حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

ج23.وج24.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 

ج23.وج24.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

ج23.وج24.كتاب : تفسير اللباب

اولا :

ج23. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
قوله : « لم يصلوا » الجُمْلة في محلِّ رَفْع؛ لأنها [ صفة ل « طَائِفة » بعد صِفَةٍ ، ويجُوز أن يكُون في مَحَل نَصْب على الحَال؛ لأن النَّكِرَة ] قَبْلَهَا تخصَّصت بالوَصْفِ بِأخْرى . ثم قال { وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } والمعْنَى : أنه - تعالى- جعل الحَذَر : الَّذِي هو التحذُّر والتَّيَقُّظ آلة يِسْتَعْمِلُهَا الغازي؛ فَلِذَلِكَ جمع بينَه وبين الإسْلِحَةِ في الأخْذِ؛ وجُعِلاَ مأخُوذَيْن ، وهذا مَجَازٌ؛ كقوله : { تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } [ الحشر : 9 ] في أحَد الأوْجُه .
قال الوَاحِدِيِ : رحمه الله تعالى : وفيه رُخْصَة للخَائِفِ في الصَّلاة ، بأن يَجْعَل بَعْضَ فكْره في غَيْرِ الصَّلاةِ .
فإن قيل : لِمَ ذَكَرَ في الآيَةِ الأولى : « أسْلِحَتُهم » فقط ، وفي هذه الآيَة ذكر « حِذْرَهُم وأسلحتهم » ؟ فالجوابُ : أن في أوَّل الصلاة قلَّما يَتَنَبِهُ العَدُوُّ : لكون المُسْلِمِين في الصَّلاة ، بل يظُنُّون كونهمُ قَائِمين لأجْل المُحَارَبة ، وأما في الرُّكْعَة الثَّانِيَة ، فقد يَظْهَرُ للعَدُوِّ كونهم في الصَّلاة ، فَهُهُنا يتنهزُون الفُرصة في الهُجُوم عليهم ، فلذلك خَصَّ الله [ -تعالى- ] هذا المَوْضِع بزِيَادَة تَحْذِير .
ثم قال : « ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم » قد تقدم الكلام في [ « لو » ] الواقعة بعد « وَدَّ » في البَقَرَة [ آية : 109 ] .
وقرئ : « وأمتعاتكم » وهو في الشُّذُوذِ من حَيْث إنَّه جَمْع الجَمْعِ ، كقولهم : أسْقِيَات وأعْطِيَات . { فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً } أي : يتمنَّون لو وَجدُوكُم عَافِلِين عن أسْلِحَتِكُم ، فيقْصِدُونكم ويَحْمِلُون عَلَيْكُم حملة وَاحِدَة .
رُوِيَ عن ابْن عَبَّاس : وجابر : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صلَّى بأصْحَابِه الظُّهْر ، ورأى المُشْرِكُون ذَلِكَ ، فَقَالُوا بعد ذلك : بِئْسَ ما صَنَعْنا ، حيث ما أقْدَمْنا عليهم ، وعَزَمُوا على ذَلِكَ عند الصَّلاة الأخْرَى ، فأطْلَعَ اللهُ نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم على أسْرَارِهِم بِهَذِهِ الآيَةِ .
فصل
قال الإمامُ أحمد - رحمه الله تعالى- « صحَّ عن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صلاة الخَوْفِ من خمْسة أوْجُه أوْ سِتَّة [ أوْجُه ] ، كل ذلك جَائِزٌ .
الأول : إذا كان العَدُوُّ من جهة القِبْلَة ، صف الإمَامُ المُسْلِمِين خَلْفَه صَفَّيْن ، فصلّى بهم جميعاً إلى أن يَسْجُد؛ فَيَسْجُد معه الصَّف الذي يَلِيهِ ، ويَحْرُس الآخَر ، فإذا قَامَ الإمَامُ إلى الثَّانِيَةِ سجد الآخَرَ ولَحِقَهُ ، فإذا سَجَدَ لثَّانِيةِ ، سجد معه الصَّفُّ الذي حَرَس ، وحَرَس الأوَّل ، فإذا جَلَس للتَّشَهُّد ، سجد الأوَّل ، ولحقه في التَّشَهُّد ويسلم بهم .
الثاني : إذا كان العَدُوُّ في غَيْرِ جهة طَائِفَة [ تجاه ، العَدُوِّ ، وطائفةً ] تُصَلِّي مَعَهُ رَكْعَة ، فإذا قَامَ إلى الثَّانِيةِ ثَبَت قَائِماً وأتمَّت لأنفُسِها أخْرى ، [ وسلمت ومضت إلى العَدُوِّ ، وجاءت الأخْرَى ، فَصَلَّت معه الثَّانِية ، فإذا جَلَس ، أنهت لأنفُسِهَا أخْرَى ] .
وتشهدت ثم سَلَّم بهم ، وإن كانَت الصَّلاةُ مَغْرباً ، صلّى بالأولى رَكعتين وبالثَّانية ركعة ، وإنْ كانت رُباعيَّة ، صَلَّى بكل طائِفَةً ركْعَتَيْن وأتمَّت الأولَى ، بالحَمْد لله في كل رَكْعَة ، والأخرى تتم بالحَمْد لله وسُورة ، وهل تُفَارِقُه الأولَى في التِّشَهُّدِ ، أوْ في الثَّانِيَة على وَجْهَيْن ، وإن فَرَّقَهُم أرْبَعاً ، فصلى بكلِّ طَائَفَةٍ ركْعَة ، صحَّت صلاة الأولَى وبَطَلَت صَلاَةُ الأمَامِ والآخرين وإن عَلموا بطلان صَلاَة الآخرين؛ فلأنهم ائتمُّوا بمن صلاته بَاطِلَة ، فأمَّا إذَا لم يعلموا ، فهم مَعْذُورُونَ .
الثالث : أن يُصَلِّي بطائِفَةٍ رَكْعَة ، ثم تمْضِي إلى العَدُوِّ ، وتأتي الأخْرَى ، فيُصلي بها رَكْعَةً ويسلم وَحْدَه وتمضي ، ثم تأتي الأخرى فتتم صلاتها وتمْضِي هي : ثم تأتي الأولى فتتم صلاتها .
الرابع : أن يُصَلَّي بِكُلِّ طائفة صَلاَةً ، ويُسَلِّم بِهَا .
الخامس : أن يُصَلِّي [ بكلِّ ] الرُّباعيَّة تامَّة ، وتصلي مَعَهُ كل طَائِفةِ رَكْعَتَيْن ولا يَقْضِي شَيْشاً ، فتكون له تامَّة ولَهُم مَقْصُورَة .
فصل
إذا اشْتَدَّ الخَوْف عند التحام الحَرْب ، يصلي كَيْفَما أمْكَن رِجَالاً ورُكْبَاناً إلى القِبْلَة وإلى غيرها يؤمِنُون إيماءً بالرُّكوع والسُّجود ، وكَذَلِك كلّ خَائِفٍ على نَفْسِه فإن لم يَقْدِ على الإيمَاءِ أخَّروا الصَّلاة إلى انْكِشَاف الحَالَةِ .
قال مَالِكٌ وجماعة : يصلي الطَّالِب والمَطْلُوب كُلُّ واحد منهما على دَابَّتِهِ؛ كالخائف سَوَاء .
وقال الأوْزَاعِيّ ، والشَّافِعي ، وفُقَهَاء المُحَدّثين ، وابن عَبْد الحكم : ولا يصَلِّي الطَّالِب إلاَّ بالأرْضِ .
قال القُرْطُبِي : وهو الصَّحيحُ؛ لأنَّ الطَّلب تَطَوُّعٌ ، والمكْتُوبَة فَرْضٌ ، والفرض إنَّما يُصَلَّى بالأرْض حَيْثُ ما أمْكَن .
[ ثم ] قال - تعالى- : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ } فقوله : « أنْ تَضَعُوا » ؛ كقوله « أنْ تَقْصُرُوا » وقد تقدم ، « وخُذوا حِذْرَكُم » رَخَّصَ في وَضْع السِّلاح في حَالِ المَطَر والمَرَضِ؛ لأن السِّلاح [ يثْقُل حَمْلُه في هَاتين الحَالَتَيْن ، أو لأن حدته تَفْسُد بالبَلَلِ ، ولمّا رَخَّص في وَضْعَ السِّلاح ] حالَ المَطَرِ والمَرَضِ ، أمر بالتَّيَقُّظ والحَذِر؛ لِئَلاَّ يَهْجُم العَدُو عليهم .
روى الكَلْبِيُّ : عن أبي صَالِح ، عن ابن عبَّاس- رضي الله عنهما- نزلت في رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، « وذَلِكَ أنَّه غَزا مُحَارِباً وبني أنمارٍ ، فنزلوا ولا يَرون من العَدُوِّ أحداً ، فوضع النَّاس أسْلِحَتَهُم ، وخرج رسُول الله صلى الله عليه وسلم لِحَاجَة له قد وضع سِلاحه ، حتى قطع الوَادِي والسَّماء تَرُشُّ ، فَحَالَ الوادي بَيْنَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم وبين أصْحَابَه؛ فجلس رسُول الله صلى الله عليه وسلم في ظلِّ شجرة ، فَبَصُر بِهِ غوْرَث بن الحَارِث بما شئت ، ثم أهْوَى بالسَّيف إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ليضْرِبَه ، فانكب لوجِهِهِ من زَلْخَةٍ زُلخَها بَيْنَ كَتِفَيْه ، وندر سَيْفَه ، فقام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه ، ثم قال : يا غَوْرَث ، من يَمْنَعُك مِنِّي الآن؟ قال : لا ولكن أشهد ألا أقاتِلك أبَداً ولا أعينُ عليك عدوّاً ، فأعطاه رسُول الله صلى الله عليه وسلم سَيْفَه ، فقال غَوْرَث : والله أنْتَ خَيْرٌ مِنِّي ، فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أجلْ أنا أحَقُّ بذلك مِنْك ، فرجَعَ غَوْرَث إلى أصْحَابِه ، فقالوا : ويْلَكَ ما مَنَعَك مِنْهُ ، قال : لقد أهْوَيتُ إليه بالسَّيْف لأضربه فوالله ما أدْرِي من زَلَخَنِي بين كَتفي فخررت لوجِْهي ، وذكر حَالَه قال : وسكن الوادي ، فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي وأصْحَابه فأخبرهم الخبر »
، وقرأ هذه الآية : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } أي : من عدُوِّكم ، وقال سعيدُ بن جُبَير عن ابن عبَّاس في هذه الآية : كان عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْف جَرِيحاً .
فصل
أمر أولاً بأخذ الحَذَر والأسلحة ، فَدَلَّ على وُجُوبِهِ ، ويؤكِّدُه قوله ههنا : لا جناح عليكم إن كانَ بَكُمْ أذَى من مَطَرٍ أَوْ كنتم مَرْضَى [ أن تضعوا أسلحتكم ] فخصَّ رفع الجُنَاح في وَضْع السِّلاح بهاتين الحَالَتين ، وذلك يَدُلُّ على أنَّ ما عَدَا هَاتَيْن الحَالَتَيْن ، يكون الأثْم والجناحُ حَاصِلاً بسبب وضع السِّلاحِ . وقال بعضُهم : إنه سُنَّة مؤكَّدة ، ثم الشَّرط : ألاَّ يحمل سِلاحاً نجساً إن أمْكَنة ولا يَحْمِل الرُّمح إلاَّ في طَرَف الصَّفِّ ، بِحَيْثُ لا يَتَأذَّى به أحَد .
فصل
دَلَّت الآيَة على وُجُوب الحَذَر من العَدُوِّ ، فتدلُّ على وُجُوب الحَذَرِ عن جَمِيع المَضَارِّ المظْنُونة؛ كالعِلاَج بالدَّوَاء والاحترازِ عَنِ الوَبَاءِ وعن الجُلُوس تَحْتَ الجِدَارِ المَائِل .
فصل
قالت المُعتَزِلَة : الأمر بالحَذَر يدلُّ على كَوْن العَبْدِ قادراً على الفِعْل والتَّرْكِ ، وعلى جميع وجوه الحَذَر ، وذلك يَدُلُّ على أنَّ فِعل العَبْد لَيْسَ مَخْلُوقاً لله - تعالى- .
وجوابه : المُعَارَضَة بِمَسْألة العِلْمِ والدَّاعي .
ثم قال- تعالى- : { إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } أخْبر [ -تعالى- ] بأنه يُهِينهم ويَخْذُلهم؛ تقوية لقُلُوب المُسْلِمِين .
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
أي : وإذا فَرَغْتُم ، قضيتم صلاة الخوف أي : فرغتم من الصَّلاة ، وهذا يَدُلُّ على أن القَضَاء ، يستَعْمَلُ فيما فُعِلَ في وَقْتِهِ ، ومنه قوله : [ -تعالى- ] : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ } [ البقرة : 200 ] ، ثم قال : { فاذكروا الله } أي : صَلُّوا لله « قياماً » في حال الصِّحَّة و « قُعُوداً » في حال المَرَضِ « وعلى جُنُوبِكُ » عند الجروح والزِّمَانَة ، وقيل : قِيَاماً : حال المسايفة ، وقعوداً : حال اشتِغَالكُم بالرَّمي وعلى جُنُوبكم : حالٌ سُقُوطكم على الأرْض مَجْروحين فقوله « قِياماً [ وقعودا ] » حالان من فَاعِل « اذكُرُوا » وكذلك « وعلى جُنُوبِكُم » فإنه في قُوَّة : مُضطَجِعِين؛ فيتعلَّق بِمَحْذُوفٍ .
« فإذا أطْمَأنَنْتُم » أي : أمِنْتُم ، فالطُّمأنينة : سكُون النَّفس من الخَوْفِ حين تضع الحَرْبُ أوزارها ، « فأقِيموا الصَّلاة » أي : أتمُّوها بأرْكَانِها وقد تقدَّم الكَلاَم في البَقرة [ آية : 260 ] على قوله اطمأننتم ، وهل هيَ مَقْلُوبَةٌ أمْ لا؟
وصرح أبو البَقَاءِ هنا بأنَّ الهَمْزَة أصْلٌ وأنَّ وَزْن الطُّمأنينة : فُعَلَّيلية ، وأن « طَأمَن » أصل أخَرَ برأسه ، وهذا مَذْهَبُ الجَرْمِي .
واعلم أنَّه قد تَقَدَّم حُكْمان :
أحدهما : قَصْر صلاة المُسَافِر .
والثَّاني : صَلاة الخَوْفِ؛ فقوله : { فَإِذَا اطمأننتم فَأَقِيمُواْ الصلاة } [ يحتمل أنكُم صِرْتم مقمين غير مُسَافِرين من الاطْمئْنَان فأقيموا الصَّلاة ] أي : أتمُّوها أرْبَعاً ، ويحتمل أن يَكُونَ المُراد من الاطْمِئْنَان ألاَّ يَبْقَى الإنْسَان مضْطَرب القَلْب ، بل يَصِير سَاكِن القَلْبِ؛ بسبب زَوَالِ الخَوْفِ ، فعلى هذا فالمراد بإقامَة الصَّلاة : فعلها في حَالَةِ الأمْن .
ثم قال { إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً } أي : فَرْضَاً موقوتاً ، قال مُجَاهِد : وَقَّتَه الله عَلَيْهم ، وقيل : واجِباً مَفْروضاً مقدراً في الحَضَر أرْبَعِ رَكَعَاتٍ ، وفي السَّفَر ركْعَتَيْن ، والمراد بالكتاب هَهُنَا : المكْتُوب؛ كأنه قيل : مكْتُوبَة مؤقتة و « مَوْقُوتاً » : صِفَة ل « كتاباً » بمعنى : مَحْدُوداً بأوقات ، فهو مِن : وَقَتَ مُخَفَّفاً؛ كَمضروبٍ من ضَرَبَ ، ولم يَقُل : « مَوْقُوتَة » بالتَّاء مُرَاعاة ل « كتاب » فإنَّه في الأصْل مَصْدَر ، والمَصْدَر مُذَكَّر ، ومَعْنَى الموْقُوت : أنها كُتِبَت عَلَيْهِم في أوْقَات مؤقتة ، يقال : وقَّته وَوَقَتَه مخففاً ، وقُرِئ : { وَإِذَا الرسل وُقِّتَتْ } [ المرسلات : 11 ] بالتَّخْفِيفِ .
فصل
دلَّت هذه الآيَة على أنَّ وُجُوب الصَّلَواتِ مقدَّر بأوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ ، إلاَّ أنَّه - تعالى - أجْمَل الأوْقَات هَهُنَا وبَيَّنَها في مَوَاضِع أخر ، وهي خَمْسَة .
أحدُها : قوله [ -تعالى- ] { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } [ البقرة : 238 ] فقوله : « الصَلَوَات » يدل على ثَلاثِ صَلَواتٍ ، وقوله : « [ و ] الصَّلاة الوُسْطَى » يَمْنَع أن يَكُون أحد تِلْكَ الثَّلاث ، وإلا يَلْزَم التِّكْرَار ، فلا بُدَّ وأن تَكُون زَائِدَة على الثَّلاث ولا يُمْكِن أن يكونُ الوَاجِبُ أرْبَعَة؛ لعدم حُصُول الوُسْطَى فِيَهَا ، فلا بُدَّ من جَعْلِها خمْسَةً؛ لتحصل الوُسْطَى ، وكما دَلَّت هَذِهِ الآيَة على وُجُوب خمس صلواتٍ ، دلت على عَدَمِ وجُوبِ الوتْر ، وإلا لَصَارَت الصَّلَواتُ الوَاجِبَة سَتَّة ، وحينئذٍ لا تَحْصُل الوُسْطَى ، فهذه الآية دَلَّت على وُجُوب الصَّلَواتِ ، لا على بَيَانِ الأوْقَاتِ ، وأما الآيَات الأرْبَع البَاقِيَة ، فَمَذْكُورة [ في البقرة ] عند قوله : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات } [ البقرة : 238 ] .
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
لما ذكر بَعْض الأحْكَام الَّتِي يحتَاج المُجَاهِد إلى مَعْرِفتها ، عاد مَرَّة أخرى إلى الحَثِّ على الجِهَاد ، فقال : « وَلا تَهِنُوا : أي : ولا تَضْعُفُوُا ، ولا تَتَوانَوْا ، الجمهورُ : على كَسْر الهاء ، والحَسن : على فتحها من » وَهِن « بِالكَسْر في الماضِي ، أو من » وهَن « بالفَتْح ، وإنما فُتِحَت العَيْن؛ لكونها حَلْقِيةً ، فهو نحو : يَدَع .
وقرأ عُبَيْد بن عُمَيْر : » تُهَانَوْا « من الإهانة مبنيَّاً للمَفْعُول ، ومعناه : لا تَتَعاطَوا من الجُبْنِ والخَوَر ، ما يكون سَبَباً في إهَانتكم؛ كقولهم : » لا أرَيَنَّك هَهُنَا « .
وقوله : { فِي ابتغآء القوم } أي : في طَلَبِهِم ، وسبب نزولها : أنَّ أبا سُفْيَان وأصْحَابَهُ لمَّا رَجَعُوا يوم أُحُد ، بعث رسُول الله صلى الله عليه وسلم [ طائفة ] في آثارِهِم ، فَشَكُوا ألَم الجِرَاحِ ، فقال- تعالى- : { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم } أي لا تَضْعُفُوا في طلب أبِي سُفْيَان وأصْحَابَهُ ، { إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ } : تتوجَّعُون من الجِرَاح ، » فإنَّهُمْ يَألَمُون « أي : يتوجَّعُونَ كما تألمون ، والمَعْنَى : أنَّ حصُول الألمِ قدر مُشْتَركٌ بينكم وبَيْنَهُم ، فلمَّا لم يَكُن خوف الألَمِ مانِعَاً لَهُم عن قَتَالِكُم ، فكيف يَصير مَانِعاً لكم عن قِتَالِهِم .
قرأ يَحْيَى بن وَثَّاب ، ومنصور بن المُعْتَمِر : » تِئلمون فإنهم يِئلمون كما تِئلمون « بكسر حَرْفِ المُضارَعَةِ ، وابن السَّمَيْفَع : بكسر تَاءِ الخطَاب فقط ، وهذه لُغةٌ ثَابِتَة ، وقد تقدم في الفَاتِحَة أنَّ مَنْ يَكْسِرُ حَرفَ المُضَارعة يَسْتَثْنِي التَّاء ، وتقدم شُذُوذ » تِيجَل « ووجْهه ، وزاد بُو البقاء في قِرَاءة كَسْر حَرْف المُضَارعة قَلْبَ الهَمْزَة ياءً ، وغيرُه أطلق ذلك .
وقرأ الأعْرَج : » أن تَكُونُوا تألَمون « بفتح هَمزة » أنْ « والمعنى : ولا تَهِنُوا لأنْ تَكُونوا تألمون .
وقوله : { فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ } تعليل قوله : { وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ } [ أي : وأنتم مع ذَلِكَ تأمَلُون من الأجْر والثواب في الآخرة ، والنَّصَر في الدُّنْيَا ما لا يَرْجُون ] ، فأنتم أوْلَى بالمُصَابَرةِ على القِتَال من المُشْرِكين؛ لأن المُؤمِنِين مُقِرُّون بالثَّواب والعِقَابِ ، والحَشْر والنَّشر ، والمُشْرِكون لا يقرون بذلِك ، فإذا كانُوا مع إنْكَارِهِم ذلك مُجِدِّين في القِتَال ، فأنتم أيُّهَا المؤمِنُون المُقِرُّون بأنَّ لكم في الجِهَادِ ثَواباً ، وعليكم في تَرْكِهِ عِقَاباً أوْلَى بالجِدَّ في الجَهَادِ .
وقال بَعْض المُفَسَّرين : المراد بالرَّجَاء : الخَوْف؛ لأنَّ كل رَاج خَائِفٌ ألاَّ يُدْرِك مأمُولَة ، ومعنى الآيَة وترجُونَ ، أي : تَخَافُون من عَذَاب اله ما لا يَخَافُون . قال الفرَّاء : ولا يكون الرَّجَاء بمعنى الخَوْف إلا مع الجدّ؛ كقوله - تعالى- : { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله } [ الجاثية : 14 ] ، [ أي : لا يَخَافُون ] ، وقال - تعالى- : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح : 13 ] أي : لا تَخَافُون لله عِظَة ، ولا يجُوز : رَجَوْتُك ، يَعْنِي : خِفْتُك ، وأنت تُرِيد : رَجَوْتُك .
قال ابن الخَطِيب : ويُحْتَمَل أنَّكم تَعْبُدون الإله ، العَالِم القَادِر ، السَّمِيع ، البَصِير ، فيصحُّ منكم أنْ تَرْجُوا ثَوَابَه ، وأما المُشْرِكُون : فإنَّهم يَعبدون الأصْنَام وهي جَمَادات؛ فلا يَصِحٌّ منهم أنْ يَرْجُوا منها ثَوَاباً ، أو يَخَافُوا منها عِقَاباً .
ثم قال : { وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } أي : لا يُكَلِّفُكُم إلاَّ ما يَعْلَم أنَّه سَبَب لِصَلاحِ دِينكُم ودُنْيَاكُم ، وقد تقدم [ أنَّه إذا ] ذكر » الحَكِيم « بعد قوله : » العَلِيم « فالمرادَ بالحَكيم : أنه العَالِمُ بَعَواقِب الأمُور ، وقالت المُعْتَزِلَةُ : المُرادُ بالحَكِيم : هو الَّذِي يضع الأسْبَاب للمصَالِح .
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
في كيفية النَّظم وجُوهٌ :
أحدُها : أنَّه - تعالى - لما شَرَح أحْوَال المُنافِقِين وأمْر بالمُحَارَبَة ، وما يتَّصِل بها من الأحْكَام الشَّرْعِيَّة ، مثل قَتْل المسلم خَطَأ وصَلاَة المُسَافِر ، وصلاة الخَوْف ، رجع بَعْد ذَلِك إلى بَيَان أحْوَال المُنَافِقِين؛ لأنَّهم كانوا يُحَاوِلُون [ حَمْل ] الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - على أنْ يَحْكُم بالبَاطِل ويترك الحكمَ بالحَقِّ ، فأمره الله - تعالى - بألاَّ يلتَفِت إليْهِم في هذا البَابِ .
وثانيها : أنه - تعالى - لمَّا بيَّن الأحْكَام الكَثِيرة في هذه السُّورة ، بيَّن أنَّها كلها إنَّما عُرِفَت بإنْزَال الله - تعالى - ، وأنَّه ليس للرَّسُول أن يَحِيد عَنْ شَيْءٍ منها؛ طلباً لِرِضا القَوْمِ .
وثالثها : أنَّه - تعالى - لما أمَر بالمجاهدة مَعَ الكُفَّار ، بَيَّن أن الأمْر وإن كَانَ كَذَلِك ، لكنه لا يَجُوزُ الخِيَانَة مَعَهُم ولا إِلْحَاق ما لَمْ يَفْعَلُوا بهم ، وأنَّ كُفْر الكَافِر لا يصحُّ المُسَامَحة له ، بل الوَاجِبُ في الدِّين : أن يحْكم له وعَلَيْه بِمَا أنْزَل اللَّه على رسُولِهِ ، وإن كان لا يَلْحَق الكَافِر حَيْفٌ؛ لأجْل رِضَى المُنَافِق
[ قول : « بالحَقِّ » : في محلِّ نصبٍ على الحَالِ المُؤكِّدة ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، وصاحبُ الحَالِ هو الكِتَابُ ، أي : أنزلنا مُلْتسباً بالحَقِّ ، و « لتحكمْ » : متعلِّق ب « أنْزلنا » ، و « أراك » متعدٍّ لاثنين : أحدهما : العائدُ المَحْذُوفُ ، والثاني : كافُ الخطَابِ ، أي : بما أراكَهُ الله . والإراءةُ هنا : يجوزُ أن تَكُون من الرَّأي؛ كقولك : « رأيتُ رَأيَ الشَّافِعِي » ، أو من المَعْرِفة ، وعلى كلا التَّقْدِرين؛ فالفعلُ قبل النَّقْل بالهَمْزة متعدٍّ لواحد ، وبعدَه مُتَعَدٍّ لاثنين ] .
وقال أبو عَلِيٍّ الفَارِسِي : [ قوله ] « أرَاكَ اللَّهُ » إمّا أن يَكُون مَنْقُولاً بالهَمْزَة من « رَأيْت » ، الَّتِي يُرَاد بها رُؤْيَةُ البَصَر ، أو من « رَأيْت » [ الَّتِي ] تتعدَّى إلى مَفْعُولَيْن ، أو من « رأيْتُ » الَّتِي يُرَاد بها الاعْتِقَاد .
والأوَّل : بَاطِلٌ؛ لأنَّ الحُكْمَ في الحَادِثَةِ لا يُرَى بالبَصَر .
والثاني : أيضاً بَاطِلٌ؛ لأنَّه يَلْزَم أن يَتَعَدَّى إلى ثَلاَثَة مَفَاعِيل بسبب التعدية ومعلوم : أنَّ هذا اللَّفْظ لم يَتَعَدَّ إلاَّ إلى مَفْعُولين : أحدُهُما : كاف الخِطَابِ ، والآخر المَفْعُول المقدَّر ، وتقديره : بما أرَاكَهُ الله ، ولمَّا بَطَل القِسْمَان ، بقي الثَّالِث ، وهو أنَّ المُرَاد مِنْه : « رأيت » بمعنى : الاعْتِقَاد .
فصل في معنى الآية
معنى الآيَةِ : بما أعْلَمَكَ اللَّه ، وسُمِّي ذلك العِلْم بالرُّؤيَة؛ لأن العِلْم اليَقِينيِّ المُبَرَّأ عن الرَّيْب يكون جَارِياً مُجْرَى الرُّؤية في القُوَّة والظُّهُور ، وكان عُمَر يقُول : لا يَقُولَنَّ أحدُكُم قَضيتُ بما أرَانِي [ اللَّه ] ، فإن اللَّه - تعالى - لم يَجْعَلْ ذلك إلا لِنَبِيِّه صلى الله عليه وسلم ، وأما الوَاحِد منَّا فرأيُهُ يَكُون ظَنّاً ، ولا يكون عِلْماً .
وإذا ثَبَت ذَلِكَ قال المحققون : دَلَّت هذه الآيَةِ على أنَّه - عليه الصلاة والسلام - ما كان يَحْكُم إلا بِالوَحْي والنَّصِّ ، وإذا كان كَذَلِك ، فيتفَرَّعُ عليه مَسْألتانِ :
الأولَى : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يَجُز لَهُ الاجْتِهَاد .
والثانية : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - إذا لم يَجُز له أنْ يحكم إلا بالنَّصِّ ، وجَبَ أن تكُونَ أمَّتُهُ كَذَلِكَ؛ لقوله - تعالى - { واتبعوه } [ الأعراف : 158 ] وإذا كان كَذَلِك ، حَرُمَ العَمَلُ بالقِيَاس .
والجَوَابُ : أنه لما قَامَت الدَّلاَلَة على أنَّ القِيَاس حُجَّة ، كان العَمل بالقِيَاسِ عَمَلاً بالنَّصِّ في الحَقِيقَةِ؛ لأنَّه يَصِير التَّقْدير : أنه - تعالى - قال : مَتَى غَلَب على ظَنِّك أن حكم الصُّورَة المَسْكُوت عنها ، مثل حُكُم الصُّورَة المَنصُوص عَلَيْها ، بسبب أمرٍ جامعٍ [ فاعْلم : أنَّه تكليفي في حَقِّك أن تَعْمَل ] بِمُوجِبِ ذلكِ الظَّنِّ ، وإذا كان كَذَلِك ، كان العَمَل بالقِيَاسِ عَمَلاً بالنَّصِّ .
قوله : « للخائنين » متعلِّق ب « خَصِيماً » واللامُ : للتَّعْلِيل ، على بَابِها ، وقيل : هي بِمَعْنى : « عن » ، ولَيْسَ بشيء؛ لصِحَّة المَعْنَى بدون ذَلِك ، ومفعولُ « خصيماً » : محذوفٌ ، تقدِيرُه : « خَصِيماً البُرَآء » ، وخَصِيمٌ : يجو أن يَكُون مِثَال مبالغةٍ ، كضريبٍ ، وأن يكون بمعنى : مُفاعل ، نحو : خَلِيط وجَلِيس بمعنى : مُخاصِم ومُخالِط ومُجالِس .
قال الوَاحِدِي : خَصْمُك الذي يُخَاصِمُك ، وجمعه : الخُصَمَاء ، وأصْلُه من الخصْم : وهُو ناحية الشَّيْءِ ، والخصْم : طَرْف الزَّاوِيَة ، وطَرَف الأشْفَار ، وقيل للخَصْمَين : خَصْمَان؛ لأنَّ كل واحدٍ منهما في نَاحِيَةٍ من الحُجَّة والدَّعْوى ، وخُصُوم السَّحَابة : جَوَانِبها .
