أكثر من ذلك » ، وروي مثله عن مالك .
فصل فيمن جهل حيضها بالاستحاضة
وأما التي جهل حيضها بالاستحاضة ففيها أقوال :
قال ابن المسيب : تعتد سنة . وهو قول الليث .
قال الليث : عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها إذا كانت مستحاضة « سنة » .
قال القرطبي : « وهو مشهور قول علمائنا ، سواء علمت دم حيضها من دم استحاضتها ، وميزت ذلك أو لم تميزه ، عدّتها في مذهب مالك سنة ، منها تسعة أشهر استبراء ، وثلاثة عدّة » .
وقال الشَّافعي في أحد أقواله : عدتها ثلاثة أشهر ، وهو قول جماعة من التابعين والمتأخرين .
قال ابن العربي : « وهو الصحيح عندي » .
وقال أبو عمر : المستحاضة إذا علمت إقبال حيضتها وإدبارها اعتدت بثلاثة قُرُوءٍ .
قال القرطبي : « وهذا أصحّ في النظر ، وأثبت في القياس والأثر » .
قوله : { واللائي لَمْ يَحِضْنَ } .
يعني : الصغيرة ، فعدتهن ثلاثة ، فأضمر الخبر ، وإنما كانت عدتها الأشهر لعدم الأقراء في حقِّها عادة ، والأحكام إنما أجراها اللَّه تعالى على العادات ، فتعتد بالأشهر ، فإن رأت الدَّم في زمن احتماله عند النِّساء انتقلت إلى الدَّم لوجود الأصل ، فإذا وجد الأصل لم يبق للبدل حكم ، كما أن المُسِنَّة إذا اعتدت بالدم ، ثم ارتفع عادت إلى الأشهر ، وهذا إجماع .
فصل
قوله : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ } وضع الحمل ، وإن كان ظاهراً في المطلقة؛ لأنه عليها عطف وإليها رجع عقب الكلام ، فإنه في المتوفى عنها زوجها كذلك ، لعموم الآية ، وحديث سبيعة ، كما مضى في سورة « البقرة » .
فإذا وضعت المرأة ما في بطنها من علقة أو مضغة حلت عند مالك .
وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا تحل إلا بوضع ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان ، فإن كانت حاملاً بتوءمين لم تنقض عدتها حتى تضع الثاني منهما .
قوله : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } .
أي : من يتقه في طلاق السنة { يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } في الرجعة .
وقال مقاتل : ومن يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسراً في توفيقه للطاعة .
{
ذَلِكَ أَمْرُ الله } أي : الذي ذكر من الأحكام أمر الله أنزله إليكم وبيَّنَهُ لَكُمْ ، { وَمَن يَتَّقِ الله } أي : يعمل بطاعته { يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } أي : في الآخرة .
قوله : { وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } .
هذه قراءة العامة مضارع « أعظم » .
وابن مقسم : « يعظم » بالتشديد ، مضارع عظم مشدداً .
والأعمش : « نعظم » بالنون ، مضارع « أعظم » وهو التفات من غيبة إلى تكلم .
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
قوله : { أَسْكِنُوهُنَّ } .
قال ابن الخطيب : { أَسْكِنُوهُنَّ } وما بعده بيان لما شرط من التقوى في قوله { وَمَن يَتَّقِ الله } كأنه قيل : كيف يعمل بالتقوى في جنس المعتدات؟ فقيل : « أسكنوهُنَّ » .
قوله : { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } . فيه وجهان :
أحدهما : أن « من » للتبعيض .
قال الزمخشري : « مبعضها محذوف معناه : أسكنوهن مكاناً من حيثُ سكنتم ، أي : بعض مكان سُكناكم ، كقوله تعالى : { يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } [ النور : 30 ] أي : بعض أبصارهم » .
قال قتادةُ : إن لم يكن إلا بيت واحد ، فأسكنها في بعض جوانبه .
قال ابن الخطيب : وقال في الكشاف : « من » صلة ، والمعنى أسكنوهن من حيث سكنتم .
والثاني : أنها لابتداء الغاية . قاله الحوفي ، وأبو البقاء .
قال أبو البقاء : والمعنى تسبّبوا إلى إسكانهن من الوجه الذي تسكنون أنفسكم ودلّ عليه قوله « مِن وُجْدِكُم » ، والوُجْد : الغِنَى .
قوله : « من وجدكم » . فيه وجهان :
أظهرهما : أنه بدل من قوله : { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } بتكرار العامل ، وإليه ذهب أبو البقاء .
كأنه قيل : أسكنوهن من سعتكُم .
والثاني : أنه عطف بيان لقوله : { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } ، وإليه ذهب الزمخشري ، فإنه قال بعد أن أعرب « مِنْ حَيْثُ » تبعيضية ، قال : « فإن قلت : فقوله » مِنْ وُجْدِكُمْ « قلت : هو عطف بيان لقوله { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } ومفسّر له ، كأنه قيل : أسكنوهن مكاناً من مسكنكم مما تطيقونه ، والوُجْد : الوسع والطاقة » .
وناقشه أبو حيان بأنه لم يعهد في عطف البيان إعادة العامل . إنما عهد هذا في البدل ، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلاً .
وقرأ العامة : « وجدكم » بضم الواو .
والحسن ، والأعرج ، وأبو حيوة : بفتحها .
والفياض بن غزوان وعمرو بن ميمون ويعقوب : بكسرها .
وهي لغات بمعنى واحد .
يقال : وجدت في المال أجد وُجْداً وجدة ، والوُجْد : الغِنَى والقُدرة ، والوَجْد بفتح الواو : الحُزْن أيضاً والحب والغضب .
فصل في تفسير الآية
قال القرطبي : روى أشهب عن مالك : يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل لقوله تعالى : { أَسْكِنُوهُنَّ } ، فلو كان معها ما قال أسكنوهن .
وقال ابن نافع : قال مالك في قوله تعالى { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } يعني المطلقات اللاتي بنَّ من أزواجهن فلا رجعة لهم عليهن ، وليست حاملاً ، فلها السُّكنَى ، ولا نفقة لها ولا كُسْوة؛ لأنها بائن منه ، ولا يتوارثان ولا رجعة له عليها ، وإن كانت حاملاً فلها الكسوة والنفقة والمسكن حتى تنقضي عدتها .
قال البغوي : ونعني بالكسوة مؤونة السكن ، فإن كانت الدار التي طلقها فيها ملكاً للزوج وجب على الزوج أن يخرج ويترك الدار لها مدة عدتها ، وإن كانت بإجارة فعلى الزوج الأجرة ، وإن كانت عاريةً فرجع المعير فيها فعليه أن يكتري لها داراً تسكنها ، فأما من لم تَبِنْ منه ، فإنها امرأته يتوارثان ، ولا تخرج إلا بإذن زوجها ما دامت في العدة ولم يؤمر بالسكن لهما لأن ذلك لازم للزوج مع النفقة والكسوة حاملاً كانت أو غير حامل ، وإنما أمر الله بالسكن للبائن ، قال تعالى : { وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } فجعل الله - عز وجل - للحوامل البائنات من أزواجهن السكنى والنفقة .
قال ابن العربي : « إن الله - تعالى - لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة ، فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل ، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها » .
قال القرطبي : اختلف العلماء في المطلقة ثلاثاً على ثلاثة أقوال : فمذهب مالك والشافعي : أن لها السَّكنى ولا نفقة لها .
ومذهب أبي حنيفة وأصحابه : أن لها السكنى والنفقة .
ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور : لا نفقة لها ولا سُكنى ، لحديث فاطمة بنت قيس قالت : « دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي أخو زوجي ، فقلت : إن زوجي طلقني ، وإن هذا يزعم أنه ليس لي سُكْنَى ولا نفقة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل لك السُّكنى والنفقة ، قال : إن زوجها طلَّقها ثلاثاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنَّمَا السُّكْنَى والنَّفقةُ على من لَهُ عليْهَا رَجْعَةٌ ، فَلمَّا قدمتُ » الكُوفَة « طلبني الأسود بن يزيد ليسألني عن ذلك ، وإن أصحاب عبد الله يقولون : إن لها السكنى والنفقة » .
وعن الشعبي قال : لقيني الأسود بن يزيد ، فقال : يا شعبي ، اتق الله وارجع عن حديث فاطمة بنت قيسٍ ، فإن عمر كان يجعل لها السكنى والنفقة ، قلت : لا أرجع عن شيء حدثتني به فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولأنه لو كان لها سكنى لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتدَّ في بيت ابن أم مكتومٍ .
وأجيب عن ذلك بما روت عائشة أنها قالت : كانت فاطمة في مكان وحش ، فخيف على ناحيتها .
وقال سعيد بن المسيب : إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على أحمائها .
وقال قتادة وابن أبي ليلى : لا سكنى إلا للرجعية ، لقوله تعالى : { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } [ الطلاق : 1 ] ، وقوله تعالى : { أَسْكِنُوهُنَّ } راجع إلى ما قبله ، وهي المطلقة الرجعية .
فصل في المعتدة عن وطء الشبهة
قال البغوي : « وأما المُعتدَّة عن وطء الشبهة والمفسوخ نكاحها بِعيْبٍ أو خيار عتق ، فلا سُكْنَى لها ولا نفقة ، وإن كانت حاملاً ، والمعتدة من وفاة زوج لا نفقة لها حاملاً كانت أو حائلاً عند أكثر العلماء ، وروي عن عليٍّ أن لها النفقة إن كانت حاملاً من التركة حتى تضع ، وهو قول شريح والشعبي والنخعي والثوري . واختلفوا في سكناها :
فللشافعي قولان :
أحدهما : لا سكنى لها بل تعتدّ حيث شاءت ، وهو قول علي وابن عبَّاس وعائشة ، وبه قال عطاء والحسن ، وهو مذهب أبي حنيفة .
والثاني : لها السكنى ، وهو قول عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وبه قال مالك ، وسفيان الثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، لما روى كعب بن عجرة عن عمته زينب بنت كعب أن الفُريعة بنت مالك بن سنان - وهي أخت أبي سعيد الخدري - « أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة ، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف » القدوم « لحقهم فقتلوه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي ، فإن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ولا نفقة ، فقالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم » نَعَمْ « ، فانصرفت حتى إذا كنت في الحُجْرة أو في المسجد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بي فدعيت له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم » كَيْفَ قُلْتِ؟ « قالت : فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي ، فقال : » امْكُثِي حتَّى يبلغ الكِتَابُ أجَلَهُ « ، قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهُر وعَشْراً ، قالت : فلما كان عثمان أرسل إليّ فسألني عن ذلك ، فأخبرته ، فاتبعه وقضى به » .
فمن قضى بهذا القول قال : إذنه لفريعة أولاً بالرجوع إلى أهلها صار منسوخاً بقوله : « امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حتَّى يبلغ الكِتَابُ أجَلَهُ » ، ومن لم يوجب السُّكنى قال : أمرها بالمكث آخراً استحباباً لا وجوباً .
قوله : { وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ } .
قال مجاهد : في المسكن .
وقال مقاتل : في النَّفقة . وهو قول أبي حنيفة .
وعن أبي الضحى : أن يطلقها فإذا بقي يومان من عدتها راجعها ، ثم طلقها .
قوله : { وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } .
هذا في وجوب النَّفقة والسُّكنى للحامل المطلقة ثلاثاً أو أقل حتى تضع حملها ، فأما الحامل المتوفى عنها زوجها ، فقال علي ، وابن عمر وابن مسعود ، وشريح ، والنخعي ، والشعبي ، وحماد ، وابن أبي ليلى ، وسفيان ، وأصحابه : ينفق عليها من جميع المال حتى تضع .
وقال ابن عباس ، وابن الزبير ، وجابر بن عبد الله ، ومالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه : لا ينفق عليها ، إلا من نصيبها ، وقد مضى في « البقرة » .
قوله : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } .
يعني المُطلَّقات ، أولادكم منهن فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهنّ وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية ، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يَبِنَّ ، ويجوز عند الشافعي . وتقدم القول في الرضاع في « البقرة » .
قوله : { وَأْتَمِرُواْ } .
افتعلوا من الأمر ، يقال : ائتمر القوم وتأمّروا ، أي : أمر بعضهم بعضاً .
وقال الكسائي : « ائتمروا » تشاوروا؛ وتلا قوله تعالى : { إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ } [ القصص : 20 ] وأنشد قول امرىء القيس : [ الطويل ]
4782
ب - .. ويَعْدُو عَلَى المَرْءِ مَا يَأتَمِرْ
فصل في هذا الخطاب
الخطاب في قوله : « وائتمروا » للأزواج والزوجات ، أي : وليقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل ، والجميل منه توفير الأجرة عليها للإرضاع .
وقيل : ائتمروا في إرضاع الولد فيما بينكم بمعروف حتى لا يلحق الولد إضرار .
وقيل : هو الكسوة والدثار .
وقيل : معناه لا تضار والدة بولدها ، ولا مولود له بولده .
قوله : { فَسَتُرْضِعُ } .
قيل : هو خبر في معنى الأمر ، والضمير في « له » للأب ، لقوله تعالى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } والمفعول محذوف للعلم به ، أي : فسترضع الولد لوالده امرأة أخرى ، والظَّاهر أنه خبر على بابه .
فصل في تفسير الآية
قوله : { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ } في أجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطي الأم أجرة رضاعها ، وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها وليستأجر غير أمه .
وقيل : معناه إن تضايقتكم وتشاكستم فليسترضع لولده غيرها .
وقال الضحاك : إن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى ، فإن لم يقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجْرة .
واختلفوا فيمن يجب عليه رضاع الولد .
فقال مالك : إرضاع الولد على الزوجة ما دامت الزوجية ، إلا لشرفها وموضعها ، فعلى الأب رضاعه يومئذ في ماله .
وقال أبو حنيفة : لا يجب على الأم بحال .
وقيل : يجب عليها بكل حال .
فإن طلقها فلا يجب عليها إرضاعه إلا أن لا يقبل ثدي غيرها فيلزمها حينئذ الإرضاع ، فإن اختلفا في الأجرة ، فإن دعت إلى أجرة المثل وامتنع الأب إلا تبرعاً فالأم أولى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعة ، وإن دعا الأب إلى أجرِ المثل ، وامتنعت الأم لتطلب شططاً ، فالأب أولى به ، فإن أعسر الأب بأجرتها أجبرت على رضاع ولدها .
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
قوله : { لِيُنفِقْ } .
هذه قراءة العامة : أعني كسر اللام ، وجزم المضارع بها .
وحكى أبو معاذ القارىء : « لِيُنْفِقَ » بنصب الفعل على أنها لام « كي » نصب الفعل بعدها بإضمار « أن » ويتعلق الحرف حينئذ بمحذوف ، أي : شرعنا ذلك لينفق .
وقرأ العامة : « قُدِرَ » مخففاً .
وابن أبي عبلة : « قُدِّرَ » مشدداً .
فصل في وجوب النفقة للولد على الوالد
قال القرطبي : هذه الآية أصل وجوب النفقة للولد على الوالد دون الأم ، خلافاً لمحمد بن الموَّاز إذ يقول : إنها على الأبوين على قَدْر الميراث .
قال ابن العربيّ : ولعل محمداً أراد أنها على الأم عند عدم الأب ، وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم : « تَقُولُ لَكَ المَرأةُ : أنفِقْ عليَّ وإلاَّ طلِّقْنِي ، ويقُولُ لَكَ العَبْدُ : أنفِقْ عَلي واستَعْمِلْنِي ، ويقُولُ لَكَ ابْنُكَ : أنفِقْ عليَّ إلى مَنْ تكلُني؟ » ، فقد تعارض القُرآن [ والسُّنة ] وتواردا في شرعة واحدة .
قوله : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا } من المال ، والمعنى لا يكلف الله الفقير مثل ما يكلف الغني { سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } أي : بعد الضيق غنى وبعد الشدة سعة .
فصل في اختلاف الزوجين في قبض النفقة
قال ابن تيمية : إذا ختلف الزوجان في قبض النفقة والكسوة ، فقال القاضي أبو يعلى وأتباعه : إن القول قول الزَّوجة ، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي كما لو اختلف اثنان في قبض سائر الحقوق مثل الصَّداق ، وثمن المبيع ونحو ذلك ، ومذهب مالك بخلاف ذلك .
وقال الغزالي : فيها وجهان : وحسنوا قول الزوج .
قال ابن تيمية : وكذلك يجيء لأصحاب أحمد وجهان كما لو كان الصداق منفعة حصلت لها ، فقالت : حصلت من غيرك وقال : بل حصلت منّي مثل أن يصدقها تعليم قصيدة أو غيرها مما يجوز جعله صداقاً فإنها إذا تعلمت من غيره كان عليه الأجرة ، فإن قال : أنا علمتها وقالت : بل غيره ، ففيها وجهان ، فهكذا في النَّفقة ، فإنها لا بُدَّ أن تكون قد ارتزقت في الزمن الماضي ، وهو يقول : أنا رزقتها ، وهي تقول : بل غيره .
والصَّواب المقطُوع به أنه لا يقبل قولها في ذلك مطلقاً؛ فإن هذا فيه فساد عظيم على هذا القول في مذهب الشَّافعي ، وقول أحمد الموافق له ولا يجيء ذلك على مذهب مالك ، ولا على مذهب أبي حنيفة ، وقول أحمد الموافق له؛ فإنا إذا قلنا : إن نفقة الزوجة تسقط بمضي الزمان لم يقبل دعواها بالنفقة الماضية ، وإنما يجيء على قولنا إن نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان ، كما هو المشهور من مذهب أحمد ، وهو قول الشافعي .
والعُمْدَة في ذلك الأمر المعروف عن عمر بن الخطاب؛ قال ابن المُنذِر : إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غلبوا عن نسائهم فأمرهم أن ينفقوا ، أو يطلقوا؛ فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى ، وليس قبول الزوجة في ذلك مأثوراً عن أحمد ، ولا ملائماً لأصوله ، فإنه في تداعي الزوجين وغيرهما يرجح من تشهد له اليد الحكمية العرفية دون اليد الحسية ، ومعلوم أن المدعى عليه يترجح تارة باليد في الأعيان وببراءة الذمة في الحقوق ، فكما أن في اليد لم يلتفت إلى مُجرَّد الحس ، بل يرجع إلى اليد الحكمية التي يستدلّ عليها بالأفعال والتصرفات؛ إذ الأَصل في الدعاوى ترجيح مَنِ الظَّاهرُ معهُ .
والظهور يستدلّ عليه بالأفعال والتصرفات والأمور العادية ، كما يستدلّ عليها بمجرد اليد الحسية ، فإذا كانت العادة الغالبة والعرف المعروف يقتضي وجود فعل لم يكن الظاهر عدمه حتى يرجح قول من يدعي عدمه .
وهذا ينبني على أصول :
أحدها : أنه قد وجد كسوة ونفقة وإنما تنازعا في المنفق ، فقال هو : مني ، وقالت هي : من غيرك ، فهنا الأصل عدم غيره ، ثم إنها تطالب بتعيين ذلك الغير ، فإن ادعت ممتنعاً لم يقبل بحال ، وإن ادعت ممكناً فهو محل التردُّد ، فإن إنفاقه واجب ، والأمر الحادث يضاف إلى السبب القوي دون الضعيف .
والأصل الثاني : أن العادة والعرف إذا قضي بوجود أمر فهل القول قول نافيه ، أو قول مثبته .
والأصل الثالث : أن ما يتعذر إقامة البينة عليه لا يكلف إقامة البينة عليه كالوطء ، ومن المعلوم أن المعاشرة بالمعروف التي أمر الله بها ورسوله ليس فيها شهادة على المرأة بذلك؛ لأن ذلك ليس من الأمر بالمعروف ، ولهذا لم يفعله أحد على عهد سلف الأمة ولا يفعله جماهير بني آدم ، وفعله إما متعذّر أو متعسر ، فإنه إن أطعمها مما يأكل فليس عنده من يشهد على إطعامها وإن ناولها طعاماً كلَّ يوم فمن المتعسّر شهود في كل وقت ، وقد يكونان ساكنين حيث لا شهود ، وهذا ظاهر بيِّن .
الأصل الرابع : أن المرأة مفرطة بترك أخذ نفقتها منه بالمعروف ، ومطالبته بها إذا كان لا ينفق ، بخلاف ما إذا كان غائباً ، وهي الصُّورة التي روي عن عمر أنه أمر فيها بنفقة الماضي ، بل قد يقال : إن ذلك رضا منها بترك النفقة ، وليس هذا قولاً بسقوط النفقة في الماضي ، بل بأن هذا دليل من جهة العرف على أنها إما أن تكون قد أنفق عليها ، أو تكون راضية بترك النفقة .
وهذا أصل خامس : وهو أن العادة المعروفة تدل على أن المرأة إذا سكتت مدة طويلة عن المطالبة بالنفقة مع القدرة على الطلب كانت راضية بسقوطها .
فصل في النفقة والكسوة بالمعروف
وأما النفقة والكسوة بالمعروف وهي الواجبة بنصّ القرآن ، فهو ما كان في عرف الناس في حالهما نوعاً وقدراً وصفة ، وإن كان ذلك يتنوّع بتنوّع حالهما من اليسار والإعسار والزمان كالشتاء والصيف والليل والنهار ، والمكان فيطعمها في كل بلد مما هو عادة أهل البلد والعرف عندهم .
وقال بعضهم : هي مقدَّرة بالشَّرع نوعاً وقدراً مُدًّا من حنطة ، أو مدًّا ونصفاً أو مدَّين قياساً على الإطعام الواجب في الكفارة . والصواب المقطوع به ما عليه الأمة علماً وعملاً قديماً وحديثاً لقول الله تعالى : { رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف } [ البقرة : 233 ] ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - لهند : « خُذِي مَا يَكْفيكِ وَولدَكِ بالمَعْرُوفِ » ، ولم يقدر لها نوعاً ولا قدراً ، ولو كان ذلك مقدّراً بشرع لبينه لها قدراً ونوعاً كما بين فرائض الزكوات والديات .
وقال - عليه الصلاة والسلام - في خطبته ب « عرفات » : « ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف » .
ومن المعلوم أن الكفاية بالمعروف تتنوع بحال الزوجة في حاجتها ، وبتنوع الزمان والمكان وبتنوع حال الزوج في يساره وإعساره ، فليست كسوة القصيرة الضئيلة ككسوة الطويلة الجسيمة ، ولا كسوة الشتاء ككسوة الصيف ولا كفاية طعام الشتاء مثل طعام الصيف ولا طعام البلاد الحارَّة كالباردة ، ولا المعروف في بلاد التمر والشعير كالمعروف في بلاد الفاكهة والخبز .
«
وقال - عليه الصلاة والسلام - للذي سأله : مَا حَقُّ زَوجةِ أحدنّا عليْهِ؟ .
قال » تُطْعِمُها إذَا أكَلْتَ ، وتَكسُوهَا إذَا اكتَسيْتَ ، ولا تَضْرِبِ الوَجْهَ ولا تُقَبِّحْ ولا تَهْجُر إلاَّ في البيْتِ « » .
وهكذا قال في نفقة المماليك : « هُمْ إخْوانُكُمْ وخَولكُمْ جعلهُم اللَّهُ تَحْتَ أيْدِيكُمْ فَمَن كَانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدهِ فليُطْعِمْهُ ممَّا يأكلُ ، وَليُلْبِسْهُ ممَّا يَلبسُ ولا تُكلِّفُوهُمْ ما يَغلبُهُمْ فإن كلَّفْتُموهُمْ فأعينُوهُمْ » .
ففي الزوجة والمملُوك أمر واحد ، فالواجب على هذا هو الرزق والكسوة بالمعروف في النوع ، والقدرة ، وصفة الإنفاق .
فأما النوع فلا يتعين أن يعطيها مكيلاً كالبُرِّ ، ولا موزوناً كالخبز ، ولا ثمن ذلك كالدَّراهم ، بل يرجع في ذلك إلى العرف ، فإذا أعطاها كفايتها بالمعروف مثل أن تكون عادتهم أكل التَّمْر والشعير فيعطيها ذلك ، أو تكون عادتهم أكل الخبز والأدم ، فيعطيها ذلك والطبيخ ، فيعطيها ذلك ، وإن كان عادتهم أن يعطيها حباً فتطحنه في البيت فعل ذلك ، وإن كان يطحن في الطَّاحون ويخبز في البيت فعل ذلك ، وإن كان يخبز في غير البيت فعل ذلك ، وإن كان يشتري مخبُوزاً من السُّوق فعل ذلك ، وكذلك الطَّبيخ ونحوه ، فذلك هو المعروف فلا يتعيَّن عليه دراهم ولا حَبُّ أصلاً ، فإن تعيين ذلك من المنكر ليس من المعروف ، وهو مصرٌّ بها تارة ، وبه تارة ، وبهما أخرى ، وكذلك القدر لا يتعين مقدراً مطرداً ، بل تتنوع المقادير بتنوع الأوقات .
وأما الإنفاق ، فقد قيل : إن الواجب تمليكها النفقة والكسوة .
وقيل : لا يجب التمليك ، وهو الصَّواب ، فإن ذلك ليس من المعروف ، بل عرف النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى يومنا هذا أن الرجل يأتي بالطعام إلى منزلة فيأكل هو وزوجته ومملوكه جميعاً تارة ، وتارة أفراداً ، ويفضل منه فضل تارة فيدخرونه ، ولا يعرف المسلمون أنه يملكها كل يوم تتصرف فيها تصرف الملاك ، بل من عاشر امرأته بمثل هذا كان عند المسلمين قد تعاشرا بغير المعروف ، وتضارّا في العشرة ، وإنما يفعل أحدهما ذلك بصاحبه عند الضرار لا عند العشرة بالمعروف .
وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم أوجب للزوجة مثل ما أوجب للمملوك كما تقدم .
وقد اتَّفق المسلمون على أنه لا يجب تمليك المملوك نفقته ، فدل على عدم وجوب التمليك في حق الزوجة .
وإذا تنازع الزوجان فمتى اعترفت الزوجة أنه يطعمها إذا أكل ، ويكسوها إذا اكتسى ، وكان ذلك هو المعروف لمثلها في بلدها ، فلا حق لها سوى ذلك ، وإن أنكرت ذلك فعلى الحاكم أن يجبره أن ينفق بالمعروف ، ليس على الحاكم بل ولا له أن يأمر بدراهم مقدرة مطلقاً أو حَبّ مقدر مطلقاً ، لكن يذكر المعروف الذي يليق بهما .
فصل في تفسير الآية
قال القرطبي في قوله تعالى : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ } أي : « لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصَّغير على قدر وسعه ، فيوسع إذا كان موسعاً عليه ، ومن كان فقيراً فعلى قدر ذلك ، فتقدر النَّفقة بحسب حال المنفق والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى العادة » .
وقال الشافعي رحمه الله : النفقة محدودة ، ولا اجتهاد للحاكم ولا المفتي فيها وتقديرها هو بحال الزَّوج وحده من يُسره وعُسْره ، ولا اعتبار بحالها ، فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس ، فيلزم الزوج الموسر مدَّان ، والمتوسط مد ونصف والمعسر مُدّ؛ لظاهر قوله تعالى : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ } .
فجعل الاعتبار بحال الزوج في اليُسْر والعُسْر؛ ولأن الاعتبار بحالها يؤدي إلى الخصومة؛ لأن الزوج يدعي أنها تطلب فوق كفايتها ، وهي تزعم أنها تطلب قدر كفايتها ، فقدرت قطعاً للخصومة لهذه الآية ، ولقوله تعالى : { عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ } [ البقرة : 236 ] .
وأجاب القرطبي : بأن هذه الآية لا تعطي أكثر من الفرق بين الغني والفقير ، وأنها تختلف بعُسْر الزوج ويُسْره ، فأما أنه لا اعتبار بحال الزوجة فليس فيها ، وقد قال تعالى : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف } [ البقرة : 233 ] ، وذلك يقتضي تعلق المعروف في حقها؛ لأنه لم يخص في ذلك واحداً منهما ، وليس من المعروف أن يكون كفاية الغنيمة مثل نفقة الفقيرة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام لهند : « خُذِي ما يَكْفيكِ وولَدَك بالمعرُوفِ » ، فأحالها على الكفاية حين علم السعة من حال أبي سفيان .
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
قوله : { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ } .
لما ذكر الأحكام ذكر وحذَّر مخالفة الأمر ، وذكر عُتُوَّ وحُلُول العذاب بهم ، وتقدم الكلام في « كأين » في « آل عمران » .
قوله : { عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا } .
ضمّن « عَتَتْ » معنى أعرض ، كأنه قيل : أعرضت بسبب عتوِّها ، أي : عتت يعني القرية والمراد أهلها .
وقوله : { فَحَاسَبْنَاهَا } إلى آخره . يعني في الآخرة ، وأتى به بلفظ الماضي لتحقُّقه .
وقيل : العذاب في الدُّنيا ، فيكون على حقيقته ، أي جازيناها بالعذاب في الدُّنيا { وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً } في الآخرة وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي : فعذبناها عذاباً نكراً في الدنيا بالجوع والقَحْط والسَّيف والخَسْف والمَسْخ وسائر المصائب ، وحاسبناها في الآخرة حساباً شديداً .
والنُّكْر : المنكر ، وقرىء مخففاً ومثقلاً ، وقد مضى في سورة الكهف .
قوله : { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا } . أي : عاقبة كفرها { وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرَهَا خُسْراً } أي : هلاكاً في الدنيا بما ذكرنا وفي الآخرة بجهنم .
قوله : { أَعَدَّ الله لَهُمْ } .
تكرير للوعيد توكيداً .
وجوز الزمخشري أن يكون « عَتَتْ » وما عطف عليه صفة ل « قَرْيَةٍ » ، ويكون الخبر ل « كأيٍّ » في الجملة من قوله : { أَعَدَّ الله لَهُمْ } .
وعلى الأول يكون الخبر « عَتَت » وما عطف عليه .
قوله : { الذين آمَنُواْ } .
منصوب بإضمار أعني ، بياناً للمنادى في قوله : { ياأولي الألباب } أي : العُقُول ، ويكون عطف بيان للمنادى أو نعتاً له ، ويضعف كونه بدلاً لعدم حلوله محل المبدل منه .
قوله : { قد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً } .
في نصب « رسولاً » أوجه :
أحدها : قال الزجاج والفارسي : إنه منصوب بالمصدر المنون قبله؛ لأنه ينحل لحرف مصدري وفعل ، كأنه قيل : أن ذكر رسولاً ، ويكون ذكره الرسول قوله { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله } [ الفتح : 29 ] ، والمصدر المنون عامل كقوله تعالى : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ، 15 ] .
وقول الآخر : [ الوافر ]
4783 -
بِضَرْبٍ بالسُّيُوفِ رُءُوسَ قَوْمٍ ... أزَلْنَا هَامَهُنَّ عنِ المَقِيلِ
الثاني : أنه جعل نفس الذكر مبالغة ، ويكون محمولاً على المعنى ، كأنه قال : قد أظهر لكم ذكراً رسولاً ، فيكون من باب بدل الشَّيء من الشَّيء وهو هو .
الثالث : أنه بدل منه على حذف مضاف من الأول ، تقديره : أنزل ذا ذكر رسولاً .
الرابع : كذلك ، إلا أن « رسولاً » نعت لذلك المحذوف .
الخامس : أنه بدل منه على حذف مضاف ، أي ذكراً ذا رسول .
السادس : أن يكون « رَسُولاً » نعتاً ل « ذِكْراً » أو على حذف مضاف ، أي : ذكراً ذا رسول ، و « ذا » رسول نعتاً ل « ذِكْراً » .
السابع : أن يكون « رسولاً » بمعنى رسالة ، فيكون « رسولاً » بدلاً صريحاً من غير تأويل ، أو بيناً عند من يرى جريانه في النكرات كالفارسي ، إلا أن هذا يبعده قوله « يَتْلُو عَلَيْكُم » لأن الرسالة لا تتلو إلا بمجاز .
الثامن : أن يكون « رَسُولاً » منصوب بفعل مقدر ، أي : أرسل رسولاً ، لدلالة ما تقدَّم عليه .
قال البغوي : كأنه قيل : أنزل إليكم قرآناً وأرسل رسولاً .
وقيل : مع رسول .
التاسع : أن يكون منصوباً على الإغراء : أي : اتبعوا والزموا رسولاً هذه صفته .
فصل في قوله : رسولاً
اختلف الناس في « رسولاً » ، هل هو النبي صلى الله عليه وسلم أو القرآن نفسه أو جبريل .
قال الزمخشري : « هو جبريل أبدل من » ذكراً « لأنه وصف بتلاوة آيات الله ، فكان إنزاله في معنى إنزال الذِّكر ، فصح إبداله منه » .
قال أبو حيَّان : « ولا يصحّ هذا لتباين المدلولين بالحقيقة ، ولكونه لا يكون بدل بعض ، ولا بدل اشتمال » . انتهى .
قال شهاب الدين : « وهذا الذي قاله الزمخشري سبقه إليه الكلبي ، وأما اعتراضه عليه ، فغير لازم؛ لأنه بولغ فيه حتى جعل نفس الذكر كما تقدم بيانه » .
وقرىء : « رسول » بالرفع على إضمار مبتدأ ، أي : هو رسول .
وقيل : الذكر هنا الشَّرف كقوله تعالى : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } [ الأنبياء : 10 ] وقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] ثم بين الشرف فقال : « رَسُولاً » ، والأكثر على أن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال الكلبي : هو جبريل ، فيكونان جميعاً منزلين .
قوله : { يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله } . نعت ل « الرسول » ، و « آيَاتِ اللَّهِ » القرآن . و « مبيِّنَاتٍ » قرأ العامة : بفتح الياء ، أي : يبينها الله ، وبها قرأ ابن عباس ، وهي اختيار أبي عبيد ، وأبي حاتم ، لقوله تعالى : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ } [ آل عمران : 118 ] .
وقرأ ابن عامر ، وحفص ، وحمزة ، والكسائي : بكسرها ، أي : يبين لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام .
قوله : { لِّيُخْرِجَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنَ الظلمات إِلَى النور } . الجار متعلق إما ب « أنزل » وإما ب « يتلو » .
وفاعل « يخرج » إما ضمير الباري - تعالى - المنزل ، أو ضمير الرسُول ، أو الذكر .
والمراد بالذين آمنوا من سبق له ذلك في علم الله .
وقوله : { مِنَ الظلمات إِلَى النور } . أي : من الكفر إلى الهدى والإيمان .
قال ابن عباس : نزلت في مؤمني أهل الكتاب ، وأضاف الإخراج إلى الرسُول؛ لأن الإيمان إنما حصل بطاعته .
قوله : { وَمَن يُؤْمِن } . هذا أحد المواضع التي رُوعي فيها اللفظ أولاً ثم المعنى ثانياً ، ثم اللفظ آخراً .
قوله : { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ } قرأ نافع وابن عامر : بالنون ، والباقون : بالياء .
وقوله : « خَالِدينَ » . قال بعضهم : ليس قوله « خالدين » فيه ضمير عائد على « من » إنما يعود على مفعول « يُدخِلْهُ » و « خَالِدينَ » حال منه والعامل فيه « يدخله » لا فعل الشَّرط .
هذه عبارة أبي حيَّان .
وفيها نظر ، لأن « خَالدِينَ » حال من مفعول « يُدْخلهُ » عند القائلين بالقول الأول ، وكان إصلاح العبارة أن يقال : حال من مفعول « يُدْخِلهُ » الثاني وهو « جنَّاتٍ » . والخلود في الحقيقة لأصحابها ، وكان ينبغي على رأي البصريين أن يقال : « خالدين هم فيها » لجريان الوصف على غير من هو له .
قوله : { قَدْ أَحْسَنَ الله } . حال ثانية ، أو حال من الضمير في « خَالِدينَ » ، فتكون متداخلة . ومعنى قوله : { قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً } ، أي : وسَّع له في الجنَّات .
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
قوله : { الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } .
يدّل على كمال قدرته وأنه يقدر على البعث والمحاسبة ، ولا خلاف في أن السماوات سبع بعضها فوق بعض بدليل حديث الإسراء وغيره ، وقوله : { وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } يعني سبعاً ، واختلف فيهن .
فقال الجمهور : إنها سبع أرضين مطبقاً بعضها فوق بعض بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض وفي كلِّ مكان من خلق الله .
وقال الضحاك : { وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } أي : سبعاً من الأرضين ، ولكنها مطبقة بعضها فوق بعض من غير فُتُوق بخلاف السماوات .
قال القرطبي : والأول أصحّ؛ لأن الأخبار دالة عليه كما روى البخاري وغيره ، روى أبو مروان عن أبيه : « أن كعباً حلف له بالله الذي فلق البحر لموسى أن صهيباً حدثه أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها : » اللَّهُمَّ ربَّ السَّمواتِ السَّبعِ ومَا أظْللْنَ ، وربَّ الأرضينَ السَّبْعِ وما أقْلَلْنَ ، وربَّ الشَّياطينِ وما أضللنَ ، وربَّ الرِّياحِ وما أذررْنَ ، إنَّا نَسْألُكَ خَيْر هذهِ القريةِ وخَيْرَ أهْلِهَا ، ونَعُوذُ بِكَ من شرِّها وشرِّ أهلهَا ، ومن شرِّ مَنْ فيهَا « » .
وروى مسلم عن سعيد بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « مَن ظَلَمَ قِيْدَ شِبْرٍ مِنَ الأرْضِ طُوِّقه يَوْمَ القيامَةِ من سَبْعِ أرضينَ » .
قال الماوردي : وعلى أنها سبع أرضين تختص دعوة أهل الإسلام بإهل الأرض العليا ولا يلزم فيمن غيرها من الأرضين وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز ، وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان :
أحدهما : أنهم يشاهدون من كل جانب من أرضهم ، ويستمدّون الضياء منها ، وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة . والثاني : أنهم لا يشاهدون السماء ، وأن الله تعالى خلق لهم ضياء يشاهدونه ، وهذا قول من جعل الأرض كرة .
وحكى الكلبي عن أبي صالحٍ ، عن ابن عباس : أنها سبع أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض يفرق بينها البحار ، وتظل جميعهم السماء ، فعلى هذا إن لم يكن لأحد من أهل الأرض وصول إلى أرض أخرى اختصت دعوة الإسلام بأهل هذه الأرض ، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى ، احتمل أن يلزمهم دعوة الإسلام لإمكان الوصول إليهم لأن فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه ، واحتمل ألا يلزمهم دعوة الإسلام؛ لأنها لو لزمتهم لكان النصُّ بها وارداً ، ولكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مأموراً بها .
قال بعض العلماء : السماء في اللغة عبارة عما علاكَ ، ففلك القمر بالنسبة إلى السماء الثانية أرض ، وكذلك السماء الثانية بالنسبة إلى الثالثة أرض وكذلك البقية بالنسبة إلى ما تحته سماء وبالنسبة إلى ما فوقه أرض ، فعلى هذا تكون السماوات السَّبع وهذه سبع سماوات وسبع أرضين .
قوله : { مِثْلَهُنَّ } . قرأ العامَّة : بالنصب ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه عطف على سبع سموات . قاله الزمخشري .
واعترض عليه أبو حيَّان بلزوم الفصل بين حرف العطف ، وهو على حرف واحد وبين المعطوف بالجار والمجرور ، وهو مختص بالضرورة عند أبي علي .
قال شهاب الدين : وهذا نظير قوله : { آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] عند ابن مالك ، وتقدم تحريره في سورة البقرة والنساء ، وهو عند قوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس } [ النساء : 58 ] ، { وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] .
والثاني : أنه منصوب بمقدر بعد الواو ، أي : خلق مثلهن من الأرض .
واختلف الناس في المثليَّة .
فقيل : مثلها في العدد .
وقيل : في بعض الأوصاف؛ فإن المثليَّة تصدق بذلك ، والأول المشهور .
وقرأ عاصم في رواية : « مثلُهنَّ » بالرفع على الابتداء ، والجار قبله خبره .
قوله : { يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ } .
يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون نعتاً لم قبله . قاله أبو البقاء .
وقرأ أبو عمرو في رواية ، وعيسى : « يُنَزِّلُ » بالتشديد ، أي : الله ، « الأمْرَ » مفعول به . والضميرُ في « بَيْنَهُنَّ » عائد على « السَّماواتِ والأرضين » عند الجمهور ، أو على السمواتِ والأرض عند من يقول : إنها أرض واحدة .
وقوله : { لتعلموا } : متعلق ب « خَلَقَ » أو ب « يَتَنَزَّل » .
والعامة : « لتعْلَمُوا » بتاء الخطاب ، وبعضهم بياء الغيبة .
فصل في تفسير الآية
قال مجاهدٌ : يتنزل الأمرُ من السماوات السبع إلى الأرضين السبع .
وقال الحسنُ : بين كل سماءين أرض وأمر .
والأمر هنا الوحي في قول مقاتل وغيره ، وعلى هذا يكون « بَيْنَهُنَّ » إشارة إلى بين هذه الأرض العليا التي هي أدناها ، وبين السابعة التي هي أعلاها .
وقيل : الأمر هنا القضاء والقدر ، وهو قول الأكثرين ، فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى : { بَيْنَهُنَّ } إشارة إلى ما بين الأرض السُّفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها .
وقيل : { يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ } بحياة بعض ، وموت بعض ، غِنَى قوم ، وفقر قوم .
وقيل : ما يُدَبِّرُ فيهن من عجيب تدبيره ، فينزل المطرُ ، ويخرج النبات ، ويأتي بالليل والنهار والصيف والشتاء ، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها فينقلهم من حال إلى حال .
قال ابن كيسان : وهذا على اتساعِ اللغةِ ، كما يقال للموت : أمر اللَّهِ ، وللريح والسَّحاب ونحوهما .
قال قتادةُ : في كل أرض من أرضه ، وسماء من سمائه خلق من خلقه ، وأمر من أمره وقضاء من قضائه .
{
لتعلموا أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، أي : من قدر على هذا الملك العظيم ، فهو على ما بينهما من خلقه أقدر من العفو ، والانتقام أمكنُ ، وإن استوى كل ذلك في مقدوره ومكنته ، { وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا } ، فلا يخرج شيء عن علمه وقُدرته .
ونصب « عِلْماً » على المصدر المؤكد؛ لأن « أحَاطَ » بمعنى « عَلِمَ » .
وقيل : بمعنى : وأن الله أحاط إحاطة .
روى الثعلبيُّ عن أبيِّ بن كعب قال : قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورَةَ { ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء } ماتَ علَى سُنَّةِ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم » .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
قوله تعالى : { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } ؟ .
قال ابن الخطيب : وجه تعلق هذه السورة بما قبلها ، وذلك لاشتراكهما في الأحكام المخصوصة بالنساء ، واشتراك الخطاب في الطلاق في أول تلك السورة يشترك مع الخطاب بالتحريم في أول هذه السورة؛ لأن الطلاق في أكثر الصور يشتمل على تحريم ما أحل الله .
وأما تعلّق أول هذه السورة بآخر السورة فلأن المذكور في آخر تلك السورة يدلّ على عظمة حضرة الله تعالى وعلى كمال قدرته وعلمه ، ولما كان خلق السماوات والأرض ، وما بينهما من العجائب والغرائب مما ينافي القدرة على تحريم ما أحلّ الله ، فلهذا قال : { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } .
فصل في سبب نزول الآية
ثبت في صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكثُ عند زينب بنت جحش ، فيشرب عندها عسلاً ، قالت : فتواطأت أنا وحفصة أنَّ أيّتنا دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها فلتقل : إني أجد ريح مغافير ، فدخل على إحداهما ، فقالت له ذلك ، فقال : بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ، ولن أعود له ، فنزل : { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } إلى قوله : { إِن تَتُوبَآ } لعائشة وحفصة » .
وعنها أيضاً قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل ، فكان إذا صلَّى العصر دار على نسائه ، فدخل على حفصة ، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس فسألت عن ذلك ، فقيل لي : أهدتْ لها امرأة من قومها عكة عسل ، فسقت منه رسول الله صلى الله عليه وسلم شربة ، فقلت : أما - والله - لنحتالن له ، فذكرت ذلك لسَوْدَة ، وقلت إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك ، فقولي له : يا رسول الله ، أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك : لا ، فقولي له : ما هذه الريحُ ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح؛ فإنه سيقول لك : سقتني حفصة شربة عسلٍ ، فقولي : جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرفُطَ ، وسأقول ذلك له ، وقوليه أنت يا صفيةُ ، فلما دخل على سودة قالت سودة : والذي لا إله إلا هو ، لقد كدت أن أبادئه بالذي قالت لي ، وإنه لعلى الباب ، فرقاً منك ، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : يا رسول الله ، أكلت مغافير؟ قال : لا ، قلت : فما هذه الريح؟ قال : سقتني حفصة شربة عسل ، قالت : جَرسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ ، فلما دخل عليّ قلت له مثل ذلك ، ثم دخل على صفيّة ، فقالت مثل ذلك ، فلما دخل على حفصة ، قالت له : يا رسول الله ، ألا أسقيك منه؟ قال : لا حاجة لي به ، قالت : تقول سودة : سبحان الله ، لقد حرمناه ، قالت : قلت لها : اسكتي » .
ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها النبي صلى الله عليه وسلم العسل حفصة ، وفي الأولى زينب .
وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس : أنه شربه عند سودة .
وقد قيل : إنما هي أمّ سلمة ، رواه أسباط عن السديِّ .
وقال عطاء بن أبي مسلم .
قال ابن العربي : « وهذا كله جهل ، أو تصور بغير علمٍ » .
فقال باقي نساه حسداً وغيرة لمن شرب ذلك عندها : إنا لنجد منك ريح المغافير .
والمغافير : بقلة أو صمغة متغيّرة الرائحة ، فيها حلاوة ، واحدها : مغفور .
وجَرَسَتْ : أكلت ، والعُرْفُطُ : نبت له ريح كريح الخمرِ .
وكان - عليه الصلاة والسلام - يعجبه أن يوجد منه الريح الطيبة ، ويكره الريح الخبيثة لمناجاة الملك .
وقال ابن عبَّاس : أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها ، والمرأة أم شريك ، قاله عكرمة .
وقيل : إن التي حرّم مارية القبطية ، وكان قد أهداها له المقوقس ملك « الإسكندرية » .
قال ابنُ إسحاق : هي من كورة « أنْصِنا » من بلد يقال له : « حفْن » ، فواقعها في بيت حفصة .
روى الدارقطني عن ابن عباسٍ عن عمر رضي الله عنهم قال : « دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده ، مارية في بيت حفصة ، فوجدته حفصة معها ، فقالت له : تدخلها بيتي؟ ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك ، فقال لها : لا تذكري هذا لعائشة ، فهي عليّ حرام إن قربتها ، قالت حفصة : فكيف تحرم عليك وهي جاريتك؟ فحلف لها ألا يقربها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » لا تَذْكُرِيهِ لأَحدٍ « ، فذكرته لعائشة ، فآلى لا يدخل على نسائه شهراً ، فاعتزلهن تسعاً وعشرين ليلةً ، فأنزل الله تعالى : { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } » الآية .
قال القرطبي : أصح هذه الأقوال أولها ، وأضعفها أوسطها .
قال ابن العربي : « أما ضعفه في السند ، فلعدم عدالة رواته ، وأما ضعفه في معناه فلأن رد النبي صلى الله عليه وسلم الموهوبة ليس تحريماً لها؛ لأن من رد ما وُهِبَ له لم يَحْرُمْ عليه ، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل ، وأما ما روي أنه حرم مارية القبطية ، فهو أمثل في السند ، وأقرب إلى المعنى ، لكنه لم يدون في الصحيح بل روي مرسلاً ، وإنما الصحيح أنه كان في العسل ، وأنه شربه عند زينب ، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة ، فحلف أن لا يشربه ، وأسر ذلك ، ونزلت الآية في الجميع » .
فصل في هل التحريم يمين؟
قوله تعالى : { لِمَ تُحرِّمُ } إن كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم ولم يحلف ، فليس ذلك بيمين ، ولا يحرم قول الرجل : « هذَا عليَّ حَرامٌ » شيئاً ، حاشا الزوجة .
وقال أبو حنيفة : أذا أطلق حمل على المأكول والمشروب ، دون الملبوس ، وكانت يميناً توجب الكفارة .
وقال زفر : هو يمين في الكل ، حتى في الحركة والسكون ، واستدل المخالف بأن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم العسل ، فلزمته الكفَّارة ، وقد قال تعالى : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فسماه يميناً .
قال القرطبي : ودليلنا قول الله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا } [ المائدة : 87 ] . وقوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } [ يونس : 59 ] .
فذم اللَّهُ المُحَرِّمَ للحلال ، ولم يوجب عليه كفارة .
قال الزجاجُ : ليس لأحدٍ أن يحرم ما أحلَّ الله ، ولم يجعل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يحرم إلا ما حرم الله عليه .
فمن قال لزوجته أو أمته ، أنت عليَّ حرام ، فإن لم يَنْوِ طلاقاً ، ولا ظهاراً فهذا اللفظ يوجب عليه كفارة يمين ، ولو خاطب بهذا اللفظ جمعاً من الزوجات والإماء ، فعليه كفارة واحدة .
ولو حرم على نفسه طعاماً ، أو شيئاً آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك ، ويجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة .
فصل في اختلافهم هل التحريم طلاق؟
إذا قال الرَّجُلُ لزوجته : « أنْتِ عليَّ حَرَامٌ » .
قال القرطبيُّ : « فيه ثمانية عشر قولاً :
أحدها : لا شيء عليه ، وبه قال الشعبي ، ومسروق ، وربيعة ، وأبو سلمة ، وأصبغ ، وهو عندهم كتحريم الماءِ ، والطعام ، قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ } [ المائدة : 87 ] . والزوجة من الطَّيِّبات ، ومما أحل الله .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ } [ النحل : 116 ] .
فما لم يحرمه الله ، فليس لأحد أن يحرمه ، ولا أن يصير بتحريمه حراماً ، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله : هو حرام عليَّ ، وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه ، وهو قوله : » واللَّهِ لا أقربُهَا بَعْدَ اليَوْمِ « .
وروى البغويُّ في تفسيره : أن حفصة لما أخبرت عائشة ، غضبت عائشةُ ، ولم تزل بنبي الله حتى حلف ألاَّ يقربها ، فقيل له : { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } ؟ أي : لم تمتنع منه بسبب اليمين ، يعني : أقدم عليه ، وكفِّر .
وثانيها : أنه يمين يكفرها ، قاله أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وعائشة - رضي الله عنهم - والأوزاعي ، وهو مقتضى الآية .
قال سعيدُ بن جبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ : إذا حرم الرجل عليه امرأته ، فإنما هي يمينٌ بكفرها .
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لَقَدْ كَان لكُمْ في رسُولِ اللَّهِ أسْوَةٌ حَسَنةٌ .
يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حرم جاريته ، فقال تعالى : { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } إلى قوله : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فكفَّر عن يمينه ، وصيَّر الحرام يميناً ، خرجه الدارقطني .
وثالثها : أنه يجب فيها كفَّارة ، وليست بيمين ، قاله ابن مسعود؛ لأن معنى اليمين عنده التحريم ، فوقعت الكفَّارة على المعنى ، والآية ترده .
ورابعها : هي ظهارٌ ، ففيها كفارة الظهارِ ، قاله عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق ، ولأنه إنما حرم وطؤها ، والظهار أقل درجات التحريم .
وخامسها : أنه إن نوى الظهار كان ظهاراً ، وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريماً مطلقاً وجبت كفارة يمين ، وإن لم يَنْوِ فعليه كفارة يمين ، قاله الشافعي .
وسادسها : أنها طلقة رجعية ، قاله عمر بن الخطاب ، والزهري ، وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون .
وسابعها : أنها طلقة بائنة ، قاله حماد بن أبي سليمان ، وزيد بن ثابت ، ورواه ابن خويزمنداد عن مالك؛ ولأن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة .
وثامنها : أنها ثلاث تطليقات . قاله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وزيد بن ثابت أيضاً ، وأبو هريرة؛ لأنه التحريم المتيقن .
وتاسعها : هي في المدخول بها ثلاث ، وينوي في المدخول بها . قاله علي بن زيد والحسن والحكم ، وهو مشهور مذهب مالك؛ لأن غير المدخول بها تبينها الطلقة ، وتحرمها .
وعاشرها : هي ثلاث ، ولا ينوي بحال ، ولا في محل ، وإن لم يدخل بها ، قاله عبد الملك في « المبسوطة » ، وبه قال ابن أبي ليلى؛ لأنه أخذ بالحُكْمِ الأعظم لهما؛ لأنه لو صرح بالثلاث لغير المدخول بها لنفذ .
وحادي عشرها : هي في التي لم يدخل بها واحدة ، وفي المدخول بها ثلاث ، قاله أبو مصعب ، ومحمد بن الحكم .
وثاني عشرها : أنه إن نوى الطَّلاق ، والظهار كان ما نوى ، وإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثاً ، فإن نوى اثنتين ألزمناه .
وثالث عشرها : أنه لا ينعقد نيّة الظِّهار ، وإنما يكون طلاقاً . قاله ابن القاسم .
ورابع عشرها : قال يحيى بن عمر : يكون طلاقاً ، فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها ، حتى يكفر كفارة الظِّهار .
وخامس عشرها : إن نوى الطلاق ، فما أراد من أعداده ، وإن نوى واحدة فهي رجعية ، وهو قول الشافعي - رضي الله عنه - وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين .
وساس عشرها : إن نوى ثلاثاً ، فثلاثاً ، وإن نوى واحدة ، فواحدة ، وإن نوى يميناً ، فهي يمينٌ ، وإن لم ينو شيئاً ، فلا شيء عليه ، وهو قول سفيان ، وبه قال الأوزاعي وأبو ثور ، إلا أنهما قالا : لم ينو شيئاً فهي واحدة .
وسابع عشرها : له نيتُهُ ولا يكون أقلّ من واحدة ، قاله ابن شهاب ، وإن لم ينو شيئاً لم يَكُنْ شيئاً .
قال ابن العربي : « ورأيت لسعيد بن جبير ، وهو :
الثامن عشر : أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهاراً ، ولست أعلم لها وجهاً ، ولا يبعد في المقالات عندي » .
قال القرطبي : وقد روى الدارقطني عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنه أتاه رجل فقال : إني جعلت امرأتي عليَّ حراماً ، فقال : كذبت ، ليست عليك بحرامٍ ، ثم تلا : { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } ؟ عليك أغلظ الكفَّارات عتق رقبة ، وقد قال جماعة من المفسرين : إنه لما نزلت هذه الآية كفر عن يمينه بعتق رقبة ، وعاد إلى مارية صلى الله عليه وسلم قاله زيد بن أسلم وغيره « .
هذا كله في الزوجة ، وأما الأمةُ [ فليس ] فيها شيء من ذلك إلاَّ أن ينوي العتق عند مالك ، وذهب عامة العلماء إلى أن عليهن كفَّارة يمين .
قال ابن العربي : » والصحيح أنها طلقة واحدة؛ لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله ، وهو الواحدة إلا أن يعدده ، فكذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالأكثر ، مثل أن يقول : أنت عليَّ حرامٌ إلا بعد زوج ، فهذا نصف في المراد « .
فصل في هذا الاستفهام
قال ابن الخطيب : قال صاحب » النظم « : قوله : » لِمَ تُحَرِّمُ « استفهام بمعنى الإنكار ، وذلك من اللَّه نهيٌ ، وتحريم الحلال مكروه؛ لأن الحلال لا يحرم إلا بتحريمِ اللَّهِ تعالى .
فإن قيل : قوله : { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } يوهم أن هذا الخطاب بطريق العتاب ، وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم ينافي ذلك لما فيه من التشريف والتعظيم؟ .
فالجوابُ : أن هذا الخطاب ليس بطريق العتاب ، بل بطريق التنبيه على أن ما صدر منه لم يكن على ما ينبغي .
فإن قيل : تحريم ما أحلَّ اللَّهُ غير ممكن ، فكيف قال : لم تحرم ما أحل الله؟ فالجواب : أن المراد بهذا التحريم هو الامتناع من الانتفاع بالأزواج؛ لاعتقاد كونه حراماً بعدما أحله الله تعالى ، فالنبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن الانتفاع بها مع اعتقاد كونها حلالاً؛ فإن من اعتقد أن هذا التحريم هو تحريم ما أحله الله - تعالى - فقد كفر ، فكيف يضاف إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - مثل هذا؟ .
قوله : { تَبْتَغِي } .
يجوز أن يكون حالاً من فاعل » تُحَرِّمُ « ، أي : لم تحرم مبتغياً به مرضات أزواجك .
ويجوز أن يكون تفسيراً ل » تُحَرِّمُ « .
ويجوز أن يكون مستأنفاً ، فهو جواب للسؤال .
و » مَرْضَاتَ « اسم مصدر ، وهو الرضا ، وأصله » مرضوة « .
والمصدر هنا مضاف إما للمفعول ، أو للفاعل ، أي : ترضي أنت أزواجك أو أن ترْضَيْنَ .
والمعنى : يفعل ذلك طلباً لرضاهن { والله غَفُورٌ } أي : لما أوجب المعاتبة { رَّحِيمٌ } برفع المُؤاخذةِ .
قال القرطبيُّ : » وقد قيل : إن ذلك كان ذنباً من الصَّغائر ، والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى ، وأنه لم تكن له صغيرة ، ولا كبيرة « .
قوله : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } .
{
فَرَضَ الله لَكُمْ } أي : بيَّن لكم ، كقوله تعالى : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } [ النور : 1 ] وقيل : قد أوجب الله .
وقال صاحب « النظم » : إذا وصل « فَرَضَ » ب « عَلَى » لم تحتمل غير الإيجاب كقوله : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ } [ الأحزاب : 50 ] ، وإذا وصل باللام احتمل الوجهين .
قوله : { تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } .
تحليل اليمين كفَّارتها ، أي : إذا أحللتم استباحة المحلوف عليه ، وهو قوله تعالى في سورة « المائدة » : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } [ الآية : 89 ] .
قال القرطبيُّ : وتحصل من هذا أن من حرم شيئاً من المأكول ، أو المشروب لم يحرم عليه؛ لأن الكفارة لليمين لا للتحريم ، وأبو حنيفة يراه يميناً في كل شيءٍ ، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرم ، فإذا حرم طعاماً فقد حلف على أكله ، أو أمة فعلى وطئها ، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية ، وإن نوى الظهار فظهار ، وإن نوى الطلاق فطلاق بائنٌ ، وكذلك إن نوى ثنتين أو ثلاثاً ، وإن قال : نويتُ الكذب دينَ فيما بينه وبين الله تعالى ، ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء ، وإن قال : كل حلال عليه حرام ، فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو ، وإلا فعلى ما نوى ، ولا يراه الشافعي يميناً ، ويكون في الكفارة وجهان :
قوله : { تَحِلَّةَ } .
مصدر « حَلّل » مضعفاً ، نحو « تكرمة » ، وهذان ليسا [ مقيسين ] ، فإن قياس مصدر « فَعَّلَ » « التفعيل » إذا كان صحيحاً غير مهموزٍ .
فأما المعتل اللام نحو « زكَّى » ومهموزها نحو : « نبَّأ » فمصدرهما « تَفْعِلَةٌ » نحو : « تَزْكِيَةٌ ، وتَنْبِئَةٌ » .
على أنه قد جاء « التفعيل » كاملاً في المعتل ، نحو : [ الرجز ]
4784 -
بَاتَتْ تُنَزِّي دَلْوَهَا تَنْزِيَّا ... وأصلها : « تَحْلِلَة » ك « تَكْرِمَة » فأدغمت ، وانتصابها على المفعول به .
فصل في تكفير النبي عن هذه اليمين
قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم كفر عن يمينه .
وقال الحسنُ : لم يكفر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه ، وما تأخر .
وكفارة اليمين في هذه السورة إنما أمر بها الأمة ، والأول أصح ، وأن المراد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم إن الأمة تقتدي به في ذلك ، وقد تقدم عن زيد بن أسلم أنه - عليه الصلاة والسلام - كفر بعتق رقبةٍ .
وعن مقاتل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبةً في تحريم مارية . والله أعلم .
فصل في الاستثناء في المين
قبل : قد فرض الله لكم تحليل ملك اليمين ، فبين في قوله تعالى : { مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله } [ الأحزاب : 38 ] ، أي : فيما شرعه له في النساء المحللات ، أي : حلل لكم ملك اليمين ، فلم تحرم مارية في نفسك مع تحليل الله إياها لك .