فصل : في سبب نزول الآية
روى الكلبي ، عن أبي صَالح ، عن ابن عبَّاسٍ ، قال : نزلت هذه الآية في رَجُل من الأنْصَار ، يقال له : طعمة بن أبَيْرِق من بني ظَفر بن الحارث ، سرقَ دِرْعاً من جَارٍ له يُقَال له : قتادة بن النُّعْمَان ، وكانت الدِّرْع في جراب له فيه دَقِيقٌ ، فجعل الدَّقِيق يَنْتَثِر من خِرْق في الجِرَاب ، حتى انْتَهَى إلى الدَّار ، ثم خَبَّأها عند رَجُلٍ من اليَهُود ، يُقال له : زَيْد ابن السَّمِين ، فالتُمِسَتِ الدِّرْع عند طعمة ، فحَلَف بالله ما أخَذَها وما لَهُ بها من علم ، فقال أصْحَابُ الدِّرْع : لقد رَأينا أثر الدقيق حتى دخل دَارَه ، فلما حَلَف ، تركوه واتَّبَعُوا أثر الدقيق إلى مَنَزِل اليَهُودِيِّ؛ فأخذوه منه ، فقال اليَهُودِيُّ : دفعها إليّ طعمة بن أبَيْرِق ، فجاء بنو ظفر وهم قوم طُعْمَة إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، وسألُوه أن يُجادل عن صَاحِبِهم ، وقالوا له : إنك إن لم تَفْعَل ، افْتَضَحَ صَاحِبُنا ، فهمَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعاقِب اليَهُودِي .
ويروى عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عَنْهُما في رواية أخْرى : أن طعمة سَرَق الدِّرْع في جِرَابٍ فيه نخالة ، فخرق الجِرَاب حَتَّى كان يَتَنَاثر منه النُّخَالة طُول الطَّرِيق ، فجاء به إلى دَارِ زيْد السَّمِين وتركه على بابه ، وحَمَل الدِّرْع إلى بَيْتِه ، فلما أصْبَح صاحِبُ الدِّرْع ، جاء على أثَر النُّخَالة إلى دار زَيْدٍ السَّمين ، فأخذه وحمله إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم ، فهم النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يَقْطع يد زَيْد اليَهُودي .
وقال مقاتل : إن زيداً السَّمين أوْدَع درعاً عند طعمة فَجَحَدَها طعمة ، فأنْزَل الله تعالى قوله : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق } بالأمْر ، والنَّهْي ، والفَصْل ، { لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله } : بما علّمَكَ الله وأوْحَى إليْك ، { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ } : طعمة ، « خصيماً » : مُعيناً مُدَافِعاً عنه .
وهذه القِصَّة تَدُلُّ على أن طعمة وقوْمَه كانوا مُنَافِقِين؛ لأنهم طلبوا البَاطِل ، ويؤكِّدُه قوله - تعالى - : { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } [ النساء : 113 ] . ثم رُوي : أن طعمة هَرَب إلى مَكَّة وارتَدَّ ، وثَقَب حَائِطَاً؛ ليَسْرِق ، فسقط الحَائِط عَلَيْه فمات .
فصل
قال الطَّاعِنُون في عِصْمة الأنْبِيَاء - عليهم الصلاة والسلام - : دلَّت هذه الآيةُ على صُدُور الذَّنْب من الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - فإنَّه لَوْلاَ أن الرسُول - [ عليه الصلاة والسلام ] أراد أن يُخَاصِم لأجْل الخَائِن ويذب عنه ، وإلاّ لما وَرَدَ النَّهْي عَنْه .
والجوابُ : أنه لمَّا ثَبَتَ في الرِّواية : أنَّ قوم طعمة لما التمسُوا من الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - أن يَذُبَّ عن طعمة ، وأنْ يُلْحِق السَّرقة باليَهُودِيِّ توقف وانتظر الوَحْي ، فنزلت الآيَة ، وكان الغَرَضُ من هذا النَّهْي : تَنْبيه النبيّ - عليه الصلاة والسلام - على أنَّ طعمة كَذَّابٌ ، وأن اليَهُودِيَّ بريءٌ من ذَلِك الجُرْمِ .
فإن قيل : الدَّليل على أنَّ الجُرْم قد وَقَعَ من النَّبِي - عليه الصلاة والسلام - قوله بعد ذلك : { واستغفر الله إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } والأمر بالاسْتِغْفَار ، يدل على صُدُور الذَّنْبِ .
فالجواب : من وجوه :
الأوَّل : لعله مَالَ طَبْعُهُ ، إلى نُصْرة طعمة؛ بِسَبَبِ أنه كَانَ في الظَّاهِر من المُسْلِمِين؛ فأمر بالاسْتِغْفَار لهذا القَدْر ، وحَسَنَاتُ الأبْرَار سَيِّئَات المُقَرَّبين .
الثَّاني : أن القَوْم لما شَهِدُوا بِبَراءة طعمة ، وعلى اليَهُودِيِّ بالسَّرِقَة ، ولم يَظْهَر للرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ما يُوجِب القَدْح في شَهَادَتِهم ، هَمَّ بأن يَقْضِي بالسَّرِقة عَلَى اليهودي ، ثمَّ لما أطْلَعَهُ اللَّه على كَذِب أولَئكَ الشُّهُود ، عَرَف أنَّ ذلك القَضَاء لو وَقَعَ ، لكان خَطَأ في نَفْسِه ، وإن كَانَ مَعْذُوراً عند اللَّه [ - تعالى - ] [ فيه ] .
الثالث : قوله : « واستغفر الله » يُحْتَمل أن يكُون المُرادُ : واستغفر الله لأولئك الَّذين يَذُبُّون عن طعمة ، ويُرِيدون أن يُظْهِرُوا بَرَاءَته .
الرابع : قيل : الاسْتِغْفَار في حَقِّ الأنْبِياء بعد النُّبُوَّة على أحَدِ الوُجُوه الثَّلاثة : إما لِذَنْب تَقَدَّم قبل النُّبُوَّة ، أو لِذُنُوب أمَّته وقَرَابتِه ، أو لِمُبَاح جاء الشَّرْع بتحريمِهِ ، فيتركه بالاسْتِغْفَار ، والاسْتَغْفَار يَكُون مَعْناه : السَّمع والطَّاعة لحُكْمِ الشَّرْع .
ثم قال : { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } أي : يَظْلمون أنفُسَهُم بالخِيَانَة والسَّرقة وقِبَلها .
أمر بالاسْتِغْفَار على طَرِيق التَّسْبِيحِ؛ كالرجل يَقُول : أسْتَغْفِر اللَّه ، على وجْه التَّسْبِيح من غَيْر أن يَقْصِد تَوْبةً من ذَنْبٍ .
وقيل : الخِطَاب للنَّبِي صلى الله عليه وسلم ، والمراد : ابن أبَيْرقِ؛ كقوله : { ياا أَيُّهَا النبي اتق الله } [ الأحزاب : 1 ] [ وقوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ } [ يونس : 94 ] والمراد بالذين يختانون طعمة ومن عاوَنَهُ من قَوْمِه ، والاخْتِيَان : كالخِيَانَةِ؛ يقال : خَانَهُ واخْتَانَهُ ، وقد تقدَّم عِنْد قوْله : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 187 ] ، [ وإنما قال لطعمة وللذَّابِّين عنه : إنهم يختَانُون أنفُسَهُم ] ؛ لأن مَنْ قدم على المَعْصِيَة ، فقد حَرَمَ نفسه الثَّوَابَ ، وأوصَلَهَا إلى العِقَاب ، فكان ذلك مِنْهُ خِيَانة لِنَفْسِهِ؛ ولِهَذا المَعْنَى ، قيل لِمَن ظَلَم غيره : إنَّه ظلم نَفْسَه ، وفي الآيَة تهديدٌ شَدِيدٌ على إعانَة الظَّالِم؛ لأن الله - تعالى - عاتب النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم على همِّه بإعَانَة طعمة ، مع أنَّه لم يَكُن عَالِماً بظُلْمِهِ ، فكيف حَالُ من يَعْلم ظلم الظَّالِم ، ويعينُه عَلَيْه .
ثم قال : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ } أي : لا يَرْضى عن { مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } يريد : خَوَّاناً في الدِّرْع ، أثيماً في رَمْيه اليَهُوديَّ .
وقيل : إنَّه خطابٌ مع النَّبِي صلى الله عليه وسلم والمراد به : غيره؛ كقوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ } [ يونس : 94 ] .
فإن قيل : قوله - تعالى - : { مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } صيغة مُبالَغَة تَدُلُّ على تَكْرَار ذَلِكَ [ الفِعْل مع أن الصَّادِر عَنْه خِيَانة وَاحِدَة ، وإثمٌ واحدٌ .
فالجواب : أنَّ الله - تعالى - عَلِم أنه ] كَانَ في طَبْعَ ذَلِكَ الرَّجُل الخيانة الكَثِيرة والإثْمِ الكَبِير ، فذكر اللَّفظ الدَّالَّ على المُبَالَغَة؛ بسبَبِ ما كان في طَبْعِهِ من المَيْل إلى ذَلِكَ ، ويدُلُّ عليه : ما ذَكر [ أنَّه ] بعد هذه الوَاقِعَة هَرَبَ إلى مَكَّة ، وارتدّ ونَقَبَ حائِط إنْسَان ، لأجْلِ السرقة ، فسقط الحَائِطُ عليْه ومات ، ومن كانت خَاتِمَتُه كَذَلِك ، لم يُشَكّ في حَالِه ، وأيضاً : فإنَّه طَلَبَ من النبي - عليه الصلاة والسلام - أنْ يرفَعَ السَّرِقَةَ عَنْه ، ويُلْحِقَها باليَهُودِيِّ ، وهذا يُبْطِل رِسَالة الرَّسُول ، ومن حَاوَل إبْطَال رسَالة الرَّسُول وأراد كذبَهُ ، فقد كَفَر؛ فلهذا المَعْنَى وَصَفَهُ اللَّه [ - تعالى - ] بالمُبَالَغَة في الخِيَانة والإثْمِ .
وقد قيل : إذا عَثْرت من رَجُلٍ على سَيِّئَةٍ ، فاعلم أنَّ لها أخَوَاتٍ .
وعن عُمَر - رضي الله عنه - : أنَّه أخذ يَقْطَع يَدَ سَارِق ، فجاءَتُهُ أمُّه تَبْكِي وتقُول هذه أوّل سَرِقة سرقها فاعْفُ عنه ، فقال : كَذَبْت إنّ الله لا يؤاخِذُ عَبْدَه في أوّل الأمْر .
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
« يَسْتَخفُون » : وجهان : أظهرُهُمَا : أنها مَستأنفة لمجرد الإخْبَار بأنهم يَطْلُبون التستُّر من الله - تعالى - بجهلهم .
والثاني : أنها في مَحَلِّ نَصبٍ صفة ل « مَنْ » في قوله : { لا يحبُّ مَنْ كان خَواناً } [ النساء : 107 ] وجُمِع الضَّمِير اعتباراً بمعناها إن جعلت « مَنْ » نكرةً موصوفة ، أو في مَحَلِّ نصب على الحَالِ مِنْ « مَنْ » إن جَعَلْتَها مَوصُولة ، وجُمِعَ الضميرُ باعتبار مَعْنَاها أيضاً .
والاستخفاء الاستتار ، يقال استَخْفَيْت من فُلان : أي : توارَيْتُ منه واسْتَتْرتُ؛ قال الله - تعالى - : { وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بالليل } [ الرعد : 10 ] أي : مُسْتَتر ، ومعنى الآيَة : يَسْتَتِرُون من النَّاسِ ، ولا يَسْتَتِرُونَ من اللَّه .
قال ابن عبَّاسٍ يَسْتَحْيُون من النَّاس ، ولا يَسْتَحيون من اللَّه . قال الواحِدِي : هذا مَعْنًى وليس بِتَفْسير؛ وذلك أنَّ الاستحْيَاء من النَّاس هو نفس الاسْتِخْفَاء ، فَلَيْس الأمْر كذلك . قوله : « وَهُو مَعَهُم » جملة حالية إمَّا من اللَّه - تعالى - ، أو من المُسْتَخْفِينَ ، وقوله : « معهم » أي : بالعِلْم ، والقُدْرَة ، والرُؤيَة ، وكَفَى هذا زاجراً للإنْسَان ، و « إذْ » منصوبٌ [ بالعامل - في ] الظَّرْفِ - الوَاقِعِ خبراً ، وهو « مَعَهُم » ومعنى : يُبَيِّتُون : يَتَقَوَّلون ، ويُؤلِّفُون ، ويضمرون في أذْهَانِهِم ، والتبييتُ : تدبير الفِعْل لَيْلاً ، والذي لا يَرْضَاه اللَّه من القَوْل؛ هو أنَّ طعمة قال : أرمي اليَهُودي بأنَّه هو الَّذِي سرق الدِّرْع ، وأحْلِفُ أنِّي لمْ أسْرِقْها ، ويَقْبَل الرَّسُول يميني؛ [ لأني ] على دِينهِ ، ولا يَقْبَل يَمين اليَهُودِي .
فإن قيل : لِمَ سَمَّى التَّبْييت قولاً ، وهو مَعْنى في النَّفْسِ؟ .
فالجواب : أن الكلام الحَقِيقي هو المَعْنَى القَائِم بالنَّفْسِ ، وعلى هذا فلا إشْكَال ، ومن أنْكَر كلام النَّفْس ، قال : إن طعمة وأصْحَابه أجْمَعُوا في اللَّيْل ، ورَتَّبُوا كيْفِيَّة الحِيلة والمَكْر؛ فسمَّى الله - تعالى - كلامَهُم ذلك بالقَوْل المُبَيَّت الذي لا يَرْضَاه ، ثم قال : { وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } والمُراد به : الوَعِيد؛ لأنهم وإن كانُوا يُخْفُون كَيْفيَّة المكر والخداع عن النَّاس ، فإنها ظَاهِرَة في عِلْم اللَّه؛ لأنَّه - تعالى - مُحِيطٌ بجميع المَعْلُومات لا يَخْفَى عليه منها شيء .
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
« هَا » للتَّنْبِيه في « أنْتُم » ، و « هؤلاءِ » : مُبْتَدأ وخَبَر « جَادَلْتُم » جُمْلَة مبينة لِوُقُوع « أولاء » خبراً؛ كما تَقُول لِبْعضِ الأسْخِيَاءِ : أنْتَ حَاتِمٌ تجود بِمَالِك ، وتُؤثِر على نَفْسك ، ويجُوز أن يكون « أولاء » اسماً مَوْصُولاً ، بمعنى : الَّذِين ، و « جادلْتُم » صلة وتقدَّم الكَلاَم على نَحْو { هَا أنْتُم هؤلاءِ } ، والجِدَال في اللُّغَة [ عبارة ] عَنْ شِدَّة المخَاصَمَةِ من الجَدَل وهو شدة الفتل ، وجَدْل الحَبْل : شدَّة فتله ، ورَجُل مَجْدُول كأنه فُتل ، والأجْدَل : الصَّقر؛ لأنَّه [ من ] أشَدِّ الطُّيُور قُوَّة؛ هذا قَوْل الزَّجَّاج ، والمَعْنَى : أن كل وَاحِدٍ [ من الخَصْمَيْن ] يريد فَتْل خَصْمه عن مَذْهَبه ، وصَرْفَه عن رَأيه بِطَريق الحجاج ، وقيل : الجِدَال من الجِدَالةِ ، وهذا خِطَاب مع قَوْم من المُؤمنين ، كانوا يذبُّون عن طعمة وَعن قوْمِهِ : بسبب أنهم كَانُوا في الظَّاهِرِ مسلِمين ، والمعنى : هَبُوا أنَّكم خَاصَمتُم عن طعمة وقَوْمِهِ في الدُّنْيَا ، فمن يُخَاصِم عَنْهم في الآخِرة إذَا أخَذَهم اللَّه بِعَذَابِه .
وقرأ أبيُّ بن كَعْب ، وعَبْد الله بن مَسْعُود : « وجَادَلْتُم عَنْه » يعني : طعمة .
وقوله : { فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة } : استفهام تَوْبيخٍ وتَقْريعٍ ، و « من » استِفْهَامِيَّة في محلِّ رفع بالابتداء ، و « يُجَادِلُ » : خبره ، وقوله : { أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } أم : مُنقَطِعَة وليست بعاطِفَةِ ، وظاهر عِبَارَة مَكِّي : أنها عاطفة ، فإنَّه قال : و « أمَّنْ يكُونُ » مثلها [ عطف عليها ، أي : مثل « مَنْ » في قوله : « فَمَنْ يُجَادِلُ » وهو في محَلِّ نظرٍ؛ لأن في المنقطعة خِلافاً ، هل تُسمَّى عاطِفَة أم لا ] ، والوكيل الكفيل الذي وُكِّلَ إليه الأمْرُ في الحفظ والحماية و « على » هنا بمعنى اللام والمعنى : أمَّنْ يكون لهم وكيلاً ، أي من النبي يذب عنهم ، ويتولّى أمرهم ، ويحميهم من عَذَاب الله يوم القيامة .
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
لما ذكر الوعيد أتبعه بالدعوة إلى التوبة فقال : { وَمَن يَعْمَلْ سواءا } يعني : السَّرِقَة ، { أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } بِرَمْيه البَرِيء ، وقيل : السُّوء : الشِّرْكُ ، وظلم النَّفْسِ : ما دون الشِّرْكِ ، وقيل : المراد بالسُّوء : ما يَتَعَدَّى إلى الغَيْر ، وظلم النَّفْس : ما يَخْتَصُّ به الإنْسَان؛ كالحَلْف الكَاذِب ، وإنما خَصَّ ما يتعدى إلى الغَيْر باسم السُّوء؛ لأنَّ ذلك يكون في الأكْثَر إيصَالاً للضَّرَر إلى الغَيْر ، والضَّرَرُ سوءٌ حَاضِرٌ .
فأمَّا الذَّنْبُ الذي يَخُصُّ الإنْسَان : فذلك لا يَكُون في الأكثر ضَرَراً حَاضِراً .
وقوله : { ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله } أي : يَتُبْ إلى الله ويَستغفرهُ { يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً } وهذه الآيَة دَلَّت على أنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ عن جميع الذُّنُوبِ سواءً كانت كُفْراً ، أو قَتْلاً عَمْداً ، أو غَصْباً للأمْوَال؛ لأن السُّوء [ و ] ظلم النَّفْسِ يَعُمُّ الكلُّ ، وظاهر الآية يَقْتَضِي أنَّ مجرد الاسْتِغْفَار كَافٍ .
وقال بعضهم : إنَّه مقيَّد بالتَّوْبَة؛ لأنَّه لا يَنْفَع الاسْتِغْفَارُ مع الإصرار .
وقوله : { غَفُوراً رَّحِيماً } معناه : غفوراً رحيماً له ، وحُذِفَ هذا القَيْد؛ لدلالة الكَلاَم عَلَيْه .
قال الضَّحَّاك : نَزَلَت هذه الآية في وَحْشي قاتلِ حمْزة ، أشْرك باللَّه ، وقتل حَمْزَة ، ثم جاء إلى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ، فقال : إني لَنَادِمٌ ، فهل لي من تَوْبَةٍ؟ . فنزلت هذه الآية .
وروى سُفْيَانُ عن ابن مَسْعُودٍ ، قال : من قرأ هَاتَيْن الآيَتين من سُورة النِّسَاء ، ثم اسْتَغْفَرَ ، غُفِرَ له وقرأ : { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء : 110 ] الآية ، { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فاستغفروا الله } [ النساء : 64 ] الآية .
وعن عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قال : حدَّثَنِي أبُو بكر ، وصدق أبُو بكر قال : ما من عَبْدٍ يُذْنِب ذَنْباً ، ثم يَتَوَضَّأُ ، ويُصَلِّي رَكْعَتَيْن ، ويستغفر الله ، إلا غَفَرَ له ، ثم تَلاَ هذه الآيَة [ { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه } الآية قال ابن عَطيَّة : قوله : « يَجِدِ اللَّه » أي : يجد عِنْدَه المَغْفِرة والرَّحْمَة ، فجعل المَغْفِرَة كالمورد يرده التَّائِب ] المُستْغَفِر .
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
والكَسْبَ عِبَارة عمَّا يفيد جرَّ مَنْفَعَةٍ ، أوْ دَفع مَضَرَّة ، ولِذلك لَم يَجُزْ وَصْف البَارِي - تعالى - بذلك ، وقِيلَ : المُرَاد بالإثْم : يعني يَمِين طعمة بالبَاطِل ، أي : ما سَرَقْتَه ، إنَّما سرقه اليَهُودِيُّ ، { فإنَّما يكسبُه على نَفْسِهِ } فإنَّما يضرُّ به نَفْسَه ، { وَكَانَ الله عَلِيماً } بما في قَلْب التَّائِب عند إقْدَامه على التَّوبة [ « حكيماً » ] تقتضي حكْمَتهُ ورَحْمَتُهُ أن يَتَجَاوَزَ عن التَّائِب ، والمَقْصُود منه : تَرْغِيبُ العَاصِي في الاسْتِغْفَار ، وألا يَيْأس من قبول التَّوْبَةِ والاسْتِغْفَارِ .
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
قيل : المراد بالخَطِيئَةِ : سَرِقَةُ الدِّرْع ، وبالإثْمِ : يَمينه الكَاذِبَة .
وقيل : الخَطِيئَةُ : الصَّغيرة ، والإثْم : الكَبِيرة .
وقيل : الخَطِيئَة : ما لا يَنْبَغِي فِعْلُه سواءً كان بالعَمْد أو بالخَطَأ ، والإثْم : ما يَحْصُل بسبب العَمْد؛ لقوله في الَّتِي قَبْلَها : { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ } [ النساء : 111 ] فبيَّن أن الإثْم ما يَسْتَحِقُّ به العُقُوبَة .
وقيل : هُما بمَعْنَى وَاحِد ، كرر لاخْتِلاَف اللَّفْظ تَأكِيداً .
وقال الطَّبَرِيّ : الخَطِيئَة تكون عن عَمْد ، وعَنْ غَيْر عمد ، والإثْم لا يكون إلا عن عَمْد ، وقيل : الخَطِيئَة مَا لَمْ يُتَعَمَّد خاصَّة؛ كالقَتْل الخَطَأ .
قوله : { ثُمَّ يَرْمِ بِهِ } : في هذه الهَاءِ أقوالٌ :
أحدُها : أنها تعود على « إثماً » لأنه الأقْرب ، والمتعاطفان ب « أو » : يجُوز أن يعودَ الضَّمير على المَعْطُوف كهذه الآية ، وعلى المعطوف عليه؛ كقوله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا } [ الجمعة : 11 ] .
والثاني : أنها تعودُ على الكَسْبِ المدْلُول عليه بالفعل ، نحو : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] أي العدل .
الثالث : أنها تعودُ على أحد المذكُورَيْن الدَّالِّ عليه العَطْفُ ب « أو » فإنه في قُوَّة « ثم يَرْمِ بأحَدِ المذكُورَيْن » .
الرابع : أنَّ في الكَلاَم حَذْفاً ، والأصْل : { ومن يكسب خطيئة ثم يرم بها } ؛ وهذا كما قيل في قوله : { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا } [ التوبة : 34 ] أي : يَكْنزِون الذَّهب ، ولا ينفقونه .
الخامس : أن يعُود على معنى الخَطِيئة ، فكأنَّه قال : ومن يَكْسِب ذَنْباً ثم يَرْم بِهِ ، وقيل : جَعَل الخَطِيئَة والإثْم كالشَّيْء الوَاحِد ، و « أو » هنا لتَفْصِيل المُبْهَمِ ، وتقدَّم له نَظَائرُ .
وقرأ مُعاذُ بن جَبَل : « يَكسِّبْ » بِكسْر الكاف وتَشْدِيد السِّين ، وأصْلُها : يَكْتَسِبْ ، فأدغمت تَاءُ الافْتعال في السِّين ، وكُسِرت الكافُ إتباعاً ، وهذا شَبيهٌ ب « يَخِطِّف » [ البقرة : 20 ] ، وقد تقدَّم تَوْجِيههُ في البقرة ، وقرأ الزهري : « خَطِيَّة » بالتَّشديدِ ، وهو قياسُ تَخْفِيفها .
وقوله : { يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } أي : يقْذِفُ بما جَنَى « بَريئاً » منه كما نُسِبَتِ السَّرِقَة إلى اليَهُودِي . [ قوله ] : { فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً } البهتان : هو البهْت ، وهو الكَذِب الَّذي يتحيَّر في عِظمهِ؛ لأنَّهُ إذا قيل للإنْسَان ، بُهت وتَحَيَّر .
رَوَى مُسْلِمٌ ، عن أبِي هُرَيْرة ، « قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : تَدْرُون ما الغيبة؟ قالُوا : الله ورسُولُه أعْلَم ، قال : » ذِكْرُكَ أخَاكَ بما يَكْرَهُ « . قيل : أفَرَأيْت إن كَانَ في أخي ما أقول؟ قال : » إن كان فيه ما تَقُول ، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ ، وإن لم يَكُن فِيهِ ، فقد بَهَتَّهُ « ؛ فرمْيُ البَرِيءِ بَهْتٌ له ، يقال : بَهَتَهُ بَهْتاً وَبُهْتَاناً ، إذا قَالَ عَنْه ما لم يَقُل ، وهو بَهَّاتٌ ، والمَفْعُول له : مَبْهُوتٌ ، ويُقَال : بَهِتَ الرَّجُل بالكَسْر ، إذا دُهشَ وتَحَيَّر ، وبَهُتَ بالضَّمِّ مثله ، وأفْصَحُ منها : بُهِتَ؛ كقوله - تعالى - : { فَبُهِتَ الذي كَفَرَ } [ البقرة : 258 ] لأنَّه يُقَال : رَجُل مَبْهُوتٌ ، ولا يُقَال : باهِت ، ولا بَهِيتٌ؛ قال الكسائي ، و » إثْماً مُبِيناً « أي : ذَنباً بَيِّناً .
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
قال القُرْطُبِي : ما بَعْد « لَوْلاَ » مرفوعٌ بالابْتِدَاء عند سِيبَويْه ، والخَبَر مَحْذُوف لا يَظْهَر ، والمَعْنَى : ولولا فَضْلُ اللَّه عَليكَ ورَحْمَتُه بأن نبَّهك على الحَقِّ ، وقيل : بالنُّبُوءة والعِصْمَة ، { لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ } عن الحق .
قال شهاب الدين : في جواب « لولا » وجهان :
أظهَرُهُمَا : أنه مَذْكُورٌ ، وهو قوله : « لَهَمَّتْ » .
والثاني : أنه مَحْذُوفٌ ، أي : لأضلُّوك ، ثم اسْتأنَفَ جُمْلة فقال : « لَهَمَّتْ » أي : لقد هَمَّتْ .
قال أبو البقاء في هذا الوَجْه ، ومثلُ حذفِ الجَوابِ هنا حَذْفُه في قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ } [ النور : 10 ] وكأنَّ الذي قَدَّر الجوابَ مَحْذُوفاً ، استشكل كَوْنَ قوله : « لهمتْ » جواباً؛ لأنَّ اللَّفْظ يقتضي انْتِفَاء هَمِّهم بذلك ، والغرضُ : أنَّ الواقع كوْنُهم همُّوا على ما يُرْوَى في القصَّة؛ فلذلك قدَّره مَحْذُوفاً ، والذي جَعَلَه مثبتاً ، أجَابَ عن ذلك بأحَدِ وَجْهَيْن :
إمَّا بتَخْصيص الهَمِّ ، أي : لَهَمَّتْ هَمّاً يؤثِّر عندك .
وإمَّا بتخصيص الإضْلال ، أي : يُضِلُّوك عن دينك وشريعتك ، وكلا هذيْن الهمَّيْن لم يقع .
و « أَن يضلُّوك » على حَذْف الباء ، أي : بأن يُضِلُّوك ، ففي مَحَلِّها الخِلافُ المَشْهُور ، و « مِنْ » في « مِنْ شَيء » زائدةٌ ، و « شَيْء » يراد به المَصْدرُ ، أي : وما يَضُرُّونك ضَرَراً قليلاً ، ولا كثيراً .
فصل
هذا قول للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ لَوْلا أن خَصَّكَ الله بالنُّبُوَّة والرَّحمة ، « لهمت طائفة » : لقد هَمَّتْ طائفة ، أي : أضْمَرَت طَائِفَة منهم ، يعني : قَوْم طعمة ، « أَن يضلوك » أي : يُخَطِّئُوك في الحُكْم ، ويُلْبِسُوا عليك الأمْر؛ حَتَّى تدافع عن طعمة ، { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ } يعني : يرجع وَبالُهُ عليهم ، { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } فيه وَجْهَان :
الأوَّل : قال القفَّال - رحمه الله تعالى - وما يضُرُّونك في المُسْتَقْبل ، فوعده - تعالى - بإدَامَة العِصْمَة لما يُرِيدُون من إيقَاعِه في البَاطِل .
الثَّاني : المَعْنَى : أنَّهم وإنْ سَعوْا في إلْقَائك فأنْتَ ما وقَعْتَ في البَاطِل : لأنَّك بنيت الأمر على ظَاهِر الحَال ، وأنت ما أمرت إلا بِبِنَاءِ الأحْكَام على الظَّاهِر .
ثم قال : { وأنزل عليك الكتاب والحكمة } وهذا مؤكد لذلك الوَعْد إن فَسَّرْنا قوله : { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } بالوَعْد والعِصْمَة في المُسْتَقْبل ، يعني : لما أنْزَل عليك الكتاب والحكمة ، وأمر بِتَبْلِيغ الشَّريعة إلى الخَلْقِ ، فكيف يَلِيقُ بحكمته ألاَّ يَعْصِمَك عن الوُقُوع في الشُّبُهَات ، وإن فَسَّرْنا الآية بأنَّه - عليه الصلاة والسلام - كان مَعْذُوراً في بناء الحُكْم على الظَّاهر ، كان المَعْنَى : وأنزل عليك الكتاب والحكمة ، وأوْجَبَ فيها بِنَاء أحكام [ الشَّرْع ] على الظَّاهر ، فكيف يَضُرُّك بناء الأمْر على الظَّاهِر .
قال القُرْطُبِي : قوله [ تعالى ] : { وأنزل عليك الكتاب والحكمة } ابْتِداء كلام .
وقيل : « الواو » للحال؛ كقوله « جئتك والشمس طالعة » ، والكلام مُتَّصِلٌ ، أي : [ ما يَضُرُّونك من شَيْء مع إنْزَال اللَّه عليك ] القُرْآن ، « والحِكْمَة » : القَضَاء بالوَحْي .
ثم قال : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } .
قال القَفَّال : هذه الآيَة تَحْتَمِلُ وَجْهَيْن :
أحدهما : أن يكُون المُراد [ ما يتعَلَّق ] بالدِّين؛ كما قال : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان } [ الشورى : 52 ] فيكون تَقْدِير الآيَة : أنْزَل عليك الكتاب والحِكْمة ، وأطْلَعَك على أسْرَارِهَا ، مع أنَّك قبل ذَلِك لم تكن عَالِمَاً بشيء منهما ، فكَذَلِكَ يفْعَل بك في مُسْتَأنف أيَّامك ، لا يَقْدِر أحدٌ من المُنَافِقِين على إضلالك .
الثاني : أن المُراد : وعَلَّمك ما لم تكُن تَعْلَم من أخْبَار الأولِين؛ فكذلك يُعَلِّمك من حِيَل المُنَافِقِين وَوُجوه كَيْدِهِم ، ما تَقْدِر [ به ] على الاحتراز عن كَيْدهم ومَكْرِهِم .
{ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً } . وهذا يَدُلُّ على أنَّ العِلْم أشْرَف الفَضَائِلِ والمَنَاقِب؛ لأنَّ الله - تعالى - ما أعْطَى الخَلْق من العِلْم إلا القَلِيل؛ لقوله - تعالى - : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] ثم إنَّه سمَّى ذلك القَلِيل عَظِيماً ، وسمَّى جَمِيع الدُّنْيَا قَلِيلاً ، لقوله [ - تعالى - ] : { أقُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ } [ النساء : 77 ] وذلك يَدُلُّ على شَرَف العِلْم .
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
قال الوَاحِدِي : النَّجْوى في اللُّغَة سر بين اثْنَيْن ، يُقَال : ناجَيْت الرَّجل مُنَاجَاة ونِجَاء ، ويقال : نجوت الرَّجُل أنْجُو بِمَعْنَى : نَاجَيْتُه ، والنَّجْوى قد تكون مَصْدراً بمنزلة المُنَاجَاةِ ، قال - تعالى - : { مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] وقد يُطْلَق على الأشْخَاص مَجَازاً ، قال - تعالى - : { وَإِذْ هُمْ نجوى } [ الإسراء : 47 ] ومَعْنَاها : المُسَارّة ، ولا تكون إلا مِن اثْنَيْن فأكثَر .
وقال الزَّجَّاج : [ النَّجْوى ] ما تفرَّد به الاثْنَان فأكْثر ، سِرًّا كان أو ظَاهِراً .
وقيل : النَّجْوى جمع نَجِيّ؛ نقله الكَرْمَاني ، والنَّجْوى مشتقَّةٌ من نَجَوْتُ الشيء ، أنْجُوه ، إذا خَلَّصْتَه وأفْرَدْتَه ، والنَّجْوة المُرْتَفِعُ من الأرْضِ؛ لانْفِرَاده بارتفاعه عمَّا حَوْله .
فصل فيمن المقصود بالآية؟
والمراد بالآية : قَوْم طعمة .
وقال مُجَاهد : الآية عَامَّة في حَقِّ جميع النَّاسِ ، والنَّجْوى : هي الإسْرَار في التَّدْبِير .
وقيل : النَّجْوى : ما يَنْفَرِدُ بِتَدْبِيرِه قَوْمٌ ، سِرّاً كان أوْ عَلاَنِيَة ، ومَعْنَى الآيَة : لا خَيْر في كَثِيرٍ مما يُدَبِّرُونه بَيْنَهُم ، إلاَّ من أمَرَ بِصَدَقَة ، أوْ معروفٍ ، أو إصلاحٍ بين النَّاسِ فالاستِثْنَاء يكون مُتَّصِلاً ، وقيل : هو استِثْنَاء مُنْقَطِع بمعنى : لكن من أمر بِصَدقَةٍ ، وهذان القَوْلان مبنيّان على أن النَّجْوى يجوز أن يراد بها : المَصْدرُ كالدَّعْوى؛ فتكون بِمعنَى : التناجي ، وأنْ يُرادَ بها : القَوْمُ المتناجُون إطلاقاً للمَصْدرِ على الوَاقِع منه مجازاً ، نحو : « رجلٌ عَدْلٌ وصَوْمٌ » . فعلى الأول يكون مُنْقَطِعاً؛ لأنَّ مَنْ أمَر لَيْس تَنَاجِياً؛ فكأنه قيل : لكنْ مَنْ أمَر بصدَقةٍ ، ففي نَجْوَاه الخيرُ ، والكوفِيُّون يقدِّرون المُنْقَطع ب « بل » ، وجعل بعضهم الاستِثْنَاء متَّصِلاً ، وإنْ أُريد بالنَّجْوى : المصدرُ ، وذلك على حَذْفِ مُضَافٍ؛ كأنه قيل : إلا نَجْوَى مَنْ أمر وعلى هذا يَجُوز في مَحَلٍّ « مِنْ » وجهان :
أحدهما : الخَفْضُ بدل من « نَجْوَاهُم » ؛ كما تقول : « ما مَرَرْتُ بأحد إلا زَيْدٌ » .
والثاني : النَّصْب على الاستِثْناء [ كما تقول : « مَا جَاءني أحَدٌ إلا زَيْدٌ ، على الاستثناء؛ ] لأنَّ هذا استِثْنَاء الجِنْس من الجِنْس وإن جعلنا النَّجْوى بِمَعنى : المُتناجين ، كان مُتَّصِلاً ، وقد عَرَفْتَ مِمَّا تقدَّم أن المنقطع مَنْصُوبٌ أبداً في لغة الحِجاز ، وأنَّ بَنِي تَمِيم يُجرونه مُجْرى المُتَّصِل ، بشرط توجُّه العَامِل عليه ، وأنَّ الكَلاَمَ إذا كان نفياً أو شبهه ، جاز في المُسْتَثْنَى الإتباعُ بدلاً ، وهو المختار ، والنَّصْبُ على أصْل الاستِثْنَاء ، فقوله » إلا مَنْ أمَر « : إما مَنصُوبٌ على الاستِثْنَاء المُنْقَطِع ، إنْ جَعَلْتَه مُنْقطعاً في لغة الحِجَاز ، أو على أصْلِ الاستِثْنَاء إن جعلته مُتَّصلاً ، وإمَّا مَجْرورٌ على البَدَلِ من » كثير « ، أو من » نجواهم « ، أو صِفَةٌ لحدهما؛ كما تقُول : » لا تَمُرُّ بجماعة من القَوْم إلا زيد « إنْ [ شئت ] جَعلْتَ زَيْداً تَابِعاً للجماعةِ أو للقوم ، ولم يجعله الزَّمَخْشَرِي تَابِعاً إلا » لِكَثير « قال : إلا نَجْوَى مَنْ أمَر ، على أنَّه مَجْرورٌ بَدَلٌ من » كَثِيرٍ « ؛ كما تقُولُ : » لا خير في قِيامهم إلا قيام زيدٍ « وفي التَّنْظِير بالمثال نظرٌ لا تَخْفَى مباينته للآية ، هذا كُلُّه إن جعلنا الاستِثْناء مُتصِلاً بالتَّأويلين المَذْكُورين ، أو مُنْقَطِعاً على لغة تميم ، وتلخَّص فيه سِتَّة أوْجُه : النَّصبُ على الانقطاع في لغة الحجاز ، أو على أصْلِ الاستثناءِ ، والجرُّ على البَدَل من » كَثِير « ، أو من » نَجْوَاهُم « ، أو على الصِّفَةِ لأحدهما .
و « مِنْ نَجْوَاهُمْ » متعلقٌ بمحذُوفٍ؛ لأنه صِفَةٌ ل « كثير » في مَحَلِّ جَر .
فصل
إنَّما ذكر - تعالى - هذه الأقْسَام الثَّلاثة؛ لأن عَمَل الخَيْر ، إمَّا أن يكُون بإيصَال المَنْفَعَةِ ، أو بدفع المَضَرَّة ، وإيصال الخَيْر :
إمَّا أن يكُون من الخَيْرَات الجسْمَانِيَّة ، وهو إعْطاء المَالِ ، وإليه الإشارة بقوله : « إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ » .
وإمَّا أن يكُون من الخَيْرَات الرُّوْحَانية ، وإليه الإشارة بقوله : « أَوْ مَعْرُوفٍ » .
وإمَّا إزالة الضَّرَرِ وإليه الإشارة بقوله : { أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ الناس } .
قوله « بَيْن » يجُوز أن يكون مَنْصُوباً بِنَفْس إصْلاح ، تقول : أصْلَحْت بَيْن القَوْم ، قال - تعالى - : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [ الحجرات : 10 ] ، وأن يتعلَّق بِمَحْذُوف على أنَّه صِفَة لإصلاح .
[ و ] قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } أي : هذه الأشْيَاء ، { ابتغآء مَرْضَاتِ الله } أي : طَلَب رِضَاه ، و « ابْتِغَاء » مَفْعُول من أجْله ، وألِفُ « مَرْضَاتِ » عن وَاوٍ ، وقد تقدَّم تَحْقِيقُه .
فإن قِيلَ : كَيْف قال : { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ } ثم قال : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } .
فالجواب : أنَّه ذكر الأمْرَ بالخير ، ليَدُل به على فَاعِلِه؛ لأنَّ الآمِرَ بالخَيْر لما دَخَل في زُمْرَة الخَيِّرين ، فبأن يَدْخل فَاعِل الخَيْر فيهم أوْلى ، ويجوز أن يُرَاد : ومن يأمُر بذلك ، فعبر عن الأمْر بالفعل؛ لأنَّ الأمْر أيضاً فِعْل من الأفعال .
ثم قال : « فسوف يُؤتيه » بالياء نظراً إلى الاسْمِ الظَّاهر في قوله : « مَرْضَات الله » ، وقرئ بالنُّون؛ نظراً لِقَوله بعدُ : « نُولِّه ، ونُصْلِه » وهو أوقعُ للتَّعْظِيم .
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
تقدّم في آل عمران أن المُضَارعَ المَجْزُوم ، والأمْرَ من نحو : « لم يَرْدُدْ » و « رَدَّ » يجُوزُ فيه الإدغامُ وتركُه ، على تَفْصيلٍ في ذلك وما فيه من اللُّغَات وتقدم الكلام في المَشَاقَّةِ والشِّقَاقِ في البقرة ، وكذلك حُكمُ الهَاء في قوله : « نُؤته » و « نُصْلِه » .
وهذه الآيَة [ نَزَلَتْ ] في طعمة بن أبَيْرِق ، وذلك أنَّه لمَّا ظهرت عليه السَّرِقَةُ ، خاف على نَفْسِهِ من قَطْع اليد والفضيحة ، فهربَ مرتَدّاً إلى مَكَّة .
فقال - تعالى - : { وَمَن يُشَاقِقِ الرسول } أي : يُخَالِفُه ، { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى } : من التَّوحيد والحُدُودِ ، { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين } أي : غير طَرِيق المُؤمِنِين ، { [ نُوَلِّهِ ] مَا تولى } أي : نَكِلُه [ فِي الآخِرَة ] إلى مَا تولَّى في الدُّنيا { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } فانْتَصب مَصِيراً على التَّمْيِيز؛ كقولهم : « فُلانٌ طَابَ نَفْساً » .
رُوِيَ أن طعمة نَزَل على رَجُل من بني سليم من أهْل مكَّة ، يُقال له : الحجَّاج بْن علاط ، فَنَقب [ بَيْتَ الحَجَّاج ، لِيَسْرِقَه ، ] فسقط عليه حَجَرٌ فلم يَسْتَطِع أن يَدْخُل ، ولا أن يَخْرُج ، فأخذ لِيُقْتَل ، فقال بَعْضُهُم : دَعُوه ، فقد لَجَأ إلَيْكُم ، فتركوه ، وأخْرَجُوه من مكة ، فَخَرَج مع تُجَّار من قُضاعة نَحو الشَّام ، فنزلوا مَنْزِلاً ، فَسَرقَ بَعْضَ مَتَاعِهِم وهرب ، فَطَلَبُوه ، وأخَذُوه ورموه بالحِجَارة؛ حتَّى قتلوه ، فَصَار قبره تِلْك الحِجَارة ، وقيل : إنه رَكِبَ سفينةً إلى جدة ، فسرق فيها كِيساً فيه دَنَانِير فأُخِذَ ، وألْقِي في البَحْر ، وقيل : إنه نزل في حَرَّة بني سَليم ، وكان يَعْبُد صَنَماً لهم إلى أنْ مَاتَ ، فأنزل الله - تعالى - : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } أي : ذَهَب عن الطَّرِيق ، وحُرِمَ الخَيْر كُلَّه .
وقال الضَّحَّاك عن ابْن عبَّاسٍ : إنَّ هذه الآيَة نَزَلت في شَيْخٍ من الأعْراب ، جَاءَ إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا نَبِيَّ الله ، إنِّي شيخٌ مُنْهَمِكٌ في الذُّنُوب ، إلاَّ أني لَمْ أشْرِكْ باللَّه شيئاً منذ عَرَفْتُه وآمنت به ، ولمْ أتَّخِذْ من دُونِه ولِيّاً ، ولَمْ أواقع المَعَاصِي جُرْأة على اللَّه ، وما توهَّمْت طَرْفَة عَيْن أنِّي أعجِزُ اللَّه هَرَباً ، وإنِّي لَنَادِمٌ تَائِبٌ ، مستغفرٌ ، فما حالي؟ فأنزل اللَّه هذه الآية .
فصل في استدلال الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على حجية الاجماع
رُوِيَ أن الشَّافِعِي - رضي الله عنه - سُئِلَ عن آيَة في كِتَاب اللَّه - تعالى - تدلُّ على أنَّ الإجْمَاع حجَّة ، فقرأ القُرآن ثلاثمِائَة مرَّة ، حتَّى وَجَد هذه الآيَة ، وتقرير الاسْتِدْلال ، أن اتِّباع غَيْر سَبِيل المُؤمِنين حَرَامٌ [ فوجب أن يكُون اتِّباع سَبِيل المؤمنين وَاجِباً ] بيان المقدِّمة الأولى : أنه - تعالى - ألحق الوَعِيد بمن يُشَاقِقُ الرَّسُول ، ويتَّبع غير سَبِيل المُؤمنين ، ولو لم يَكُن ذلك مُوجِباً ، لكان ذلك ضمّاً لما لا أثَر لَهُ في الوَعِيد إلى مَا هُو مُسْتَقِلٌّ باقْتِضَاء ذَلِك الوَعِيد ، وإنَّه غير جَائز ، وإذا كان اتِّبَاعُ غير سَبيل المُؤمنين حَرَاماً ، لزم أن يَكُون اتِّباع سَبيلِ المؤمنين وَاجباً ، وإذا كان عَدَم اتِّبَاعهم حَرَاماً ، كان اتِّباعُهُم وَاجباً ، لأنَّه لا خُرُوجَ عن طَرفَي النَّقِيضِ .
فإن قيل : لا نُسَلِّم أنَّ عدم اتِّبَاعِ سَبيل المؤمنين ، يصدق عَليْه أنَّه اتِّباعٌ لغير سَبِيل المُؤمِنين ، فإنه [ لا يَمتنِع ألاَّ ] يتَّبع لا سبيل [ المؤمنين ] ولا غير سَبِيل المُؤمنين .
الجوابُ : أنَّ المتابعة عِبَارةٌ عن الإتْيَان بِمثْل ما فعل الغَيْر ، وإذا كَانَ من شَأن غير المُؤمنين ألاَّ يَتَّبِعُوا سبيل المؤمنين ، فكُلُّ من لَمْ يَتَّبع سَبِيل المؤمنين ، فقد أتَى بِمِثْل ما فعل غَيْر المُؤمنين؛ فوجب كَوْنُه مُتَّبِعاً لهم .
ولقائل أن يَقُول : الاتِّبَاع ليس عِبَارة عن الإتْيَان بِمِثْل فِعْل الغَيْر ، وإلا لزم أن يُقَال : الأنْبِيَاءُ والملائِكةُ يتبعون لآحَاد الخَلْق من حَيْثُ إنَّهُم يوحِّدُون اللَّه [ - تعالى - ] لما أن كُلَّ واحد من آحَاد الأمَّة يوحِّد اللَّه - تعالى - ، ومعلوم أنَّ ذلك لا يُقَال ، بل الاتِّباع عِبَارة عن الإتْيَان بمثل فِعْل الغَيْر ، لأجْل أنه فِعْل ذلك الغَيْر ، ومن كان كذلك فمن تركَ مُتابعَة سبيل المؤمنين؛ لأجل أنَّه ما وَجَد على وُجُوب مُتَابَعَتِهم دَلِيلاً ، فلا جَرَم لم يَتَّبِعْهُم ، فهذا شَخْصٌ لا يكون مُتَّبِعاً لغير سَبِيل المُؤمنين .
وقال ابن الخَطِيب : وهذا سُؤال قَوِيٌّ على هذا الدَّلِيل ، وفيه أبْحَاث أخَر دَقِيقَةٌ ذكرناها في كِتَاب المَحْصُول .
فصل
قوله - تعالى - : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } الآية قد تقدَّم بيان سَبَبِ نُزُولها ، والفائِدَةُ في تكرارها؛ أن اللَّه - تعالى - ما أعَاد آيَةً من آيَاتِ الوعيد بِلَفْظِ واحدٍ مرَّتَيْن ، وقد أعَادَ هذه الآيَة بِلَفْظ واحِدٍ ، وهي من آيات الوَعْد ، فدل ذلك على أنَّه - تعالى - خصَّ جَانِبَ الوَعْد والرَّحْمَة بمزيد التَّأكيد .
فإن قيل : لمَ خَتَم تلك الآية بقوله : « فَقَدِ افْتَرَى » وهذه بقوله : « فَقَدْ ضَلَّ » .
فالجوابُ : أنَّ ذلك في غَاية المُنَاسَبة ، فإن الأولى في شأن أهْل الكِتَاب من أنَّهم عِنْدَهم علمٌ بصِحَّة نبوته - عليه الصلاة والسلام - ، وأن شريعته ناسَخَةٌ لجَمِيع الشَّرائعِ ، ومع ذلك فقد كَابَرُوا في ذلك ، فافْترُوا على الله - تعالى - ، وهذه في شأنِ قَوْمٍ مُشْركين غير أهْلِ كِتَابٍ ولا عِلْمٍ ، فناسَب وَصْفُهم بالضَّلال ، وايضاً : فقد تقدَّم ذكر الهُدَى ، وهو ضدُّ الضلال .
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
« إن » هُنَا مَعْنَاها : النَّفْي؛ كقوله - تعالى - : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } [ النساء : 159 ] « ويَدْعُون » : بمعنى : يَعْبُدُون ، نزلت في أهْل مَكَّة ، أي : يَعْبُدُون ، كقوله [ - تعالى - ] : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعوني } [ غافر : 60 ] فإنَّ مَنْ عَبَد شَيْئاً ، فإنَّه يدعوه عِنْد احْتِيَاجِهِ إليْه ، وقوله : « مِن دُونِهِ » أي : من دُونِ اللَّه .
قوله : « إلا إناثاً » : في هذه اللَّفْظَةِ تِسْعُ قراءاتٍ .
المشهُورةُ : وهي جَمْع أنْثى ، نحو : رباب جمعُ رُبَّى .
والثانية : وبها قَرَأ الحسن : « أنْثَى » بالإِفْرَاد ، والمرادُ به الجَمْع .
والثالثة : - وبها قَرَأ ابن عبَّاسٍ ، وأبو حَيْوَة ، وعَطَاء ، والحَسَن أيْضاً ، ومعاذ القَارِئ ، وأبو العَالِيَة ، وأبُو نُهَيْك - : « إلا أنُثاً » كرُسُل ، وفيها ثلاثةُ أوجه :
أحدها : - [ وبه ] قال ابن جَرِيرٍ - أنه جمعُ « إناث » ؛ كثِمار وثُمُر ، وإناثٌ جمع أنْثَى ، فهو جَمْع الجَمْع ، وهو شَاذٌّ عند النحويِّين .
والثاني : أنه جَمْع « أنيثٍ » كَقَلِيب وقُلُب ، وغَدِير وغُدُر ، والأنيثُ من الرِّجَال : المُخَنَّثُ الضَّعِيفُ ، ومنه « سَيْف أنِيثٌ ، ومئنَاث ، ومئنَاثَة » أي : غَيْر قَاطِعٍ قال صخر : [ الوافر ]
1877- فَتُخْبِرهُ بأنَّ العَقْلَ عِنْدِي ... جُرَازٌ لا أفَلُّ وَلاَ أنِيثُ
والثَّالث : أنه مُفْرَدٌ أي : يكون من الصِّفات التي جاءت على فُعُل ، نحو : امرأة حُنُثٌ .
والرابعة : وبها قَرَأ سَعْدُ بن أبِي وقَّاصٍ ، وابْن عُمَر ، وأبو الجَوْزَاء - « وثنا » بفتحِ الواوِ والثَّاء على أنَّه مفردٌ يراد به الجَمْع .
والخامسة - وبها قَرَأ سعيد بن المُسَيب ، ومُسْلم بن جُنْدُب ، وابن عبَّاسٍ أيْضاً - « أثُنا » بضم الهمزة والثاء ، وفيها وجهان :
أظهرهما : أنه جَمْع وثَن ، نحو : « أسَد وأُسُد » ثم قَلَب الوَاوَ همزةً؛ لضمِّها ضمّاً لازماً ، والأصْلُ : « وُثُن » ثم أُثُن .
والثاني : أن « وَثَناً » المُفْردَ جمع على « وِثانٍ » نحو : جَمَل وجمال ، وجَبَل وجِبال ، ثم جُمِع « وثان » على « وُثُن » نحو : حِمَار وحُمُر ، ثم قُلبت الواوُ همزةً لما تقدَّم؛ فهو جمعُ الجَمْعِ . وقد رَدَّ ابن عَطِيَّة هذا الوجه بأنَّ فِعَالاً جمعُ كثرة ، وجُمُوعُ الكَثْرة لا تُجْمَع ثانياً ، إنما يُجْمَعُ من الجُمُوعِ ما كان من جُمُوعِ القِلَّة . وفيه مُنَاقَشَةٌ من حَيْثُ إنَّ الجَمْع لا يُجْمَع إلا شَاذّاً ، سواءً كان من جُمُوعِ القِلَّة ، أم من غيرها .
والسادسة - وبها قَرَأ أيُوب السَّختياني - : « وُثُناً » وهي أصْل القراءة التي قبلها .
والسَّابعة والثَّامنة : « أُثْنا ووُثْنا » بسُكُونِ الثَّاء مع الهَمْزة والوَاوِ ، وهي تَخْفِيفُ فُعُل؛ كسُقُف .
والتاسعة - وبها قرأ أبو السوار ، وكذا وُجِدَتْ في مُصْحَفِ عَائِشة - رضي الله عنها - : « إلا أوْثاناً » جَمْعَ « وَثَن » نَحْو : جَمَل وأجْمال ، وجَبَل وأجْبال .
فصل
وسُمِّيَتْ أصْنَامهم إناثاً؛ لأنهم كانوا يُلْبسُونها أنواع الحُلِيِّ ، ويسمونها بأسْمَاءِ المُؤنثات ، نحو : اللاَّت ، والعُزَّى ، ومناةَ ، وقد ردَّ هذا بَعْضُهم بأنَّهم كانوا يُسَمُّون بأسْمَاء الذُّكُور ، نحو : هُبَل ، وذِي الخَلَصَة ، وفيه نظر؛ لأن الغَالِب تَسميتُهُم بأسماء الإناثِ ، و « مُرِيداً » : فَعِيل من « مَرَدَ » أي : تَجرَّد للشَّرِّ ، ومنه « شَجَرَة مَرْداء » أي : تناثر وَرَقُها ، ومنه : الأمْرَدُ؛ لتجرُّدِ وَجْهِه من الشَّعْر ، والصَّرْحُ الممرَّد : الذي لا يَعْلُوه غُبَارٌ من ذَلِك فاللاَّت : تَأنيث اللَّه والعُزَّى : تأنيث العَزِيز .
قال الحَسَن : لَمْ يكن حَيٌّ من أحْيَاء العَرَب إلا وَلَهُم صَنَمٌ يعبُدُونه ، ويسمى أنْثَى بَنِي فُلان ، ويدُلُّ عليه قِرَاءة عَائِشَة .
وقال الضَّحَّاك : كان بعضهم يَعْبُد الملائِكَة ، وكانوا يقُولُون : المَلاَئكة بَنَاتُ اللَّه ، قال - تعالى - : { الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الأنثى } [ النجم : 27 ] .
وقال الحسن : قوله « إلاَّ إناثاً » أي : إلا مَوْتاً ، وفي تسمية الأمْوَات إنَاثاً وجهان :
الأوَّل : إن الإخْبَار عن الموات يكُون على صِيغَة الإخْبَارِ عن الأنْثَى ، تقُول : هذه الأحْجَار تُعْجِبُنِي ، كما تقُول : هذه المَرْأة تُعْجِبُني .
الثَّاني : الأنْثَى أخسّ من الذَّكر ، والمَيِّت أخسُّ من الحَيِّ ، فلهذهِ المُنَاسَبة أطْلَقُوا اسمْ الأنْثَى على الجَمَادَات المَوَاتِ ، والمَقْصُود هل إنسان أجهل ممن أشرك .
قوله : { وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً } فعيلٌ من مَرَدَ إذا عَتَا ، ومنه : شَجَرةٌ مَرْدَاء ، أي : تَنَاثَر وَرَقُها ، ومنه : الأمْرَد؛ لتجرّد وجهه من الشَّعْر ، والصَّرْح الممرَّدُ : الذي لا يَعْلُوه غُبَار ، وقرأ أبو رَجَاء ويُرْوى عن عاصِمٍ « تَدْعُونَ » بالخِطَاب .
فصل
قال المفُسِّرون : كان [ في ] كُلُّ واحدٍ من تِلْك الأوثَان شَيْطَان يَتراءى للسَّدَنَة والكَهَنَة يُكَلِّمْهُم .
وقل الزَّجَّاج : المُرادُ بالشَّيْطَان هَاهُنَا : إبْلِيس؛ لقوله - تعالى - : بعد ذلك : { لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } .
وهذا قول إبْلِيس ، ولا يَبْعُد أنّ الذي يتراءى للسَّدنة ، هو إبْلِيس .
قوله : « لَعَنَهُ الله » فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّ الجُمْلَة صِفَةٌ ل « شيطاناً » ، فهي في مَحَلِّ نَصْب .
والثاني : أنها مُسْتأنفةٌ : إمَّا إخْبَار بذلك ، وإمَّا دُعَاء عليه ، وقوله : « وقال » فيه ثلاثة أوجه :
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : قوله لَعَنَهُ « وقال لأتَّخِذَنَّ » صِفَتَان ، يعني : شيطاناً مَرِيداً جَامِعاً بين لَعْنَة اللَّه ، وهذا القَوْل الشَّنِيع .
الثاني : الحالُ على إضْمَار « قد » أيْ : وقد قَالَ .
الثالث : الاستئناف . و « لأتخِذَنَّ » جوابُ قسم مَحْذُوف ، و « مِنْ عبادك » يجوزُ أن يتعلَّق بالفعل قبله ، أو بمحذوفٍ على أنَّه حَالٌ من « نَصِيباً » ؛ لأنه في الأصْلِ صِفَةُ نكرةٍ قُدِّم عليها .
فصل
النَّصِيب المَفْرُوض : أي : حظاً مَعْلُوماً ، وهم الذين يَتَّبِعُون خُطُواته ، والفَرْضُ في اللغة ، التَّأثِير ، ومنه : فرض القَوْس للجُزْء الذي يُشَدُّ فيه الوَتَر ، والفريضة : ما فَرَضَهُ اللَّه على عِبَادِهِ حَتْماً عليهم .
رُوِي عنه النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : « من كُلِّ ألْفٍ واحدٌ للَّه ، والبَاقِي للشَّيْطَان » .
فإن قيل : العَقْل والنَّقْل يدلاَّن على أنَّ حِزْب اللَّه أقلُّ من حِزْب الشَّيطان .
أما النَّقْل : فقوله - تعالى - : { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 249 ] ، وحُكِيَ عن الشيطان قوله { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ] ، وقوله : { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ الحجر : 39 ، 40 ] ، ولا شك أن المُخْلَصِين قليلُون .
وأمَّا العَقْل : فهو أنّ الفُسَّاق والكُفَّار كُلَّهم حِزْب إبليس . إذا ثَبَت هذا ، فلفظ النَّصِيب إنَّما يتناول القِسْم الأوّل .
فالجواب : أنَّ هذا التَّفَاوُت إنَّما يَحْصُل في نَوْع من البَشَر ، أمَّا إذا ضَمَمت زُمْرَة الملائِكَة مع غَاية كَثْرَتِهِم إلى المُؤمنين ، كانت الغَلَبَة للمُؤمِنِين .
وأيضاً : فالمُؤمِنُون وإن كانُوا قَلِيلين في العَدَدِ ، إلاَّ أن مَنْصِبَهُم عَظِيم عند الله ، والكُفَّار ، والفُسَّاق وإن كانُوا أكْثَر في العددِ ، فهم كالعَدَم؛ فلهذا وقع اسم النَّصِب على قَوْم إبْلِيس .
قوله : « ولأضِلَّنَّهُم » يَعْنِي : عن الحَقِّ ، أو عن الهُدَى ، وأراد به : التَّزْيين ، وإلا فليْس إليه من الإضْلال شَيْء .
ولأمَنِّيَنَّهم : بالباطل ، ولآمُرَنَّهم : بالضلال ، كذا قدَّره أبو البقاء ، والأحْسَنُ أن يُقَدَّر المحذُوفُ ، من جنس المَلْفُوظِ به ، أي : ولآمُرَنَّهم بالبَتْكِ ، ولآمُرَنَّهم بالتَّغْيير .
وقرأ أبو عمرو فِيما نَقَل عنه ابْن عَطِيَّة : « ولامُرَنَّهم » بغيرِ ألفٍ ، وهو قصرٌ شاذٌّ لا يُقاسُ عليه ، ويجُوز ألاَّ يُقَدَّر شَيءٌ من ذلك؛ لأنَّ القَصْدَ : الإخْبَارُ بوقوعِ هذه الأفْعَال من غيرِ نَظَرٍ إلى مُتعلَّقاتِها ، نحو : { كُلُواْ واشربوا } [ الطور : 19 ] .
فصل
قالت المُعْتَزِلَة : قوله : « ولأضِلَّنَّهُم » يدل على أصْلَيْن عظيمين :
أحدهما : أن المُضِلَّ هو الشَّيْطَان ، وليس المُضِلُّ هو اللَّه - تعالى -؛ لأنَّ الشيطان ادَّعى ذَلِك ، والله - سبحانه وتعالى - ما كذَّبَهُ فيه ، فَهُو كقوله : { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 39 ] وقوله : { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ] وقوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } [ الأعراف : 16 ] ، وأيضاً : فإنه - تعالى - وَصَفَه بكونه مُضِلاًّ [ للنَّاسِ ] في معرض الذَّمِّ له ، وذلك يَمْنَع من كون الإله مَوْصُوفاً بذلك .
[ الثاني : أن أهْل السُّنَّة يقُولُون : الإضْلال عِبَارة عن خَلْق الكُفْر والضَّلال ، ونَحْنُ نَقُول : لَيْس الإضلال عِبَارة عن خَلْقِ الكُفْرِ والضَّلال ] ؛ لأن إبْلِيس وَصَفَ نَفْسَه بأنه مُضِلٌّ ، مع أنه بالإجْمَاعِ لا يَقْدِر على خلق الضَّلال .
والجواب : أن هذا كلامُ إبليس ، فلا يكون حُجَّةً ، وأيضاً : فكلامه في هذه المسألة مُضْطَرِبٌ جِدّاً . فتارةً يَمِيل إلى القَدَرِ المَحْض ، وهو قوله : « لأغويَنَّهُم » وأخرى إلى الجبْرِ المَحْضِ ، وهو قوله : { رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } [ الحجر : 39 ] يَعْني : أنه قال هؤلاء الكُفَّار : نحن أغْويْنَا ، فمن الذي أغْوَانا عن الدِّين؟ فلا بُدَّ من انْتِهَاء الكلِّ في الآخِرة إلى اللَّه .
قوله : « ولأمَنِّيَنَّهُم » قيل : أمَنِّينَّهُم ركوب الأهْوَاء .
وقيل : أمَنِّيَنَّهُم إدْرَاك الآخِرَة مع ركوب المَعَاصِي .