وقيل : تحلة اليمين الاستثناء ، أي : فرض اللَّهُ لكم الاستثناء المخرج عن اليمين ، ثم عند قوم يجوز الاستثناء من الأيمان متى شاء ، وإن تخَلَّلَ مُدَّةٌ .
وعند الجمهور لا يجوز إلا متصلاً ، فكأنه قال : « استثن بعد هذا فيما تحلف عليه » وتحلة اليمين تحليلها بالكفارة .
قال القرطبيُّ : « والأصل » تحللة « ، فأدغمت ، و » تَفْعِلَة « من مصادر » فَعَّل « كالتوصية والتسمية ، فالتحلية تحليل اليمين ، فكأن اليمين عقد ، والكفارة حلٌّ وقيل : التحلة الكفارة ، أي : أنها تحلُّ للحالف ما حرَّم على نفسه ، أي إذا كفر صار كمن لم يحلف » .
فصل
قال ابن الخطيب : وتحلة القسم على وجهين :
أحدهما : تحليله بالكفارة كما في هذه الآية .
وثانيهما : أن يستعمل بمعنى الشيء القليل وهذا هو الأكثر ، كما روي من قوله - عليه الصلاة والسلام - : « لَنْ تَلِجَ النَّارَ إلا تحِلَّةَ القسمِ » أي : زماناً يسيراً .
وقرىء : « كفَّارة أيمانِكُم » .
قوله : { والله مَوْلاَكُمْ } .
أي : وليّكم وناصركم في إزالة الحظر ، فيما تحرمونه على أنفسكم ، وبالترخيص لكم في تحليل أيمانكم بالكفَّارة ، وبالثواب على ما تخرجونه في الكفارة { وَهُوَ العليم الحكيم } .
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
قوله : { وَإِذَ أَسَرَّ } .
العامل فيه « اذكر » فهو مفعول به لا ظرف .
والمعنى : اذكر إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه ، يعني حفصة « حَدِيثاً » يعني تحريم مارية على نفسه واستكتامه إياها ذلك .
وقال الكلبيُّ : أسرَّ إليها أن أباك عائشة يكونان [ خليفتين ] من بعدي على أمَّتي .
وقال ابن عباس : أسرّ أمر الخلافة بعده إلى حفصة ، فذكرته حفصة .
روى الدارقطني في سننه عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { وَإِذْ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً } ، قال : « اطلعت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم مع أم إبراهيم ، فقال : » لا تُخبري عائِشَة « ، قال : فانطلقت حفصة فأخبرت عائشة فأظهره اللَّهُ عليه ، » فَعرَّف بعضهُ ، وأعْرَضَ عن بَعْضٍ « ، قال : أعرض عن قولها : » إن أباك وأباها يكُونانِ خَليفَتيْنِ مِنْ بَعْدِي « » ، كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينشر ذلك بين الناس .
{
فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } أخبرت عائشة لمصافاة كانت بينهما ، وكانتا متظاهرتين على زوجات النبي صلى الله عليه وسلم { وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ } أي : أطلعه الله على أنها قد نبأت به .
قوله : { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } .
أصل « نَبَّأ وأنْبَأ ، وأخبر وخبّر ، وحدّث » أن يتعدى لاثنين [ إلى ] الأول بنفسها ، وإلى الثاني بحرف الجر ، وقد يحذف الجار تخفيفاً ، وقد يحذف الأول للدلالة عليه ، وقد جاءت الاستعمالات الثلاثة في هذه الآية فقوله : { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } تعدى لاثنين ، حذف أولهما ، والثاني مجرور بالباء ، أي : « نَبَّأتْ بِهِ غيْرهَا » ، وقوله : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } ذكرهما ، وقوله : { مَنْ أَنبَأَكَ هذا } ذكرهما ، وحذف الجار .
وقرأ طلحة بن مصرف : « فلمَّا أنْبَأت » ، وهما لغتان « نَبَّأ وأنْبَأ » .
قوله : { عَرَّفَ بَعْضَهُ } .
قرأ الكسائي : بتخفيف الراء .
قال القرطبي : « وبها قرأ علي ، وطلحة بن مصرف ، وأبو عبد الرحمن السلمي وقتادة والكلبي والأعمش عن أبي بكر » .
قال عطاء : كان أبو عبد الرحم السلمي إذا قرأ عليه الرجل « عَرَّفَ » مشددة حصبه بالحجارة .
وقرأ الباقون : بتشديد الراء .
فالتثقيل يكون المفعول الأول معه محذوفاً ، أي « عرَّفَهَا بَعْضَه » ، أي : وقفها عليه على سبيل العَتْب .
{
وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } ، تكرماً منه وحلماً ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم يدل عليه قوله تعالى : { وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } ، أي : لم يعرفها إياه ، ولو كانت مخففة لقال في ضده : وأنكر بعضاً .
وأما التخفيف : فمعناه جازى على بعضه ، وأعرض عن بعض .
قال الفرَّاءُ : وتأويل قوله - عز وجل - : « عَرَفَ » بالتخفيف ، أي : غضب فيه ، وجازى عليه ، كقولك لمن أساء إليك : « لأعرِفنَّ لك ما فعلت » أي : لأجَازِينَّك عليه .
فصل في نزول الآية
قال المفسرون : إنه أسرَّ إلى حفصة شيئاً فحدثت به غيرها ، فطلقها مجازاة على بعضه ، ولم يؤاخذها بالباقي ، وهو من قبيل قوله تعالى : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله } [ البقرة : 197 ] أي : يجازيكم عليه ، وقوله : { أولئك الذين يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ } [ النساء : 63 ] ، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل؛ لأن الله - تعالى - أطلعه على جميع ما أنبأت به غيرها؛ لقوله تعالى : { وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ } .
وقرأ عكرمة : « عَرَّافَ » بألف بعد الراء .
وخرجت على الإشباع ، كقوله : [ الرجز ]
4785 -
أعُوذُ باللَّهِ مِنَ العَقْرَابِ ... وقيل : هي لغة يمانية ، يقولون : « عراف زيد عمراً » .
وإذا ضمنت هذه الأفعال الخمسة معنى « أعلم » تعدت لثلاثة .
وقال الفارسي : « تعدَّت بالهمزة أو التضعيف » .
وهو غلط ، إذا يقتضي ذلك أنها قبل التضعيف ، والهمزة كانت متعدية لاثنين ، فاكتسبت بالهمزة ، أو التضعيف ثالثاً ، والأمر ليس كذلك اتفاقاً .
فصل في تفسير الآية
قال السديُّ : عرف بعضه ، وأعرض عن بعض تكرماً .
وقال الحسنُ : ما استقصى كريم قط ، قال الله تعالى : { عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } .
وقال مقاتل : يعني أخبرها ببعض ما قالت لعائشة ، وهو قول حفصة لعائشة : إن أبا بكرٍ وعمر سيملكان بعده .
قال المفسرون : إن النبي صلى الله عليه وسلم جازى حفصة ، بأن طلقها طلقة واحدة ، فلما بلغ ذلك عمر ، فقال عمر : لو كان في آل الخطاب خير لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك ، فأمره جبريل بمراجعتها ، وشفع فيها ، واعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهراً ، وقعد في مشربة مارية أم إبراهيم ، حتى نزلت آية التخيير كما تقدم .
وقيل : هم بطلاقها ، حتَّى قال له جبريل : لا تطلقها ، فإنها صوَّامة قوَّامة ، وإنها من نسائك في الجنة ، فلم يطلقها .
قوله : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } ، أي : أخبر حفصة بما أظهره الله عليه ، قالت : { مَنْ أَنبَأَكَ هذا } يا رسول الله عني ، فظنت أن عائشة أخبرته ، فقال - عليه السلام - : { نَبَّأَنِيَ العليم الخبير } الذي لا يخفى عليه شيء . وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الكراهية في وجه حفصة حين رأته مع مارية أراد أن يتراضاها فأسرَّ إليها شيئين : تحريم الأمة على نفسه ، وتبشيرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وفي أبيها عمر ، فأخبرت حفصة بذلك عائشة ، وأطلع اللَّهُ نبيه عليه فعرف حفصة ، وأخبرها بما أخبرت به عائشة ، وهو تحريم الأمة { وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } يعني عن ذكر الخلافة ، كره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن ينشر ذلك بين الناس ، { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } أي : أخبر حفصة بما أظهره اللَّهُ عليه ، قالت حفصة : { مَنْ أَنبَأَكَ هذا } أي : من أخبرك بأني أفشيت السِّرَّ؟ « قال : { نَبَّأَنِيَ العليم الخبير } » .
قال ابن الخطيب : وصفه بكونه خبيراً بعدما وصفه بكونه عليماً لما أنّ في الخبير من المبالغة ما ليس في العليم .
قوله : { إِن تَتُوبَآ إِلَى الله } .
شرط في جوابه وجهان :
أحدهما : هو قوله : { فَقَدْ صَغَتْ } .
والمعنى : إن تتوبا فقد وجد منكما ما يوجب التَّوبة ، وهو ميل قلوبكما عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حب ما يحبه ، وكراهة ما يكرهه .
و « صَغَتْ » مالت وزاغت عن الحق .
ويدل له قراءة ابن مسعود : « فقد زاغت » .
قال القرطبيُّ : « وليس قوله { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } جزاء للشرط؛ لأن هذا الصغو كان سابقاً ، فجواب الشرط محذوف للعلم به ، أي : إن تتوبا كان خيراً لكما؛ إذ قد صغت قلوبكما » .
والثاني : أن الجواب محذوف ، وتقديره : فذلك واجب عليكما ، أو فتاب الله عليكما قاله أبو البقاء ، ودلّ على المحذوف { فَقَدْ صَغَتْ } ؛ لأن إصغاء القلب إلى ذلك ذنب .
قال شهاب الدين : « وكأنه زعم أن ميل القلب ذنب ، وكيف يحسن أن يكون جواباً وقد غفل عن المعنى المصحح لكونه جواباً » .
وقوله : { قُلُوبُكُمَا } من أفصح الكلام حيث أوقع الجمع موقع المثنى استثقالاً لمجيء تثنيتين لو قيل : « قَلبَاكُمَا » ، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين من اثنين جمعوهما؛ لأنه لا يشكل . وقد تقدم هذا في آية السرقة في المائدة .
ومن مجيء التثنية قوله : [ الكامل ]
4786 -
فَتَخَالسَا نَفْسَيْهِمَا بنَوافِذٍ ... كنَوافِذِ العُبُطِ الَّتِي لا تُرْقَع
والأحسن في هذا الباب الجمع ، ثم الإفراد ، ثم التثنية .
وقال ابن عصفور ، لا يجوز الإفراد إلاَّ في ضرورة؛ كقوله : [ الطويل ]
4787 -
حَمَامَةَ بَطْنِ الواديَيْنِ تَرَنَّمِي ... سَقاكِ من الغُرِّ الغَوادِي مَطيرهَا
وتبعه أبو حيان ، وغلط ابن مالك في كونه جعلهُ أحسن من التثنية .
وليس بغلط لكراهةِ توالي تثنيتين مع أمن اللبس .
وقوله : « إنْ تَتُوبَا » فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب .
فصل في المراد بهذا الخطاب .
المراد بهذا الخطاب أُمَّا المؤمنين بنتا الشيخين الكريمين : عائشة وحفصة - رضي الله عنهما - حثّهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما } أي : زاغت ومالت عن الحق ، وهو أنهما أحبتا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته واجتناب العسلِ ، وكان صلى الله عليه وسلم يحب العسل والنِّساء .
قال ابن زيد رضي الله عنه مالت قلوبكما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده ، فسرهما ما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقيل : فقد مالتْ قُلوبكُمَا إلى التوبة .
قوله : { وَإِن تَظَاهَرَا } .
أصله : « تَتَظاهَرَا » فأدغم ، وهذه قراءة العامة .
وقرأ عكرمة : « تَتَظَاهَرَا » على الأصل .
والحسن وأبو رجاء ، ونافع ، وعاصم في رواية عنهما : بتشديد الظَّاء والهاء دون ألف ، وكلها بمعنى المعاونةِ من الظهر؛ لأنه أقوى الأعضاء وأجلها .
فصل في معنى تتظاهرا
معنى تتظاهرا ، أي : تتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمعصية والإيذاء .
روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مكثت سنةً ، وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية ، فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجاً فخرجت معه ، فلما رجع وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له ، فوقفت ، حتى فرغ ثم سرت معه بإداوة ثم جاء فسكبت على يديه منها فتوضَّأ ، فلما رجع قلت : يا أمير المؤمنين ، من اللَّتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم ؟ .
فقال : تلك حفصة وعائشة ، قال : فقلت له : والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة ، فما أستطيع هيبةً لك ، قال : فلا تفعل ، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه فإن كنت أعلمه أخبرتك . وذكر الحديث .
قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ } .
يجوز أن يكون « هو » فصلاً ، و « مَولاهُ » خبره والمبتدأ جملة « إنَّ » .
والمعنى : الله وليُّه وناصره ، فلا يضره ذلك التَّظاهر منهما .
قوله : { وَجِبْرِيلُ } .
يجوز أن يكون عطفاً على اسم الله تعالى .
والمعنى : الله وليه ، وجبريل وليه ، فلا يوقف على « مَولاهُ » ويوقف على جبريل .
ويكون { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } مبتدأ ، « والملائكة » معطوفاً عليه ، والخبر « ظَهِيرٌ » ورفع « جبريل » نظراً إلى محل اسم « إن » وذلك بعد استكمال خبرها وقد تقدم مذاهب الناس في ذلك .
ويكون « جِبْريلٌ » وما بعده داخلين في الولاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون « جبريل » ظهيراً له بدخوله في عموم الملائكة .
ويكون « الملائكةُ » مبتدأ ، و « ظهيرٌ » خبره ، وأفرد لأنه بزنة « فَعِيل » .
قال القرطبيُّ : « هو بمعنى الجمع » .
قال أبو علي : قد جاء « فعيل » للكثرة ، قال تعالى : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } [ المعارج : 11 ] . ومعنى : « ظهيرٌ » أي : أعوان ، وهو في معنى ظهراء كقوله تعالى : { وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] .
ويجوز أن يكون الكلام تم عند قوله « مَولاهُ » ، ويكون « جبريلُ » مبتدأ ، وما بعده عطف عليه ، و « ظهيرٌ » خبر الجميع ، فتختص الولاية بالله ، ويكون جبريل قد ذكر في المعاونة مرتين ، مرة بالتنصيصِ عليه ، ومرة بدخوله في عموم الملائكةِ .
وهذا عكس ما في « البقرة » في قوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [ البقرة : 98 ] ، فإنه ذكر الخاص بعد العام تشريفاً له ، وهناك ذكر العام بعد الخاص ، ولم يذكر الناس إلا القسم الأول .
وفي « جِبْريل » لغات تقدم ذكرها في « البقرة » .
قوله : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } .
قال المسيِّبُ بن شريكٍ : { وَصاَلِحُ الْمُؤْمِنِينَ } أبو بكر .
وقال سعيد بن جبيرٍ : هو عمر .
وقال عكرمة : أبو بكر وعمر .
وروى شقيق عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } : أبو بكر وعمر » .
وعن أسماء بنت عميسٍ قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنينَ } : علي بن أبي طالب » .
وقيل : خيار المؤمنين ، و « صالح » : اسم جنس ، كقوله تعالى : { والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } [ العصر : 1 ، 2 ] . قاله الطبريُّ .
وقال العلاءُ بنُ زياد ، وقتادة ، وسفيان : هم الأنبياء .
وقال ابن زيد : هم الملائكة .
وقال السديُّ : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } ليس لفظ الواحدِ ، وإنما هم « صَالِحُو المُؤمِنينَ » فأضاف الصالحين إلى المؤمنين ، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى .
فصل في هذا التظاهر
قيل : كان التَّظاهر منهما في التحكيم على النبي صلى الله عليه وسلم في النفقة ، ولهذا آلى منهن شهراً واعتزلهن .
وروى مسلم عن جابر بن عبد الله قال : « دخل أبو بكرٍ يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فوجد النَّاس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحدٍ منهم ، قال : فأذن لأبي بكر فدخل ، ثُمَّ أقبل عمرُ ، فاستأذن ، فأذن له ، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه ، واجماً ساكتاً ، قال : فلأقولن شيئاً أضحكُ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت بنت خارجة تسألني النفقة ، فقمت إليها ، فوجأت عنقها فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : » هَنُّ حَولِي كما تَرَى يَسْألنَنِي النَّفقَة « فقام أبو بكر إلى عائشة رضي الله عنها يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها ، كلاهما يقول : تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده ، فقلن : والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده ، ثم اعتزلهن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً ، أو تسعاً وعشرين ، ثم نزلت عليه : { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ } [ الأحزاب : 28 ] حتى بلغ { لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } [ الأحزاب : 29 ] » الحديث .
قوله : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } .
الظَّاهر أنه مفرد ، ولذلك كتب بالحاء دون واو الجمع .
وجوزوا أن يكون جمعاً - بالواو والنون - حذفت النون للإضافة ، وكتب دون واو اعتباراً بلفظه ، لأن الواو ساقطة لالتقاء الساكنين ، نحو : { وَيَمْحُ الله الباطل } [ الشورى : 24 ] . و { يَدْعُ الداع } [ القمر : 6 ] ، و { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] ، إلى غير ذلك .
ومثل هذا ما جاء في الحديث : « أهْلُ القُرآنِ أهْلُ اللَّه وخاصَّتهُ » .
قالوا : يجوز أن يكون مفرداً ، وأن يكون جمعاً ، كقوله : { شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } [ الفتح : 11 ] وحذفت الواو لالتقاء الساكنين لفظاً .
فإذا كتب هذا ، فالأحسن أن يكتب بالواو لهذا الغرض ، وليس ثمَّ ضرورة لحذفها كما في مرسوم الخطِ .
وجوز أبو البقاء في « جبريل » أن يكون معطوفاً على الضمير في « مولاهُ » ، يعني المستتر ، وحينئذٍ يكون الفصل بالضمير المجرور كافياً في تجويز العطف عليه .
وجوز أيضاً : أن يكون « جبريل » مبتدأ ، و « صالحُ » عطف عليه ، فالخبرُ محذوفٌ ، أي : مواليه .
فصل في المراد بصالح المؤمنين
قال ابن عباس رضي الله عنهما : أراد بقوله « وصَالحُ المؤمنين » يعني أبا بكر وعمر مواليين للنبي صلى الله عليه وسلم على من عاداه ، وناصرين له : وهو قول المقاتلين .
وقال الضحاكُ : خيار المؤمنين .
وقيل : كل من آمن وعمل صالحاً .
وقيل : كل من برىء من النفاقِ .
وقيل : الأنبياء .
وقيل : الخلفاء .
وقيل : الصحابة .
قوله : { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ } .
قيل : كل « عَسَى » في القرآن واجب إلا هذا .
وقيل : واجب ، ولكن الله - عزَّ وجلَّ - علقه بشرط ، وهو التطليق ولم يطلقهن .
قال النحويون : « إنْ طلَّقكُنَّ » شرط معترض بين اسم « عَسَى » وخبرها ، وجوابه محذوفٌ ، أو متقدم ، أي « إنْ طلقَكُنَّ فَعَسى » .
وأدغم أبو عمرو القاف في الكاف على رأي بعضهم .
قال : وهو أولى من { يَرْزُقُكمْ } [ يونس : 31 ] ، ونحوه لثقل التأنيثِ .
قوله : { أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً } .
قرىء : مخففاً ومشدداً ، كما تقدم في « الكهف » .
والتبديل والإبدال بمعنى كالتنزيل والإنزال .
وقوله : { أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ } .
لأنكن لو كنتن خيراً منهن ما طلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال معناه السديُّ .
وقيل : هذا وعد من الله تعالى لرسوله لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه في الآخرة نساء خيراً منهن ، وكان الله عالماً بأنه لا يطلقهن ، ولكن أخبر عن قدرته على أنه إن طلقهن أبدله خيراً منهن تخويفاً لهن ، كقوله تعالى : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } [ محمد : 38 ] وهو إخبار عن القدرة وتخويف لهم ، لا أن في الوجودِ من هو خير من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
فصل في الكلام على لفظ مسلمات
قوله : { مُسْلِمَاتٍ } إلى آخره . إما نعت أو حال أو منصوب على الاختصاص .
قال سعيد بن جبير : يعني مخلصاتٍ .
وقيل : مسلمات لأمر الله تعالى وأمر رسوله خاضعات لله بالطاعة { مُّؤْمِنَاتٍ } أي : مصدقات بتوحيد الله .
وقيل : مصدقات بما أمرنَ به : ونهين عنه { قَانِتَاتٍ } مطيعات ، والقنوت : الطاعة .
وقيل : داعياتٍ بتوحيد الله .
وقيل : مصليات « تائبات » أي : من ذنوبهن ، قاله السديُّ .
وقيل : راجعاتٍ إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تاركاتٍ لمحاب أنفسهن ، { عَابِدَاتٍ } أي : كثيرات العبادةِ لله تعالى .
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : كل عبادة في القرآن فهو التوحيد { سَائِحَاتٍ } أي : صائمات ، قاله ابن عبَّاس والحسن وابن جبير .
وقال زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن ويمان : مهاجرات .
قال زيد : وليس في أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة . والسياحة الجولان في الأرض .
وقال الفرَّاء والقتبي وغيرهما : سمي الصائمُ سائحاً؛ لأن السائحَ لا زاد معه ، وإنما يأكل من حيث وجد الطعام .
وقيل : يسحن معه حيثما ساح .
وقيل : ذاهبات في طاعة الله تعالى ، من ساح الماءُ إذا ذهب . وقد مضى في سورة براءة .
وقرأ عمرو بن فائد : « سَيِّحاتٍ » .
فصل في الكلام على الآية .
قال ابن الخطيب : فإن قيل : كيف تكون المبدلات خيراً منهن ، ولم يكن على وجه الأرض نساء خيراً من أمهات المؤمنين؟ .
فالجواب : إذا طلقهن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لعصيانهن له ، وإيذائهن إياه كان غيرهن من الموصوف بهذه الصفات مع الطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم خيراً منهن .
فإن قيل : قوله : { مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ } يوهم التَّكرارَ؛ لأن المسلمات والمؤمنات سواء؟ فالجواب : الإسلام هو التصديق باللسان ، والإيمان التصديق بالقلب ، وقد لا يجتمعان فقوله { مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ } تحقيقاً لاجتماعهما .
قوله : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } .
إنما توسطت الواو بين ثيبات وأبكاراً لتنافي الوصف دون سائر الصفات .
و « ثَيِّباتٍ » ونحوه لا ينقاس؛ لأنه اسم جنس مؤنث ، فلا يقال : نساء حورات ، ولا رأيت عينات .
و « الثَّيِّبُ » وزنها « فَيعِل » من « ثاب يثوب » أي : رجع ، كأنها ثابت بعد زوال عذرتها .
وأصله : « ثَيْوب » ك « سيِّد وميِّت » أصلهما : « سَيْود ومَيْوت » على الإعلال المشهور .
والمعنى : منهن ثيّب ، ومنهن بِكْر .
قيل : إنما سميت ثيِّباً؛ لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها ، وإلى غيره إن فارقها .
وقيل : لأنها ثابت إلى بيت أبويها .
قال القرطبي : « والأول أصح؛ لأن ليس كل ثيبت تعود إلى زوج ، وأما البكر : فهي العذراء ، سميت بكراً؛ لأنها على أول حالتها التي خلقت بها » .
قال ابن الخطيب : فإن قيل : ذكر الثيبات في مقام المدحِ ، وهي من جملة ما يقل رغبة الرجال فيهن؟ .
فالجوابُ : يمكن أن يكون بعض الثيبات خيراً بالنسبة إلى البعض من الأبكار عند الرسول - عليه الصلاة والسلام - لاختصاصهن بالمال ، والجمال ، أو النسب ، أو المجموع ، وإذا كان كذلك ، فلا يقدح ذكر الثَّيِّب في المدح ، لجواز ذلك .
وقال الكلبيُّ : أراد بالثيِّب مثل : آسية امرأة فرعون ، وبالبكر مثل : مريم ابنة عمران .
قال القرطبيُّ : « وهذا إنما يمشي على قول من قال : إن التبديل وعد من الله لنبيه لو طلقهن في الدنيا زوجه في الآخرة خيراً منهن ، والله أعلم » .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } .
«
قُوْا » أمر من الوقاية ، فوزنه « عُو »؛ لأن الفاء حذفت لوقوعها في المضارع بين ياء وكسرة ، وهذا محمول عليه ، واللام حذفت حملاً له على المجزوم؛ لأن أصله « أوقيوا » ك « اضربوا » فحذفت الواو التي هي فاء لما تقدم ، واستثقلت الضمة على الياء ، فالتقى ساكنانِ ، فحذفت الياء؛ وضم ما قبل الواو لتصح .
وهذا تعليل البصريين .
ونقل مكي عن الكوفيين : أن الحذف عندهم فرقاً بين المتعدي ، والقاصر ، فحذفت الواو التي هي فاء في « يَقِي ، ويَعِد » لتعديهما ، ولم يحذف من « يَوْجَلُ » لقصوره .
قال : « ويرد عليهم نحو : يَرمِ ، فإنه قاصر ، ومع ذلك فقد حذفوا فاءه » .
قال شهاب الدين : وفي هذا نظر؛ لأن « يَوْجَلُ » لم تقع فيه الواو بين ياء وكسرة لا ظاهرة ولا مضمرة .
وقلت : ولا مضمرة ، تحرُّزاً من « تَضَع ، ويَسَع ، ويهب » .
وقرأ بعضهم : « وأهْلُوكُمْ » .
وخرجت على العطف على الضَّمير المرفوع ب « قُوْا » ، وجوز ذلك الفصل بالمفعول قال الزمخشريُّ بعد ذكره القراءة وتخريجها : فإن قلت : أليس التقديرُ : « قُوا أنفُسكُمْ وليَقِ أهلوكم أنفسهم »؟ .
قلت : لا ، ولكن المعطوف في التقدير مقارن للواو ، و « أنْفُسَكُمْ » واقع بعده ، كأنه قيل : قوا أنتم ، وأهلوكم أنفسكم ، لما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه ، فجعلت ضميرهما معاً على لفظ المخاطب .
قوله : « ناراً » مفعول ثانٍ ، « وقُودُهَا النَّاسُ » صفة ل « نَاراً » وكذلك « عَليْهَا مَلائكةٌ » ، ويجوز أن يكون الوصف وحده « عَليْهَا » ، و « مَلائِكَةٌ » فاعل به ، ويجوز أن يكون حالاً لتخصيصها بالصفة الأولى ، وكذلك { لاَّ يَعْصُونَ الله } .
وتقدم الخلاف في واو { وَقُودُهَا } [ البقرة : 24 ] ضمًّا وفتحاً في « البقرة » .
فصل في معنى الآية
قال الضحاك : المعنى : قو أنفسكم؛ وأهلوكم ، فليقوا أنفسهم ناراً .
وروي عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : قوا أنفسكم وأمروا أهليكم بالذكر ، والدعاء ، حتى يقيهم الله بكم .
وقال علي - رضي الله عنه - وقتادة ومجاهدٌ : قوا أنفسكم بأفعالكم ، وقوا أهليكم بوصيتكم .
قال ابن العربي : وهو الصحيحُ ، والفقهُ الذي يعطيه العطفُ الذي يقتضي التشريك بين المعطوف؛ والمعطوف عليه في معنى الفعل .
كقوله : [ الرجز ]
4788 -
عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً .. .
وكقوله : [ مجزوء الكامل ]
4789 -
ورَأيْتُ زَوْجَكِ فِي الوَغَى ... مُتَقلِّداً سَيْفاً ورُمْحا
فعلى الرجل أن يصلح نفسه بالطاعة ، ويصلح أهله صلاح الراعي للرعيَّة .
قال - عليه الصلاة والسلام - :
«
كُلُّكُمْ راعٍ ، وكُلُّكُمْ مسْئُولٌ عن رعيَّتِهِ ، فالإمامُ الَّذي على النَّاسِ راعٍ وهُوَ مَسْئُولٌ عَنهُمْ ، والرَّجلُ راعٍ على أهْلِ بَيْتهِ وهُوَ مسْئُولٌ عَنْهُمْ » .
قال الحسن في هذه الآية : يأمرهم ، وينهاهم .
وقال بعض العلماء لما قال : « قُو أنفُسَكُمْ » : دخل فيه الأولاد؛ لأن الولد بعض منه كما دخلوا في قوله تعالى : { وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } [ النور : 61 ] ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : « إنَّ أحلَّ مَا أكلَ الرَّجلُ من كسْبِهِ ، وإنَّ ولدهُ مِنْ كسْبِهِ » فلم يفرد بالذّكر إفراد سائر القرابات ، فيعلمه الحلال والحرام ، ويجنبه المعاصي والآثام إلى غير ذلك من الأحكام .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : « حَقُّ الولدِ على الوالِدِ ، أنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ ، ويُعلِّمهُ الكِتابَةَ ، ويزَوِّجهُ إذا بلَغَ » .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : « مَا نَحَلَ والدٌ ولَداً أفْضَل مِنْ أدبٍ حسنٍ » .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : « مُرُوا أبْناءَكُمْ بالصَّلاة لسَبْعٍ؛ واضْربُوهُمْ على تَرْكِهَا لعشْرٍ ، وفرِّقُوا بَيْنَهُم في المَضَاجِعِ » .
قال بعض العلماء : ويخبر أهله بوقت الصلاة ، ووجوب الصيام .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : « رَحِمَ اللَّهُ امْرءاً قَامَ مِنْ اللَّيلِ يُصلِّي ، فأيقظَ أهلَهُ ، فإنْ لَمْ تَقُم رشَّ على وجهِهِا المَاءَ ، ورحِمَ اللَّهُ امْرَأةً قَامَتْ في اللَّيْلِ تُصلِّي ، وأيْقَظَتْ زوْجَهَا ، فإنْ لم يَقُمْ رشَّتْ على وجْهِهِ المَاء » .
وذكر القشيريُّ قال : « فلما نزلت هذه الآية ، قال رجلٌ : يا رسول الله ، نقي أنفسنا ، فكيف لنا بأهلينا؟ .
فقال : » تنهونهم عما نهاكم الله ، وتأمرونهم بما أمر الله « » .
وقال مقاتلٌ : ذلك حق عليه في نفسه ، وولده ، وأهله ، وعبيده ، وإمائه .
قال إلكيا : فعلينا تعليم أولادنا ، وأهلينا الدين ، والخير ، وما لا يستغنى عنه من الأدب .
وهو قوله تعالى : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا } [ طه : 132 ] ، وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } [ الشعراء : 14 ] .
وتقدم الكلام على قوله : { وَقُودُهَا الناس والحجارة } في « البقرة » .
فصل في مخاطبة الله تعالى للمؤمنين
قال ابن الخطيب : فإن قيل : إنه - تعالى - خاطب المشركين في قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة } [ البقرة : 24 ] ، ثم قال : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } فما معنى مخاطبته للمؤمنين بذلك؟ .
فالجوابُ : أن الفساق ، وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكُفَّار ، فإنهم مع الكُفَّار في دار واحدة ، فقيل للذين آمنوا : « قُوا أنفُسَكُمْ » باجتناب الفسوقِ ومجاورة الذين أعدت لهم هذه النار ، ولا يبعد أن يأمرهم بالتوقِّي عن الارتداد .
قوله : { عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ } .
يعني الزَّبَانية ، غلاظ القلوب لا يرحمون إذا استرحموا ، خلقوا من الغضب ، وحبب إليهم عذاب الخلقِ ، كما حبب لبني آدم الطعام ، والشراب « شِدادٌ » ، أي : شداد الأبدان وقيل : غلاظ الأقوال شدادُ الأفعالِ .
وقيل : « غِلاظٌ » في أخذهم أهل النار « شِدادٌ » عليهم ، يقال : فلان شديد على فلان ، أي : قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب .
وقيل : أغلاظ أجسامهم ضخمة « شِدادٌ » أي : أقوياء .
قال ابن عبَّاس : ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة .
وقال - عليه الصلاة والسلام - في خزنة جهنم : « مَا بَيْنَ منْكبَيْ أحدهِمْ كَمَا بَيْنَ المَشْرقِ والمَغْربِ » .
قوله : { لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ } .
يجوز أن تكون « ما » بمعنى « الذي » ، والعائد محذوف ، أي : « مَا أمَرَهُمُوهُ » ، والأصل : « بِهِ » ، لا يقال : كيف حذف العائد المجرور ، ولم يجر الموصول بمثله؟ لأنه يطرد حذف هذا الحرف فلم يحذف إلا منصوباً .
وأن تكون مصدرية ، ويكون محلها بدلاً من اسم الله بدل اشتمال ، كأنه قيل : لا يعصون أمره .
وقوله : { وَيَفْعَلُونَ } .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : أليست الجملتان في معنى واحد؟ .
قلت : لا؛ لأن الأولى معناها : أنهم يقبلون أوامره ويلتزمونها .
والثانية : معناها أنهم يؤدّون ما يؤمرون به لا يتثاقلون عنه ، ولا يتوانون فيه » .
وقال القرطبي : { لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ } أي : لا يخالفونه في أمر من زيادة ، أو نقصان { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } في وقته لا يقدمونه ، ولا يؤخرونه .
وقيل : أي : لذتهم في امتثال أمر اللَّهِ ، كما أن سرور أهل الجنة في الكون في الجنة ، ذكره بعض المعتزلة ، وعندهم أنه يستحيل التكليف غداً ، ولا يخفى معتقد أهل الحقِّ في أن الله يكلف العبد اليوم وغداً ، ولا ينكر التكليف غداً في حق الملائكةِ ، ولله أن يفعل ما يشاء .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
أي : فإن عذركم لا ينفع ، وهذا النهي لتحقيق اليأس { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا ، ونظيره : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ } [ الروم : 57 ] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً } .
فرأ الجمهور : بفتح نون « نَصُوحاً » .
فهي صيغة مبالغة أسند النصح إليها مجازاً ، وهي من : نصح الثوب ، أي : خاطه فكأنه التائب يرقع ما حرقه بالمعصية .
وقيل : هي من قولهم : عسل ناصح ، أي : خالص .
وقرأ أبو بكر : بضم النون .
وهو مصدر « نَصَحَ » ، يقال : نصح نصحاً ونصوحاً ، نحو : كَفَر كُفْراً وكُفُوراً ، وشَكَرَ شُكْراً وشُكُوراً .
وفي انتصابه أوجه :
أحدها : أنه مفعول له ، أي : لأجل النصح الحاصل نفعه عليكم .
والثاني : أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف ، أي : ينصحهم نصحاً .
الثالث : أنه صفة لها ، إما على المبالغة على أنها نفس المصدر ، أو على حذف مضاف ، أي : ذات نصوحٍ .
وقرأ زيد بن عليّ : « تَوْباً » دون تاء .
فصل في تعلق هذه الآية بقوله يا أيها الذين كفروا
قال ابن الخطيب : وجه تعلق هذه الآية بقوله : { ياأيها الذين كَفَرُواْ } أنه - تعالى - نبّههم على رفعِ العذاب في ذلك اليوم ، بالتوبة في الدنيا ، إذ في ذلك اليوم لا تفيدُ التوبةُ .
فصل
أمر بالتَّوبة ، وهي فرض على الأعيان في كُلِّ الأحوال ، وكُلِّ الأزمان واختلفوا في التوبة النَّصُوح :
فقيل : هي التي لا عودة بعدها ، كما لا يعود اللَّبن إلى الضرع .
روي عن عمر ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، ورفعه معاذٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال قتادة : « النَّصُوحُ » الصَّادقة الخالصة .
وقيل : الخالصة . يقال : نصح له ، أي : أخلص له القول .
وقال الحسن : « النَّصُوحُ » أن يبغض الذنب الذي أحبه ، ويستغفر منه إذا ذكره .
وقيل : هي التي لا يثق بقبولها ، ويكون على وجلٍ منها .
وقال الكلبيُّ : التوبة النَّصوح ، الندم بالقلب ، والاستغفار باللسان ، والإقلاع عن الذنب ، والعزم على ألاَّ يعود .
وقيل غير ذلك .
فصل في الأشياء التي يُتَاب منها
قال بعض العلماءِ : الذنبُ الذي لا يكونُ منه التوبةُ لا يخلو ، إما أن يكون حقاً لله أو للآدميين ، فإن كان حقاً لله عز وجل كتركِ صلاة ، أو صوم أو تفريط في زكاة؛ فإن التوبة لا تصح منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها .
وإن كان قتل نفساً بغير حقٍّ ، فإن تمكن من القصاص منه إن طلب به ، فإن عُفِيَ عنه كفاه النَّدم ، والعزم على ترك العودِ بالإخلاص ، وكذلك إن عُفِي عنه في القَتْل بمال فعليه أن يؤديه إن كان واجداً له ، قال تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } [ البقرة : 178 ] .
وإن كان ذلك من حدود الله - ما كان - فإنه إذا تاب إلى الله - تعالى - بالندم الصحيح سقط منه ، وقد نصَّ الله - تعالى - على سقوط الحد عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرةِ عليهم ، كما تقدم .
وكذلك الشُّرَّاب ، والسُّراق ، والزُّناة إذا صلحوا ، وتابوا ، وعرف ذلك منهم ، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم ، وإن رفعوا إليه فقالوا : تُبْنا لم يتركهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا ، هذا مذهب الشافعي .
فإن كان الذنبُ من مظالم العباد ، فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه ، والخروج عنه - عيناً كان أو غيره - إن كان قادراً عليه ، فإن لم يكن قادراً ، فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت ، وأسرعه .
وإن كان لواحد من المسلمين ، وذلك الواحد لا يشعر به ، ولا يدري من أين أتى ، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه ، ثم يسأله أن يعفو عنه ، ويستغفر له ، فإذا عفى ، فقد سقط الذنب عنه ، وإن أرسل من يسأل ذلك له ، فعفى ذلك المظلوم عن ظلمه عرفه بعينه ، أو لم يعرفه ، فذلك صحيح .
وإن أساء رجل إلى رجل ، بأن فزعه بغير حق ، أو غمه ، أو لطمه ، أو صفعه بغير حق ، أو ضربه بسوط وآلمه ، ثم جاءه مستعفياً نادماً على ما كان منه عازماً على ألا يعود فلم يزل يتذلل له ، حتى طابت نفسه فعفا عنه ، سقط الذَّنب عنه ، وهكذا إن شتمه بشتمٍ لا حدَّ فيه .
قوله : { عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } .
«
عَسَى » من الله واجبةً ، وهو معنى قوله - عليه الصلاة والسلام - : « التَّائِبُ من الذَّنْبِ كمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ » .
و « أنْ » في موضع نصب .
قوله : « ويُدخِلَكُمْ » . معطوف على « يُكَفِّرَ » .
قرأ العامة : بالنصب .
وابن أبي عبلة : بسكون اللام .
فاحتمل أن يكون من إجراء المنفصلِ مجرى المتصل ، فسلبت الحركة؛ لأنه يتحلل من مجموع « يُكفِّرَ عَنْكُم » مثل « نطع وقمع » فيقال : فيهما : نَطْع وقَمْع .
ويحتمل أن يكون عطفاً على محل « عَسَى أن يُكَفِّرَ » كأنه قيل : توبوا يوجب تكفير سيئاتكم ، ويدخلكم ، قاله الزمخشري .
يعني أن « عَسَى » في محل جزم جواباً للأمر؛ لأنه لو وقع موقعها مضارع لانجزم كما مثل به الزمخشري .
وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن « عَسَى » جوابٌ ولا تقع جواباً؛ لأنها للإنشاء .
قوله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي } .
«
يَوْمَ » منصوب ب « يُدخِلَكُم » ، أو بإضمار « اذْكُرْ » .
ومعنى « يُخْزِي » هنا : يعذب ، أي : لا يعذبه ، ولا يعاقب الذين آمنوا معه .
قالت المعتزلة : قوله تعالى : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ } يدل على أنه لا يعذب الذين آمنوا؛ لأن الإخزاء يقع بالعذاب ، ولو كان أصحاب الكبائر من أهل الإيمان لم يخفف عليهم العذاب .
قال ابنُ الخطيب : وأجاب أهل السُّنة بأنه - تعالى - وعد أهل الإيمان بألاَّ يخزيهم .
من أهل السنَّةِ من يقف على قوله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي } ، ومعناه لا يخزيه في رد الشفاعة ، والإخزاء : الفضيحة ، أي : لا يفضحهم بين يدي الكفار ، ويجوز أن يعذبهم على وجه لا تقف الكفرة عليه .
قوله : { والذين آمَنُواْ } يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون منسوقاً على « النَّبِي » ، أي : ولا يخزي الذين آمنوا ، فعلى هذا يكون « نُورُهُمْ يَسْعَى » مُستأنفاً ، أو حالاً .
والثاني : أن يكون مبتدأ ، وخبره « نُورُهُمْ يَسْعَى » ، و « يَقُولُون » خبر ثاني أو حال .
وتقدم إعراب مثل هذه الجمل في « الحديد » وإعراب ما بعدها في « براءة » .
وقرأ أبو حيوة ، وأبو نهل الفهمي : « وبإيْمَانهِمْ » بكسر الهمزة .
ومعنى قوله : { نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } أي : في الدنيا وبأيمانهم عند الحساب ، لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم ، وفيه نور ، وخير .
وقيل : يسعى النور بين أيديهم في موضع وضع أقدامهم « وبأيْمانِهِمْ » لأن خلفهم وشمالهم طرق الكفرة ، وقولهم : { رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } قال ابن عباس : يقولون ذلك عند إطفاء نور المُنافقين إشفاقاً .
وقال الحسنُ : إنه - تعالى - يتمّم لهم نورهم ، ولكنهم يدعون تقرباً إلى حضرة الله تعالى ، كقوله : { واستغفر لِذَنبِكَ } [ غافر : 55 ] وهو مغفور .
وقيل : أدناهم منزلة من نوره بقدر ما يبصر موضع قدمه ، فيسألون إتمامه .
وقال الزمخشري : السَّابقون إلى الجنَّة يمرون كالبرقِ على الصِّراط ، وبعضهم كالريح ، وبعضهم كالجواد المسرع ، وبعضهم حَبْواً ، وهم الذين يقولون : ربنا أتمِمْ لنا نورنا .
فإن قيل : إنه - تعالى - لا يخزي النبي في ذلك اليوم ، ولا الذين آمنوا معه؟ .
فالجوابُ : لأن فيه إفادة الاجتماع ، بمعنى لا يخزي الله المجموع ، أي : الذين يسعى نورهم ، وفيه فائدة عظيمة ، إذ الاجتماع بين الذين آمنوا ، وبين نبيهم تشريفٌ في حقهم وتعظيم .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
أمره أن يجاهدَ الكُفَّار بالسيف ، والمواعظ الحسنة ، والدعاء إلى الله ، والمنافقين بالغلظة ، وإقامة الحُجَّة أن يعرفهم أحوالهم في الآخرة ، وأنه لا نُور لهم يجوزون به على الصِّراط مع المؤمنين .
وقال الحسنُ : أي : جاهدهم بإقامة الحدود عليهم ، فإنهم كانوا يرتكبون موجبات الحدود وكانت الحدودُ تقامُ عليهم { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } يرجع إلى الصنفين { وَبِئْسَ المصير } أي : المرجع .
قال ابن الخطيب : وفي مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : { ياأيها النبي } في أول السورة وفي هذه الآية ووصفه بالنبي لا باسمه ، كقوله لآدم : { ياآدم } [ البقرة : 35 ] ، وموسى { ياموسى } [ طه : 11 ] ، ولعيسى { ياعيسى } [ المائدة : 116 ] دليل على فضيلته عليهم .
فإن قيل : قوله : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } يدل على أن مصيرهم بئس المصيرُ ، فما فائدة ذلك؟ فالجوابُ : أن مصيرهم بئس المصير مطلقاً ، والمطلق يدل على الدوام ، وغير المطلق لا يدل على الدوام .
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
ثم ضرب اللَّهُ مثلاً للصَّالحات ، من النِّساء ، فقال :
{
ضَرَبَ الله مَثَلاً } إلى آخره ، تقدم الكلام على « ضرب » مع « المَثَل » ، وهل هو بمعنى « صير » أم لا؟ وكيف ينتصب ما بعدها في سورة « النحل » .
فصل في ضرب الله لهذا المثل
ضرب الله هذا المثل تنبيهاً على أنه لا يغني أحد عن قريب ، ولا نسب في الآخرة إذا فرق بينهما الدِّين ، وكان اسم امرأة نوح « والهة » ، وامرأة لوط « والغة » ، قاله مقاتل .
وقال الضحاكُ عن عائشة - رضي الله عنها - : إن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن اسم امرأة نوح « وَاغِلة » وامرأة لوط « والهة » ، { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ } يعني نوحاً ولوطاً .
ويجوز أن يكون « امْرَأة نُوحٍ » بدلاً من قوله « مثلاً » على تقدير حذف المضاف ، أي : ضرب الله مثلاً مثل امرأة نوح .
ويجوزأن يكونا مفعولين .
قوله : { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ } .
جملة مستأنفة كأنها مفسرة ل « ضَرْبِ المثلِ » ، ولم يأت بضميرهما ، فيقال : تحتهما أي : تحت نوح ولوط ، لما قصد من تشريفهما بهذه الإضافة الشريفة ، وليصفهما بأجَلّ الصِّفات ، وهو الصَّلاح .
قوله : { فَخَانَتَاهُمَا } .
قال عكرمة ، والضحاك : بالكفر .
وقال سليمان بن رقية ، عن ابن عباس : كانت امرأة تقول للناس : إنه مجنون وامرأة لوط كانت تخبر بأضيافه .
وعن ابن عباس : ما بَغَت امرأة نبي قط ، وإنما كانت خيانتهما أنهما كانا على غير دينهما .
قال القشيريُّ : وهذا إجماع من المفسرين إنما كانت خيانتهما في الدين ، وكانتا مشركتين وقيل : كانتا منافقتين .
وقيل : خيانتهما النَّميمةُ إذا أوحى الله إليهما شيئاً أفشتاه إلى المشركين ، قاله الضحاك .
وقيل : كانت امرأة لوط إذا نزل به ضيف دخنت لتعلم قومها أنه قد نزل به ضيف لما كانوا عليه من إتيان الرجال .
قوله : { فَلَمْ يُغْنِيَا } .
العامة : بالياء من تحت ، أي : لم يغن نوح ولوط عن امرأتيهما شيئاً من الإغناء من عذاب الله .
وقرأ مبشر بن عبيد : تغنيا - بالتاء من فوق - ، أي : فلم تُغْن المرأتان عن أنفسهما .
وفيها إشكال إذ يلزم من ذلك تعدي فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل في غير المواضع المستثناة .
وجوابه : أن « عَنْ » هنا اسم كهي في قوله : [ الكامل ]
4790 -
دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ في حَجَراتِهِ .. . .
وقد تقدم هذا والاعتراض عليه بقوله : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة } [ مريم : 25 ] { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } [ القصص : 32 ] ، والجواب هناك .
فصل في معنى الآية
معنى الآية : لم يدفع نوح ، ولوط مع كرامتهما على الله تعالى عن زوجتيهما لما عصيا شيئاً من عذاب اللَّه تنبيهاً بذلك على أنَّ العذاب يدفع بالطَّاعة ، لا بالوسيلة .
وقيل : إن كفار مكة استهزءوا وقالوا : إنَّ محمداً يشفع لنا ، فبين تعالى أن الشفاعة لا تنفع كفار « مكة » ، وإن كانوا أقرباء كما لا ينفع شفاعة نوح امرأته ، وشفاعة لوط لامرأته مع قربهما له لكفرهما .
{
وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين } في الآخرة كما يقال لكفار مكة وغيرهم . قطع الله بهذه الآية طمع من يرتكب المعصية أن ينفعه صلاح غيره ، ثم أخبر أن معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعاً .
قوله : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأة فِرْعَوْنَ } .
واسمها آسية بنت مزاحم .
قال يحيى بن سلام : قوله : { ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } مثل ضربه الله يحذر به عائشة ، وحفصة في المخالفة حين تظاهرتا عليه صلى الله عليه وسلم ثم ضرب الله لهما مثلاً بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران ترغيباً في التمسك بالطاعة ، والثبات على الدين .
وقيل : هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة ، أي : لا تكونوا في الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون حين صبرت على أذى فرعون .
قال المفسرون : لما غلب موسى السحرة آمنت امرأةُ فرعون .
وقيل : هي عمة موسى آمنت به ، فلما تبين لفرعون إسلامها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد ، وألقاها في الشمس ، وألقى عليها صخرة عظيمة ، فقالت : « ربِّ نَجِّنِي مِنْ فرعَونَ وعمله » . فرمى بروحها في الجنة ، فوقعت الصخرة على جسد لا روح فيه .
وقال الحسنُ : رفعها تأكل في الجنة ، وتشرب .
قال سلمان الفارسي : كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس ، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة .
قوله : { إذْ قَالَتْ رَبِّ } .
منصوب ب « ضرب » ، وإن تأخر ظهور الضرب .
ويجوز أن ينتصب بالمثل .
قوله : { عِندَكَ } .
يجوز تعلقه ب « ابْنِ » ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من « بَيْتاً » كان نعته فلما قدم نصب حالاً .
و { فِي الجنة } .
إما متعلق ب « ابْنِ » وإما بمحذوف على أنه نعت ل « بَيْتاً » .
فصل في قصة امرأة فرعون .
قال المفسرون : لما كانت تعذب في الشمس ، وأذاها حرّ الشمس { قَالَتْ : رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة } فوافق ذلك حضور فرعون ، فضحكت حين رأت بيتها في الجنة ، فقال فرعون : لا تَعْجبُوا من جُنُونهَا أنَا أعذِّبُها وهي تضحك ، فقبض رُوحها .
وروي أنه وضع على ظهرها رحى فأطلعها اللَّهُ ، حتى رأت مكانها في الجنَّة ، وانتزع روحها ، فألقيت عليها صخرة بعد خروج روحها فلم تجد ألماً .
وقال الحسن وابن كيسان : رفع الله امرأة فرعون إلى الجنة ، فهي فيها تأكل ، وتشرب ، وتتنعم .
قوله : { وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ } .
تعني بالعمل : الكفر .
وقيل : « من عمله » ، أي : من عذابه وظلمه .
وقال ابن عباس : الجماع .
{
وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين } ، أي : الكافرين .
قال الكلبيُّ : أهل « مصر » .
وقال مقاتل : القبط .
قوله : { وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ } .
عطف على { امرأة فِرْعَوْنَ } .
ضرب الله المثل للكافرين بامرأتين ، وللمؤمنين بامرأتين .
وقال أبو البقاء : « ومَرْيَمَ » أي : « واذكر مريم » .
وقيل : أو « ومثل مريم » .
وقرأ العامة : « ابْنَة » بنصب التاء .
وأيوب السختياني : بسكون الهاء ، وصلاً ، أجرى الوصل مجرى الوقف .
والعامة أيضاً : « فَنَفَخْنَا فيْهِ » أي : في الفرجِ .
وعبد الله : « فِيْهَا » أي : في الجملة . وقد تقدم في « الأنبياء » مثله .
والعامة أيضاً : « وصَدَّقتْ » بتشديد الدال .
ويعقوب وقتادة وأبو مجلز ، وعاصم في رواية : بتخفيفها ، أي : صدقت فيما أخبرت به من أمر عيسى .
والعامة على : « بِكَلمَاتِ » جمعاً .
والحسن ومجاهد والجحدري : « بِكلمَةِ » بالإفراد .
فقيل : المراد بها عيسى؛ لأنه كلمةُ الله .
فصل في مريم ابنة عمران
ضرب الله مثلاً بمريم ابنة عمران وصبرها على أذى اليهود .
وقوله : { التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } عن الفواحش .
وقال المفسرون هنا : أراد بالفرج الجيب ، لقوله { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } وجبريل - عليه السلام - إنما نفخ في جيبها ولم ينفخ في فرجها .
وهي في قراءة أبيٍّ : { فنفخنا في جيبها من روحنا } ، وكل خرق في الثوب يسمى فرجاً ، ومنه قوله تعالى : { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } [ ق : 6 ] .
ويحتمل أن يكون أحصنت فرجها ونفخ الروح في جيبها .
ومعنى « فَنَفَخْنَا » أرسلنا جبريل فنفخ في جيبها « مِنْ رُوحِنَا » أي : روحاً من أرواحنا وهي روح عيسى ، وقوله : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا } أي : قول جبريل لها : { إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ } [ مريم : 19 ] الآية .
وقال مقاتل : يعني بالكلمات عيسى ، وأنه نبيّ وعيسى كلمة الله كما تقدم .
وقيل : { بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا } يعني الشرائع التي شرعها الله للعباد بكلماته المنزلة .
قوله : { وَكُتُبِهِ } .
قرأ أهل « البَصْرة » وحفص : « وكُتُبِهِ » على الجمع .
وقرأ الأخرون : « وكِتَابِهِ » على التوحيد .
والمراد منه الكثرة ، فالمراد به الجِنْس ، فيكون في معنى كل كتاب أنزله الله تعالى .
وقرأ أبو رجاء : « وَكُتْبِهِ » بسكون التاء ، وهو تخفيف حسن .
وروي عنه : « وكَتْبِهِ » بفتح الكاف .
قال أبو الفضل : مصدر وضع موضع الاسم ، يعني ومكتوبه .
فصل في المراد بالكتب
أراد الكتب التي أنزلتْ على إبراهيم ، وموسى ، وداود ، وعيسى .
وقوله : { وَكَانَتْ مِنَ القانتين } .
يجوز في « مِن » وجهان :
أحدهما : أنها لابتداء الغاية .
والثاني : أنها للتبعيض ، وقد ذكرهما الزمخشريُّ ، فقال : و « مِنْ » للتبعيض ، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية ، على أنها ولدت من القانتين؛ لأنها من أعقاب هارون أخي موسى صلوات الله على نبيِّنا وعليهما وعلى سائر الأنبياء وآلهم .
قال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل : { مِنَ القانتين } على التذكير؟ .
قلت : القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين فغلب ذكوره على إناثه .
ويجوز أن يرجع إلى أهل بيتها ، فإنهم كانوا مطيعين لله ، والقنوت : الطاعة .
وقال عطاء : من المصلّين بين المغرب والعشاء .
وعن معاذ بن جبلٍ : « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة وهي تجود بنفسها : أتكرهين ما قد نزل بك ، وقد جعل اللَّهُ في الكره خيراً ، فإذا قدمت على ضراتك فأقرئيهنّ منِّي السَّلام مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم وكليمة - أو قال : حليمة - بنت عمران أخت موسى بن عمران ، فقالت : بالرفاء والبنين يا رسول الله » .
[
قال ابن الأثير : الرفاء والبنين : الالتئام والاتفاق والبركة والنَّماء ، وهو مهموز .
وذكره الهروي في « المعتلّ » قال : « وهو على معنيين :
أحدهما : الاتفاق وحسن الاجتماع ، والآخر : من الهدوء والسكون ، وأما المهموز فمن قولهم : رَفَأتُ الثَّوب رفاءً ، ورفوتُه رفواً » انتهى ] .
وروى قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « حَسْبُكُ مِنْ نِسَاءِ العَالمينَ أربعٌ : مَريَمُ ابْنَةُ عِمرانَ ، وخَدِيجَةُ بنتُ خُويْلِدٍ ، وفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ ، وآسيةُ بِنْتُ مُزاحِمٍ امرأةُ فِرْعَونَ » .
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورةَ { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } أعطاهُ اللَّهُ تَوْبَةٌ نَصُوحاً » .
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
قوله تعالى : { تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك } .
«
تبارك » تفاعل من البركة وقد تقدم .
وقال الحسنُ : تقدّس .
وقيل : دام ، فهو الدائم الذي لا أول لوجوده ، ولا آخر لدوامه { الذي بِيَدِهِ الملك } أي : ملكُ السموات والأرض في الدنيا والآخرة .
وقال ابن عبَّاس : { بِيَدِهِ الملك } : يعزّ من يشاء ، ويذل من يشاء ، ويُحيي ويميت ، ويغني ويفقر ، ويعطي ويمنع .
قال ابن الخطيب : هذه اللفظة تستعمل لتأكيد كونه - تعالى - ملكاً ومالكاً كما يقال : بيد فلان الأمر ، والنهي ، والحل والعقد ، ولا مدخل للجارحة .
قال الزمخشريُّ : { بِيَدِهِ الملك } كل موجود ، وهو على كل ما لم يوجد قدير :
قوله : { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . يدل على أن المعدوم شيء؛ لأن قدرة الله لا تتعلق بالموجود؛ لأن القدرة مؤثرة ، والعدم نفي محض ، فلا يكون أثراً لها ، فوجب أن يكون المعدوم شيئاً .
فصل في أنه لا مؤثر إلا قدرة الله
احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه لا مؤثر إلا قدرة الله ، وأبطلوا القول بالطَّبائع كقول الفلاسفة ، وأبطلوا القول بالمتولدات كقول المعتزلة ، وأبطلوا القول بكون العبد موجوداً لأفعالٍ نفسيةٍ ، لقوله : { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
فصل في وحدانية الله
دلّت هذه الآية على الوحدانية؛ لأنا لو قدرنا إلهاً ثانياً ، فإما أن يقدر على إيجاد الشيء أولاً ، فإن لم يقدر على إيجاد شيء لم يكن إلهاً ، وإن قدر كان مقدور ذلك الإله الثاني شيئاً ، فيلزم كون ذلك للإله الأول لقوله { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فيلزم وقوع مخلوق من خالقين ، وهو محال؛ لأنه إذا كان كل واحد منهما مستقلاً بالإيجاد ، ويلزم أن يستغنى بكلّ واحد منهما عن كل واحد منهما ، فيكون محتاجاً إليهما وغنياً عنهما وذلك محال .
فصل في الرد على جهم
احتج جهم بهذه الآية على أنه تعالى ليس بشيء ، فقال : لوكان شيئاً لكان قادراً على نفسه لقوله تعالى : { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لكن كونه قادراً على نفسه محال ، فيمتنع كونه شيئاً .
والجواب : لما دلّ قوله تعالى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله } [ الأنعام : 109 ] على أنه - تعالى - شيء وجب تخصيص هذا العموم ، فإذن دلّت هذه الآيةُ على أنَّ العامَّ المخصوص واردٌ في كتاب الله تعالى ، ودلت على أن تخصيص العام بدليل العقل جائز ، بل واقع .
قوله : { الذي خَلَقَ الموت والحياة } .
قيل : خَلَق الموت في الدنيا ، والحياة في الآخرة ، وقدم الموت على الحياة ، لأن الموت إلى القهر أقرب ، كما قدم البنات على البنين فقال : { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً } [ الشورى : 49 ] .
وقيل : قدمه؛ لأنه أقدم ، لأن الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموت كالنُّطف والتراب ونحوه .
وقال قتادة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
«
إنَّ اللَّه تعالى أذلَّ بَنِي آدَمَ بالموتِ ، وجَعلَ الدُّنْيَا دَار حياةٍ ثُمَّ دَارَ مَوْتٍ ، وجَعَل الآخِرةَ دَارَ جزاءٍ ، ثُمَّ دَارَ بَقَاءٍ » .
وعن أبي الدَّرداء أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال : « لَوْلاَ ثلاثٌ ما طَأطَأ ابنُ آدَمَ رَأسهُ : الفَقْرُ ، والمَرَضُ والمَوتُ » .
وقيل : إنما قدم الموت على الحياة؛ لأن من نصب الموت بين عينيه ، كان أقوى الدواعي له إلى العمل الصالح .
قال ابن الخطيب : قالوا : الحياة هي الصفة التي يكون الموصوف بها بحيث يصح أن يعلم ويقدر ، واختلفوا في الموت .
فقيل : إنه عبارة عن عدم هذه الصفة ، وقال أصحابنا : إنه صفة وجودية مضادة للحياة ، واحتجوا بقوله تعالى : { الذي خَلَقَ الموت } والعدم لا يكون مخلوقاً ، وهذا هو التحقيق .
وروى الكلبي عن ابن عبَّاسٍ : أن الله - تعالى - خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء ، ولا يجد رائحته شيء إلاَّ مات ، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء فوق الحمار ودون البَغْل لا تمر بشيء ، ولا يجد رائحتها شيء إلا حيي على ما سيأتي .
قال ابن الخطيب : وهذا لا بد وأن يكون مقولاً على سبيل التمثيل ، والتصوير ، وإلا فالتحقيق ما ذكرنا .