قوله : { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام } أي : يَقْطَعُونها ، ويَشقُّونها ، وهي البَحِيرة ، والبتكُ : القَطْعُ والشّقُّ ، والبِتْكَة : القطعة من الشيء ، جَمْعُها : بِتَك ، قال : [ البسيط ]
1878- حَتَّى إذَا مَا هَوَتْ كَفُّ الغُلاَمِ لَهَا ... طَارَتْ وَفِي كَفِّهِ مِنْ رِيشِهَا بِتَكُ
ومعنى ذلك : أنَّ الجاهليَّة كانوا يَشُقُّون أذُن النَّاقَة إذا ولدت خَمْسَة أبْطُن ، آخرُها ذَكَر ، وحرَّمُوا على أنْفُسِهِم الانتفاع بها ، وقال آخرون : كانوا يَقْطَعُون آذَان الأنْعَام نُسُكاً في عِبَادَة الأوْثَان ، ويَظُنُّون أنَّ ذلك عِبَادة ، مع أنَّه في نفسه كُفْرٌ وفِسْقٌ .
قوله : { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله } هذه اللاَّمات كلها للقَسَم .
قال ابن عبَّاسٍ : والحَسَن [ ومُجَاهِدٌ ] وسعيد بن جُبَيْر ، وسَعِيد بن المسيَّب والسُّدِّي ، والضَّحاك ، والنَّخْعِيُ : دِينُ الله ، كقوله { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } [ الروم : 30 ] أي : لدين اللَّه ، وفي تَفْسير هذا القَوْل وَجْهَان :
الأول : أن اللَّه - تعالى - فطر الخَلْقَ على الإسْلام يَوْم أخْرَجَهُم من ظَهْر آدَم كالذَّرِّ ، وأشْهَدَهُم على أنْفُسِهم ، ألَسْتُ بِربِّكم؛ قالوا بَلَى ، فمن كَفَر به ، فقد غيَّر فِطْرَة اللَّه تعالى؛ يؤيده قوله - عليه الصلاة والسلام - « كل مَوْلُود يُولَدُ على الفِطْرَة ، فأبواه يُهوِّدَانه ، ويُنَصِّرانه ، ويُمَجِّسانه » .
والثاني : أن التَّغْيير : تَبْدِيل الحَلالِ حَراماً ، والحرام حَلاَلاً .
وقال الحسن ، وعكرمة ، وجماعة من المُفسِّرين : التَّغْيِير : ما روى عبد اللَّه [ بن مَسْعُود ] عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم [ أنَّه ] قال : « لَعَن اللَّه الوَاشِمَاتِ والمُسْتَوشِمَات » .
قالوا : لأنَّ المرأة تَتَوصَّل بهذه الأفعال إلى الزِّنا ، ولَعَن رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم « النامِصَة والمُتَنَمِّصَة ، والوَاصِلَة والمُتَوَصِّلة ، والوَاشِمة والمُتَوَشِّمَة
» . قال القرطبي ، قال مَالِك ، وجماعة : إن الوَصْل بكل شَيء ، من الصُّوفِ والخِرق وغَيْر ذَلِك في مَعْنَى وصله بالشَّعْر ، وأجازه اللَّيْث بن سَعْد ، وأباح بَعْضُهم وَضْع الشَّعْر على الرَّأس من غير وَصْل ، قالوا : لأن النهي إنما جَاءَ في الوَصْل ، والمُتَنمِّصَةُ : هي التي تَقْطَع الشَّعْر من وَجْهِهَا بالنِّمَاص ، وهو الذي يقلع الشَّعْر .
قال ابن العرَبيِّ : وأهلْ مِصر يَنْتفُون شَعْر العانَة ، وهو منه ، فإن السُّنَّة حَلْق العَانَة ، ونَتْفُ الإبط ، فأما نَتْفُ الفَرْج فإنه يُرخيه ويؤذِيه ويُبْطل كَثِيراً من المَنْفَعَةِ فيه .
وأمَّا الوَاشِمَة والمُسْتَوْشِمَة ، فهي الَّتِي تغرز ظَهْر كَفَّها ومِعْصَمَها ، ووجْههَا بإبْرَةٍ ، ثُمَّ يحشى ذلك المكانُ بالكُحْل أو بالنؤر ، فيخْضَرّ ، وفي بعض الروايات « الواشية ، والمُسْتَوْشِيَة » باليَاء مكان المِيم ، والوَشْي : التَّزَيُّن ، مأخوذ من نَسْج الثَّوْب على لونين ، وثورٌ مُوشَّى : في وَجْهِه وقوائِمِه سوادٌ ، وأما الوشْمٌ فجائز في كل الأعْضَاء غير الوَجْه؛ لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - « نهى عن الضَّرْب في الوَجْه وعن الوَشْم في الوجْهِ » ، ورُوي عن أنس ، وشهر بن حَوْشَب ، وعِكْرِمَة ، وأبِي صالح : التَّغْيير هَهُنَا هو الإخْصَاء ، وقطع الآذان ، وفَقْأ العُيُون؛ لأن فيه تَعْذِيب للحَيَوان ، وتَحْريم وتَحْلِيل بغير دليلٍ ، والآذَان في الأنْعَام جمالٌ ومَنْفَعة ، وكذلِك غيرها من الأعْضَاء ، فَحَرّم عليهم الشَّيْطَان ما أحلَّه اللَّه لهم ، وأمرَهُم أن يشركوا باللَّه ما لم يُنَزِّل به سُلْطَاناً ، ولما كان هذا من فِعْل الشَّيْطَان ، أمرنا رسُول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العَيْن والأذُن ، ولا نُضَحِّي بَعْورَاءَ ، ولا مُقَابَلة ، ولا مُدَابرة؛ ولهذا كان أنَس يكره إخْصَاء الغَنَم ، وحرمه بَعْضُهم .
قال القُرْطُبِي : فأما خِصاء الآدمِيِّ ، فمصيبَةٌ ، فإنَّه إذا خُصِي ، بَطَل قلبه وقُوَّته ، عَكْس الحَيَوان ، وانْقَطع نَسْلُه المأمُور به في قوله - عليه الصلاة والسلام - : « تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا » ثم إن فيه ألَماً عَظِيماً ، ربما يُفْضِي بَصَاحِبهِ إلى الهلاكِ ، فيكون [ فيه ] تضْييع مالٍ ، وإذْهَابُ تَفْسٍ ، وكل ذلك مَنْهِيٌّ عنه ، ثم هذه مُثْلَةٌ ، وقد نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن المُثْلَةِ ، وجوَّز بَعْضُهم في البَهَائِم؛ لأن فيه غَرَضاً ، وكانت العَرَب إذا بَلغَتْ إبلُ أحَدِهِمْ ألْفاً عوَّرُوا عَيْنَ فَحْلِها .
وحكى الزَّجَّاج عن بعضهم : التَّغْيير هو أن اللَّه - تعالى - خلق الأنْعامَ للرُّكُوب والأكْل ، فحربوها ، وخَلَق الشَّمْس ، والقَمَر ، والنُّجُوم ، والأحْجَار لمنفعة العِبَاد ، فعبدوها من دُونِ اللَّه .
وقيل : التَّغْيير هو التَّخَنُّث؛ وهو عِبَارَةٌ عن الذكر يُشْبِهُ الأنْثَى والسُّحْق؛ عِبَارة عن تَشَبُّه الأنْثَى بالذّكر .
ثم قال : { وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مِّن دُونِ الله } أي : ربًّا يطيعه ، { فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } لأن طاعة اللَّه تعالى تُفِيد المَنَافِع العَظِيمة ، الدّائِمة ، الخَالِصَة عن شَوائب الضَّرَر ، وطاعَة الشَّيْطَان تفيد المَنَافِع القَلِيلَة ، المُنْقَطِعة ، المشوبة بالغموم والأحزان ، ويعمها العَذَاب الدَّائِم ، وهذا هُو الخسَار المُطْلَق .
قال أبُو العبَّاس المُقْرِي : ورد لَفْظُ الخُسْرَان [ قي القرآن ] على أربَعَة أوْجُه :
الأوَّل : بمعنى الضَّلالة؛ كهذه الآيَة .
الثَّاني : بمعنى العَجْز؛ قال - تعالى - : { لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } [ يوسف : 14 ] أي : عَاجِزُون ومثله : { لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } [ الأعراف : 90 ] .
الثَّالث : بمعنى الغَبْن؛ قال - تعالى - : { الذين خسروا أَنفُسَهُمْ } [ المؤمنون : 103 ] أي : غبنوا أنْفُسَهم .
الرابع : بمعنى : المُخسِرُون؛ قال - تعالى - : { خَسِرَ الدنيا والآخرة ذلك هُوَ الخسران [ المبين ] } [ الحج : 11 ] .
قوله : « يُعدُهُمْ وَيُمَنِّيهمْ » ، قُرِئَ : « يَعدْهُمْ » بسُكون الدَّال تَخْفِيفاً؛ لتوالي الحَرَكات ، ومَفْعُولُ الوَعْد مَحْذُوفٌ ، أي : يعدُهُم البَاطِل أو السلامة والعافية ووعدُه وتمْنِيَتُهُ : ما يُوقعه في قَلْب الإنْسَان من طُول العمر ، ونَيْل الدُّنْيَا ، وقد يكون بالتَّخْوِيف بالفَقْر ، فيَمْنَعُه من الإنْفَاقِ ، وصِلَة الرَّحِم؛ كما قال - تعالى - : { الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر } [ البقرة : 268 ] و « يُمنيهِم » بأنْ لا بَعْثَ ، ولا جنَّةَ ، { وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } أي : بَاطِلاً؛ لأنَّ تلك الأمَانِي لا تُفِيدُ إلا المَغْرُور؛ وهو أن يَظُنَّ الإنْسَان بالشيء أنه نَافِعٌ لدينه ، ثم يَتَبَيَّن اشْتِمَالُه على أعْظَم المَضَارِّ .
قوله « إِلاَّ غُرُوراً » يُحْتمل أن يكونَ مَفْعولاً ثانياً ، وأن يكُون مفعولاً من أجْله ، وأن يكون نعت مَصْدرٍ محذوفٍ ، أي : وعْداً ذا غُرور ، وأنْ يكونَ مَصْدراً على غير الصَّدْرِ؛ لأنَّ « يَعِدُهم » في قوة يَغُرُّهم بوعْدِهِ .
ف { أولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } « أولئك » : مبتدأ ، و « مأواهم » : مبتدأ ثانٍ ، و « جهنم » : خبر الثَّانِي ، [ والجُمْلَة خبر الأوَّل ] وإنما قال : « مأواهُم جَهَنَّم » ؛ لأن الغُرُور عِبَارة عن الحَالَةِ التي يُسْتَحْسَنُ ظَاهِرُهَا ، ويَحْصُل النَّدَم عند انْكِشَاف الحَالِ فيها ، والاستِغَراق في طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا ، وفي مَعَاصِي الله - تعالى - ، وإن كان في الحَالِ لَذِيذٌ ، إلا أن عَاقِبَتَهُ جَهَنَّم ، وسُخْطُ الله [ - تعالى - ] ، وهذا معنى الغُرُور .
ثم قال { وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً } ، فقوله « عَنْهَا » : يجُوز أن يَتعلَّق بِمَحْذُوف :
إمَّا على الحَالِ من « مَحِيصاً » لأنَّه في الأصْلِ صِفَةٌ نكرةٍ قُدِّمَتْ عليها ، وإمَّا على التَّبْيين أي : أعني عنها ، ولا يجوزُ تعلُّقُه بمحْذُوفٍ؛ لأنه لا يتعدَّى ب « عَنْ » ولا ب « مَحِيصاً » ، وإنْ كان المَعْنَى عليه لأنَّ المَصْدَر لا يتقدَّمُ معمولُه عليه ، ومَنْ يَجوِّزُ ذلك ، يُجَوِّزُ تعلُّق « عن » به ، والمَحِيصُ : اسمُ مَصْدر من حَاصَ يَحِيص : إذا خَلَص ونَجا ، وقيل : هو الزَّوَغَان بنُفُور ، ومنه قولُه : [ الطويل ]
1879- وَلَمْ نَدْرِ إنْ حِصْنا مِنَ المَوْتِ حَيْصَةً ... كَمِ الْعُمْرُ بَاقٍ والمَدَى مُتَطَاوِلُ
ويروي : « جِضْنا » بالجيم والضَّاد المعجمة ، ومنه : « وَقَعُوا في حَيْصَ بَيْصَ » ، وحَاصَ بَاص ، أي : وقعوا في أمْرٍ يَعْسرُ التَّخلُّص منه ، ويقال : مَحِيص ومَحَاص ، قال : [ الكامل ]
1880- أتَحِيصُ مِنْ حُكْمِ الْمَنِيَّةِ جَاهِداً ... مَا لِلرِّجَالِ عِنِ المَنُونِ مَحَاصُ
ويقال : حاصَ يَحُوص حَوْصاً وحِيَاصاً أي : زَايَل المكانَ الذي كان فيه ، والحَوْصُ : ضِيقُ مُؤخر العين ، ومنه : الأحْوَصُ .
قال الواحِدِي : الآية تَحْتَمِل وَجْهَيْن :
أحدهما : أنه لا بُدَّ لهم من وُرُودِ النَّارِ .
والثَّاني : الخُلُود الذي هو نَصِيبُ الكُفَّار .
ولما فرغ من الوعيد ، أتبعه بذكر الوَعْد .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
يجوز في { والذين آمَنُواْ } : وجهان :
الرفع على الابتداءِ ، والخبر : « سَنُدْخِلُهم » .
والنَّصْبُ على الاشْتِغَال ، أي : سَنُدْخِل الذين آمَنُوا سَنُدخِلهم ، وقرئ : « سيُدْخِلُهم » بياء الغيبة .
واعلم : أنه - تعالى - في أكْثَر آيَاتِ الوَعْدِ ذَكَرَ { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } ولو كان الخلودُ يفيد التأبيدَ والدوامَ ، لزم التكْرَار وهو خلافُ الأصْل ، فعلمنا أن الخُلُود عبارة عن طول المُكْثِ لا عن الدَّوَام ، وأما في آيات الوَعِيد ، فإنه يذكُر الخُلُودَ ، ولم يذكُرِ التَّأبِيدَ إلاَّ في حَقِّ الكفارِ ، وذلك يَدلُّ على أن عِقابَ الفساقِ منقطعٌ .
قوله : { وَعْدَ الله حَقّاً } هما مَصْدَران ، الأول مُؤكِّد لنفسه؛ كأنه قال وَعَد وَعْداً ، وهو قوله : « سندخلهم » و « حقَّاً » : مصدر مؤكِّد لغيره ، وهو قوله : « وَعْد اللَّه » أي : حُقَّ ذلك حَقّاً .
قوله : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً } وهو توكيد ثَالثٌ ، و « قيلاً » : نَصْبٌ على التَّمْييز ، والقِيلُ ، والقَوْل ، والقَالُ ، مَصَادِرٌ بمعنًى واحدٍ؛ ومنه قوله - تعالى - : { وَقِيلِهِ يارب } [ الزخرف : 88 ] .
وقال ابن السِّكِّيت : القِيلُ والقَالُ : اسمَان لا مَصْدَران ، وفِائِدَة هذه التَّوْكِيدَات : معارضةُ ما ذَكَرَهُ الشَّيْطَان من المواعيد الكَاذِبَة والأماني الباطِلَةِ ، والتنْبِيهُ على أن وَعْدَ اللَّه أولى بالقُبُول ، وأحقُّ بالتَّصْدِيق من قوْلِ الشَّيْطَان .
وقرأ حَمْزة ، والكَسَائِيُّ : بإشْمَام الصَّادِ ، وكل صاد سَاكِنة بَعْدَها دال في القُرْآن .
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
قرأ أبو جَعْفَر المَدَنِي { [ لَّيْسَ ] بِأَمَانِيِّكُمْ ولاا أَمَانِيِّ } بتخفيف الياء فيهما جميعاً ، واعلم : أن « لَيْسَ » فعْلٌ ، فلا بد من اسْمٍ يكون هو مُسْنداً إليه ، وفيه خلافٌ :
فقيل : يَعُود ضَمِيرُها على مَلْفُوظٍ به ، وقيل : يَعُود على ما دَلَّ عليه اللَّفْظُ من الفِعْل وقيل : يَدُلُّ عليه سَبَبُ الآيَةِ .
فأمَّا عَودْهُ على مَلْفُوظٍ بِهِ فقيل : هو الوَعْدُ المتقدِّم في قوله : « وعد الله » وهذا اختيار الزَّمَخْشَرِي؛ قال : « في لَيْس ضَمِيرُ وعدِ الله أي : لَيْس يُنالُ ما وعد الله من الثَّواب بأمانِيِّكم ولا بأمَاني أهل الكِتَابِ ، والخطابُ للمُسْلِمين؛ لأنَّه لا يُؤمن بوعِد الله إلا مَنْ آمَن بِهِ » .
وأمَّا عَوْدُه على ما يَدُلُّ عليه اللَّفْظ ، فقيل : هو الإيمان المَفْهُومُ من قوله : « والذين آمنوا » وهو قولُ الحسن ، وعنه : « ليس الإيمانُ بالتَّمَنِّي » .
وأمَّا عودُه على ما يَدُلُّ عليه السَببُ ، فقيل : يعودُ على مُجَاوَرةِ المُسْلِمين مع أهلِ الكِتَابِ ، وذلك أنَّ بعضهم قال : « دينُنا قبل دينِكُم ، ونبيُّنَا قبل نَبيِّكم؛ فنحن أفضلُ » ، وقال المُسْلِمُون : « كتابُنا يَقْضِي على كِتابِكم ، ونبينا خَاتَمُ الأنْبِياء » فنزلت .
وقيل : يعودُ على الثَّوابِ والعِقَاب ، أي : ليس الثَّوَابُ على الحَسَنَاتِ ، ولا العقابُ على السيّئات بأمانيكم .
وقيل : قالت اليهودُ { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] ، ونحن أصْحَاب الجَنَّة ، وكذلك النَّصَارى ، وقالت كُفَّار قُرَيْش : لا نُبْعَثُ؛ فنزلت ، أي : ليس ما ادَّعَيْتُمُوه يا كُفَّارَ قريش بأمانيِّكم .
وقرأ الحسن ، وأبُو جَعْفَر ، وشَيْبةُ بن نصاح ، والحَكَم ، والأعْرَج : « أمانيكم » ، « ولا أمَانِي » بالتَّخْفِيف كأنَّهم جَمَعُوه على فَعَالِل دون فَعَالِيل؛ كما قالوا : قَرْقُور وقراقير وقراقِر ، والعرب تُنْقِصُ من فَعَالِيل اليَاء ، كما تزيدُها في فَعَالِل ، نَحْو قوله :
1881- .. تَنْقادَ الصَّيَارِيفِ
فصل
قال مَسْرُوق ، وقتادة ، والضَّحَّاك : أراد : ليس بأمَانِيِّكم أيها المُسْلِمُون ولا أمَانيِّ أهل الكِتَاب ، يعني : اليَهُودَ والنَّصارى؛ وذلك أنَّهم افْتَخَرُوا ، فقال أهْلُ الكتاب : نَبِيُّنَا قَبْل نبِيِّكُم ، وكِتَابُنَا قبل كِتَابِكُم ، فنحن أوْلَى باللَّه مِنْكُم .
وقال المُسْلِمُون : نبينا خاتمُ الأنْبِيَاء ، وكتابُنَا يَقْضِي على الكُتُب وقد آمَنَّا بكتابِكُم ، ولم تُؤمنوا بِكتابِنَا؛ فنحن أولى .
وقال مُجَاهِد : الآية خطاب لِعَبَدَة الأوْثان ، يعني : مُشرِكِي أهل مَكَّة ، وذلك أنَّهم قالوا : لا بَعْث ولا حِسَابَ ، وقال أهل الكِتَاب : { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] ، و { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] ، فأنزل اللَّه الآية ، وإنما الأمْر بالعَمَل الصَّالِح .
قوله : { مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } : جملة مُسْتأنفة مؤكِّدةٌ لحكم الجُمْلَة قبلها .
قالت المُعْتَزِلَةُ : هذه الآية دالَّة على أنَّه [ - تعالى - ] لا يعفُو عن شَيْءٍ من السَّيِّئَات .
وليس لِقَائِل أن يقُول : هذا يُشْكِلُ بالصَّغَائِر ، فإنها مَغْفُورَةٌ .
فالجواب عنه من وَجْهَيْن :
الأول : أن العَامَّ بعد التَّخْصِيص حُجَّة .
والثاني : أن صاحب الصَّغِيرة قد حَبَط من ثَوَابِ طَاعته بِمقْدَار عِقَاب تلك المَعْصِيَة ، فههنا قد وَصَل خبر تلك المَعْصِيَة إليه .
وأجابوا بأنه لِمَ لا يجُوز أن يَكُون المُرَادُ من هَذَا الجَزَاء ما يَصل إلى الإنْسَان [ في الدُّنْيَا ] من الهُمُوم والآلاَم والأسْقَام؛ ويَدُلَّ على ذلك قوله : { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا } [ المائدة : 38 ] سمَّى القطع جَزَاءً .
ورُوِي : « أنَّه لما نَزَلت هذه الآيَة قال أبو بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - كيف الصَّلاح بعد هَذِه الآيَة؟ ، فقال - [ عليه الصلاة والسلام ] - غفر اللَّه لكَ يا أبَا بَكْرٍ ، ألست تَمْرَض؟ ألَيْس تُصِيبُكَ الآلام؟ فهو ما تُجْزَوْن به » .
وعن عَائِشَة - رضي الله عنها - « [ أن ] رجلاً لما قَرَأ هذه الآيَة . فقال : [ إن كان ] الجَزَاء بكلِّ ما نَعْمَل ، لقد هَلَكْنا ، فبلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَلاَمُهُ؛ فقال : يُجْزَى المُؤمِنُ في الدنيا بِمُصِيبَةٍ في جَسَدِه وما يُؤذِيه » .
وعن أبي هُرَيْرَة - رضي الله عنه - : « لمَّا نَزَلَت هذه الآية بَكَيْنَا ، وحِزِنا ، وقلنا : يا رسول الله ، ما أبْقَت هذه [ الآية ] لنا شَيْئاً ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : » أبشروا فإنَّه لا يُصِيبُ أحداً منكم مُصِيبَةٌ في الدُّنْيَا ، إلا جَعَلَهَا الله له كَفَّارة؛ حتَّى الشَّوْكَة التي تَقَع في قَدَمِه « .
وأيضاً : هَبْ أن ذَلِك الجَزَاء إنَّما يصل إلَيْهم يوم القِيَامة ، لكن لم لا يَجُوز أن يَصِل الجَزَاء بتنقِيص ثَوَابِ إيمانِه ، وسائر طَاعَاتِه؛ كقوله - تعالى - : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } [ هود : 114 ] .
ولما رَوَى الكلبي ، عن أبِي صَالح ، عن ابن عبَّاسٍ ، أنَّه قال : » لمّا نَزَلت هَذِه الآيَة شقت على المُؤمِنِين مَشَقَّة شَدِيدة ، قالوا : يا رسُول الله ، وأيُّنَا لم يعمل سُوءاً ، فكيف الجَزَاءُ؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - : إنَّه - تعالى - وعد على الطَّاعَةِ عَشْر حَسَناتٍ ، وعلى المَعْصِيَة الوَاحِدة عُقُوبَة واحدة ، فمن جُوزي بالسَّيِّئة ، نَقَصَت وَاحِدة من عَشْرَة ، وبقيت له تِسْع حَسَناتٍ ، فويل لمن غلب آحَادُه أعْشَارَهُ « .
وأيضاً : فَهَذِه الآيَةُ إنَّما نزلت في الكُفَّار؛ لقوله [ - تعالى - ] بعدها : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة } .
فالمؤمن الذي أطَاعَ اللًّه سَبْعِين سَنَةً ، ثم شَرِب قَطْرةً من الخَمْر ، فهو مؤمِنٌ قد عَمِل الصَّالِحَات؛ فوجب القَطْع بأنَّه يدخل الجَنَّةَ .
وقولهم : خرج عن كوْنه مُؤمِناً ، فهو باطل؛ للدلالة الدَّالَّة على أنَّ صَاحِب الكَبِيرة مُؤمِن؛ لقوله - تعالى - : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] إلى قوله : { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى } [ الحجرات : 9 ] سَمَّى البَاغِي حَالَ كَوْنه باغياً : مُؤمِناً ، وقوله { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } [ البقرة : 178 ] سَمَّى [ قَاتِل العمد العُدْوَان مُؤمِناً ] ، وقوله { ياأيها الذين آمَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً }
[ التحريم : 8 ] سَمَّاه مُؤمِناً حال مَا أمَره بالتَّوْبَة ، وإذا ثَبَت أنَّ صَاحِب الكَبِيرَة مُؤمِنٌن كان قوله [ - تعالى - ] { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } حُجَّةً في أنَّ المُؤمِن صاحب الكَبِيرَة من أهْلِ الجَنَّةِ؛ فوجبَ أن يكُون قوله : { مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } مخصوصاً بأهْل الكُفْر .
وأيضاً : فهَبْ أنَّ النَّصَّ يَعُمُّ المؤمِن والكَافِر ، لكن قوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] أخص مِنْه ، والخاصُّ مقدَّم على العَامِّ ، والكَلاَمُ على العُمُومات قد تَقدَّم فِي قوله : { بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } [ البقرة : 81 ] .
فصل في دلالة الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة
دلت الآيَة على أنَّ الكُفَّار مخاطبون بفروع الإسْلام؛ لأن قوله - تعالى - : { مَن يَعْمَلْ سواءا } يتناول جَمِيع المُحَرًّماتِ ، فيَدْخل فيه ما صَدَر عن الكُفَّار مما هو مُحَرَّم في دين الإسلام ، وقوله : « يُجْزَ بِهِ » يدلُّ على وُصُولِ جَزَاء كُل ذلك إلَيْهم .
فإن قِيلَ : لم [ لا ] يجُوز أن يَكُون ذَلِكَ الجَزَاء ، عِبَارَة عمَّا يصل إليهم من الهُمُوم والغُمُوم في الدُّنْيَا .
فالجَوَابُ أنَّه لا بُدَّ وأن يَصِل جَزَاء أعْمَالِهم الحَسَنة إليْهِم في الآخِرَة ، وإذا كان كَذَلِك ، اقْتَضَى أن يكُون تَنَعُّمُهم في الدُّنْيَا أكثر؛ ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - « الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤمِن وجَنَّةُ الكَافِرِ » ؛ فامْتَنَع القَوْل بأنَّ جزاء أفْعَالِهِم المَحْظُورة تَصِلُ إليْهِم في الدُّنْيَا؛ فوجب القول بِوُصُول ذلك الجَزَاء [ إليْهِم ] في الآخرة .
فصل في شبهة المعتزلة وردِّها
قالت المُعْتَزِلَة : دلت [ هذه ] الآيَة على أنَّ العَبْد فَاعِلٌ ، وعلى أنَّه بعملِ السُّوء يستحِقُّ الجَزَاء ، وإذا كَانَ كَذَلِك ، دلَّت على أنًّ اللَّه غير خَالِق لأفْعَال العِبَاد من وَجْهَيْن :
أحدُهُما : أنه لما كان عَمَلاً للعبد ، امْتَنَعَ كَوْنه عَمَلاً للَّه؛ لامتناع حُصُول مَقْدُورٍ واحدٍ بِقَادِرَيْن .
والثاني : أنه لَو حَصَل بخلق اللَّه ، لما استَحَقَّ العَبْد جَزَاءً ألْبَتَّة ، وذلك بَاطِل؛ لأن الآيَة دلَّت على أن العَبْد يستحِقُّ الجزَاءَ على عملِهِ ، وقد تقدَّمَ الجوابُ عن هذا الاسْتِدْلالِ .
قوله : { وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } قرأ الجمهور بجزم « يَجِدْ » ، عطفاً على جواب الشرط ، وروي عن ابن عامر رفعه ، وهو على القطع عن النسق . ثم يُحْتمل أن يكون مستأنفاً وأن يكونَ حالاً ، كذا قيل ، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ المضارع المنفي ب « لا » لا يقترن بالواوِ إذا وقع حالاً .
فصل في شبهة المعتزلة بنفي الشفاعة وردها
قالت المُعْتَزِلَة : [ دلت ] الآية على نَفْي الشَّفَاعة ، وأجَابُوا بوجهين :
أحدهما : أنا بيَّنا أن هذه الآيَة في حقِّ الكُفَّار .
والثَّاني : أن شفاعة الأنْبِيَاء والمَلاَئِكَة في حقِّ العُصَاة ، إنَّما تكُون بإذن الله - تعالى - ، وإذا كان كَذلِك ، فلا وَلِيَّ لأحَدٍ ولا نصير ، إلا اللَّه - سبحانه وتعالى - .
قوله : « [ وَمَن يَعْمَلْ ] مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ » « من » الأولَى : للتَّبعيضِ؛ لأنَّ المكلَّف لا يطيق عَمَل كل الصَّالِحَات .
وقال الطَّبَرِي : « هي زائدةٌ عند قَوْم » وفيه ضعفٌ ، لعدم الشَّرْطَيْن ، و « مِنْ » الثانية للتبيين ، وأجاز أبو البقاء أن تكُونَ حالاً ، وفي صَاحِبها وجهان :
أحدهما : أنه الضَّميرُ المَرْفُوع ب « يَعْمَل » .
والثاني : أنه الصَّالحات ، أي : الصالحات كَائِنةً من ذكر أو أنثى ، وقد تقدَّم إيضاح هذا في قوله : { لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } [ آل عمران : 195 ] والكلامُ على « أوْ » أيضاً ، وقوله : « وَهُوَ مُؤْمِنٌ » جملة حَالِيّة من فَاعِل « يَعْمَل » .
[ قوله « يدخلون » ] قرأ أبو عَمْرو ، وابن كَثير ، وأبُو بَكْر عن عَاصِم : « يُدْخَلون » هُنَا ، وفي مَرْيم ، وأوَّل غَافِر بضم حَرْف المُضَارَعة ، وفتح الخَاء مبنياً للمَفْعُول ، وانفردَ ابنُ كَثِيرٍ وأبو بكْرٍ بثانية غَافِر ، وأبو عمرو بالتي في فَاطِر ، والبَاقُون : بفتحِ حَرْفِ المُضَارعة ، وضمِّ الخَاءِ مبنياً للفاعِل ، وذلك للتفنُّنِ في البلاغَةِ . والأوّل أحْسن؛ لأنَّهُ أفْخَم ، ولِكَوْنه مُوافقاً لقوله : { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } .
وأما القِرَاءة الثَّانية : فهي مُطَابِقَةٌ لقوله : { ادخلوا الجنة أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ } [ الزخرف : 70 ] ، ولقوله { ادخلوها بِسَلامٍ } [ الحجر : 46 ] .
والنقير : النَّقْرَة في ظَهْر النَّوَاة ، مِنْها تَنْبُت النَّخْلَة ، والمَعْنَى : أنَّهم لا يُنْقَصُون قدر مَنْبَت النَّوَاة .
فإن قِيلَ : لم خصَّ اللَّه الصالِحينَ بأنَّهم لا يُظْلَمُونَ ، مع أنَّ غيرهم كَذَلِك؛ كما قال : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] ، وقوله { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 108 ] .
فالجواب : من وجهين :
الأول : أن يَكُون الرَّاجع في قوله : « ولا يُظْلَمُونَ » عائداً إلى عُمَّال السُّوءِ ، وعُمَّال الصَّالِحَات جَمِيعاً .
والثَّاني : أن من لا يُنْقِصُ من الثَّواب ، أولى بأن لا يَزِيدَ في العِقَابِ .