فصل في الموت والحياة
حكى ابنُ عباس ، والكلبي ومقاتلٌ : أن الموت والحياة يجسمان ، فالموت في هيئة كبْش لا يمر بشيء ، ولا يجد ريحه إلا مات ، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاءَ وهي التي كان جبريل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يركبونها ، خطوتُها أمدُ البصر فوق الحمار ودون البغل ، لا تمر بشيء يجد ريحاً إلا يحيى ، ولا تطأ على شيء إلا حيي ، وهي التي أخذ السَّامري من أثرها ، فألقاها على العِجْل فحيي . حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس ، والماوردي معناه عن مقاتل والكلبي .
وعن مقاتل : « خَلَقَ المَوْتَ » يعني : النُّطفة والعلقة والمُضغة ، وخلق الحياة ، يعني خلق إنساناً ، ونفخ فيه الروح ، فصار إنساناً .
قال القرطبيُّ : وهذا حسن ، يدل عليه قوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } .
قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ } . متعلق ب « خلق » .
وقوله : { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } تقدم مثله في أول « هود » [ الآية 7 ] .
وقال الزمخشريُّ هنا : « فإن قلت : من أين تعلق قوله { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ، بفعل البلوى؟ قلت : من حيث إنه تضمن معنى العلم ، فكأنه قيل : ليعلمكم أيكم أحسن عملاً ، وإذا قلت : علمته أزيد أحسن عملاً أم هو؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثَّاني من مفعوليه كما تقول : علمته هو أحسن عملاً ، فإن قلت : أتسمي هذا تعليقاً؟ .
قلت : لا ، إنما التعليق أن يقع بعده ما يسد مسدَّ المفعولين جميعاً ، كقولك : علمت أيهما عمرو ، وعلمت أزيد منطلق ، ألا ترى أنه لا فرق بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدراً بحرف الاستفهام وغير مصدر به ، ولو كان تعليقاً لافترقت الحالتان كما افترقتا في قولك : عَلِمْتُ أزيدٌ منطلق ، وعلمت زيداً منطلقاً » .
============================
==============================
=================================
ج70. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
قال شهاب الدين : « وهذا الذي منع تسميته تعليقاً سماه به غيره ويجعلون تلك الجملة في محل ذلك الاسم الذي يتعدى إليه ذلك الفعل ، فيقولون في : » عَرفتُ أيُّهُمْ منطلقٌ « : إن الجملة الاستفهامية في محل نصب على إسقاط الخافضِ؛ لأن » نظر « يتعدى به » .
فصل في اللام في قوله : ليبلوكم
قال الزَّجَّاجُ : اللام في « لِيَبْلوَكُمْ » تتعلق بخلقِ الحياة ، لا بخلق الموت .
وقال الفراء والزجاج أيضاً : لم تقع البلوى على « أي » لأن فيما بين البلوى و « أي » إضمار فعل كما تقول : « بَلوْتُكمْ لأنْظُر أيكم أطوع » ، ومثله قوله تعالى : { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ } [ القلم : 40 ] ، أي : سلهم ، ثم انظر أيهم فأيهم ، رفع بالابتداء ، والمعنى : ليبلوكم ليعلم ، أو فينظر أيكم أحسن عملاً .
قال ابن الخطيب : « أيُّكُمْ » مبتدأ ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله .
فصل في الابتلاء
الابتلاءُ : هو التجربة ، والامتحان ، حتى يعلم أنه هل يطيع ، أو يعصي ، وذلك في حق العالم بجميع المعلومات مُحَال ، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة في قوله تعالى : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } [ البقرة : 124 ] .
والحاصل أن الابتلاء من الله هو أن يعامل عبده معاملة تشبه المختبر .
فصل في تفسير الآية
قال السديُّ في قوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } أي : أكثر للموت ذكراً وأحسن استعداداً وأشد خوفاً وحذراً .
وقال ابن عمر : « تلا النبي صلى الله عليه وسلم : { تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك } حتَّى بلغ { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } فقال : » أورعُ عن محَارمِ اللَّهِ ، وأسرعُ في طاعةِ اللَّهِ « » .
وقيل : يعاملكم معاملة المختبر ، فيبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره ، وبالحياة ليبين شكره .
وقيل : خلق الله الموت للبعث ، والجزاء ، وخلق الحياة للابتلاء « وهُوَ العَزِيزُ » في انتقامهِ ممن عصاه « الغَفُورُ » لمن تاب .
فصل فيمن قالوا : إن فعل الله يكون لغرض
احتج القائلون بأنه تعالى يفعل الفعل لغرض بقوله : « ليَبْلُوكُمْ » قالوا : وهذه اللام للغرض كقوله تعالى { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } ، والجواب : أن الفعل في نفسه ليس بالابتلاء ، إلا أنه لما أشبه الابتلاء سمي به مجازاً ، فكذلك هاهنا ، إنه يشبه الغرض ، وإن لم يكن في نفسه غرضاً فقدم حرف الغرضِ .
قوله : { الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً } .
يجوز أن يكون الموصول تابعاً للعزيز الغفُورِ ، نعتاً ، أو بياناً أو بدلاً .
وأن يكون منقطعاً عنه خبر مبتدأ ، أو مفعول فعل مقدر .
وقوله : « طِباقَاً » صفة ل « سَبْعَ » ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه جمع طبق ، نحو : جبل وجبال .
والثاني : أنه جمع طبقة ، نحو : رحبة ورحاب .
والثالث : أنه مصدر طابق ، يقال : طَابَقَ مُطابَقَةَ وطِبَاقاً .
ثم إما أن تجعل نفس المصدر مبالغة ، وإما على حذف مضاف ، أي : ذات طباق ، وإما أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر ، أي : طوبقت طباقاً . من قولهم : طابق الفعل ، أي : جعله طبقةً فوق أخرى .
روي عن ابن عباس : « طِبَاقاً » ، أي : بعضها فوق بعض ، والملتصق منها أطرافها .
قال القرطبيُّ : وقيل : مصدر بمعنى المطابقة ، أي : خلق سبع سمواتٍ ، ويطبقها تطبيقاً أو مطابقة على طوبقت طباقاً؛ لأنه مفعول ثان ، فيكون « خَلَقَ » بمعنى جعل وصيّر .
وقال أبان بن تغلب : سمعت بعض الأعراب يذم رجلاً ، فقال : شره طباق ، وخيره غير باق . ويجوز في غير القرآن « سَبْعَ سماواتٍ طباقٍ » بالخفض على النَّعت ل « سماواتٍ » نظيره : { وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ } [ يوسف : 42 ] .
فصل في الدلالة على القدرة
قال ابن الخطيب : دلّت هذه الآية على القدرة من وجوه .
أحدها : من حيث بقاؤها في جو الهواء متعلقة بلا عماد ولا سلسلة .
وثانيها : من حيث إن كل واحد منها اختصّ بمقدار معين مع جواز ما هو أزيد منه وأنقص .
وثالثها : أنه اختص كل واحد منها بحركة خاصة مقدرة بقدر معين من السرعة ، والبطء إلى جهة معينة .
ورابعها : كونها في ذواتها محدثة ، وكل ذلك يدل على إسنادها إلى قادر تام القدرة .
قوله { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } . « تَفاوتٍ » هو مفعول « ترى » و « مِنْ » مزيدة فيه . وقرأ الأخوان : « تَفَوُّت » بتشديد الواو دون ألف .
قال القرطبيُّ : « وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه » .
والباقون : بتخفيفها بعد ألف ، وهما لغتان بمعنى واحد ، كالتعهُّد والتَّعاهد والتَّظاهر والتَّظهُّر والتَّصغُّر والتَّصاغُر والتَّحمُّل والتَّحامُل والتَّضاعف والتضعف والتَّباعد والتبعُّد ، قاله الفرَّاء .
وقال الأخفش : « تَفَاوُتٍ » أجود؛ لأنهم يقولون : تفاوت الأمر ، ولا يكادون يقولون : « تفوت » .
واختيار أبي عبيد : « تفوت » ، يقال : تفاوت الشيء إذا فات .
واحتج بما روي في الحديث : أنَّ رجُلاً تفوَّت على أبيهِ في مالهِ .
وقال عبد الرحمن بن أبي بكر : « أمثلي يتفوت عليه في ماله » .
قال النحاس : وهذا مردود على أبي عبيد ، لأن « يتفوت » أي : يضاف في الحديث ، « تفاوُتٍ » في الآية أشبه ، كما يقال : تباين ، تفاوت الأمر إذا تباين ، أو تباعد ، أي : فات بعضها بعضاً نقله القرطبي .
وحكى أبو زيد : تفاوت الشَّيء تفاوُتاً بضم الواو وفتحها وكسرها .
[
والقياس ] : الضَّمُّ كالتقابل ، والفتح والكسر شاذان .
والتفاوت : عدم التناسب؛ لأن بعض الأجزاء يفوت الآخر ، وهذ الجملة المنفية صفة لقوله : « طِبَاقاً » وأصلها : ما ترى فيهن ، فوضع مكان الضمير .
قوله : { ما ترى في خلقِ الرَّحمنِ } تعظيماً لخلقهن ، وتنبيهاً على سببب سلامتهن ، وهو أنه خلق الرحمن ، قاله الزمخشري .
وظاهر هذا أنها صفة ل « طِبَاقاً » ، وقام الظاهر فيها مقام المضمر ، وهذا إنما يعرف في خبر المبتدأ ، وفي الصلة على خلاف فيهما وتفصيل .
وقال أبو حيَّان : الظَّاهر أنه مستأنفٌ ، وليس بظاهر لانفلات الكلام بعضه من بعض ، و « خَلق » مصدر مضاف لفاعله والمفعول محذوف ، أي : في خلق الرحمن السماواتِ ، أو كل مخلوق ، وهو أولى ليعم ، وإن كان السياق مرشداً للأول .
فصل في معنى الآية
والمعنى ما ترى في خلق الرحمن من اعوجاج ، ولا تناقض ، ولا تباين ، بل هي مستقيمة مستوية دالة على خالقها ، وإن اختلفت صوره وقيل : المراد بذلك السماوات خاصة ، أي : ما ترى في خلق السماوات من عيب ، وأصله من الفوت ، وهو أن يفوت شيء شيئاً ، فيقع الخَلَل لعدم استوائها يدل عليه قول ابن عباس : من تفرق .
وقال السديُّ : « مِنْ تفَاوُتٍ » أي : من اختلاف ، وعيب بقول الناظر : لو كان كذا كان أحسن .
وقيل : « التفاوت » الفطور ، لقوله بعد ذلك : { فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } ، ونظيره قوله تعالى : { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } [ ق : 65 ] .
قال القفَّالُ - رحمه الله - : ويحتمل أن يكون المعنى : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } في الدلالة على حكم الصانع ، وأنه لم يخلقها عبثاً .
فصل في الخطاب في الآية لمن؟
الخطاب في قوله تعالى : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } إما للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل مخاطب ، وكذا القول في قوله { فارجع البصر } ، { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ } .
فصل فيما تدل عليه الآية
دلت هذه الآية على كمال علم اللَّه ، وذلك أن الحسّ دل على أن هذه السماوت السبع أجسام مخلوقة على وجه الإحكام والإتقان ، وكل فاعلٍ كان فعله محكماً متقناً ، فلا بد وأن يكون عالماً ، فدلت الآيةُ على كونه - تعالى - عالماً بالمعلومات بقوله : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } إشارة إلى كونها محكمة متقنة .
فصل فيمن اعتبر المعاصي ليست من خلق الله
احتج الكعبيُّ بهذه الآية على أن المعاصي ليست من خلق الله ، قال : - لأنه تعالى - نفى التَّفاوت عن خلقهِ ، وليس المرادُ نفي التفاوت في الصغر والكبر والنقص ، والعيب ، فوجب حمله على نفي التفاوت بين خلقه من حيث الحكمة ، فدل من هذا الوجه على أنَّ أفعال العبادِ ليست من خلقه لما فيها من التَّفاوت الذي بعضه جهل ، وبعضه سفه . والجواب : أنا نحمله على أن لا تفاوت فيها بالنسبة إليه من حيث إنَّ الكُلَّ يصح عنه بحسب القدرة والإرادة والداعية ، وأنه لا يقبح منه شيء أصلاً .
فصل في السموات السَّبع
روى البغويُّ عن كعب - رضي الله عنه - أنه قال : السماء الدنيا موج مكفوف ، والثانية : مرمرة بيضاء ، والثالثة : حديد ، والرابعة ، صُفْرٌ ، وقال : نحاس ، والخامسة : فضّة ، والسادسة : ذهب ، والسَّابعة : ياقوتة حمراء ، وبين السماء السَّابعة إلى الحجب السبعة صحارى من نور .
قوله { فارجع البصر } . مسبب عن قوله { مَّا ترى } .
و « كرتَيْنِ » نصب على المصدر كمرتين ، وهو مثنّى لا يراد به حقيقته ، بل التكثير بدليل قوله : { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } أي : مزدجراً وهو كليل ، وهذان الوصفان لا يأتيان بنظرتين ، ولا ثلاث ، وإنما المعنى كرات ، وهذا كقولهم : « لَبَّيْك وسعْديْكَ وحنَانيْكَ ، ودَوالَيْك ، وهَذَاذَيْكَ » لا يريدون بهذه التثنية تشفيع الواحد ، إنما يريدون التكثير أي : إجابة لك بعد أخرى . وإلا تناقض الغرض ، والتثنية تفيد التكثير لقرينة كما يفيده أصلها وهو العطف لقرينة؛ كقوله : [ البسيط ]
4791 -
لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وقَبْرٌ كانَ أكْرمَهُمْ .. . . .
أي : قبور كثيرة ليتم المدح .
وقال ابن عطية : « كَرَّتَيْنِ » معناه : مرتين ، ونصبها على المصدر .
وقيل : الأولى ليرى حسنها ، واستواءها ، والثانية لينظر كواكبها في سيرها ، وانتهائها وهذا بظاهره يفهم التثنية فقط .
قوله : { هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } .
هذه الجملة يجوز أن تكون متعلقة لفعل محذوف يدلّ عليه « فارْجعِ البصَرَ » مضمناً معنى « انظُر »؛ لأنه بمعناه ، فيكون هو المعلق .
وأدغم أبو عمرو : لام « هَلْ » في التاء هنا وفي « الحَاقَّة » ، وأظهرهما الباقون ، وهو المشهور في اللغة .
والفطور : جمع فطرٍ ، وهو الشَّقُّ ، يقال : فطره فانفطر ، ومنه : فطر ناب البعير ، كما يقال : شقّ ، ومعناه : شق اللحم وطلع .
قال المفسرون : « الفُطُور » الصُّدوع والشُّقوق؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
4792 -
شَقَقْتِ القَلْبَ ثُمَّ ذَرَرْتِ فِيهِ ... هَواكِ فَلِيطَ فالتأمَ الفُطُورُ
قوله : « ينقلبْ » .
العامة : على جزمه على جواب الأمرِ .
والكسائي في رواية برفعه . وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون حالاً مقدرة .
والثاني : أنه على حذف الفاءِ ، أي : فينقلب .
و « خَاسِئاً » حال وقوله : « وهُو حَسِيرٌ » حال ، إما من صاحب الأولى ، وإما من الضمير المستتر في الحال قبلها ، فتكون متداخلة . وقد تقدّمتا « خاسئاً » و « حسير » في « المؤمنين » و « الأنبياء » .
فصل في تفسير الآية
لما قال : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } كأنه قال بعده : ولعلك لا تحكم بمقتضى ذلك البصر الواحد ، ولا يعتمد عليه لاحتمال وقوع الغلطِ في النظرة الواحدة ، ولكن ارجع البصر ، واردد النظر مرة أخرى ، حتى يتيقّن لك أنه ليس في خلق الرحمن من تفاوت ألبتَّة .
قال القرطبي : أمر أن ينظر في خلقه ليعتبروا به ، ويتفكَّروا في قدرته ، فقال : { فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } أي : اردُدْ طرفك إلى السماء ، ويقال : قلَّب بصره في السماء ، ويقال : اجتهد بالنَّظر إلى السَّماء ، والمعنى متقارب ، وإنما قال : « فارْجع » - بالفاء - وليس قبله فعل مذكُور؛ لأنه قال : « مَا تَرَى » والمعنى : انظر ، ثم ارجع البصر هل ترى من فُطورٍ ، قاله قتادة .
قال مجاهد والضحاك : و « الفطور » الشقوق .
وقال قتادة : من خلل .
وقال السديُّ : من خروق .
وقال ابن عبَّاس : مِنْ وهَنٍ .
وقوله : { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } في موضع المصدر؛ لأن معناه : رجعتين .
لأن الإنسان إذا نظر في الشَّيء مرتين ترى عينه ما لم تنظره مرة أخرى ، فأخبر تعالى أنه وإن نظر إلى السماء مرَّتين لا يرى فيها عيباً ، بل يتحيّر بالنظر إليها .
وقال ابن الخطيب : « معناه أنك إذا كررت نظرك لم يرجع إليك بصرك بما طلبته من وجدان الخلل ، والعيب ، بل يرجع إليك » خَاسِئاً « أي : مبعداً صاغراً عن أن يرى شيئاً من ذلك من قولك : خسأت الكلب إذا باعدته ، وطردته » .
وخسأ الكلب بنفسه ، يتعدى ولا يتعدَّى ، وانخسأ الكلب أيضاً ، وخسأ بصره أيضاً خَسْأً وخسوءاً ، أي : ستر .
قال ابن عبَّاسٍ : الخاسىء الذي لم يرَ ما يهوى .
وقال المبردُ هاهنا : الخاسىء المبعد المصغر .
وقوله : « وهُو حَسِيرٌ » أي : قد بلغ الغاية في الإعياء ، فهو بمعنى « فاعل » من الحسور الذي هو الإعياء ، ويجوز أن يكون مفعولاً من حسرهُ بعدُ الشيء وهو معنى قول ابن عبَّاسٍ؛ ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
4793 -
مَنْ مَدَّ طَرْفاً إلى ما فَوْقَ غَايَتِهِ ... إرتدَّ خَسْآنَ مِنهُ الطَّرْفُ قَدْ حُسِرَا
يقال : حسر بصره يحسر حسوراً ، أي : كلَّ وانقطع نظره من طول مدى ، وما أشبه ذلك ، فهو حسير ومحسور أيضاً .
قال الشاعر : [ الطويل ]
4794 -
نَظَرْتُ إليْهَا بالمُحَصَّبِ مِنْ مِنَى ... فعَادَ إليَّ الطَّرْفُ وهوَ حَسِيرُ
وقيل هو النادم؛ قال : [ الرمل ]
4795 -
مَا أنَا اليَوْمَ على شَيْءٍ خَلاَ ... يَا بْنَةَ القَيْنِ تولَّى بِحَسِرْ
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ } ، أي : السماء القربى؛ لأنها أقرب السماوات إلى النَّاس ، والمعنى : السَّماء الدُّنيا من النَّاس أي : الدنيا منكم لأنها « فعلى » تأنيث « أفعل » التفضيل ، « بِمصَابِيحَ » جمع مصباح وهو السِّراجُ ، وسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها وسماها زينة لأن الناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح ، فكأنه قال : ولقد زيَّنَّا سقف الدارِ التي اجتمعتم فيها بمصابيح الأنوار .
قوله : { وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } .
الضمير في « وَجَعَلْنَاهَا » يجوز فيه وجهان :
أظهرهما : أنه يعود على « مَصَابِيحَ » .
قيل : وكيفية الرَّجْم أن توجد نار من ضوء الكواكب يرمي بها الشيطانُ ، والكوكب في مكانه لا يرجم به . قاله أبو علي جواباً لمن قال : كيف تكون زينةً وهي رجوم لا تبقى؟ .
قال المهدويُّ : وهذا على أن يكون الاستراق من موضع الكوكب .
والثاني : أن الضمير يعود على السماء ، والمعنى : وجعلنا منها؛ لأن ذات السماء ليست للرجوم .
قاله أبو حيان . وفيه نظر لعدم عود الضمير على السَّماء .
قال القرطبي : والمعنى جعلنا شُهُباً ، فحذف المضاف ، بدليل قوله { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [ الصافات : 10 ] ، قال : وعلى هذا فالمصابيح لا تزول ولا يرجم بها .
قال المهدويُّ : وهذا على أن يكون الاستراق دون موضع الكوكب .
وقال القشيريُّ : وأحسن من قول أبي علي أن نقول : هي زينة قبل أن ترجم بها الشياطين .
والرجوم : جمع رجمٍ ، وهو مصدر في الأصل أطلق على المرجوم به كضرب الأمير .
ويجوز أن يكون باقياً على مصدريته ، ويقدر مضاف ، أي : ذات رجوم .
وجمع المصدر باعتبار أنواعه ، فعلى الأول يتعلق قوله : « للشَّياطينِ » بمحذوف على أنه صفة ل « رُجُوماً » .
وعلى الثاني : لا تعلق له؛ لأن اللام مزيدة في المفعول به ، وفيه دلالة حينئذ على إعمال المصدر منوناً مجموعاً .
ويجوز أن تكون صفة له أيضاً كالأول ، فيتعلق بمحذوف .
وقيل : الرجوم هنا الظنون ، والشياطين : شياطين الإنس .
كما قال : [ الطويل ]
4796 - . . ...
ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَديثِ المُرَجَّمِ
فيكون المعنى : جعلناها ظُنُوناً ورجوماً بالغيبِ ، لشياطين الإنس ، وهم الأحكاميون من المنجمين .
فصل في خلق النجوم
قال قتادةُ : خلق الله النُّجوم لثلاثٍ : زينة السَّماءِ ورجوماً للشياطين ، وعلاماتٍ يهتدى بها في البرِّ والبحرِ والأوقاتِ ، فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به ، وتعدى ، وظلم .
وقال محمد بن كعب : والله ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم ، ولكنهم يتَّخذون الكهانة ، ويتَّخذون النُّجوم علةً .
فصل
قال ابن الخطيب : ظاهر الآيةِ لا يدلّ على أن هذه الكواكب مركوزة في السماء الدنيا؛ لأن السماوات إذا كانت شفافة ، فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا ، أو في سماوات أخرى فوقها ، فهي ولا بُد أن تظهر في السَّماء الدنيا ، ولتلوح منها ، فعلى التقدير تكون السماء الدنيا متزينة ، واعلم أنَّ أصحاب الهيئةِ اتفقوا على أن هذه الكواكب مركوزة في الفلك الثامن الذي فوق كرات السياراتِ ، واحتجوا أن بعض الثوابت في الفلك الثامن ، فيجب أن تكون كلها هناك .
وإنما قلنا : إن بعضها في الفلك الثامن ، لأن الكواكب القريبة من المنطقة تنكسف بهذه السيارات ، فوجب أن تكون الثوابت المنكسفة فوق السيارات الكاسفة وإنما قلنا : إن الثوابت لما كانت في الفلك الثَّامن وجب أن تكون كلها هناك؛ لأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة في كل مائة سنة درجة واحدة ، فلا بُدَّ وأن تكون مركوزةً في كرة واحدة .
قال ابن الخطيب : وهذه استدلالاتٌ ضعيفة؛ فإنه لا يلزم من كون بعض الثَّوابت فوق السيارة كون كلها هناك؛ لأنه لا يبعد وجود كرة تحت كرة القمر ، وتكون في النظر مساوية لكرة الثوابت ، وتكون الكواكب المركوزة فيها مقارب القطبين مركوزة في هذه الكرة السفلية؛ إذ لا يبعد وجود كرتين مختلفتين بالصغر والكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة ، وعلى هذا التقدير لا يمتنع أن تكون المصابيح مركوزة في سماء الدنيا ، فثبت بهذا ضعف مذاهب الفلاسفة .
فصل في سبب الرجوم
قال ابن الخطيب : يروى أن السبب في الرجوم أن الجن كانت تسمع خبر السماء فلما بعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم حرست السماء ورجمت الشياطين ، فمن جاء منهم مسترقاً للسمع رمي بشهاب ، فأحرقه لئلا ينزل به إلى الأرض ، فيلقيه إلى النَّاس ، فيختلط على النبي أمره ، ويرتاب النَّاس بخبره . ومن النَّاس من طعن في هذا من وجوه :
أحدها : أن انقضاض الكواكب مذكور في كتب قدماء الفلاسفة ، قالوا : إن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس إذا بلغ النَّار التي دون الفلك احترق بها ، فتلك الشعلة هي الشهاب .
وثانيها : أن الجن إذا شاهدوا جماعة منهم يسترقون ، فيحرقون إن امتنع أن يعودوا لذلك .
وثالثها : أن ثُخْنَ السماء مسيرة خمسمائة سنةٍ ، فالجن لا يقدرون على خرقها؛ لأنه تعالى نفى أن يكون فيها فطور ، وثخنها يمنعهم من السمع لأسرار الملائكة من ذلك البعد العظيم ، وإذا سمعوه من ذلك البعد ، فهم لا يسمعون كلام الملائكة حال كونهم في الأرض .
ورابعها : أن الملائكة إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة ، إما لأنهم طالعوها من اللوح المحفوظ ، أو لأنهم نقلوها من وحي الله إليهم ، وعلى التقديرين ، فلم لم يسكتوا عن ذكرها حتى لا يمكنوا الجن من معرفتها .
وخامسها : أن الشياطين مخلوقون من النار ، والنار لا تحرق النار ، بل تقويها .
وسادسها : إن كان هذا القذف لأجل النبوة فلم بقي بعدها؟ .
وسابعها : أن هذ الرجوم إنما تحدث بالقرب من الأرض ، لأنا نشاهدها بالعين ، ومع البعد لا نشاهدها كما لا نشاهد حركات الكواكب .
وثامنها : إن كانت الشياطين ينقلون أخبار الملائكةِ عن المغيبات إلى الكهنة ، فلم لا ينقلون أسرار المؤمنين إلى الكفار ، حتى يتوصل الكفار بذلك إلى إلحاق الضرر بالمؤمنين؟ .
وتاسعها : لم لم يمنعهم الله ابتداء من الصعود إلى السماء؟ .
والجواب عن الأول : أنا لا ننكر أن هذه الشُّهب كانت موجودة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم .
وعن الثاني : أنه إذا جاء القدر عمي البصر ، فإذا قضى الله على طائفة منها بالحرق لطغيانها قيَّض الله لها من الدواعي ما يقدمها على العملِ المفضي إلى هلاكها .
وعن الثالث : أن نمنع كون ثخن الفلك ما ذكروه ، بأن البعد بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام .
وعن الرابع : ما روى الزهري عن علي بن الحسين ، عن علي بن أبي طالب قال : « بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في نفرٍ من أصحابه ، إذ رمي بنجم فاستنار ، فقال : مَا كُنْتُمْ تقُولُونَ فِي الجَاهليَّةِ إذَا حدث؟ قال : كنا نقول : يولد عظيم أو يموت عظيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » فإنَّها لا تُرْمَى لمَوْتِ أحدٍ ، ولا لِحياتهِ ، ولكِنَّ اللَّه - تعالى - إذا قَضَى الأمْرَ في السَّماءِ سبَّحتْ حملةُ العرشِ ، ثُمَّ يُسبِّحُ أهلُ كُلِّ سماءٍ ، وتسبِّحُ كُل سماءٍ ، حتى ينتهي التَّسبيحُ إلى هذه السَّماءِ ، ويَسْتخبرُ أهلُ السَّماءِ حملة العَرْشِ ماذا قال ربُّكُمْ؟ فيُخبرُونهُمْ ، ولا يَزالُ يَنْتَهِي ذلِكَ الخَبَرُ من سماءٍ إلى سماءٍ إلى أن يَنْتَهِي الخبرُ إلى هذه السَّماء فتَخْطَفُهُ الجِنُّ فَيُرمَونَ ، فمَا جَاءُوا به فَهُوَ حَقٌّ ، ولكنَّهم يزيدُون فِيهِ « » .
وعن الخامس : أنَّ نار النجومِ قد تكون أقوى من نارِ الجن .
وعن السادس : أنه - عليه الصلاة والسلام - أخبر ببطلان الكهانةِ ، فلو لم ينقطعوا لعادت الكهانة ، وذلك يقدح في خبر الرسولِ عليه الصلاة والسلام .
وعن السابع : أن البعد غير مانع من السماءِ عندنا .
وعن الثامن : لعله تعالى أقدرهم على استماع الغيوب عن الملائكة ، وأعجزهم عن إيصال أسرار المؤمنين إلى الكافرين .
وعن التاسع : أن الله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد .
قوله : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير } . لما ذكر منافع الكواكب ، وذكر من جملة تلك المنافع أنها رجوم للشياطين قال بعد ذلك : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير } ، أي : وأعتدنا للشَّياطين بعد الإحراق بالشُّهب في الدنيا عذاب السَّعير في الآخرة ، وهو أشدُّ الحريقِ .
قال المبردُ : سعرت النَّار فهي مسعورة وسعير ، مثل قوله : مقتولة وقتيل .
وهذه الآية تدل على أن النَّار مخلوقة؛ لأن قوله : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ } خبر عن الماضي .
قوله : { وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ } خبر مقدم في قراءة العامة ، و « عذابُ جهنَّم » مبتدؤه .
وفي قراءة الحسن والأعرج والضحاك : بنصب « عَذَابَ » فيتعلق ب « أعْتَدْنَا » عطفاً على « لَهُمْ » و « عَذابَ السَّعيرِ » ، فعطف منصوباً على منصوب ، ومجروراً على مجرور ، وأعاد الخافض ، لأن المعطوف عليه ضمير .
والمخصوص بالذَّم محذوف ، أي : وبئس المصير مصيرهم ، أو عذاب جهنَّم ، أو عذاب السَّعير .
فصل في معنى الآية
والمعنى لكل من كفر بالله من الشياطين وغيرهم عذاب جهنم؛ ليبين أن الشياطين المرجومين مخصوصون بذلك ، ثم إنه - تعالى - وصف ذلك العذاب بصفات ، أولها قوله تعالى : { إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً } يعني الكفار { إِذَآ أُلْقُواْ } طرحوا كما يطرح الحطب في النار العظيمة { سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً } أي : صوتاً .
قال ابن عباس : الشَّهيق لجهنم عند إلقاء الكُفار فيها كشهيق البغلةِ للشعير .
وقال عطاءٌ : الشَّهيق من الكُفَّار عند إلقائهم في النار .
وقال مقاتلٌ : سمعُوا لجهنم شهيقاً .
قال ابن الخطيب : ولعل المراد تشبيه صوت لهبِ النَّار بالشهيق ، وهو كصوت الحمار .
وقال المبرد : هو - والله أعلم - تنفس كتنفس التغيُّظ .
قال الزجاجُ : سمع الكُفَّار للنار شهيقاً ، وهو أقبح الأصوات .
وقيل : سمعوا من أنفسهم شهيقاً كقوله تعالى : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } [ هود : 106 ] .
قوله : « لَهَا » متعلق بمحذوف على أنه حال من « شَهيقاً » لأنه في الأصل صفته ، ويجوز أن يكون على حذف مضاف ، أي : سمعوا لأهلها ، وهي تَفُور : جملة حالية .
فصل في معنى الشهيق والزفير
قال القرطبيُّ : « والشهيق في الصدر ، والزفير في الحلق ، وقد مضى في سورة » هود « » .
وقوله : { وَهِيَ تَفُورُ } . أي : تغلي؛ ومنه قول حسَّان : [ الوافر ]
تَرَكْتُمْ قِدْركُمْ لا شيءَ فِيهَا ... وقِدْرُ القَوْمِ حَامِيَةٌ تَفورُ
قال مجاهد : تفور كما يفور الحب القليل في الماء الكثير .
وقال ابن عباس : تغلي بهم على المراجل ، وهذا من شدّة لهب النار من شدّة الغضب كما تقول : فلان يفور غيظاً .
قوله : { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } .
قرأ العامة : « تَميَّزُ » بتاء واحدة مخففة ، والأصل « تتميَّز » بتاءين ، وهي قراءة طلحة .
والبزي عن ابن كثير : بتشديدها ، أدغم إحدى التاءين في الأخرى .
وهي قراءة حسنة لعدم التقاء الساكنين بخلاف قراءته { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } [ النور : 15 ] ، و { نَاراً تلظى } [ الليل : 14 ] وبابه .
وأبو عمرو : يدغم الدَّال في التاء على أصله في المتقاربين .
وقرأ الضحاك : « تَمَايَزُ » والأصل : « تتمايزُ » بتاءين ، فحذف إحداهما .
وزيد بن علي : « تَمِيزُ » من « مَازَ » .
وهذا كله استعارة من قولهم : تميز فلان من الغيظ ، أي : انفصل بعضه من بعض من الغيظ ، فمن سببية ، أي : بسبب الغيظ ، ومثله في وصف كَلْب ، أنشد عروة : [ الرجز ]
4798 - . ...
يَكَادُ أنْ يَخْرُجَ مِنْ إهَابِهِ
قال ابن الخطيب : ولعل سبب هذا المجاز أن دم القلب يغلي عند الغضب ، فيعظم مقداره ، فيزداد امتلاء العروق ، حتَّى تكاد تتمزَّق .
فإن قيل : النَّار ليست من الأحياء ، فكيف توصف بالغيظ؟ .
قال ابن الخطيب : والجواب : أن البنية عندنا ليست شرطاً للحياة ، فلعل الله - تعالى - يخلق فيها وهي نار حياة ، أو يكون هذا استعارة يشبه صوت لهبها وسرعة مبادرتها بالغضبان وحركته ، أو يكون المراد الزبانية .
فصل في تفسير الآية
قال سعيد بن جبير { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } يعني تنقطع ، وينفصل بعضها من بعض .
وابن عباس والضحاك وابن زيد : تتفرق من الغيظ من شدة الغيظ على أعداء الله تعالى .
قوله : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ } . تقدم الكلام على « كُلَّمَا » . وهذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من ضمير جهنم .
والفَوْج : الجماعة من الناس ، والأفْوَاج : الجماعات في تفرقة ، ومنه قوله تعالى : { فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } [ النبأ : 18 ] والمراد هنا بالفوج جماعة من الكفار { سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ } وهم مالك ، وأعوانه سؤال توبيخ وتقريع { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } ، أي : رسول في الدنيا ينذركم هذا اليوم ، حتى تحذروا .
قال الزَّجَّاج : وهذا التوبيخُ زيادة لهم في العذاب .
قوله : { بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ } . فيه دليل على جواز الجميع بين حرف الجواب ، ونفس الجملة المجاب بها إذ لو قالوا : بلى ، لفهم المعنى ، ولكنهم أظهروه تحسراً وزيادة في تغميمهم على تفريطهم في قبُول قول النذير؛ فعطفوا عليه : « فكَذَّبْنَا » إلى آخره .
قوله : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } ظاهره أنه من مقول الكفار للنذير ، أي : قلنا : « مَا أنْزَلَ اللَّهُ من شَيءٍ » أي : على ألسنتكم إن أنتم يا معشر الرسل { إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } اعترفوا بتكذيب الرسلِ ، ثم اعترفوا بجهلهم ، فقالوا وهم في النار : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ } من النذر يعني : الرسل ما جاءوا به « أوْ نَعْقِلُ » عنهم .
وجوز الزمخشريُّ أن يكون من كلام الرُّسل للكفرةِ ، وحكاه الكفرة للخزنةِ ، أي : قالوا لنا هذا فلم نقبلهُ .
قال ابن الخطيب : يجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار ، أي : لما قالوا ذلك الكلام قالت الخزنة لهم : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } .
قوله : { وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير } .
قال ابن الخطيب : احتجّ بهذه الآية من قال : إنَّ الدين لا يتم إلا بالتعليم؛ لأنه قدم السمع على العقل ، فدل على أنه لا بد أولاً من إرشاد المرشد غلب عليه تأمل السامع فيما ندب العلم .
وأجيب : بأنه إنما قدم السمع؛ لأن الرسول إذا دعا ، فأول المراتب أنه يسمع كلامه ، ثم يتفكر فيه فلما كان السمع مقدماً على التعقل لا جرم قدم عليه في الذكر .
فصل فيمن فضل السمع على البصر
واحتج بهذه الآيةِ من قدم السمع على البصر ، قالوا : لأنه جعل للسمع مدخلاً في الخلاص من النار ، والفوز بالجنة ، والبصر ليس كذلك ، فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر .
قوله « بِذنْبِهِمْ » وحَّده؛ لأنه مصدر في الأصل ، ولم يقصد التنويع بخلاف « بِذُنُوبِهِم » في موضع؛ ولأنه في معنى الجمع؛ ولأن اسم الجنس إذا أضيف عم .
فصل في المراد بالضلال الكبير
قال ابن الخطيب : يحتمل أن يكون المراد من الضَّلال الكبير ما كانوا عليه في الدنيا من ضلالهم ، ويحتمل أن يكون المراد بالضَّلال الهلاك ، ويحتمل أن يكون قد سمى عقاب الضلال باسمه .
فصل في الرد على المرجئة
احتجت المرجئةُ بهذه الآية على أنه لا يدخل النارَ إلا الكفار قالوا : لأنه تعالى حكى عن كل من ألقي في النار أنهم قالوا : فكذبنا النذير ، وهذا يدل على أن من لم يكذب الله ورسوله لا يلقى في النار ، وظاهر هذه الآية يقتضي القطع بأن الفاسق المصرَّ لا يدخل النار ، وأجاب القاضي عنه : بأن النذير قد يطلق على ما في العقول من الأدلة المخوفة ، وكل من يدخل النار مخالف للدليل .
فصل في معرفة الله بعد ورود السمع
واحتج بهذه الآية من قال : إن معرفة الله ، وشكره لا يجبان إلا بعد ورود السمع ، قالوا : لأنه تعالى إنما عذبهم؛ لأنه أتاهم النذير ، فدل على أنه لو لم يأتهم النذير لم يعذبوا .
قوله : { فَسُحْقاً } . فيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على المفعول به ، أي : ألزمهم الله سحقاً .
والثاني : أنه منصوب على المصدر ، تقديره : « أسحقهم الله سحقاً » فناب المصدر عن عامله في الدعاء نحو « جَدْعاً له ، وغفراً » فلا يجوز إظهار عامله .
واختلف النحاة : هل هو مصدر لفعل ثلاثي ، أم لفعل رباعي ، فجاء على حذف الزوائد .
فذهب الفارسي والزجاج إلى أنه مصدر « أسْحَقهُ اللَّهُ » أي : أبعده .
قال الفارسي : فكان القياس إسحاقاً ، فجاء المصدر على الحذف ، كقوله : [ الوافر ]
4799 - . ...
وإنْ يَهْلِكْ فذلِكَ كانَ قَدْرِي
أي : تقديري .
والظاهر أن لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنه سمع « سَحَقَهُ اللَّهُ » ثلاثياً؛ ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
4800 -
يَجُولُ بأطْرَافِ البِلادِ مُغَرِّباً ... وتَسْحَقُهُ ريحُ الصَّبَا كُلَّ مَسْحَقِ
والذي يظهر أن الزجاج والفارسي إنما قالا ذلك فيمن يقول من العرب : أسحقه الله سحقاً .
وقرأ العامة : بضم وسكون .
والكسائي وآخرون : بضمتين .
وهما لغتان ، والأحسن أن يكون المثقل أصلاً للمخفف ، و « لأصْحابِ » بيان ك { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] ، وسقياً لَكَ .
وقال مكيٌّ : « والرفع يجوز في الكلام على الابتداء » .
أي : لو قيل : « فسحق » جاز ، لا على أنه تلاوة ، بل من حيث الصناعة ، إلاَّ أن ابن عطية قال ما يضعفه ، فإنه قال : « فسحقاً ، نصباً على جهة الدعاء عليهم ، وجاز ذلك فيه وهو من قبل الله - تعالى - من حيث إن هذا القول فيهم مستقر أزلاً ، ووجوده لم يقع ولا يقع إلا في الآخرة ، فكأنه لذلك في حيز المتوقع الذي يدعى فيه كما تقول : سُحْقاً لزيد ، وبُعْداً له ، والنصب في هذا كله بإضمار فعل ، فأما ما وقع وثبت ، فالوجه الرفع ، كما قال تعالى { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } [ المطففين : 1 ] و { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 54 ] ، وغير هذا من الأمثلة » ، انتهى .
فضعف الرفع كما ترى؛ لأنه لم يقع ، بل هو متوقع في الآخرة .
فصل
قال المفسِّرون : { فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير } ، أي : فَبُعْداً لهم من رحمة الله .
وقال سعيد بن جبير ، وأبو صالح : هو واد في جهنَّم يقال له : السحق .
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)
قوله : { إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب } ، نظيره : { مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب } [ ق : 33 ] وقد مضى الكلام فيه . أي : يخافون الله ويخافون عذابه الذي هو « بالغَيْبِ » وهو عذاب يوم القيامة « ويَخْشَوْنَهُ » في دار التكليف ، أي : يتقون جميع المعاصي .
قال ابن الخطيب : وفي الآية دليل على انقطاع وعيد الفساق ، لأن من جاء يوم القيامة مع هذه الخشية بفسق ، فله الأمران ، وانقطاع الثَّواب بالعقاب باطلٌ بالإجماع ، فتعين العكس .
{
لَهُم مَّغْفِرَةٌ } لذنوبهم { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } وهو الجنَّة .
قوله : { لَهْم مَّغْفِرَةٌ } الأحسن أن يكون الخَبَرَ « لَهُمْ » و « مَغْفرةٌ » فاعل به ، لأن الخبر المفرد أصل ، والجار من قبيل المفردات ، أو أقرب إليها .
قوله : { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ } .
اللفظ لفظ الأمر ، والمراد به الخبر ، يعني : إن أخفيتم كلامكم في أمر محمدٍ صلى الله عليه وسلم أو جهرتم به ، فإن اللَّه عليم بذات الصُّدور ، يعني بما في القلوب من الخير والشر .
قال ابن عباس : نزلت في المشركين كانوا ينالون من النبيّّّّّ صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل فقال بعضهم لبعض : أسِرُّوا قولكم كي لا يسمع ربُّ محمدٍ ، فنزلت : { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ } يعني وأسروا قولكم في أمر محمد .
وقيل : إنه خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال ، والمراد أن قولكم وعملكم على أي سبيل وجد ، فالحال واحدة في علمه تعالى بها ، فاحذروا من المعاصي سرًّا كما تحترزون عنها جَهْراً ، فإن ذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى علم اللَّهِ تعالى : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } . ما فيها كما يسمى ولد المرأة جنيناً في بطنها .
قوله : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } . في « مَنْ خَلَقَ » وجهان :
أحدهما : أنه فاعل « يَعْلَمُ » والمفعول محذوف ، تقديره : ألا يعلم الخالق خلقه ، وهذا هو الذي عليه جمهور الناسِ ، وبه بدأ الزمخشريُّ .
والثاني : أن الفاعل مضمر يعود على الباري تعالى ، و « مَنْ » مفعول به ، أي : لا يعلم الله من خلقه .
قال أبو حيَّان : والظَّاهر أن « مَنْ » مفعول ، والمعنى أينتفي علمه بمن خلقه ، وهو الذي لطف علمه ودقّ ، ثم قال : وأجاز بعض النحويين أن يكون « مَنْ » فاعلاً والمفعول محذوف ، كأنه قال : ألا يعلم الخالق سرَّكُم ، وجهركُم ، وهو استفهام معناه الإنكار .
قال شهاب الدينِ : « وهَذَا الوجهُ الذي جعله هو الظاهر يعزيه الناس لأهل الزَّيْغ والبدع الدافعين لعموم الخلق لله تعالى ، وقد أطنب مكي في ذلك ، وأنكر على القائل به ، ونسبه إلى ما ذكرت ، فقال : وقد قال بعض أهل الزيغِ : إن » مَنْ « في موضع نصب اسم للمسرين والمجاهرين ليخرج الكلام عن عمومه ، ويدفع عموم الخلق عن الله تعالى ، ولو كان كما زعم لقال : ألا يعلم ما خلق؛ لأنه إنما يقدم ذكر ما تكن الصدور فهو في موضع ما ، ولو أتت » مَا « في موضع » مَنْ « لكان فيه أيضاً بيان العموم أن اللَّه خالق كل شيء من أقوال الخلق وأفعالهم أسروها ، أو أظهروها خيراً كانت ، أو شراً ، ويقوي ذلك { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } ولم يقل : عليم بالمسرين والجاهرين ، ويكون » مَا « في موضع نصبٍ ، وإنما تخرج الآية من هذا العموم إذا جعلت » ما « في موضع نصب اسماً للأناسِ المخاطبين قبل هذه الآيةِ ، وقوله : { بِذَاتِ الصدور } يمنع من ذلك » انتهى .
قال شهاب الدين : ولا أدري كيف يلزم ما قاله مكي بالإعراب الذي ذكره ، والمعنى الذي أبداه ، وقد قال بهذا القول أعني الإعراب الثاني جماعة من المحققين ، ولم يبالوا بما ذكره لعدم إفهام الآية إياه .
قال الزمخشريُّ بعد كلام ذكره : ثم أنكر أن يحيط علماً بالمضمر والمسر والمجهر « مَنْ خَلَقَ » الأشياء ، وحاله أنه اللطيف الخبير المتصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن ، ويجوز أن يكون « مَنْ خَلقَ » منصوباً بمعنى ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله ، ثم قال : فإن قلت : قدرت في « ألاَ يَعْلَمُ » مفعولاً على معنى ألا يعلم ذلك المذكور ما أضمر في القلب ، وأظهر باللسان من خلق ، فهلاَّ جعلته مثل قولهم : هو يعطي ويمنع؟ وهلا كان المعنى : ألا يكون عالماً من هو خالق؛ لأن الخلق لا يصلحُ إلا مع العلم؟ قلت : أبت ذلك الحال التي هي قوله : { وَهُوَ اللطيف الخبير } لأنك لو قلت : ألا يكون عالماً من هو خالق وهو اللطيف الخبير لم يكن معنى صحيحاً؛ لأن « ألاَ يَعْلَمُ » معتمد على الحال ، والشيء لا يوقف بنفسه ، فلا يقال : ألا يعلم وهو عالم ، ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء .
فصل في معنى الآية
معنى الآية : ألا يعلم السّر من خلق السر ، يقول : أنا خلقت السر في القلب ، أفلا أكون عالماً بما في قلوب العباد؟ .
قال أهل المعاني : إن شئت جعلته من أسماء الخالق - عزَّ وجلَّ - ويكون المعنى : ألا يعلم الخالق خلقه ، وإن شئت جعلته من أسماء المخلوق ، والمعنى : ألا يعلم الله من خلق ، ولا بد أن يكون الخالق عالماً بمن خلقه ، وما يخلقه .
قال ابن المسيِّب : بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير ، وقد عصفت الريحُ ، فوقع في نفس الرجل ، أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق؟ فنودي من جانب الغيضة بصوت عظيم : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير } ؟ .
وقال أبو إسحاق الإسفراييني : من أسماء صفات الذَّات ما هو للعلم ، منها « العَلِيمُ » ، ومعناه : تعميم جميع المعلومات ، ومنها « الخَبِيرُ » ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون ومنها « الحَكِيمُ » ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف ، ومنها « الشَّهِيدُ » ، ويختص بأن يعلم الغائِب والحاضر ، ومعناه : ألاَّ يغيب عنه شيء ، ومنها « الحافظ » ويختص بأنه لا ينسى شيئاً ، ومنها « المُحصِي » ويختص بأنه لا يشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور ، واشتداد الريح ، وتساقط الأوراق ، فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة ، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق؟ وقد قال : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير } .
فصل
لما قال تعالى : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } ذكر الدليل على أنه عالم ، فقال : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } الآية ، والمعنى : أن من خلق لا بُدَّ وأن يكون عالماً بما يخلقه ، لأن الخلق هو الإيجاد والتكوين على سبيل القصد ، والقاصد إلى الشيء ، لا بد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك المخلوق كيفية وكمية .
قال ابن الخطيب : فنقول : لو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفاصيلها ، وهو غير عالم لأن التفاوت بين الحركةِ السريعةِ ، والبطيئة إنما هو لتحلُّل السَّكناتِ ، فالفاعل للحركة البطيئةِ قد يفعل حركة ، وسكوناً ، ولم يخطر بباله ذلك فَضْلاً عن كميته ، ولأن المتحرك لا يعرف عدد أجزاء الحركات إلاَّ إذا عرف عدد الأحياز التي هي بين مبدأ المسافة ومنتهاها وذلك يتوقف على علمه بالجواهر المفردة التي تنتقل في تلك المسافة وعددها ، وذلك غير معلومٍ ، ولأنَّ النائم يتحرك مع عدم علمه؛ ولأن قوله : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } إنما يتصل بما قبله لو كان خالقاً لكل ما يفعلونه سرًّا وجهراً ، وبما في الصدور .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد ألا يعلم من خلق الأجساد؟ .
فالجواب : أنه لا يجوز أن يكون المراد أن من فعل شيئاً يكون عالماً بشيء آخر .
قوله : { وَهُوَ اللطيف الخبير } .
قيل : اللطيف : العالم .
وقيل : هو فاعل الأشياء اللطيفة التي يخفى علمها على أكثر الفاعلين ، ولهذا يقال : إن لُطْف الله تعالى بعباده عجيب ، والمراد به دقائق تدبيره لهم ، وهذا أقرب وإلا لكان ذكر الخبير بعد تكراراً .
قوله : { هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً } لما بين الدليل كونه عالماً بما يسرون وما يعلنون ذكر بعده هذه الآية على سبيل التهديد كقول السيد لعبده الذي أساء إليه سراً : يا فلانُ أنا أعلم سرك وعلانيتك ، فاجلس في هذه الدار التي وهبتها منك ، وكل هذا الخير الذي هيأته لك ، ولا تأمن تأديبي ، فكأنه تعالى يقول : يا أيها الكُفَّار أنا عالم بسركم وجهركم وضمائركم ، فخافوني؛ فإن الأرض التي هي قراركم أنا ذللتها لكم ، ولو شئت خسفت بكم .
والذَّلُولُ : المنقاد الذي يذلّ لك ، والمصدر الذل وهو اللين والانقياد ، أي : لم يجعل الأرض بحيث يمتنع المشي فيها بالحزونة والغلظة .
وقيل : يثبتها بالجبالِ لئلا تزول بأهلها ، ولو كانت تتكفأ متمايلة لما كانت منقادة لنا .
وقيل : إشارة إلى التمكن من الزرعِ ، والغرس ، وشق العيون ، والأنهار ، وحفر الآبار ، وبناء الأبنية ، ولو كانت صلبة لتعذر ذلك .
وقيل : لو كانت مثل الذَّهب والحديد لكانت تسخن جداً في الصيف ، وكانت تبرد جداً في الشتاء .
قوله : { فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا } . هذه استعارة حسنة جداً .
وقال الزمخشري : مثل لفرط التذليل ، ومجاوزته الغاية؛ لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير ، وأنهاه عن أن يطأه الراكب بقدمه ، ويعتمد عليه ، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يترك .
فصل في هذا الأمر
هذا أمر إباحة ، وفيه إظهار الامتنان .
وقيل : هو خبر بلفظ الأمر ، أي : لكي تمشوا في أطرافها ، ونواحيها ، وآكامها وجبالها .
وقال ابنُ عبَّاسٍ وقتادة وبشير بن كعب : « فِي منَاكبِهَا » في جبالها .
وروي أن بشير بن كعب كانت له سرية فقال لها : إن أخبرتيني ما مناكب الأرض فأنت حرة . فقالت : مناكبها : جبالها ، فصارت حُرَّة ، فأراد أن يتزوجها ، فسأل أبا الدرداء ، فقال : « دَعْ ما يَريبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ » .
وقال مجاهد : في أطرافها ، وعنه أيضاً : في طرفها وفجاجها ، وهو قول السديِّ والحسن .
وقال الكلبيُّ : في جوانبها . ومنكبا الرجل : جانباه ، وأصل الكلمة : الجانب ، ومنه منكب الرجل والريح النكباء ، وتنكب فلان عن فلان .
يقول : امشُوا حيث أردتم ، فقد جعلتها لكم ذلولاً لا تمتنع .
وحكى قتادةُ عن أبي الجلد : أن الأرض من أربعة وعشرون ألف فرسخ ، فللسودان اثنا عشر ألفاً ، وللروم ثمانية آلافٍ ، وللفرس ثلاثة آلافٍ ، وللعرب ألفٌ .
قوله : { وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ } .
قال الحسن : ما أحله لكم .
وقيل : مما أنبته لكم .
وقيل : مما خلقه اللَّه لكم رزقاً من الأرض « وإليْهِ النُّشورُ » المرجع .
وقيل : معناه أن الذي خلق السماوات ولا تفاوت فيها ، والأرض ذلولاً قادر على أن ينشركم ، وإليه تبعثون من قبوركم .
قوله : { أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء } .
تقدم اختلاف القراء في الهمزتين المفتوحتين نحو { أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ] تخفيفاً وتحقيقاً وإدخال ألف بينهما وعدمه في سورة « البقرة » .
وأن قنبلاً يقرأ هنا : بإبدال الهمزة الأولى واواً في الوصل « وإليْهِ النشورُ وأمنتُمْ » ، وهو على أصله من تسهيل الثانية بين بين ، وعدم ألف بينهما ، وأما إذا ابتدأ ، فيحقق الأولى ، ويسهل الثانية بين بين على ما تقدم ، ولم تبدل الأولى واواً ، لزوال موجبه وهو انضمام ما قبلها ، وهي مفتوحة نحو « مُوجِل ، ويُؤاخِذكُم » ، وقد مضى في سورة « الأعراف » عند قوله تعالى : { قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ } [ الأعراف : 123 ] ، وإنما عددناه تذكيراً ، وبياناً .
قوله : { مَّن فِي السمآء } . مفعول « أأمِنْتُمْ » وفي الكلام حذف مضاف ، أي : أمنتم خالق السماوات .
وقيل : « فِي » بمعنى « على » ، أي : على السماء ، كقوله :
{
وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] ، أي : على جذوع النخل .
وإنما احتاج القائل بهذين إلى ذلك؛ لأنه اعتقد أن « مَنْ » واقعة على الباري ، وهو الظاهر وثبت بالدليل القطعي أنه ليس بمتحيّز لئلا يلزم التجسيم ، ولا حاجة إلى ذلك؛ فإن « مَنْ » هنا المراد بها : الملائكة سكان السماءِ ، وهم الذين يتولّون الرحمة والنقمة .
وقيل : خوطبوا بذلك على اعتقادهم؛ فإن القوم كانوا مجسمة مشبِّهة ، والذي تقدم أحسن .
قال ابن الخطيب : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين؛ لأن ذلك يقتضي إحاطة السَّماءِ به من جميع الجوانب ، فيكونُ أصغر منها ، والعرش أكبر من السماء بكثير ، فيكون حقيراً بالنسبة إلى العرش ، وهو باطل بالاتفاق ، ولأنه قال : { قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض } [ الأنعام : 12 ] فلو كان فيهما لكان مالكاً لنفسه ، فالمعنى : إما من في السموات عذابه ، وإما أن ذلك ما كانت العرب تعتقد ، وإما من في السماء سلطانه وملكه وقدرته ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض } [ الأنعام : 3 ] فإنَّ الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين ، والغرض من ذكر السَّماءِ تفخيم سلطان الله ، وتعظيم قدرته ، والمراد الملك الموكل بالعذاب ، وهو جبريلُ يخسفها بإذن الله .
قوله : { أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض } و { أَن يُرْسِلَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنهما بدلان من { مَنْ فِي السماء } بدل اشتمال ، أي : أمنتم خسفه ، وإرساله .
قاله أبو البقاء .
والثاني : أن يكون على حذف « مِنْ » ، أي : أمنتم من الخسف والإرسال ، والأول أظهر .
فصل
قال القرطبيُّ : ويحتمل أن يكون المعنى : أمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون { فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } أي : تذهب وتجيء ، والمور : الاضطراب بالذهاب والمجيء . قال الشاعر : [ الطويل ]
4801 -
رَمَيْنَ فأقْصَدْنَ القُلُوبَ ولَنْ تَرَى ... دَماً مَائِراً إلاَّ جرى في الحيَازِمِ
جمع « حيزوم » وهو وسط الصدر .
وإذا خسف بإنسان دارت به الأرض ، فهو المور .
قال ابن الخطيب : إن الله - تعالى - يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك ، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها ، فيذهبون والأرض فوقهم تمُور ، فتقلبهم إلى أسفل السافلين .
قال القرطبي : قال المحققُون : أمنتم من فوق السَّماء ، كقوله : { فَسِيحُواْ فِي الأرض } [ التوبة : 2 ] أي : فوقها لا بالمماسة والتحيُّز ، لكن بالقهر والتدبير .
وقيل : معناه : أمنتم من على السماء كقوله : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] ، أي : عليها ، ومعناه أنه مدبرها ، ومالكها كما يقال : فلان على « العراق » ، أي : وليها وأميرها ، والأخبار في هذا صحيحة ، وكثيرة منتشرة مشيرة إلى العلوّ ، لا يدفعها إلا ملحد ، أو جاهل أو معاند ، والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت ، ووصفه بالعلو والعظمة ، لا بالأماكن والجهات والحدود؛ لأنها صفات الأجسامِ ، وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء؛ لأن السماء مهبط الوحْي ، ومنزل القطر ، ومحل القدس ، ومعدن المطهرين من الملائكة ، وإليها ترفع أعمال العباد ، وفوقها عرشه وجنته كما جعل اللَّهُ الكعبة قبلة للصلاة ، فإنه خلق الملائكة وهو غير محتاجٍ إليها ، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان ، ولا مكان له ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان .
قوله { أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السمآء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً } .
قال ابن عباس : أي : حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوطٍ وأصحاب الفيل .
وقيل : ريح فيها حجارة وحصباء كأنها تقلع الحصباء ، لشدتها وقوتها .
وقيل : سحاب فيه حجارة .
قوله { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } .
قيل : هاهنا النذير : المنذر ، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وهو قول عطاء عن ابن عباس والضحاك ، والمعنى : فستعلمون رسولي ، وصدقه ولكن حين لا ينفعكم ذلك .
وقيل : إنه بمعنى الإنذار ، والمعنى فستعلمون عاقبة إنذاري إياكم بالكتاب والرسول ، وكيف في قوله { كَيْفَ نَذِيرِ } [ ينبىء ] عن ما ذكرنا من صدق الرسول ، وعقوبة الإنذار .
وقد تقدم أن « نَذِير ، ونكير » مصدران بمعنى الإنذار؛ والإنكار .
وأثبت ورش ياء « نذيري » وقفاً ، وحذفها وصلاً ، وحذفها الباقون في الحالين .
قوله : { وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } . يعني كفار الأمم كقوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وغيرهم { فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ } أي : إنكاري وتغييري : قاله الواحديُّ .
وقال أبو مسلم : النكير عقاب المنكر ، ثم قال : سقطت الياء من « نَذيرِي » ومن « نَكيرِي » حتى تشابه رءوس الآي المتقدمة عليها ، والمتأخرة عنها .
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ } .
لما ذكر ما تقدم من الوعيد ذكر البرهان على كمال قدرته ، وعلى إيصال جميع أنواع العذاب إليهم ، ومعناه كما ذلل الأرض للآدمي ذلل الهواء للطيور ، وصافاتٍ : أي : باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانهن .
قال شهاب الدين : « صافَّاتٍ » يجوز أن يكون حالاً من « الطَّير » ، وأن يكون حالاً من « فَوقَهُمْ » إذا جعلناه حالاً ، فتكون متداخلة ، و « فَوقَهُمْ » ظرف ل « صافَّاتٍ » أو ل « يَرَوا » .
قوله : « ويَقْبِضْنَ » عطف الفعل على الاسم؛ لأنه بمعناه ، أي : وقابضات ، فالفعل هنا مؤول بالاسم عكس قوله : { إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ } [ الحديد : 18 ] فإن الاسم هناك مؤول بالفعل وقد تقدم الاعتراض على ذلك .
وقول أبي البقاء : معطوف على اسم الفاعل حملاً على المعنى ، أي : يصففن ويقبضن ، أي « صافَّاتٍ وقَابضاتٍ » لا حاجة إلى تقديره : يصففن ويقبضن؛ لأن الموضع للاسم فلا نؤوله بالفعل .
قال أبو حيان : « وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه ، ومثله قوله تعالى : { فالمغيرات صُبْحاً فَأَثَرْنَ } [ العاديات : 3 - 4 ] ، ومثل هذا العطف فصيحٌ وكذا عكسه إلاَّ عند السُّهيلي؛ فإنه قبيح؛ نحو قوله : [ الرجز ]
4802 -
بَاتَ يُغشِّيهَا بعَضْبٍ بَاتِر ... يَقْصِدُ فِي أسْوُقِهَا وجَائرِ
أي : قاصد في أسواقها وجائر » .