روى الأعْمَش ، عن أبي الضُّحَى عن مَسْرُوقٍ ، قال : لمَّا نَزَل { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولاا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } قال أهْل الكِتَاب : نَحْنُ وأنْتُم سَوَاءٌ ، فَنَزَلتْ : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } الآية ، ونزل أيْضاً : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ } [ النساء : 125 ] .
فصل : صاحب الكبيرة لا يخلد في النار
وهذه الآية من أدَلِّ الدَّلائِل على أن صَاحِبَ الكَبِيرَة لا يُخَلَّد [ في النَّارِ ] بل ينقل إلى الجَنَّة؛ لأنَّا بينَّا أن صاحِبَ الكبِيرَة مؤمن ، وإذا ثَبَتَ ذَلِك ، وكان قد عَمِلَ الصَّالِحَات ، وجب أنْ يدْخُل الجَنَّة ، لهذه الآية ، ولزم بِحُكْم الآيَات الدَّالَّة على وَعِيد الفُسَّاق أن يَدْخُل النَّار ، فإمَّا أن يدْخُل النَّار ، ثم يَنْتَقِل إلى النَّارِ ، وذلك بَاطِلٌ بالإجْماع ، أو يَدْخُل النَّار ، ثم ينتقل إلى الجَنَّة ، وذلك هُو المَطْلُوب .
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
لما شرط في حُصُول النَّجاة والفَوْزِ بالجنَّة كون الإنْسَان مُؤمِناً ، شَرَح هَهُنَا الإيمَان ، وبَيَّن فَضْلَه من وَجْهَين :
أحدهما : أنَّه الدِّين المشتمل على العُبُودِيَّة والانْقِيَاد لله - تعالى - .
والثاني : أنه دينُ إبْرَاهيم - عليه السَّلام - ، وكل واحدٍ من هَذَيْن الوَجْهَيْن سَبَبٌ مستقِلٌّ في التَّرْغِيب في دِينِ الإسْلاَم .
أما الأوّل : فإن دِين الإسْلام مَبْنيٌّ على الاعْتِقَاد والعَمَل .
أما الاعتقاد : فإليه الإشارَة بقوله : { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله } لأن الإسْلام هو الانْقِيَاد ، والاسْتِسْلام ، والخُضُوعُ ، وذكر الوَجْه؛ لأنه أحسن الأعْضَاء الظَّاهِرَة ، فإذا عَرَفَ ربه بِقلبه ، وأقَرَّ بِرُبُوبِيَّتِهِ ، وبعبُودِيَّة نفسه ، فقد أسْلَم وجهه للَّه .
وأمَّا العَمَل فإليه الإشَارةُ بقوله : « وَهُوَ مُحْسنٌ » فيدخل فيه فِعْلُ الحِسَنَات وتَرْكُ السَّيِّئَات ، فاحتوت هذه اللَّفْظَة على جَمِيع الأغْرَاض ، وفيها تَنْبِيهٌ على فَسَادِ طَرِيقَةِ من اسْتَعان بغير اللَّهِ؛ فإن المُشْرِكِين يستعينُونَ بالأصْنَام ، ويَقُولُون : هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِنْد اللَّه ، والدهرية والطَّبِيعيُّون يَسْتعِينُونَ بالأفْلاكِ ، [ والكَواكِبِ ] ، والطبائع ، وغيرها ، واليَهُود ثَلاَثَة ، وأما المُعْتَزِلَة : فهم في الحَقِيقَةِ ما أسْلَمَت وَجُوهُهم للَّه؛ لأنهم يَرون [ أنَّ ] الطاعة المُوجِبَة لِثَوَابِهِم من أنْفُسِهِم ، والمَعْصِية الموجِبَة لِعِقَابِهم من أنْفُسِهم ، فهم في الحَقِيقَة لا يَرْجُون إلا أنْفُسَهُم ، ولا يَخَافُون إلا أنْفُسَهم ، وأهل السُّنَّة : فَوَّضُوا التَّدْبِير ، والتَّكْوِين والخَلْق ، والإبْدَاع إلى اللَّه - تعالى - ، واعتَقَدُوا أن لا مُوجِدَ ولا مُؤثِّر إلا اللَّه [ تعالى ] فهم الذِين أسْلَمُوا وجوههم للَّه .
وأما الوَجْه الثَّاني : وهو أنَّ محمَّداً - عليه الصلاة والسلام - إنما دَعَى الخَلْق إلى دين إبْرَاهِيم - [ عليه الصلاة والسلام - ، وإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ] إنَّما كان يَدْعُو إلى اللَّه - تعالى - ، لا إلى [ عِبَادة ] فَلَكٍ ولا طاعة كَوْكَب ، ولا سُجُود لِصَنَمٍ ، ولا اسْتِعَانَة بطبيعة؛ بل كانت دَعْوَتُه إلى اللَّه - تعالى - كما قال : { إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 78 ] ودعوة مُحَّمد - عليه الصلاة والسلام - كانت قَرِيبَة من شَرْع إبْرَاهيم - عليه السلام - في الخِتَان ، وفي الأعْمَال المُتَعَلِّقَة بالكَعْبَة؛ كالصَّلاة إليها ، والطَّوَاف [ والسَّعْي ] والرَّمْي ، والوُقُوف ، والحَلْق ، والكَلِمَات العَشْر المَذْكُورة في قوله : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } [ البقرة : 124 ] .
وإذا ثبت أنَّ شَرْع مُحمد - عليه الصلاة والسلام - كان قَريباً من شَرْع إبراهيم [ ثم إنَّ شَرْع إبْرَاهِيم ] مقبولٌ عند الكُلِّ لأن العَرَب لا يَفْتَخرُون بشيءٍ كافتخارهم بالانْتِساب إلى إبْرَاهيم - [ عليه الصلاة والسلام ] - ، وأما اليَهُود والنَّصارى فلا شَكَّ في كَوْنِهِم مُفْتَخِرين بِهِ ، وإذا ثَبَت هذا ، لَزِم أن يكون شَرْع مُحمَّد - [ صلى الله عليه وسلم ] - مَقْبُولاً عند الكُلِّ .
قوله : { مِمَّنْ أَسْلَمَ } : متعلِّقٌ ب « أحْسَنُ » فهي « مِنْ » الجَارَّة للمَفْضُول ، و « لله » متعلِّقٌ ب « أسْلَم » ، وأجَازَ أبُو البقاء أن يَتَعَلَّق بَمَحْذُوف على أنَّه حَالٌ من « وَجْهه » وفيه نظرٌ لا يَخْفَى ، « وهو مُحْسِنٌ » ، حالٌ من فَاعِل « أسْلَم » .
ومعنى { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله } : أخْلَصَ عمله للَّه ، وقيل : فَوض أمْرَه إلى اللَّه ، « وهو مُحْسِن » أي : مُوَحِّد . و « اتَّبع » يجُوز أن يكون عَطْفاً على « أسْلَمَ » وهو الظَّاهِر ، وأن يكونَ حالاً ثانية من فَاعِل « أسْلَم » بإضمار « قَدْ » عند مَنْ يشترط ذَلِك ، وقد تقدَّم الكَلاَم على « حَنيفاً » في البَقَرة ، إلا أنَّه يَجُوزُ هنا أن يكُون حالاً من فَاعِل « اتبع » .
فصل
« ملَّة إبْرَاهِيم » دين إبراهيم ، « حَنِيفاً » أي : مسلِماً مُخْلِصاً .
فإن قيل ظَاهِر هذه الآيَة يَقْتَضِي أنَّ شرع مُحمد - عليه الصلاة والسلام - نفس شَرْع إبْرَاهيمَ ، وعلى هَذَا لم يَكُن لمحمد - عليه الصلاة والسلام - شريعة مُسْتقِلَّة ، وأنتم لا تَقُولُون بِذلِك .
فالجوابُ : أن شَريعَة محمد - عليه الصلاة والسلام - تُشْبِه أكثر شَرِيعَة إبْرَاهِيمَ .
قال ابن عبَّاسٍ : ومن دينِ إبراهيم : الصَّلاة إلى الكَعْبَة ، والطَّواف بها ، ومَنَاسِك الحَجِّ ، وإنما خصَّ بها إبْراهيم - [ عليه والصلاة والسلام ] -؛ لأنه كان مَقْبُولاً عند جَمِيع الأمَمِ ، وقيل : إنَّه بُعِثَ على مِلَّة إبْرَاهِيم ، وزِيدَت له أشْيَاء .
قوله : { واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } فيه وجهان وذلك أنَّ « اتَّخذ » إن عَدَّيْناها لاثنين ، كان مَفْعُولاً ثانياً ، وإلا كان حالاً ، وهذه الجُمْلَة عَطْف على الجُمْلَة الاستِفْهَاميةِ التي مَعْنَاها الخَبَرُ ، نَبَّهَتْ على شَرَف المَتْبُوعِ وأنه جَدِيرٌ بأن يُتَّبَع لاصْطِفَاءِ الله له بالخُلّة ، ولا يَجُوز عَطْفُها على ما قَبْلَها لِعدم صلاحيَّتِها صلةً للموصول .
وجعلها الزَّمَخْشَرِي جملة مُعْتَرِضَة ، قال : « فإنْ قلت ما مَحَلُّ هذه الجُمْلةِ؟ قلت : لا محلَّ لها من الإعْرَاب؛ لأنَّها مِنْ جُمل الاعْتِرَاضَاتِ ، نحو ما يجيء في الشِّعر من قَوْلهم : » والحَوَادِثُ جَمَّةٌ « فائدتُها تَأكيدُ وجوب اتِّباع ملّته؛ لأنَّ مَنْ بَلَغَ من الزُّلْفَى عند الله أن اتَّخَذَه خَلِيلاً ، كان جديراً بأن يُتَّبع » فإنْ عنى بالاعْتِرَاضِ المُصْطَلحَ عليه ، فَلَيْس ثَمَّ اعْتِراضٌ؛ إذ الاعْتِرَاضُ بين مُتلازِمِيْن؛ كفِعْل وفَاعِلٍ ، ومُبْتَدأ وخَبَر وشَرْط وجَزَاء ، وقَسَم وَجَواب ، وإن عَنَى غير ذلك احتُمِل ، إلا أنَّ تنظيرَه بقولهم : « والحَوَادِثُ جَمَّةٌ » يُشْعِر بالاعْتِرَاض المُصْطَلح عليه؛ فإن قولهم : « والحَوَادِثُ جَمَّةٌ » وَرَدَ في بَيْتَيْنِ :
أحدهما : بين فِعْل وفَاعِل؛ كقوله : [ الطويل ]
1822- وَقَدْ أدْرَكَتْنِي وَالحَوَادِثُ جَمَّةٌ ... أسِنَّةُ قَوْمٍ لا ضِعَافٍ ولا عُزْلِ
والآخر يَحْتَمِل ذلك ، على أن تكُونَ الباءُ زائدةً في الفَاعِل؛ كقوله : [ الطويل ]
1883- ألاَ هَلْ أتَاهَا والحَوَادِثُ جَمَّةٌ ... بأنَّ امْرَأ القَيْس بنَ تَمْلِكَ بَيْقَرا
ويُحْتَمل أن يكونَ الفَاعِلُ ضميراً دلَّ عليه السِّياق ، أي : هل أتاها الخَبَر بان أمْرأ القيس ، فيكون اعْتِرَاضاً بين الفِعْل ومَعْمُوله .
والخليلُ : مشتق من الخَلَّة بالفَتْح ، وهي الحَاجَة ، أو من الخُلَّة بالضَّمِّ ، وهي المودة الخالصة . وسُمِّي إبْرَاهيم عليه الصلاة والسلام خليلاً أي : فَقِيراً إلى اللَّه؛ لأنَّه لم يَجْعَل فَقْره وفَاقَتَه إلاَّ إلى اللَّه .
قال القُرْطُبيُّ : الخَلِيلُ فعيل ، بِمَعنى : فَاعِل؛ كالعَلِيم ، بمعنى : عالم ، وقيل : هو بِمَعْنَى المَفْعُول؛ كالحَبِيب بِمَعْنَى : المَحْبُوب ، وإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كان مُحبًّا للَّه ، وكان مَحْبُوباً للَّه . أو من الخلل . قال ثَعْلَب : « سُمِّي خليلاً؛ لأن مَوَدَّته تَتَخَلَّلُ القَلْبَ » وأنشد : [ الخفيف ]
1884- قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ... وَبِهِ سُمِّي الْخَلِيلُ خَلِيلا
وقال الرَّاغِب : « الخَلَّة - أي بالفتح - الاختلالُ العَارِضُ للنَّفْس : إمَّا لشَهْوَتِها لِشَيْء ، أو لحاجتهَا إليه ، ولهذا فَسَّر الخَلَّة بالحاَجَة ، والخُلَّة - أي بالضم - : المودة : إما لأنَّها تتَخَلَّل النَّفْس ، أي : تتوسَّطُها ، وإما لأنَّها تُخِلُّ النَّفْسَ؛ فتؤثِّر فيها تأثيرَ السَّهْم في الرَّمِيَّة ، وإمَّا لفَرْطِ الحَاجَة إليْها » .
وقال الزَّجَّاج : معنى الخليل : الذي لَيْس في مَحبَّتِه خَلَل ، وقيل : الخلِيلُ هو الذي يُوافِقُك في خلالِك . قال - عليه الصلاة والسلام - : « تَخَلقوا بأخلاق اللَّه » فلما بلغ إبْرَاهيم - عليه الصلاة والسلام - في هذا البَابِ مبلَغاً لم يَبْلُغْه أحَدٌ ممَّن تقدَّمَه ، لا جَرَم خصَّه اللَّه بهذا الاسْمِ .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : الخَلِيلُ : [ هو ] الذي يُسَايِرُك في طَرِيقك ، من الخَلِّ : وهو الطَّريق في الرَّمْل ، وهذا قَرِيبٌ من الذي قَبْلَه ، وقيل : الخَلِيْلُ : هو الذي يسد خللك كما تسُدُّ خَلَله ، وهذا ضَعِيف؛ لأن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لا يقال : إنه يَسُدُّ الخَلَلَ .
وأما المُفَسِّرُون : فقال الكلبيُّ : عن أبي صَالحٍ ، عن ابن عبَّاس : كان إبْرَاهيم - عليه الصلاة والسلام - أبا الضِّيفان ، وكان مَنْزِلُه على ظَهْر الطِّرِيق يُضِيفُ من مَرَّ بِه ، فأصاب الناس سنَةٌ فَحشِرُوا إلى بَابِ إبْراهيم يَطْلُبون الطَّعَام ، وكانت الميرة له كل سَنَةٍ من صديقٍ له ب « مصر » ، فبعث غِلْمَانه بالإبل إلى خَلِيلِه ب « مصر » ، فقال خلِيلُه لِغلمانه : لو كان إبراهيم إنَّما يريده لنفْسِه ، لاحْتَمَلْنَا ذلك لهُ؛ فقد دَخَلَ عَلَيْنَا ما دَخَلَ على النَّاس من الشِّدَّة ، فرجع رُسُل إبْراهيم - عليه السلام - فمرُّوا بِبَطْحاء [ سهلة ] فقالوا : لو أنَّا حملنا من هذه البَطْحَاء؛ ليرى النَّاسُ أنا قد جِئْنَا بميرة ، فإنَّا نَسْتَحِي أن نمرّ بِهِم ، وإبلنا فَارِغَةٌ ، فملأوا لتك الغرائر سهلة ثم أتَوْا إبْرَاهِيمَ - عليه الصلاة والسلام - فأعْلَمُوهُ [ بذلك ] و [ سارةُ نَائِمَةٌ ] ، فاهْتَمَّ إبْرَاهيم - عليه الصلاة والسلام - لمكان النَّاسِ بِبَابِه ، فَغَلَبته عَيْنَاه فَنَام ، واستيقظت سَارة و [ قد ] ارتفع النَّهَار ، فقَالَت : سُبْحَان الله! ما جَاءَ الغِلْمَان؟ قالوا : بَلَى ، [ قالت : فما جَاؤُوا بِشَيْءٍ؟ قالوا : بَلَى ، ] فَقَامَت إلى الغَرَائِر . فَفَتَحَتْهَا ، [ فإذا ] هِي مَلأى بأجْودِ دَقِيق حوارٍ يكون ، فأمرت الخَبَّازِين ، فَخَبَزُوا وأطْعَمُوا النَّاسَ ، فاسْتَيْقَظ إبْرَاهِيمُ ، فوجد ريحَ الطَّعَامِ ، فقال : يا سَارة مِنْ أيْن هذا؟ فقالت : من عند خَلِيلِك المصْرِيِّ ، فقال : هذا من عِنْد خَلِيلِيَ اللَّه ، قال : فيومَئِذٍ اتَّخَذَهُ [ الله ] خَلِيلاً .
وقال شَهْر بن حَوْشَب : هبط مَلَكٌ في صورة رَجُلٍ ، وذكر اسْمَ اللَّه بِصَوتٍ رَخيمٍ شَجِيٍّ ، فقال إبْرَاهِيم - عليه السلام - : اذكره مَرَّة أخْرَى ، فقال : لا أذْكُرُه مَجَّاناً ، فقال : لك مَالِي كُلُّه ، فذكره المَلَكُ بِصَوتٍ أشْجَى من الأوَّل ، فقال : اذكره مرَّة ثَالِثَة ولك أوْلاَدِي ، فقال المَلَك : أبْشِر ، فإنِّي ملكٌ لا أحْتَاج إلى مَالِكَ وَوَلَدِكَ ، وإنَّما كان المَقْصُود امتْحَانُك؛ فلما بَذَل المَال والوَلَد على سَمَاعِ ذكر الله [ - تعالى - ] لا جرم اتَّخذه اللَّه خَلِيلاً .
وروى طاوُس ، عن ابن عبَّاس : أن جبريل - عليه السَّلام - والملائِكَة ، لما دَخَلُوا على إبْراهيم - عليه [ الصلاة و ] السلام - في صُورة غِلْمَان حِسَان الوُجُوه ، ظنَّ الخليل - عليه السلام - أنهم أضْيَافُه ، وذَبَح لهم عِجْلاً سَمِيناً ، وقرَّبَهُ إليْهِم ، وقال : كلوا على شَرْطِ أن تُسَمُّوا اللَّه - تعالى - في أوَّلِه ، وتَحْمَدُونَهُ في آخِرِه ، فقال جِبْرِيل : أنت خَلِيلُ اللَّه .
قال ابن الخَطِيب : وعندي فيه وَجْهٌ آخَر ، ومعناه : إنما سُمِّي خَلِيلاً ، لأن مَحَبَّة اللَّه تخلَّلت في جَمِيع قُوَاه؛ فصار بحيث لا يَرَى إلا اللَّه ، ولا يَتَحَّرك إلاَّ للَّه ، [ ولا يَسْكن إلا لِلَّه ] ، ولا يسمع إلا باللَّه ، ولا يَمْشِي إلا للَّه ، فكان نُور [ جلال ] اللَّه قد سرى في جَمِيع قُوَاه الجُسْمَانِيَّة ، وتخلَّلَ وغاصَ في جَوَاهِرِها ، وتوغل في ماهِيَّاتها ، ومثل هذا الإنْسَان يوصَفُ بأنه خَلِيلٌ ، وإليه أشار - عليه الصلاة والسلام - بقوله [ في دعَائِهِ ] : « اللهم اجْعَل في قَلْبِي نُوراً ، [ وفي سَمْعِي نُوراً ] ، وفي بَصَرِي نُوراً ، وفي عَصَبِي نُوراً » .
فصل
قال بَعْض النّصَارى : لما جاز إطلاق اسم الخَلِيل على إنْسَانٍ معيَّنٍ على سبيل الإعْزَازِ والتَّشْرِيف فلم لا يَجُوز إطْلاق الابْن في حَقِّ عيسى - عليه السلام - على سبيل الإعزاز والتشريف؟
وجوابُهم : أن الفَرْق بَيْنَهُما : بأن الخليل عِبَارةٌ عن المَحَبَّة المُفْرِطَةِ ، وذلك لا يَقْتَضِي الجِنْسِيَّة ، وأما الابْنُ : فإنه يُشْعِر بالجِنْسِيَّة ، وجلَّ الإله عن مُجَانَسَة المُمْكِنات ، ومشَابهة المُحْدَثَات .
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
في تعلُّق الآيَة بما قَبْلَها وُجُوه :
أحدها : [ أن المعنى ] أن الله لم يَتَّخِذْ إبْرَاهِيم خليلاً لاحتياجه إلَيْه في شَيْءٍ كخلةِ الآدميِّين ، وكيف يُعْقَل ذلك ، وله مُلْك السَّموات والأرض ، وإنما اتَّخَذَهُ خليلاً لمحض الكَرَم .
وثانيها : أنَّه - تعالى - ذكر من أوَّل السُّورة إلى هذا المَوْضِع أنْواعاً كَثِيرَة من الأمر والنَّهْي ، والوعْد والوَعيد ، وذكر في هَذِه الآيَة أنَّه إلَه المُحْدَثَاتِ ، وموجِدُ الكائِنَاتِ ، ومن كان مَلِكَاً مطاعاً ، وجب على كُلِّ عاقلٍ أنْ يَخْضَعَ لتكاليفه ، ويَنْقَادَ لأمْرِه .
وثالثها : أنه - تعالى - لما ذكر الوَعْدَ والوَعِيدَ ، ولا يمكن الوَفَاءُ بهما إلا بأمْرَيْن :
أحدهما : القُدْرةُ التَّامَّة [ المتعلِّقة ] بجميع الكَائِنَات والمُمْكِنَات .
والثاني : [ العِلْم ] المتعلِّق بجميع الجُزْئِيَّات والكُلِّياتِ؛ حتى لا يَشْتَبِه عليه المُطِيعُ ، والعَاصِي ، والمحسن والمُسِيءُ؛ فدلَّ على كَمَال قُدْرَته بِقَوْله : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } ، وعلى كَمَال عِلْمِهِ بقوله : { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً } .
ورابعها : أنه - تعالى - لمّا وصَفَ إبْراهيم - عليه الصلاة والسلام - بأنه خَلِيلُه ، بين أنَّه مع هذه الخُلَّة عَبْدٌ لَهُ ، وذَلِك أنَّ له مَا فِي السَّمواتِ ومَا في الأرْض ، ونَظِيرُه قوله تعالى : { إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً } [ مريم : 93 ] ويجري مُجْرَى قوله : { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملاائكة المقربون } [ النساء : 172 ] يعني : أنَّ الملائكة مع كَمَالِهِم في صِفَةِ القُدرةِ ، والقوَّة في صِفَة العِلْم والحِكْمَة ، لم يَسْتَنْكِفُوا عن عِبَادة اللَّه؛ كذا هَهُنا ، يعني : إذا كَانَ كل من في السَّموات والأرْض مِلْكُه في تَسْخِيره ، فكيْفَ يعْقَل أن يُقَالَ : إن اتِّخَاذ اللَّه إبْراهيم خَلِيلاً ، يخرجه عن عُبُودِيَّة اللَّه .
فصل
إنما قال : { مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } ولم يقل « مَنْ » لأنه ذَهَب به مَذْهَبَ الجِنْس ، والذي يُعْقَل إذا ذُكِر وأريد به الجنْسُ ، ذكر ب « مَا » .
قوله : { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً } فيه وَجْهَان :
أحدهما : المُرَاد مِنْهُ : الإحاطة في العِلْم .
والثاني : الإحَاطَة بالقُدْرَة؛ كقوله : { وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } [ الفتح : 21 ] .
قال القَائِلُون بهذا القَوْل : وليس لِقَائِلٍ أن يَقُولَ : لمَّا دل قوله : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } على كمال القُدْرَةِ ، لزم التَّكْرَار؛ لأنَّا نقول إنَّ قوله { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ لا يفيد ظاهره ] إلا كونه قَادِراً على ما يَكُون خَارِجَاً عَنْهُمَا ، ومغايراً [ لهما ] ، فلما قال : { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً } دلَّ ذلك على كَوْنه قَادِراً على ما لا نهاية له من المَقْدُورَات خَارِج هذه السَّمَواتِ والأرْضِ .
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
أي : يستَخْبِرُونك في النِّسَاء .
قال الواحدي - رحمه الله - : الاستِفْتَاء : طَلَب الفَتْوَى ، يقال : اسْتَفْتَيْتُ الرَّجل في المَسْألة؛ فأفْتَاني إفتاءاً وفُتْياً وفَتْوًى ، [ وهما ] اسمْان وُضِعَا موضع الإفْتَاء ، ويُقَال : أفْتَيْت فُلاناً في رؤيا رآهَا إذا عَبَّرها ، قال - تعالى - : { يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ } [ يوسف : 46 ] ، ومعنى : أفتنا : إظْهار المُشْكِل ، وأصْلُه : من الفَتَى : وهو الشَّابُّ القَوِي ، فالمعنى : كأنَّه يَقْوى بِفتيانِه ، والمُشْكِل إذا زَالَ إشْكَالُه بِبيَانِهِ مَا أشْكِل ، يصيرُ قويّاً فَتِيّاً .
واعلم : أنَّ عَادَة اللَّه فِي ترتيب هذا الكِتَابِ الكَرِيمِ ، أنْ يَذكُر الأحْكَام ، ثَمَّ يذْكُرُ عَقِيبه آياتِ الوَعدِ والوَعِيدِ ، والتَّرغِيب والتَّرهيب ، ويخلط بها آياتٍ دَالةً على كِبْرِياء اللَّه - تعالى - وجلالِ قُدْرَتِه ، ثم يَعُود إلى بَيَان الأحْكَام ، وهذا أحْسَن أنواع التَّرْتِيب ، وأقوى تَأثِيراً في القُلُوب؛ لأن التَّكْلِيف بالأعْمَال الشَّاقَّةِ لا يقع مَوْقِعِ القُبُول ، إلا إذا اقْتَرن بالوَعْد والوَعِيد ، وذلك لا يُؤثِّر إلا عند القَطْع بِغَايَةِ كَمَال من صَدَر عنه الوَعْد والوَعِيد .
قوله [ تعالى ] : { قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } الآية اعلم : أن الاستِفْتَاء لا يقع عن ذَوات النِّساء ، وإنَّما يقع عن حَالةٍ من أحْوَالِهِنّ ، وصفة من صِفاتِهِن ، وتلك الحَالَة غير مَذْكُورة في الآية ، فكانت مُجْمَلة غير دَالَّة على الأمْر الذي وقع عَنْه الاستِفْتَاءِ .
فصل في سبب نزول الآية
قال القُرْطُبِي : هذه الآية نَزَلَت بسبب قَوْم من الصَّحَابة ، سألوا عن أمر النِّسَاء وأحْكَامِهِن في المِيرَاث وغير ذَلِك ، فأمَر اللَّه نبيَّه - عليه الصلاة والسلام - أن يَقُول لَهُم : { الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } أي : يبيِّن لكم حُكْم ما سَألْتُم عَنْه ، وهذه الآيَة رُجوعٌ إلى ما افْتُتِحَتْ به السُّورة من أمْر النِّسَاءِ ، وكانَ قد بَقِيتْ لهم أحْكَام لم يَعْرِفُوها ، فسألوا؛ فقيل لهُم : [ إن ] الله يُفْتيكُم فيهنَّ .
[ وروي عن مَالِكٍ قَالَ : كان رسُول الله صلى الله عليه وسلم يسأل فلا يُجيبُ حتى ينزل عليه الوحي ، وذلك في كِتَاب الله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } ] { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى } [ البقرة : 220 ] { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } [ البقرة : 219 ] { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال } [ طه : 105 ] و { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } [ المائدة : 4 ] .
« وما يُتْلى » : فيه سَبْعَة أوْجه ، وذلك أن مَوْضع « ما » يحتمل أن يكُون رفعاً ، أو نصباً ، أو جراً ، فالرَّفْعُ من ثَلاَثة أوْجُه :
أحدها : أن يكون مرفوعاً ، عَطْفاً على الضَّمِير المستكِنِّ في « يُفتيكم » العائد على الله - تعالى - ، وجاز ذلك للفَصْل بالمَفْعُول والجَارِّ والمَجْرُور ، مع أن الفَصْلَ بأحدهما كافٍ .
والثَّانِي : أنه مَعْطُوفٌ على لَفْظِ الجلالة فَقَطَ؛ ذكره أبو البقاء وغيرُه ، وفيه نَظَر؛ لأنه : إمَّا أنْ يُجْعَلَ من عَطْف مفردٍ على مُفْردٍ ، فكان يَجِبُ أن يُثَنَّى الخَبرُ ، وإن توسَّط بين المُتَعَاطفين ، فيقال : « يُفْتِيانِكُم » ، إلاَّ أنَّ ذلك لا يجُوز ، ومَنِ ادَّعى جَوازَه ، يَحْتاج إلى سَمَاع من العَرَب ، فيقال : « زيد قَائِمَان وعَمْرو » ، ومثلُ هذا لا يجُوز ، وإمَّا أن يُجْعَلَ من عَطْف الجُمَل ، بمَعْنَى : أنَّ خبرَ الثَّاني محذوفٌ ، أي : وما يُتْلَى عَلَيْكُم ، يُفْتيكم ، فيكون هذا هو الوَجْه الثَّالث - وقد ذكروه - فَيَلْزَم التَّكْرَار .
والثالث من أوْجُه الرَّفع : أنه رَفْع بالابْتِدَاء ، وفي الخبَر احْتِمَالان :
أحدهما : أنه الجَارُّ بعده ، وهو « فِي الكِتَابِ » والمرادُ ب « ما يتلى » القرآنُ ، وب « الكتاب » : اللوحُ المحفوظ ، وتكُونُ هذه الجُمْلَة معترضةً بين البدل والمُبْدَل منه ، على ما سيأتي بَيَانُه ، وفائدةُ الإخْبَار بذلك : تَعْظِيمُ المَتْلوِّ ، ورفعُ شأنه؛ كقوله : { وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ الزخرف : 4 ] .
والاحتمال الثاني : أن الخبر مَحْذُوفٌ ، أي : والمتلوُّ عَلَيْكم في الكتاب يُفْتيكم ، أو يبيِّن لَكُم أحْكَامَهُن .
وذلك المَتْلُوّ في الكِتَاب هو قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى } [ النساء : 3 ] وحَاصِل الكلام : أنَّهم قد سألُوا عن أحْوَال كَثِيرةٍ من أحْوالِ النِّسَاء ، فما كان مِنْهَا غير مُبَيَّن الحُكْم ، ذَكر أن اللَّه يُفْتِيهم فيها ، وما كان فِيهَا مُبَيَّن الحُكْم في الآيات المُتَقَدِّمَةِ ، ذكر أن تِلْك الآيَات المَتْلُوة تُفْتيهم فيها ، وجعل دَلاَلة الكِتَاب على الحُكْم إفتاء من الكتاب؛ كما يُقَال في المَجَازِ المَشْهُور : كِتَاب اللَّه يُبَيِّن لنا هَذَا الحُكْم ، وكلام الزَّمخشري يحتمل جَمِيع الأوْجُه ، فإنه قال : « ما يُتْلى » في مَحَلِّ الرفع ، أي : اللَّهُ يُفْتِيكُم ، والمتلوُّ في الكِتَاب في مَعْنَى : اليتامى ، يعني قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى } [ النساء : 3 ] . وهو من قَوْلِك : « أعْجَبَنِي زَيْدٌ وكَرَمُه » انتهى ، يعني : أنَّه من باب التَّجْريد؛ إذ المقصودُ الإخْبَارُ بإعجَاب كَرَم زيدٍ ، وإنما ذُكِر زَيْدٌ؛ ليُفيدَ هذا المَعْنَى الخاصَّ لذلك المَقْصُود أنّ الذي يُفْتيهم هو المَتْلُوُّ في الكِتَابِ ، وذُكِرت الجَلاَلةُ للمعنى المُشَار ، وقد تقدَّم تَحْقِيق التَّجْرِيد في أوَّل البَقَرة ، عند قوله : { يُخَادِعُونَ الله } [ البقرة : 9 ] .
والجَرُّ من وَجْهَيْن :
أحدهما : أن تكُون الواوُ للقَسَم ، وأقسمَ اللَّهُ بالمَتْلُوِّ في شأن النِّساء؛ تَعْظِيماً له ، كأنه قيل : وأقْسِمُ بما يُتْلى عَلَيْكُم في الكِتاب؛ ذكره الزمخشري .
والثاني : أنه عَطْفٌ على الضَّمِير المَجْرُور ب « في » أي : يُفْتِيكُمْ فيهنَّ وفيما يُتْلَى ، وهذا مَنْقُولٌ عن محمَّد بن أبي مُوسَى ، قال : « أفتاهم الله فيما سألُوا عنه ، وفيما لَمْ يَسْألوا » ، إلا أنَّ هذا ضَعِيفٌ من حَيْث الصِّنَاعةُ؛ لأنه عطفٌ على الضمير المَجْرُورِ من غير إعَادَة الجَارِّ؛ وهو رأي الكُوفيِّين ، وقد تقدَّم مذاهب النَّاسِ فيه عند قوله : { وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام } [ البقرة : 217 ] .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « ليس بِسَديدٍ أن يُعْطَفَ على المَجْرُورِ في » فيهنَّ « ؛ لاخْتِلاله من حيث اللَّفْظِ والمَعْنَى » وهذا سَبقَه إليه أبُو إسْحاق .
قال [ الزجاج ] : وهذا بَعِيدٌ بالنِّسْبَة إلى اللَّفْظِ وإلى المَعْنَى : أمَّا اللَّفْظُ؛ فإنه يقتضي عَطْفُ المُظْهَر على المُضْمَرِ ، وأما المَعْنَى : فلأنه ليس المُرادُ أنَّ اللَّهَ يُفْتيكم في شَأنِ ما يُتْلَى عليكم في الكِتَاب ، وذلك غيرُ جَائزٍ؛ كما لم يَجُزْ في قوله
{ تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام } [ النساء : 1 ] يعني : من غير إعادةِ الجَارِّ .
وقد أجَابَ أبو حيَّان عما ردَّ به الزَّمَخَشريُّ والزجاج؛ بأن التَّقْدِيرَ : يُفْتيكم في مَتْلُوِّهِنَّ ، وفيما يُتْلَى عليكم في الكِتَاب في يتامى النِّسَاء ، وحُذِف لدلالة قوله : { وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ } ، وإضافةُ « مَتْلُو » إلى ضمير « هُنَّ » سائغةٌ ، إذ الإضافة إليهنَّ ، كقوله : { مَكْرُ الليل والنهار } [ سبأ : 33 ] لمَّا كان المَكْرُ يقع فيهما ، صَحَّتْ إضافتُه إليْهِمَا ، ومثله قول الآخر : [ الطويل ]
1885- إذَا كَوْكَبُ الخَرْقَاءِ لاَحَ بِسُحْرَةٍ ... سُهَيْلٌ أذَاعَتْ غَزْلَهَا في الغَرَائِبِ
[ قال شهاب الدين : وفي هذا الجواب نظرٌ .
والنَّصْبُ بإضمار فِعْل ، أي : ويبيِّن لَكُم ما يُتْلى [ عليكم ] ؛ لأنَّ « يُفْتيكُم » بمعنى يبيِّن لكم ، واختار أبو حيَّان وجْهَ الجرِّ على العَطْفِ على الضَّمير ، مختاراً لمَذْهَبِ الكوفيِّين قال : لأنّ الأوْجُه كلَّها تؤدِّي إلى التَّأكيد ، وأمَّا وَجْهُ العَطْفِ على الضمير [ المَجْرُور ] ، فيجعلُه تأسِيساً ، قال : « وإذا دار الأمْرُ بينهما؛ فالتَّأسيس أوْلى » ، وفي إفْرَادِ هذا الوَجْهِ بالتَّأسيس دُونَ بَقِيَّةِ الأوْجُه نظرٌ لا يَخْفى .
قوله : « فِي الكِتَابِ » يجوزُ فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ :
أحدها : أنه مُتَعَلِّقٌ ب « يُتْلى » .
والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحْذُوفٍ على أنه حَالٌ من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في « يُتْلى » .
والثالث : أنه خَبَر « مَا يُتْلى » عَلَى الوَجْه الصَّائِر إلى أنَّ « مَا يُتْلى » مبتدأ ، فيتعلق بمَحْذُوف أيضاً ، إلاَّ أنَّ مَحَلَّه على هذا الوجهِ رفعٌ ، وعلى ما قَبْلَه نصبٌ . قوله : « فِي يَتَامَى النسآء » يجوزُ فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ :
أحدُها : أنه بَدلٌ من « الكِتَاب » وهو بدلُ اشْتِمَالٍ ، ولا بد مِنْ حَذْفِ مُضَافٍ ، أي : في حُكْم يَتَامَى ، ولا شك أن الكِتابَ مشتملٌ على ذِكْرِ أحكامِهِن .
والثاني : أن يتعلَّق ب « يُتْلَى » .
فإن قيل : كيف يجُوزُ تعلُّقُ حَرْفَيْ جرٍّ بلفظ وَاحِدٍ ، ومعنى واحِدٍ؟
فالجوابُ أنَّ مَعْنَاهما مُخْتَلفٌ ، لأن الأولى للظَّرْفية على بابها ، والثانية بمعنى البَاءِ ، للسببية مَجَازاً ، أو حقيقةً عِنْد مَنْ يقولُ بالاشتراك .
وقال أبو البقاء : كما تَقُولُ : « جئتُك في يوم الجُمْعَة في أمْرِ زَيْدٍ » .
والثالث : أنه بَدَل من « فِيهِنَّ » بإعادة العَامِل ، ويكون هذا بَدَل بَعْض من كُلٍّ .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « فإنْ قُلْت : بِمَ تعلَّق قوله : { في يتامى النِّسَاء؟ } قلت : في الوَجْه الأوَّل هو صِلَةُ » يُتْلى « أي : يُتْلى عَلَيْكُم في مَعنَاهُنَّ ، ويجُوز أن يكُون » في يتامى « بَدَلاً من » فيهنَّ « ، وأما في الوَجْهَيْن الأخِيرَيْن فبدلٌ لا غير » انتهى ، يَعْنِي بالوجْه الأول : أن يكون « مَا يُتْلَى » مَرْفُوعَ المَحَلِّ .
قال أبو حيَّان : « أمَّا ما أجازه في وجه الرفع من كونه صلة » يتلى « فلا يجُوزُ إلاَّ أنْ يكونَ بَدَلاً مِنْ » فِي الكِتَابِ « أو تكون » في « للسَّبَبية ، لئلا يتعلّق حَرْفا جر بلفظٍ واحد ، ومعنى واحد ، بعاملٍ واحدٍ ، وهو ممتنعٌ إلاَّ في البَدَل والعَطْفِ ، وأمَّا تجويزُه أنْ يكونَ بَدَلاً من » فيهن « فالظاهرُ أنه لا يجُوز؛ للفَصْلِ بين البَدَلِ والمُبْدَلِ منه بالمَعْطُوف ، ويصير هذا نظير قولك : » زيدٌ يقيمُ في الدَّارِ ، وعمرو في كِسْرٍ مِنْهَا « فَفَصَلْتَ بين » فِي الدَّارِ « وبين » في كِسْرِ « ب » عمرو « ، والمَعْهُودُ في مثل هذا التَّرْكيب : » زيدٌ يقيمُ في الدَّارِ في كِسْرٍ منها وعمرو « .
الرابع : أنْ يتعلَّق بنفس الكِتَاب أي : فيما كَتَب في حُكْم اليَتَامَى .
الخامس : أنه حَالٌ فيتعلَّق بمَحْذوفٍ ، وصاحبُ الحالِ هو المَرْفُوعُ ب » يُتْلى « أي : كائناً في حُكْم يتامَى النِّسَاء ، وإضافةُ » يَتَامى « إلى النِّساء من باب إضافةِ الخاصِّ إلى العَامَّ؛ لأنهن يَنْقَسمْن إلى يتامَى وغَيْرِهِن .
وقال الكُوفيُّون : هو من إضافة الصِّفَة إلى المَوْصُوف؛ إذا الأصلُ : في النِّساء اليتامى كقولك : يوم الجمعة وحق اليقين ، وهذا عند البَصْريِّين لا يجُوزُ ، ويُؤوِّلُون ما وَرَدَ من ذَلِك؛ ولأن الصفة والموصُوف شيء واحدٌ ، وإضافة الشيء إلى نفسه محَالٌ .
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : فإنْ قُلْت : إضافة اليَتَامَى إلى النِّسَاء ما هِيَ؟ قلت : هي إضافةٌ ، بمَعْنَى : » مِنْ « نحو : سُحْقِ عِمَامةٍ .
قال أبو حيًّان : » والذي ذكره النَّحوِيُّون من ذلك [ إنَّما هُو ] إضافة الشَّيْء إلى جِنْسِه ، نحو : « خاتمُ حَدِيدٍ » ويجوزُ الفَصْل : إمَّا بإتباع ، نحو : « خاتمٌ حديدٌ » ، أو تنصبَه تَمْييزاً ، نحو : « خاتمٌ حديداً » ، أو بجره ب « مِنْ » نَحْو : خاتم من حَديدٍ « ، قال : » والظَّاهِر أن إضافة « سُحْقِ عِمَامةٍ » و « يَتامَى النِّساء » بمعنى : اللام ، ومعنى اللام : الاخْتِصَاص « . وهذا الردُّ لَيْس بشيء ، فإنهم ذَكَروا [ في ] ضَابِط الإضَافة التي بِمَعْنى » مِنْ « أن تكونَ إضَافَة جُزْءٍ إلى كُلٍّ ، بشرطِ صِدْقِ اسمِ الكُلِّ على البعْضِ ، ولا شك أن » يَتَامَى « بَعْض من النِّسَاء ، والنِّسَاء يَصْدُق عَلَيْهِنَّ ، وتحرَّزْنَا بقولنا : » بشرط صِدْقِ الكُلِّ على البَعْض « من نحو : » يَدُ زَيْد « فإنَّ زيداً لا يَصْدُقُ على اليَدِ وحْدَها .
وقال أبو البقاء : { في يتامى النِّساء } [ أي : ] في اليتَامَى مِنْهُنَّ » وهذا تَفْسِيرُ معنى لا إعْرَابٍ .
والجُمْهُور على « يَتَامَى » جمع : يَتيمَة .
وقرأ أبو عَبْد الله المَدَنِي : « ييامى » بياءيْن مِنْ تَحْتُ ، وخرَّجه ابن جِنِّي : على أن الأصْل « أيامَى » فأبْدَلَ من الهَمْزَة ياءً ، كما قَالُوا : « فلانٌ ابنُ أعْصُر ويَعْصُر » ، والهَمْزَةُ أصلٌ ، سُمِّي بذلك لقوله : [ الكامل ]
1886- أبُنَيَّ إنَّ أبَاكَ غَيَّرَ لَوْنَهُ ... كَرُّ اللَّيَالِي واخْتِلاَفُ الأعْصُرِ
وهم يُبْدِلُون الهَمْزة من اليَاء ، كقولهم : « قَطَع الله أدَهُ » يريدون : يدَهُ ، فلذلك يُبْدِلون منها اليَاءَ ، و « أيامى » : جَمْع « أيِّم » بوزن : فَيْعِل ، ثم كُسِّر على أيَايِم ، كسيِّد وسَيَايِد ، ثم قُلِبَتِ اللاَّم إلى مَوْضِع العَيْنِ ، والعَيْن إلى مَوْضِعِ اللاَّم ، فصار اللَّفْظ « أيامى » ثم قُلِبت الكَسْرَةُ فتحةً؛ لِخفَّتِها ، فتحركت الياءُ وانفتح ما قَبْلَها ، فقلبت ألفاً؛ فصار : « أيامى » فوزنه فَيَالِع .
وقال أبو الفَتْحِ أيضاً : ولو قيل إنه كُسِّر أيِّمٌ على فَعْلَى ، كسَكْرَى ، ثم كُسِّر ثانياً على « أيامى » لكان وجهاً حسناً ، وسيأتي تَحْقيق هذه اللَّفْظَةِ [ إن شاءالله تعالى ] عند قوله : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } [ النور : 32 ] .
وقرئ : « ما كَتَبَ اللَّهُ لَهُنَّ » بتسمية الفَاعِلِ .
فصل في سبب نزول الآية
ذَكَرُوا في سَبَبِ نُزُول الآية قَوْلَيْن :
الأوّل : أن العَرَب كانت لا تُورثُ النِّساء والصِّبْيَان شيئاً من المِيراثِ؛ كما ذكرنا في أوَّلِ السُّورَةِ ، فنزلت هذه الآية في تَوْريثهم ، قال ابن عبَّاسٍ : يريد ما فَرَضَ لَهُنَّ من المِيرَاثِ .
الثاني : أن الآية نزلت في تَوْفِية الصَّداق لَهُنَّ ، وكانت اليتيمَةُ تكون عند الرَّجُلِ ، فإن كانت جَمِيلةً ومَالَ إلَيْهَا ، تزوَّجَ بها وأكَلَ مالها ، وإن كانت ذَمِيمَةً ، منعها الأزْوَاجَ حتى تَمُوتَ ، فأنزل اللَّه هذه الآية .
قوله : « وتَرْغبون » فيه أوْجُه :
أحدُها : - وهو الظاهر - أنه مَعْطُوفٌ على الصِّلةِ ، عطف جملةٍ مُثْبَتةٍ على جُمْلةٍ منفية ، أي : اللاَّتي لا تُؤتُونَهُنَّ ، واللاًّتي ترغبُون أن تَنْكحوهُنَّ؛ كقولك : « جاء الَّذِي لا يَبْخَلُ ، ويُكْرِم الضِّيفَان » .
والثاني : أنه مَعْطُوفٌ على الفَعْلِ المَنْفِيِّ ب « لا » أي : لا تؤتُونَهُن ولا تَرْغَبُون .
والثالث : أنه حَالٌ من فاعِل « تؤتونهن » أي : لا تؤتُونَهُنَّ ، وأنتم رَاغِبُون فِي نِكاحِهِنَّ ، ذكر هذين الوجْهَيْن أبو البقاء ، وفيهما نَظَر : أمّا الأولُ : فلخلافِ الظَّاهِر ، وأما الثَّانِي : فلأنه مُضَارع فلا تَدْخُل عليه الواوُ إلا بِتَأويلٍ لا حَاجَة لنا بِهِ هَهُنَا .
و « أن تَنْكِحُوهُنَّ » على حَذْفِ حَرْفِ الجَرِّ ، ففيه الخلاف المَشْهُور : أهي في محل نَصْب أم جر؟ واختُلِفَ في تَقْدير حرف الجَرِّ .
فقيل : هو « في » أي : تَرْغبُون في نِكَاحِهِنَّ؛ لقُبْحهن وفَقْرهنَّ ، وكان الأوْلِيَاء كذلك : إن رَأوها جَمِيلَةً مُوسِرَةً ، تزوجها وَليُّها ، وإلاَّ رغبَ عَنْها ، والقَوْل الأوَّل مَرْوِيٌّ عن عَائِشَة وطَائِفَة كَبِيرةٍ .
قال أبو عُبَيْدَة : هذه الآية [ تَحْتَمِل ] الرَّغْبَة والنَّفْرَة .
فإن حَمَلْته على الرًّغبة ، كان المعنى : وتَرْغَبُون أن تَنْكِحُوهُنَّ .
وإن حملته على النَّفْرة ، كان المَعْنَى : وترغبون عن أن تنكحوهن؛ لدمامتهن .
فإن قيل : إن النحاة ذكروا أن حَرْف الجَرِّ يجوز حذفُه باطِّرادَ مع « أنْ » و « أنَّ » بِشَرْط أمْنِ اللَّبْس ، يعني : أن يكون الحَرْفُ متعيّناً ، نحو : « عَجبْت أن تَقُوم » أي : من أن تَقُوم ، بخلاف « مِلْتُ إلى أنْ تَقُوم » أو « عَنْ أنْ تَقُوم » والآيةُ من هذا القَبِيل .
فالجواب : أن المَعْنَييْن هُنا صَالِحَان؛ يدل عليه ما ذَكَرْت لك من سَبب النُّزُولِ ، فصار كلٌّ من الحَرْفَيْن مراداً على سَبِيل البَدَل .
فصل مذهب الأحْنَاف فيمَن له ولاية الإجبار
استدل الحَنَفِيَّة بهذه الآيَة ، على أنَّه يَجُوز لغير الأب والجَدِّ تزويج الصَّغيرة ، ولا حجَّة لهم فيها؛ لاحْتِمَال أن يكون المُرَادُ : وتَرْغَبُون أن تُنْكِحُوهُن إذا بَلَغْن ، ويدل على صِحَّة قَوْلِنا : إن قُدَامة بن مَظْعُون زَوَّج ابْنَة أخيه عُثْمَان بن مَظْعُون من عَبْد الله بن عُمَر ، فخطبها المُغِيرَة بن شُعْبَة ، ورغَّب أمَّهَا في المَالِ ، فجاءوا إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قُدَامَةُ : أنا عَمُّهَا وَوَصِيُّ أبيهَا ، فقال النَّبِيُّ - عليه الصلاة والسلام - : « إنَّها صَغِيرة ولا تُزَوَّج إلا بإذْنِها » وفرَّق بَيْنَها وبين ابْن عُمر ، وليس في الآيَة أكْثَرُ من رغْبَة الأوْلِيَاء في نِكَاحِ اليَتِيمَةِ ، وذلك لا يَدُلُّ على الجَوَازِ .
[ قوله : « والمستضعفين » فيه ثلاثة أوْجُه :
أظهرُهَا : - أنه مَعْطُوفٌ على « يَتَامَى النِّسَاء » أي : ما يُتْلَى عَلَيْكُم في يَتَامَى النِّسَاء وفي المُسْتَضْعَفِين ، والذي تُلِي عَلَيْهِم فيهم قوله : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } [ النساء : 11 ] ، وذلك أنَّهُم كانوا يَقُولون : لا نُوَرِّثُ إلا مَنْ يَحْمِي الحَوْزَة ، ويَذُبُّ عن الحَرَمِ ، فيَحْرِمُون المَرْأةَ والصَّغِيرَ؛ فنزلت ] .
{ والمُسْتضعَفِين من الوِلْدَان } وهم الصِّغَار ، أن تُعْطُوهم حُقُوقَهُم؛ لأنَّهم كانوا لا يُورثون الصِّغَار ، يريد ما يُتْلَى عليكم في باب « اليَتَامَى » من قوله : { وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 2 ] ، يعني : إعطاء حقوق الصِّغار .
والثَّاني : أنَّه في مَحَلِّ جر ، عَطْفاً على الضَّمِير في « فيهن » ؛ وهذا رأيٌ كوفِيّ .
والثالث : أنه مَنْصُوبٌ عطفاً على مَوْضِع « فيهن » أي : ويبيِّن حال المستضعفين .
قال أبو البقاء : « وهذا التَّقْدِيرُ يَدْخُلُ في مَذْهَب البَصريِّين مِنْ غيرِ كَلَفَةٍ » يعني : أنه خَيْرٌ من مَذْهَب الكُوفيين ، حيث يُعْطَفُ على الضَّمِير المَجْرُور مِنْ غَيْرِ إعادَةِ الجَارِّ .
قوله : « وأنْ تقوموا » فيه خَمْسَةُ أوجه :
الثلاثة المتقدمة قَبْله ، فيكون هو كَذَلِك لِعطْفِه على ما قَبْلَه ، والمتلوُّ عليهم في هذا المَعْنَى قوله : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] .
والرابع : النَّصْبُ بإضمار فعل .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « ويجوزُ أنْ يكون مَنْصُوباً بإضْمار » يأمُرُكُم « ، بمعنى : ويأمركم أن تقُومُوا ، وهو خِطَابٌ للأئمة بأنْ يَنْظُروا إليْهِم ، ويَسْتَوْفُوا لهم حُقُوقَهم ، ولا يَدَعُوا أحداً يَهْتَضِمُ جَانِبَهُم » ، فهذا الوَجْه من النَّصْب غيرُ الوَجْهِ المذْكُور قَبْلَه .
والخامس : أنه مُبْتدأ ، وخبره مَحْذُوفٌ ، أي : وقيامُكم لليتامَى بالقِسْطِ خيرٌ لَكُم ، وأولُ الأوجُهِ أوجَهُ ، والمعنى : أن تقوموا لليتَامَى بالقِسْطِ ، أي : بالعَدْل فِي مُهُورِهِن ، ومواريثهِن .
ثم قال : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً } يجازِيكُم به .
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
وقوله : « وَإِنِ امرأة » : « امرأةٌ » فاعلٌ بِفعْلٍ مضمر واجب الإضْمَار ، وهذه من باب الاشْتِغَال ، ولا يجُوز رَفْعُها بالابْتداء ، لأنَّ أداةَ الشَّرْطِ لا يَلِيها إلا الفِعْلُ عند جُمْهُور البَصْرِيِّين ، خلافاً للأخفش ، والكُوفيِّين ، والتقديرُ : « وإنْ خافت امْرأةٌ خَافَتْ » ، ونحوهُ : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك } [ التوبة : 6 ] ، واستدلَّ البَصْرِيُّون على مَذْهَبهم : بأن الفعل قد جَاءَ مَجْزُوماً بعد الاسْمِ الوَاقِع بعد أداة الشَّرْط في قَوْل عديٍّ : [ الخفيف ]
1887- وَمَتَى وَاغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو ... هُ وَتُعْطَفْ عَلَيْه كَأسُ السَّاقِي
قال بعضهم : خافت ، أي : عَلِمَت ، وقيل : ظَنَّت . قال ابن الخطِيب : ولا حَاجَة لِتَرْك الظَّاهر؛ لأن الخَوْف إنَّما يكون عند ظُهُور أماراتٍ [ تدلُّ عليه ] من جِهَة الزَّوْجِ ، إمَّا قَوْلِيَّةٌ أو فِعْلِيَّةٌ .
قوله « مِن بَعْلِها » يجوزُ أن يَتَعَلَّق ب « خَافَت » وهو الظَّاهِر ، وأن يتعلَّق بمَحْذُوف على أنه حَالٌ من : « نُشوزاً » إذ هو في الأصْل صِفَةُ نكرةٍ ، فلمَّا قُدِّم عَلَيْها ، تعذَّر جَعْلُه صِفَةً ، فنُصِب حالاً ، و « فلا » جَوَابُ الشَّرْطِ ، والبَعْل : يطلق على الزَّوْج ، وعلى السَّيِّد .
قوله « أَن يُصْلِحَا » قرأ الكوفيون : « يُصْلِحا » من أصْلَح ، وباقي السَّبْعة « يَصَّالحا » بتشديد الصَّاد بعدها ألف ، وقرأ عثمان البتي والجَحْدَري : « يَصَّلِحا » بتشديد الصَّاد من غَيْر ألفٍ ، وعبيدة السَّلَمَانِيّ : « يُصالِحا » بضمِّ الياءِ ، وتخفيفِ الصَّادِ ، وبعدَها ألفٌ من المُفَاعَلَة ، وابن مَسْعُود ، والأعْمش : « أن اصَّالحا » .
فأمّا قراءةُ الكوفيين فَوَاضِحَةٌ .
وقراءةُ باقي السَّبْعَة ، أصلُهَا : « يتصالحا » ، فأُريد الإدْغَام تَخْفِيفاً؛ فأبْدِلت التَّاءُ صاداً وأدْغِمت ، كقوله : « ادّاركوا » . وأمَّا قراءةُ عُثْمَان ، فأصلُها : « يَصْطَلِحا » فَخُفِّفَ بإبْدَالِ الطَّاء المُبْدَلةِ من تاءِ الافْتِعَال صَاداً ، وإدغامها فيما بَعْدَها .
وقال أبو البقاء : « وأصله : » يَصْتَلِحا « فأبْدِلت التاء صَاداً وأدْغِمت فيها الأولَى » وهذا ليس بِجَيِّدٍ ، لأنَّ تاءَ الافْتِعَال يجبُ قَلْبُها طاءً بعد الأحْرُف الأرْبَعَة؛ كما تقدَّم تَحْقِيقُه في البَقرة ، فلا حَاجَة إلى تَقْديرهَا تاءً؛ لأنه لو لُفِظ بالفِعْلِ مظهراً لم يُلْفظ فيه بالتَّاء إلا بَياناً لأصْلِه .
وأمَّا قراءةُ عُبَيْدة فواضحةٌ؛ لأنها من المُصَالَحة .
وأما قِرَاءة : « يَصْطَلِحَا » فأوضحُ ، ولم يُخْتَلَفْ في « صُلْحاً » مع اختلافِهِم في فِعْلِهِ .
وفي نصبه أوجهٌ :
فإنه على قِرَاءة الكوفيين : يَحْتمل أن يكُونَ مَصْدَراً ، وناصبُه : إمَّا الفِعْلُ المتقدِّمُ وهو مَصْدَرٌ على حَذْف الزَّوَائِد ، وبعضُهم يعبِّر عنه بأنه اسْمُ مَصْدرٍ كالعَطَاءِ والنَّبَات ، وإمَّا فِعْلٌ مقدرٌ أي : فيُصْلِحُ حَالَهُما صُلْحاً . وفي المَفْعُولِ على هذين التَّقْدِيرين وَجْهَان :
أحدُهما : أنه « بَيْنَهُمَا » اتُسِّع في الظَّرْف فجُعِل مَفْعُولاً به .
والثاني : أنه مَحْذُوف و « بينهما » ظرفٌ أو حَالٌ مِنْ « صلحاً » فإنه صِفةٌ له في الأصْلِ ، ويُحْتمل أن يكُونَ نصبُ « صُلْحاً » على المَفْعُول به ، إن جَعَلته اسماً للشيء المُصْطَلح عليه؛ كالعَطَاء بِمَعْنَى : المُعْطى ، والثبات بِمَعْنَى : المُثْبَت .
وأمَّا على بقيةِ القِراءاتِ : فيجوزُ أنْ يكونَ مَصْدَراً على أحدِ التَّقْديرين المتقدمين : أعني : كونَه اسمَ المصدرِ ، أو كونَه على حَذْفِ الزَّوَائِد ، فيكون وَاقِعاً موقع « تَصَالَحَا ، أو اصْطِلاَحاً ، أو مصالحةً » حَسْبَ القِرَاءات المتقدِّمة ، ويجوزُ أنْ يكون مَنْصُوباً على إسْقَاطِ حرفِ الجَرِّ ، أي : بصُلْحِ ، أي : بشيء يَقعُ بسببِ المُصَالَحة ، إذا جَعَلْناه اسْماً للشَّيْءِ المُصْطَلَح عليه .
والحاصلُ أنه في بَقِيَّة القراءات يَنْتَفي عنه وَجْهُ المَفْعُولِ به المَذْكُورِ في قِرَاءة الكوفِيِّين ، وتَبْقَى الأوْجُهُ البَاقِيةُ جَائِزةً في سائر القِراءاتِ .
قوله : « والصُّلْحُ خيرٌ » : مبتدأ وخبر ، وهذه الجُمْلَة قال الزمخشري فيها وفي التي بعدها : « إنهما اعْتِرَاضٌ » ولم يبيِّنْ ذلك ، وكأنه يُريد أنَّ قوله : « وإنْ يتفرَّقا » مَعْطُوفٌ على قوله : « فَلاَ جُنَاْحَ » فجاءت الجُمْلَتانَ بينهما اعْتِرَاضاً؛ هكذا قال أبو حيَّان .
قال شهاب الدين : وفيه نظر ، فإن بَعْدهما جُمَلاً أخَرَ ، فكان ينبغي أن يَقُول الزَّمَخْشَرِي في الجَمِيع : إنها اعْتِرَاضٌ ، ولا يَخُص : « والصُّلْح خَيْر » ، وأُحْضِرَت الأنفسُ [ الشُّح ] بذلك ، وإنما يُرِيد الزَّمَخْشَرِيُّ بذلك : الاعتراض بَيْن قوله : « وإن امْرَأةٌ » وقوله : « وَإِن تُحْسِنُواْ » فإنهما شَرْطَان متعاطفانِ ، ويَدُلُّ عليه تَفْسِيرُه له بما يُفِيدُ هذا المَعْنَى ، فإنه قال : « وإن تحسنُوا بالأقَامَة على نِسَائِكُم ، وإن كَرِهْتُموُهن وأحببتم غَيْرَهُن ، وتتقوا النُّشوزَ والإعْرَاض » انتهى .
فصل
والألِف واللاَّم في الصُّلح يَجُوز أن تكون للجِنْس ، وأن تكونَ للعهْد؛ لتقدُّمِ ذكره ، نحو : { فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } [ المزمل : 16 ] .
فعلى الأوَّل وهو أنه مُفْرَد محلًّى بالألِف واللاَّم فهل يُفيدُ العُمُومَ ، أم لاَ؟ فإن قُلْنَا : يفيد العُمَوم؛ فإذا حصل هُنَاك مَعْهُود سِابِقٌ ، فهل يُحْمَل على العُمُوم ، أم على المَعْهُود السِّابق؟ [ و ] الأوْلى : حَمْله على المَعْهُود السَّابِق ، لأنا إنَّما حَمَلْنَاهُ على الاسْتِغْرَاق ضَرُورَة أنَّا لو لم نَقُل ذلك لخرج عن الإفَادَة ، وصار مُجْمَلاً ، فإذا حَصَل مَعْهُود سَابِقُ ، اندفع هذا المَحْذُور ، فوجب حَمْلُه عليه .
وإذا عَرَفْت هذه المُقَدِّمة : فمن حَمَلَهُ على المَعْهُود السَّابِق ، قال : الصُّلْح بين الزَّوْجَيْن خير من الفُرْقَة ، ومن حَمَلَهُ على الاسْتِغْرَاقِ ، تمسَّك به في أنَّ الصُّلْح على الإنْكَار جَائز ، وهُمُ الحَنفيَّة و « خير » : يُحْتمل أن تَكُون للتَّفْضِيل على بَابِها ، والمفضَّلُ عليه مَحْذُوفٌ ، فقيل : تقديرُه : من النُّشُوز ، والإعْرَاض ، وقيل : خيرٌ من الفُرْقَة ، والتَّقْدِير الأولُ أوْلى؛ للدلالة اللَّفْظِيَّة ، ويُحْتمل أن تَكثون صِفَةً مجرَّدَةً ، أي : والصُّلَحُ خيرٌ من الخُيُور؛ كما أنَّ الخُصُومة شرٌّ من الشُّرُور .
فصل في سبب نزول الآية
هذه الآية نزلت في عمرة ويُقَال : خَولة بِنْت محمَّد بن مَسْلَمة ، وفي زَوْجَها سَعْد ابن الرَّبِيع ، ويقال : رَافِع بن خُدَيْج تزوَّجَهَا وهي شَابَّة ، فلما علاَهَا الكِبَر ، تزوَّجَ عليها امْرَأة شابَّةً ، فآثرها عليها ، وجَفَا ابْنَه محمَّد بن مسلمة ، فأتت رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فشكت ذلك إلَيْه ، فنزلت الآية .