وكذا قال القرطبيُّ : هو معطوف على « صافَّاتٍ » عطف المضارع على اسم الفاعل كما عطف اسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر : « بَاتَ يُغشِّيها » البيت .
قال شهاب الدين : هو مثله في عطف الفعل على اسم الفاعل إلا أن الاسم فيه مؤولٌ بالفعل عكس هذه الآية ، ومفعول « يقبِضنَ » محذوف ، أي : ويقبضن أجنحتهن .
قاله أبو البقاء ، ولم يقدر ل « صَافَّاتٍ » مفعولاً كأنه زعم أن الاصطفاف في أنفسها ، والظاهر أن المعنى : صافات أجنحتها وقابضات ، فالصف والقبض منها لأجنحتها .
ولذلك قال الزمخشري : « صافَّاتٍ » باسطات أجنحتهن ، ثم قال : فإن قلت : لم قال : ويقبضن ، ولم يقل : « قابضات »؟ .
قلت : لأن الطيران هو صف الأجنحة؛ لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها ، وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك ، فجيء بما هو طارىء غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ، يكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح .
قوله « مَا يُمسِكُهُنَّ » . يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، وأن تكون حالاً من الضمير في « يَقْبِضنَ » قاله أبو البقاء . والأول أظهر .
وقرأ الزهريُّ : بتشديد السِّين .
فصل في معنى : يقبضن
قوله : « ويَقْبِضْنَ » .
أي : يضربن بها لجنوبهن .
قال أبو جعفر النحاس : يقال للطائر إذا بسط جناحية : صاف ، وإذا ضمها فأصاب جنبه قابض ، لأنه يقبضهما .
قال أبو خراش الشاعر : [ الطويل ]
4803 -
يُبَادِرُ جُنْحَ اللَّيْلِ فهو مُوائِلٌ ... يَحُثُّ الجَناحَ بالتَّبسُّطِ والقبْضِ
وقيل : ويقبضن أجنحتهن بعد بسطها إذا وقفن من الطيران .
وقوله « ما يُمسِكُهنَّ » أي : ما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عز وجل { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } .
قال ابن الخطيب : وفيه وجهان :
الأول : المراد من « البصير » كونه عالماً بالأشياء الدقيقة ، كما يقال : فلان له بصر في هذا الأمر ، أي : حذق .
والثاني : أن يجري اللفظ على ظاهره ، فتقول : { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } فيكون رائياً لنفسه ، ولجميع الموجودات وهذا الذي يقوله أصحابنا : إنه تعالى شيء يصح أن يكون مرئياً ، وأن كل الموجودات كذلك ، فإن قيل : البصير إذا عدي بالباء يكون بمعنى العالم ، يقال : فلان بصير بكذا إذا كان عالماً قلنا : لا نسلم ، فإنه يقال : إن الله سميع بالمسموعات بصير بالمبصرات .
فصل
في قوله تعالى { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن } دليل على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله تعالى ، لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري له ، وقد نسبه للرحمن .
قوله : { أَمَّنْ هذا الذي } .
قرأ العامة : بتشديد الميم على إدغام ميم « أمْ » في ميم « مَنْ » و « أمْ » بمعنى « بَلْ » لأن بعدها اسم استفهام ، وهو مبتدأ ، خبره اسم الإشارة .
وقرأ طلحة : بتخفيف الأول وتثقيل الثاني .
قال أبو الفضل : معناه : أهذا الذي هو جند لكم ، أم الذي يرزقكم . و « يَنْصُركُمْ » صفة لجند .
فصل في لفظ جند
قال ابن عباس : « جُندٌ لَكُمْ » أي : حزب ومنعه لكم { يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرحمن } ، فيدفع عنكم ما أراد بكم إن عصيتموه . ولفظ الجند يوحد ، ولهذا قال : هذا الذي هو جند لكم ، وهو استفهام إنكاري ، أي لا جند لكم يدفع عذاب الله من دون الرحمن ، أي : من سوى الرحمن { إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ } من الشيطان يغرهم بأن لا عذاب ، ولا حساب .
قال بعض المفسرين : كان الكفار يمتنعون عن الإيمان ، ويعاندون الرسول - عليه الصلاة والسلام - معتمدين على شيئين :
أحدهما : قوتهم بعددهم ومالهم .
والثاني : اعتقادهم أن الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات ، وتدفع عنهم جميع الآفات فأبطل الله عليهم الأول بقوله { أَمَّنْ هذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ } الآية ، ورد عليهم الثاني بقوله : { أَمَّنْ هذا الذي يَرْزُقُكُمْ } الآية .
قوله { إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } شرط ، جوابه محذوف للدلالة عليه ، أي : أفمن يرزقكم غيره .
وقدّر الزمخشريٌّ شرطاً بعد قوله : { أَمَّنْ هذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ } تقديره : « إن أرسل عليكم عذابه » ولا حاجة له صناعة .
فصل في معنى الآية
المعنى { أَمَّنْ هذا الذي يَرْزُقُكُم } أي : يعطيكم منافع الدنيا .
وقيل : من آلهتكم « إنْ أمسَكَ » يعني الله تعالى رزقه وهذا مما لا ينكره ذو عقل ، وهو أنه تعالى إن أمسك أسباب الرزق كالمطر ، والنبات وغيرهما لما وجد رازق سواه فعند وضوح هذا الأمر قال تعالى : { بَل لَّجُّواْ } ، أي : تمادوا وأصروا « فِي عُتُوٍّ » طغيان « ونُفورٍ » عن الحق ، أو تباعد أو إعراض عن الحق .
قوله : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى } . « مُكِبًّا » حال من فاعل « يمشي » .
قال الواحديُّ : « أكب » ، مطاوع كبه ، يقال : كببته فأكب .
قال الزمخشريُّ : هو من الغرائب والشواذ ، ونحوه قشعت الريح السحاب فأقشع ، وما هو كذلك ولا شيء من بناء « أفعل » مطاوع ، بل قولك : أكب ، من باب « أنفض ، وألأم » ومعناه : دخل في الكب ، وصار ذا كب وكذلك أقشع السحاب دخل في القشع .
ومطاوع « كب ، وقشع » انكب وانقشع .
قال أبو حيان : « ومُكِباً » حال من « أكب » وهو لا يتعدى ، و « كب » متعد ، قال تعالى { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار } [ النمل : 90 ] والهمزة فيه للدخول في الشيء ، أو للصيرورة ، ومطاوع كب انكب ، تقول : كببته فانكب . قال الزمخشريُّ : « ولا شيء من بناء » أفعل « مطاوعاً ولا يتقن نحو هذا إلا حملة كتاب سيبويه » انتهى .
وهذا الرجل يتبجح بكتاب سيبويه ، وكم من نص في كتاب سيبويه عمي بصره وبصيرته عنه حتى إن الإمام أبا الحجاج يوسف بن معزوز صنف كتاباً يذكر فيه ما غلط الزمخشري فيه ، وما جهله من كتاب سيبويه . انتهى .
قال شهاب الدين : انظر إلى هذا الرجل كيف أخذ كلام الزمخشري الذي أسلفته عنه طرز به عبارته حرفاً بحرف ثم أخذ ينحي عليه بإساءة الأدب جزاء ما لقنه تلك الكلمات الرائقة ، وجعل يقول : إن مطاوع « كَبَّ » « انكب » لا « أكب » وأن الهمزة للصيرورة ، أو للدخول في الشيء ، وبالله لو بقي دهره غير ملقن إياها لما قالها أبداً ، ثم أخذ يذكر عن إنسان مع أبي القاسم كالسُّها مع القمر أنه غلطه في نصوص من كتاب سيبويه ، والله أعلم بصحتها : [ الوافر ]
4804 -
وكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً ... وآفتُهُ من الفَهْمِ السَّقيم
وعلى تقدير التسليم ، فالفاضل من عدت سقطاته .
قال القرطبيُّ : يقال : أكب الرجل على وجهه فيما لا يتعدى بالألف ، فإذا تعدى قيل : كبه الله على وجهه بغير ألف ، وقوله : « أفَمنْ يَمْشي » هو المعادل ل { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً } .
وقال أبو البقاء : « وأهْدَى » خبر « مَنْ يَمِشِي » وخبر « من » الثانية محذوف .
يعني أن الأصل : أم من يمشي سوياً أهدى ، ولا حاجة إلى ذلك؛ لأن قولك : أزيد قائم ، أم عمرو لا يحتاج فيه من حيث الصناعة إلى حذف الخبر ، نقول : هو معطوف على « زيد » عطف المفردات ، ووحد الخبر لأن « أمْ » لأحد الشيئين .
فصل
قال المفسرون : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً } منكساً رأسه لا ينظر أمامه ، ولا يمينه ، ولا شماله ، فهو لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه { كَمنْ يَمْشي سويّاً } مُعتدِلاً ناظراً ما بين يديه ، وعن يمينه وعن شماله .
قال ابن عباسٍ : هذا في الدنيا ، ويجوز أن يريد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى طريق ، فلا يزال ينكسه على وجهه ، وأنه ليس كالرجل السوي الصحيح البصير الماشي في الطريق المهتدي له .
قال قتادةُ : هو الكافر أكب على معاصي الله في الدنيا ، يحشره الله يوم القيامة على وجهه .
وقال ابن عباس والكلبيُّ : عنى بالذي يمشي على وجهه أبا جهل ، وبالذي يمشي سوياً رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقيل : أبو بكر .
وقيل : حمزة .
وقيل : عمار بن ياسر .
قال عكرمة : وقيل : هو عام في الكافر والمؤمن ، أي : إن الكافر لا يدري أعلى حق هو ، أم على باطل ، أي : هذا الكافر أهدى ، أم المسلم الذي يمشي سوياً معتدلاً يبصر الطريق ، وهو على صراطٍ مستقيمٍ وهو الإسلام .
قوله { قُلْ هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ } . أمر نبيه أن يعرفهم قبح شركهم مع اعترافهم أن الله خلقهم { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة } يعني القلوب .
قوله « قَلِيلاً » . نعت مصدر محذوف ، أو حال من ضمير المصدر كما هو رأي سيبويه و « ما » مزيدة أي : تشكرون قليلاً ، والجملة من « تَشْكُرون » إما مستأنفة ، وهو الظاهر ، وإما حال مقدرة؛ لأنهم حال الجعل غير شاكرين .
والمراد بالقلة العدم ، أو حقيقتها ، أي : لا تشكرون هذه النعم ، ولا توحدون الله تعالى ، تقول : قلَّما أفعلُ كذا ، أي : لا أفعله .
قال ابن الخطيب : وذكر السمع والبصر والفؤاد هاهنا تنبيهاً على دقيقه لطيفة ، كأنه تعالى قال : أعطيتم هذه الأعضاء الثلاثة مع ما فيها من القوى الشريفة ، فضيعتموها ولم تقبلوا ما سمعتموه ولا اعتبرتم بما أبصرتموه ولا تأملتم في عاقبة ما عقلتموه ، فكأنكم ضيعتم هذه النعم ، وأفسدتم هذه المواهب ، فلهذا قال : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } .
قوله : { قُلْ هُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
قال ابن الخطيب : اعلم أنه تعالى استدل بأحوال الحيوانِ أولاً ، ثم بصفات الإنسانِ ثانياً ، وهي السمع والبصر والعقل ، ثم بحدوث ذاته ثالثاً ، وهو قوله { قُلْ هُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض } واعلم أن الشروع في هذه الدلائل إنما كان لبيان صحة الحشر ليثبت ما ادعاه في قوله { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ولهذا ختم الآية بقوله { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } لأنه لما كانت القدرة على الخلق ابتداء توجب القدرة على الإعادة ، فلهذا ختمها بقوله { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
فصل في معنى « ذرأكم »
قال ابن عباسٍ : خلقكم في الأرض .
وقال ابن بحر : نشركم فيها ، وفرقكم فيها على ظهرها { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } فيجازي كلاًّ بعمله .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
{
وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ، أي : متى يوم القيامة ومتى هذا العذابُ الذي تعدوننا به؟ .
قال أبو مسلم : إنه تعالى قال : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } بلفظ المستقبلِ ، وهذا يحتمل ما يوجد من الكفار من هذا القول في المستقبل ، ويحتمل الماضي ، والتقدير : وكانوا يقولون : متى هذا الوعد ، ولعلهم كانوا يقولون ذلك سخرية ، واستهزاء ، وكانوا يقولونه إيهاماً للضعفة ، ثم إنه تعالى أجاب عن هذا السؤالِ ، فقال { إِنَّمَا العلم عِنْدَ الله } ، أي : قل لهم يا محمد : علم وقت قيام الساعة عند الله فلا يعلمه غيره ، نظيره : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي } [ الأعراف : 187 ] الآية { وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي : مخوف ومعلم لكم ، ثم إنه تعالى بين حالهم عند ذلك الوعد وهو قوله : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } ، أي : الموعود ، أو العذاب زلفة ، أي : قريباً ، فهو حال .
وقال القرطبيُّ : « مصدر ، بمعنى مزدلفاً ، أي : قريباً ، قاله مجاهد » .
ولا بد من حذف مضاف ، أي : ذا زلفة ، وجعل الزلفة مبالغة .
وقيل : « زُلْفَة » تقديره : مكاناً ذا زلفةٍ ، فينتصب انتصاب المصدرِ .
فصل في المراد بالعذاب .
قال الحسنُ : عياناً . وأكثر المفسرين على أن المراد عذابُ الآخرةِ .
وقال مجاهدٌ : عذاب يوم بدر .
وقيل : رأوا ما يوعدون من الحشر قريباً منهم ، لقوله { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
وقال ابن عباس : يعني علمهم الشيء قريباً .
قوله : « سِيئَتْ » ، الأصل : « ساء » أحزن وجوههم العذاب ، ورؤيته ، ثم بني للمفعول ، وساء هنا ليست المرادفة ل « بئس » كما تقدم مراراً .
وأشم كسرة السين الضم : نافع وابن عامر والكسائي ، كما فعلوا ذلك في { سياء بِهِمْ } [ هود : 87 ] في « هود » كما تقدم . والباقون : بإخلاص الكسر ، وتقدم تحقيق هذا وتصريفه في أول « البقرة » ، وأن فيه لغات عند قوله { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } [ البقرة : 11 ] .
فصل في معنى الآية
قال ابن عباس : « سِيْئَتْ » أي : اسودت وعليها الكآبة والغبرة .
يقال : ساء الشيءُ يسوء ، فهو مسيء إذا قبح ، وساء يساء إذا قبح ، وهو فعل لازم ومتعدّ ومعنى { سِيئَتْ وُجُوهُ } ، أي : قبحت ، بان عليها الكآبةُ ، وغشيها الكسوفُ والقترة وكلحوا .
قال الزجاج : تبين فيها السوء ، أي : ساءهم ذلك العذاب وظهر على وجوههم سمة تدل على كفرهم ، كقوله تعالى { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] .
قوله : { وَقِيلَ هذا الذي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ } ، أي : قال لهم الخزنة .
قال الفراء : « تفتعلون » من الدعاء . وهو قول أكثر العلماءِ ، أي : تتمنون ، وتسألون .
وقال ابن عباس : تكذبون ، وتأويله : هذا الذي كنتم من أجله تدعون الأباطيل والأحاديث قاله الزجاج .
وقرأ العامة : بتشديد الدال مفتوحة .
فقيل : من الدعوى ، أي : تدعون أنه لا جنة ولا نار ، قاله الحسنُ .
وقيل : من الدعاء ، أي : تطلبونه وتستعجلونه .
وقرأ الحسنُ وقتادةُ وأبو رجاء والضحاك ، ويعقوب وأبو زيد وأبو بكر وابن أبي عبلة ونافع في رواية الأصمعي : بسكون الدالِ ، وهي مؤيدة للقول بأنها من الدعاء في قراءة العامة .
وقال قتادة : هو قولهم : { رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } [ ص : 16 ] .
وقال الضحاك : هو قولهم : { إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } [ الأنفال : 32 ] الآية .
وقال النحاس : تدَّعون ، وتدْعون ، بمعنى واحد ، كما يقال : قدر واقتدر ، وعدى واعتدى إلا أن في « افتعل » معنى شيء بعد شيء ، و « فَعَل » يصح للقيل والكثير .
قوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله } . أي : قل لهم يا محمد ، يعني مشركي مكة وكانوا يتمنون موت محمد صلى الله عليه وسلم كما قال : { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } [ الطور : 30 ] أرأيتم إن متنا ، أو رحمنا ، فأخرت آجالنا ، يعني أنا ومن معي من المؤمنين فمن يجيركم من عذاب الله؟ فلا حاجة لكم إلى التربص بنا ولا إلى استعجال قيام الساعة .
وأسكن الياء في « أهْلَكَنِي » ابن محيصن والمسيبي وشيبة والأعمش وحمزة وفتحها الباقون .
وكلهم فتح الياء في « ومَنْ مَعِيَ » إلا أهل الكوفة فإنهم سكنوها ، وفتحها حفص ، كالجماعة .
قوله : { قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } . قد تقدم لِمَ أخر متعلق الإيمان وقدم متعلق التوكل ، وأن التقديم يفيد الاختصاص .
قال القرطبيُّ : إنما قدم لوقوع « آمَنَّا » تعريضاً بالكافرين ، حين ورد عقب ذكرهم ، كأنه قيل : آمنا ولم نكفر كما كفرتم ، ثم قال : « وعَليْهِ تَوكَّلْنَا » خصوصاً لم نتكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم وأموالكم ، قاله الزمخشري .
وقرأ الكسائي : « فَسَيْعلمُونَ » بياء الغيبة نظراً إلى قوله « الكَافِرينَ » .
والباقون : على الخطاب ، إما على الوعيد وإما على الالتفات من الغيبة المرادة في قراءة الكسائي وهو تهديد لهم ، أي : فستعملون عند معاينة العذاب من الضال نحن ، أم أنتم .
قوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ } يا معشر قريش { إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً } أي : غائراً ذاهباً في الأرض لا تناله الدلاء ، و « غَوْراً » خبر « أصْبَحَ » ، وجوز أبو البقاء : أن يكون حالاً على تمام « أصْبَحَ » ، لكنه استبعده .
وحكى أنه قرىء : « غُؤُوراً » - بضم الغين ، وهمزة مضمومة ، ثم واو ساكنة - على « فعول » وجعل الهمزة منقلبة عن واو مضمومة .
فصل في المراد بالماء
كان ماؤهم من بئرين : بئر زمزم وبئر ميمون { فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } أي : جارٍ ، قاله قتادة والضحاك .
فلا بد لهم أن يقولوا : لا يأتينا به إلا الله تعالى ، فقل لهم : فلم تشركون به من لا يقدر على أن يأتيكم به .
يقال : غار الماء يغور غوراً : نضب ، والغور : الغائر ، وصف بالمصدر للمبالغة كما تقول : رجلٌ عدلٌ ، ورضى .
كما تقدم في سورة الكهف .
قال ابن عباسٍ : « بِماءٍ مَعينٍ » أي : ظاهر تراه العيون ، فهو مفعول .
وقيل : هو من معن الماءُ ، أي : كثر ، فهو على هذا « فَعِيل » .
وعن ابن عباس أيضاً : « فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ عذبٍ » .
روى أبو هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّ سُورةً مِنْ كتابِ اللَّهِ ما هِيَ إلاَّ ثلاثُون آيَةً شَفَعتْ لرَجُلٍ فأخْرجتْهُ يَوْمَ القيامةِ مِن النَّارِ وأدْخلتْهُ الجَنَّةَ هِيَ سُورةُ تبَارَكَ » .
وعن عبد الله بن مسعود قال : إذا وضع الميت في قبره يؤت من قبل رجليه فيقال : ليس لكم عليه سبيل لأنه قد كان يقوم بي سورة « المُلْك » ثم يؤتى من قبل رأسه فيقول لسانه : ليس لكم عليه سبيل كان يقرأ بي سورة « المُلك » ، ثم قال : هي المانعة من عذاب الله وهي في التوراة سورة الملك ، من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطنب .
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ودِدْتُ أنَّ { تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك } في قلبِ كُلِّ مُؤمِنٍ » .
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
قوله تعالى « ن » كقوله { ص والقرآن } [ ص : 1 ] ، وجواب القسم الجملة المنفية بعدها .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - هو الحوت الذي على ظهره الأرض ، وهو قول مجاهدٍ ومقاتل والسدي والكلبي .
وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال : أول ما خلق الله القلم ، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون ، فمارت الأرض فأثبتت بالجبال وإن الجبال لتفخر على الأرض ، ثم قرأ ابن عباس : { ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ } .
قال الواقديُّ : اسم النون ليوثا .
وقال كعب الأحبار : لوثوثا .
وعن علي : اسمه تلهوت .
وقيل : إنه أقسم بالحوت الذي ابتلع يونس - عليه الصلاة والسلام - .
وقيل : الحوت الذي لطخ سهم نمروذ بدمه .
وقال الكلبي ومقاتل : اسم الحوت الذي على ظهر الأرض : البَهْمُوت .
قال الراجز : [ الرجز ]
4805 -
مَا لِي أرَاكُمْ كُلَّكُمْ سُكُوتَا ... واللَّهُ ربِّي خَلقَ البَهْمُوتَا
وروى عكرمة عن ابن عباس : أن نون آخر حروف الرحمن .
وقيل : إنه اسم للدواةِ ، وهو أيضاً مروي عن ابن عباس .
قال القرطبيُّ : وروى أبو هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « أوّلُ ما خَلَقَ اللَّهُ القَلمَ ، ثُمَّ خلقَ النُّون ، وهي الدَّواةُ ، وذلك قوله تعالى » ن « والقلم » ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
4806 -
إذَا مَا الشَّوْقُ يَبْرَحُ بِي إليْهِمْ ... وألفَى النُّون بالدَّمْعِ السِّجامِ
ويكون على هذا قسماً بالدواة والقلم ، فإن المنفعة بهما عظيمة بسبب الكتابةِ . فإن التفاهم يحصل تارة بالنطق ، وتارة بالكتابة .
وقيل : النون لوح من نون تكتب فيه الملائكةُ ما يؤمرون به ، رواه معاوية بن قرة مرفوعاً .
وقيل : النون هو المداد الذي تكتب به الملائكة .
وقال عطاء وأبو العالية : هو افتتاح اسمه تعالى ناصر ونور ونصير ، وقال محمد بن كعب : أقسم الله - تعالى - بنصره للمؤمنين .
وقال جعفر الصادق : هو نهر من أنهار الجنَّة يقال له : نون .
وقيل : هو الحرف المعروف من حروف المعجم ، قاله القشيري .
قال : لأنه حرف لم يعرب فلو كان كلمة تامة أعرب به القلمُ ، فهو إذن حرف هجاء ، كما في أوائل السور .
قال الزمخشريُّ : « وأما قولهم : هو الدواة فما أدري أهو وضع لغوي ، أو شرعي ، ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة من أن يكون جنساً ، أو علماً ، فإن كان جنساً فأين الإعراب والتنوينُ وإن كان علماً فأين الإعراب؟ وأيهما كان فلا بد له من موقع في تأليف الكلام؛ لأنك إذا جعلته مقسماً به وجب إن كان جنساً أن تجره وتنونه ، ويكون القسم بدواة منكرة مجهولة ، كأنه قيل : ودواة والقلم ، وإن كان علماً أن تصرفه وتجره أو لا تصرفه وتفتحه للعلمية والتأنيث ، وكذلك التفسير بالحوت إما أن يراد نون من النينان ، أو يجعل علماً للبهموت الذي يزعمون ، والتفسير باللوح من نور أو ذهب والنهر في الجنَّة نحو ذلك » .
قال شهاب الدين : « وهذا الذي أورده أبو القاسم من محاسن علم الإعراب ، وقلَّ من يتقنه » .
وقال ابن الخطيب بعد ذكر القول بأنه آخر حروف اسم الرحمن : وهذا ضعيف ، لأن تجويزه يفتح باب ترهات الباطنية بل الحق هاهنا أنه اسم للسورة ، أو يكون الغرض منه التحدي ، وسائر الوجوه المذكورة في أول سورة البقرة .
فصل في قراءات « ن »
قرأ العامة : « نُونْ » ساكن النون كنظائره .
وأدغم ابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم بلا خلاف ، وورش بخلاف عنه النون في الواو ، وأظهرها الباقون .
قال الفراء : « وإظهارها أعجب إليَّ ، لأنها هجاء ، والهجاء كالموقوف عليه وإن اتصل » ونقل عمن أدغم الغنَّة ، وعدمها .
وقرأ ابن عباس والحسن وأبو السِّمال وابن أبي إسحاقَ : بكسر النون .
وسعيد بن جبير وعيسى بخلاف عنه : بفتحها .
فالأولى على التقاء الساكنين ، ولا يجوز أن يكون مجروراً على القسم حذف حرف الجر وبقي عمله ، كقولهم « اللَّهِ لأفعلَنَّ » ، لوجهين :
أحدهما : أنه مختص بالجلالة المعظمة نادر فيما عداها .
والثاني : أنه كان ينبغي أن ينون ، ولا يحسن أن يقال : هو ممنوع الصرف اعتباراً بتأنيث السورة ، لأنه كان ينبغي ألاَّ يظهر فيه الجر بالكسر ألبتة .
وأما الفتح ، فيحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون بناء ، وأوثر على الأصل للخفة ك « أين وكيف » .
الثاني : أن يكون مجروراً بحرف القسم المقدر على لغة ضعيفة ، وقد تقدم ذلك في قراءة « فالحقّ والحقِّ » [ ص : 84 ] ، بجرّ « الحقّ » ، ومنعت الصرف اعتباراً بالسورة .
والثالث : أن يكون منصوباً بفعل محذوف ، أي : ، اقرأوا نوناً ثم ابتدأ قسماً بقوله : « والقَلمِ » أو يكون منصوباً بعد حذف حرف القسم؛ كقوله : [ الوافر ]
-4807 . ...
فَذَاكَ أمَانَةَ اللَّهِ الثَّريدُ
ومنع الصرف لما تقدم ، وهذا أحسن لعطف العلم على محله .
قوله : { وَمَا يَسْطُرُونَ } .
«
ما » موصولة ، اسمية أو حرفية ، أي : والذي يسطرونه من الكتب ، وهم الكتَّاب والحفظة من الملائكة وسطرهم .
والضمير عائد على من يسطر لدلالة السياق عليه ولذكر الآلة المكتتب بها .
وقال الزمخشري يجوز أن يراد بالقلم أصحابه فيكون الضمير في « يَسْطُرونَ » لهم .
يعني فيصير كقوله : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ } [ النور : 40 ] تقديره : أو كذي ظلمات فالضمير في « يغْشَاه » يعود على « ذي » المحذوف .
فصل في المراد بالقلم
في « القلم » المقسم به قولان :
أحدهما : أن المراد به الجنس ، وهو واقع على كل قلم يكتب به في السماء والأرض ، قال تعالى :
{
وَرَبُّكَ الأكرم الذى عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 3 ، 4 ، 5 ] ، ولأنه ينتفع به كما ينتفع بالنطق كما قال تعالى : { خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان } [ الرحمن : 3 ، 4 ] ، فالقلم يبين كما يبين اللسان في المخاطبة بالكتابة للغائب والحاضر .
والثاني : أنه القلم الذي جاء في الخبر ، عن ابن عباسٍ : أول ما خلق الله القلم ثم قال له : اكتب قال : ما أكتب؟ قال : ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عملٍ ، أو أجلٍ ، أو رزقٍ ، أو أثرٍ ، فجرى القلمُ بما هو كائن إلى يوم القيامة ، قال : ثم ختم في القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة ، قال : وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض .
وروى مجاهد ، قال : أول ما خلق الله القلم ، فقال : اكتب القدر ، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه .
قال القاضي : هذا الخبر يجب حمله على المجاز؛ لأن القلم آلة مخصوصة للكتابة ، ولا يجوز أن يكون حياً عاقلاً فيؤمر وينهى؛ فإن الجمع بين كونه حيواناً مكلفاً وبين كونه آلة للكتابة محال بل المراد منه أنه تعالى أجراه بكل ما يكون وهو كقوله تعالى { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران : 47 ] فإنه ليس هناك أمر ، ولا تكليف ، وهو مجرد نفاذ القدرةِ في المقدور من غير منازعة ، ولا مدافعة .
وقيل : القلم المذكور هو العقل وأنه شيء هو كالأصل لجميع المخلوقات ، قالوا : والدليل عليه أنه قد روي في الأخبار : أن أول ما خلق الله القلم .
وفي خبر آخر : أول ما خلق الله العقل ، فقال الجبار : ما خلقت خلقاً أعجب إلي منك ، وعزتي وجلالي لأكلمنك فيمن أحببت ولأبغضنك فيمن أبغضت ، قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكمل النَّاسِ عقلاً أطوْعهُمْ للَّهِ وأعْلمُهُمْ بطاعته .
وفي خبر آخر : أول ما خلق الله جوهرة ، فنظر إليها بعين الهيبة فذابت ، وسخنت ، فارتفع منها دخان وزبد ، فخلق من الدخان السموات ، ومن الزبد الأرض .
قالوا : فهذه الأخبار بمجموعها تدل على أن القلم والعقل وتلك الجوهرة التي هي أصل المخلوقات شيء واحد ، وإلا حصل التناقض .
قوله : { وَمَا يَسْطُرُونَ } ، أي : وما يكتبون ، يريد : الملائكة يكتبون أعمال بني آدم .
قال ابن عباس .
وقيل : وما يكتبون الناس ويتفاهمون به .
وقال ابن عباس : معنى { وَمَا يَسْطُرُونَ } وما يعملون .
؟؟؟؟قال ابن الخطيب : { وَمَا يَسْطُرُونَ } مع ما بعدهما في تقدير المصدر فيحتمل أن يكون المراد وسطرهم ، فيكون القسم واقعاً بنفس الكتابةِ ، ويحتمل أن يكون المرادُ به المسطور والمكتوب ، فإن حمل القلم على كل قلم في مخلوقات الله تعالى ، فكأنه تعالى أقسم بكل قلم ، وبكل ما يكتب بكل قلم وقيل : المرادُ ما يسطرهُ الحفظة الكرام ، ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه ، فيكون الضمير في « يَسْطرُونَ » لهم ، كأنه قيل : وأصحاب القلم ، وسطرهم ، أو مسطوراتهم ، وإن حمل على القلم المعين ، فيحتمل أن يكون المراد بقوله « ومَا يَسْطُرونَ » ، أي : وما يسطرون فيه ، وهو اللوح المحفوظ ولفظ الجمع في قوله « يَسْطُرونَ » ليس المراد منه الجمع بل التعظيم ، ويكون المراد تلك الأشياء التي سطرت فيه من جميع الأمور الكائنة إلى يوم القيامة .
قوله { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } .
قد تقدم الكلام على نظيره في « الطُّور » في قوله { فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ } [ الطور : 29 ] .
إلا أن الزمخشري قال هنا : « فإن قلت : بم تتعلق الباء في » بِنعْمَةِ ربِّك « وما محله؟ قلت : متعلق بمجنون منفياً كما يتعلق بعاقل مثبتاً كقولك : أنت بنعمة ربِّك عاقل ، مستوياً في ذلك الإثبات والنفي استواءهما في قولك : ضرب زيد عمراً ، وما ضرب زيد عمراً ، فعمل الفعل منفياً ومثبتاً إعمالاً واحداً ، ومحله النصب على الحال كأنه قال : ما أنت مجنوناً منعماً عليك بذلك ، ولم تمنع الباء أن يعمل » مَجْنُون « فيما قبله ، لأنها زائدة لتأكيد النفي » .
قال أبو حيَّان : « وما ذهب إليْهِ الزمخشريُّ ، من أن الباء يتعلق بمجنون ، وأنه في موضع الحال يحتاج إلى تأمل ، وذلك أنه إذا تسلط النفي في محكوم به ، وذلك له معمول ، ففي ذلك طريقان :
أحدهما : أن النفي يسلط على المعمول فقط .
والآخر : أن يسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه ، ببيان ذلك أن تقول : ما زيد قائم مسرعاً ، فالمتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه ، فيكون قد قام غير مسرع ، والوجه الآخر : أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه ، أي : لا قيام ، فلا إسراع ، وهذا الذي قررناه لا يتأتى معه قول الزمخشري ، بل يؤدي إلى ما لا يجوز النطق به في حق المعصوم » انتهى .
واختار أبو حيان أن يكون « بِنعمَةِ » قسماً معترضاً به بين المحكوم عليه والحكم على سبيل التأكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم .
وقال ابن عطية : « بنِعْمةِ ربِّك » اعتراض ، كما تقول للإنسان : أنت بحمد الله فاضل ، قال : ولم يبين ما تتعلق به الباء في « بِنعْمَةِ » .
قال شهاب الدين : والذي تتعلق به الباء في هذا النحو معنى مضمون الجملة نفياً وإثباتاً كأنه قيل : انتفى عنك ذلك بحمد الله ، والباء سببية ، وثبت ذلك الفضل بحمد الله تعالى ، وأما المثال الذي ذكره ، فالباء تتعلق فيه بلفظ « فاضل » وقد نحا صاحب « المُنَتخَب » إلى هذا فقال : المعنى انتفى عنك الجنون بنعمة ربك .
وقيل : معناه مَا أنْتَ مجنُونٌ والنعمة لربك ، كقولهم : سبحانك اللهم وبحمدك ، أي : والحمد لله؛ وقول لبيد : [ الطويل ]
4808 -
وأفْرِدْتُ في الدُّنْيَا بفقْدِ عشِيرَتِي ... وفَارقَنِي جارٌ بأربدَ نَافِعُ
أي وهو أربد ، وهذا ليس بتفسير إعراب بل تفسير معنى .
فصل في إعراب الآية
قوله تعالى : { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } . هذا جواب القسم ، وهو نفي .
قال الزجاج : « أنت » هو اسم « مَا » و « مَجْنُون » الخبر ، وقوله : { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } كلام وقع في الوسط ، أي : انتفى عنك الجنون بنعمة ربك ، كما يقال : أنت بحمد الله عاقل .
روى ابن عباس : أنه صلى الله عليه وسلم غاب عن خديجة إلى حراء ، وطلبته ، فلم تجده ، فإذا به ووجهه متغير بلا غبار ، فقالت : ما لك؟ .
فذكر جبريل - عليه السلام - وأنه قال له : { اقرأ باسم رَبِّكَ } [ العلق : 1 ] ، فهو أول من نزل من القرآن ، قال : ثم نزل بي إلى قرار الأرض ، فتوضأ ، وتوضأت ، ثم صلى ، وصليت معه ركعتين ، وقال : هكذا الصلاة - يا محمد - فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لخديجة ، فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل - وهو ابن عمها - وكان قد خالف دين قومه ودخل في النصرانية ، فسألته فقال : أرسلي إليّ محمداً ، فأرسلته فقال : هل أمرك جبريل - عليه السلام - أن تدعو أحداً؟ فقال : لا فقال : والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصراً عزيزاً ، ثم مات قبل دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش ، فقالوا : إنه مجنون ، فأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون ، وهو خمس آياتٍ من أول هذه السورة ، قال ابن عباسٍ : أول ما نزل قوله تعالى : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ } [ الأعلى : 1 ] ، وهذه الآية هي الثانية ، نقله ابن الخطيب .
وذكر القرطبيُّ : أن المشركين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : مجنون به شيطان وهو قوله { ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] فأنزل الله تعالى رداً عليهم وتكذيباً لقولهم { فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } [ الطور : 29 ] أي : برحمة ربك ، والنعمة هاهنا الرحمة . وقال عطاء وابن عباس : يريد بنعمة ربِّك عليك بالإيمان والنبوة .
قال القرطبي : « ويحتمل أن النعمة - هاهنا - قسم ، تقديره : ما أنت ، ونعمة ربك بمجنون لأن الواو والباء من حروف القسم » وقد تقدم .
فصل
قال ابن الخطيب : اعلم أنه تعالى وصفه - هاهنا - بصفات ثلاث :
الأولى : نفي الجنون عنه ثم قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها ، لأن قوله : { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } يدل على أن نعم اللَّه تعالى ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة ، والعقل الكامل ، والسيرة المرضية ، والبراء من كل عيب ، والاتصاف بكل مكرمة ، وإذا كانت هذه النعم ظاهرة محسوسة ووجودها ينافي حصول الجنونِ ، فالله تعالى نبه على أن هذه الحقيقة جارية مجرى الدلالة اليقينية على كذبهم في قولهم : « إنه مجنُون » .
الصفة الثانية : قوله : { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } أي : ثواباً على ما تحملت غير منقوص ولا مقطوع منه ، يقال : منَّ الشيء إذا ضعف ، ويقال : مننت الحبل إذا قطعته ، وحبل منين إذا كان غير متين .
قال لبيدٌ : [ الكامل ]
4809 - . . ...
غُبْسٌ كَواسِبُ مَا يُمَنُّ طَعَامُهَا
أي : لا يقطع ، يصف كلاباً ضارية ، ونظيره قوله تعالى { غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108 ] ، وقال مجاهد ومقاتل والكلبي : « غَيْرَ مَمْنُونٍ » أي : غير محسوب عليك ، قالت المعتزلة : لأنك تستوجبه على [ عملك ] ، وجوابهم : إن حملهم على هذا يقتضي التكرار ، لأن قوله « أجراً » يفيده ، وقال الحسنُ : غير مكدر بالمن .
وقال الضحاك : أجراً بغير عمل ، واختلفوا في هذا الأجرِ على أي شيء حصل؟ فقيل : معناه إن لك على احتمال هذا الطعن ، والقول القبيح أجراً عظيماً دائماً .
وقيل : إن لك في إظهار النبوةِ ، والمعجزات في دعاء الخلق إلى الله تعالى وفي بيان الشرع لهم هذا الأجر الخالص الدائم فلا يمنعك نسبتهم إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا المهم العظيم فإن لك بسببه المنزلةَ العالية .
الصفة الثالثة : قوله : { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } .
قال ابن عباس ومجاهدٌ : « على خُلقٍ » على دين عظيمٍ من الأديان ، ليس دين أحب إلى الله ، ولا أرضى عنده منه .
وروى مسلم عن عائشة : أن خلقه كان القرآن .
وقال علي - رضي الله عنه - : هو أدب القرآن .
وقيل : رفقه بأمته ، وإكرامه إياهم .
وقال قتادة : هو ما كان يأتمر به من أمر اللَّهِ ، وينتهي عنه مما نهى الله عنه .
وقيل : إنَّك على طبع كريم .
وقال الماوردي : حقِيقَةُ الخُلقِ في اللُّغةِ ما يأخذُ بِهِ الإنسانُ في نفْسِهِ من الأدبِ يُسَمَّى خُلُقاً ، لأنَّه يصير كالخلقة فيه فأما ما طُبع عليه من الأدبِ فهو الخِيمُ ، فيكون الخلق : الطبع المتكلف ، والخِيم : الطبع الغريزي .
قال القرطبي : « ما ذكره مسلم في صحيحه عن عائشة أصح الأقوالِ ، وسئلت أيضاً عن خلقه - عليه الصلاة والسلام - فقرأت { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] إلى عشر آياتٍ » .
قال ابن الخطيب : وهذا إشارة إلى أن نفسه القدسية كانت بالطبع منجذبة إلى عالم الغيبِ وإلى كل ما يتعلق بها ، وكانت شديدة النفرة من اللذات البدنية ، والسعادات الدنيوية بالطبع ، ومقتضى الفطرة ، وقالت : مَا كَانَ أحدٌ أحْسنَ خُلُقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دعاه أحدٌ من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال : لبيك ، ولذلك قال الله تعالى { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي الحظ الأوفر .
وقال الجنيد : سمى خلقه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه ، بدليل قوله - عليه الصلاة والسلام - : « إنَّ اللَّه بَعَثنِي لأتمِّمَ مكارِمَ الأخْلاق » .
فصل
قال ابن الخطيب : قوله : { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } كالتفسير لما تقدم من قوله تعالى : { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } وتعريف لمن رماه بالجنون بأن ذلك كذب وخطأ؛ لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة منه ، وإذا كان موصوفاً بتلك الأخلاق والأفعال ، لم يجز إضافة الجنون إليه؛ لأن أخلاق المجانين سيئة ، ولما كانت أخلاقه الحميدة صلى الله عليه وسلم كاملة لا جرم وصفها الله بأنها عظيمة ، ولهذا قال :
{
مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين } [ ص : 86 ] أي : لست مكلفاً فيما يظهر لكم من الأخلاق ، لأنه تعالى قال : { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ] فهذا الهدي الذي أمر الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالاقتداءِ به ليس هو معرفة الله تعالى؛ لأن ذلك تقليداً ، وهو غير لائق بالرسول صلى الله عليه وسلم وليس هو الشرائع؛ لأن شريعته كشرائعهم ، فتعين أن يكون المراد منه أمره صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بكل واحد من الأنبياء فيما اختص به من الخلقِ الكريمِ ، وكان كل واحد منهم مختصاً بنوع واحدٍ ، فلما أمر محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بالكل ، فكأنه أمر بمجموع ما كان متفرقاً فيهم ، ولما كان ذلك درجة عالية لم تتيسر لأحدٍ من الأنبياء قبله - لا جرم - وصف الله خلقه بأنه عظيم ، وكلمة « عَلَى » للاستعلاءِ فدل اللفظ على أنه مستعل على هذه الأخلاقِ ، ومستول عليها ، وأنه بالنسبة إلى هذه الأخلاق الحميدة كالمولى بالنسبة إلى العبد ، وكالأمير بالنسبة إلى المأمور .
وقد ورد أحاديث كثيرةٌ صحيحةٌ في مدح الخلق الحسن ، وذم الخلق السّيّىء .
قوله : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } .
قال ابن عباس : معناه فستعلم ويعلمون يوم القيامة .
وقيل : فسترى وترون يوم القيامة حتى يتبين الحق والباطل .
وقيل : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } في الدنيا كيف تكون عاقبة أمرك وأمرهم فإنك تصير معظماً في القلوب ، ويصيرون ذليلين ملعونين ويستولى عليهم بالقتل والنهب .
قال مقاتل بن حيان : هذا وعيد العذاب ببدر .
قوله { بِأَيِّكُمُ المفتون } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن الباء مزيدة في المبتدأ ، والتقدير : أيكم المفتون ، فزيدت كزيادتها في نحو « بحسبك زيد » ، وإلى هذا ذهب قتادة وأبو عبيدة معمر بن المثنى .
إلا أنه ضعيف من حيث إن الباء لا تزاد في المبتدأ إلا في « حَسْبُك » فقط .
الثاني : أن الباء بمعنى « فِي » فهي ظرفية ، كقولك : « زيْدٌ بالبصرةِ » أي : فيها ، والمعنى : في أي فرقة ، وطائفة منكم المفتون : أي المجنون في فرقة الإسلام أم في فرقة الكفار؟ وإليه ذهب مجاهد والفراء .
ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة : « فِي أيكمُ » .
والثالث : أنه على حذف مضاف ، أي « بأيكم فتن المفتون » فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وإليه ذهب الأخفش . وتكون الباء سببية .
والرابع : أن المفتون مصدر جاء على « مفعول » ك « المعقول » و « الميسور » ، والتقدير : « بأيكمُ المفْتُونُ » .
فعلى القول الأول يكون الكلام تاماً عند قوله : « ويُبْصرُونَ » ، ويبتدأ بقوله « بأيكمُ المفتُونُ » .
وعلى الأوجه بعده تكون الباء متعلقة بما قبلها ، ولا يوقف على « يُبْصِرُونَ » .
وعلى الأوجه الأول الثلاثة يكون « المَفْتُونُ » اسم مفعول على أصله ، وعلى الوجه الرابع يكون مصدراً ، وينبغي أن يقال : إن الكلام إنما يتم على قوله « المَفْتُونُ » سواء قيل : بأن الباء مزيدة أم لا ، لأن قوله { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } معلق بالاستفهام بعده ، لأنه فعل بمعنى الرؤية البصرية تعلق على الصحيحِ ، بدليل قولهم : أما ترى أن برق هاهنا ، فكذلك الإبصار ، لأنه هو الرؤية بالعين ، فعلى القول بزيادة الباء ، تكون الجملة الاستفهامية في محل نصب؛ لأنها واقعة موضع مفعول الإبصار .
فصل
قال القرطبيُّ : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } بأيكم المفتون ، الذي فتن بالجنون ، كقوله تعالى : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] و { يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله } [ الإنسان : 6 ] ، وهو قول قتادة وأبي عبيدة كما تقدم وقيل : الباء ليست مزيدة ، والمعنى « بأيكم المفتون » أي : الفتنة ، وهو مصدر على وزن المفعول ويكون المعنى : المفتون ، كقولهم : ما لفلان مجلود ولا معقول ، أي : عقل ولا جلادة ، قاله الحسن والضحاك وابن عباس .
قال الراعي : [ الكامل ]
4810 -
حَتَّى إذَا لَمْ يَتركُوا لِعظامِهِ ... لَحْماً ولا لفُؤادِهِ مَعْقُولا
أي عقلاً ، والمفتون المجنون الذي فتنه الشيطانُ .
وقيل : المفتون المعذب من قول العرب فتنت الذهب بالنار ، إذا حميته ، قال تعالى { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } [ الذاريات : 13 ] أي : يعذبون وقيل : المفتون : الشيطان؛ لانه مفتون في دينه ، وكانوا يقولون : إن به شيطاناً ، وعنوا بالمجنون هذا فقال الله تعالى لهم : فسيعلمون غداً بأيهم [ المجنون ] أي : الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل .
قوله : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } . أي : إن الله هو العالم بمن حاد عن دينه { وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } ، أي : الذين هم على الهدى ، فيجازي كلاًّ غداً .
فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
قوله : { فَلاَ تُطِعِ المكذبين } نهاه عن ممايلة المشركين وكانوا يدعونه إلى أن يكف عنهم ليكفوا عنه ، فبين الله تعالى أن ممايلتهم كفر ، وقال تعالى : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً } [ الإسراء : 74 ] وقيل : فلا تطع المكذبين فيما دعوك إليه من دينهم الخبيث ، نزلت في مشركي قريش حين دعوه إلى دين آبائه .
قوله : { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } .
المشهور في قراءة الناس ومصاحفهم : « فَيُدهِنُونَ » بثبوت نون الرفع وفيه وجهان : أحدهما : أنه عطف على « تُدهِنُ » فيكون داخلاً في حيز « لَوْ » .
والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : فهم يدهنون .
وقال الزمخشريُّ : « فإن قلت : لم رفع » فَيُدْهنُونَ « ولم ينصب بإضمار » أن « وهو جواب التمني؟ .
قلت : قد عدل به إلى طريق آخر وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف ، أي فهم يدهنون ، كقوله : { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } [ الجن : 13 ] على معنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ ، أو ودوا إدهانك ، فهم الآن يدهنون لطمعهم في إدهانك قال سيبويه : وزعم هارون أنها في بعض المصاحف : ودُّوا لو تُدهِنُ فيُدْهِنُوا » انتهى .
وفي نصبه على ما وجد في بعض المصاحف وجهان :
أحدهما : أنه عطف على التوهم ، كأنه توهم أن نطق ب « أنْ » فنصب الفعل على هذا التوهم وهذا إنما يجيء على القول بمصدرية « لَوْ » ، وفيه خلاف تقدم تحقيقه في « البقرة » .
والثاني : أنه نُصِبَ على جواب التمني المفهوم من « ودّ » .
والظاهر أن « لَوْ » حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وأن جوابها محذوف ومفعول الودادة أيضاً محذوف ، تقديره : ودوا إدهانك ، فحذف إدهانك ، لدلالة « لَو » وما بعدها عليه وتقدير الجواب : لسروا بذلك .
فصل في معنى الآية
قال ابن عباس وعطية والضحاك والسديُّ : ودوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم ، وعن ابن عباس أيضاً : ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك .
وقال الفراء والكلبي : لو تلين فيلينون لك . والإدهان : التليين لمن لا ينبغي له التليين . قاله الفراء والليث .
وقال مجاهدٌ : ودوا لو ركنت إليهم وتركت الحق فيمالئونك .
وقال الربيع بن أنس : ودوا لو تكذب ، فيكذبون .
وقال قتادة : ودوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبوا .
وقال الحسنُ : ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم ، وعنه أيضاً : ودوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم .
وقال زيد بن أسلم : ودّوا لو تنافق وترائي ، فينافقون ويراءون .
وقيل : ودُّوا لو تضعف فيضعفون . قاله أبو جعفر .
وقال القتيبي : ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم ، وعنه : طلبوا منه أن يعبد آلهتهم مدة ويعبدوا إلهه مدة .
وهذان القولان الأخيران هما المتقدمان في معنى { لَوْ تَكْفُرُونَ } [ النساء : 89 ] ومعنى : لو تصانعهم وقال ابن العربي : ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقوالٍ ، كلها دعاوى على اللغة والمعنى ، وأمثلها قولهم « ودُّوا لو تكذبُ فيكذبون ، ودوا لو تكفر فيكفرون » .
وقال القرطبيُّ : كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى ، فإن الإدهان اللين والمصانعة .
وقيل : المقاربة في الكلام والتليين في القول ، وقال المفضل : النفاق وترك المناصحةِ ، فهي على هذا الوجه مذمومة ، وعلى الوجه الأول غير مذمومة وكل شيء منها لم يكن .
وقال المبردُ : أدهن في دينه ، وداهن في أمره أي : خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر .
وقال قوم : داهنت بمعنى واريت ، وأدهنت بمعنى غششت ، قاله الجوهري ، وقوله « فيُدْهِنُونَ » ساقه على العطف ، ولو جاء به جواباً للنهي لقال : « فيُدْهِنُوا » ، وإنما أراد أنهم تمنوا لو فعلت فيفعلون مثل فعلك عطفاً لا جزاء عليه ولا مكافأة ، وإنما هو تمثيل وتنظير .
قوله : { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } .
قال السديُّ والشعبي وابن إسحاق : يعني الأخنس بن شريق .
وقال مجاهدٌ : يعني الأسود بن عبد يغوث ، أو عبد الرحمن بن الأسود .
وقال مقاتل : يعني الوليد بن المغيرة عرض على النبي صلى الله عليه وسلم مالاً ، وحلف أنه يعطيه إن رجع عن دينه .
وقال ابن عباس : هو أبو جهل بن هشام .
والحلاف : الكثير الحلف . و « المَهين » قال مجاهد : هو الضعيف القلب .
وقال ابن عباس : هو الكذاب ، والكذاب مهين .
وقال الحسن وقتادة : هو المكثار في الشر .
وقال الكلبي : المهين : الفاجر .
وقال عبد الله : هو الحقير .
وقال ابن بحر : هو الذليل .
وقال الرماني : هو الوضيع لإكثاره من القبيح .
وهو « فعيل » من المهانة بمعنى القلة ، وهي هنا القلة في الرأي والتمييز ، أو هو « فعيل » بمعنى « مُفْعَل » والمعنى « مُهَان » .
قوله { هَمَّازٍ } ، الهماز : مثال مبالغة من الهمز ، وهو في اللغة الضرب طعناً باليد والعصا ، واستعير للمغتاب الذي يغتاب الناس كأنه يضربهم بإيذائه .
قال ابن زيد : الهمَّاز : الذي يهمز الناس بيده ويضربهم ، واللمّاز : باللسان .
وقيل الهمَّاز الذي يذكر الناس في وجوههم ، واللمَّازُ : الذي يذكرهم في مغيبهم .
وقال مقاتل بالعكس ، وقال مرة : هما سواء ، ونحوه عن ابن عباس وقتادة .
قال الشاعر : [ البسيط ]
4811 -
تُدْلِي بودٍّ إذَا لاقَيْتنِي كَذِباً ... وإنْ تغَيَّبْتُ كُنْتَ الهَامِزَ اللُّمَزَهْ
والنميم : قيل : هو مصدر النميمة .
وقيل : هو جمعها أي اسم جنس ك « تمرةٍ وتمرٍ » ، وهو نقل الكلام الذي يسوء سامعه ، ويحرش بين الناس .
وقال الزمخشري : والنميم والنميمة : السعاية ، وأنشدني بعض العرب : [ الرجز ]
4812 -
تَشَبَّبِي تَشَبُّبَ النَّميمهْ ... تَمْشِي بِهَا زَهْراً إلى تَمِيْمَه
والمشاء : مثال مبالغة من المشي ، أي : يكثر السعاية بين الناس ليفسد بينهم ، يقال : نَمَّ يَنِمُّ نميماً ونَمِيمَة ، أي : يمشي ويسعى بالفسادِ .
وقال عليه الصلاة والسلام : « لا يَدخُلُ الجَنَّة نَمَّامٌ » .
والعتل : الذي يعتل الناس ، أي : يحملهم ، ويجرهم إلى ما يكرهون من حبس وضربٍ ومنه : { خُذُوهُ فاعتلوه } [ الدخان : 47 ] .
وقيل : العتل : الشديد الخصومة .
وقال أبو عبيدة : هو الفاحش اللئيم .
وأنشد :
4813 -
بِعُتُلٍّ مِنَ الرِّجالِ زَنِيمٍ ... غيْرِ ذِي نَجْدةٍ وغَيْرِ كَريمِ
وقيل : الغليظ الجافي .
ويقال : عَتَلْتُه وعَتنتُهُ باللام والنون . نقله يعقوب .
وقيل : العتل : الجافي الشديد في كفره .
وقال الكلبيُّ والفراء : هو الشديد الخصومة بالباطل .
قال الجوهري : ويقال : عَتَلْتُ الرجل أعْتِلُهُ وأعْتُلُهُ إذا جذبته جذباً عنيفاً . ورجل مِعْتَل - بالكسر - ، والعَتَل أيضاً : الرمح الغليظ ، ورجل عَتِلٌ - بالكسر - بين العتل ، أي سريع إلى الشَّر ويقال : لا أنعتل معك ، أي : لا أبرح مكاني .
وقال عبيد بن عمير : العتل : الأكول الشروب القوي الشديد يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة ، يدفع الملك من أولئك في جهنم بالدفعة الواحدة سبعين ألفاً .
والزنيم : الدعي بنسب إلى قوم ليس منهم .
قال حسانُ رضي الله عنه : [ الطويل ]
4814
أ- زَنِيمٌ تَداعَاهُ الرِّجالُ زِيادَةً ... كَمَا زيدَ في عَرْضِ الأديمِ الأكَارعُ
وقال أيضاً : [ الوافر ]
4814
ب - زَنِيمُ ليسَ يُعْرَفُ مَنْ أبُوهُ ... بَغِيُّ الأمِّ ذُو حسب لَئِيمُ
وقال أيضاً : [ الطويل ]
4815 -
وأنْتَ زَنِيمٌ نيطَ في آلِ هَاشمٍ ... كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكبِ القَدَحُ الفَرْد
وأصله : من الزنمةِ ، وهي ما بقي من جلد الماعز معلقاً في حلقها يترك عند القطع ، فاستعير للدعي ، لأنه كالمعلق بما ليس منه .
فصل فيمن هو الحلاف المهين
تقدم القول في « الحلاف المَهين » ، عن الشعبي والسديِّ وابن إسحاقَ : أنه الأخنس بن شريق ، وعلى قول غيرهم : أنه الأسود بن عبد يغوث ، أو عبد الرحمن بن الأسود ، أو الوليد بن المغيرة ، أو أبو جهل بن هشام ، وتقدم تفسير « الهَمَّاز والمشَّاء بنميمٍ » .
وأما قوله « منَّاعٍ للخَيْرِ » أي : للمال أن ينفق في وجوهه .
وقال ابن عباس : يمنع عن الإسلام ولده وعشيرته .
قيل : كان للوليد بن المغيرة عشرةٌ من الولد ، وكان يقول لهم ولأقاربه : من تبع منكم محمداً منعته رفدي .
وقال الحسنُ : يقول لهم : من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبداً .
وقوله « مُعْتَدٍ » أي : على الناس في الظلم ، متجاوز للحد ، صاحب باطل ، وقوله « أثيمٍ » أي : ذا إثمٍ ، ومعناه « أثُوم » ، فهو « فعيل » بمعنى « فَعُول » .
قال البغوي : « أثيم فاجر » . وأما العتل فتقدم الكلام عليه في اللغة .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : « ألاْ أخْبرُكمْ بأهْلِ الجنَّةِ؟ قالوا : بَلَى ، قال : كُلُّ ضعيفٍ مُتضعَّفٍّ ، لَوْ أقسمَ على اللَّهِ لأبرَّهُ ، ألا أخْبركُمْ بأَهْلِ النَّارِ؟ قالوا : بَلَى ، قال : كُل عُتُلٍّ جواظٍ مستكبرٍ »
وفي رواية : « كُلُّ جوَّاظٍ زَنيمٍ مُستَكْبرٍ » .
«
الجوَّاظ » الجموع المنوع .
وقيل : الكثير اللحم ، المختال في مشيته .
وقيل : القصير البطين .
وذكر الماورديُّ عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يَدخُل الجنَّة جوَّاظ ولا جَعْظَرِي ولا العُتلُ الزَّنِيمُ » .
وقال صلى الله عليه وسلم : « الجوَّاظ : الذي جمع ومنع ، والجعظري : الفظ الغليظ المتكبر » .
قال ابن الأثير : « وقيل : هو الذي ينتفخ بما ليس عنده ، وفيه قصر » .
قال القرطبيُّ : وقال - عليه الصلاة والسلام - : « الشَّدِيدُ الخُلقِ ، الرَّحيبُ الجوْفِ ، المصحُّ الأكولُ ، الشَّروبُ ، الواجدُ للطعامِ ، الظَّلُومُ للنَّاسِ » .
وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « تَبْكِي السَّماءُ على رجُلٍ أصحَّ اللَّهُ جِسْمهَ ورحَبَ جوفه ، وأعطاهُ من الدُّنْيَا بعضاً ، فكانَ للنَّاسِ ظلُوماً ، فذلك العُتُلَّ الزَّنِيمُ » .
وقوله « بَعْدَ ذلِكَ » أي مع ذلك ، يريد ما وصفناه به « زنيم » وتقدم معنى الزنيم . وعن ابن عباس : أنه رجل من قريش كانت له زنمة كزنمة الشاة .
وروى عنه ابن جبير : أنه الذي يعرف بالشر ، كما تعرف الشاة بزنمتها .
وقال عكرمة : هو الذي يعرف بلؤمه ، كما تعرف الشاة بزنمتها .
وقيل : إنه الذي يعرف بالأبنة ، وهو مروي عن ابن عباس ، وعنه : إنه الظلوم .
وقال مجاهدٌ : « زَنِيمٍ » كانت له ستة أصابع في يده في كل إبهام له أصبع زائدة .
وعنه أيضاً وسعيد بن المسيب وعكرمة : هو ولد الزنا الملحق في النسب بالقوم .
وكان الوليد دعياً في قريش ليس من سنخهم ، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده .
قال الشاعر : [ الوافر ]
4816 -
زَنِيمٌ ليْسَ يُعرفُ من أبُوهُ ... بَغِيُّ الأمِّ ذُو حسبٍ لَئِيم
قيل : بغتْ أمه ولم يعرف حتى نزلت الآية ، وهذا لأن الغالب أن المنطقة إذا خبثت خبث الولدُ ، كا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يَدْخلُ الجنَّة ولدُ زِنَا ، ولا ولَدُ وَلدِهِ » .
وقال عبد الله بن عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّ أوْلادَ الزِّنَا يُحشَرُونَ يومَ القِيامةِ في صُورةِ القِرَدةِ والخَنازِيرِ » .
وقالت ميمونة : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « لا تَزالُ أمَّتِي بخيْرٍ ، مَا لَمْ يَفْشُ فِيهِمْ ولدُ الزِّنَا ، فإذا فَشَى فيهِمْ ولدُ الزِّنَا أوشَكَ أنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بعذابٍ » .
وقال عكرمة : إذا كثر ولد الزنا قحط المطر .
قال القرطبي : ومعظم المفسرين على أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يطعم أهل منى حيساً ثلاثة أيام ، وينادي ألا لا يوقدن أحدكم تحت بُرمةٍ ، ألا لا يدخلن أحد بكُراع ، ألا ومن أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة ، وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفاً ، أو أكثر ، ولا يعطي المسكين درهماً واحداً؛ فقيل : « منَّاعٍ للخَيرِ » ، وفيه نزل :
{
وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة } [ فصلت : 6 ، 7 ] .