وقيل : نزلت في سَوْدَة بنت زمْعَة ، حين أرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُطَلِّقها ، فالتمست أن يُمْسِكَها وتَجْعَل نَوْبَتَها لِعَائِشَة ، فأجازَه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ولم يطلقها .
وروي عن عَائِشَة ، أنها قَالَت : نزلت في المَرْأة تكون عند الرَّجُل ، ويُرِيد أن يَسْتَبْدِلَ [ بها ] غيرها ، فتقول : أمْسِكْنِي ، وتزوج بِغَيْري ، وأنت في حِلٍّ من النَّفَقَةِ [ والقَسْم ] .
وقال سَعِيد بن جُبَير : نزلت في أبِي السَّائِب ، كان له امْرَأةٌ قد كَبِرت ، وله مِنْهَا أوْلاد ، فأراد أن يُطَلِّقَها ويتزوَّجَ بِغَيْرِها ، فقالت : لا تطلِّقْنِي ، ودعنِي على وَلَدِي ، فاقْسم لي مِنْ كلِّ شَهْرَيْن إن شِئْتَ ، وإن شئِتْ فلا تَقْسِم لي ، فقال : إن كَانَ يصلحُ ذَلِك؛ فهو أحَبُّ إليّ ، فأتَى رسُول الله صلى الله عليه وسلم فذكر لَهُ ذَلِك . فأنزل الله { وإن امْرأةٌ خافت } أي : علمت قيل : وظَنَّتْ ، وقيل : مُجَرَّد الخَوْف عِنْد [ ظُهُور ] أمارات النُّشُوز ، وهو البُغْضُ والشِّقَاق ، من النَّشْز : وهو ما ارتفع عَنِ الأرْض .
قال الكَلْبِيُّ : نشوز الرَّجُل : ترك مُجَامَعَتِها ، وإعراضُهُ بوجْهه عَنْها ، وقلة مُجَالَسَتِها ، { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ } أي : على الزَّوج والمَرْأة أن يتصالَحَا ، والصُّلْحُ إنَّما يحصُلُ في شَيْءٍ يكون حَقًّا له ، وحقُّ المرأة على الزَّوْج : إما المَهْر ، أو النَّفَقَة ، أو القَسْم . فهذه الثلاثة هي التي تَقْدِر المرأة على طلبها من الزَّوْجِ ، شاء أم أبَى ، وأما الوَطءُ فلا يُجبرُ عليه إلاَّ في بعض الصُّوَر ، وإذا كَان كَذَلك ، فإذا كَانَتْ هي المُحْسِنَة ، ولا تُجْبَر على ذلك ، وإن لم تَرْضَ ، كان على الزَّوْج أن يُوَفِّيها حقها من القَسْم والنَّفقة [ أو يُسَرِّحها بإحْسَان ، فإن أمْسَكها ووفَّاها حقَّها مع كَراهِيَّتهِ ، فهو المُحْسِن .
وروى سُليْمَان بن يَسَار ، عن ابن عبَّاسٍ : فإن صَالَحَتْهُ عن بَعْضِ حقها من القَسْم والنَّفَقَةِ ، ] فذلك جائز ما رَضِيت ، فإن أنْكَرَت بعد الصُّلْح ، فذلك لَهَا ، ولها حَقُّهَاِ .
ثم قال : « والصُّلْح خَيْر » [ يعني : إقَامَتَهَا ] بعد تَخْييره إيَّاهَا ، والمُصَالَحة على تَرْك بَعْضِ حَقِّها ، خَيْر من الفُرقَة .
كما رُوِي أن سَوْدة كانت امْرأةً كبِيرةً ، أراد النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُفَارِقَهَا ، فقالت : لا تطلِّقْنِي ، وكفاني أن أبْعَث في نِسَائِكَ ، وقد جَعَلْتُ نوبتي لِعَائِشَة ، فأمْسَكَها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يَقْسِمُ لِعائِشَة يَوْمَها ويَوْمَ سَوْدَة .
فصل
قال - تعالى - : { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا } ، وذلك يُوهِمُ أنَّه رخصة ، والغايةُ فيه : ارْتِفَاع الإثْم ، فبين - تعالى - أنَّ هذا الصُّلح كما أنَّه لا جُنَاح فيه ولا إثْم ، ففيه خَيْر عَظِيمٌ .
قوله : { وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح } « حَضَر » يتعدى إلى مَفْعُول ، واكتسب بالهمزة مفعُولاً ثانياً ، فلمَّا بُني للمفعُول ، قامَ أحدهما مقام الفاعل ، فانتصب الآخرُ ، والقائمُ مقام الفاعِلِ هنا يَحْتمل وجهين :
أظهرهما - وهو المشهُورُ من مذاهب النُّحَاة - : أنه الأول وهو « الأنْفُسُ » فإنه الفاعِل في الأصْلِ ، إذ الأصْل : « حَضرت الأنْفُسُ الشُحَّ » .
والثاني : أنه المفعُول الثاني ، والأصل : وحضر الشُحُّ الأنْفُسَ ، ثم أحْضَر اللَّهُ الشُحَّ الأنْفُسَ ، فلما بُنِيَ الفِعْل للمفعُول أقيم الثانِي - وهو الأنْفُسُ- مقامَ الفَاعِلِ ، فأخِّر الأوَّل وبقي منصوباً ، وعلى هذا يَجُوز أن يُقَال : « أُعْطِي درهمٌ زَيْداً » و « كُسِي جُبَّة عَمراً » ، والعَكْس هو المشهُورُ كما تقدَّم ، وكلامُ الزَّمَخْشَرِي يَحْتمل كَوْنَ الثاني هو القَائِم مقام الفاعل؛ فإنه قال : « ومعنى إحْضَارِ الأنْفُس الشُحَّ : أنَّ الشُحَّ جُعِل حَاضِراً لها ، لا يَغِيب الفاعل؛ فإنه قال : » ومعنى إحْضَارِ الأنْفُسِ الشُحَّ : أنَّ الشُحَّ جُعِل حَاضِراً لها ، لا يَغِيب عنها أبداً ولا يَنْفَكُّ « يعني : أنها مَطْبُوعةٌ عليه ، فأسْنِد الحضور إلى الشُحِّ كما ترى ، ويحتمل أنه جعله من باب القلْب ، فنسب الحُضُورَ إلى الشُحِّ ، وهو في الحقيقة مَنْسُوبٌ إلى الأنْفس . وقرأ العَدَوِي : » الشِّحَّ « بكسر الشين وهي لُغَة ، والشُّحُّ : البُخْل مع حرص؛ فهو أخَصُّ من البُخْل .
قال القرطبي : وهذه الآية إخبار في كُلِّ أحدٍ ، وأنَّ الإنْسَان لا بُد أن يشح بِحُكْم خِلْقَتِه ، وجبلَّته ، حتى يَحْمِل صَاحِبَه على بَعْض ما يَكْرَه ، ويقال : الشُحُّ : هو البُخْل ، وحقيقته : الحِرْص على مَنْع الخَيْر . والمُرادُ به ههنا : شُح كل واحدٍ من الزَّوْجَيْن بِنَصِيبهِ من الآخَر ، فَتَشِحُّ المرأة : ببذل حقِّها ، ويَشِحُّ الزَّوْج : بأن يَنْقَضِي عمره مَعَهَا مع دَمَامَة وَجْهِها ، وكبر سِنِّها ، وعدم حُصُول اللَّذَّة بِمُجَالَسَتِها .
فصل
قال القرطبي : والشُّحُّ : الضبط على المُعْتَقَدَات والإرادَة ، وفي الهِمَمِ والأمْوال ، ونحو ذلك ، فما أفْرِط منه على الدِّين ، فهو محمود ، وما أفْرِطَ منه في غَيْرِهِ ، ففيه بَعْض المذمَّة . وهو قوله - تعالى - : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } [ التغابن : 16 ] الآية ، وما صَار مِنْه إلى حَيِّز مَنْع الحُقُوقِ [ الشَّرعيَّة ] أو الَّتِي تَقْتَضِيهَا المُرُوءة ، فهو البُخْلُ؛ [ و ] هي رذيلة ، وإذا آلَ البُخْل إلى هَذِه الأخْلاَق المَذْمُومَةِ ، لم يبق [ معه ] خيرٌ ولا صَلاَحٌ .
روى الماوَرْدِيُّ : » أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال للأنْصَار : من سَيِّدُكُم؟ قالوا : الجَدُّ بن قَيْس على بُخْلٍ فيهه؛ فقال النَّبِي صلى الله عليه وسلم : « وأي داء أدْوَى من البُخْل » قالوا : وكيف ذَاكَ يا رسُولَ اللَّه؟ قال : إنَّ قوماً نزلوا بسَاحِل ، فكرهوا لِبُخْلِهِم نُزُولَ الأضْيَافِ بِهِم ، فقالوا : ليَبْعد [ الرِّجَال ] منَّا عن النِّساء؛ حتى يَعْتَذِر الرَّجَال إلى الأضْيَافِ ببعد النِّسَاء ، ويعتَذِر النِّسَاء ببُعْد الرَّجَالِ ، ففعلوا وطال ذَلِكَ فِيهِمْ ، فاشْتَغَل الرَّجَال بالرَّجَال ، والنِّسَاء بالنِّسَاء « .
ثم قال : » وإنْ تُحْسِنُوا « أي : تُصْلِحُوا » وتَتَّقوا « : الجور .
وقيل : هذا خِطَابٌ مع الأزواج ، أي : وإن تُحْسِنُوا بالإقَامَة مَعَها مع الكَرَاهَةِ ، وتتقوا ظُلْمَها بالنُّشُّوزِ والإعْرَاض .
وقيل [ هو ] خِطاب لغيرهما ، أي : تُحْسِنُوا في الصُّلْح بينهما ، وتَتَّقُوا المَيْل إلى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فإن اللَّه كان بما تَعْمَلُون خَبِيراً ، فيجزيكم بأعْمَالِكُم .
حكى صَاحِب الكَشَّاف : أن عِمْرَان بن حطَّان الخَارِجيَّ كان من أذَمِّ بني آدَم ، وامرأته من أجْمَلِهِم ، فَنَظَرَت إليه يَوْماً ، ثم قالت : الحَمْدُ للَّهِ ، فقال : مَا لَكِ؟ فقالت حَمَدْتُ اللَّه على أنِّي وإيَّاك من أهْل الجَنَّة؛ لأنك رُزِقْتَ مِثْلِي ، فشكَرْت ، ورُزِقْتُ مِثْلك؛ فَصَبَرْتُ ، وقد وَعَد اللَّه بالجَنَّة الشَّاكرين والصَّابرين .
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
وفيه قولان :
الأول : لن تَقْدِرُوا في التَّسْوِية بَيْنَهُنَّ في مَيْل الطِّبَاع ، من الحُبِّ ومَيْل القلب ، وإذا لم تَقْدِرُوا عليه ، لَمْ تكُونوا مكَلَّفين به .
قالت المُعْتَزَلَة : هذا يدلُّ على أن تَكْلِيفَ ما لا يُطَاق ، غيْر وَاقِع ولا جائز الوُقُوع ، وقد تَقَدَّم إلزامهم في العِلْمِ والدَّاعِي ، وقد يُجَاب أيْضاً : بأنه - تعالى - إنما نَفَى الاسْتِطَاعة الَّتي هي من جِهَة المكَلَّفِ ، ولَمْ يَنْفِ التَّكْلِيف الَّذِي هو من جهة الشَّارع ، فالآيَة لا تَدُلُّ على نَفْيِ التَّكْلِيفِ ، وإنما تَدُلُّ على نفي اسْتِطَاعة المكَلَّف .
الثاني : لا يستطيعون التَّسْوِيَةَ بينهن في الأقْوَال والأفْعَال؛ لأن التَّفَاوُت في الحُبِّ ، يوجِبُ التَّفَاوُت في نتائِجِ الحُبِّ؛ لأن الفِعل بدون الدَّاعِي ، [ و ] مع قيام الصَّارف مُحَالٌ .
ثم قال : « فَلاَ تَمِيلُواْ » أي : إلى التي تُحِبُّونها ، « كُلَّ المَيْل » في القِسْمة ، واللَّفْظ والمَعْنَى : أنكم لَسْتُم تَحْتَرِزُون عن حُصُول التَّفَاوُت في المَيْل القَلْبِي؛ لأن ذَلِك خَارِجٌ عن وُسْعكُم ، ولكنكم مَنْهِيُّون عن إظْهَار ذلك [ التفاوت ] في القَوْل والفِعْل .
« روي عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم : [ أنه ] كان يَقْسِم ، ويقول : » هذا قَسَمِي فيما أمْلِكُ ، وأنْت أعْلَم بما لا أمْلِكُ « .
قوله : » كُلَّ المَيْلِ « : نصبٌ على المَصْدرية ، وقد تقرر أن » كل « بحسَبِ ما تُضَاف إليه ، إنْ أضيفَت إلى مَصْدرٍ - كانت مَصْدَراً - أو ظرفٍ ، أو غَيْرِه؛ فكذلك .
قوله : » فَتَذَرُوهَا « فيه وجهان :
أحدهما : أنه مَنْصُوب بإضْمَارِ » أنْ « في جَوابِ النَّهْي .
والثاني : أنه مَجْزُوم عَطْفاً على الفِعْل قبله ، أي : فلا تَذرُوها ، ففي الأوَّل نَهْيٌ عن الجمع بينهما ، وفي الثاني نهيٌ عن كلٍّ على حِدَتِه وهو أبلغُ ، والضَّميرُ في » تَذَرُوها « يعود على المُميلِ عنها؛ لدلالة السِّياق عليها .
قوله : » كالمُعلَّقة « : حال من » ها « في » تَذَروها « فيتعلَّق بمَحْذُوف ، أي : فتذُروها مُشْبِهةً المُعَلَّقة ، ويجُوز عندي : أن يَكُون مفعولاً ثانياً؛ لأن قولك : » تَذَر « بمعنى : تَتْرك ، و » تَرَك « يتعدَّى لاثْنَيْن إذا كان بِمَعْنَى : صيَّر .
والمعنى : لا تَتَّبِعُوا هَوَاكُم ، فَتَدَعُوا الأخْرى كالمُعَلَّقَة لا أيِّماً ، ولا ذَات بَعْل؛ كما أن الشَّيء المُعَلَّق لا [ يَكُون ] على الأرْضِ ، ولا على السَّماءِ ، وفي قِرَاءة أبَيِّ : » فَتَذَرُوها كالمَسْجُونَة « ، وفي الحَدِيث : » من كَانَت له امْرأتَانِ يميلُ مع إحْدَاهُمَا ، جاء يَوْم القِيَامة وأحدُ شِقَّيْه مَائِلٌ « .
قوله : » وإن تُصْلِحُوا « بالعدل في القَسْم ، و » تَتَّقُوا « : الجور { فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } لما حَصَل في القَلْبِ من المَيْلِ إلى بَعْضِهِنَّ دون بَعْضٍ .
وقيل المعنى : وإن تُصْلحوا ما مَضَى من مَيْلِكُم ، وتَتَدَارَكُوه بالتَّوْبَة ، وتَتَّقُوا في المُسْتَقْبَل عن مِثْلِه ، غفر اللَّه لكم ذَلِكَ ، وهذا أوْلَى؛ لأن التَّفَاوُت في المَيْل القَلْبي ليس في الوُسْع ، فلا يحتاج إلى المَغْفِرَة .
قوله « وَإنْ يَتَفَرَّقا » يعني : الزَّوْج والمَرْأة بالطَّلاق ، { يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } : من رزقه ، يعني : المَرْأة بِزَوْج آخر ، والزَّوْج بامرأة أخْرى .
وقيل : يُغْنِي اللَّه كل واحِدٍ منهما عن صَاحِبِه بعد الطَّلاقِ ، { وَكَانَ الله وَاسِعاً حَكِيماً } وصف نفسه بِكَوْنه وَاسِعاً؛ ولم يُضِفْه إلى شَيْء؛ لأنه - تعالى - وَاسِعُ الفَضْل ، واسع الرِّزْقِ ، واسع النِّعْمَةِ ، واسع الرَّحْمَةِ ، واسع القُدْرَةِ ، واسِعُ العِلْمِ ، واسعٌ في جميع الكمالات ، فلو قالَ : واسِعٌ في كذا ، لاخْتَصَّ بذلك المَذْكُور ، وقوله : « حكيماً » قال ابن عبَّاسٍ : يريد فيما أمرَ ونَهَى ، وقال الكلبيُّ : فيما حَكَم على الزَّوْج من إمْسَاكِهَا بمعرُوفٍ ، أوْ تسريحٍ بإحْسَانٍ .
فصل
حُكْم الرَّجلِ إذا كان تَحْتَهُ امْرأتَان أوْ أكْثَر ، يجِبُ عليه التَّسْوِيَة بَيْنَهُنَّ في القَسْم ، فإن ترك التَّسْوِيَة بَيْنَهُنَّ في القَسْم ، عَصَى اللَّه - تعالى - ، وعليه القَضَاءُ للمَظْلُومة ، والتَّسْوِيَة شَرْط في البَيْنُونَةِ أمَّا في الجِمَاع فَلاَ؛ لأنه يَدُور على النَّشَاطِ وليس ذَلِكِ إليه ، ولو كانت تَحْتَه حُرّةٌ وأمَةٌ فإنَّه يَبِيتُ عِنْد الحُرَّة لَيْلَتَيْن ، وعند الأمَة لَيْلَة ، وإذا تَزَوَّج جَدِيدَةً على قَدِيمَة ، يخص الجَدِيدَة بأن يَبِيت عِنْدَهَا سَبْعَ لَيَالٍ على التَّوالِي إن كانت بِكْراً ، وإن كانت ثَيِّباً ، فثلاث لَيَالٍ ، ثم يُسَوِّي بعد ذَلِك بين الكُلِّ ، ولا يجب قَضَاء هذه الثلاث للقَدِيمَات؛ لقول أنسٍ : من السُّنَّةِ إذا تزوَّج البكر على الثَّيِّب أن يُقِيم عِنْدَها سَبْعَةً ، وإذا تزوَّج الثَّيِّب على البِكْرِ ، أن يُقِيم عندها ثلاثاً ، فإن أحبَّت الثَّيِّبُ أن يُقِيم عِنْدَها سبْعاً ، فعل ، ثم قَضَاه للبَوَاقِي؛ لأن « النَّبِي صلى الله عليه وسلم لما تَزَوَّج أمَّ سَلَمَة أقام عِنْدَها سَبْعاً ، ثم قال : لَيْس بك هَوانٌ على أهْلِكِ ، إن شِئْت سَبَّعْت لَكِ ، وإن سَبَّعْت لك سَبَّعْت لِنِسَائي » ، وإذا أرادَ الرَّجُل سفرَ حَاجَةٍ ، فيجُوزُ له أنْ يحمل بَعْضَ نِسَائِه [ معه بالقُرْعَة بَيْنَهُنَّ ] ، ولا يَجِبُ عليه [ أن ] يَقْضِي للبَاقِيَات مُدَّة سَفَرِه وإن طَالَتْ إذا لَمْ يزدْ مَقَامُهُ في بَلْدة على مُدَّة المُسَافِرِين؛ لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سَفَراً ، أقْرَعَ بين نِسَائِه ، فأيّتهن خَرَج سهُمُهَا ، خرج بِهَا مَعَهُ ، أما إذا أرَادَ سَفَرَ نَقْلةٍ ، فَلَيْسَ له تَخْصِيصُ بَعْضِهِن ، لا بِقُرْعَة ولا بِغَيْرها .
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)
في تعلُّق هذه الآيَة بما قَبْلَها وجهان :
الأوَّل [ أنه - تعالى - لمّا ] قال : { يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } [ النساء : 130 ] أشار إلى ما هُو كالتَّفْسير لكونه وَاسِعاً؛ فقال : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } يعني : من كَانَ كَذَلِكَ ، [ فإنه ] يكون وَاسِع العِلْم ، والقُدْرَة ، والجُود ، والفَضْل ، والرَّحمة .
الثاني : أنه - تعالى - لمَّا أمر بالعَدْل ، والإحْسَان إلى اليَتَامي والنِّسَاء ، بَيَّنَ أنه مَا أمر بِهَذِه الأشْيَاء لاحتياجه لأعْمَال العِبَادِ ، لأن من كَانَ لَهُ ما في السَّموات ومَا فِي الأرْض ، كيف يَكُون مُحْتَاجاً إلى عَمَل الإنْسَان مع ضَعْفِهِ وقُصُوره ، وإنما أمَر بِها رِعَاية لما هو الأحْسَن لَهُم في دُنْيَاهم وأخْرَاهُم .
ثم قال { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } يعني : أهْل التَّوْرَاةِ ، والإنْجِيلِ ، وسائر الأمم المُتَقَدِّمَة في كُتُبِهِم ، والكِتَاب : اسم جِنْس يتناول الكُتُب السَّمَاوِيَّة ، « وإيَّاكم » : يا أهل القُرْآن في كتابكم ، { أَنِ اتقوا الله } أي : وَحِّدُوه وأطِيعُوه ، وتَقْوى اللَّه مَطْلُوبَة من جَمِيع الأمَمِ ، في سائر الشَّرَائِعِ لم تُنْسَخ ، وَهِي وَصِيَّة اللَّه في الأوَّلِين والآخِرين .
قوله : « مِنْ قَبْلِكُم » فيه وجهان :
الأول : أنه مُتَعَلِّق ب « وصَّيْنَا » يعني : ولقد وصَّيْنَا من قَبْلكُم [ الذين أُوتُواْ الكتاب .
والثاني : أنه متعلِّق ب « أوتُوا » يَعْني : الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ ] ، وصيناهم بذلك ، والأوَّل أظْهَر .
قوله : « وإيَّاكم » : عَطْف على { الذين أُوتُواْ الكتاب } وهو واجبُ الفَصْل هُنَا؛ لتعذُّرِ الاتِّصَال ، واستدلَّ بَعْضُهم على أنَّه إذا قُدِر عَلى الضمير المُتَّصِل يجُوز أَن يُعْدَلَ إلى المُنْفَصِل بهذه الآية؛ لأنه كان يُمْكِنُ أن يُقَال : « ولقد وَصِّيْنَاكُم والَّذِين أوتُوا الكِتاب » ، وكذلك استُدِلَّ بقوله - تعالى - : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] ، إذ يمكن أن يُقَالَ : يخرجُونَكُم والرَّسُولَ ، وهذا ليس يدلّ له :
أمَّا الآيةُ الأولى : فلأنَّ الكَلامَ فيها جَاءَ على التَّرتِيب الوُجُودِي ، فإنَّ وَصِيَّة مَنْ قبلَنا قبلَ وَصيَّتنا ، فلمَّا قَصَدَ هذا المَعْنَى ، استحال - والحالةُ هذه - أن يقُدْرَ عليه مُتَّصِلاً .
وأما الآية الثَّانية : فلأنَّه قصد فيها تَقَدُّمَ ذِكْرِ الرَّسُول؛ تشريفاً له ، وتشنيعاً على مَنْ تَجاسَر على مِثْلِ ذلك الفِعْل الفَظِيع ، فاسْتَحَال - والحالة هذه - أن يُجَاء به مُتَّصِلاً ، و « مِنْ قبلكم » : يَجُوزُ أنْ يتعلَّق ب « أوتُوا » ، ويجُوز أنْ يتعلَّق ب « وَصَّيْنَا » ؛ والأولُ أظهرُ .
قوله : « أن اتَّقُوا » يجوزُ في « أن » وَجْهَان :
أحدُهُمَا : أن تكون مصدرِيّة على حَذْفِ حَرْفِ الخَفْضِ ، تقديرُه : بأن اتَّقوا ، فلما حُذِف الحَرْفُ جَرَى فيها الخِلافُ المَشْهُور .
والثاني : أن تكُون المُفَسِّرة؛ لأنها بَعْد ما هُو بِمَعْنَى القَوْل ، لا حروفه وهو الوصيّة ، والظاهر أن قوله : « وإن تَكْفُرُوا » جملة مُسْتأنفة؛ للإخبار بأن هذه الحَالِ ليست داخلة في مَعْمُول الوصِيّة .
وقال الزَّمَخْشَرِي : { وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ } عطفٌ على « اتَّقُوا » لأنَّ المَعْنَى : أمرناهم ، وأمَرْنَاكم بالتَّقْوَى ، وقُلْنا لهم ولكم : « إِن تَكْفُرُواْ » وفي كلامه نظرٌ ، لأنَّ تقديره القَوْلَ ، ينفي كون الجُمْلة الشرطية مُنْدرجةً في حَيِّزِ الوصيَّة بالنِّسْبَة إلى الصِّناعة النَّحْوية ، وهو لم يقصد تفسير المعنى فقط ، بل قصده هو وتفسير الإعراب؛ بدليل قوله : عطف على « اتَّقُوا » ، و « اتَّقُوا » داخلٌ في حيِّز الوصيَّةِ ، سواءً أجعلت « أن » مصدريَّةً أم مُفسِّرة .
فصل
ومعنى [ قوله : ] { أَنِ اتقوا الله } ؛ كقولك : أمَرْتُكَ الخَيْرَ ، قال الكَسَائِيُّ : يقال : أوصَيْتُك أن افْعل كذا ، وأن تَفْعَل كذا ، ويُقال : ألْم آمُرَك أن ائت زيداً ، وأن تأتِي زَيْداً؛ كقوله - تعالى - : [ و ] { أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } [ الأنعام : 14 ] ، وقوله : { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ البلدة } [ النمل : 91 ] وتقدَّم الكلام على « وَإِن تَكْفُرُواْ » .
قوله : { فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي } في تعلُّقِه وجهان :
الأول : أنه - تعالى - خالقُهُم ومالِكُهُم ، والمُنْعِم عليهم بأصْناف النِّعَم كلِّها ، فَحَقَّ على كل عَاقلٍ أن يَنْقَاد لأوَامِرِه ونَوَاهِيهِ ، ويَرْجُوا ثوابه ، ويَخَاف عِقَابَهُ .
والثاني : { وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } من أصناف المَخْلُوقات من الملائِكَة وغيرها أطوع مِنْكُم يَعْبُدوه ويتَّقُوه ، وهو مع ذَلِكَ غَنِيٌّ عن عِبَادَتِهم ، و « حَمِيداً » مُسْتَحِقٌّ للحَمْد؛ لكثرة نِعمِه ، وإن لم يحمده أحَدٌ منهم؛ لأنه في ذَاتِه مَحْمُود ، سواء حَمَدُوه أوْ لَمْ يَحْمَدُوه .
قوله : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وكفى بالله وَكِيلاً } ، قال عكرمة ، عن ابن عبَّاسٍ : يعني : شهيداً أنَّ فيها عَبِيداً .
وقيل : دَافِعاً ومُجِيراً .
فإن قيل : ما فَائِدة التَّكْرَار في قوله : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } .
فالجواب : أنَّ لكل منها وجه :
أما الأول : معناه : للَّه مَا فِي السماوات وما فِي الأرض ، وهو يُوصِيكم بالتَّقْوى ، فاقْبَلُوا وصِيَّتَه .
والثاني : [ يقول : ] لله ما في السماوات وما في الأرض ، وكان الله غَنِيّاً ، أي : هو الغَنِيُّ ، وله المُلْكُ ، فاطْلُبَوا منه ما تَطْلُبُون .
والثالث : يقول { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وكفى بالله وَكِيلاً } ، أي : له المُلْك؛ فاتَّخِذُوه وَكِيلاً ، ولا تتوكَّلُوا على غَيْرِه .
[ و ] قال القُرْطُبِي : وفائدة التَّكْرَار من وجهين :
الأول : أنه كَرَّر تأكيداً؛ لتنبيه العِبَاد ، ولينظروا في مُلْكه ومَلكُوته ، أنه غَنِيٌّ عن خَلقهِ .
والثاني : أنه كرَّر لفوائد : فأخبر في الأوَّل ، أنَّ الله يُغْنِي كُلاًّ من سَعَتهِ؛ لأن لَهُ مَا في السماوات وما في الأرض ، [ فلا تَنْفدُ خَزَائِنُه ، ثم قال : أوْصيْناكُم وأهْلَ الكِتَاب بالتَّقْوى ، وإن تَكْفُروا ، فإنَّه غَنِيٌّ عنكم؛ لأنَّ له ما في السماوات وما في الأرض ] ثم أعْلم في الثَّالث : بحفظ خَلْقِه ، وتدبيره إيَّاهُم بقوله : { وكفى بالله وَكِيلاً } ؛ لأن له ما في السماوات وما في الأرض ، ولم يَقُل : مَنْ في السَّموات؛ لأن في السَّموات والأرض من يَعْقِل ، ومَن لا يَعْقِل .
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
والمعنى : أنه تعالى قادرٌ على الإفْنَاء والإيجادِ ، فإن عَصَيْتُموه فإنه قادر على إفنائكم [ وإعدامكم ] بالكُلِّيَّة ، وعلى أنْ يوجِدَ قَوْماً آخَرِين ، يشتغلون بِعبَادَته وتَعْظِيمه ، وكان اللَّه على ذَلِك قَدِيراً .
قوله : « بآخرين » : آخرين صِفَةٌ لموصوفٍ محذُوف من جنسِ ما تقدَّمه تقديرُه : بناسٍ آخرين يعبدون الله ، ويجُوز أن يكونَ المَحْذُوف من غير جنس ما تقدَّمه .
قال ابن عطية : « يُحْتَمل أن يكون وَعِيداً لجميع بني آدم ، ويكونُ الآخرُون من غير نَوْعِهم ، كما رُوي : أنه كان ملائكةٌ في الأرْضِ يَعْبدُون الله » .
وقال الزَّمخْشَرِي : « أو خلقاً آخرين غير الإنس » وكذلك قال غيرهما .
وردّ أبو حيان هذا الوجه : بأنَّ مدلولَ آخر ، وأخْرَى ، وتَثْنِيتَهُمَا ، وجَمْعهُمَا ، نحو مدلول « غير » إلا أنه خاصٌّ بجنسِ ما تقدَّمه . فإذا قلت : « اشتريت فرساً وأخرَ ، أو : ثوباً وآخر ، أو : جاريَة وأخْرى ، أو : جاريتين وأخريين ، أو جواري وأُخَرَ » لم يكن ذلك كُلُّه إلا من جِنْس ما تقدم ، حتى لو عنيت « وحماراً آخر » في الأمثلة السابقة لم يَجُزْ ، وهذا بخلاف « غير » فإنَّها تكون من جِنْسِ ما تقدَّم ومن غيره ، تقول « اشتريْتُ ثوباً وغيره » لو عَنَيْت : « وفرساً غيره » جاز .
قال : « وقَلَّ مَنْ يَعْرِف هذا الفرق » . وهذا الفرقُ الذي ذكره وردَّ به على هؤلاء الأكابر غيرُ موافقٍ عليه ، لم يستند فيه إلى نَقْل ، ولكن قد يُرَدُّ عليهم ذلك من طريقٍ أخْرَى ، وهو أنَّ « آخرين » صِفَةٌ لموصوف محذوف ، والصِّفَةُ لا تقوم مقام موصوفها ، إلا إذا كانت خاصَّة بالموصوف ، نحو : « مررت بكاتبٍ » ، أو يدلُّ عليه دَلِيل ، وهنا ليست بِخَاصَّةٍ ، فلا بد وأن تكونَ من جِنْسِ الأوَّلِ؛ لتحصُلَ بذلك الدِّلالةُ على الموصُوفِ المَحْذُوف .