وقال محمد بن إسحاق : نزلت في الأخنس بن شريق؛ لأنه حليف ملحق في بني زهرة ، فلذلك سمي زنيماً . وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : في هذه الآية نُعت ، فلم يعرف ، حتى قتل زنيم فعرف ، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها .
قال ابن قتيبة : لا نعلم أن الله وصف أحداً ، ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة وألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة .
فصل
قرأ الحسن : « عُتُلٌّ » بالرفع ، أي هو عتل .
وحقه أن يقرأ ما بعده بالرفع أيضاً ، لأنهم قالوا في القطع : إنه يبدأ بالإتباع ، ثم بالقطع من غير عكس ، وقوله : « بَعْدَ ذلِكَ » أي : بعدما وصفناه به .
قال ابن عطية : فهذا الترتيب إنما هو في قول الواصفِ لا في حصول تلك الصفات في الموصوف ، وإلا فكونه عتلاًّ هو قبل كونه صاحب خير يمنعه .
وقال الزمخشريُّ : « بَعْدَ ذَلِكَ » أي : بعدما عد له من المثالب ، والنقائصِ ، ثم قال : جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه ، لأنه إذا غلظ وجفا طبعه قسا قلبُه واجترأ على كل معصية .
ونظير قوله : { بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين } [ البلد : 17 ] .
قوله : { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ } .
العامة : على فتح همزة « أن » ثم اختلفوا بعد ، فقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر وأضاف القرطبي معهم أبا جعفر وأبا حيوة والمغيرة والأعرج : بالاستفهام .
وباقي السبعة بالخبر .
والقارئون بالاستفهام على أصولهم من تحقيق ، وتسهيل ، وإدخال ألف بين الهمزتين وعدمه ، ولا بد من بيان ذلك فنقول : قرأ حمزة وأبو بكر وذكر القرطبي معهم المفضل : بتحقيق الهمزتين ، وعدم إدخال ألف بينهما ، وهذا هو أصلهما .
وقرأ ابن ذكوان : بتسهيل الثانية ، وعدم إدخال ألف .
وهشام بالتسهيل المذكور إلا أنه أدخل ألفاً بينهما .
فقد خالف كل منهما أصله ، أما ابن ذكوان فإنه يحقق الهمزتين فقد سهل الثانية هنا ، وأما هشام فإن أصله أن يجري في الثانية من هذا النحو وجهين من التحقيق كرفيقه ، والتسهيل وقد التزم التسهيل هنا ، وأما إدخال الألف فإنه فيه على أصله ، كما تقدم أول البقرة .
وقرأ نافع في رواية اليزيدي عنه : « إن » بكسر الهمزة على الشرط .
فأما قراءة « أنْ » - بالفتح - على الخبر ، ففيه أربعة أوجه :
أحدها : أنها « أن » المصدرية في موضع المفعول به مجرورة بلام مقدرة ، واللام متعلقة بفعل النهي ، أي : ولا تطع من هذه صفاته ، لأن كان متمولاً وصاحب بنين .
الثاني : أنها متعلقة ب « عُتُل » وإن كان قد وصف .
قاله الفارسي .
وهذا لا يجوز عند البصريين ، وكأن الفارسي اغتفره في الجار .
الثالث : أن يتعلق ب « زَنِيمٍ » ، ولا سيما عند من يفسره بقبيح الأفعال .
الرابع : أن يتعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده من الجملة الشرطية تقديره لكونه متمولاً ، مستظهراً بالبنين كذب بآياتنا ، قاله الزمخشريُّ .
قال : ولا يعمل فيه ، قال : الذي هو جواب « إذا » لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ، ولكن ما دلت عليه الجملةُ من معنى التكذيب .
وقال مكيٌّ ، وتبعه أبو البقاء : « لا يجوز أن يكون العامل » تُتْلَى « لأن ما بعد » إذَا « لا يعمل فيما قبلها ، لأن » إذَا « تضاف إلى الجمل ، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف » انتهى .
وهذا يوهم أن المانع من ذلك ما ذكره فقط ، والمانع أمرٌ معنوي ، حتى لو فقد هذا المانع الذي ذكره لامتنع من جهة المعنى ، وهو لا يصلح أن يعلل تلاوة آياتِ اللَّهِ عليه بكونه ذا مالٍ وبنين .
وأما قراءة « آنْ كان » على الاستفهام ، ففيها وجهان :
أحدهما : أن يتعلق بمقدر يدل عليه ما قبله ، أي : أتطيعه لأن كان ، أو الكون طواعية لأن كان .
والثاني : أن يتعلق بمقدر يدل عليه ما بعده ، أي : لأن كان كذب وجحد .
وأما قراءة « إنْ كَانَ » - بالكسر - فعلى الشرط ، وجوابه مقدر ، تقديره : إن كان كذا يكفر ويجحد ، دل عليه ما بعده .
وقال الزمخشريُّ : والشرط للمخاطب ، أي : لا تطع كل حلاف شارطاً يساره ، لأنه إن أطاع الكافر لغنائه فكأنه اشترط في الطاعة الغنى ، ونحو صرف الشرط للمخاطب صرف الترجي إليه في قوله { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] .
وجعله أبو حيَّان من دخول شرط على شرط ، يعني « إن ، وإذا » إلا أنه قال : ليسا من الشروط المترتبة الوقوع . وجعل نظير ذلك قول ابن دُريْدٍ : [ الرجز ]
4817 -
فإن عَثَرتُ بعْدها إنْ وألَتْ ... نَفْسِيَ مِنْ هَاتَا فَقُولاَ لاَ لَعَا
قال : « لأن الحامل على تدبر آياتِ اللَّهِ كونه ذا مالِ وبنينَ ، وهو مشغول القلب بذلك غافل عن النظر قد استولت عليه الدُّنيا وأنظرته » .
وقرأ الحسن بن أبزى : بالاستفهام ، وهو استفهام تقريعٍ وتوبيخٍ ، على قوله حين تليت عليه آيات الله : { أَسَاطِيرُ الأولين } .
فصل في توجيه قراءة الآية
قال القرطبيُّ : فمن قرأ بهمزة مُطوَّلةٍ ، أو بهمزتين محققتين ، فهو استفهام والمراد به التوبيخ ، ويحسن له أن يقف على « زَنِيمٍ » ، ويبتدىء « أنْ كَانَ » على معنى : لأن كان ذا مال وبنين تطيعه ، ويجوز أن يكون التقدير : لأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر ، ودل عليه ما تقدم من الكلامِ ، فصار كالمذكور بعد الاستفهام ، ومن قرأ « أن كَانَ » بغير استفهام ، فهو مفعول من أجله ، والعامل فيه فعل مضمر والتقدير : يكفر لأن كان ذا مال وبنين ، ودل على هذا الفعل : { إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين } ولا يعمل في « أن » : « تُتْلَى » ولا « قَالَ » ، لأن ما بعد « إذَا » لا يعمل فيما قبلها؛ لأن « إذَا » تضاف إلى الجمل التي بعدها ، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف و « قال » جواب الجزاء ، ولا يعمل فيما قبل الجزاء ، إذ حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه ، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط ، فيكون مقدماً مؤخراً في حالة واحدةٍ ، ويجوز أن يكون المعنى : لا تطعه لأن كان ذا يسار وعدد .
قال ابن الأنباريُّ : ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على « زَنيمٍ » لأن المعنى : لأن كان ذا مالٍ كان ، ف « أنْ » متعلقة بما قبلها .
وقال غيره : يجوز أن يتعلق بقوله « مشَّاءٍ بنمِيمٍ » ، والتقدير : يمشي بنميم ، لأن كان ذا مال وبنين ، وأجاز أبو علي أن يتعلق ب « عُتُلٍّ » ومعنى « أسَاطيرُ الأوَّليْنَ » أباطيلهم ، وتُرهاتُهُم .
قوله : « سَنَسِمُهُ » . أي : نجعل له سمة ، أي : علامة يعرف بها .
قال جرير : [ الكامل ]
4818 -
لمَّا وضَعْتُ عَلى الفَرَزْدَقِ مِيسَمِي ... وعَلَى البَعيثِ جَدَعْتُ أنْفَ الأخْطَلِ
والخرطوم : الأنف ، وهو هنا عبارة عن الوجه كله من التعبير عن الكل بالجزء؛ لأنه أظهر ما فيه وأعلاه ، والخرطوم أيضاً : الخمر ، وكأنه استعاره لها لأن الشنتمري قال : هي الخمر أول ما يخرج من الدَّن؛ فجعلت كالأنف لأنه أول ما يبدو من الوجه فليست الخرطومُ الوجه مطلقاً ، ومن مجيء الخرطوم بمعنى الخمر ، قول علقمة بن عبدة : [ البسيط ]
4819 -
قَدْ أشْهَدَ الشَّرْبَ فِيهِمْ مِزْهَرٌ رَنِمٌ ... والقَوْمُ تَصْرعُهُمْ صَهْبَاءُ خرْطُومُ
وأنشد نضر بن شميل : [ البسيط ]
4820 -
تَظَلُّ يَومَكَ في لَهْوٍ وفِي طَرَبٍ ... وأنْتَ باللَّيْلِ شَرَّابُ الخَراطِيمِ
فصل في تفسير « سنسمه »
قال ابن عباس : « سَنَسِمُهُ » سنحطمه بالسَّيفِ ، قال : وقد حطم الذي نزلت فيه يوم بدرِ بالسيف ، فلم يزل محطوماً إلى أن مات .
وقال قتادةُ : سنسمهُ يوم القيامة على أنفه سِمَةً يعرفُ بها ، يقال : وسمه وسماً وسمة إذا أثرت فيه بسمة وكيّ .
قال الضحاك : سنكويه على وجهه ، وقد قال الله تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] فهي علامة ظاهرة ، وقال تعالى : { وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً } [ طه : 102 ] وهذه علامة أخرى ظاهرة . وأفادت هذه الآية علامة ثالثة ، وهي الوسم على الأنف بالنار ، وهذا كقوله : { يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ } [ الرحمن : 41 ] .
قاله الكلبي وغيره وقال أبو العالية ومجاهدٌ : { سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم } أي على أنفه ، ويسودُّ وجهه في الآخرة ، فعرف بسواد وجهه .
قال القرطبيُّ : « والخرطوم : الأنف من الإنسان ، ومن السباع موضع الشفة ، وخراطيم القوم : سادتهم » .
قال الفراء : وإن كان الخرطومُ قد خُصَّ بالسِّمة فإنَّهُ في الوجه لأن بعض الشيء يعبر به عن الكل .
وقال الطبريُّ : نبين أمره تبياناً واضحاً ، فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السِّمةُ على الخراطيم .
وقال : المعنى : سنلحق به عاراً وسبة حتى يكون كمن وسم على أنفه .
قال القتيبي : تقول العرب للرجل يُسَبُّ سبة سوءٍ قبيحة باقية قد وسم ميسم سوء ، أي : ألصق به عار لا يفارقه ، كما أن السمة لا يمحى أثرها .
وهذا كلهُ نزل في الوليد بن المغيرة ، ولا شك أنَّ المبالغة العظيمة في ذمه بقيت على وجه الأرض الدهر ، ولا يعلم أن اللَّه تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغ منه ، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة كالوسم على الخرطوم .
وقيل : ما ابتلاه اللَّهُ به في الدنيا في نفسه؛ وأهله وماله من سوء ، وذل وصغار ، قاله ابن بحر .
وقال النضر بن شميل : المعنى سنحده على شرب الخمر ، والخرطوم : الخمر ، وجمعه : خراطيم ، وأنشد البيت المتقدم .
قال ابن الخطيب : « وهذا تعسفٌ » .
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
قوله { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة } . يريد أهل مكة ، والابتلاء : الاختبار . والمعنى : أعطيناهم الأموال ليشكروا لا ليبطروا ، فلما بطروا وعادوا محمداً صلى الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع والقحط كما بلونا أصحاب الجنَّة المعروف خبرها عندهم ، وذلك أنها كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من « صنعاء » ، ويقال : بفرسخين ، كانت لرجل يؤدي حقَّ الله منهما ، فلما مات صارت إلى ولده ، فمعنوا الناس خيرها ، وبخلوا بحق الله فيها؛ فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بها .
قال الكلبيُّ : كان بينهم وبين « صنعاء » فرسخان ابتلاهم اللَّهُ بأن أحرق جنتهم .
وقيل : جنة بصوران على فراسخ من صنعاء ، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى - عليه الصلاة والسلام - بيسير .
وقيل : كانوا من بني إسرائيل .
وقيل : وكانوا من ثقيف ، وكانوا بخلاء ، وكانوا يجذون النخل ليلاً من أجل المساكين ، فأرادوا حصاد زرعها ، وقالوا : { لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } فغدوا عليها فإذا هي قد اقتلعت من أصلها { فَأَصْبَحَتْ كالصريم } أي : الليل ، ويقال أيضاً للنهار : صريم ، فإن كان أراد الليل ، فلاسوداد مواضعها وكأنهم وجدوا مواضعها حمأة ، وإن كان أراد بالصريم النهار ، فلذهاب الشجر والزَّرْع وخلو الأرض منه ، وكان الطائف الذي طاف عليها جبريل - عليه السلام - فاقتلعها .
فقيل : إنه طاف بها حول البيت ثم وضعها حيثُ مدينة الطائف اليوم ، ولذلك سميت الطائف ، وليس في أرض الحجازِ بلدة فيها الماء ، والشجر [ والزرع ] والأعناب غيرها .
وقال البكريُّ في المعجم : سميت الطائف ، لأن رجلاً من العرب يقالُ له : الدَّمُون ، بَنَى حائطاً ، وقال : إني قد بنيت لكم حائطاً حول بلدكم ، فسميت الطائف . والله أعلم .
قوله « إذ أقْسَمُوا » ، أي : حلفوا فيما بينهم « ليَصْرِمُنَّهَا » أي : ليجذُّنها « مُصْبحِيْنَ » أي : وقت الصباح قبل أن يخرج المساكين « ولا يَسْتَثْنُونَ » ، أي : لم يقولوا : إن شاء الله .
قوله : « مُصْبحِيْنَ » حال من فاعل « ليَصْرمُنَّها » وهو من « أصبح » التامة ، أي داخلين في الصباح ، كقوله تعالى : { وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } [ الصافات : 137 ] وقوله : إذا سمعت بِسُرَى القين فاعلم بأنه مصبح والكاف في « كما » في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف ، أي : بلوناهم ابتلاء كما بلونا ، و « ما » مصدرية ، أو بمعنى « الذي » و « إذَا » منصوبة ب « بَلَوْنَا » و « ليَصْرمُنَّهَا » جواب للقسم ، وجاء على خلاف منطوقهم ، ولو جاء لقيل : « لنَصْرمُنَّهَا » بنون المتكلم .
قوله : { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } .
هذه مستأنفة ، ويضعف كونها حالاً من حيث إن المضارع المنفي ب « لا » كالمثبت في عدم دخول الواو عليه وإضمار مبتدأ قبله ، كقولهم : « قمت وأصك عينه » مستغنى عنه .
ومعنى : « لا يَسْتثْنُونَ » لا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر الذي كان يدفعه أبوهم للمساكين ، من الثني ، وهو الكف والرد؛ لأنَّ الحالف إذا قال : واللَّهِ لأفعلن كذا إلا أن يشاء اللَّهُ غيره فقد رد انعقاد تلك اليمين .
وقيل : المعنى : لا يستثنون عزمهم عن الحرماتِ .
وقيل : لا يقولون ، إن شاء الله .
قال الزمخشريُّ : وسمي استثناء وهو شرط؛ لأن معنى : لأخرجن إن شاء الله ، ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد .
قوله { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ } . أي هلاك ، أو بلاء طائف ، والطائف غلب في الشر .
قال الفراء : هو الأمر الذي يأتي ليلاً .
ورد عليه بقوله { إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان } [ الأعراف : 201 ] وذلك لا يختص بليلٍ ، ولا نهارٍ .
وقرأ النخعيُّ : « طَيْفٌ » .
قوله « مِن ربِّك » . يجوز أن يتعلق ب « طاف » وأن يتعلق بمحذوف صفة ل « طَائِفٌ » .
قوله : { فَأَصْبَحَتْ كالصريم } . والصرام : جذاذ النخلِ ، وأصل المادة الدلالة على القطع ، ومنه الصُّرم ، والصَّرْم - بالضم والفتح - وهو القطيعة؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
4821 -
أفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هذا التَدلُّلِ ... وإنْ كنتِ قَدْ أزمَعْتِ صَرْمِي فأجْملِي
ومنه الصريمة ، وهي قطعة منصرمة عن الرمل لا تنبت شيئاً؛ قال : [ البسيط ]
4822 -
وبالصَّريمَةِ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ خَلَقٌ ... عَافٍ تَغَيَّرَ ، إلاَّ النُّؤيُ والوتِدُ
والصارم : القاطع الماضي ، وناقة مصرمة : انقطع لبنها ، وانصرم الشهر والسنة ، أي : قرب انفصالهما ، وأصرم زيد : ساءت حاله ، كأنه انقطع سعده .
فقوله « كالصَّريمِ » . قيل : هي الأشجار المنْصَرِم حملها .
وقال ابن عباس : كالليل؛ لأنه يقال له : الصريم ، لسواده ، والصريم أيضاً : النهار وقيل : الصُّبحُ؛ لأنه انصرم من الليلة ، قاله الأخفش . فهو من الأضداد .
وقال شمر : الصريم الليل ، والصريم النهار .
وقيل : الصريم : رملة معروفة باليمنِ لا تنبت شيئاً .
وقال الثوريُّ : كالزرع المحصود ، فالصريم بمعنى المصروم ، أي : المقطوع ما فيه .
وقال الحسنُ : صرم عنها الخير ، أي : قطع ، فالصريم مفعول أيضاً .
وقال المؤرج : كالرملة انصرمت من معظم الرمل ، يقال : صريمة وصرائم ، فالرملة لا تنبت شيئاً ينتفع به .
وقيل : سمي الليل صريماً؛ لأنه يقطع بظلمته عن التصرف ، ولهذا يكون « فَعِيْل » ، بمعنى « فاعل » .
قال القشيريُّ : وفي هذا نظر؛ لأن النهار يسمى صريماً ، ولا يقطع عن التصرف .
وقيل : سمي الليل صريماً؛ لأنه يصر نور البصر ويقطعه .
فصل في بيان أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان .
قال القرطبيُّ : في الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان . لأنهم عزموا على أن يفعلوا ، فعوقبوا على فعلهم؛ ونظيره قوله تعالى : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم :
«
إذَا التَقَى المُسلِمَانِ بِسيْفِهِمَا فالقَاتِلُ والمَقْتُولُ في النَّارِ ، قيل : يا رسول الله ، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : إنَّه كَانَ حريصاَ على قَتْلِ صاحِبهِ » وقد مضى في آل عمران عند قوله : { وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ } [ آل عمران : 135 ] .
قوله : { فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ } .
قال مقاتل : لما أصبحوا قال بعضهم لبعض : { اغدوا على حَرْثِكُمْ } يعني بالحرث الثِّمار والزروع والأعناب ، ولذلك قال : « صَارمِيْنَ » ، لأنهم أرادوا قطع الثمار من الأشجار .
«
أن اغْدُوْا » يجوز أن تكون المصدرية ، أي : تنادوا بهذا الكلام ، وأن تكون المفسرة ، لأنه تقدمها ما هو بمعنى القول .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : هلاَّ قيل : اغدوا إلى حرثكم ، وما معنى على؟ .
قلت : لما كان الغدو إليه ليصرموه ، ويقطعوه كان غدواً عليه كما تقول : غدا عليهم العدو ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال كقولهم : يغدى عليهم بالجفنة ويراح » انتهى .
فجعل « غَدَا » متعدياً في الأصل ب « إلى » فاحتاج إلى تأويل تعديه ب « عَلَى » ، وفيه نظر؛ لورود تعديه ب « عَلَى » في غير موضع؛ كقوله : [ الوافر ]
4823 -
وقَدْ أغْدُو على ثُبَةٍ كِرامٍ ... نَشَاوَى واجِدينَ لَمَا نَشَاءُ
وإذا كانوا قد عدوا مرادفه ب « عَلَى » فليعدوه بها ، ومرادفه « بكر » تقول : بكرتُ عليه و « غدوتُ عليه » بمعنى واحد؛ قال : [ الطويل ]
4824 -
بَكَرْتُ عَليْهِ غُدْوةً فَرأيْتُهُ ... قُعُوداً إليْهِ بالصَّريمِ عَواذِلُه
قوله { إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ } . جوابه محذوف ، أي فاغدوا و « صارمين » : قاطعين حادين .
وقيل : ماضين العزم من قولك : سيف صارم .
قوله { فانطلقوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } . أي : يتشاورون فيما بينهم ، والمعنى يخفون كلامهم ، ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد ، قاله عطاء وقتادة .
وهو من خفت يخفت إذا سكت ، ولم يبين .
قال ابن الخطيب : « وخَفَى وخَفَت ، كلاهما في معنى الكتم ، ومنه الخمود والخفاء » .
وقيل : يخفون أنفسهم من الناس ، حتى لا يروهم ، وكان أبوهم يخبر الفقراء والمساكين فيحضروا وقت الحصاد والصرام .
وقوله : { وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } جملة حالية من فاعل « انْطَلقُوا » .
قوله : { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } .
«
أنْ » مفسرة ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : يتخافتون بهذا الكلام ، أي : يقوله بعضهم لبعض : { لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } .
قال ابن الخطيب : والنهي للمسكين عن الدخول نهيٌ لهم عن تمكينه منه ، أي : لا تمكنوه من الدخول .
وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة : « لا يدْخُلنَّهَا » بإسقاط « أنْ » إما على إضمار القولِ كمذهب البصريين ، وإما على إجراء « يَتَخافتُونَ » مجراه كقول الكوفيين .
قوله : { وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قَادِرِينَ } .
يجوز أن يكون « قَادِريْنَ » حالاً من فاعل « غَدَوْا » و « عَلى حَرْدٍ » متعلق به وأن يكون « على حَردٍ » هو الحال و « قَادِريْنَ » إما حال ثانية ، وإما حال من ضمير الحالِ الأول .
والحرد : قيل : الغضب والحنق . قاله السديُّ وسفيان .
وأنشد للأشهب بن رميلة : [ الطويل ]
4825 -
أسُودُ شَرًى لاقَتْ أسُودَ خَفيَّةٍ ... تَساقَوْا على حَرْدٍ دِماءَ الأسَاوِدِ
قيل : ومثله : [ الرجز ]
4826 -
إذَا جِيادُ الخَيْلِ جَاءتْ تَرْدِي ... مَملُوءةً مِنْ غضَبٍ وحَرْدِ
عطف لما تغاير اللفظان؛ كقوله : [ الوافر ]
4827 - ..
وألْفَى قوْلهَا كذِباً ومَيْنَا
قال أبو عبيدة والقتيبي : « عَلى حَرْدٍ » على منع من حاردت الناقة حراداً ، أي : قل لبنها .
والحرود من النوق القليلة الدر ، وحاردت السَّنةُ : قل مطرها ، وخيرها .
ويقال : حرد - بالكسر - يحرد حرداً ، وقد تفتح فيقال : حَرَدَ فهو حردان وحارد ، وليوث حوارد .
وقيل : الحرد ، والحرود : الانفراد ، يقال : حَرَدَ - بالفتح - يَحْرُدُ - بالضم - حروداً وحرداً ، أي : انعزل . ومنه كوكب حارد ، أي : منفرد .
قال الأصمعي : هي لغة هذيل .
وقال القرطبيُّ : يقال : حرد يحرد حروداً ، أي : تنحى عن قومه ، ولم يخالطهم .
وقال أبو زيدٍ : رجل حريد من قوم حرداء ، وقد حَرَدَ يَحْرِدُ حُرُوداً إذا ترك قومه ، وتحول عنهم .
قال الأصمعي : رجل حريد ، أي : فريد وحيد ، قال : والمنفرد والمنحرد في لغة هذيل وأنشد لأبي ذؤيب : [ البسيط ]
4828 - ..
كأنَّهُ كَوكَبٌ في الجَوِّ مُنْحِرِدُ
ورواه أبو عمرو : بالجيم ، قال : وهو سهيل .
وقيل : الحردُ القصد ، يقال : حَرَد يحْرِدُ - بالكسر - حرداً ، قصداً ، تقول : حردت حردك ، أي : قصدت قصدك؛ قال الراجز : [ الرجز ]
4829 -
أقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّه ... يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّهْ
وقال قتادة ومجاهدٌ : « عَلى حَرْدٍ » ، أي : على جد وجهد .
وقال القرطبيُّ ومجاهد وعكرمة : أي : على أمر مجتمع قد أسموه بينهم .
قال البغويُّ : « وهذا معنى القصدِ » .
وقال الحسنُ : على حاجةٍ وفاقةٍ .
وقيل : الحرد اسم جنتهم بعينها ، قاله السديُّ .
وقال الأزهريُّ : حرد اسم قريتهم . وفيهما بعد . و « قَادِريْنَ » إما من القدرة وهو الظاهرُ ، وإما من التقدير ، وهو التضييق ، أي : مضيقين على المساكين .
وقرأ العامة : بالإسكان .
وقرأ أبو العالية وابن السميفع : بالفتح ، وهما لغتان .
فصل في تفسير « قادرين »
قال الفرَّاء : ومعنى « قادرين » قد قدروا أمرم ، وبنوا عليه .
وقال قتادة : قادرين على جنتهم عند أنفسهم .
وقال الشعبيُّ : قادرين على المساكين .
وقيل : معناه من الوجود ، أي : منعوا وهم واجدون .
ومعنى الآيةِ : وغدوا ، وكانوا عند أنفسهم ، وفي ظنهم أنهم قادرون على منع المساكينَ .
قوله { فَلَمَّا رَأَوْهَا } . يعني الجنة محترقة ، لا شيء فيها قد صارت كالليل الأسود ينظرون إليها كالرماد أنكروها ، وشكوا فيها ، وقال بعضهم لبعض : « إنَّا لضالُّونَ » أي : ضللنا الطريق إلى جنتنا ، ثم لما تأملوا وعرفوا أنها هي ، قالوا : { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } حرمنا خيرها بشؤم عزمنا على البخل ومنعنا الفقراء ، قاله قتادة .
وقيل : « إنَّا لضالُّون » عن الصَّواب في غدونا على نية منع المساكين ، فلذلك عوقبنا { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي : حرمنا جنتنا بما صنعنا .
روى ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » إيَّاكم والمَعاصِي إنَّ العَبْدَ ليذْنبُ الذَّنْبَ فيُحرَمُ بِهِ رِزْقاً كان هُيِّىء له « ثم تلا : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ } » الآيتين .
قوله : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } ، يعني أعدلهم ، وأفضلهم وأعقلهم { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ : لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } أي : هلا تستثنون ، وكان استثناؤهم تسبيحاً . قاله مجاهدٌ وغيره ، وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان يأمرهم بالاستثناء ، فلم يطيعوه .
قال أبو صالحٍ : كان استثناؤهم سبحان الله ، فقال لهم : « هَلاَّ تسبِّحُونَ اللَّهَ » ، أي تقولون : سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم .
وقال النحاس : أصل التسبيحِ التنزيه لله - عز وجل - ، فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء اللَّهُ؛ لأن المعنى تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته .
وقال ابن الخطيب : التسبيحُ عبارة عن تنزيهه عن كل سوء فلو دخل شيء في الوجود على خلاف إرادة الله تعالى ، لوجب عود النقص إلى قدرة الله تعالى ، فقولك : « إن شاء الله » مزيل هذا النقص ، فكان ذلك تسبيحاً .
وقيل : المعنى : هلاَّ تَسْتغفرونهُ من فِعْلكُم ، وتتوبون إليه من خبث نيتكم .
قيل : إنَّ القوم لمَّا عزموا على منع الزكاةِ واغتروا بالمال والقوة ، قال لهم أوسطهم : توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذابِ ، فلما رأوا العذاب ذكرهم أوسطهم كلامهُ الأول ، وقال : { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } فحينئذ اشتغلوا بالتوبة وقالوا : { ِسُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } قال ابن عباس في قولهم سبحان ربنا أي نستغفر ربنا من ذنوبنا لأنا كنا ظالمين لأنفسنا في منعنا المساكين .
وقال الحسنُ : هذا التسبيحُ هُو الصَّلاةُ كأنهم كانوا يتكاسلون في الصلاة ، وإلا لكانت ناهية لهم [ عن الفحشاء والمنكر ، ولكانت داعية لهم ] إلى أن يواظبوا على ذكر الله ، وعلى قول إن شاء الله .
قوله { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ } . أي : يلوم بعضهم بعضاً ، يقول هذا لهذا : أنت أشرت علينا بهذا الرأي ، ويقول ذلك لهذا : أنت خوفتنا بالفقر ، ويقول الثالث لغيره : أنت رغبتني في جمع المال ، ثم نادوا على أنفسهم بالوَيْلِ فقالوا : { ياويلنا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } أي : عاصين بمنع حق الفقراءِ ، وترك الاستثناء .
وقال ابنُ كيسان : طغينا نعم اللَّهِ ، فلم نشكرهَا كما شكرها آباؤنا من قبل { عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ } تعاقدوا وقالوا : إن أبدلنا الله خيراً منها لنصنعنّ كما صنع آباؤنا فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله من ليلتهم ما هو خير منها .
قرىء : « يبدلنا » بالتخفيف والتشديد ، وهما لغتانِ .
وقيل : التبديلُ تغير الشيء ، أو تغير حاله وعين الشيء قائم ، والإبدال رفع الشيء ووضع آخر مكانه ، ثم قال : { إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ } أي : طالبون منه الخير راجعون لعفوه .
قال المفسرون : إن الله أمر جبريل عليه السلام أن يقتلع تلك الجنة ، بزغر من أرض الشام ، ويأخذ من أرض الشام جنة ، فيجعلها مكانها .
وقال ابن مسعود : إن القوم لما أخلصوا وعرف الله منهم صدقهم أبدلهم اللَّهُ جنة يقال لها : الخيوان فيها عنب يحمل البغل منها عنقوداً واحداً .
وقال أبو خالد اليماني : دخلت تلك الجنة ، فرأيت كُلَّ عنقودٍ منها كالرَّجلِ الأسودِ القائمِ .
وقال الحسنُ : قول أهل الجنة : { إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ } لا أدري إيماناً كان ذلك منهم ، أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابهم الشدة . فتوقف في كونهم مؤمنين .
وسئل قتادةُ عن أهل الجنَّة ، أهم من أهل الجنَّة أم من أهل النَّارِ؟ .
قال : لقد كلفتني تعباً .
والأكثرون يقولون : إنهم تابوا وأخلصوا . حكاه القشيري .
قوله : { كَذَلِكَ العذاب } . مبتدأ وخيره مقدم ، أي : مثل ذلك العذاب عذاب الدنيا وأما عذاب الآخرة فأكبر منه { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
قال ابنُ زيدٍ : « كذَلكَ العَذابُ » أي : عذاب الدنيا وهلاك الأموال .
وقيل : هذا وعظٌ لأهل مكة بالرجوعِ إلى اللَّه لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم أي : كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا { وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
قال ابنُ عباسٍ : هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر ، وحلفوا ليقتلنَّ محمداً ، وأصحابه ، وليرجعوا إلى أهل مكة ، حتى يطوفوا بالبيت ، ويشربوا الخمر ، وتضرب القيانُ على رءوسهم ، فأخلف الله ظنهم ، وقتلوا وأسروا وانهزموا كأهل هذه الجنة لما خرجوا عازمين على الصرم ، فخابوا .
فصل في العبرة من هذه الآية بضرب المثل
قال ابن الخطيب : قوله تعالى { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين } [ القلم : 14 - 15 ] ، والمعنى : لأجل أن أعطاه الله المال والبنين كفر بالله ، كلا ، بل الله تعالى إنما أعطاه ذلك للابتلاء ، فإذا صرفه إلى الكفر دمر الله عليه ، بدليل أن أصحاب الجنة لما أتوا بهذه المعصيةِ اليسيرةِ دمر الله جنتهم ، فكيف حال من عاند الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأصرَّ على الكفر والمعصيةِ .
فصل في بيان هل كان الحق واجباً عليهم أم لا؟
قيل : إن الحق الذي منعه أهل الجنَّة المساكين كان واجباً عليهم ، ويحتمل أنه كان تطوعاً ، والأول أظهر .
وقيل : السورة مكية ، فبعد حمل الآية على ما أصاب أهل مكة من القحطِ ، وعلى قتال بدر .
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)
قوله : { إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النعيم } ، أي : جناتٌ ليس فيها إلا النعيمُ الخالصُ لا يشوبه ما ينغصُه كما يشوب جناتِ الدنيا .
قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية ، قال كفَّارُ مكة للمسلمين : إن الله تعالى فضَّلنا عليكم في الدنيا فلا بد وأن يُفضِّلنا عليكم في الآخرة ، فإن لم يحصل التفضيلُ ، فلا أقل من المساواةِ . فأجاب الله عن هذا الكلام بقوله : { أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين } ، أي : إن التسوية بين المُطيع والعاصي غيرُ جائزة ثم وبَّخهُمْ فقال : { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } هذا الحكم الأعوج كأن أمر الجزاءِ مفوضٌ إليكم حتى تحكموا فيه .
قوله : « عِندَ ربِّهِمْ » . يجوز أن يكون منصوباً بالاستقرار ، وأن يكون حالاً من « جنَّاتِ » .
فصل في رد كلام القاضي
قال القاضي : في الآية دليل واضح على أن وصف الإنسان بأنه مسلم ومجرم كالمتنافي ، والفاسق لما كان مجرماً ، وجب أن لا يكون مسلماً .
وأجيب بأنه تعالى أنكر جعل المسلم مثلاً للمجرم ، ولا شك أنه ليس المراد إنكار المماثلة في جميع الأمور ، فإنهما متماثلان في الجوهرية ، والجسمية ، والحدوث ، والحيوانية ، وغيرها من الأمور الكثيرة ، بل المراد : إنكارُ استوائهما في الإسلام والجرم ، أو في آثارِ هذين الأمرينِ ، فالمراد : أن يكون إنكار أثر الإسلام مساوياً لأثر جرم المجرم عند الله ، وهذا لا نزاع فيه ، فمن أين يدل على أن الشخص الواحد يمتنع فيه كونه مسلماً ومجرماً؟ .
فصل في رد كلام الجبائي
قال الجبائيُّ : دلت الآية على أن المجرم لا يكون ألبتةَ في الجنةِ؛ لأنه تعالى أنكر حصول التسوية بينهما في الثواب ، بل لعله يكون ثواب المجرم أزيد من ثواب المسلم ، إذا كان المجرمُ أطول عمراً من المسلم ، وكانت طاعته غير محبطةٍ . والجوابُ : هذا ضعيفٌ ، لأنا بينا التسوية في درجة الثوابِ ، ولعلهما لا يستويان فيه بل يكون ثواب المسلمِ الذي لم يعص أكثر من ثواب من عصى ، على أنا نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد من المجرمين هم الكفار الذين حكى الله عنهم هذه الواقعة ، لأن حمل الجمع المحلى بالألف واللام على المعهود السابق مشهور في اللغة والعرفِ .
قوله : { أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ } . أي : ألكم كتاب تجدون فيه المطيع كالعاصِي . وهذا كقوله { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ } [ الصافات : 156 - 157 ] .
قوله : { إِنَّ لَكُمْ فِيهِ } .
العامة على كسر الهمزة ، وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها معمولة ل « تَدْرُسُونَ » ، أي : تدرسون في الكتاب أن لكم ما تحتاجونه ، فلما دخلت اللامُ كسرت الهمزة ، كقولك : علمت أنك عاقل - بالفتح - وعلمت إنك لعاقل - بالكسر - .
والثاني : أن تكون على الحكايةِ للمدروسِ كما هو ، كقوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين }
[
الصافات : 78 ، 79 ] ، قالهما الزمخشري .
وفي الفرق بين الوجهين عسرٌ ، قال : « وتخير الشيء واختاره ، أخذ خيره ، كتنخله وانتخله ، أخذ منخوله » .
الثالث : أنها على الاستئناف على معنى « إن كَان لَكُمْ كتابٌ فلكُمْ متخير » .
قال القرطبي : تم الكلام عند قوله « تَدْرسُونَ » ثم ابتدأ فقال : { إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لمَا تَخَيَّرُونَ } أي : إن لكم في هذا الكتاب إذن ما تخيرون ، أي : ليس لكم ذلك ، والكناية في « فِيْهِ » الأولى والثانية راجعة إلى الكتاب .
وقرأ طلحة والضحاك : « أنَّ لَكُمْ » بفتح الهمزة . وهو منصوب ب « تَدْرسُونَ » إلا أن فيه زيادة لام التأكيد ، وهي نظير قراءة { إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام } [ الفرقان : 20 ] بالفتح .
وقرأ الأعرج وابن هرمز : « أإنَّ لَكُمْ » في الموضعين ، يعني « أإنَّ لكُمْ فيْهِ لمَا تخيَّرُونَ » « أإنَّ لَكُمْ لمَا تَحْكُمونَ » بالاستفهام فيهما جميعاً .
ثم إنه تعالى زاد في التوبيخ فقال : { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ } ، أي : عهود ومواثيق { عَلَيْنَا بَالِغَةٌ } مؤكدة والبالغة المؤكدة بالله تعالى ، أي : أم لكم عهود على الله تعالى استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة .
قال ابن الخطيب : والمعنى : أم ضمنا لكم ، وأقسمنا لكم بأيمان مغلطة متناهية في التوكيد .
قوله : « بَالِغَةٌ » .
العامة على رفعها نعتاً ل « أيْمَانٌ » و { إلى يَوْمِ القيامة } متعلق بما تعلق به « لَكُمْ » زمن الاستقرار أي كائنة لكم إلى يوم ، أو « ببالغة » ، أي : تبلغ إلى ذلك اليوم ، وتنتهي إليه .
وقرأ زيد بن علي والحسن : بنصبها .
فقيل : على الحال من « أيْمَانٌ » لأنها تخصصت بالعمل ، أو بالوصف .
وقال القرطبيُّ : « على الحال من الضمير في » لَكُمْ « لأنه خبر عن » أيمانٌ « ففيه ضمير منه ، وإما من الضمير في » عليْنَا « إن قدرت » علينا « وصفاً للأيمان لا متعلقاً بنفس الأيمانِ؛ لأن فيه ضميراً منه كما يكون إذا كان خبراً عنه .
وقيل : من الضمير في » علينا إن قدرت علينا « وصفاً للأيمان » .
وقوله : { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } . أي : لأنفسكم من الخير والكرامة .
قوله : { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } ، جواب القسم في قوله : « أيْمانٌ » لأنها بمعنى أقسام .
قوله : { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ } . أي : سل - يا محمد - هؤلاء المتقولين عليَّ : أيهم كفيل بما تقدم ذكره ، والزعيم : الكفيل والضمين ، قاله ابن عباس وقتادة ، لقوله تعالى : { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } [ يوسف : 72 ] .
وقال ابنُ كَيْسَان : الزعيم هنا : القائم بالحجة والدعوى .
وقال الحسن : الزعيم : الرسول .
قوله : « أَيُّهم » متعلق ب « سَلْهُمْ » و « بذلك » متعلق ب « زعيمٌ » ، أي : ضمين وكفيل وقد تقدم أن « سَألَ » تعلق لكونه سبباً في العلم ، وأصله أن يتعدى ب « عَنْ » ، أو الباء كقوله :
{
فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] ، وقوله : [ الطويل ]
4830 -
فإنْ تَسْألُونِي بالنِّساءِ . . .
والجملة في موضع نصب بعد إسقاط الخافض كما تقدم تقريره .
قوله : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ } . هذه قراءة العامة .
وقرأ عبد الله : { أم لهم شرك فليأتوا بشركهم } بلفظ المصدرِ .
قال القرطبيُّ : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ } ، أي : ألهم ، والميم صلة ، ومعنى : شركاءُ ، أي : شهداء { فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ } يشهدون على ما زعموا { إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } في دعواهم .
وقيل : فليأتوا بشركائهم إن أمكنهم ، فهو أمر تعجيز .
وقال ابن الخطيب : « في تفسيره وجهان :
الأول : أن المعنى أم لهم أشياء يعتقدون أنها شركاء لله ويعتقدون أن أولئك شركاء يجعلونهم في الآخرة مثل المؤمنين في الثواب ، والخلاص من العقابِ ، وإنما إضاف الشركاء إليهم؛ لأنهم جعلوها شركاء للَّهِ ، كقوله : { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ } [ الروم : 40 ] .
الثاني : أم لهم أناسٌ يشاركونهم في هذا المذهب ، وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين فليأتوا بهم إن كانوا صادقينَ في دعواهم ، والمراد بيان أنه كما ليس لهم دليل عقلي ، ولا دليل من كتاب يدرسونه ، فليس لهم من يوافقهم من العقلاء على هذا القولِ ، فدل ذلك على بطلانه » .
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
ثم إنه تعالى لما أبطل قولهم شرح بعده عظمة يوم القيامة ، وهو قوله :
{
يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } « يَوْمَ » منصوب بقوله « فليَأتُوا » أي : فليأتوا بشركائهم يوم يكشفُ عن ساق ليشفع الشركاء لهم وحينئذ لا يوقف على « صَادِقينَ » .
أو بإضمارِ « اذْكُرْ » فيكون مفعولاً به ، أو بمحذوفٍ وهو ظرف ، أي : يوم يكشف يكون كيت وكيت . أو ب « خَاشِعةً » . قاله أبو البقاء .
و « عَنْ ساقٍ » قائم مقام الفاعل .
وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة : « تكشف » بالتاء من فوق مبنياً للفاعل ، أي : الشدة والساعة . وعنه أيضاً كذلك : مبنياً للمفعول .
وهي مشكلة ، لأن التأنيث لا معنى له هاهنا إلا أن يقال : إن المفعول مستتر ، أي : تكشف هي ، أي : الشدة ، ويتعلق « عَنْ ساقٍ » بمحذوف ، أي : تكشف عن ساقها .
ولذلك قال الزمخشري : « وتكشف » بالتاء مبنياً للفاعل والمفعول جميعاً ، والفعل للساعة ، أو الحال : أي يشتد الحال ، أو الساعة .
وقرىء : « ويُكشِفُ » - بضم التاء أو الياء وكسر الشين - من « أكشف » إذا دخل في الكشف ، وأكشف الرجل إذا انقلبت شفته العليا لانكشاف ما تحتها . ويقال له أيضاً : أخلع وكشف الساق كناية عن الشدة .
قال الراجز : [ الرجز ]
4831 -
عَجِبْتُ مِنْ نَفْسِي ومِنْ إشْفَاقِهَا ... ومِنْ طِرَادِي الطَّيْرَ عَنْ أرْزَاقِهَا
في سَنةٍ قَدْ كشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا ... حَمْرَاءِ َبْرِي اللَّحْمَ عَنْ عُراقِهَا
وقال حاتم الطائيُّ : [ الطويل ]
4832 -
أخُو الحَرْبِ إنْ عَضَّتْ به الحَرْبُ عضَّهَا ... وإنْ شَمَّرْتَ عَنْ سَاقهَا الحَرْبُ شَمَّرَا
وقال الآخر : [ مجزوء الكامل ]
4833 -
كَشفَتْ لَهُمْ عَنْ سَاقِهَا ... وبَدَا مِنَ الشَّرِّ البَواحُ
وقال الراجز : [ الرجز ]
4834
أ - قَدْ شَمرَتْ عَنْ سَاقِهَا فشُدُّوا ... وجَدَّتِ الحَرْبُ بِكُمْ فَجِدُّوا
وقال الآخر : [ السريع ، أو الرجز ]
4834
ب - صَبْراً أُمامُ إنَّهُ شَرُّ بَاقْ ... وقَامتِ الحَرْبُ بِنَا على سَاقْ
قال الزمخشريُّ : الكشفُ عن الساق والإبداء عن الخدام مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب ، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدراتِ عن سوقهن في الهرب وإبداء خدامهن عند ذلك؛ قال حاتم :
4835
أ - أخو الحَرْبِ . .. . . .
وقال ابن قيس الرُّقيَّاتِ : [ الخفيف ]
4835
ب - تُذِهِلُ الشَّيْخَ عنْ بنيهِ وتُبْدِي ... عَنْ خِدَامِ العَقيلَةُ العَذْراءُ
انتهى .
فصل في « الساق »
قال ابن عباس في قوله تعالى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } ، قال : كرب وشدة .
وعن مجاهد : شدة الأمر وحده .
وروى مجاهد عن ابن عباس قال : أشد ساعةٍ في القيامة .
وقال أبو عبيدة : إذا اشتد الأمر ، أو الحرب قيل كشف الأمر عن ساقه .
والأصل فيه : أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد ، شمر عن ساقه ، فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة .
وقيل : ساق الشيء : أصله الذي به قوامه كساق الشجرة ، وساق الإنسان ، أي : يوم يكشفُ عن أصل الأمر ، فتظهر حقائق الأمور ، وأصلها .
وقيل : يكشف عن ساق جهنم .
وقيل : عن ساق العرش .
وقيل : يريد وقت اقتراب الأجل وضعف البدن ، أي : يكشف المريض عن ساقه ليبصر ضعفه ، ويدعوه المؤذنون إلى الصلاة ، فلا يمكنه أن يقوم ، ويخرج .
فصل في تأويل « الساق »
قال القرطبيُّ : فأما ما روي الله تعالى يكشف عن ساقه ، فإنه - عز وجل - يتعالى عن الأعضاء ، والأبعاض ، وأن ينكشف ، ويتغطى ، ومعناه أن يكشف عن العظيم من أمره وقيل : « يكشف عن نوره عز وجل » .
؟؟؟وروى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { عَنْ سَاقٍ } قال : يكشف عن نورٍ عظيمٍ يخِرُّونَ لهُ سُجَّداً .
وروى أبو بردة عن أبي موسى قال : حدثني أبي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامةِ مثِّل لِكُلِّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبدُونَ فِي الدُّنيَا فيَذْهبُ كُل قَوْمٍ إلى مَا كَانُوا يَعَبْدُون ويبقى أهلُ التَّوحيدِ ، فيقال لهم : ما تَنْتَظِرُونَ ، وقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ ، فيقولون : لنَا رَبٌّ كنَّا نَعْبدُهُ في الدُّنيَا ، ولَمْ نَرَهُ ، قال : وتعْرِفُونهُ إذَا رأيتمُوهُ؟ فيقولون : نَعَم ، فيُقَالُ لَهُمْ : فَكيْفَ تعرفونه ، ولَمْ تَرَوهُ؟ قالوا : إنه لا شبيهَ لَهُ ، فيكشفُ لَهُم الحجابُ ، فينْظُرونَ إلى اللَّهِ تعالى ، فيخِرُّونَ لَهُ سُجَّداً ، ويبقى أقوامٌ ظُهُورُهُمْ كَصَياصِي البَقرِ ، فينْظرُونَ إلى اللَّهِ تعالى فيريدون السُّجُودَ ، فلا يَسْتطِيْعُونَ ، فَذلكَ قوله تعالى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } فيقول الله تعالى : عبادي ارفعوا رءوسكم ، فقد جعلت بدل كل رجل منكم رجلاً من اليهود والنصارى في النار » ، قال أبو بردةُ : فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال : الله الذي لا إله إلا هو لقد حدثك أبوك بهذا الحديث؟ فحلف له ثلاثة أيمانٍ ، فقال عمر : سمعتُ في أهل التوحيد حديثاً هو أحب إليَّ من هذا .
قوله { خَاشِعَةٌ } . حال من مرفوع « يُدْعَونَ » و « أبْصَارهُمْ » فاعل به ، ونسب الخشوع للأبصار وإن كانت الأعضاء كُلها كذلك لظهور أثره فيها .
وقوله : « وهُمْ سَالِمُونَ » . حال من مرفوع « يُدعَونَ » الثانية .
ومعنى { خَاشِعَةٌ أَبْصَارُهُمْ } ، أي : متواضعةٌ « تَرْهقُهُمْ ذلَّةٌ » وذلك أن المؤمنين يرفعون رءوسهم ، ووجوههم أشد بياضاً من الثلج ، وتسود وجوه الكافرين والمنافقين حتى ترجع أشد سواداً من القار .
فصل في تقرير كلام أهل اللغة في الساق
قال ابن الخطيب بعد أن حكى أقوال أهلِ اللغةِ في الكشف عن الساق : واعلم أن هذا اعتراف من أهل اللغة بأن استعماله في الشدة مجاز ، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الكلامِ إلى المجاز إلا بعد تعذر حمله على الحقيقة ، فإذا أقمنا الدلائل القاطعة على أنه تعالى يستحيل أن يكون جسماً ، فيجب حينئذٍ صرف هذا اللفظ إلى المجاز .
واعلم أن صاحب الكشَّاف أورد هذا التأويل في معرض آخر ، فقال : الكشف عن السَّاق مثلٌ في شدَّة الأمر ، فمعنى { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } يوم يشتد ، ويتعاظم ، ولا كشف ثمَّ ولا ساقَ ، كما تقول : الشحيح يده مغلولة ، ولا يد ثمَّ ، ولا غل ، وإنما هو مثل في البخلِ ، ثم أخذ يعظم علم البيانِ ويقول : لولاه ما وقفنا على هذه الأسرارِ ، وأقولُ : إما أن يدعي أنه يجوز صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل ، أو تقول : لا يجوز ذلك إلا بعد امتناع حمله على الحقيقة ، والأول باطل بالإجماع ، ولأنا إن جوزنا ذلك انفتحت أبواب تأويلات الفلاسفةِ في أمر المعاد ، فإنهم يقولون في قوله : { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ الحج : 23 ] ليس هناك أنهار ولا أشجار ، وإنما هو مثل للّذة والسعادة ويقولون في قوله تعالى : { اركعوا واسجدوا } [ الحج : 77 ] وليس هناك ركوع ولا سجود وإنما هو مثل للتعظيم ، ومعلوم أن ذلك يفضي إلى رفع الشرائع ، وفساد الدينِ ، وأما من قال : إنه لا يصار إلى التأويل ، إلا عند قيام الدليل على أنه لا يجوز حمله على ظاهره ، فهذا قولُ كُلِّ أحد من المتكلمين ، فأين الدقائق التي استند هو بمعرفتها والاطلاع عليها بواسطةِ علم البيان ، ثم إن قال بعد أن حكى القول بأن المراد بالساق جهنم ، أو ساق العرش ، أو ساق ملك عظيم إن اللفظ لا يدل إلا على ساق ، وأما أي شيء هو فليس في اللفظ ما يدل عليه ، ثم ذكر حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم « أنَّهُ تعالى يتَمثَّلُ للخَلْق يَوْمَ القِيامةِ حِيْنَ يَمُرُّ المُسْلمُونَ فيقول : مَنْ تَعْبُدُونَ؟ فيقولون : نَعْبُدُ اللَّهَ فيُشْهدُهمْ مرَّتينِ ، أو ثلاثاً ، ثُمَّ يقُولَ : هَلْ تَعْرفُون ربَّكُمْ؟ فيقولون : لَوْ عرَّفنَا نَفسَهُ عرفْناهُ ، فعِنْدَ ذلِكَ يُكْشَفُ عن سَاقٍ فَلا يَبْقَى مُؤمِنٌ إلاَّ خَرَّ للَّه ساجِداً ، ويَبْقَى المُنافِقُونَ ظُهُورهُمْ كالطَّبَقِ الوَاحدِ ، كأنَّما فيهَا السَّفافِيدُ » .
قال : واعلم أن هذا القول باطل لوجوه :
أحدها : أن الدلائل دلت على أن كل جسم متناهي وكل متناهٍ محدث ، وأنّ كلَّ جسم ممكن وكل ممكن محدث .
وثانيها : أنه لو كان المراد ذلك لكان من حق الساق أن يعرف أنها ساق مخصوصة معهودة عنده ، وهي ساق الرحمن ، أما إذا أجملت ففائدة التنكير : الدلالة على التعظيم ، كأنه قال : يوم يكشف عن شدة ، وأي شدة لا يمكن وصفها .
وثالثها : أن التعريف لا يحصل بالكشف عن الساق ، وإنما يحصل بكشف الوجه ، ثم حكى قول أبي مسلم : بأنه لا يمكن حمله على يوم القيامة؛ لأنه تعالى قال في وصفه : { وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود } ويوم القيامة ليس فيها تعبد ، ولا تكليف ، بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه ، كقوله تعالى :
{
يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ } [ الفرقان : 22 ] ، وقوله : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } [ الأنعام : 158 ] الآية لأنه الوقت الذي لا تنفع نفساً إيمانها ، وإما حال المرض والهرم والعجز ، ثم إنه يرى الناس يدعون إلى الصلاة إذا حضرت أوقاتها ، وهو لا يستطيع الصلاة { وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود وَهُمْ سَالِمُونَ } مما بهم الآن من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت ، أو من العجز والهرم ، ونظير هذه الآية { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم } [ الواقعة : 83 ] . ثم قال : واعلم أنه لا نزاع في أنه يمكن حمل اللفظ على ما قال أبو مسلم ، ثم قال : فأما قوله : « إنه لا يمكن حمله على يوم القيامة بسبب أن الأمر بالسجود حاصل في الدنيا والتكاليف زائلة يوم القيامة » .
فجوابه : أن ذلك لا يكون على سبيل التكليف بل على سبيل التقريع والتخجيل فلم قلت : إن ذلك غير جائزٍ .
قوله { وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود } في الدنيا { وَهُمْ سَالِمُونَ } معافون أصحاء .
قال إبراهيم التيمي : أي : يدعون بالأذان ، والإقامة ، فيأبون .
وقال سعيد بن جبيرٍ : كانوا يسمعون حيّ على الفلاح ، فلا يجيبون ، وهم سالمون أصحاء .
وقال كعبُ الأحبار : والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات .
وقيل : أي : بالتكليف الموجه عليهم في الشرع .
قوله : { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث } ، أي : فدعني والمكذبين بالقرآن وخلّ بيني وبينهم .
وقال الزجاجُ : لا تشغل بالك به كِلْهُ إليّ ، فإني أكفيك أمره .
و « مَنْ » منصوب إما نسقاً على ضمير المتكلم ، أو مفعول معه ، وهو مرجوح؛ لإمكان النسق من غير ضعف ، وتقدم إعراب ما بعده .
فصل في مناسبة الآية لما قبلها
لما خوف الكفار بعظمة يوم القيامة زاد في التخويف مما عنده ، وفي قدرته من القهر ، يقال : ذَرْنِي وإياه أي كِلْهُ إليّ ، فأنا أكفيكه .
قال السديُّ : والمراد بالحديث القرآن .
وقيل : يوم القيامةِ ، وهذا تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم .
قوله : { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ، أي : سنأخذهم على غفلة ، وهم لا يعرفون ، فعذبوا يوم بدر .
وقال سفيان الثوري : نسبغ عليهم النعم ، وننسيهم الشكر .
وقال الحسن : كم مستدرجٍ بالإحسان إليه ، وكم مفتون بالثناء عليه ، وكم مغرورٍ بالستر عليه .
وقال أبو روق : كلما أحدثوا الخطيئة جددنا لهم نعمة ، وأنسيناهم الاستغفار .
قال ابن عباسٍ : سنمكر بهم ، وروي أن رجلاً من بني إسرائيل قال : يا ربِّ ، كم أعصيك وأنت لا تعاقبني ، فأوحى اللَّهُ إلى نبي زمانهم أن قُلْ له : كَمْ مِنْ عقُوبَةٍ لِي عليكَ وأنْتَ لا تَشْعرُ أنَّ جُمُودَ عَيْنِك ، وقساوة قلبك استدراجٌ منِّي ، وعقُوبةٌ لو عقَلْتَ .
والاستدراج : ترك المعالجة ، وأصله النقل من حال إلى حال كالتدريج .
ومنه قيل : درجات ، وهي منزلة واستدرج فلان فلاناً ، أي : استخرج ما عنده قليلاً قليلاً ، ويقال : درجه إلى كذا ، واستدرجه بمعنى أدناه على التدريج ، فتدرج .
ومعنى الآية : إنا لما أنعمنا عليهم اعتقدوا أن ذلك الإنعام تفضيل لهم على المؤمنين ، وهو في الحقيقة يسبب هلاكهم .
قوله : { وَأُمْلِي لَهُمْ } أي : أمهلهم ، وأطيل لهم المدة ، كقوله { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] والملاوة : المدة من الدهر ، وأملى الله له ، أي : أطال له ، والملوان : الليل والنهار .
وقيل : { وَأُمْلِي لَهُمْ } ، أي : لا أعاجلهم بالموت ، والمعنى واحد ، والملا مقصور : الأرضِ الواسعة سميت بها لامتدادها { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } أي : إن عذابي لقوي شديد؛ فلا يفوتني أحد ، وسمى إحسانه كيداً كما سماه استدراجاً في صورة الكيدِ ووصفه بالمتانة لقوة أثر استحسانه في السبب للهلاك .
فصل في إرادة الكائنات
قال ابن الخطيبِ : تمسك الأصحاب بهذه الآية في مسألة إرادة الكائنات ، لأن هذا الاستدراج والكيد إن لم يكن لهما أثر في الطغيان ، فليسا بكيد ، ولا استدراج ، وإن كان لهما أثر فيه لزم أن يكون الحق سبحانه مريداً له ، لأن من فعل شيئاً لحصول شيء وأكده وقواه لا بد وأن يكون مريداً لحصول ذلك الشيء .
أجاب الكعبيُّ : بأن المراد استدراجهم إلى الموتِ ، أي : يخفى عنهم زمن الموت من حيثُ لا يعلمون ، وهو مقتضى الحكمة ، وإلا لكان فيه إغراء بالمعاصي ، لأنهم لو عرفوا الوقت الذي يموتون فيه أقدموا على المعاصي ، ثم صاروا مفتنين .
وأجاب الجبائيُّ : بأن معنى قوله : { سَنَسْتَدْرِجُهُم } أي : إلى العذاب { مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } في الآخرة ، { وَأُمْلِي لَهُمْ } في الدنيا توكيداً للحجة عليهم { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } فأمهله ، وأزيح الأعذار عنه { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] ، ويدل على هذا قوله قبل ذلك : { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث } ولا شك أن هذا التهديد إنما هو بعذاب الآخرة ، فوجب أن يكون الاستدراج والكيد المذكور عقيبه هو عذاب الآخرة وأجاب الأصحاب : أن هنا الإمهال إذا كان مؤدياً إلى الطغيان كان الراضي بالإمهال العالم بتأديه إلى الطغيان لا بد وأن يكون راضياً بذلك الطغيان .
قوله : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً } . عاد الكلام إلى ما تقدم من قوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ } أي : أم تلتمس منهم ثواباً على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله ، والمغرم : الغرامة فهم من غرامة ذلك مثقلُون ، أي : يثقل حمل الغرامات عليهم في بذل المال ، فيثبطهم ذلك عن الإيمان .
والمعنى : ليس عليهم كلفة في متابعتك ، بل يستولون بالإيمان على خزائن الأرض ويصلون إلى جنات النعيم .
قوله : { أَمْ عِندَهُمُ الغيب } ، أي : علم ما غاب عنهم { فَهُمْ يَكْتُبُونَ } .
وقيل : أينزل عليهم الوحي بهذا الذي يقولون ، وعن ابن عباسٍ : الغيب هنا هو اللوح المحفوظُ ، فهم يكتبون منه ثوابَ ما هم عليه من الكفر ، ويخاصمونك به ، ويكتبون أنهم أفضل ، وأنهم لا يعاقبون .
وقيل : « يَكْتُبونَ » أي : يحكمون ما يريدون ، وهذا استفهام على سبيل الإنكار .
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
قوله { فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ } أي : لقضاء ربِّك ، والحكم هنا القضاء .
وقيل : اصبر على ما حكم به عليك ربُّك من تبليغ الرسالةِ .
وقال ابنُ بَحْرٍ : فاصبر لنصر ربك .
وقيل : منسوخ بآية السيف { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت } يعني يونس - عليه السلام - أي : لا تكن مثله في الغضب ، والضجر ، والعجلة .
وقال قتادة : إن الله تعالى يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ويأمره بالصبر ، ولا يعجل كما عجل يونس - عليه الصلاة والسلام - . وقد مضى الفرق بين « ذي » و « صاحب » في « يونس » .
قوله : { إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ } .
«
إذْ » منصوب بمضاف محذوف ، أي : ولا يكن حالك كحاله ، أو قصتك كقصته في وقت ندائه ، ويدل على المحذوف أن الذوات لا ينصبُّ عليها النهي على أحوالها ، وصفاتها .
وقوله : { وَهُوَ مَكْظُومٌ } . جملة حالية من الضمير في « نَادَى » .
والمكظوم : الممتلىء حزناً وغيظاً ، ومنه كظم السقاء إذا ملأه .
قال ذو الرمة : [ البسيط ]
4836 -
وأنْتَ مِنْ حُبِّ مَيٍّ مُضْمِرٌ حَزَناً ... عَانِي الفُؤادِ قَريحُ القَلْبِ مَكْظُومُ
فصل في دعاء يونس
«
إذْ نَادَى » ، أي : حين دعا من بطن الحوتِ ، فقال : { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] .
قال القرطبي : ومعنى { وَهُوَ مَكْظُومٌ } أي : مملوء غمًّا .
وقيل : كرباً ، فالأول قول ابن عباس ومجاهد ، والثاني : قول عطاء وأبي مالك ، قال الماورديُّ : والفرق بينهما أن الغمَّ في القلب ، والكرب في الأنفاس .
وقيل : « مَكْظُومٌ » محبوس ، والكظم : الحبس ومنه قولهم : كَظَمَ غَيْظَهُ ، أي : حبس غضبه ، قاله ابن بحر .
وقيل : « إنه المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس ، قاله المُبرِّدُ » .
والمعنى : لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر ، والمغاضبة ، فتبتلى ببلائه .
قوله : { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ } .
قال ابن الخطيب : لِمَ لَمْ يَقُلْ : تداركته نعمة؟ وأجاب : بأنه إنما حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في « تَدَاركَهُ » . ولأن التأنيث غير حقيقي .
وقرأ أبيّ وعبد الله بن عباس : « تَدارَكتْهُ » بتاء التأنيث لأجل اللفظِ .
والحسن وابن هرمز والأعمش : « تَدّارَكهُ » - بتشديد الدال - .
وخرجت على الأصل : تتداركه - بتاءين - مضارعاً ، فأدغم ، وهو شاذ؛ لأن الساكن الأول غير حرف لين؛ وهي كقراءة البزي { إذْ تَلَّقَّوْنَهُ } [ النور : 15 ] ، و { ناراً تَلَّظَّى } [ الليل : 14 ] ، وهذا على حكاية الحال ، لأن المقصد ماضيه ، فإيقاع المضارع هنا للحكاية ، كأنه قال : لولا أن كان يقال فيه : تتداركه نعمة .
قوله : { نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ } .
قال الضحاكُ : النعمة هنا : النبوة .
وقال ابن جبيرٍ : عبادته التي سلفت .
وقال ابن زيدٍ : نداؤه بقوله { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين }
[
الأنبياء : 87 ] .
وقال ابن بحرٍ : إخراجه من بطن الحوتِ .
وقيل : رحمة من ربِّه ، فرحمه وتاب عليه .
قوله : { لَنُبِذَ بالعرآء } ، هذا جواب « لَوْلاَ » ، أي : لنبذ مذموماً لكنه نبذ سقيماً غير مذموم .
وقيل : جواب « لَولاَ » مقدر ، أي : لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوتِ .
ومعنى : « مَذْمُوم » ، قال ابن عباس : مُليمٌ .
وقال بكر بن عبد الله : مُذنِبٌ .
وقيل : مبعدٌ من كل خير . والعراء : الأرض الواسعة الفضاء التي ليس فيها جبل ، ولا شجر يستر .
وقيل : لولا فضلُ الله عليه لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة ، ثم نبذ بعراء القيامة مذموماً ، يدل عليه قوله تعالى { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الصافات : 143 ، 144 ] .
فصل في عصمة الأنبياء
قال ابن الخطيب : هل يدل قوله « وهُوَ مَذمُومٌ » على كونه فاعلاً للذنب؟ قال : والجوابُ من ثلاثة أوجه :
الأول : أن كلمة « لولا » دلت على أن هذه المذمومية لم تحصل .
الثاني : لعل المراد من المذموميةِ ترك الأفضلِ ، فإن حسنات الأبرارِ سيئات المقربين .
الثالث : لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة ، لقوله « فاجْتبَاهُ رَبُّهُ » والفاء للتعقيب .
قيل : إن هذه الآية نزلت بأحدٍ حين حل برسول الله صلى الله عليه وسلم ما حل فأراد أن يدعو على الذين انهزموا .
وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف .
قوله : { فاجتباه رَبُّهُ } ، أي : فاصطفاه واختاره . { فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين } .
قال ابن عباس : رد الله إليه الوحي ، وشفعه في نفسه ، وفي قومه ، وقبل توبته وجعله من الصالحين بأن أرسله إلى مائة ألفٍ ، أو يزيدون .
فصل فيمن قال : إن يونس لم يكن نبياً قبل واقعة الحوت
قال ابن الخطيب : قال قوم : لعل صاحب الحوتِ ما كان رسولاً قبل هذه الواقعة ، ثم بعد هذه الواقعة جعله الله رسولاً ، وهو المرادُ من قوله { فاجتباه رَبُّهُ } والذين أنكروا الكرامات والإرهاص لا بد وأن يختاروا هذا القول ، لأن الاحتباس في بطن الحوت ، وعدم موته هناك لما لم يكن هناك إرهاص ، ولا كرامة ، فلا بد وأن تكون معجزة ، وذلك يقتضي أنه كان رسولاً في تلك الحال .
فصل في خلق أفعال العباد
قال ابن الخطيب : احتج الأصحاب على أن فعل العبد خلق الله تعالى بقوله : { فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين } وهذا يدل على أن الصلاح إنما حصل بجعل الله وخلقه .
قال الجبائيُّ : يحتمل أن يكون معنى « جعلهُ » أنه أخبر بذلك ، ويحتمل أن يكون لطف به حتى صلح ، إذ الجعل يستعمل في اللغة في هذه المعاني .
والجواب : أن ذلك مجاز ، والأصل في الكلامِ الحقيقة .
قوله : { وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ } « إنْ » المخففة من الثقيلة : « ليُزلقُونَكَ » ، أي : يغتالونك بأبصارهم ، قرأها نافع : بفتح الياء ، والباقون : بضمها .
فأما قراءة الجماعة : فمن أزلقه ، أي : أزال رجله ، فالتعدية بالهمزة من أزلق يزلق .
وأما قراءة نافع ، فالتعدية بالحركة ، يقال : زَلِقَ - بالكسر - وزلقتُه - بالفتح ، ونظيره : شترت عينه - بالكسر - وشترها الله - بالفتح . [ وقد تقدم لذلك أخوات ] .
وقيل : زلقه وأزلقه - بمعنى واحد - إزلاقاً ، إذا نحاه وأبعده ، وأزلق برأسه يزلقه زلقاً ، إذا حلقه .
قال القرطبي : « وكذلك أزلقه ، وزلقهُ تزليقاً ، ورجل زلقٌ وزُملق - مثال هُدَبِد - وزمالِق وزملِق - بتشديد الميم - وهو الذي ينزل قبل أن يجامع ، حكاه الجوهري وغيره » .
والباء في « بأبْصارهِمْ » إما للتعدية كالداخلة على الآلة ، أي : جعلوا أبصارهم كالآلة المزلقة لك ك « عملت بالقدوم » ، وإما للسببية ، أي : بسبب عيونهم .
وقرىء : « ليُزْهقونَكَ » من زهقت نفسه ، وأزهقها .
ثم فيه وجوه :
أحدها : أنهم من شدة تحديقهم ، ونظرهم إليك شزراً بعيون العداوة ، والبغضاء يكادون يزلقون قدمك من قولهم : نظر إليّ نظراً يكاد يصرعني ويكاد يأكلني ، أنشد ابن عباسٍ لما مر بأقوام حددوا النظر فيه : [ الكامل ]
4837 -
نَظَرُوا إليَّ بأعْيُنٍ مُحَمَرَّةٍ ... نَظَرَ التيُوسِ إلى شِفارِ الجَازِرِ
فصل في المراد بالنظر
أخبر الله تعالى بشدة عداوتهم للنبي صلى الله عليهم وسلم وأرادوا أن يصيبوه بالعين ، فنظر إليه قوم من قريش وقالوا : ما رأينا مثله ، ولا مثل حججه .
وقيل : كانت العين في بني أسد ، حتى إن البقرة السمينة ، أو الناقة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول : يا جارية ، خذي المكتل والدرهم ، فأتنا بلحم هذه الناقة فما تبرح حتى تقع الناقة للموت فتنحر .
وقال الكلبيُّ : كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئاً يومين أو ثلاثة ثم يرجع جانب الخباء ، فتمر به الإبل والغنم ، فيقول : لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه فلا تذهب قليلاً حتى تسقط منها طائفة هالكة ، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعين ، فأجابهم ، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم أنشد : [ الكامل ]
4838 -
قَدْ كَانَ قَوْمُكَ يَحْسبُونَكَ سيِّداً ... وإخَالُ أنَّك سَيِّدٌ مَعْيُونُ
فعصم الله نبيه صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية .
وذكر الماورديُّ : أن العرب كانوا إذا أراد أحدهم أن يصيب أحداً يعني في ماله ونفسه يجوع ثلاثة أيام ثم يتعرض لنفسه وماله ، فيقول : بالله ما رأيتُ أقوى منه ، ولا أشجع ، ولا أكبر منه ، ولا أحسن فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .
قال القشيريُّ : وفي هذا نظرٌ؛ لأن الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والإعجاب لا مع الكراهية والبغضِ ، ولهذا قال : « ويقولون : إنه لمجْنُونٌ » أي : ينسبونك إلى الجنون إذا رأوك تقرأ القرآن .
قال القرطبيُّ : أقوال المفسرين واللغويين تدل على ما ذكرنا ، وأن مرادهم بالنظر إليه قتله ، ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة حتى يهلك .
فمعنى الكلمة إذاً التنحية والإزالة ، وذلك لا يكون في حق النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهلاكه وموته .
قال الهرويُّ : أراد ليغتالونك بعيونهم ، فيزيلونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه عداوة لك .
وقال ابن عباس : ينفذونك بأبصارهم ، يقال : زلق السَّهم ، وزهق إذا نفذ ، وهو قول مجاهد أي : ينفذونك من شدة نظرهم .
وقال الكلبي : يصرعونك ، وعنه أيضاً والسُّدي وسعيد بن جبير : يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة .
وقال العوفي : يرمونك .
وقال المؤرج : يزيلونك .
وقال النضر بن شميل والأخفش : يفتنونك .
وقال الحسن وابن كيسان : ليقتلونك كما يقال : صرعني بطرفه ، وقتلني بعينه .
قوله : { لَمَّا سَمِعُواْ الذكر } من جعلها ظرفية جعلها منصوبة ب « يُزْلقُونكَ » ، ومن جعلها حرفاً جعل جوابها محذوفاً للدلالة ، أي : لما سمعوا الذِّكر كادوا يزلقونك ، ومن جوز تقديم الجواب ، قال : هو هنا متقدم .
والمراد بالذكر القرآن ، ثم قال : { وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } وهو على ما افتتح به السُّورة ، ثم قال : « ومَا هُوَ » يعني : القرآن .
{
إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِين } أي : الذين يزعمون أنه دلالة جنونه إلا ذكر للعالمين تذكير لهم ، وبيان لهم على ما في عقولهم من أدلة التوحيد .
وقال الحسنُ : دَوَاء إصابةِ العيْنِ أنْ يَقْرَأ الإنسانُ هذه الآية .
وقيل : وما محمدٌ إلا ذكر للعالمين يتذكرون به .
وقيل : معناه شرف ، أي : القرآن ، كقوله : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] والنبي صلى الله عليه وسلم شرف للعالمين أيضاً شرفوا باتباعه والإيمان به .
عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرأ سُورَةَ القلمِ أعْطَاهُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - ثوابَ الذينَ حسَّنَ اللَّهُ أخلاقهم » .
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
قوله تعالى : { الحاقة مَا الحآقة } .
«
الحاقة » مبتدأ ، و « ما » مبتدأ ثانٍ ، و « الحاقة » خبره ، والجملة خبر الأول؛ لأن معناها « ما هي » واللفظُ استفهام ، ومعناها التفخيم والتعظيم لشأنها .
قال ابن الخطيب : وُضِعَ الظاهرُ موضع المضمرِ؛ لأنه أهولُ لها ، ومثله { القارعة مَا القارعة } [ القارعة : 1 ، 2 ] وقد تقدَّم تحريرُ هذا في « الواقعةِ » .
و « الحاقَّة » فيها وجهان :
أحدهما : انه وصف اسم فاعل بمعنى أنها تبدي حقائق الأشياء .
وقيل : إن الأمر يحق فيها فهي من باب « ليل نائم ، ونهار صائم » قاله الطبري .
وقيل : سميت حاقة؛ لأنها تكون من غير شكٍّ لأنها حقَّت فلا كاذبة لها .
وقيل : سميت القيامة بذلك؛ لأنها أحقت لأقوامٍ الجنَّة ، وأحقَّت لأقوامٍ النَّار .
وقيل : من حق الشيء : ثبت فهي ثابتة كائنة .
وقيل : لأنها تحق كل محاق في دين الله أي : تغلبه ، من حاققته ، فحققته أحقه أي : غلبته .
وفي « الصحاح » : وحاقه ، أي : خاصمه ، وادعى كل واحد منهما الحقَّ ، فإذا غلبه قيل : حقه ، ويقال : ما له فيه حقٌّ ، ولا حقاق أي : خصومة ، والتحاق : والتخاصم ، والاحتقاق : الاختصام ، والحاقَّةُ والحقُّ والحقةُ ثلاثُ لغاتٍ بمعنًى .
وقال الكسائيُّ والمؤرج : الحاقَّةُ : يوم الحقِّ .
والثاني : أنه مصدر ك « العاقبة » و « العافية » .
قوله « ما الحَاقَّةُ » في موضع نصب على إسقاط الخافض ، لأن « أدرى » بالهمزة يتعدى لاثنين ، للأول : بنفسه ، والثني : ب « الباء » ، قال تعالى : { وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ } [ يونس : 16 ] ، فلما وقعت جملة الاستفهام معلقة لها كانت في موضع المفعولِ الثاني ، ودون الهمزة تتعدى لواحدٍ ب « الباء » نحو : « دريت بكذا » أو يكون بمعنى « علم » فيتعدّى لاثنين .
فصل في معنى « ما أدراك » .
معنى « ما أدراك » ، أي شيء أعلمك ما ذاك اليوم ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان عالماً بالقيامة ، ولكن لا علم له بكونها وصفتها ، فقيل ذلك تفخيماً لشأنها ، كأنك لست تعلمُها ، ولم تعاينها .
وقال يحيى بن سلام : بلغني أنَّ كل شيء في القرآن « ومَا أدْراكَ » فقد أدراه وعلمه ، وكل شيء قال : « ومَا يُدْريكَ » فهو مما لم يعلمهُ .
وقال سفيان بن عيينة : كل شيء قال فيه : « وما أدْراكَ » فإنه أخبر به ، وكل شيء قال فيه : « وما يُدريْكَ » ، فإنه لم يخبر به .
قوله : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة } .
«
القارعةُ » القيامة ، سميت بذلك [ لأنها ] تقرعُ قلوب العبادِ بالمخافةِ .
وقيل : لأنها تقرع الناس بأهوالها يقال : أصابتهم قوارعُ الدهرِ ، أي : أهواله وشدائده وقوارضُ لسانه؛ جمع قارضة ، وهي الكلمة المؤذيةُ ، وقوارعُ القرآن : الآيات التي يقرؤها الإنسانُ إذا قُرعَ من الجن والإنس نحو آية « الكرسي » كأنَّه يقرع الشيطان .
وقال المبرِّد : القارعة مأخوذةٌ من القرعة من رفع قومٍ وحطِّ آخرين .
وقوارعُ القيامة : انشقاقُ السماءِ ، وانفطارها ، والأرض والجبال بالدكِّ والنسف ، والنجوم بالطَّمس والانكدار .
وإنما قال : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة } ، ولم يقل : بها ليدل على أنَّ معنى القرع حاصل في الحاقَّةِ ، فيكون ذلك زيادة على وصف شدتها ، ولما ذكرها وفخمها أتبع ذلك بذكر من كذب بها ، وما حل بهم بسبب التكذيبِ تذكيراً لأهل « مكةَ » وتخويفاً لهم من عاقبةِ تكذيبهم .
وقيل : عنى بالقارعةِ : العذاب الذي نزل بهم في الدنيا ، وكان نبيُّهم يخوفهم بذلك ، فيكذبونه وثمودُ قوم صالح ، وكانت منازلهم ب « الحجر » فيما بين « الشام » و « الحجاز » .
قال ابن إسحاق : هو وادي « القرى » ، وكانوا عرباً ، وأما عادٌ فقوم هود ، وكانت منازلهم ب « الأحقاف » ، و « الأحقاف » : الرمل بين « عمان » إلى « حَضْرمَوْتَ » و « اليمن » كله ، وكانوا عرباً ذوي بسطةٍ في الخلق وقد تقدم ذلك في « الأحقاف » .
قوله : { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية } . هذه قراءةُ العامةِ .
وقرأ زيدُ بن عليٍّ : « فَهَلكُوا » مبنياً للفاعل .
وقوله : « بالطاغية » فيه إضمار أي : بالفعلة الطَّاغية .
وقال قتادةُ : بالصَّيحةِ الطاغية المتجاوزةِ للحدِّ ، أي : لحد الصيحاتِ من الهولِ ، كما قال : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر } [ القمر : 31 ] .
و « الطغيانُ » : مجاوزة الحدِّ ، ومنه { إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ } [ الحاقة : 11 ] ، أي : جاوز الحدَّ .
وقال ابن زيدٍ : بالرجل الطَّاغية ، وهو عاقرُ الناقةِ ، و « الهاء » فيه للمبالغة على هذه الأوجه صفة .
والمعنى : أهلكوا بما أقدم عليه طاغيهم من عقر الناقة وكان واحداً ، وإنما هلك الجميعُ؛ لأنهم رضوا بفعله ، ومالئوه .
وقيل له : طاغية كما يقال : فلان راويةٌ وداهيةٌ وعلامةٌ ونسابةٌ .
ويحتمل أن يقال : بسبب الفِرقةِ الطاغيةِ ، وهم : التسعة رهطٍ ، الذين كانوا يفسدون في الأرض ، ولا يصلحون ، وأحدهم عاقرُ الناقة .
وقال الكلبيُّ : « بالطَّاغيةِ » : بالصَّاعقةِ .
وقال مجاهدٌ : بالذُّنوبِ .
وقال الحسنُ : بالطُّغيانِ فهي مصدرٌ ك « العاقبة » و « الكاذبة » ، أي : أهلكُوا بطغيانهم وكفرهم ، وبوضحه : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ } [ الشمس : 11 ] .
قال ابن الخطيب : وهذا منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ ، قال : وقد طعنوا فيه بوجهين :
الأول : قال الزجاجُ : إنه لما ذكر في الجملة الثانية نوع الشيءِ الذي وقع به العذابُ ، وهو قوله تعالى : { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } وجب أن يكون الحال في الجملة الأولى كذلك حتى تحصل المناسبةُ .
والثاني : قال القاضي : لو كان المرادُ ما قالوه لكان من حق الكلام أن يقال : أهْلِكُوا لها ولأجلِها .
ف « الباء » للسببية على الأقوال إلاَّ على قولِ قتادة ، فإنها فيه للاستعانة ك « عملتُ بالقدوم » .
قوله : { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } . أي : باردة تحرق ببردها كإحراق النار مأخوذٌ من الصَّرصر وهو البردُ . قاله الضحاك .
وقيل : إنَّها لشديدةُ الصوتِ .
وقال مجاهد : إنَّها لشديدة السُّمومِ ، و « عَاتِية » عتت على خُزَّانها فلم تطعهم ، ولم يطيقوها من شدة هبوبها غضبت لغضبِ اللَّهِ .
وقال عطاء عن ابن عباسٍ : عتت على عادٍ فقهرتهم ، فلم يقدروا على ردِّها بحيلة من استناد إلى جبل ، بل كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكهم .
وروى سفيانُ الثوريُّ عن موسى بن المسيِّب عن شهر بن حوشب عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا أرسَلَ اللَّهُ من نسمةٍ من ريْحٍ بمِكْيالٍ ولا قطرة من مَاءٍ إلاَّ بمكيَالٍ إلا يَوْمَ عادٍ ويَوْمَ قوْم نُوحٍ فإنَّ المَاءَ يوْمَ قوْمِ نُوحٍ طَغَى على الخزان فلمْ يكُنْ لهُمْ عليهِ سبيلٌ » ، [ { إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية } الآية والرِّياح لمّا كَانَ يَوْمُ عادٍ غشَتْ على الخزائنِ ولمْ يكُنْ لهُمْ عليْهَا سبيلٌ ] ، ثم قرأ : { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } .
وقيل : إنَّ هذا ليس من العتو الذي هو عصيانٌ ، إنَّما هو بلوغُ الشيء وانتهاؤه ، ومنه قولهم : عتا النَّبْتُ ، أي : بلغ منتهاه وجفَّ ، قال تعالى : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } [ مريم : 8 ] ، أي : بالغة منتهاها في القوّة والشدّة .
قوله : { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ } ، أي : أرسلها وسلَّطها عليهم ، والتسخيرُ استعمال الشيء بالاقتدار .
وقال الزجاج : أقامها عليهم .
والجملة من قوله : « سخَّرها » يجوز أن تكون صفة ل « رِيْح » ، وأن تكون حالاً منها لتخصيصها بالصفة ، أو من الضمير في « عاتية » ، وأن تكون مستأنفةً .
قال ابنُ الخطيب : وعندي أنَّ فيه لطيفة ، وذلك أن في الناس من قال : إن تلك الرياحَ إنما اشتدت؛ لاتصال فلكي نجومي اقتضى ذلك ، فقوله : « سخَّرهَا » فيه إشارة إلى نفي ذلك المذهب ، وأن ذلك إنَّما حصل بتقدير الله وقدرته ، فإنه لولا هذه الدقيقةُ لمَا حصل منه التخويفُ ، والتحذيرُ عن العقابِ .
وقوله : { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ } الفائدة فيه أنه - تعالى - لو لم يذكر ذلك لما كان مقدارُ زمان ذلك العذاب معلوماً ، فلما قال : { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } احتمل أن يكون متفرقاً في هذه المدةِ ، فأزال هذا الظنَّ بقوله : « حُسُوماً » أي : مُتتابِعَةٌ مُتواليةٌ .
فصل في تعيين الأيام المذكورة في الآية
قال وهبٌ : هي الأيامُ التي تسميها العرب أيام العجوزِ ، ذاتُ بردٍ ورياحٍ شديدةٍ .
وقيل : سمِّيت عجوزاً لأنها في عجزِ الشتاءِ .
وقيل : لأن عجوزاً من قوم عاد دخلت سرباً ، فتبعتها الريح فقتلتها في اليومِ الثامنِ من نزول العذاب ، وانقطع العذابُ .
قوله : « حُسُوْماً » . فيه أوجهٌ :
أحدها : أن ينتصب نعتاً لما قبلها .
الثاني : أن ينتصب على الحالِ ، أي : ذات حُسُوم .
وقرأ السدِّي : « حَسُوماً » - بالفتح - حالاً من الريح ، أي : سخرها عليهم مستأصلة .
الثالث : أن ينتصب على المصدر بفعل من لفظها ، أي : تحسمهم حُسوماً .
الرابع : أن يكون مفعولاً له .
ويتضح ذلك بقول الزمخشريِّ : « الحُسُوْم » : لا يخلو من أن يكون جمع « حاسم » ك « شاهد » و « شهود » ، أو مصدراً « كالشَّكور » ، « والكفُور » ، فإن كانت جمعاً ، فمعنى قوله : « حُسُوْماً » أي : نحساتٌ حسمتْ كلَّ خيرٍ ، واستأصلت كُلَّ بركةٍ ، أو متتابعة هبوب الريح ما خفضت ساعة تمثيلاً لتتابعها بتتابُعِ فعل الحاسمِ في إعادة الكيِّ على الدَّاء كرَّة بعد اخرى حتى ينحسمَ .
وإن كان مصدراً فإما أن ينتصب بفعله مضمراً ، أي : تحسمهم حُسوماً بمعنى استأصل استئصالاً ، أو تكون صفة كقولك : ذات حسومٍ ، أو يكون مفعولاً له ، أي : سخرها عليهم للاستئصال .
قال عبد العزيز بن زرارة الكلابي الشاعر : [ الوافر ]
4839 -
فَفرَّقَ بَيْنَ بيْنِهمُ زمانٌ ... تَتَابعَ فيهِ أعْوَامٌ حُسُومُ
انتهى . وقال المبرِّدُ : الحُسومُ : الفصلُ ، حسمتُ الشَّيء من الشيء فصلتهُ منه .
ومنه الحسام .
قال الشاعر : [ المتقارب ]
4840 -
فأرْسلْتُ رِيحاً دَبُوراً عَقِيماً ... فَدارَتْ عَليْهِمْ فكَانَتْ حُسُومَا
وقال الليثُ : هي الشُّؤمُ ، يقال : هذه ليالي الحسوم ، أي : تحسم الخير عن أهلها : لقوله تعالى : { في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } [ فصلت : 16 ] ، وهذان القولان يرجعان إلى القول الأول؛ لأن الفصل قطعٌ وكذلك الشُّؤم لأنه يقطع الخير .
قال ابنُ زيدٍ : حَسَمتْهُمْ فلم تُبْقِ منهم أحداً ، وعنه أيضاً : أنها حسمت الليالي والأيام حتى استوفتها؛ لأنها بدأ طلوع الشمس أول يوم ، وانقطعت غروب الشمس من آخر يوم .
واختلف في أولها : فقال السدِّي : غداة يوم الأحدِ .
وقال الربيع بن أنس : غداة يوم الجمعة وقال يحيى بن سلام : غداة يوم الأربعاء ، وهو يوم النحس المستمر .
قيل : كان آخر أربعاء في السَّنة ، وآخرها يوم الأربعاء ، وهي في « آذار » من أشهر السريانيين ، ولها أسماء مشهورة ، قال فيها ابن أحمر : [ الكامل ]
4841 -
كُسِعَ الشِّتاءُ بِسَبْعَةٍ غُبْرِ ... أيَّامِ شَهْلتِنَا مع الشَّهْرِ
فإذَا انْقَضَتْ أيَّامُهَا ومضَتْ ... صِنٌّ وصِنَّبرٌ مَعَ الوَبْرِ
وبآمِرٍ وأخِيهٍ مُؤتَمِرٍ ... ومُعَلِّلٍ وبِمُطفِىء الجَمْرِ
ذهَبَ الشِّتاءُ مُولِّياً عَجِلاً ... وأتَتْكَ واقِدَةٌ من النَّجْرِ
وقال آخر : [ الكامل ]
4842 ... -
كُسِيَ الشِّتاءُ بِسبْعَةٍ غُبْرِ
بالصِّنِّ والصِّنَّبْرٍ والوبْرِ ... وبآمرٍ وأخِيهِ مُؤتَمِرٍ
ومُجَلِّلٍ وبِمُطْفِىء الجَمْرِ ... قوله : { فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى } أي : في تلك الليالي والأيَّام « صرعى » جمع صريع ، وهي حال نحو : « قتيل وقتلى ، وجريح وجرحى » .
والضمير في « فيها » للأيام والليالي كما تقدم ، أو للبيوت أو للريح ، والأول أظهرُ لقُربهِ؛ ولأنه مذكور .
قوله : { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ } . أي : أصول نخلٍ ، و « كأنهم أعجازُ » حال من القوم ، أو مستأنفة .
وقرأ أبو نهيك : « أعْجُز » على وزن « أفْعُل » نحو : « ضَبْع وأضْبُع » .
وقرىء : « نخيل » حكاه الأخفشُ .
وقد تقدَّم أن اسم الجنس يذكَّر ويؤنَّثُ ، واختير هنا تأنيثُه للفواصلِ ، كما اختير تذكيره لها في سورة « القمر » .
وقال أبو الطُّفيل : أصول نخل خاوية ، أي : بالية .
وقيل : خاليةُ الأجوافِ لا شيء فيها .
قال القرطبيُّ : وقد قال تعالى في سورة « القمر » : { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] فيحتمل أنَّهم شُبِّهُوا بالنخل التي صُرعت من أصلها وهو أخبار عن عظم أجسامهم ، ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع ، أي : أنَّ الريح قطعتهم حتى صاروا كأصول النخل خاوية ، أي : أن الرِّيح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخل الخاوية الجوف .
وقال ابن شجرة : كانت الريحُ تدخل في أفواههم فتخرجُ ما في أجوافهم من الحشوِ من أدبارهم ، فصاروا كالنخل الخاوية .
وقال يحيى بن سلام : إنما قال : الخاوية ، لأن أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية .
قوله : { فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ } .
أدغم اللام في التاء أبو عمرو وحده ، وتقدم في « الملك » .
و « مِنْ بَاقِيَة » مفعوله ، و « مِنْ » مزيدة ، والهاء في « بَاقِية » قيل : للمبالغة ، فيكون المراد ب « الباقية » : البقاءُ ، ك « الطاغية » بمعنى الطُّغيان ، أي : من باقٍ .
والأحسنُ أن يكون صفةً لفرقةٍ ، أو طائفةٍ ، أو نفس ، أو بقية ونحو ذلك .
وقيل : فاعلة بمعنى المصدر ك « العافية » و « العاقبة » .
قال المفسرون : والمعنى هل ترى لهم أحداً باقياً .
قال ابن جريجٍ : كانوا سبعَ ليالٍ وثمانية أيَّام أحياء في عذابِ الله من الريح ، فلما أمسوا في اليوم الثامنِ ماتوا فاحتملتهم الريحُ ، فألقتهم في البحر ، فذلك قوله : { فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ } وقوله : { فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } [ الأحقاف : 25 ] .
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)
قوله : { وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ } .
قرأ أبو عمرو والكسائيُّ : بكسر القاف ، وفتح الباء ، أي : ومن هو في جهته ، ويؤيده قراءةُ أبي موسى : « ومن تلقاه » .
وقرأ أبيٌّ وعبد الله : « ومنْ مَعَه » .
والباقون : بالفتحِ والسكونِ على أنه ظرف ، أي : ومن تقدمه .
والقراءة الأولى اختارها أبو عبيدة ، وأبو حاتم اعتباراً بقراءة أبيّ ، وعبد الله .
قوله : { والمؤتفكات بِالْخَاطِئَةِ } .
«
المؤتفكات » : أهل قرى لوط .
وقراءة العامة : بالألف .
وقرأ الحسن والجحدريُّ : « والمُؤتَفكةُ » على التوحيد .
قال قتادةُ : إنما سُمِّيتْ قرى لوط « مُؤتفِكَات » لأنَّها ائتفكت بهم ، أي : انقلبت .
وذكر الطبري عن محمد بن كعب القرظيِّ قال : خمس قريات : « صبعة ، وصعرة وعمرة ، ودوما ، وسدوم » ، وهي القرية العظمى .
وقوله : « بالخاطئة » . إما أن تكون صفة ، أي : بالفعلة ، أو الفعلات الخاطئة ، وهي المعصية والكفر .
وقال مجاهد : بالخطايا كانوا يفعلونها .
وقال الجرجاني : بالخطأ العظيمِ ، فيكون مصدراً ك « العاقبة » و « الكاذبة » .
قوله : { فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ } إن عاد الضمير إلى فرعون ، ومن قبله ، فرسول ربِّهم موسى - عليه الصلاة والسلام - .
وإن كان عائداً إلى أهلِ المؤتفكاتِ ، فرسولُ ربِّهم لوط عليه الصلاة والسلام .
قال الواحديُّ : والوجه أن يقال : المراد بالرسول كلاهما للخبر عن الأمتين بعد ذكرهما بقوله : « فَعَصَوْا » فيكون كقوله : { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 16 ]
قال القرطبي : وقيل : « رسول » بمعنى رسالة ، وقد يعبر عن الرسالة بالرسول ، كقوله : [ الطويل ]
4843 -
لَقَدْ كَذَبَ الواشُونَ ما بُحْتُ عِندهُمْ ... بِسِرِّ ولا أرْسلتُهُمْ بِرسُولِ
قوله : { فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً } ، أي : عالية زائدة على الأخذات ، وعلى عذاب الأمم ، يقال : ربا الشيء يربوا إذا زاد ، ومنه الرِّبا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطي .
والمعنى : أنها كانت زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار ، كما أن أفعالهم كانت زائدة في القُبحِ على أفعال سائرِ الكفار .
وقيل : إن عقوبة آل فرعون في الدنيا متعلقة بعذاب الآخرة ، لقوله : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [ نوح : 25 ] وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدُّنيا ، فتلك العقوبة كأنها كانت تنمو وتربو . ثم ذكر قصة قومِ نوح ، وهي قوله :
{
إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية } ، أي : ارتفع وعلا .
وقال عليٌّ رضي الله عنه : طَغَى على خُزَّانه من الملائكة غضباً لربِّه ، فلم يقدروا على حبسه .
قال المفسرون : زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعاً .
وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنه : طغى الماءُ زمن نوحٍ على خزانه ، فكثر عليهم فلم يدروا كم خرج ، وليس من الماء قطرة تنزل قبله ، ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم ، وقد تقدم مرفوعاً أوَّل السورةِ ، والمقصود من ذكر قصص هذه الأممِ ، وذكر ما حل بهم من العذاب ، زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسولِ ، ثم منَّ عليهم بأن جعلهم ذرية من نجا من الغرق بقوله : « حَمَلْناكُم » أي : حملنا آباءكم ، وأنتم في أصلابهم ، « فِي الجَاريَةِ » أي : في السفن الجاريةِ ، والمحمولُ في الجارية إنَّما هو نوحٌ وأولاده ، وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك .
والجارية من أسماء السفينة ، ومنه قوله تعالى : { وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام } [ الرحمن : 24 ] ، وغلب استعمالُ الجاريةِ في السفينة؛ كقوله في بعض الألغاز : [ البسيط ]
4844 -
رَأيْتُ جَاريَةٌ في بَطْنِ جَارِيَةٍ ... فِي بَطْنِهَا رجُلٌ في بطْنهِ جَمَلُ
قوله : { لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً } ، أي : سفينة نوح - عليه الصلاة والسلام - جعلها الله تذكرة وعظةً لهذه الأمةِ حتى أدركها أوائلهم . في قول قتادة .
قال ابن جريجِ : كانت ألواحُهَا على الجوديِّ ، والمعنى : أبقيتُ لكم الخشباتِ حتى تذكروا ما حلَّ بقوم نوحٍ ، وأنجى الله أباكم ، وكم من سفينةٍ هلكت وصارت تراباً ، ولم يبق منها شيءٌ ، وهذا قولُ الفرَّاءِ .
قال ابنُ الخطيبِ : وهذا ضعيفٌ ، بل الصوابُ ما قاله الزجاج : أن الضمير في قوله : « لنجعلها » يعود إلى « الواقِعَة » التي هي معلومةٌ ، وإن كانت هنا غير مذكورةٍ ، والتقدير : لنجعل نجاةَ المؤمنين وإغراق الكافرين عظةً ، وعبرةً ، ويدل على صحته قوله : { وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } فالضمير في قوله : « وتَعِيهَا » لا يمكن عوده إلى السفينة ، فكذا الضمير الأول .
قوله : « وتَعِيهَا » العامة : على كسر العين وتخفيف التاء ، وهو مضارع « وَعَى » منصوب عطفاً على « لنجْعَلهَا » .
وابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون عنه وقنبل ، قال القرطبي : وحميد والأعرج بإسكانها تشبيهاً له ب « رحم ، وشهد » وإن لم يكن منه ، ولكن صار في اللفظ بمنزلة الفعل الحلقي العين .
قال ابن الخطيب : وروى عن ابن كثيرٍ إسكان العين ، جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلةٍ واحدةٍ ، فحذف وأسكن كما أسكن الحرف المتوسط من « فَخْذ وكَبْد وكَتْف » ، وإنما فعل ذلك؛ لأن حرف المضارعة لا ينفصل من الفعل ، فأشبه ما هو من نفس الكلمة ، وصار كقول من قال : وَهْو وَهْي ، ومثل ذلك { وَيَتَّقْهِ } [ النور : 52 ] في قراءة من سكَّن القاف .
وروي عن حمزة : إخفاء الكسرة .
وروي عن عاصم وحمزة : بتشديد « الياء » .
وهو غلط عليهما ، وإنما سمعهما الراوي يثبتان حركة الياء ، فظنَّها شدة .
وقيل : أجريا الوصل مجرى الوقف فضعِّف الحرفُ ، وهذا لا ينبغي أن يلتفت إليه .
وروي عن حمزة أيضاً ، وموسى بن عبد الله العبسي : « وتعِيهَا » بسكون « الياء » .
وفيه وجهان : الاستئناف ، والعطف على المنصوب ، وإنما سكنا « الياء » استثقالاً للحركة على حرف العلة ، كقراءة :
{
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [ المائدة : 89 ] .
فصل في « وعى »
قال الزَّجَّاجُ : يقال : وعيتُ كذا ، أي : حفظتُه في نفسي ، أعيه وعْياً ووعيتُ العلمَ ، ووعيتُ ما قلته كله بمعنى ، وأوعيت المتاع في الوعاء .
قال الزجاجُ : يقال لكل ما حفظته في غير نفسك : أوعيتُه - بالألف - ولما حفظته في نفسك : وعيته ، بغير ألف .
قال ابن الخطيب : واعلم أن وجه التذكير في هذا أن نجاة قومٍ من الغرقِ في السَّفينة ، وتغريق من سواهم يدل على قدرة مدبر العالم ، ونفاذ مشيئته ، ونهاية حكمته ، ورحمته ، وشدة قهره .
«
روي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية : » سَألْتُ اللَّه أنْ يَجْعلهَا أذنَكَ يا عليُّ « ، قال علي رضي الله عنه : » فما نَسِيتُ شيئاً بعد ذلك « » .
فإن قيل : لِمَ قال : « أذُنٌ واعِيَةٌ » على التوحيد والتنكير؟ .
فالجوابُ : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلةٌ ، ولتوبيخ الناس بقلة من يَعِي منهم ، والدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعيت وعقلتْ عن الله ، فهي السَّواد الأعظم عند الله ، وأن سواها لا يلتفت إليهم ، وإن امتلأ العالمُ منهم .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } [ ق : 37 ] .
قال قتادة : الأذُنُ الواعيةُ أذنٌ عقلتْ عن الله تعالى ، وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عز وجل .
قوله : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } .
لما حكى هذه القصص الثلاثة ونبَّه بها على ثبوت القدرة والحكمة للصانع ، فحينئذ ثبت بثبوت القدرة إمكان القيامة ، ويثبت القدرة إمكان وقوع الحشر ، ولما ثبت ذلك شرع سبحانه في تفاصيل أحوال القيامة ، فذكر أولاً مقدماتها ، فقال : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } .
قوله : « واحدةٌ » تأكيد ، و « نَفْخَةٌ » مصدر قام مقام الفاعل .
وقال ابنُ عطية : « لما نُعِتَ صحَّ رفعهُ » انتهى .
ولو لم يُنعتْ لصحَّ رفعه؛ لأنه مصدر مختص لدلالته على الوحدة ، والممنوع عند البصريين إنما هو إقامة المبهمِ ، نحو : « ضَرَبَ » .
والعامةُ على الرفع فيهما .
وقرأ أبو السّمال : بنصبهما ، كأنه أقام الجارَّ مقام الفاعلِ ، فترك المصدر على أصله ، ولم يؤنث الفعل وهو : « نُفِخَ »؛ لأن التأنيث مجازي وحسَّنه الفصل انتهى .
فصل في النفخة الأولى
قال ابن عباس : هي النفخة الأولى لقيام الساعة ، فلا يبقى أحد إلا مات .
قال ابن الخطيب : لأن عندها يحصل خرابُ العالمِ .
فإن قيل : لم قال بعد ذلك { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } والعرض إنما يكون عند النفخة الثانية؟ .
قلت : جعل اليوم اسماً للحين الواسع الذي تقع فيه النَّفختان ، والصَّعقة والنشور ، والوقوف ، والحساب ، فكذلك { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } كقوله : « جئتُه عام كذا » وإنَّما كان مجيئُك في وقتٍ واحدٍ من أوقاته .
وقيل : إنَّ هذه النَّفخة هي الأخيرةُ .
وقال : { نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } ، أي : لا تثنَّى .
قال الأخفشُ : ووقع الفعلُ على النَّفخة ، إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع ، فقيل : نفخة .
قوله : { وَحُمِلَتِ الأرض } ، قرأ العامة : بتخفيف « الميم » .
أي : وحملتها الريحُ ، أو الملائكةُ ، أو القدرةُ ، أي : رفعتْ من أماكنها ، « فَدُكَّتا » ، أي : فُتَّتَا وكسِّرتا ، { دَكَّةً وَاحِدةً } أي : الأرض والجبالُ؛ لأن المراد الشيئان المتقدمان ، كقوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] .
ولا يجوزُ في « دكَّةً » إلا النصبُ؛ لارتفاع الضمير في « دُكَّتَا » .
وقال الفرَّاءُ : لم يقلْ : « فَدُكِكْنَ »؛ لأنه جعل الجبال كلها كالجملةِ الواحدة [ والأرض كالجملة الواحدة ] ومثله : { أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً } [ الأنبياء : 30 ] ، ولم يقل : « كُنَّ » .
وهذا الدَّكُّ ، كالزلزلةِ لقوله تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا } [ الزلزلة : 1 ] .
وإما بريح بلغت من قوة عصفها أنَّها تحمل الأرض والجبال ، أو بملك من الملائكة ، أو بقدرة الله ، « فَدُكَّتَا » ، أي : جملة الأرض ، وجملة الجبال تضرب بعضها في بعض حتى تندق وتصير { كَثِيباً مَّهِيلاً } [ المزمل : 14 ] ، و { هَبَآءً مُّنبَثّاً } [ الواقعة : 6 ] .
والدَّكُّ أبلغُ من الدَّق وقيل : « دُكَّتا » أي : بُسطتا بسطةً واحدةً ، ومنه اندكَّ سنامُ البعير ، إذا انفرش في ظهره .
وقرأ ابن عامرٍ في رواية ، والأعمش ، وابن أبي عبلة وابن مقسم : « وحُمِّلت » - بتشديد الميم - .
فجاز أن يكون التشديد للتكثير ، فلم يكسب الفعل مفعولاً آخر .
وجاز أن يكون للتعدية فيكسبه مفعولاً آخر ، فيحتمل أن يكون الثاني محذوفاً ، والأول هو القائمُ مقام الفاعلِ تقديره : وحُمِّلت الأرض والجبال ريحاً تفتتها ، لقوله : { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] .
وقيل : التقدير : حملنا ملائكة ، ويحتمل أن يكون الأول هو المحذوف ، والثاني هو القائم مقام الفاعل .
قوله : « فيَومئذٍ » منصوب ب « وقعت » ، و « وقَعَتِ الواقِعَةُ » لا بُدَّ فيه من تأويلٍ ، وهو أن تكون « الوَاقعةُ » صارت علماً بالغلبةِ على القيامة ، أو الواقعة العظيمة ، وإلاَّ فقام القائمُ لا يجوز ، إذ لا فائدة فيه ، وتقدم هذا في قوله : { إِذَا وَقَعَتِ الواقعة } [ الواقعة : 1 ]
والتنوين في « يومئذٍ » للعوضِ من الجملة ، تقديره : يومئذٍ نُفِخَ في الصُّوْرِ .
فصل في معنى الآية
المعنى قامت القيامة الكبرى { وانشقت السمآء } أي : انصدعت وتفطرت .
وقيل : انشقت لنزول الملائكة بدليل قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] { فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } ، أي : ضعيفة مسترخيةٌ ساقطةٌ { كالعهن المنفوش } [ القارعة : 5 ] بعد ما كانت محكمةً .
يقال : وهى البناء يَهِي وهْياً ، فهو واهٍ إذا ضعف جدّاً .
ويقال : كلامٌ واهٍ أي : ضعيف .
فقيل : إنَّها تصير بعد صلابتها بمنزلة الصوف في الوهْي ، ويكون ذلك لنزولِ الملائكةِ .
وقيل : لهولِ يوم القيامةِ .
وقال ابن شجرة : « واهية » أي : متخرقة ، مأخوذ من قولهم : وهى السِّقاءُ ، إذا انخرق .
ومن أمثالهم : [ الرجز ]
4845 -
خَلِّ سَبيلَ مَنْ وهَى سِقاؤهُ ... ومَنْ هُرِيقَ بالفَلاةِ مَاؤهُ
أي : من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه .
{
والملك على أَرْجَآئِهَآ } . لم يردْ به ملكاً واحداً ، بل المراد الجنس والجمع . « على أرجائها » « الأرجاء » في اللغة : النواحي والأقطار بلغة « هُذَيْل » ، واحدها : « رجا » مقصور وتثنيته « رجوان » ، مثل « عصا ، وعصوان » ، قال الشاعر : [ الوافر ]
4846 -
فَلاَ يُرْمَى بِيَ الرَّجوانِ أنَّي ... أقَلُّ القَوْمِ مَنْ يُغْنِي مَكانِي
وقال آخر : [ الطويل ]
4847 -
كَأنْ لَمْ تَرَي قَبْلِي أسِيراً مُقَيَّداً ... ولا رَجُلاً يُرْمَى بِهِ الرَّجوانِ
و « رجاء » هذا يكتب بالألف عكس « رَجَا »؛ لأنه من ذوات الواو ، ويقال : « رجا » ، ورجوانِ ، والجمع : « الأرجاء » ، ويقال ذلك لحرفي البئر وحرف القبر وما أشبهه .
فصل في تفسير الآية
قاب ابن عباس : على أطرافها حين تنشق .
قال الماورديُّ : ولعله قول مجاهد وقتادة ، وحكاه الثعلبي عن الضحاك ، قال : على أطرافها مما لم تنشقّ منها .
وقال سعيد بن جبيرٍ : المعنى والملك على حافات الدنيا ، أي : ينزلون إلى الأرض ، ويحرسون أطرافها .
وقال : إذا صارت السماءُ قطعاً ، تقف الملائكةُ على تلك القطعِ التي ليست مُتشققة في أنفسها .
فإن قيل : الملائكةُ يمُوتُونَ في الصَّعقةِ الأولى ، لقوله تعالى : { فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض } [ الزمر : 68 ] فكيف يقال : إنهم يقفون على أرجاء السماء؟ .
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أنهم يقفون لحظة على أرجاء السماء ، ثم يموتون .
والثاني : المراد الذين استثناهم في قوله : { إِلاَّ مَن شَآءَ الله } [ الزمر : 68 ] [ النمل : 87 ] .
فإن قيل : إنَّ الناس إذا رأوا جهنَّم هالتهم ، فندُّوا كما تندُّ الإبلُ ، فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلاَّ رأوا ملائكة ، فيرجعون من حيثُ جاءوا .
وقيل : { على أَرْجَآئِهَآ } ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النَّارِ من السَّوق إليها ، وفي أهل الجنة من التحية والكرامة ، وهذا كلُّه راجعٌ إلى قول ابن جبير ، ويدلُّ عليه قوله تعالى : { وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] .
قوله : { على أَرْجَآئِهَآ } ، خبر المبتدأ ، والضمير للسماء ، وقيل : للأرضِ ، على ما تقدم .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : ما الفرق بين قوله : « والمَلَكُ » وبين أن يقال : « والمَلائِكَةُ »؟
قلت : الملكُ أعمُّ من الملائكةِ ، ألا ترى إلى قولك : « ما من ملك إلاَّ وهو ساجدٌ » أعم من قولك : « ما مِنْ ملائكةٍ » انتهى .
قال أبو حيَّان : ولا يظهر أنَّ الملك أعمُّ من الملائكةِ ، لأن المفرد المحلَّى بالألف واللام ، قُصاراه أن يكون مراداً به الجمع المحلَّى ، ولذلك صح الاستثناءُ منه ، فقصاراه أن يكون كالجمع المُحَلَّى بهما ، وأما دعواه أنه أعم منه ، بقوله : « ألا ترى » إلى آخره ، فليس دليلاً على دعواه؛ لأن « مِنْ ملكٍ » نكرةٌ مفردة في سياق النفي قد دخلت عليها « مِن » المخلصة للاستغراق ، فشملت كل ملكٍ فاندرج تحتها الجمعُ لوجود الفرد فيه ، فانتفى كل فردٍ فرد ، بخلاف « مِنْ ملائِكةِ » ، فإن « مِنْ » دخلت على جمع منكَّر ، فعمّ في كل جمع جمع من الملائكةِ ، ولا يلزم من ذلك انتفاء كلِّ فردٍ فردٍ من الملائكة ، لو قلت : « ما في الدار من رجال » جاز أن يكون فيها واحدٌ ، لأن النفي إنما انسحب على جمع ، ولا يلزم من انتفاء الجمع أن ينتفي المفردُ ، والملك في الآية ليس في سياق نفي دخلت عليه « مِنْ » وإنَّما جِيءَ به مفرداً؛ لأنه أخفُّ ، ولأن قوله : { على أَرْجَآئِهَآ } يدلُّ على الجمع؛ لأن الواحد بما هو واحد لا يمكن أن يكون « على أرجائِهَا » في وقتٍ واحدٍ بل أوقات ، والمراد - والله أعلم - أن الملائكة على أرجائها إلاَّ أنه ملك واحد ينتقل على أرجائها في أوقات .
وقال شهاب الدين : إنَّ الزمخشريَّ منزعهُ في هذا ما تقدم عنه في أواخر سورة « البقرة » عند قوله : { وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] فليرجع ثمَّة .
وأما قول أبي حيان : « ما مِنْ رجالٍ » أن النفي منسحبٌ على رُتَب الجمع ، ففيه خلاف ، والتحقيق ما ذكره .
قوله : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } .
الضمير في « فَوقَهُمْ » يجوز أن يعود على « الملائكة » بمعنى كما تقدم ، وأن يعود على الحاملين الثمانية .
وقيل : إنَّ حملة العرشِ فوقَ الملائكةِ الذينَ في السماء على أرجائها .
وقيل : يعود على جميع العالم ، أي : أن الملائكة تحمل عرش الله فوق العالم كلِّه .
فصل في هؤلاء الثمانية
قال ابن عباس : ثمانية صنوفٍ من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله .
وقال ابن زيد : هم ثمانية أملاكٍ .
وعن الحسن : الله أعلمُ كم هم ثمانية ، أم ثمانية آلاف ، أو ثمانية صفوف . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « أَنَّ حَمَلةَ العَرْشِ اليَوْم أربعةُ أوعالٍ ، فإذَا كان يومُ القيامةِ أيدهُم اللَّهُ بأربَعة آخرين ، فكانُوا ثَمانيَةً » خرَّجَهُ الماورديُّ مرفوعاً عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم . ورواه العباسُ بنُ عبد المطّلب عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : « هُمْ ثَمانِيَةُ أملاكٍ على صورةِ الأوعالِ ، لكلِّ ملكٍ منهُم أربعةُ أوجهٍ : وجهُ رجُلٍ ، ووجهُ أسدٍ ، ووجهُ ثورٍ ، ووجهُ نسْرٍ ، وكلُّ وجهٍ مِنْهَا يسألُ اللَّهَ الرِّزقَ لذلك الجِنْسِ » .
فإن قيل : إذا لم يكنْ فيهم صورةُ وعلٍ ، فكيف سُمُّوا أوعالاً؟ .
فالجواب : أنَّ وجْهَ الثَّور إذا كانت له قرون الوعْلِ أشبه الوعْلَ .
وفي الخبرِ : « أنَّ فَوْقَ السَّماءِ السَّابعةِ ثمانيةَ أوْعالٍ بينَ أظلافهِنَّ ورُكبهنَّ مثلُ ما بَيْنَ سماءٍ إلى سماءٍ ، وفوقَ ظُهورهِنَّ العَرْشُ » ذكره القشيريُّ ، وخرَّجهُ الترمذيُّ من حديث العباس بن عبد المُطلبِ .
وفي حديث مرفوع : « أنَّ حَمَلَةَ العرْشِ ثَمَانيَةُ أمْلاكٍ؛ على صُوَرِ الأوعالِ ، ما بين أظْلافهَا إلى رُكَبِهَا مسِيْرةُ سبعِينَ عاماً للطَّائرِ المُسْرعِ » .
ورُوي أنَّ أرجلهنَّ في السَّماءِ السَّابعةِ .
فصل في إضافة العرش إلى الله
إضافة العرش إلى الله - تعالى - كإضافة البيت إليه ، وليس البيتُ للسكنِ ، فكذلك العرشُ ، ومعنى « فوقهم » أي : فوق رءوسهم .
قال ابنُ الخطيب : قالت المشبِّهةُ : لو لم يكن اللَّهُ في العرشِ لكان حملُ العرش عبثاً لا فائدة فيه ، لا سيما قد أكَّد ذلك بقوله : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } ، والعرش إنَّما يكونُ لو كان الإلهُ حاضراً في العرش .
وأجاب : بأنه لا يمكن أن يكون المراد أنَّ الله - تعالى - جالس في العرش؛ لأن كل من كان حاملاً للعرش؛ كان حاملاً لكل ما كان في العرش فلو كان الإلهُ على العرش لزم أن يكون الملائكة حاملين لله تعالى ، وذلك محالٌ؛ لأنه يقتضي احتياج الله إليهم ، وأن يكونوا أعظم قدراً من الله ، وكل ذلك كفرٌ ، فعلمنا أنه لا بد فيه من التأويل ، فنقول : السببُ في هذا الكلام هو أنه - تعالى - خاطبهم بما يتعارفونه ، فخلق لنفسه بيتاً يزورونه ليس أنه يسكنه - تعالى الله عن ذلك - وجعل في ركن البيت حجراً ، هو يمينه في الأرض إذْ كان من شأنهم أن يعظموا رؤساءهم بتقبيل أيمانهم ، وجعل على العبادِ حفظةً لا لأن النسيان يجوزُ عليه سبحانه ، وكذلك أنَّ الملك إذا أراد محاسبة عماله جلس على سريره ، ووقفت الأعوانُ حوله ، فسمى الله يوم القيامة عرشاً ، وحفَّت به الملائكة لا لأنه يقعد عليه ، أو يحتاجُ إليه ، بل كما قلنا في البيت والطَّواف .
قوله : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } هو جواب « إذَا » من قوله : « فَإذَا نُفِخَ » . قاله أبو حيَّان .
وفيه نظرٌ ، بل جوابها ما تقدم من قوله : « وقَعَتِ الواقِعَةُ » و « تُعْرضُونَ » على هذا مستأنفة .
قوله : { لاَ تخفى } .
قرأ الأخوان : بالياء من تحت؛ لأن التأنيث مجازي ، كقوله : { وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة } [ هود : 67 ] .
واختاره أبو عبيد؛ لأنه قد حال بين الفعل والاسم المؤنث الجار والمجرور .
والأخوان : على أصلهما في إمالة الألف .
وقرأ الباقون : « لا تَخْفَى » بالتاء من فوق للتأنيث اللفظي والفتح وهو الأصل ، واختاره أبو حاتم .
فصل في العرض على الله
قال القرطبيُّ : هذا هو العرضُ على الله ، ودليله : { وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً } [ الكهف : 48 ] وليس ذلك عرضاً ليعلم ما لم يكن عالماً ، بل ذلك العرضُ عبارةٌ عن المحاسبة والمساءلة وتقدير الأعمال عليهم للمجازاة .
قال صلى الله عليه وسلم : « يُعْرَضُ النَّاسُ يوم القِيامةِ ثلاثَ عَرضَاتٍ ، فأما عَرْضتانِ فَجِدالٌ ، ومعَاذِيرٌ وأما الثَّالثةُ فعند ذلك تَطِيْرُ الصُّحُفُ في الأيْدِي فآخِذٌ بيَمِينِهِ وآخِذٌ بِشمالهِ » .
وقوله : { لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ } .
قال ابن شجرة : أي : هو عالم بكل شيء من أعمالكم ، ف « خَافِيَة » على هذا بمعنى « خفيَّة » كانوا يخفونها من أعمالهم ، ونظيره قوله تعالى : { لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ } [ غافر : 16 ] .
قال ابن الخطيب : فيكون الغرضُ المبالغة في التهديدِ ، يعني : « تُعرَضُون على من لا يخفى عليه شيء » .
وقيل : لا يخفى عليه إنسان لا يحاسب .
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : لا يَخْفَى المُؤمِنُ من الكافر ، ولا البَرُّ من الفاجرِ .
وقيل : لا يتسر منكم عورة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « يُحْشرُ النَّاسُ حُفاةً عُراةً » .
قوله : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } ، وهذا دليلٌ على النجاة .
قال ابن عباسٍ : أول من يُعْطَى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمرُ بن الخطاب ، وله شعاعٌ كشعاع الشمس ، وقيل له : فأين أبو بكر ، فقال : هيهات ، زفَّته الملائكةُ إلى الجنَّة .
قال القرطبي : وقد ذكرناه مرفوعاً من حديث زيد بن ثابت بلفظه ، ومعناه في كتاب « التذكرة » .
قوله : « هَاؤمَ » ، أي : خذوا { اقرؤا كِتَابيَهْ } يقول ذلك ثقة بالإسلام وسروراً بنجاته؛ لأن اليمين عند العرب من دلائلِ الفرح .
قال الشاعر : [ الوافر ]
4848 -
إذَا مَا رايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... لقَّاهَا عَرابَةُ باليَميْنِ
وقال : [ الطويل ]
4849 -
أبِينِي أفِي يُمْنَى يَدَيْكِ جَعَلْتِنِي ... فأفْرَحُ أمْ صيَّدْتِنِي بِشمَالِكِ
وقال ابن زيدٍ : معنى : « هَاؤمُ » : تعالوا ، فتتعدى ب « إلى » .
وقال مقاتلُ : « هَلُمَّ » .
وقيل : خذوا ، ومنه الحديث في الربا : « إلا هَاء وهَاءَ » ، أي : يقول كل واحد لصاحبه : خُذْ ، وهذا هو المشهورُ .
وقيل : هي كلمةٌ وضعت لأجابة الدَّاعي عند الفرح ، والنَّشاط .
وفي الحديث : « أنَّه نَاداهُ أعرَابِيٌّ بصَوْتٍ عَالٍ ، فأجَابَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم » هَاؤمُ « يطول صوته . » .
وقيل : معناها « اقصدوا » .
وزعم هؤلاء أنها مركبة من هاء التنبيه ، وأموا ، من الأم ، وهو القصدُ ، فصيره التخفيف والاستعمال إلى « هاؤم » .
وقيل : « الميمُ » ضميرُ جماعةِ الذكور .
وزعم القتيبي : أنَّ « الهمزة » بدلٌ من « الكاف » .
فإن عنى أنها تحلُّ محلَّها فصحيح ، وإن عنى البدل الصناعي فليس بصحيح .
فقوله : « هاؤم » يطلب مفعولاً يتعدى إليه بنفسه إن كان بمعنى : « خُذْ » أو « اقْصِد إليّ » إن كان بمعنى : « تَعَالَوْا » ، و « اقرأوا » يطلبه أيضاً ، فقد تنازعا في : « كِتَابِيَه » وأعمل الثاني للحذف من الأول .
وقد تقدم تحقيق هذا في سورة « الكهف » .
وفيها لغاتٌ : وذلك أنها تكون فعلاً صريحاً ، وتكون اسم فعل ، ومعناها في الحالين : « خذ » فإن كانت اسم فعلٍ ، وهي المذكورة في الآية الكريمة ، ففيها لغتان : المدّ والقصر تقول : « هَا درهماً يا زيدُ ، وهاء درهماً » ، ويكونان كذلك في الأحوال كلها من إفراد وتثنيةٍ وجمعٍ وتذكيرٍ وتأنيثٍ ، ويتصل بهما كافُ الخطاب ، اتصالها بإسم الإشارة ، فتطابق مخاطبك بحسب الواقع مطابقتها وهي ضميره ، نحو : « هَاكَ ، هَاكِ ، هاءَكَ » إلى آخره .
وتخلف كافُ الخطابِ همزة « هاءَ » مصرفة تصرف كاف الخطاب ، فتقول : « هَاءَ يا زيدُ ، هاءِ يا هندُ ، هاؤم ، هاؤن » وهي لغةُ القرآن .
وإذا كانت فعلاً صريحاً؛ لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها كان فيها ثلاثة لغاتٍ :
إحداها : أن يكون مثل « عَاطَى يُعَاطِي » ، فيقال : « هاء يا زيدُ ، هائِي يا هندُ ، هائيَا يا زيدان أو يا هنداتُ ، هاءوا يا زيدون ، هائين يا هنداتُ » .
الثانية : أن تكون مثل : « هَبْ » فيقال : « هَأ ، هِىء ، هَاءَا ، هِئُوا ، هِئْنَ » ، مثل : « هَبْ ، هِبِي ، هِبَا ، هِبُوا ، هِبْنَ » .
الثالثة : أن تكون مثل : « خَفْ » أمراً من الخوف ، فيقال : « هَأْ ، هَائِي ، هَاءَا ، هَاءُوا ، هَأنَ » ، مثل : « خَفْ ، خَافِي ، خَافَا ، خَافُوا ، خفْنَ » .
قوله : « كتابيه » . منصوب ب « هاؤم » عند الكوفيين ، وعند البصريين ب « اقرأوا »؛ لأنه أقربُ العاملين ، والأصل « كتابي » فأدخل « الهاء » لتبين فتحة « الياءِ » و « الهاء » في « كتابيه » و « حسابيه » و « سلطانيه » و « ماليه » للسكتِ ، وكان حقُّها أن تحذف وصلاً وتثبت وقفاً ، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف ، أو وصل بنية الوقف في « كتابيه » و « حسابيه » اتفاقاً ، فأثبت « الهاء » .
وكذلك في « مَاليَه » و « سلطانيه » و { مَا هِيَهْ } [ القارعة : 10 ] في القارعة ، عند القُرَّاء كلهم إلا حمزة ، فإنه حذف الهاء من هذه الكلم الثلاث وصلاً ، وأثبتها وقفاً؛ لأنها في الوقف يحتاج إليها؛ لتحصينِ حركةِ الموقوفِ عليه ، وفي الوصل يستغنى عنها .
فإن قيل : فَلِمَ لم يفعل ذلك في « كتابيه » و « حسابيه »؟ .
فالجواب : أنه جمع بين اللغتين ، هذا في القراءات السبعِ .
وقرأ ابن محيصن : بحذفها في الكلم كلِّها وصلاً ووقفاً إلا في « القارعة » ، فإنه لم يتحقق عنه فيها نقل .
وقرأ الأعمشُ ، وابن أبي إسحاق : بحذفها فيهن وصلاً ، وإثباتها وقفاً .
وابن محيصن : يسكنُ الهاء في الكلم المذكورة بغيرها .
والحق أنها قراءةٌ صحيحةٌ ، أعني ثبوت هاء السكتِ وصلاً؛ لثبوتها في خط المصحف الكريم ، ولا يلتفت إلى قول الزهراوي إن إثباتها في الوصل لحن لا أعلم أحداً يجيزه . وقد تقدم الكلام على هاء السكت في البقرة والأنعام .
قوله : { إنِّي ظَنَنتُ } .
قال ابن عباس : أي : أيقنتُ وعلمتُ .
وقيل : ظننتُ أن يؤاخذني الله بسيئاتي إن عذبني فقد تفضَّل علي بعفوه ، ولم يؤاخذني بها .
قال الضحاك : كل ظن من المؤمن في القرآن فهو يقين ، ومن الكافر فهو شك .
وقال مجاهد : ظَنُّ الآخرة يقين وظَنُّ الدنيا شَكٌّ .
وقال الحسن في هذه الآية : إنّ المؤمن من أحسن الظَّن بربّه فأحسن العمل ، وإن المنافق أساء الظن بربه ، فأساء العمل .
وقوله : { أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ } ، أي : في الآخرة ، ولم أنكرْ البعث ، يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب؛ لأنه تيقّن أن الله يحاسبه ، فعمل للآخرة .
قوله : { رَّاضِيَةٍ } ، فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه على المجاز جعلت العيشة راضية؛ لمحلها في مستحقيها ، وأنها لا حال أكمل من حالها ، والمعنى في عيش يرضاه لا مكروه فيه .
الثاني : أنه على النَّسب ، أي : ذات رضا ، نحو : « لابنٌ وتامرٌ » لصاحب اللَّبن والتَّمْرِ والمعنى : ذات رضا يرضى بها صاحبها .
الثالث : قال أبو عبيدة والفراء : إنه مما جاء فيه « فاعل » بمعنى مفعول نحو : { مَّآءٍ دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] ، أي : مدفوق ، كما جاء مفعول بمعنى فاعل ، كقوله : { حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] ، أي : ساتراً .
فصل في تنعم أهل الجنة .
قال عليه الصلاة والسلام : « إنَّهُم يَعِيشون فلا يَمُوتُون أبداً ، ويصحُّونَ فلا يَمْرضُونَ أبداً ، وينعَمُونَ فلا يَرَوْنَ بأساً أبَداً ويَشِبُّونَ فلا يَهْرمُونَ أبداً » .
قوله : { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } ، أي : عظيمةٌ في النفوس ، { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } ، القطوف جمع : قطف ، وهو فعل بمعنى مفعول ، ك « الدِّعْي » و « الذِّبْح » ، وهو ما يَجتنِيهِ الجاني من الثِّمار ، و « دَانِيَةٌ » ، أي : قريبة التناولِ يتناولها القائم ، والقاعد ، والمضطجع .
والقِطْف - بكسر القاف - وهو ما يقطفُ من الثِّمار ، والقَطْفِ - بالفتح - المصدر ، والقِطَاف - بالفتح والكسر - وقت القطف .
{
كُلُواْ } ، أي : يقال لهم : كلوا واشربوا ، وهذا أمر امتنان ، لا أمرُ تكليف .
وقوله : « هنيئاً » قد تقدم في أول النساء وجوَّز الزمخشريُّ فيه هنا أن ينتصب نعتاً لمصدر محذوفٍ ، أي : « أكْلاً هنيئاً وشُرْباً هنيئاً » ، وأن ينتصب على المصدر بعامل من لفظه مقدر ، أي : « هَنِئْتُم بذلك هَنِيئاً » . و « الباء » في « بما أسْلفتُمْ » سببية ، و « ما » مصدرية أو اسمية ، ومعنى « هَنِيئاً » ، لا تكدير فيه ولا تنغيص ، « بما أسْلَفْتُم » قدمتم من الأعمال { فِي الأيام الخالية } ، أي : في الدنيا .
قالت المعتزلةُ : وهذا يدل على أنَّ العمل يوجبُ الثوابَ ، وأن الفعل للعبدِ ، وقال : « كُلُوا » بعد قوله : { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } لقوله : { فأما من أوتي كتابه } ، و « من » تتضمنُ معنى الجمعِ .
فصل فيمن نزلت فيه الآية
ذكر الضحاكُ : أن هذه الآية نزلت في أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي .
وقال مقاتل : والآية التي قبلها في أخيه الأسود بن عبد الأسد في قول ابن عبَّاس والضحاك .
قال الثعلبي : ويكون هذا الرجل ، وأخوه سبب نزول هذه الآيات ، ويعم المعنى جميع أهل الشقاوةِ ، والسعادة ، بدليل قوله تعالى : { كُلُواْ واشربوا } .
وقيل : إنَّ المراد بذلك كل من كان متبوعاً في الخير والشر يدعو إليه ، ويأمر به .
قوله : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } لما نظر في كتابه وتذكر قبائح أفعاله يخجل منها ويقول : { ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } ثُم يتمنَّى الموت ، ويقول : { ياليتها كَانَتِ القاضية } .
فالضَّميرُ في « لَيْتهَا » قيل : يعود إلى الموتةِ الأولى ، وإن لم تكن مذكورة ، إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة .
و « القَاضِيَة » : القاطعةُ من الحياة ، قال تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة } [ الجمعة : 10 ] ، ويقال : قُضِيَ على فلان ، إذا مات ، والمعنى : يا ليتها الموتة التي كانت القاطعة لأمري ، ولم أبْعَثْ بعدها ، ولم ألقَ ما وصلت إليه .
قال قتادة : يتمنى الموت ، ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت ، وشرٌّ من الموت ما يطلب منه الموت؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
4850 -
وشَرٌّ مِنَ الموْتِ الذي إنْ لَقيتُهُ ... تَمَنَّيتُ مِنْهُ المَوْتَ ، والمَوْتُ أعْظَمُ
وقيل : يعود إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب ، والمعنى : يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت عليَّ .
قوله : { مَآ أغنى عَنِّي } ، يجوزُ أن يكون نفياً ، وأن يكون استفهام توبيخٍ لنفسه ، أي : أيُّ شيءٍ أغنى عني ما كان لي من اليسار .
{
هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } قال ابن عباس : هلكتْ عنِّي حُجَّتِي ، والسلطانُ : الحجةُ التي كنتُ أحتجُّ بها ، وهو قول مجاهدٍ وعكرمة والسُّدي والضَّحاك .
وقال مقاتل : ضلت عني حجّتي حين شهدت عليه الجوارح .
وقال ابن زيد : يعني مُلكي وتسلّطي على الناس ، وبقيت ذليلاً فقيراً ، وكان مُطاعاً في أصحابه .
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
قوله : { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } ، كقوله : { كُلُواْ واشربوا } [ الحاقة : 24 ] في إضمار القولِ ، يقال ذلك لخزنةِ جهنَّم ، والغلُّ : جمعُ اليدين إلى العُنُق ، أي : شدوه بالأغلالِ .
{
ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ } ، أي : اجعلوه يصلى الجحيمَ ، وهي النارُ العظمى؛ لأنه كان يتعاظمُ في الدنيا .
وتقديمُ المفعول يفيد الاختصاص عند بعضهم .
ولذلك قال الزمخشريُّ : « ثُمَّ لا تصلوه إلا الجَحيم » قال أبو حيان : « وليس ما قاله مذهباً لسيبويه ولا لحُذاقِ النُّحاةِ » ، وقد تقدمت هذه المسألةُ متقنة ، وأنَّ كلام النحاة لا يأبى ما قاله .
قوله : { ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً } ، في محل جر صفة ل « سِلْسِلَة » و « في سِلْسِلة » متعلق ب « اسْلُكُوه » ، و « الفاء » لا تمنع من ذلك .
و « الذِّراع » مؤنث ، ولذلك يجمع على « أفْعُل » وسقطت « التاء » من عدده .
قال الشاعر : [ الرجز ]
4851 -
أرْمِي عَليْهَا وهْيَ فَرْعٌ أجْمَعُ ... وهْيَ ثَلاثُ أذْرُعٍ وإصْبَعُ
وذكر السبعين دون غيرها من العدد ، قيل : المرادُ به التكثير ، كقوله : { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } [ التوبة : 10 ] .
وقيل : المراد حقيقة العدد .
قال ابن عباسٍ : سبعون ذراعاً بذراع الملكِ .
وقال نوف البكالي : سبعون ذراعاً ، كل ذراع سبعون باعاً ، كل باع كما بينك وبين « مكّة » وكان في رحبة « الكوفة » .
وقال الحسنُ : الله أعلم أي ذراعٍ .
وزعم بعضهم أنَّ في قوله : « فِي سِلْسلَةٍ » « فاسْلُكوهُ » قلباً ، قال : لأنه نُقِلَ في التفسير أنَّ السلسلة تدخل من فيه ، وتخرج من دبره ، فهي المسلوكُ فيه لا هو المسلوكُ فيها ، والظاهر أنَّه لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنه روي أنها لطولها ، تجعل في عنقه ، وتلتوي عليه ، حتى تحيط به من جميع جهاته ، فهو المسلوكُ فيها لإحاطتها به .
وقال الزمخشريُّ : والمعنى في تقديم السِّلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التًّصلية ، أي : لا تسلكوه إلا في هذه السلسة ، وثم للدلالة على التفاوتِ لما بين الغلِّ والتصليةِ بالجحيم وما بينها ، وبين السلك في السلسلة ، لا على تراخي المدة .
وناعه أبو حيان في إفادة تقديم الاختصاص كعادته ، وجوابه ما تقدم .
ونازعه أيضاً في أن « ثُمَّ » للدلالةِ على تراخي الرُّتْبةِ .
وقال مكيٌّ : التراخي الزماني بأن يُصلى بعد أن يسلك ، ويسلك بعد أن يُؤخذ ويغلي بمهله بين هذه الأشياء . انتهى .
وفيه نظرٌ من حيثُ إن التوعد بتوالي العذاب آكد ، وأقطع من التوعد بتغريقه .
قوله : { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين } .
«
الحضُّ » : الحثُّ على الفعل والحرص على وقوعه ، ومنه حروفُ التحضيض المبوب لها في النحو؛ لأنَّه يطلب بها وقوع الفعل وإيجاده ، فبيَّن تعالى أنه عذِّب على تركِ الإطعامِ ، وعلى الأمر بالبخلِ كما عذِّب بسبب الكُفْرِ .
قال ابن الخطيب : وفي الآية دليلُ على أنَّ الكُفَّار مخاطبون بالفروع .
كان أبو الدرداء يحض امرأته على الإطعام ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان ، أفلا نخلع نصفها الثاني بالإطعام .
وقيل : المراد قول الكفار : { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ } [ يس : 47 ] .
وأصل « طعام » أن يكون منصوباً بالمصدر المقدر ، والطعام عبارةٌ عن العين ، وأضيف للمسكين للملابسةِ التي بينهما ، ومن أعمل الطعام كما يعمل الإطعام ، فموضع « المسكين » نصب ، والتقدير : على إطعام المطعم المسكين ، فحذف الفاعل ، وأضيف المصدر إلى المفعول .
قوله : { فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ } في خبر « ليس » وجهان :
أحدهما : « له » .
والثاني : هاهنا ، وأيهما كان خبراً تعلق به الآخر ، أو كان حالاً من « حميم » ، ولا يجوز أن يكون « اليوم » خبراً ألبتة؛ لأنه زمان والمخبر عنه جثة .
ومنع المهدوي أن يكون « هاهُنَا » خبراً ، ولم يذكر المانع .
وقد ذكره القرطبي فقال : « لأنه يصير المعنى : ليس هاهنا طعام إلا من غسلين ، ولا يصح ذلك؛ لأن ثمَّ طعاماً غيره » . انتهى وفي هذا نظر؛ لأنا لا نسلم أولاً أن ثمَّ طعاماً غيره ، فإن أورد قوله : { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } [ الغاشية : 6 ] فهذا طعام آخر غير الغسلين .
فالجواب : أن بعضهم ذهب إلى أن الغسلين هو الضريع بعينه ، فسمَّاه في آية « غسليناً » وفي أخرى « ضريعاً » .
ولئن سلمنا أنهما طعامان ، فالحصر باعتبار الآكلين ، يعني : أنَّ هذا الآكل انحصر طعامه في الغسلين ، فلا ينافي أن يكون في النار طعام آخر .
وإذا قلنا : إن « له » الخبر ، وأن « اليوم » ، و « هاهنا » متعلقان بما تعلق هو به ، فلا إشكال ، وكذلك إذا جعلنا « هاهنا » هو الخبر ، وعلقنا به الجار والظرف ، ولا يضرّ كون العامل معنوياً للاتساع في الظروف وحروف الجر .
وقوله : { إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } ، صفة ل « طعام » ، دخل الحصر على الصفة ، كقولك : « ليس عندي إلا رجلٌ من بني تميم » .
والمراد ب « الحميم » : الصديق ، فعلى هذا الصفة مختصة بالطَّعام ، أي : ليس له صديق ينفعه ، ولا طعام إلا من كذا .
وقيل : التقدير : ليس له حميم إلاَّ من غسلين ولا طعام . قاله أبو البقاء .
فجعل « مِنْ غسْلِين » صفة ل « الحميم » ، كأنه أراد الشَّيء الذي يحم به البدن من صديد النَّار .
وقيل : من الطعام والشَّراب؛ لأن الجميع يطعم ، بدليل قوله : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني } [ البقرة : 249 ] .
فعلى هذا يكون { إلاَّ من غسلين } صفة ل « حميم » ول « طعام » ، والمرادُ بالحميم : ما يشرب ، أي : ليس له طعام ، ولا شراب إلا غسليناً .
أما إذا أريد بالحميم : الصديد فلا يتأتَّى ذلك .
وعلى هذا الذي ذكرنا ، فيه سؤالٌ ، وهو أن يقال : بأي شيء تعلَّق الجارُّ والظرفان؟ والجواب : إنَّها تتعلق بما تعلق به الخبرُ ، أو يجعل « له » أو « هاهنا » حالاً من « حميم » ويتعلق « اليوم » بما تعلق به الحال ، ولا يجوز أن يكون « اليوم » حالاً من « حميم » ، و « له » و « هاهنا » متعلقان بما تعلق به الحال؛ لأنه ظرف زمان ، وصاحبُ الحال جثة ، وهذا موضعٌ حسنٌ مفيدٌ .
و « الغِسْلين » : « فِعْلين » من الغُسَالة ، فنُونُه وياؤه زائدتان .
قال أهل اللغة : هو ما يجري من الجراح إذا غسلت .
قال المفسرون : هو صديدُ أهل النَّارِ .
وقيل : شجر يأكلونه .
وعن ابن عباس : لا أدري ما الغِسْلينُ .
وسمي طعاماً؛ لقيامه مقامه فسمي طعاماً؛ كقوله : [ الوافر ]
4852 - . ...
تَحِيَّةُ بَينِهمْ ضَرْبٌ وجِيعُ
قوله : { لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون } . صفة ل « غسلين » .
والعامةُ : يهمزون « الخاطئون » ، وهم اسم فاعل من « خَطَأ يَخْطأ » إذا فعل غير الصواب متعمداً ، والمخطىءُ من يفعله غير متعمد .
وقرأ الحسنُ والزهريُ والعتكي وطلحة : « الخَاطِيُون » بياء مضمومة بدل الهمزة .
وقرأ ناقع في رواية وشيبة : بطاء مضمومة دون همزة .
وفيها وجهان :
أحدهما : أنه كقراءة الجماعةِ إلا أنه خفف بالحذف .
والثاني : أنه اسم فاعل من « خَطَا يَخْطُوا » إذا اتبع خطوات غيره ، فيكون من قوله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } [ البقرة : 168 ] ، قاله الزمخشريُّ .
وقد تقدم أول الكتاب أن نافعاً يقرأ : « الصَّابيون » بدون همز ، وكلام الناس فيها .
وعن ابن عباس : ما الخاطُون ، كلنا نخطُو .
وروى عنه أبو الأسود الدؤليُّ : ما الخاطُون إنما هو الخاطئون ، وما الصَّابون إنما هو الصَّابئون ، ويجوز أن يراد الذين يتخطون الحقَّ إلى الباطل ويتحدون حدود الله .
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } .
قد تقدم مثله في آخر الواقعة ، إلا أنه قيل هاهنا : إن « لا » نافية لفعل القسم ، وكأنه قيل : لا احتياجَ أن أقسمُ على هذا؛ لأنه حقٌّ ظاهرٌ مستغنٍ عن القسم ، ولو قيل به في الواقعة لكان حسناً .
واعلم أنه - تعالى - لما أقام الدلالة على إمكان القيامةِ ، ثم على وقوعها ، ثم ذكر أحوال السُّعداءِ ، وأحوال الأشقياء ، ختم الكلام بتعظيم القرآنِ ، فقال : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ } .
وقيل : المراد : أقسم ، و « لا » صلةٌ ، والمعنى أقسم بالأشياء كلها ما ترون منها وما لا ترون ، فعمَّ جميع الأشياء على الشمول؛ لأنها لا تخرجُ عن قسمين : مبْصر وغير مبصر ، فقيل : الخالقُ والخلقُ ، والدنيا والآخرة ، والأجسام والأرواح ، والإنس والجنُّ ، والنعم الظاهرة ، والباطنة .
وإن لم تكن « لا » زائدة ، فالتقدير : لا أقسم على أنَّ هذا القرآن قول رسولٍ كريم - يعني « جبريل » ، قاله الحسن والكلبي ومقاتل - لأنه يستغنى عن القسم لوضوحه .
وقال مقاتل : سببُ نزولِ هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال : إنَّ محمداً ساحرٌ .
وقال أبو جهل : شاعر وليس القرآن من قول النبي صلى الله عليه وسلم . وقال عقبة : كاهن ، فقال الله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ } أي : أقسم .
وإن قيل : « لا » نافية للقسم ، فجوابه كجواب القسم .
«
إنه » يعني القرآن { لقول رسول كريم } يعني جبريل . قاله الحسن والكلبي ومقاتل ، لقوله : { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ } [ التكوير : 19 ، 20 ] .
وقال الكلبي أيضاً والقتبي : الرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم لقوله : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } ، وليس القرآن من قول الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو من قول الله - عز وجل - ونسب القول إلى الرسولِ ، لأنه تاليه ومبلغه والعامل به ، كقولنا : هذا قول مالك .
فإن قيل : كيف يكونُ كلاماً لله تعالى ، ولجبريل ، ولمحمد عليهما الصلاة والسلام؟
فالجواب : أن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسةٍ ، فالله سبحانه أظهره في اللوح المحفوظ ، وجبريلُ بلغه لمحمدٍ - عليهما الصلاة والسلام - ومحمد صلى الله عليه وسلم بلغه للأمة .
قوله : { إِنَّهُ لَقَوْلُ } هو جوابُ القسمِ ، وقوله : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ } معطوف على الجواب ، فهو جواب . أقسم على شيئين : أحدهما : مثبت ، والآخر : منفي ، وهو من البلاغة الرائعة .
قوله : { قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } ، { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } .
انتصب « قليلاً » في الموضعين نعتاً لمصدر ، أو زمان محذوف ، أي : إيماناً أو زماناً قليلاً ، والنَّاصبُ : « يؤمنون » و « تذكرون » و « ما » مزيدةٌ للتوكيدِ .
وقال ابن عطية : ونصب « قليلاً » بفعلٍ مضمرٍ يدل عليه : « تؤمنون » ، و « ما » يحتملُ أن تكون نافية ، فينتفى إيمانهم ألبتة ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، وتتصف بالقلة ، فهو الإيمان اللغوي؛ لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرةٍ لا تغني عنهم شيئاً ، إذ كانوا يصدقون أن الخيرَ والصلةَ والعفافَ الذي يأمرُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو حقّ وصواب .
قال أبو حيَّان : أما قوله : « قليلاً نصب بفعل » إلى آخره ، فلا يصح؛ لأن ذلك الفعل الدال عليه « تؤمنون » إما أن تكون « ما » نافية - كما ذهب إليه - أو مصدرية ، فإن كانت نافية فذلك الفعل المُضْمَر الدال عليه « تؤمنون » المنفي ب « ما » يكون منفياً ، فيكونُ التقدير : ما تؤمنون قليلاً ما تُؤمنون ، والفعل المَنْفِي ب « ما » لا يجوز حذفه ، ولا حذف ما ، لا يجوز « زيداً ما أضربُه » على تقدير : « ما أضْربُ زيداً ما أضربه » ، وإن كانت مصدرية كانت إما في موضع رفعٍ ب « قليلاً » على الفاعلية ، أي : قليلاً إيمانكم ، ويبقى « قليلاً » لا يتقدمه ما يعتمد عليه حتى يعمل ولا ناصب له ، وإما في موضع رفعٍ على الابتداء؛ فيكون مبتدأ لا خبر له ، لأن ما قبلهُ منصُوبٌ .
قال شهابُ الدين : لا يُريد ابن عطية بدلالةِ « تؤمنون » على الفعل المحذوف الدلالة في باب الاشتغال ، حتى يكون العامل الظاهر مفسراً للعامل المضمر ، بل يريد مجرّد الدلالة اللفظية ، فليس ما أورده أبو حيان عليه من تمثيله بقوله : « زيداً ما أضربه » أي : « ما أضرب زيداً ما أضربُه » وأما الردُّ الثاني فظاهرٌ ، وقد تقدم لابن عطية هذا القولُ في أول سورة « الأعراف » فَليُلتَفَتْ إليه .
وقال الزمخشريُّ : « والقّلةُ في معنى العدم ، أي : لا تؤمنون ولا تذكرون ألبتَّة » .
قال أبو حيَّان : ولا يُرادُ ب « قليلاً » هنا النفي المحض كما زعم ، وذلك لا يكون إلاَّ في « أقلُّ رجل يقول ذلك إلا زيدٌ » ، وفي « قل » نحو « قَلَّ رجلٌ ذلك إلا زيدٌ » وقد يستعمل في « قليلة » ، و « قليلة » إذا كانا مرفوعين ، نحو ما جوزوا في قول الشاعر : [ الطويل ]
4853 - ...
قَلِيلٌ بِهَا الأصْوَاتُ إلاَّ بُغامُهَا
أما إذا كان منصوباً نحو : « قليلاً ضربت ، أو قليلاً ما ضربت » على أن تكون « ما » مصدرية ، فإن ذلك لا يجوزُ؛ لأنه في « قليلاً ضربت » منصوب ب « ضربت » ، ولم تستعمل العرب « قليلاً » ، إذا انتصب بالفعل نفياً ، بل مقابلاً لكثير ، وأما في « قليلاً ما ضربت » على أن تكون « ما » مصدريةٌ ، فتحتاج إلى رفع « قليل »؛ لأن « ما » المصدرية في موضع رفع على الابتداء .
انتهى ما رد به عليه .
قال شهاب الدين : « وهذا مجرد دعوى » .
وقرأ ابنُ كثيرٍ وابن عامر بخلافٍ عن ابن ذكوان : « يؤمنون ، يذكرون » بالغيبة حملاً على « الخاطئون » والباقون : بالخطاب ، حملاً على « بما تبصرون » .
وأبيّ : وتتذكرون « بتاءين » .
فصل في القرآن الكريم
قوله : { وما هو بقول شاعرٍ } ؛ لأنه مباينٌ لصنوفِ الشعر كلِّها ، { ولا بقول كاهنٍ } ؛ لأنه ورد بسبِّ الشياطين وشتمهم فلا ينزلون شيئاً على من سبِّهم .
وقوله : { قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } ، المراد بالقليل من إيمانهم هو أنهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا : الله .
وقيل : إنهم قد يؤمنون في قلوبهم إلا أنهم يرجعون عنه سريعاً ، ولا يتممون الاستدلال ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } [ المدثر : 18 ] إلا أنه في آخرِ الأمرِ قال : { إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } [ المدثر : 24 ] .
وقال مقاتل : يعني بالقليل أنهم لا يصدقون بأن القرآن من الله تعالى ، والمعنى لا يؤمنون أصلاً ، والعربُ يقولون : قلّ ما تأتينا ، يريدون لا تأتينا .
قوله : { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين } ، هذه قراءةُ العامة ، أعني الرَّفع على إضمار مبتدأ ، أي : هو تنزيلٌ وتقدم مثله .
وأبو السِّمال : « تنزيلاً » بالنصب على إضمار فعل ، أي : نزل تنزيلاً .
قال القرطبي : وهو عطفٌ على قوله : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } أي : إنه لقول رسول كريم ، وهو تنزيل من رب العالمين .
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
قوله : { وَلَوْ تَقَوَّلَ } ، هذه قراءةُ العامَّة ، « تَفعَّل » من القول مبنيًّا للفاعل .
قال الزمخشريُّ : « التقوُّلُ ، افتعالُ القولِ؛ لأن فيه تكلُّفاً من المفتعل » .
وقرأ بعضهم : « تُقُوِّلَ » مبنياً للمفعول .
فإن كان هذا القارىءُ رفع ب « بَعْضَ الأقاويل » فذاك ، وإلا فالقائم مقام الفاعل الجار ، وهذا عند من يرى قيام غير المفعول به مع وجوده .
وقرأ ذكوانُ وابنه محمد : « يَقُولُ » مضارع « قَالَ » .
و « الأقاويل » جمعُ : « أقوال » ، و « أقوال » جمع : « قول » ، فهو نظير : « أبَاييت » جمع : « أبياتٍ » جمع « بيتٍ » .
وقال الزمخشريُّ : وسمى الأقوال المنقولة أقاويل تصغيراً لها وتحقيراً ، كقولك : « الأعاجيب » و « الأضاحيك » ، كأنها جمع « أفعولة » من القول .
والمعنى : لو نسب إلينا قولاً لم نقله « لأخذْنَا مِنْهُ باليَميْنِ » أي : لأخذناه بالقوة ، و « الباء » يجوز أن تكون على أصلها غير مزيدة ، والمعنى لأخذناه بقوة منا ف « الباء » حالية ، والحالُ من الفاعل ، وتكون « من » في حكم الزائدةِ ، واليمينُ هنا مجاز عن القوة والغلبة؛ لأن قوة كل شيء في ميامنه .
قال القتبي : وهو معنى قول ابن عباس ومجاهد .
ومنه قول الشماخ : [ الوافر ]
4854 -
إذَا ما رايةٌ رُفِعتْ لمَجْدٍ ... تلقَّاهَا عَرابَةُ باليَميْنِ
قال أبو جعفر الطبري : هذا الكلام مخرج مخرج الإذلال ، على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب .
ويجوز أن تكون الباءُ مزيدةً ، والمعنى : لأخذنا يمينه ، والمراد باليمين الجارحة كما يفعل بالمقتول صبراً يؤخذ بيمينه ، ويضرب بالسَّيف ، في جيده موجهة ، وهو أشد عليه .
قال الحسن : لقطعْنَا يدهُ اليمنى .
وقال نفطويه : المعنى لقبضنا بيمينه عن التصرف .
وقال السدِّي ومقاتل : والمعنى : انتقمنا منه بالحقِّ؛ واليمين على هذا بمعنى الحق ، كقوله تعالى : { إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين } [ الصافات : 28 ] أي : من قبل الحق .
قوله : { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } . وهو العِرْق المتصل من القلب بالرأس الذي إذا قُطعَ مات صاحبُه .
قاب أبو زيد : وجمعه الوُتْن ، وثلاثة أوتِنَة ، والموتُون الذي قُطِعَ وتينُه .
وقال الكلبي : هو عِرْق بين العلباء والحُلْقوم ، وهما علباوان ، وإن بينهما العِرْق .
والعِلْباء : عصب العنق .
وقيل : عرق غليظ تصادفه شفرة النَّاحر .
قال الشماخُ : [ الوافر ]
4855 -
إذَا بلَّغَتنِي وحَملْتِ رحْلِي ... عرَابَةُ فاشْرقِي بِدمِ الوتِينِ
وقال مجاهد : هو حبل القلب الذي في الظهر ، وهو النخاع ، فإذا انقطع بطلت القوى ، ومات صاحبه .
وقال محمدُ بن كعب : إنه القلبُ ومراقه ، وما يليه .
وقال عكرمة : إنَّ الوتينَ إذا قُطعَ لا إن جَاعَ عرف ولا إن شَبعَ عرف .
قال ابن قتيبة : ولم يرد أنا نقطعه بعينه ، بل المراد أنه لو كذب لأمتناه فكان كمن قُطِعَ وتينه .
ونظيرهُ قوله صلى الله عليه وسلم : « مَا زَالَتْ أكْلَةُ خيْبَر تُعاودُنِي ، فهذا أوَانُ انقِطَاعِ أبْهَرِي » « والأبَهَرُ » : عِرْقٌ متصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبُه ، فكأنه قال : هذا أوانُ يقتلني السُّم ، وحينئذ صرتُ كمن انقطع أبهره .
قوله : { فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } .
في « حاجزين » وجهان :
أحدهما : أنه نعت ل « أحد » على اللفظ ، وإنما جمع المعنى ، لأن « أحداً » يعُمُّ في سياق النفي كسائر النكراتِ الواقعة في سياق النَّفْي ، قاله الزمخشري والحوفيُّ .
وعلى هذا فيكون « مِنْكُم » خبراً للمبتدأ ، والمبتدأ في « أحد » زيدت فيه « مِنْ » لوجود شرطها .
وضعفه أبو حيَّان : بأن النفي يتسلَّط على كينونته « منكم » ، والمعنى إنما هو على نفي الحجز عما يراد به .
والثاني : أن يكون خبراً ل « ما » الحجازية ، و « من أحد » اسمها ، وإنما جُمِع الخبرُ لما تقدم و « منكم » على هذا حالٌ ، لأنه في الأصل صفة ل « أحد » أو يتعلق ب « حاجزين » ولا يضر ذلك لكون معمول الخبر جاراً ، ولو كان مفعولاً صريحاً لامتنع ، لا يجوز : « ما طعامك زيداً آكلاً » ، أو متعلق بمحذوف على سبيل البيان ، و « عنه » يتعلق ب « حاجزين » على القولين ، والضمير للمقتول ، أو للقتل المدلول عليه بقوله : « لأخذْنَا ، لقطعنا » .
قال القرطبيُّ : المعنى فما منكم قوم يحجزون عنه لقوله تعالى { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] هذا جمع لأن « بين » لا تقع إلا على اثنين فما زاد ، قال عليه الصلاة والسلام : « لَمْ تحلَّ الغَنائِمُ لأحدٍ سُودِ الرُّءوسِ قَبْلكُمْ » .
لفظه واحد ، ومعناه الجمع ، و « من » زائدة .
والحَجْز : المنع ، و « حَاجزيْنَ » يجوز أن يكون صفة ل « أحد » ، على المعنى كما تقدم ، فيكون في موضع جر ، والخبر « منكم » ، ويجوز أن يكون منصوباً ، على أنه خبر ، و « منكم » ملغى ، ويكون متعلقاً ب « حاجزين » ، ولا يمنع الفصل به من انتصاب الخبر في هذا ، كما لم يمتنع الفصل به في « إنَّ فيك زيداً راغبٌ » .
قوله : { وَإِنَّهُ } . يعني : القرآن { لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } ، أي : الخائفين الذين يخشون الله ، ونظيره { فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] .
وقيل : المراد محيمد صلى الله عليه وسلم أي : هو تذكرة ورحمة ونجاة .
{
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ } .
قال الربيع : بالقرآن ، { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ } يعني : القرآن { عَلَى الكافرين } إمَّا يوم القيامة إذا رأوا ثواب المصدقين به ، أو في الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين به ، أو حين لم يقدروا على معارضته حين تحدَّاهم أن يأتوا بسورة مثله .
والحسرة : الندامة .
وقيل : « إنه لحسرة » يعني : التكذيب به ، لدلالة مكذبين على المصدر دلالة « السَّفيه » فيه في قوله : [ الوافر ]
4856 -
إذَا نُهِيَ السَّفيهُ جَرَى إليْهِ ... وخَالفَ ، والسَّفيهُ إلى خِلافِ
أي : إلى السَّفهِ .
فصل فيمن استدل بالآية على أن الكفر ليس من الله
قال ابنُ الخطيب : وللمعتزلة أن يتمسكوا بهذه الآية ، على أنَّ الكُفر ليس من الله؛ لأنه وصف القرآن بأنه تذكرةٌ للمتقين ، ولم يقل : إنه ضلالٌ للمكذبين؛ بل نسب الضَّلال إليهم بقوله : { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ } .
والجوابُ : ما تقدم .
قوله : { وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين } يعني : القرآن العظيم ، تنزيل من الله - عز وجل - فهو كحق اليقينِ .
وقيل : حقًّا يقيناً لا بطلان فيه ، ويقيناً لا ريب فيه ، ثم أضيف أحد الوصفين إلى الآخرة للتأكيد ، قاله ابن الخطيب .
وقال القرطبيُّ : قال ابنُ عبَّاسٍ : إنما هو كقولك : عينُ اليقينِ ومحضُ اليقينِ ، ولو كان اليقينَ نعتاً لم يجز أن يضاف إليه ، كما لا تقول : هذا رجل الظريف .
وقيل : أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين .
وقوله : { فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم } .
قال ابن عبَّاس : أي : فَصَلِّ لربِّك وقيل : نزِّه اللَّه عن السوءِ والنقائصِ ، إما شُكْراً على ما جعلك أهْلاً لإيحائه إليك ، وإمَّا تنزيهاً له عن الرضا بأن يُنسبَ إليه الكذبُ من الوَحْي .
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورةَ الحَاقَّةِ حَاسَبَهُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - حِسَاباً يَسِيراً » .
وعن فُضالةَ بنِ شريك ، عن أبي الزاهرية قال : سمعته يقول : « مَنْ قَرَأ إحدى عَشْرَةَ آيةً من سُورةِ الحاقَّةِ ، أجِير من فِتْنَةِ الدَّجَّالِ؛ ومنْ قَرَأها ، كَانَ لَهُ نُوراً مِنْ فَوْقِ رَأسِهِ إلى قَدَمَيْهِ » .
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
قوله تعالى : { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } .
قرأ نافع وابن عامرٍ : « سَالَ سَائِلٌ » بغير همز .
والباقون : بالهمز ، فمن همز ، فهو من السؤال ، وهي اللغةُ الفاشيةُ .
ثم لك في « سأل » وجهان :
أحدهما : أن يكون قد ضمن معنى « دعا » فلذلك تعدَّى بالباءِ ، كما تقول : دعوتُ بكذا ، والمعنى : دعا داعٍ بعذابٍ .
والثاني : أن يكون على أصله ، والباء بمعنى « عن » ، كقوله : [ الطويل ]
4856
م - فإنْ تَسْألُونِي بالنِّسَاءِ .
{
فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] وقد تقدم تحقيقه .
والأول أولى لأن التجوزَ في الفعل أولى منه في الحرف لقوته .
وأما القراءةُ بالألف ففيها ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنها بمعنى قراءة الهمزة ، وإنما خففت بقلبها ألفاً ، وليس بقياس تخفيف مثلها ، بل قياس تخفيفها ، جعلها بَيْنَ بَيْنَ ، والباء على هذا الوجه كما في الوجه الذي تقدم .
الثاني : أنَّها من « سَالَ يَسالُ » مثل : خَافَ يخافُ ، وعين الكلمة واو .
قال الزمخشريُّ : « وهي لغةُ قريش ، يقولون : سلت تسال ، وهما يتسايلان » .
قال أبو حيَّان : وينبغي أن يتثبت في قوله : « إنها لغةُ قريش »؛ لأن ما جاء في القرآن من باب السؤال هو مهموز ، أو أصله الهمز ، كقراءة من قرأ { وسَلُوا } [ النساء : 32 ] ، إذ لا يجوز أن يكون من « سَالَ » التي يكون عينها واواً ، إذ كان يكون « وسالوا الله » مثل « خافوا » فيبعد أن يجيء ذلك كلُّه على لغةِ غير قريش ، وهم الذين نزل القرآنُ بلغتهم إلا يسيراً فيه لغة غيرهم ، ثم جاء في كلام الزمخشري : وهما « يتسايلان » بالياء ، وهو وهم من النُّساخ ، إنما الصواب : يتساولان - بالواو - لأنه صرح أولاً أنه من السؤال ، يعني بالواو الصريحة .
وقد حكى أبو زيد عن العرب : إنهما يتساولان .
الثالث : إنها من السَّيلان ، والمعنى : « سال » واد في جهنم ، يقال له : سايل ، وهو قول زيد بن ثابت .
فالعين ياء ، ويؤيده قراءة ابن عباس : « سال سيل » .
قال الزمخشريُّ : « والسَّيل مصدر في معنى السَّائل ، كالغَوْر بمعنى الغَائِر ، والمعنى : اندفع عليهم وادي عذاب » ، انتهى .
والظاهر الوجه الأول لثبوت ذلك لغة مشهورة ، قال : [ البسيط ]
4857 -
سَالَتْ هُذيْلٌ رَسُولَ اللَّهِ فَاحشَةً ... ضَلَّتْ هُذِيْلٌ بِمَا سَالتْ ولمْ تُصِبِ
وقرأ أبيُّ بن كعب وعبد الله : « سَال سَالٍ » مثل « مَال » .
وتخريجها : أن الأصل : « سائل » فحذفت عينُ الكلمة ، وهي الهمزة ، واللام محل الإعراب ، وهذا كما قيل : هذا شاكٍ في شائك السِّلاح . وقد تقدم الكلام على مادة السؤال أول سورة « البقرة » فليلتفت إليه .
و « الباء » تتعلق ب « سال » من السيلان تعلقها ب « سأل » لِمَا يزيد .
وجعل بعضهم الباءَ متعلقة بمصدر دلَّ عليه فعل السؤالِ ، كأنه قيل : ما سؤالهم؟ .
فقيل : سؤالهم بعذاب ، كذا حكاه أبو حيَّان عن ابن الخطيب .
ولم يعترضه ، وهذا عجيب ، فإنَّ قوله أولاً : إنه متعلق بمصدر دل عليه فعل السؤال ينافي تقديره بقوله : « سؤالهم بعذاب »؛ لأن الباء في هذا التركيب المقدَّر تتعلق بمحذوف؛ لأنها خبر المبتدأ بالسؤال .
وقال الزمخشريُّ : « وعن قتادة سأل سائل عن عذاب الله بمن ينزل وعلى من يقع فنزلت ، و » سأل « على هذا الوجه مضمن معنى عني واهتم ، كأنه قيل : اهتم مهتم بعذاب واقعٍ » .
فصل في تفسير السؤال
قال القرطبيُّ : الباء يجوز أن تكون بمعنى « عن » والسؤالُ بمعنى الدعاء ، أي دعا داع بالعذاب ، عن ابن عباس وغيره ، يقال : دعا على فلان بالويلِ ودعا عليه بالعذاب .
ويقال : دعوتُ زيداً ، أي التمستُ إحضاره ، والمعنى التمس ملتمسٌ عذاباً للكافرين ، وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامةِ ، وعلى هذا فالباءُ زائدةٌ كقوله تعالى : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] ، وقوله تعالى : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة } [ مريم : 23 ] ، فهي تأكيد ، أي : سأل سائل عذاباً واقعاً .
«
لِلكَافِرينَ » أي : على الكافرين .
قيل : هو النضر بن الحارث حيثُ قال : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ، فنزل سؤاله ، وقتل يوم « بدر » صبراً هو وعقبة بن أبي معيط ، لم يقتل صبراً غيرهما ، قاله ابن عباس ومجاهد .
وقيل : « إنَّ السائل هنا هو الحارثُ بن النعمان الفهري ، وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه : » مَنْ كُنْتُ مَولاهُ فَعَليٌّ مَوْلاهُ « ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح ، ثم قال : يا محمدُ ، أمرتنا عن الله ، أن نشهد أن لا إله إلا الله ، وأنَّك رسول الله ، فقبلناه منك ، وأن نصلي خمساً ، ونزكي أموالنا ، فقبلناه منك ، وأن نصوم شهر رمضان في كل عام ، فقبلناه منك ، وأن نحج ، فقبلناه منك ، ثُمَّ لم ترض بهذا ، حتى فضَّلت ابن عمك علينا ، أفهذا شيءٌ منك أم من الله؟ .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » واللَّهِ الَّذي لا إِلهَ إلاَّ هُوَ ، ما هُوَ إلاَّ مِنَ اللَّه « فولى الحارث وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقًّا ، فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذابٍ أليم ، فوالله ما وصل إلى ناقته ، حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه ، فخرج من دبره فقتله ، فنزلت { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } » .
وقال الربيع : السائل هنا أبو جهلٍ وهو القائل ذلك .
وقيل : إنه قول جماعة من كفار قريش ، وقيل : هو نوح - عليه الصلاة والسلام - سأل العذاب على الكافرين .
وقيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بالعقاب ، وطلب أن يوقعه بالكفار ، وهو واقع بهم لا محالة ، وامتد الكلام إلى قوله تعالى { فاصبر صَبْراً جَمِيلاً } [ المعارج : 5 ] ، أي : لا تستعجل فإنه قريب ، وهذا يدل على أن ذلك السائل هو الذي أمره الله بالصبر الجميلِ .
وقال قتادة : الباءُ بمعنى « عَنْ » ، فكأن سائلاً سأل عن العذاب بمن وقع ، أو متى يقع ، قال الله تعالى : { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } ، أي : فاسأل عنه ، وقال علقمةُ : [ الطويل ]
4858 -
فإن تَسْألُونِي بالنِّسَاءِ . . . .
أي : عن النِّساء ، فالمعنى : سلوني بمن وقع العذاب ، ولمن يكون ، فقال الله تعالى : { لِّلْكَافِرِينَ } وقال أبو عليّ وغيره : وإذا كان من السؤال ، فأصله أن يتعدَّى إلى مفعولين ، ويجوز الاقتصار على أحدهما وإذا اقتصر على أحدهما ، جاز أن يتعدى إليه بحرف الجر ، فيكون التقدير : سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم أو المسلمين بعذاب أو عن عذاب .
قوله : { لِّلْكَافِرِينَ } . فيه أوجه :
أحدها : أن يتعلق ب « سأل » مضمناً معنى « دعا » كما تقدم ، أي : دعا لهم بعذاب واقع .
الثاني : أن يتعلق ب « واقع » واللام للعلة ، أي نازل لأجلهم .
الثالث : أن يتعلق بمحذوف ، صفة ثانية ل « عذاب » أي كائن للكافرين .
الرابع : أن يكون جواباً للسائل ، فيكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو للكافرين .
الخامس : أن تكون « اللام » بمعنى « على » ، أي : واقع على الكافرين .
ويؤيده قراءة أبيّ : « على الكافرين » ، وعلى هذا فهي متعلقة ب « واقع » لا على الوجه الذي تقدم قبله .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : بِمَ يتصل قوله : « للكافرين »؟ .
قلت : هو على القول الأول متصل ب « عذاب » صفة له أي بعذاب واقع كائن للكافرين ، أو بالفعل أي دعا للكافرين بعذاب واقع أو بواقع ، أي : بعذاب نازل لأجلهم .
وعلى الثاني : هو كلام مبتدأ جواب للسائل ، أي : هو للكافرين انتهى .
قال أبو حيَّان : وقال الزمخشري : أو بالفعل ، أي : دعا للكافرين ، ثم قال : وعلى الثاني ، وهو ثاني ما ذكر في توجيهه للكافرين ، قال : هو كلام مبتدأ ، وقع جواباً للسائل ، أي : هو للكافرين ، وكان قد قرر أن « سأل » في معنى « دعا » فعدي تعديته ، كأنه قال : دعا داعٍ بعذاب ، من قولك : دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ، ومنه قوله تعالى : { يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } [ الدخان : 55 ] انتهى ، فعلى ما قرره ، أنه متعلق ب « دَعَا » يعني « بسأل » ، فكيف يكون كلاماً مبتدأ جواباً للسائل ، أي : هو للكافرين ، هذا لا يصح .
قال شهاب الدين : وقد غلط أبو حيان في فهمه عن أبي القاسم قوله : وعلى الثاني إلى آخره ، فمن ثم جاء التخليط الذي ذكره الزمخشريُّ ، إنما عنى بالثاني قوله عن قتادة : سأل سائل عن عذاب الله على من ينزل وبمن يقع ، فنزلت ، و « سأل » على هذا الوجه مضمن معنى « عني واهتم » ، فهذا هو الوجه الثاني المقابل للوجه الأول ، وهو أن « سأل » يتضمن معنى « دَعَا » ، ولا أدري كيف تخبط حتى وقع ، ونسب الزمخشري إلى الغلط ، وأنه أخذ قول قتادة والحسن وأفسده ، والترتيب الذي رتّبه الزمخشري ، في تعلق « اللام » من أحسن ما يكون صناعة ومعنى .
قال القرطبي : وقال الحسن : أنزل اللَّهُ تعالى : { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } ، وقال : لمن هو؟ فقال : « للكافرين » ، فاللام في « لِلكَافِريْنَ » متعلقة ب « واقع » .
وقال الفرَّاءُ : التقدير : بعذابٍ للكافرين واقع ، فالواقع من نعت العذاب ، فاللام دخلت للعذاب لا للواقع .
أي : هذا العذاب للكافرين في الآخرة ، لا يدفعه عنهم أحدٌ .
وقيل : إن اللام بمعنى « على » أي : واقع على الكافرين كما في قراءة أبَيِّ المتقدمة .
وقيل : بمعنى « عَنْ » أي : ليس له دافع عن الكافرين .
قوله : { لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } .
يجوز أن يكون نعتاً آخر ل « عذاب » ، وأن يكون مستأنفاً ، والأول أظهر .
وأن يكون حالاً من « عَذاب » لتخصصه ، إما بالعمل وإما بالصفة ، وأن يكون حالاً من الضمير في « للكافرين » إن جعلناه نعتاً ل « عَذاب » .
قوله : { مِّنَ الله } يجوز أن يتعلق ب « دَافِعٌ » بمعنى ليس له دافع من جهته ، إذا جاء وقته ، وأن يتعلق ب « واقع » ، وبه بدأ الزمخشري ، أي : واقع من عنده .
وقال أبو البقاء : ولم يمنع النفي من ذلك؛ لأن « لَيْسَ » فعل .
كأنه استشعر أن ما قبل النفي لا يعمل فيما بعده .
وأجاب : بأنَّ النفي لما كان فعلاً ساغ ذلك .
قال أبو حيَّان : والأجود أن يكون « مِنَ اللَّهِ » متعلقاً ب « وَاقع » ، و { لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } جملة اعتراض بين العامل ومعموله . انتهى .
وهذا إنما يأتي على البدل ، بأنَّ الجملة مستأنفةٌ ، لا صفة ل « عذاب » ، وهو غير الظاهر كما تقدم لأخذ الكلام بعضه بحجزة بعض .
قوله : « ذي » صفة لله ، ومعنى : « ذِي المَعارِج » ، أي : ذي العلو والدرجات الفواضل والنعم؛ لأنها تصل إلى الناس على مراتب مختلفة ، قاله ابن عباس وقتادة .
«
فالمعارج » ، مراتبُ إنعامه على الخلق .
وقيل : ذي العظمة والعلو .
وقال مجاهدٌ : هي معارج السماءِ .
وقيل : هي السموات .
قال ابن عباس : أي : ذي السموات ، سمَّاها معارج الملائكةِ ، لأن الملائكةَ تعرج إلى السماءِ ، فوصف نفسه بذلك .
وقيل : « المعارج » الغرف ، أي : أنه ذو الغرف ، أي : جعل لأوليائه في الجنة غرفاً .
وقرأ عبد الله : « ذِي المعاريج » بالياء .
يقال : معرج ، ومعراج ، ومعارج ، ومعاريج مثل مفتاح ومفاتيح .
والمعارج : الدرجات ومنه : { وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [ الزخرف : 33 ] وتقدم الكلام على المعارج في « الزخرف » .
قوله : { تَعْرُجُ } . العامة : بالتاء من فوق .
وقرأ ابن مسعود ، وأصحابه ، والسلمي ، والكسائي : بالياء من تحت .
وهما كقراءتي : « فَنَادَاهُ المَلائِكَةُ ونَادَتْهُ » [ آل عمران : 39 ] ، « تَوَفَّاهُ وَتَوَفَّتْهُ » [ الأنعام : 61 ] .
وأدغم أبو عمرو : الجيم في التاء .
واستضعفها بعضهم من حيث إن مخرج الجيم بعيد من مخرج التاء .
وأجيب عن ذلك بأنها قريبة من الشين؛ لأن النقص الذي في الشين يقرِّبها من مخرج التاء ، والجيم تدغم في الشين لما بينهما من التقارب ، في المخرج والصفة ، كما تقدم في { أَخْرَجَ شَطْأَهُ } [ الفتح : 29 ] فحُمِلَ الإدغام في التاء ، على الإدغام في الشين ، لما بين الشين والتاء من التقارب .
وأجيب أيضاً : بأنَّ الإدغام يكون لمجرد الصفات ، وإنْ لم يتقاربا في المخرج ، والجيم تشارك التاء في الاستفال والانفتاح والشّدة .
والجملة من « تعرج » مستأنفة .
قوله : « والرُّوحُ » من باب عطف الخاص على العام ، إن أريد بالروح جبريل ، أو ملك آخر من جنسهم ، وأخر هنا وقدم في قوله : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً } [ النبأ : 38 ] ؛ لأن المقامَ هنا يقتضي تقدم الجمع على الواحد ، من حيثُ إنه مقامُ تخويفٍ ، وتهويل .
فصل في تحرير معنى الآية
{
تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ } ، أي : تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم .
قال ابن عبَّاسِ : الروح : جبريلُ - عليه السلام - لقوله تعالى : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] .
وقيل : هو ملكٌ آخر ، عظيمُ الخلقةِ .
وقال أبو صالح : إنه خلق من خلق الله ، كهيئة الناس وليس بالناس .
وقال قبيصة بن ذؤيب : إنه روح الميت حين تقبض .
قوله : « إليه » ، أي : إلى المكان الذي هو محلهم ، وهو في السماء؛ لأنه محلُّ برِّه وكرامته وقيل : هو كقول إبراهيم { إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي } [ الصافات : 99 ] ، أي : إلى الموضع الذي أمرني به .
وقيل : « إليه » إلى عرشه .
قال شهاب الدين : الضمير في « إليْهِ » ، الظاهر عوده على الله تعالى .
وقيل : يعود على المكان لدلالة الحال والسياق عليه .
قوله : « في يوم » ، فيه وجهان :
أظهرهما : تعلقه ب « تَعْرجُ » .
والثاني : أنه يتعلق ب « دافع » .
وعلى هذا فالجملة من قوله : « تعرجُ الملائكةُ » معترضة ، و « كَانَ مقداره » صفةٌ ل « يوم » .
قال ابن الخطيب : الأكثرون على أنَّ قوله : « فِي يَوْمٍ » صلة قوله : « تَعْرُجُ » ، أي : يحصل العروج في مثل هذا اليوم .
وقال مقاتل : بل هذا من صلة قوله : « بعَذابٍ واقع » [ وعلى هذا القول يكون في الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : سأل سائل بعذاب واقع ] ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .
وعلى التقدير الأول ، فذلك اليوم ، إما أن يكون في الآخرة ، أو في الدنيا . وعلى تقدير أن يكون في الآخرة ، فذلك الطول إما أن يكون واقعاً ، وإما أن يكون مقدراً ، فإن كان معنى الآية : إن ذلك العُروجَ يقع في يوم من أيام الآخرة طوله خمسون ألف سنةٍ ، وهو يوم القيامة ، وهذا قول الحسن ، قال : وليس يعني أن مقدار طوله هذا فقط؛ إذ لو كان كذلك لحصلت له غاية ، ولنفيت الجنة والنار عند انتهاء تلك الغاية ، وهذا غير جائز ، بل المراد : أن موقفهم للحساب حين يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدُّنيا بعد ذلك يستقر أهل النار في النار ، نعوذ بالله منها .
فصل في الاحتجاج لهذا القول
قال القرطبي : واستدل النحاس على صحة هذا القول بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَا مِنْ رجُلٍ لَمْ يُؤدِّ زكَاةَ مالِه إلاَّ جعلَ لَهُ شُجَاعاً مِنْ نَارٍ تُكْوَى بِهِ جبْهَتُهُ وظَهْرُهُ وجَنْبَاهُ يَوْمَ القِيامَةِ في يَوْمٍ كَانَ مقْدارهُ خَمْسينَ ألْفَ سَنةٍ حتَّى يقْضِيَ الله بَيْنَ النَّاسِ » وهذا يدل على أنه يوم القيامةِ .
وقال إبراهيم التيمي : ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا ما قدر ما بين ظهر يومنا وعصره .
وروي هذا المعنى مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين الصلاتين » ولذلك سمى نفسه { سَرِيعُ الحساب } [ المائدة : 40 ] ، و { أَسْرَعُ الحاسبين } [ الأنعام : 62 ] ، وإنما خاطبهم على قدر فهم الخلائقِ ، وإلا فلا يشغله شأن عن شأن ، وكما يرزقهم في ساعة يحاسبهم في لحظة ، قال تعالى : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] .
والمعنى : لو ولي محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله ، لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة .
قال البغوي : هذا معنى قول عطاء عن ابن عباس ومقاتل .
قال عطاء : ويفرغ الله منه في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا .
واعلم أنَّ هذا الطول ، إنَّما يكون في حق الكافرِ ، وأما في حق المؤمن فلا ، لما روى أبو سعيد الخدري أنه قال : « قِيْلَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أطولَ هذا اليوم؟ فقال : » والذي نَفْسي بِيَدهِ إنَّهُ ليَخِفُّ على المؤمنِ حتَّى إنَّهُ يكُونُ أخفَّ من صلاةٍ مكتوبةٍ يُصلِّيهَا في الدُّنْيَا « » .
وقال بعضهم : إنَّ ذلك ، وإن طال ، فيكون سبباً لمزيد السرورِ والراحة لأهل الجنة ، ويكون سبباً لمزيد الحزنِ والغمِّ لأهل النار .
وأجيب : بأنَّ الآخرة دارُ جزاءٍ ، فلا بد وأن يحصل للمثابين ثوابهم ، ودارُ الثوابِ هي الجنةُ لا الموقف ، فإذاً لا بد من تخصيص طول الموقف بالكفار .
وقيل : هذه المدة على سبيل التقدير لا على التحقيق ، أي : تعرج الملائكةُ في ساعة قليلة ، لو أراد أهل الدنيا العروج إليها كان مقدار مدَّتهم خمسين ألف سنةٍ .
وعن مجاهد والحسن وعكرمة : هي مدة إقامة عمر الدنيا من أول ما خلقت إلى آخر ما بقي خمسون ألف سنةٍ ، وهو قول أبي مسلمٍ .
فإن قيل : كيف الجمعُ بين هذه ، وبين قوله في سورة « السَّجدة » : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } [ السجدة : 5 ] وقد قال ابن عباس : هي أيام سمَّاها الله تعالى هو أعلم بها ، وأنا أكره أن أقول فيها ما لا أعلم؟ .
فالجوابُ : يحتمل أن من أسفل العالم إلى أعلى العرش خمسين ألف سنةٍ ، ومن أعلى سماءِ الدنيا إلى الأرض ألف سنةٍ؛ لأن عرض كل سماءٍ خمسمائة ، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة ، فقوله : { في يَوْمٍ } يريد : في يوم من أيام الدنيا ، وهو مقدار ألف سنةٍ لو صعدوا فيه إلى سماء الدنيا ، ومقدار خمسين ألف سنةٍ لو صعدوا إلى أعلى العرش .
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
قوله : { فاصبر صَبْراً جَمِيلاً } قال ابن الخطيب : هذا متعلق ب « سألَ سَائلٌ »؛ لأن استعجالهم بالعذاب كان على وجه الاستهزاءِ برسول الله صلى الله عليه وسلم والتعنُّت فأمر بالصبر .
ومن قَرَأ : « سَالَ سَائِل » ، وسيل فالمعنى جاء العذاب لقرب وقوعه فاصبر على أذى قومك ، والصَّبرُ الجميلُ هو الذي لا جزع فيه ، ولا شكوى لغير الله .
وقيل : أن يكون صاحب مصيبة في القوم لا يدرى من هو .
قال ابنُ زيدٍ والكلبيُّ : هذه الآيةُ منسوخة بالأمر بالقتال .
قوله : { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً } .
الضميرُ في « إنَّهُمْ » لأهل « مكة » ، وفي « يَرونَهُم ، ونَرَاه » لليوم إن أريد به يوم القيامة .
قال القرطبيُّ : أي : نعلمه؛ لأن الرؤية إنما تتعلقُ بالموجودِ ، كقولك : الشافعي يرى في هذه المسألةِ كذا .
وقال الأعمشُ : يرون البَعْثَ بعيداً؛ لأنهم لا يؤمنون به ، كأنهم يستبعدونه على جهة الإحالة كمن يقول لمن يناظره : هذا بعيدٌ لا يكون .
وقيل : الضمير يعودُ إلى العذاب بالنار ، أي : غير كائن ، « ونراه قريباً » لأن ما هو آت ، فهو قريب .
قوله : { يَوْمَ تَكُونُ } ، فيه أوجه :
أحدها : أنه متعلق ب « قريباً » وهذا إذا كان الضمير في « نراه » للعذاب ظاهراً .
الثاني : أنه يتعلق بمحذوف يدل عليه « واقع » ، أي : يقع يوم يكون .
الثالث : أنه يتعلق بمحذوفٍ مقدر بعده ، أي : يوم يكون كان وكيت وكيت .
الرابع : أنه بدل من الضمير في « نَرَاهُ » إذا كان عائداً على يومِ القيامةِ .
الخامس : أنَّه بدل عن « فِي يَوْمٍ » ، فيمن علقه ب « واقع » . قاله الزمخشري .
وإنَّما قال : فيمن علقه « بِواقعٍ » لأنه إذا علق ب « تَعْرُجُ » في أحد الوجهين استحال أن يبدل عنه هذا لأن عروج الملائكة ليس هو في هذا اليوم الذي تكون السماء كالمُهْلِ ، والجبال كالعِهْنِ ، ويشغل كل حميمٍ عن حميمه .
قال أبو حيان : « ولا يجوز هذا » يعني : إبداله من « في يوم » قال : لأن « فِي يَوْمٍ » وإن كان في موضع نصبٍ لا يبدل منه منصوب؛ لأن مثل هذا ليس بزائد ، ولا محكوم له بحكم الزائد ، ك « رُّبَّ » وإنما يجوز مراعاة الموضع في حرف الجر الزائد؛ كقوله : [ الكامل ]
4859 -
أبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمَا بِيدٍ ... إلاَّ يَداً ليْسَتْ لَهَا عَضُدُ
ولذلك لا يجوز « مررتُ بزيد الخياط » على موضع « بزيد » ولا « مررتُ بزيد وعمراً » ، ولا « غضب على زيد وجعفراً » ولا « مررت بزيد وأخاك » على مراعاة الموضع .
قال شهاب الدين : قد تقدم أن قراءة { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } [ المائدة : 6 ] من هذا الباب فمن نصب الأرجل فليكن هذا مثله .
ثم قال أبو حيَّان : فإن قلت : الحركة في « يوم » تكون حركة بناء لا حركة إعرابٍ ، فهو مجرور مثل « فِي يَوْمٍ » .
قلتُ : لا يجوز بناؤه على مذهب البصريين؛ لأنه أضيف إلى مُعرب ، لكنه يجوز على مذهب الكوفيين فيتمشى كلامُ الزمخشريِّ على مذهبهم إن كان استحضره وقصده انتهى .
قال شهاب الدين : إن كان استحضره فيه تحامل على الرجل ، وأي كبير أمر في هذا حتى لا ييستحضر مثل هذا . وتقدم الكلام على المهل في « الدخان » .
قوله : { وَتَكُونُ الجبال كالعهن } .
قيل : « العِهْنُ » هو الصُّوف مطلقاً ، وقيل : يقدر كونه أحمر وهو أضعف الصوف ، ومنه قول زهير : [ الطويل ]
4860 -
كَأنَّ فُتَاتَ العِهْنِ في كُلِّ مَنْزِلٍ ... يَزَالُ بِه حَبُّ الفَنَا لمْ يُحَطَّمِ
الفتات : القطع ، والعِهْنُ : الصُّوف الأحمر ، واحده عهنة .
وقيل : يقيد كونه مصبوغاً ألواناً ، وهذا أليق بالتشبيه؛ لأن الجبال متلونة ، كما قال تعالى : { جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ } [ فاطر : 27 ] .
والمعنى : أنها تلين بعد شدة ، وتتفرق بعد الاجتماع .
وقيل : أول ما تتفرق الجبال تصير رمالاً ثم عِهْناً منفوشاً ، ثم هباءً مَنْثُوراً .
قوله : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } .
قرأ العامة : « يَسْألُ » مبنياً للفاعل ، والمفعول الثاني محذوف ، فقيل : تقديره : لا يسأله نصره ، ولا شفاعته لعلمه أنَّ ذلك مفقود .
وقيل : لا يسأله شيئاً من حمل أو زادٍ .
وقيل : « حَمِيْماً » منصوب على إسقاط الخافض ، أي : عن حميم ، لشغله عنه . قاله قتادة . لقوله تعالى : { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 37 ] .
وقرأ أبو جعفر ، وأبو حيوة ، وشيبة ، وابن كثير في رواية قال القرطبيُّ : والبزي عن عاصم : « يُسْألُ » مبنياً للمفعول .
فقيل : « حميماً » مفعول ثان لا على إسقاط حرف ، والمعنى : لا يسأل إحضاره .
وقيل : بل هو على إسقاط « عَنْ » ، أي : عن حميم ، ولا ذو قرابة عن قرابته ، بل كل إنسان يُسأل عن عمله ، نظيره : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [ المدثر : 38 ] .
قوله : { يُبَصَّرُونَهُمْ } عدي بالتضعيف إلى ثان ، وقام الأول مقام الفاعل ، وفي محل هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها في موضع الصفة ل « حَمِيم » .
والثاني : أنها مستأنفة .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : ما موقع « يُبصَّرُونهُم »؟
قلت : هو كلام مستأنف ، كأنه لمَّا قال : { لاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } قيل : لعله لا يبصره ، فقال : « يُبَصَّرُونهُم » ، ثم قال : ويجوز أن يكون « يبصرُونهُم » صفة ، أي : حميماً مبصرين معرفين إياهم انتهى .
وإنما اجتمع الضميران في « يبصرُونهُم » وهما للحميمين حملاً على معنى العمومِ؛ لأنهما نكرتان في سياق النفي .
وقرأ قتادةُ : « يُبصِرُونهُمْ » مبنياً للفاعل ، من « أبصَرَ » ، أي : يبصر المؤمن الكافر في النار .
فصل في قوله تعالى يبصرونهم
«
يُبصَّرُونهُم » ، أي : يرونهم ، يقال : بصرت به أبصر ، قال تعالى : { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } [ طه : 96 ] ، ويقال : « بصَّرَني زيدٌ بكذا » فإذا حذفت الجار قلت : بصَّرني زيدٌ ، فإذا بنيت الفعل للمفعول ، وقد حذفت الجارَّ ، قلت : بصرت زيداً ، فهذا معنى : « يُبَصَّرونهُمْ » أي : يعرف الحميمُ الحميمَ حين يعرفه ، وهو مع ذلك ، لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه ، فيبصر الرجلُ أباه ، وأخاه ، وقرابته ، وعشيرته ، فلا يسألهُ ، ولا يكلمه؛ لاشتغالهم بأنفسهم .
وقال ابن عبَّاس : يتعارفون ساعة ، ثم لا يتعارفون بعد ذلك .
وقال ابن عباس أيضاً : يُبْصِرُ بعضهم بعضاً ، فيتعارفون ثم يفرُّ بعضهم من بعضٍ ، فالضمير في « يُبَصَّرونهُم » على هذا للكافر ، والهاءُ والميم للأقرباء .
وقال مجاهدُ : المعنى : يُبَصِّرُ الله المؤمنين الكفَّار في يوم القيامةِ ، فالضمير في « يُبَصَّرونهم » للمؤمنين ، والهاءُ والميمُ للكفار .
وقال ابنُ زيدٍ : المعنى : يُبصِّرُ الله الكفار في النار الذين أضلوهم في الدُّنيا ، فالضميرُ في « يُبَصَّرونَهُم » للتابعين ، والهاءُ والميم للمتبوعين .
وقيل : إنه يُبصِرُ المظلومُ ظالمه ، والمقتولُ قاتله .
وقيل : إن الضمير في « يُبصَّرونَهم » يرجع إلى الملائكة ، أي : يعرفون أحوال الناس ، فيسوقون كلَّ فريقٍ إلى ما يليق بهم ، وتمَّ الكلامُ عند قوله : « يُبصَّرُونَهُم » . قوله : « يَوَدُّ المُجرِمُ » ، أي : يتمنَّى الكافرُ { لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ } ، أي : من عذاب جهنم ، وقيل : المرادُ بالمجرم كلُّ مذنب ، وتقدم الكلام على قراءتي « يَومئذٍ » فتحاً وجرًّا في « هود » والعامة : على إضافة « عَذابِ » ل « يَومِئذٍ » .
وأبو حيوة : بتنوين « عذابٍ » ، ونصب « يَومئذٍ » ، على الظرف .
قال ابنُ الخطيب : وانتصابه بعذاب؛ لأن فيه معنى تعذيب .
وقال أبو حيَّان هنا : « والجمهور يكسرها - أي : ميم يومئذ - والأعرج وأبو حيوة : يفتحها » انتهى .
وقد تقدم أنَّ الفتح قراءةُ نافع ، والكسائي .
قوله : { وَفَصِيلَتِهِ التي تُؤْوِيهِ } .
قال ثعلب : الفصيلةُ : الآباء الأدنون .
وقال أبو عبيدة : الفخذ .
وقال مجاهد وابن زيدٍ : عشيرته الأقربون .
وقد تقدم ذكر ذلك عند قوله : « شعوباً وقبائل » .
وقال المُبرِّدُ : الفصيلةُ : القطعةُ من أعضاء الجسدِ ، وهي دون القبيلةِ ، وسُمِّيت عترةُ الرجلِ فصيلته تشبيهاً بالبعض منه .
قال ابنُ الخطيبِ : فصيلة الرجل : أقرباؤه الأقربون الذين فصل عنهم ، وينتمي إليهم؛ لأن المراد من الفصيلة المفصولة؛ لأن الولد يكون مفصولاً من الأبوين ، قال عليه الصلاة والسلام : « فَاطِمَةُ قِطعَةٌ منِّي » فلما كان مفصولاً منهما ، كانا أيضاً مفصولين منه ، فسُمِّيا فصيلة لهذا السببِ .
وكان يقالُ للعباس رضي الله عنه : فصيلةُ النبي صلى الله عليه وسلم لأن العمَّ قائم مقام الأب .
وقوله : « التي تؤويه » ، أي : ينصرونه .
وقال مالك : أمُّه التي تربيه ، حكاه الماورديُّ ، ورواه عنه أشهبُ .
قال شهاب الدين : ولم يبدله السوسي عن أبي عمرو ، قالوا : لأنه يؤدي إلى لفظ هو أثقل منه ، والإبدال للتخفيف .
وقرأ الزهريُّ : « تؤويهُ ، وتُنجِيهُ » بضم هاء الكناية ، على الأصل .
و « ثُمَّ نُنجِيْهِ » عطف على « يَفْتَدِي » فهو داخلٌ في خبر « لَوْ » وتقدم الكلامُ فيها ، هل هي مصدريةٌ أم شرطيةٌ في الماضي ، ومفعول « يَوَدُّ » محذوف ، أي : يودُّ النَّجاة .
وقيل : إنها هنا بمعنى « أن » وليس بشيء ، وفاعل « ينجيه » إما ضميرُ الافتداء الدالُّ عليه « يَفْتَدي » ، أو ضمير من تقدم ذكرهم ، وهو قوله : { وَمَن فِي الأرض } .
و { مَن فِي الأرض } مجرور عطفاً على « بَنِيْهِ » وما بعده ، أي : يودُّ الافتداء بمن في الأرض أيضاً و « حميماً » إما حال ، وإما تأكيد ، ووحد باعتبار اللفظ .
فصل فيما يترتب على معنى « فصيلته » من أحكام
إذا وقف على فصيلته ، أو أوصى لها فمن ادعى العموم حمله على عشيرته ، ومن ادعى الخصوص حمله على الآباء الأدنى فالأدنى ، والأول أكثر في النطقِ ، قاله القرطبي و « تؤويه » تضمه وتؤمنهُ من خوف إن كان به ، { وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } ، أي : ويود لو فدي بهم لافتدى « ثُمَّ يُنجِيْهِ » أي : ويخلصه ذلك الفداءُ ، فلا بُدَّ من هذا الإضمار ، كقوله : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } [ الأنعام : 121 ] أي : وإن أكلهُ لفسقٌ .
وقيل : « يَودُّ المُجرمُ » يقتضي جواباً بالفاء كقوله : { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [ القلم : 9 ] .
والجوابُ في هذه الآية « ثُمَّ يُنجِيهِ » لأنَّها من حروف العطف ، أي يودُّ المجرم لو يفتدي ، وينجيهِ الافتداءُ .
كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
قوله : « كلا » . ردعٌ وزجرٌ .
قال القرطبيُّ : « وإنما تكون بمعنى » حقًّا « ، وبمعنى » لا « وهي هنا تحتمل الأمرين ، فإذا كانت بمعنى » حقًّا « فإن تمام الكلام » ينجيه « وإذا كانت بمعنى » لا « كان تمامُ الكلام عليها . إذ ليس ينجيه من عذاب الله إلا الافتداءُ » .
قوله : { إِنَّهَا لظى نَزَّاعَةً } في الضَّمير ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه ضميرُ النارِ ، وإن لم يجر لها ذكرٌ لدلالة لفظ عذابٍ عليها .
والثاني : أنه ضميرُ القصةِ .
الثالث : أنه ضميرٌ مبهمٌ يترجم عنه الخبرُ ، قاله الزمخشريُّ . وقد تقدم تحقيق ذلك في قوله تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } [ الأنعام : 29 ] .
فعلى الأول يجوز في « لَظَى ، نزَّاعةً » أوجه :
أحدها : أن يكون « لَظَى » خبر « إن » أي إن النار لظى ، و « نزاعة للشوى » خبر ثان ، أو خبر مبتدأ مضمر ، أي هي نزاعة ، أو تكون « لَظَى » بدلاً من الضمير المنصوب و « نزَّاعةً » خبر « إنَّ » .
وعلى الثاني : تكون « لَظَى نزَّاعةً » جملة من مبتدأ وخبر في محل رفع خبراً ل « إنَّ » ، مفسرة لضمير القصةِ ، وكذا على الوجه الثالثِ .
ويجوز أن تكون « نزَّاعةً » صفة ل « لَظَى » إذا لم نجعلها علماً ، بل بمعنى اللهبِ ، وإنما أنِّثَ النعتُ ، فقيل : « نزَّاعةً » لأن اللهب بمعنى النارِ ، قاله الزمخشريُّ .
وفيه نظرٌ؛ لأن « لَظَى » ممنوعةٌ من الصرف اتفاقاً .
قال أبو حيان بعد حكايته الثالث عن الزمخشري : « ولا أدري ما هذا المضمر الذي ترجم عنه الخبر ، وليس هذا من المواضع التي يُفسِّر فيها المفرد الضمير ، ولولا أنه ذكر بعد هذا أو ضمير القصةِ لحملت كلامه عليه » .
قال شهاب الدين : متى جعله ضميراً مبهماً ، لزم أن يكون مفسراً بمفردٍ ، وهو إما « لَظَى » على أن تكون « نزَّاعةً » خبر مبتدأ مضمر ، وإما « نزَّاعةٌ » على أن تكون « لَظَى » بدلاً من الضمير وهذا أقربُ ، ولا يجوز أن تكون « لَظَى ، نزَّاعةٌ » مبتدأ وخبر ، والجملة خبر ل « إنَّ » على أن يكون الضميرُ مبهماً ، لئلاَّ يتحد القولان ، أعني هذا القول ، وقول : إنَّها ضميرُ القصةِ ولم يُعهد ضميرٌ مفسرٌ بجملة إلا ضمير الشأنِ والقصةِ .
وقرأ العامة : « نزَّاعةٌ » بالرفع .
وقرأ حفص ، وأبو حيوة والزَّعفرانِيُّ ، واليَزيديُّ ، وابنُ مقسم : « نزَّاعةً » بالنصب . وفيها وجهان :
أحدهما : أن ينتصب على الحال ، واعترض عليه أبو علي الفارسي ، وقال : حمله على الحال بعيدٌ ، لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال .
قال القرطبيُّ : « ويجوز أن يكون حالاً على أنه حالٌ للمكذبين بخبرها » .
وفي صاحبها أوجه :
أحدها : أنه الضمير المستكنُّ في « لَظَى »؛ وإن كانت علماً فهي جاريةٌ مجرى المشتقات ك « الحارث والعباس » ، وذلك لأنها بمعنى التلظِّي ، وإذا عمل العلم الصريح والكنية في الظرف ، فلأن يعمل العلم الجاري مجرى المشتقات في الأحوال أولى ، ومن مجيء ذلك قوله : [ السريع أو الرجز ]
4861 -
أنَا أبُو المِنْهَالِ بَعْضَ الأحْيَان ... ضمنه بمعنى أنا المشهور في بعض الأحيان .
الثاني : أنَّه فاعل « تَدعُو » وقدمت حاله عليه ، أي : تدعو حال كونها نزَّاعةً .
ويجوز أن تكون هذه الحالُ مؤكدةً ، لأنَّ « لَظَى » هذا شأنها ، وهو معروف من أمرها ، وأن تكون مبنيةً؛ لأنه أمرٌ توقيفيّ .
الثالث : أنه محذوف هو والعامل تقديره : تتلظَّى نزاعة ، ودل عليه « لَظَى » .
الثاني من الوجهين الأولين : أنها منصوبة على الاختصاص ، وعبَّر عنه الزمخشريُّ بالتهويل . كما عبَّر عن وجه رفعها على خبر ابتداء مضمر ، والتقدير : أعني نزاعةٌ وأخصُّها .
وقد منع المبردُ نصب « نزَّاعة » ، قال : لأن الحال إنما يكون فيما يجوز أن يكون وألاّ يكون و « لَظَى » لا تكون إلا نزَّاعةً ، قاله عنه مكِّيٌّ .
وردَّ عليه بقوله تعالى : { وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً } [ البقرة : 91 ] ، { وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً } [ الأنعام : 126 ] قال : فالحق لا يكون إلا مصدقاً ، وصراط ربِّك لا يكونُ إلاَّ مستقيماً .
قال شهاب الدين : المُبرِّدُ بني الأمر على الحال المبنيةِ ، وليس ذلك بلازم؛ إذ قد وردت الحال مؤكدة كما أورده مكيٌّ ، وإن كان خلاف الأصلِ ، واللظى في الأصل : اللهب ، ونقل علماً لجهنم ، ولذلك منع من الصرف .
وقيل : هو اسم للدَّركة الثانية من النارِ ، والشَّوى : الأطراف جمع شواة ، ك « نوى ، ونواة »؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
4862 -
إذَا نَظرَتْ عَرفْتَ النَّحْرَ مِنْهَا ... وعَيْنَيْهَا ولمْ تَعْرفْ شَواهَا
يعني : أطرافها .
وقيل : الشَّوى : الأعضاء التي ليست بمقتل ، ومنه : رماه فأشواه ، أي لم يُصِبْ مقتله ، وشوى الفرس : قوائمه ، لأنه يقال : عَبْلُ الشَّوى .
وقيل : الشَّوى : جمع شواة وهي جلدة الرأس؛ وأنشد الأصمعي : [ مجزوء الكامل ]
4863 -
قَالتْ قُتَيْلَةُ : مَا لَهُ ... قَدْ جُلِّلتْ شَيْباً شَواتُه
وقيل : هو جلد الإنسان ، والشَّوى أيضاً : رُذال المال ، والشيء اليسير .
فصل في معنى الآية
قال ثابت البناني والحسن : « نزَّاعةً للشَّوى » : أي لمكارم وجهه . وعن الحسن أيضاً : إنه الهام .
وقال أبو العالية : لمحاسن وجهه .
وقال قتادة : لمكارم خلقته وأطرافه .
وقال الضحاك : تفري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئاً .
وقال الكسائي : هي المفاصل .
وقيل : هي القوائم والجلود .
قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
4864 -
سَلِيمُ الشَّظَى ، عَبْلُ الشَّوى ، شَنِجُ النَّسَا ... لَهُ حَجَباتٌ مُشرفاتٌ على الفَالِ
قوله : { تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ } .
يجوز أن يكون خبراً ل « إنَّ » أو خبراً لمبتدأ محذوف ، أو حال من « لَظَى » أو من « نزَّاعةً » على القراءتين فيها؛ لأنها تتحملُ ضميراً .
فصل في المراد بالآية
المعنى : تدعُو « لَظَى » من أدبر في الدنيا عن الطَّاعة لله « وتولَّى » عن الإيمان ودعاؤها أن تقول : يا مشرك إليَّ يا كافر إليَّ .
وقال ابن عباس : تدعُو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح : إليَّ يا كافر ، إليَّ يا منافق ، ثم تلتقطهم كما تلتقط الطَّير الحبَّ .
وقال ثعلبٌ : « تَدعُو » ، أي : تهلك ، تقول العربُ : دعاك الله ، أي : أهلكك اللَّهُ .
وقال الخليلُ : إنَّه ليس كالدُّعاء « تعالوا » ولكن دعوتها إياهم تمكنها منهم ، ومن تعذيبهم .
وقيل : الدَّاعي : خزنة جهنَّم أضيف دعاؤهم إليها .
وقيل : هو ضرب مثل ، أي : أنها تدعوهم بلسان الحال ، أي : إنَّ مصير من أدبر ، وتولى إليها ، فكأنَّها الدَّاعية لهم .
ومثله قول الشاعر : [ الكامل ]
4865 -
ولقَدْ هَبَطْنَا الوادِيِيْنِ فَوادِياً ... يَدْعُو الأنيسَ بِهِ الغضِيضُ الأبْكَمُ
الغضيضُ الأبكمُ : الذباب ، وهو لا يدعو ، وإنَّما طنينه نبَّه عليه فدعا له .
قال القرطبيُّ : « والقولُ الأولُ هو الحقيقةُ لظاهر القرآنِ ، والأخبار الصحيحة » .
قال القشيريُّ : ودعا لَظَى بخلقِ الحياةِ فيها حين تدعُو ، وخوارقُ العادةِ غداً كثيرة .
قوله : { وَجَمَعَ فأوعى } . أي : جمع المال فجعله في وعاءٍ ، ومنع منه حق الله تعالى ، فكان جموعاً منوعاً .
قال ابن الخطيب : « جَمَعَ » إشارة إلى حبّ الدنيا ، والحِرْص عليها ، « وأوْعَى » إشارة إلى الأمل ، ولا شكَّ أنَّ مجامع آفات الدين ليست إلاَّ هذه .
وقيل : « جَمَعَ » المعاصي « فأوْعَى » أي : أكثر منها حتى أثقلتهُ ، وأصرَّ عليها ، ولم يَتُبْ منها .
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
قوله : { إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً } .
قال الضحاك : المرادُ بالإنسان هنا الكافر .
وقيل : عام لأنه استثنى منه المصلين ، فدلَّ على أن المراد به الجنس ، فهو كقوله : { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ } [ العصر : 2 ، 3 ] . و « هَلُوعاً » حال مقدرة .
والهلع مُفسَّر بما بعده ، وهو قوله « إذَا ، وإذَا » .
قال ثعلبٌ : سألني محمد بن عبد الله بن طاهر : ما الهلع؟ .
فقلت : قد فسَّره اللَّهُ ، ولا يكون أبينَ من تفسيره ، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع ، وإذا ناله خيرٌ بخل به ومنعه . انتهى .
وأصله في اللغة على ما قال أبو عبيد : أشدّ الحرص وأسوأ الجزع ، وهو قولُ مجاهدٍ وقتادة وغيرهما .
وقد هَلِع - بالكسر - يهلع هلعاً وهلاعاً فهو هلع وهالع وهلوع ، على التكثير .
وقيل : هو الجزع والاضطرابُ السريع عند مسِّ المكروه ، والمنع السَّريعُ عند مسِّ الخير من قولهم : « ناقةٌ هلوَاع » ، أي : سريعة السير ، قال المفسرون : معناه : أنه لا يصبر في خير ولا شر ، حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي .
روى السدِّي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : الهِلوَاع ، الحريصُ على ما لا يحل له .
وقال عكرمة : هو الضَّجور .
وقال الضحاك : هو الذي لا يشبع .
والمَنُوع : هو الذي إذا أصاب حق المال منع منه حق الله تعالى .
وقال ابن كيسان : خلق اللَّهُ الإنسان يحبّ ما يسرُّه ، ويرضيه ، ويهربُ مما يكرهه ، ثم تعبّده الله بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكرهُ .
وقال أبو عبيدة : الهِلواعُ الذي إذا مسَّهُ الخيرُ لم يشكر ، وإذا مسَّهُ الضُّرُّ لم يَصْبِرْ .
وقال عليه الصلاة والسلام : « شَرُّ مَا أعْطِي العَبْدُ شُحُّ هَالِعٌ ، وجُبْنٌ خَالِعٌ » .
والعرب تقول : ناقةٌ هلواعة ، وهلواع إذا كانت سريعة السَّير خفيفة؛ قال : [ الكامل ]
4866 -
صَكَّاءُ ذِعلِبةٌ إذَا استَدْبَرْتَهَا ... حَرَجٌ إذَا اسْتقَبلْتَهَا هِلواعُ
الذِّعِلب والذِّعلِبَة : النَّاقةُ السَّريعةُ .
فصل في إعراب الآية
«
جزُوْعاً ، ومَنُوعاً » فيهما ثلاثةٌ أوجهٍ :
أحدها : أنهما منصوبان على الحال من الضمير في « هَلُوعاً » ، وهو العاملُ فيهما ، والتقدير : هَلُوعاً حال كونه جَزُوعاً ، وقت مسِّ الشَّرِّ ، ومنوعاً وقت مس الخير ، والظَّرفان معمولان لهاتين الحالتين .
وعبَّر أبو البقاء عن هذا الوجه بعبارة أخرى فقال : « جَزُوعاً » حال أخرى ، والعاملُ فيها « هَلُوعاً » .
فقوله : « أخْرَى » يوهم أنها حالٌ ثانية وليست متداخلة لولا قوله : والعامل فيها هلوعاً .
والثاني : أن يكونا خبرين ل « كان » ، أو « صار » مضمرة ، أي : إذا مسَّه الشَّرُّ كان ، أو صار جَزُوعاً ، وإذا مسَّه الخيرُ كان أو صار منوعاً ، قاله مكيٌّ .
وعلى هذا ف « إذا » شرطية ، وعلى الأول ظرف محض ، العامل فيه ما بعده كما تقدم .
الثالث : أنَّهما نعتٌ ل « هَلُوعاً » ، قاله مكيٌّ ، إلاَّ أنَّه قال : وفيه بعد؛ لأنك تنوي به التقديم بعد « إذا » انتهى .
وهذ الاستبعادُ ليس بشيء ، فإنَّه غايةُ ما فيه تقديمُ الظرف على عامله .
وإنَّما المحذورُ تقديمه معمول النعت على المنعوت .
فصل في كلام القاضي
قال القاضي : قوله تعالى { إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً } نظير قوله : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } [ الأنبياء : 37 ] ، وليس المرادُ أنَّه مخلوقٌ على هذه الصفة؛ لأن الله - تعالى - ذمَّه عليها ، والله - تعالى - لا يُذمُّ فعله ، ولأنه استثنى المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم في ترك الخصلةِ المذمومةِ ، ولو كانت هذه الخصلة ضرورية حاصلة بخلق الله تعالى ، لما قدروا على تركها .
قال ابن الخطيب : واعلم أنَّ الهلع لفظ واقع على أمرين :
أحدهما : الحالةُ النفسانيةُ التي لأجلها يقدم الإنسانُ على إظهار الجزع والفزع .
والثاني : تلك الأفعالُ الظاهرة من القول والفعل الدالة على تلك الحالةِ النفسانيةِ ، فلا شك أنَّها تحدثُ بخلق الله - تعالى - لأنَّ من خُلقتْ نفسه على تلك الحالةِ لا يُمكِنهُ إزالةُ تلك الحالةِ من نفسه ، بل الأفعال الظَّاهرة من القول والفعل يمكنه تركها والإقدامُ عليها فهي أمورٌ اختياريةٌ .
وأما الحالةُ النفسانيةُ التي هي الهلع في الحقيقة ، فهي مخلوقةٌ على سبيل الاضطرار .
فصل في المراد بالشر والخير في الآية
قوله : { إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً } .
قيل : المرادُ بالخيرِ والشر : الغِنَى والفقرُ ، أو الصحةُ والمرض ، والمعنى : أنَّه إذا صار فقيراً أو مريضاً أخذ في الجزعِ والشكايةِ ، وإذا صار غنياً ، أو صحيحاً أخذ في منعِ المعروف ، وشحَّ بمالِه .
فإن قيل : حاصلُ هذا الكلام أنَّه نُفُورٌ عن المضار لطلب الراحة ، وهذا هو اللائقُ بالعقل ، فلم ذمَّهُ الله عليه .
فالجوابُ : إنَّما ذمَّهُ اللَّهُ عليه لقصور نظرهِ على الأمورِ العاجلةِ ، والواجبُ عليه أن يكون شاكراً راضياً في كل حالٍ .
قوله : { إِلاَّ المصلين } .
قال النخعيُّ : المرادُ ب « المصلين » : الذين يؤدونَ الصلاة المكتوبة .
وقال ابن مسعودٍ : هم الذين يصلونها لوقتها ، فأمَّا تركها فكفرٌ .
وقيل : هم الصحابة وقيل : هم المؤمنون عامّةً .
قوله : { الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } أي : على مواقيتها .
وقال عقبة بن عامر : الذين إذا صلُّوا لم يلتفتوا يميناً ولا شمالاً .
و « الدائم » الساكن ، ومنه : « نهى عن البول في الماء الدائم » ، أي : الساكن .
وقال ابن جريج والحسن : هم الذين يكثرون فعل التَّطوع منها .
فإن قيل : كيف قال : { على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } وقال في موضع آخر : { على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } [ المؤمنون : 9 ] .
قال ابن الخطيب : دوامُهم عليها ألا يتركوها في وقتٍ من الأوقاتِ ، ومحافظتهم عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها ، حتى يأتي بها على أكمل الوجوه من المحافظة على شرائطها ، والإتيان بها في الجماعة وفي المساجدِ الشريفةِ والاجتهاد في تفريغ القلب عن الوسواس والرياء والسمعة ، وألاّ يلتفت يميناً ولا شمالاً ، وأن يكون حاضر القلب فاهماً للأذكار ، مطلعاً على حكم الصَّلاة متعلق القلب بدخول أوقات الصلواتِ .
قوله : { والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ } .
قال قتادة وابن سيرين : يريد الزكاة المفروضة .
وقال مجاهد : سوى الزكاة ، وقال عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : صلة الرَّحمِ وحمل الكل .
والأول أصح؛ لأنه وصف الحق بأنه معلوم ، والمعلوم هو المقدر ، وسوى الزكاة ليس بمعلوم إنما هو قدرُ الحاجةِ ، وذلك يقل ويكثرُ .
وقال ابنُ عباسٍ : من أدَّى زكاة مالهِ فلا جناح عليه أن لا يتصدق ، وأيضاً فالله - تعالى - استثناهُ ممن ذمَّه ، فدلَّ على أنَّ الذي لا يُعْطِي هذا الحقَّ يكونُ مذموماً ، ولا حقَّ على هذه الصفةِ إلا الزكاة .
وقوله : { لِّلسَّآئِلِ والمحروم } . تقدَّم في الذَّاريات .
قوله : { والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين } [ المعارج : 26 ] ، أي : بيوم الجزاء ، وهو يوم القيامة ، أي : يؤمنون بالبعث ، والنشور .
{
والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ } ، أي : خائفون ، والإشفاق : الخوف إما من تركِ واجبٍ ، وإما من فعلِ محظورٍ ، ثم أكَّد ذلك الخوف بقوله :
{
إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } .
قال ابن عباسٍ : لمن أشرك أو كذَّب أنبياءه .
وقيل : لا يأمنه أحدٌ ، بل الواجبُ على كل أحد أن يخافه ويشفق منه .
{
والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَأِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولئك هُمُ العادون } تقدَّم تفسيرهُ في سورة « المؤمنون » [ المؤمنين : 5 ، 6 ، 7 ] .
{
والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } تقدَّم أيضاً [ المؤمنين : 8 ] .
وقرىء : « لأمَانتِهِم » على التوحيد ، وهي قراءةُ ابن كثير وابن محيصن .
ف « الأمانة » اسم جنسٍ تدخل فيها أماناتُ الدينِ ، فإنَّ الشرائعَ أماناتٌ ائتمنَ اللَّهُ عليها عباده ، ويدخل فيها أمانات الناس من الودائع ، وقد مضى ذلك .
قوله : { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ } .
قرأ حفص : « بِشَهادَاتِهِمْ » جمعاً ، اعتباراً بتعدد الأنواع ، والباقون : بالإفراد ، أو المرادُ الجنس .
قال الواحديُّ : والإفرادُ أولى؛ لأنه مصدرٌ ، فيفرد كما تفرد المصادرُ ، وإن أضيف إلى الجمع ك { لَصَوْتُ الحمير } [ لقمان : 19 ] ومن جمع ذهب إلى اختلافِ الشَّهاداتِ .
قال أكثرُ المفسرينَ : يقومون بالشهادة على من كانت عليه من قريب وبعيد يقومون بها عند الحُكَّام ، ولا يكتمونها .
وقال ابن عبَّاس : بشهادتهم : أن الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله .
قوله : { وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } .
قال قتادةُ : على وضوئها وركوعها وسجودها ، فالدوام خلاف المحافظة فدوامهم عليها محافظتهم على أدائهِا لا يخلُّون بها ، ولا يشتغلون عنها بشيءٍ من الشواغل ، ومحافظتهم عليها أن يُراعُو إسباغَ الوضوءِ لها ، ومواقيتها ، ويقيموا أركانها ، ويكملوها بسننها ، وآدابها ، ويحفظونها من الإحباط باقتراف المآثمِ ، فالدوام يرجع إلى نفس الصلوات ، والمحافظة على أحوالها ، ذكره القرطبيُّ .
ثم قال : { أولئك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ } ، أي : أكرمهم الله فيها ، بأنواع الكرامات .
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
قوله : { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } .
روي أنَّ المشركين كانوا يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم يستمعون كلامه ، ويستهزئون به ويكذبونه ، ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنَّة كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فلندخلنَّها قبلهم ، فنزلت هذه الآية إلى قوله : { أَيَطْمَعُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلاَّ } .
وقال أبو مسلمٍ : ظاهر الآية يدل على أنهم هم المنافقون ، فهم الذين كانوا عنده ، وإسراعهم المذكور هو الإسراعُ في الكفر ، لقوله تعالى : { وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر } [ آل عمران : 176 ] .
و « الإهْطَاعُ » : الإسراعُ .
قال الأخفش : « مُهْطعيْنَ » ، أي : مُسرِعيْنَ ، قال : [ الوافر ]
4867 -
بِمكَّةَ أهْلُهَا ولقَدْ أرَاهُمْ ... إليْهِ مُهْطِعينَ إلى السَّماعِ
والمعنى : ما بالهُمْ يسرِعُونَ إليْكَ ، ويجلسُونَ حولك ، ويعملون بما تأمُرهُمْ .
وقيل : ما بالهم يسرعون في التكذيب لك .
وقيل : ما بالُ الذين كفروا يسرعون إلى السَّماع منك ليعيبوكَ ويستهزئوا بك .
وقال عطيةُ : « مُهْطِعيْنَ » : مُعْرضِيْنَ .
وقال الكلبيُّ : ناظرين إليك تعجُّباً .
وقال قتادةُ : مادّين أعناقهم مديمي النظر إليك ، وذلك من نظر العدو ، وهو منصوبٌ على الحال .
قال القرطبيُّ : نزلت في جميع المنافقين المستهزئين ، كانوا يحضرونه - عليه الصلاة والسلام - ولا يؤمنون به ، و « قبلك » ، أي : نحوك .
قوله : { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ } .
أي : عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وشماله حلقاً حلقاً وجماعات .
قوله : « عِزيْنَ » ، حالٌ من « الَّذين كَفرُوا » .
وقيل : حال من الضمير في « مُهْطعِينَ » فيكونُ حالاً متداخلة ، و « عَن اليَميْنِ » ، يجوز أن يتعلق ب « عزين »؛ لأنَّه بمعنى متفرقين . قاله أبو البقاء .
وأن يتعلق ب « مُهْطِعيْنَ » أي : مسرعين عن هاتين الجهتين ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال ، أي : كائنين عن اليمين . قاله أبو البقاء .
و « عَزِيْنَ » جمع عزة ، والعِزَة : الجماعة . قال مكيٌّ .
قال مكيٌّ : « وإنما جمع بالواو والنون؛ لأنه مؤنث لا يعقل؛ ليكون ذلك عوضاً مما حذفَ منه » .
قيل : إن أصله : عزهة ، كما أنَّ أصل سنة : سنهة ، ثم حذفت الهاء ، انتهى .
قال شهاب الدين : قوله : لا يعقل سَهْو ، لأن الاعتبار بالمدلولِ ، ومدلوله - بلا شك - عقلاء . واختلفوا في لام « عِزَة » على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنَّها « واو » من : « عزوته أعزوه » ، أي : نسبته ، وذلك أنَّ المنسوبَ مضمومٌ إلى المنسوب إليه ، كما أنَّ كلَّ جماعةٍ مضموم بعضها إلى بعض .
الثاني : أنَّها « ياء » ، إذ يقال « عَزيتُه » - بالياء - أعزيه بمعنى عزوته ، فعلى هذا في لامها لغتانِ .
الثالث : أنَّها هاءٌ ، وتجمع تكسيراً على « عِزَهٍ » نحو كسرة وكِسَر ، واستغني بهذا التكسير عن جمعها بالألف والتاء ، فلم يقولوا : « عزات » كما لم يقولوا في « شفة وأمة : شفَات ولا أمات » استغناء ب « شِفَاه وإماء » .
وقد كثر ورودُه مجموعاً ب « الواو » والنون؛ قال الراعي : [ الكامل ]
4868 -
أخَلِيفَةَ الرَّحْمَنِ إنَّ عَشِيرَتِي ... أمْسَى سَرَاتُهُم عِزينَ فُلُولاَ
وقال الكميت : [ الوافر ]
4869 -
ونَحْنُ وجنْدَلٌ بَاغٍ تَركْنَا ... كَتَائِبَ جَنْدلٍ شتَّى عِزينَا
وقال عنترةُ : [ الوافر ]
4870 -
وقِرْنٍ قَدْ تَركْتُ لِذِي وليٍّ ... عليْهِ الطَّيْرُ كالعُصَبِ العِزينِ
وقال آخر : [ الوافر ]
4871 -
تَرانَا عِنْدَهُ واللِّيلُ دَاجٍ ... عَلى أبْوَابِهِ حِلقاً عِزينَا
وقال الشاعرُ : [ الوافر ]
4872 -
فَلَمَّا أن أتَيْنَ على أضَاخٍ ... تَركْنَ حَصاهُ أشْتَاتاً عِزينَا
والعزة لغةً : الجماعة في تفرقة ، قاله أبو عبيدة .
ومنه حديثُ النبي صلى الله عليه وسلم « أنه خرج إلى أصحابه فرآهم حلقاً ، فقال : » مَا لِي أراكُمْ عِزيْنَ ، ألا تصفُّونَ كما تُصَفُّ المَلائِكةُ عِندَ ربِّهَا « ، قالوا : وكيف تصف الملائكةُ؟ قال : » يتمون الصف الأول فيتراصون في الصف « » .
وقال الأصمعيُّ : العِزُونَ : الأصنافُ ، يقال : في الدَّار عزون ، أي : أصناف .
وفي « الصِّحاح » : « العِزَةُ » الفرقة من الناس .
وقيل : العِزَة : الجماعةُ اليسيرةُ كالثلاثة والأربعة .
وقال الراغبُ : « وقيل : هو من قولهم : عَزَا عزاء فهو عز إذا صبر ، وتعزَّى : تصبَّر ، فكأنَّها اسم للجماعة التي يتأسَّى بعضها ببعض » .
قال القرطبيُّ : ويقال : عِزُونَ ، وعُزُون - بالضم - ولم يقولوا : عزات ، كما قالوا : ثبات ، قيل : كان المستهزئون خمسة أرهُطٍ .
وقال الأزهريُّ : وأصلها من قولهم : عَزَا فلانٌ نفسه إلى بني فلانٍ يعزوها عزواً إذا انتمى إليهم ، والاسم : « العَزْوَة » ، كلُّ جماعةٍ اعتزوها إلى آخر واحد .
قوله : { أَن يُدْخَلَ } .
العامة : على بنائه للمفعول .
وزيد بن علي ، والحسن ، وابن يعمر ، وأبو رجاء ، وعاصم في رواية ، قال القرطبي : وطلحة بن مصرف ، والأعرج على بنائه للفاعل .
فصل في تعلق الآية بما بعدها
لما قال المستهزئون : إن دخل هؤلاء الجنَّة كما يقولُ محمدٌ فلندخلنَّها قبلهم ، أجابهم الله - تعالى - بقوله : { كَلاَّ } لا يدخلونها ، ثم ابتدأ فقال : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } أي : أنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نُطفةٍ ، ثم من علقة ، ثم كما خلق سائر جنسهم ، فليس لهم فضلٌ يستوجبون به الجنة ، وإنما يستوجب بالإيمان ، والعمل الصالح ، ورحمة الله تعالى .
وقيل : كانوا يستهزئون بفقراء المسلمينَ ويتكبرون عليهم ، فقال : { إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِّمَّا يَعْلَمُونَ } ، أي : من القذر ، فلا يليقُ بهم هذا التكبرُ .
وقال قتادة في هذه الآيةِ : إنَّما خلقت يا ابن آدم من قذرٍ فاتَّقِ اللَّهَ .
وروي أنَّ مطرف بن عبد الله بن الشِّخيرِ ، رأى المهلَّب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خَزّ وجُبة خَزّ ، فقال له : يا عبد الله ، ما هذه المشية التي يبغضها الله؟ .
فقال له : أتعرفني ، قال : نعم ، أوّلك نطفةٌ مذرةٌ ، وآخرك جيفةٌ قذرةٌ ، وأنت تحمل العذرةَ ، فمضى المهلَّب وترك مشيته .
قال ابن الخطيب : ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً :
أحدها : لما احتج على صحة البعث دل على أنهم كانوا منكرين للبعث ، فكأنه قيل لهم : كلا إنكم منكرون للبعث فمن أين تطمعون بدخولِ الجنَّة .
وثانيها : أنَّ المستهزئين كانوا يستحقرون المؤمنين - كما تقدّم - فقال تعالى : إنَّ هؤلاء المستهزئين مخلوقون مما خلقوا ، فكيف يليق بهم هذا الاحتقار؟ .
وثالثها : أنَّهم مخلوقون من هذه الأشياء المستقذرة ، ولم يتصفوا بالإيمانِ ، والمعرفةِ ، فكيف يليق بالحكمة إدخالهم الجنة؟ .
وقيل : معنى قوله : { خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } ، أي : مراحل ما يعلمون وهو الأمر والنَّهي والثوابُ والعقابُ .
كقول الأعشى : [ المتقارب ]
4873 -
أأزْمَعْتَ من آلِ لَيْلَى ابْتِكَارا ... وشَطَّتْ على ذِي هَوَى أنْ تُزَارَا
أي : من أجل ليلى .
فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } . قد تقدَّم .
وقرأ جماعة : « فلأقسم » دون ألفٍ .
{
بِرَبِّ المشارق والمغارب } ، قرأ العامةَ : بجمع « المشارق ، والمغارب » .
والجحدري وابن محيصن وأبو حيوة ، وحميد : بإفرادهما ، وهي مشارقُ الشمس ومغاربها .
وقوله : « إنَّا لقَادِرُونَ » ، جواب القسم : { على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ } أي : نقدر على إهلاكهم ، وإذهابهم ، والإتيان بخير منهم ، { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } ، أي : لا يفوتنا شيء ، ولا يعجزنا أمرٌ نريده .
قوله : { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ } ، أي : اتركهم يخوضُوا في أباطيلهم ، ويلعبوا في دنياهم على جهة الوعيد ، واشتغل أنت بما أمرت به . وقد تقدم تفسيره في سورة « الطور » .
واختلفوا فيما وصف الله به نفسه بالقدرة عليه ، هل خرج إلى الفعل أم لا؟ .
فقيل : بدل بهم الأنصار والمهاجرين .
وقيل : بدل الله كفر بعضهم بالإيمان .
وقيل : لم يقع هذا التبديلُ ، وإنما ذكر الله ذلك تهديداً لهم لكي يؤمنوا .
قوله : { حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ } .
قرأ ابن محيصن ومجاهد وأبو جعفر : « يَلْقُوا » مضارع « لَقى » ، والمعنى : أنَّ لهم يوماً يلقون فيه ما وعدوا ، وهذه الآية منسوخةٌ بآية السَّيف ، ثُمَّ ذكر ذلك اليوم فقال :
{
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث } ، يجوز أن يكون بدلاً من « يومهم » أو منصوب بإضمار « أعني » .
ويجوز على رأي الكوفيين أن يكون خبر ابتداءٍ مضمر ، وبني على الفتح ، وإن أضيف إلى معرب ، أي : هو يوم يخرجون ، كقوله : { هذا يَوْمُ يَنفَعُ } [ المائدة : 119 ] . وتقدم الكلام عنه مشبعاً .
والعامة : على بناء « يَخْرجُونَ » للفاعل .
وقرأ السلميُّ والمغيرة ، وروي عن عاصمٍ : بناؤه للمفعول .
قوله : « سِراعاً » ، حال من فاعل « يَخْرجُونَ » ، جمعُ سِرَاع ك « ظِرَاف » في « ظَريف » ، و « كأنَّهُمْ » حال ثانية منه ، أو حال من ضمير الحال ، فتكونُ متداخلة .
والأجداثُ : القبور ، ونظيره : { فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } [ يس : 51 ] ، أي : سِرَاعاً إلى إجابة الدَّاعي .
قوله : { إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } . متعلق بالخبر .
والعامَّة : على « نَصْبٍ » بالفتح ، وإسكان الصاد .
وابن عامر وحفص : بضمتين .
وأبو عمران [ الجوني ] ومجاهد : بفتحتين .
والحسن وقتادة وعمرو بن ميمون وأبو رجاء وغيرهم : بضم النون ، وإسكان الصاد .
؟؟؟فالأولى : هو اسم مفرد بمعنى العلمِ المنصوب الذي يُسْرعُ الشخصُ نحوه .
وقال أبو عمرو : هو شَبكةُ الصَّائدِ ، يُسْرِع إليها عند وقوع الصيد فيها مخافة انفلاته .
وأمَّا الثانية ، فتحتملُ ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنه اسم مفرد بمعنى الصنم المنصوب للعبادة .
وأنشد للأعشى : [ الطويل ]
4874 -
وذَا النُّصُبِ المَنْصُوبِ لا تَعْبُدَنَّهُ ... لِعاقِبَةٍ واللَّهَ ربَّك فاعْبُدَا
يعني : إيَّاك وذا النُّصُبِ .
الثاني : إنَّه جمعُ « نِصَاب » ك « كُتُب » و « كِتَاب » .
الثالث : أنَّه جمع « نَصْب » نحو : « رَهْن ورُهُن ، وسَقْف وسُقُف » وهذا قول أبي الحسن .
وجمع الجمع : أنصاب .
وقال النحاسُ : وقيل : نُصُبٌ ونَصْبٌ ، بمعنى واحد ، كما قيل : عُمْر وعُمُر وأسُد وأسْد جمع أسَد .
وأما الثالثة : ففعلٌ بمعنى مفعول ، أي : منصوب كالقَبضِ والنَّقضِ .
والرابعة : تخفيفٌ من الثانية ، والنصب أيضاً : الشر والبلاء ، ومنه قوله تعالى : { أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } [ ص : 41 ] .
؟؟؟؟؟؟؟فصل في معنى قوله : نصب
قال ابن عباس : « إلى نصب » ، أي إلى غاية ، وهي التي ينتهي إليها بصرُك .
وقال الكلبيُّ : هو شيءٌ منصوب علمٌ أو رايةٌ .
وقال الحسنُ : كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمسُ إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أوَّلهم على آخرهم .
و « يُوفضُونَ » : يُسْرعُونَ .
وقيل : يستبقون .
وقيل : يسعون .
وقيل : ينطلقون ، وهي متقاربة ، والإيفاض : الإسراع؛ قال الشاعر : [ المتقارب ]
4875 -
فَوَارسُ ذبْيانَ تَحْتَ الحَدِي ... دِ كالجِنِّ يُوفِضْنَ منْ عَبْقَرِ
وعبقر : موضع تزعم العرب أنه من أرض الجنِّ؛ قال لبيد : [ الطويل ]
4876 - . . ...
كُهُولٌ وشُبَّانٌ كجِنَّةِ عَبقَرِ
وقال الآخر : [ الرجز ]
4877 -
لأنْعَتَنْ نَعَامَةً مِيفَاضَا ... وقال الليثُ : وفضَتِ الإبل تَفضِي وفُضاً ، وأوفضها صاحبُها ، فالإيفاض متعد ، والذي في الآية لازم يقال : وفض وأوفض ، واستوفض بمعنى : أسْرَع .
قوله : { خَاشِعَةً } . حال إما من فاعل « يُوفِضُونَ » وهو أقرب ، أو من فاعل « يَخرُجونَ » وفيه بعدٌ منه ، وفيه تعدد الحال لذي حالٍ واحدةٍ ، وفيه الخلافُ المشهورُ .
و « أبْصارُهُمْ » فاعل ، والمعنى : ذليلةٌ خاضعةٌ لا يعرفونها لما يتوقعونه من عذاب الله .
قوله : { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } ، قرأ العامةُ ، بتنوين « ذلَّة » ، والابتداء ب « ذلِكَ اليَوْمَ » ، وخبره « الَّذي كَانُوا » .
وقرأ يعقوب والتمَّارُ : بإضافةِ « ذلَّة » إلى « ذلك » وجر « اليَوْم »؛ لأنه صفةٌ ، و « الَّذِي » نعتٌ لليومِ .
و « تَرهَقُهمْ » يجوز أن يكون استئنافاً وأن يكون حالاً من فاعل « يُوفضُونَ » أو « يَخرُجُونَ » ، ولم يذكر مكي غيره .
ومعنى : « ترهَقهُمْ » ، أي : يغشاهم الهوانُ والذلة .
قال قتادة : هو سوادُ الوُجوهِ .
والرَّهقُ : الغشيان : ومنه غلام مراهق إذا غشي الاحتلام ، يقال : رهقه - بالكسر - يرهقه رهقاً ، أي : غشيه .
ومنه قوله تعالى : { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ } [ يونس : 26 ] .
{
ذَلِكَ اليوم الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ } ، أي : يوعدونه في الدنيا أنَّ لهم فيه العذاب ، وأخرج الخبر بلفظ الماضي؛ لأن ما وعد الله به ، فهو حقٌّ كائنٌ لا محالةَ .
روى الثَّعلبيُّ عن أبيِّ بن كعبٍ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورَةَ سأل سَائلٍ ، أعْطاهُ اللَّهُ ثَوابَ الَّذينَ لأمَانَاتِهِمْ وعهْدِهِمْ راعثونَ ، والَّذينَ هُمْ على صَلأتِهِمْ يُحَافِظُونَ » .
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
قوله تعالى : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ } .
روى قتادة عن ابن عبَّاسٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : « أوَّل نبيٍّ أرسِلَ نوحٌ عليه الصلاة والسلام ، وأرسِلَ إلى جَميعِ أهْلِ الأرضِ » .
ولذلك لمَّا كفروا ، أغرق الله أهل الأرض جميعاً ، وهو نوح بنُ لامك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وهو إدريس بن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه الصلاة والسلام .
قال وهبٌ : وكلهم مؤمنون ، أرسل إلى قومهِ وهو ابنُ خمسين سنة .
وقال ابن عبَّاسٍ : أربعين سنة .
وقال عبد الله بن شداد : بعث وهو ابنُ ثلاثمائة وخمسين سنة .
قوله : { أَنْ أَنذِرْ } .
يجوز أن تكون المفسرة ، فلا يكونُ لها موضع من الإعراب؛ لأن في الإرسال معنى الأمر فلا حاجة إلى إضمار الباءِ ، ويجوز أن تكون المصدرية ، أي : أرسلناه بالإنذار .
قال الزمخشريُّ : والمعنى : أرسلناه بأن قلنا له : أنذر ، أي : أرسلناه بالأمر بالإنذار . انتهى .
وهذا الذي قدره حسنٌ جدّاً ، وهو جواب عن سؤال تقدَّم في هذا الكتاب ، وهو قولهم : فإنَّ « أنْ » المصدرية يجوز أن توصل بالأمر مشكل؛ لأنه ينسبكُ منها وما بعدها مصدر ، وحينئذ فتفوت الدلالة على الأمر؛ ألا ترى أنَّك إذا قدَّرت « كتبت إليهم بأن قم كتبت إليه القيام » تفوت بالدلالة على الأمر حال التصريح بالمصدر ، فينبغي أن يقدر كما قاله الزمخشريُّ ، أي : كتبت إليه بأن قلتُ له : قُمْ ، أي : كتبتُ إليه بالأمر بالقيامِ .
وقال القرطبي : « أي : بأن أنذر قومكَ ، فموضع » أن « نصب بإسقاط الخافض » .
وقرأ عبد الله : « أنذر قومك » بغير « أن » بمعنى : « قلنا له : أنذر قومك » . وقد تقدم معنى الإنذار في سورة « البقرة » .
وقوله : { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
قال ابن عبَّاسٍ : يعني عذاب النَّار في الآخرة .
وقال الكلبيُّ : هو الطوفان .
وقيل : أنذرهم بالعذاب على الجملة إن لم يؤمنوا ، فكان يدعو قومه وينذرهم ، فلا يجيبونه كما تقدَّم .
{
قَالَ ياقوم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ، أي : مخوف مظهر لكم بلسانكم الذي تعرفونه .
قوله : { أَنِ اعبدوا الله } ، إما أن تكون تفسيرية ل « نَذِيْر » أو مصدرية ، والكلامُ فيها كالكلام في أختها كما تقدم ، والمعنى : وَحِّدوا اللَّه واتَّقُوه ، أي : خافوه « وأطِيعُونِ » فيما آمركم به؛ فإنِّي رسول الله إليكم .
{
يَغْفِرْ لَكُم } جزم « يَغْفِرْ » لجواب الأمر .
قوله : { مِّن ذُنُوبِكُمْ } . في « مِنْ » هذه أوجه :
أحدها : أنَّها تبعيضية .
الثاني : أنَّها لابتداء الغايةِ .
الثالث : أنَّها لبيان الجنسِ ، وهو مردود لعدم تقدم ما تبينُه .
الرابع : أنَّها مزيدةٌ . قال ابن عطية : وهو مذهب كوفيٌّ .
قال شهاب الدين : ليس مذهبهم ذلك؛ لأنهم يشترطون تنكير مجرورها ، ولا يشترطون غيره . والأخفش لا يشترط شيئاً ، فزيادتُها هنا ماشٍ على قوله لا على قولهم .
قال القرطبي : وقيل : لا يصح كونها زائدة؛ لأن « مِنْ » لا تزاد في الواجب ، وإنما هي هنا للتبعيض ، وهو بعض الذنوب ، وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين .
وقال زيد بن أسلم : المعنى يُخرِجُكم من ذنوبكم .
وقال ابن شجرة : المعنى يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها .
قوله : { وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ } .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : كيف قال : « يُؤخِّركُمْ » مع إخبارهِ بامتناع تأخيره؟ .
قلتُ : قضى الله أنَّ قوم نوحٍ إن آمنوا عمَّرهُم ألف سنةٍ ، وإن بقُوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة ، قيل لهم : إن آمنتم أخِّرتُم إلى الأجلِ الأطولِ ، ثم أخبرهُم أنه إذا جاء ذلك الأجل الأمد لا يؤخَّرُ انتهى .
وقد تعلَّق بهذه الآية من يقول بالأجلين وتقدم جوابه .
وقال ابن عباسٍ : أي : يُنْسِىءُ في أعماركم ، ومعناه : أنَّ الله - تعالى - كان قضى قبل خلقهم ، إنْ هم آمنوا بارك في أعمارهم وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب .
وقال مقاتل : يؤخركم إلى منتهى أعماركم في عافية فلا يعاقبكم بالقحطِ وغيره ، فالمعنى على هذا : يؤخركم من العقوبات والشدائد إلى آجالكم .
وقال الزجاج : « أي يؤخركم عن العذاب ، فتموتوا غير موتة المستأصلين بالعذاب » .
وعلى هذا قيل : أجل مسمى عندكم تعرفونه لا يميتكم غَرْقاً ولا حَرْقاً ولا قَتْلاً ، ذكره الفراء . وعلى القول الأول أجل مسمى عند الله .
قوله : { إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ } ، أي : إذا جاء الموتُ لا يؤخَّر بعذاب كان ، أو بغير عذاب ، وأضاف الأجلَ إليه سبحانه؛ لأنه الذي أثبته ، وقد يضاف إلى القوم كقوله تعالى : { إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ } [ يونس : 49 ] ؛ لأنه مضروبٌ لهم ، و « لَوْ » بمعنى « إنْ » أي : إن كنتم تعلمون .
وقال الحسن : معناه : لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يُؤخَّرُ .
وعلى هذا يكون جوابُ « لَوْ » محذوفاً تقديره : لبادرتم إلى ما أمركم به أو لعلمتم كما قال الحسن .
قوله : { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } ، وهذان ظرفان ل « دَعوْتُ » ، والمراد : الإخبار باتصال الدعاء وأنَّه لا يفتر عن ذلك وقيل : معناه سراً وجهراً { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً } ، أي : تباعداً من الإيمان ، وهذا استثناء مفرغ وهو مفعول ثان .
وقراءة العامة : بفتح الياء من « دُعَائِي » .
وأسكنها الكوفيُّون ، ويعقوب والدوري عن أبي عمرو .
قوله : { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ } ، أي : إلى سبب المغفرةِ ، وهي الإيمانُ بك والطاعة لك { جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ } لئلاَّ يسمعُوا دُعائِي { واستغشوا ثِيَابَهُمْ } أي : غطُّوا بها وجوههم لئلاَّ يرون .
قال ابن عبَّاسٍ : جعلوا ثيابهم على رءوسهم لئلاَّ يسمعوا كلامي ، فاستغشاءُ الثِّياب إذن زيادة في سدِّ الآذان حتى لا يسمعوا ، أو لتنكيرهم أنفسهم حتى يسكت ، أو ليعرفوه إعراضهم عنه .
وقيل : هو كنايةٌ عن العداوةِ ، يقال : لبس فلانٌ ثياب العداوةِ « وأصَرُّوا » على الكفر فلم يتوبوا ، « واسْتَكْبَرُوا » عن قبول الحق ، وهو قولهم : { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ] .
قوله : « لِتَغْفِرَ » ، يجوز أن تكون للتعليل ، والمدعو إليه محذوفٌ ، أي : دعوتهم للإيمان بك لأجلِ مغفرتك لهم ، وأن تكونَ لام التَّعديةِ ، ويكون قد عبَّر عن السبب بالمسبب ، الذي هو حظهم ، والأصل دعوتهم للتوبة التي هي سببٌ في الغفران .
و « جَعلُوا » ، هو العامل في « كُلَّمَا » وهو خبر « إنِّي » .
قوله : « جِهَاراً » ، يجوز أن تكون مصدراً من المعنى؛ لأنَّ المعنى يكون جهاراً وغيره ، فهو من باب « قعد القُرفُصَاء » ، وأن يكون المرادُ ب « دعوتهم » : جاهرتهم . وأن يكون نعت مصدر محذوف أي : دعاء جهاراً .
وأن يكون مصدراً في موضع الحالِ ، أي : مجاهراً ، أو ذا جهارٍ ، أو جعل نفس المصدر مبالغة .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : ذكر أنه دعاهم ليلاً ونهاراً ، ثم دعاهم جهاراً ، ثُمَّ دعاهم في السرِّ والعلن فيجب أن يكون ثلاث دعواتٍ مختلفاتٍ ، حتى يصح العطفُ .
قلتُ : قد فعل - عليه السلام - كما يفعل الذي يأمُر بالمعروفِ ، وينهى عن المنكرِ في الابتداء بالأهون ، والترقي إلى الأشدِّ فالأشدِّ ، فافتتح في المناصحة بالسرِّ فلما لم يقبلوا ثَنَّى بالمجاهرة ، فلمَّا لم يقبلوا ثلَّث بالجمع بين السرِّ والإعلان ، ومعنى » ثُمَّ « للدلالة على تباعد الأحوال؛ لأن الجهاد إذا غلظ من الإسرار ، والجمعُ بين الأمرين ، أغلظُ من إفراد أحدهما » .
وقال أبو حيان : « وتكرر كثيراً له أنَّ » ثُمَّ « للاستبعاد ، ولا نعلمه لغيره » .
وقوله : « اسْتِكبَاراً » . قال القرطبيُّ : تفخيم .
فصل في معنى الآية
معنى : « جِهَاراً » ، أي : مظهراً لهم الدعوة ، وهو منصوب ب « دَعوْتهُمْ » بنصب المصدر .
{
ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } .
أي : لم أبقِ مجهوداً .
وقال مجاهد - رضي الله عنه - : معنى « أعْلَنْتُ » صِحْتُ ، { وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } بالدعاءِ عن بعضهم من بعض .
وقيل : « أسْرَرْتُ لهم » أتيتُهم في منازلهم وكلُّ هذا من نوح - عليه الصلاة والسلام - مبالغةٌ في الدعاءِ ، وتلطف في الاستدعاءِ .
وفتح الياء من « إنِّي أعلنْتُ » ، الحرميون وأبو عمرو ، وأسكنها الباقون .
قوله : { فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ } ، أي سلوه المغفرة لذنوبكم بإخلاص الإيمان { إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } وهذا من ه - تعالى - ترغيبٌ في التوبة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « الاسْتغفَارُ مَمحاةٌ للذنُوبِ » .

قلت المدون التالي بمشيئة الله هو ج71.وج72.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...