وقال القرطبي : وهذا كقوله في آية أخرى : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } [ محمد : 38 ] وفي الآية تَخويفٌ ، وتنبِيه لمن كان له ولايةٌ وإمَارَةٌ ، أو رياسةٌ فلا يعدل في رعيته ، أو كان عَالِماً فلا يَعْمَل بعلْمهِ ، ولا يَنْصَح النَّاسَ ، { وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً } ، والقُدْرَة : صِفَة أزليَّة لا تَتَنَاهَى مَقْدُوراته ، كما لا تتناهى مَعْلُومَاته ، والمَاضِي والمُسْتقبل في صِفَاتِه بمعنًى واحدٍ ، وإنما خصَّ الماضِي بالذكر؛ لئلا يُتوهَّم أنَّه يحدث في صِفَاتِه وذاته ، والقُدْرَة : هي التي يكُون بها الفِعْل ، ولا يجوزُ وُجُود العَجْزِ مَعها .
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
يجُوز في « مَنْ » وجهان :
أظهرهما : أنها شرطيَّة ، وجوابُها قوله : « فعند الله » ، ولا بد من ضميرٍ مقدَّرٍ في هذا الجواب يعُودُ على اسم الشَّرْطِ؛ لما تقرر قبل ذلك ، والتقدير : فعند الله ثوابُ الدنيا والآخرِة له إن أراده ، وهذا تقدير الزَّمَخْشَرِيِّ ، قال [ الزمخشري ] « حتَّى يتعلقَّ الجزاءُ بالشَّرْطِ » .
وأوردهُ ابن الخِطِيب على وَجْه السُّؤال قال :
فإن قيل : كَيْفَ دخلتِ الفاءُ في جواب الشَّرْط ، وعنده - تعالى - ثوابُ الدُّنْيَا والآخِرِة ، سواءً حصلت هذه الإرادة أم لا .
قلنا : تقدير الكلام : فعند الله ثوابُ الدُّنْيَا والآخِرَة له إن أرَادَهُ ، وعلى هذا التَّقْدِير يتعلَّق الجَزَاءُ بالشَّرْط .
وجَوَّز أبو حيَّان - وجعله الظَّاهر - أنَّ الجواب مَحْذُوفٌ ، تقديره : من كان يريد ثواب الدُّنيا فلا يَقْتَصِر عليه ، وليَطْلُبِ الثَّوابَيْن ، فعند الله ثوابُ الدَّارَيْن .
والثاني : أنها موصولةٌ ودخلت الفاءُ في الخَبَر؛ تشبيهاً له باسم الشَّرْط ، ويُبْعِده مُضِيُّ الفِعْلِ بعده ، والعائدُ مَحْذُوفٌ؛ كما تقرَّر تَمْثِيلُه .
فصل
ومعنى الآية : أن هؤلاء الَّذِين يُريدُون بِجِهَادِهم الغَنِيمَة فقط مُخْطِئون؛ لأنَّ عند اللَّه [ ثَوَابَ ] الدُّنيا والآخِرَة ، فلم اكْتَفَى بطلَبِ ثَوَابِ الدُّنْيا ، مع أنه كَانَ كالعَدَمِ بالنِّسْبَة إلى ثَوَاب الآخِرَة ، ولو كان عَاقِلاً ، لطلب ثواب الآخِرَة؛ حتى يَحْصُل له ذلك ، ويَحْصُل له ثوابُ الدُّنْيَا تَبَعاً .
قال القُرْطُبِيُّ : من عَمِل بما افْتَرَضَهُ [ اللَّه ] عليه طلباً للآخِرَة ، آتاه اللَّه ذلك في الآخِرَة ، ومن عمل طَلَباً للدُّنْيَا ، آتاه ما كُتِب له في الدُّنْيَا ، وليس لَهُ في الآخِرَة من نَصِيبٍ؛ لأنه عَمِل لغير اللَّه لقوله - تعالى - : { أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار } [ هود : 16 ] وهذا على أن يكون المُرَاد بالآية : المُنافِقُون والكُفَّار ، { وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً } : يسمع كَلاَمَهُم أنهم لا يَطْلُبون من الجِهَاد سِوَى الغَنِيمَةِ ، ويرى أنَّهم لا يَسْعوْن في الجِهَاد ، ولا يَجْتَهِدُون فيه ، إلا عِنْد توقُّعِ الفَوْزِ بالغنيمَةِ ، وهذا كالزَّجْرِ عن هَذِه الأعْمَالِ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
في اتِّصال [ هذه ] الآية وُجُوهٌ :
أحدها : لما تقدَّمَ ذكر النِّساء والنُّشُوز ، والمُصَالحَةِ بينهُنَّ وبين الأزْوَاج عَقبه بقيام أدَاءِ حقوق اللَّه - تعالى- ، وفي الشَّهَادَةِ إحياء حقوقِ اللَّه؛ فكأنه قِيل : وإن اشْتغَلْتَ بتحصيلِ شهواتِكَ ، كنت لِنَفْسِكَ ، لا لِلَّه ، [ وإن اشتغَلْتَ بِتحْصِيل مأمُوراتِ اللَّه كنت للَّه ، لا لِنَفْسِكَ ] ، وهذا المقام أعلَى وأشْرَف ، فكانت هَذِه الآية تأكيداً لِمَا تقدَّم من التَّكَالِيفِ .
الثاني : أن اللَّه - تعالى - لمَّا منَع النَّاس عن اقْتِصَارِهم على ثَوَابِ الدُّنْيَا ، وأمرهُم أنْ يَطْلُبوا ثواب الآخِرَة ، عَقِّبَه بهذه الآيَةِ ، وبَيَّنَّ أنَّ كمال سَعَادَة الإنْسَان ، في أنْ يكون قولُه وفِعْلُه للَّه ، وحركَتهُ للَّه ، وسُكُونهُ للَّه؛ حتى يصير من الَّذِين يكُونُون في آخِر مَرَاتِب الإنْسَانِيّة ، وأوَّل مراتب الملائِكَة ، فإذا عَكَس القضيّة ، كان مِثْل البَهِيمَة الَّتِي مُنْتهَى أمْرِها وُجْدَان عَلَفِها والشَّبَع .
الثالث : أنه تقدَّم في هذه السُّورَة تَكَالِيفُ كَثِيرةٌ ، فِأمرَ النَّاس بالقِسْط بقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى } [ النساء : 3 ] ، وأمرهم بالإشْهَاد عِنْد دَفْع أمْوَال اليَتَامَى إليْهِم ، وأمَرَهُم ببَذْلِ النَّفْسِ والمَالِ في سَبيلِ اللَّه ، وذكر قِصَّة طعمة بن الأبَيْرِقِ ، واجتماع قوْمه على الذَّبِّ عنه [ بالكذب ] والشَّهَادة على اليَهُودي بالبَاطِل ، وأمر بالمُصَالَحَة مع الزَّوْجَة ، وكلُّ ذلك أمْر من اللَّه لعبادِه بالقِيَام بالقِسْط ، والشَّهَادَة [ فيه ] [ للَّه ] على كُلِّ أحَدٍ ، فكانت هذه الآية كالمُؤكِّد لما تقدَّم من التَّكَالِيفِ .
القَوَّامُ : مُبَالغة من قَائِم ، والقِسْط : العَدْل ، وهذا أمْر مِنه - تعالى - لجميع المكَلَّفِين ، بأن يُبَالغُوا في العَدْل ، والاحْتِرَازِ عن الجَوْر والمَيْل .
قوله : « شُهَداءَ لِلَّه » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه خَبرٌ ثَانٍ لكان ، وفيه خِلاَف تقدَّم ذِكْرهُ .
والثاني : أنه حَالٌ من الضَّمير المُسْتَكِنِّ في : « قوَّامينَ » فالعَامِل فيها : « قوَّامين » .
وقد ردَّ أبو حيَّان [ هذا الوجه : بأنَّه يَلْزَم منه تقييدُ كونهم قوَّامين بحال الشَّهادَةِ ، وهم مأمُورُون بذلك مُطْلَقاً ] .
وهذا الردُّ ليْس بِشَيْءٍ؛ فإن هذا المَعْنَى نَحَا إلَيْه ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال : كُونُوا قوَّامِين بالعَدْل في الشَّهَادَة على من كانت ، وهذا هُو مَعْنَى الوَجْه الصَّائِر إلى جَعْل شُهَداء حالاً .
الثالث : أن يكون صِفَة ل « قوَّامين » ، ومَعْنَى قوله : « للَّه » أي : لِذَات اللَّه ، ولوجْهِه ولمرْضَاتِه ، وثَوَابِه .
قوله : { وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ } « لو » هذه تَحْتَمل أنْ تَكُونَ على بَابِها من كَوْنِها حرفاً لما كان سَيَقعُ لوقُوعِ غَيْرِه ، وجوابُها مَحْذُوفٌ ، أي : ولو كُنْتثم شُهَدَاءَ على أنْفُسكم ، لوجب عَلَيْكُم أن تَشْهدوا عليها .
وأجاز أبو حيَّان أن تَكُونَ بمعنى : « إن » الشَّرطِيّة ، ويتعلَّق قوله : « عَلَى أنْفُسِكُم » بمحذوفٍ ، تقديرُه : وإن كنتم شُهَدَاء على أنْفُسِكم ، فكونوا شُهَدَاءَ لله ، هذا تَقْدِيرُ الكلام ، وحذفُ « كان » بعد « لو » كَثِيرٌ ، تقول : ائتِني بِتَمْر ، ولو حَشَفاً ، أي : وإن كان التَّمْر حشفاً ، فأتني به .
انتهى .
وهذا لا ضرورةَ تدْعُوا إليه ، ومجيءُ « لو » بِمَعْنى : « إنْ » شَيْء أثبته بعضهم على قِلَّة ، فلا يَنْبَغي أن يُحْمَل القُرآنُ عليه .
وقال ابْن عَطِيَّة : « عَلى أنْفُسِكُم » متعلِّقٌ ب « شهداء » .
قال أبو حيان « فإنْ عَنَى ب » شُهَدَاءَ « المَلْفُوظ به ، فلا يَصِحُّ ، وإن عَنَى به ما قَدَّرْناه نَحْن ، فيصِحُّ » يعني : تقديره : « لو » بمعنى : « إنْ » وحَذْفَ « كان » ، واسمِها ، وخبرها بَعْد « لو » ، وقد تقدَّم أن ذَلِك قَلِيلٌ ، فلم يبق إلا انَّ ابن عَطِيّة يريد « شُهَداءَ » مَحْذُوفةً؛ كما قَدَّرْتُه لك أولاً ، نحو : « ولو كُنْتُم شُهَدَاء » على أنفسكم ، لوجَبَ عليْكُم أن تَشْهَدُوا .
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : « ولو كَانَتِ الشَّهَادةُ على أنفسكُم » فجَعَل « كَان » مُقَدَّرةً وهي تَحْتَمِلُ في تَقْدِيره التَّمَام والنُّقْصَان : فإنْ قدَّرْتَها تَامةً ، كان قوله « على أنْفُسِكُم » متعلِّقاً بنفسِ الشَّهَادة ، ويكون المَعْنَى : « ولو وُجِدَتِ الشهادةُ على أنْفُسِكُم » وإن قدَّرْتَها نَاقِصَةً ، فيجوزُ أنْ يكون « على أنْفُسِكُم » متعلِّقاً بمَحْذُوفٍ على أنَّه خَبرُهَا ، ويجُوز أن يكُون متعلِّقاً بنفس الشَّهادة ، وحينئذ يكُون الخَبَر مقدَّراً ، والمَعْنَى : « ولو كَانَتِ الشَّهَادةُ على أنْفُسِكُم موجُودةً » إلا أنَّه يلزمُ مِنْ جَعْلِنا « على أنْفُسِكُم » متعلِّقاً بالشَّهادة ، حذفُ المَصْدرِ وإبقاءُ معْمُولِه ، وهو قليل أو مُمْتَنِع ، وقال أيضاً : « ويجُوز أن يكُون المَعْنَى : وإن كانتِ الشَّهَادة على أنْفُسِكُم » .
ورَدَّ عليه [ أبو حيَّان ] هَذَيْن الوجْهَيْنِ فقال : « وتقديرُه : ولو كانت الشَّهادة على أنْفُسِكُم ليس بجيِّد؛ لأن المحْذُوفَ إنما يكون من جِنْس المَلْفُوظ به؛ ليدلَّ عليه ، فإذا قُلْت : » كن مُحْسِناً ، ولو لمَنْ أساء إليك « ، فالتقدير : ولو كنت مُحْسِناً لمَنْ أساء ، ولو قَدَّرْتَه : » ولو كان إحْسَانُك « لم يكن جَيِّداً؛ لأنك تَحْذِف ما لا دلالة عليه بِلَفْظٍ مُطَابِقٍ » .
وهذا الردُّ لَيْس بشيء ، فإن الدِّلالة اللَّفظِيّة موجودةٌ؛ لاشتراكِ المَحْذُوفِ والمَلْفُوظ به في المَادَّة ، ولا يَضُرُّ اختلافُهما في النَّوْع .
وقال في الوجه الثاني : « وهذا لا يجُوز؛ لأن ما تعلَّق به الظَّرْف كونٌ مقيدٌ ، والكونُ المُقَيَّد لا يجُوز حَذْفُه ، بل المُطْلَقُ ، لو قلت : كَان زَيْد فِيك ، تعني : مُحِبّاً فيك ، لَمْ يَجُز » .
وهذا الرَدُّ أيضاً لَيْس بِشَيْءٍ؛ لأنه قصد تَفْسير المَعْنَى ، ومبادئُ النَّحْو لا تَخْفَى على آحادِ الطَّلبة ، فكيف بِشَيْخِ الصِّنَاعَة .
فصل
شَهَادة الإنْسَان على نَفْسِه لها تَفْسِيران :
أحدُهما : أن يُقِرَّ عَلَى نَفْسه؛ لأن الإقْرَار كالشَّهَادَةِ في كونه مُوجِباً إلْزَام الحَقِّ .
الثاني : أن يكون المُرَادُ : ولو كَانَت الشَّهَادة وبالاً على أنْفُسِكُم ، أو على الوالدين والأقْرَبين ، فأقِيمُوها عليْهم ، ولا تُحابُوا غَنِيّاً لِغِنَاهُ ، ولا ترحموا فقيراً لِفَقْرِهِ ، وهو قوله : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا } أي : أقِيمُوا على المَشْهُود عليه وإن كان غَنِيّاً وللمَشْهُود له وإن كان فقيراً ، فاللَّه أوْلى بِهِمَا منكم ، أي : كِلُوا أمْرَهُم إلى اللَّه - تعالى - .
وقال الحَسَن : اللَّه أعْلَم بهما .
قال القُرْطُبِيُّ : « قَوَّامين » بناء مُبَالَغَة ، أي : ليتكَرَّر منكم القِيَام بالقِسْط وهو العَدْل في شَهَادَتِكُم على أنْفُسِكُم ، وشهادة المَرْء على نفْسِه : إقرَارهُ بالحُقُوق عليها ، ثم ذكر الوالِدَيْن؛ لوجوب بِرِّهِما ، وعظم قَدْرِهمَا ، ثم أتَى بالأقْرَبين؛ إذْ هُم مَظَنَّة المَودَّة والتَّعَصُّب ، وجاءَ الأجْنَبِيُّ الآخر؛ لأنه أحْرَى أن يَقُوم [ عليه ] بالقِسْطِ .
فصل
إنما قدَّم الأمْر بالقِيَام بالقسط على [ الأمْر ] بالشَّهادة لِوُجُوه :
أحدُهَا : أن أكْثَر النَّاس عادتهم أنَّهم يَأمُرُون غَيْرَهُم بالمَعْرُوفِ ، فإذا آل الأمْر إلى أنْفُسِهِم ، تركوه حتى إنَّ قُبْحَ القَبِيحِ إذا صَدَر عنهم ، كان في مَحَلِّ المُسَامَحَة وأحْسَنَ الحُسْن ، إذا صَدَرَ عن غَيْرِهم ، كان في مَحَلِّ المُنَازَعة ، فاللَّه - تعالى - نبّه في هذه الآية على سُوءِ الطَّرِيقَة ، بأنْ أمره بالقِيَام [ بالقِسْطِ ] أوّلاً ، ثم أمَرَهُ بالشَّهَادة على غَيْرِه ثَانِياً ، تنبيهاً عَلَى أن الطَّرِيقَة الحَسَنة هي أن تكُون مُضَايَقَة الإنْسَان مع نَفْسِه [ فَوْق ] مُضايقته مع الغَيْر .
وثانيها : أنَّ القِيام بالقِسْط : هو دَفْع ضَرَر العِقَاب عن النَّفْسِ ، وإقَامَة الشَّهَادة ، سعي في دَفْع ضَرَر العِقَاب عن الغَيْر ، وهو الَّذِي عَلَيْه الحَقُّ ، ودفع الضرر عن النَّفْسِ مُقَدَّم على دَفْع الضَّرَر عن الغَيْرِ .
وثالثها : أن القِيَام بالقِسْطِ فعل ، والشَّهادة قول [ والفِعْل أقْوى من القَوْل ] .
فإن قِيل : فقد قدَّم الشَّهادة على القِيام بالقسْطِ في قوله : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط } [ آل عمران : 18 ] .
فالجواب : أنَّ شهادَةَ الله عبارَةٌ عن كونه مُرَاعِياً للعَدْل ، ومُبَايِناً للجَوْر ، ومعلوم : أنَّه ما لم يكن الإنْسَان كذلك ، لم يُقْبَل شَهَادتُهُ على الغَيْر؛ فلهذا كان الوَاجِبُ في قوله : « شَهِدَ اللَّه » ] أن يقدِّم تلك الشَّهادة على القِيَامِ بالقِسْطِ ، والواجِبُ هُنَا : أن تكُون الشَّهادة متأخِّرَة عن القِيَامِ بالقِسْطِ .
قوله : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا } إذا عُطِف ب « أوْ » كان الحُكْمُ في عَوْدِ الضَّمِير ، والإخْبَارِ ، وغيرهما لأحدِ الشَّيْئَيْن أو الأشياء ، ولا يجُوزُ المُطابَقَةُ ، تقول : « زَيْد أو عَمْروا أكْرمتهُ » ولو قُلْتَ : أكرمتهُمَا ، لم يَجُز ، وعلى هذا يُقال : كيف ثَنَّى الضَّمِير في الآية الكَرِيمَةِ ، والعطف ب « أو » ؟ لا جَرَم أن النَّحْويِّين اختلَفُوا في الجواب عن ذلك على خَمْسَةِ أوْجُه :
أحدُها : أنَّ الضَّمِير في « بهما » ليس عَائِداً على الغَنِيِّ والفقير المَذْكُورين أولاً ، بل على جنْسَي الغني والفَقِير المدلُولِ عليهما بالمَذْكُورَيْن ، تقديرُه : وإنْ يكنِ المشهُودُ عليه غَنِيًّا أو فقيراً ، فليشْهَد عليه ، فاللَّهُ أوْلى بجنْسَي الغنيِّ والفقيرِ؛ ويَدُلُّ على هذا قِراءة أبَيِّ : « فاللَّه أوْلَى بِهِمْ » أي : بالأغنياء والفقراءِ مراعاةً للجِنْسِ على ما قَرَّرته لَك ، ويكون قوله : « فالله أولى بِهِمَا » ليس جواباً للشرط ، بل جَوابُه مَحْذُوفٌ كما قَدْ عَرَفْتَه ، وهذا دالٌّ عليه .
الثاني : أنَّ « أو » بمعنى : الواو؛ ويُعْزى هذا للأخْفش ، وكنت قدَّمْتُ أوّلَ البقرة : أنه قولُ الكوفيين ، وأنه ضعيفٌ .
الثالث : أن « أو » : للتَّفْضِيل أي : لتفصيلِ ما أبْهِم ، وقد أوضح ذلك أبُو البقاء ، فقال : « وذلك أنَّ كلَّ واحدٍ من المَشْهُود عليه والمشهود له ، قد يكُون غنيًّا ، وقد يكُون فقيراً ، وقد يكونان غَنِيَّيْنِ ، وقد يكونان فَقَيرَيْن ، وقد يكون أحَدُهُمَا غنيّاً والآخر فَقِيراً؛ فلما كَانتِ الأقسام عند التَّفْصِيل على ذلك ، أُتِي ب » أو « ، لتَدُلَّ على التَّفْصِيل؛ فعلى هذا يكون الضَّمِير في » بهِما « عائداً على المَشْهُود له والمشهود عليه ، على أيِّ وصفٍ كانا عليه » انتهى؛ إلا أنَّ قوله : « وقد يكون أحَدهُمَا غنيّاً والآخر فَقِيراً » مكرَّرٌ؛ لأنه يُغْني عنه قوله : « وذَلِك أنَّ كلَّ وَاحِد » إلى آخره .
الرابع : أنَّ الضَّمِير يعود على الخَصْمَيْن ، تقديره : إن يكُن الخصمان غنيّاً أو فقيراً ، فالله أوْلى بِذَينك الخصمين .
الخامس : أن الضَّمير يعود على الغَني والفَقير المدْلُول عليهما بلَفْظ الغنّي والفقير ، والتقديرُ : فاللَّهُ أولى بغنى الغني وفقر الفقير ، وقد أساء ابن عصْفُور العِبَارة هنا بما يُوقفُ عليه في كلامه ، وعلى أربعة الأوجهِ الأخيرة يكونُ جوابُ الشَّرط ملفوظاً به ، وهو قوله : { فالله أولى بِهِمَا } بخلاف الأوَّل؛ فإنه مَحْذُوفٌ .
وقرأ عبد الله بن مسعود : « إن يَكُنْ غنيٌّ أو فقيرٌ » برفعهما ، والظَّاهرُ أنَّ « كان » في قراءته تامةٌ ، أي : وإنْ وجِد غِنِيٌّ أو فقير ، نحو : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } [ البقرة : 280 ] .
قوله : { فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى } أي : اتركُوا متابعة الهَوَى؛ حتى توصَفُوا بالعَدْل؛ لأنَّ العدل عِبارة عن تَرْك مَتَابعة الهَوَى ، ومن تَرَك أحَد النَّقِيضَيْن ، فقد حَصَل له الآخَر .
قوله : « أنْ تَعْدِلُوا » فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدُها : أنه مَفْعُولٌ مِنْ أجله على حَذْفِ مضافٍ ، تقديره : فلا تتَّبِعُوا الهوى محبةَ أنْ تَعْدِلوا ، أو إرادةَ أنْ تَعْدِلوا ، أي : تَعْدِلوا عن الحَقِّ وتجُوروا .
وقال أبو البقاء في المضافِ المحذوف : « تقديره : مخافة أن تَعْدلوا عن الحَقِّ » . وقال ابن عَطِيَّة : « يُحْتمل أن يكُونَ مَعْناه : مخافة أن تَعْدِلوا ، ويكُون العَدْلُ هنا بِمَعْنى : العُدول عن الحَقِّ ، ويُحْتمل أن يكُونَ معناه : مَحَبة أنْ تُقْسِطُوا ، فإنْ جعلْتَ العَامِل » تَتَّبِعُوا « فيحتمل أن يكونَ المَعْنَى : محبةَ أنْ تجُوروا » انتهى؛ فتحصَّل لنا في العَامِل وجهان :
الظاهرُ منهما أنه نَفْسُ « تتبعوا » .
والثاني : أنه مُضْمَر ، وهو فعلٌ من مَعْنَى النهي؛ كما قدَّره ابنُ عطيَّة ، كأنه يزْعمُ أنَّ الكلامَ قد تَمَّ عند قوله : { فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى } ثم أضْمَرَ عَامِلاً ، وهذا ما لا حَاجَة إليه .
الثاني : أنه على إسْقَاطِ حرْفِ الجَرِّ ، وحذْفِ « لا » النَّافِية ، والأصْل : فلا تتَّبعوا الهَوَى في ألاَّ تَعْدِلوا ، أي : في تَرْكِ العَدْل ، فحذف « لا » لدلالة المَعْنَى عَلَيْهَا ، ولمَّا حَذَف حَرْفَ الجر من « أنْ » جرى القَوْلان الشَّهِيرَان .
الثَّالث : أنه عَلَى حَذْفِ لام العِلَّة ، تقديرُه : فلا تتبعوا الهوى؛ لأن تَعْدِلوا .
قال صَاحِب هذا القول : « والمعنى : لا تتبعُوا الهوى؛ لتكونوا في اتِّباعِكُمُوه عدُولاً ، تنبيهاً على أن اتباعَ الهوى وتَحَرِّي العدالةِ مُتَنَافيان لا يجتمعان » وهو ضَعِيفٌ في المَعْنَى .
قوله : « وَإِن تَلْوُوا » قرأ ابن عامرٍ ، وحمزة : « تَلُوا » بلامٍ مَضْمُومةٍ وواوٍ ساكنة ، والبَاقُون : بلامٍ ساكنةٍ وواوَيْن بعدهَا ، أولاهُمَا مَضْمُومة .
فأمَّا قراءةُ الوَاوَيْن ، فظاهرةٌ؛ لأنه من لَوَى يَلْوي ، والمعْنَى : وإنْ تَلْووا ألسِنَتِكُم عن شهادةِ الحَقِّ أو حكومَةِ العَدْل ، والأصْلُ : تَلْوِيُون كتَضْرِبون ، فاستُثْقِلَت الضَّمَّةُ على اليَاءِ فحُذفت ، فالتقى سَاكِنَان : الياء وَوَاو الضَّمِير ، فحُذِف أوّلُهما - وهو الياء - وضُمَّت الواوُ المكْسُورةُ التي هِيَ عَيْن لأجْل واوِ الضميرِ ، فصار : تَلْوُون ، وتصريفُه كتصريف « تَرْمُونَ » .
فإن كان عَنِ الشَّهادة ، فالمَعْنَى : يحرِّفُوا الشَّهادة؛ ليُبْطِلُوا الحقَّ ، من قولهم : لوى الشيء ، إذا فتله ، ومنه يُقَال : التَوَى هذا الأمْر ، إذا تَعَقَّد وتعسَّرَ ، تشبيهاً بالشَّيْءِ المُنْفَتِل ، أو تُعْرِضُوا عنها فَتَكْتُمُوهَا ، أو يُقَال : تَلْوُوا في إقامة الشَّهَادة إذا تَدَافَعُوا ، يقال : لَوَيْتُه حَقَّه؛ إذا دَفَعْتَه وأبْطلْتَه .
وإن كان عَنَى الحُكْم بالعَدْل ، فهو خِطَاب للحُكَّام في لَيِّهم الأشداق ، يقول : « وَإِن تَلْوُواْ » أي : تميلُوا إلى أحَدِ الخَصْمَيْن ، أو تُعْرِضُوا عنه .
وأما قراءة حمزة وابنِ عامرٍ ، ففيها ثلاثة أقوال :
أحدُها : وهو قول الزَّجَّاج ، والفراء ، والفارسي في إحدى الرِّوايَتَيْن عنه - أنه من لَوَى يَلْوي؛ كقراءة الجماعة ، إلاَّ أنَّ الوَاوَ المَضْمُومةَ قُلِبَتْ هَمْزةً؛ كقلبها في « أجُوه » و « أُقِّتَتْ » ، ثم نُقِلت حركةُ هذه الهَمْزةِ إلى السَّاكن قَبْلَها وحذفت ، فصار : « تَلُون » كما ترى .
الثاني : أنه من لَوَى يَلْوي أيضاً ، إلا أن الضَّمَّة استُثْقِلَتْ على الواو الأولى فنُقِلت إلى اللام السَّاكِنَة تَخْفِيفاً ، فالتقى ساكِنَان وهما الواوان ، فحُذِف الأوَّل مِنْهُما ، ويُعْزى هذا للنَّحَّاسِ ، وفي هَذَيْن التخريجَيْن نظرٌ؛ وهو أنَّ لامَ الكَلِمَة قد حُذِفَتْ أولاً كما قَرَّرْته ، فصار وَزْنُه : تَفْعُوا ، بحذف اللاَّم ، ثم حُذِفت العَيْنُ ثانياً ، فصار وزنه : تَفُوا ، وذلك إجْحَافٌ بالكلمة .
الثالث : ويُعْزى لجَمَاعةِ منهم الفَارسيُّ - أن هذه القِرَاءة مأخُوذة من الولاية ، بمعنى ، وإنْ وُلِّيتم إقَامة الشَّهَادة أو وُلِّيْتُم الأمرَ ، فتَعْدِلُوا عنه ، والأصل : « تَوْلِيُوا » فحذفت الواوُ الأولى لِوُقُوعِها بين حَرْفِ المُضَارَعَةِ وكسرةٍ ، فصار : « تَلِيُوا » كتَعِدُوا وبَابِه ، فاستثقلت الضَّمَّةُ على الياءِ ، ففُعِل بها ما تَقَدَّم في « تَلْوُوا » ، وقد طَعَنَ قومٌ على قِرَاءة حَمْزة وابن عامرٍ - منهم أبو عُبَيْد - قالوا : لأنَّ معنى الوِلاَية غيرُ لائقٍ بهذا المَوْضِع .
قال أبو عبيد : « القراءةُ عندنا بوَاوَيْن مأخوذةٌ من : » لَوَيْتُ « وتحقيقه في تفسيرِ ابن عبَّاسٍ : هو القَاضِي ، يكُونُ لَيُّه وإعراضُه عن أحد الخَصْمَيْن للآخر » وهذا الطعنُ ليس بِشَيْء؛ لأنها قراءةٌ متَواتِرَةٌ ومعناها صَحيحٌ؛ لأنَّه إن أخَذْناها من الوِلاَية كان المَعْنَى على ما تقدَّم ، وإن أخذناها مِنَ الليِّ ، فالأصلُ : « تَلْوُوا » كالقراءة الأخْرى ، وإنما فُعِل بها ما تَقَدَّم من قَلْبِ الوَاوِ هَمْزةً ونَقْل حركتها ، أو من نَقْلِ حَرَكَتِها من غير قَلْبٍ ، فتتَّفِقُ القراءَتَان في المَعْنَى .
ثم قال : { فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } وهذا تهديدٌ ووعيدٌ للمذنِبِين ، ووعد بالإحْسَان للمُطِيعينَ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
في اتَّصال هذه الآية بما قَبْلَها وَجْهَان :
أحدُهما : أنَّها مُتِّصِلةٌ بقوله : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط } [ النساء : 135 ] لأن الإنْسان لا يكون قَائِماً بالقِسْط ، إلا إذا كان راسخاً في الإيمان بالأشْيَاء المَذْكُورة في هَذِه الآيَة .
الثاني : أنه - تعالى - لمَّا بين الأحْكَام الكَثِيرة في هَذِه السُّورة ، ذكر عَقِيبَهَا الأمر بالإيمانِ ، وفي هذا الأمْر وُجُوه :
أحدُها : قال الكَلْبِيُّ ، عن أبِي صَالح ، عن ابن عبَّاسٍ : نزلت هذه الآيَة في عَبْد اللَّه ابن سلام ، وأسد وأسَيْد ابْنَيْ كَعْب ، وثَعْلَبَة بن قَيْس ، وسلام ابن أُخْت عَبْد الله بن سلام ، وسلَمة ابن أخِيه ، ويامِين بن يَامِين ، فَهُؤلاء مُؤمِنُوا أهْل الكِتَاب أتوا رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إنَّا نُؤمِنُ بك ، وبِكتابِك ، وبِمُوسى ، [ والتَّوْرَاة ] وبِعُزَيْر ، ونكفر بما سِوَاه من الكُتُب والرُّسُل ، فقال لهم النَّبِي صلى الله عليه وسلم : « بل آمِنُوا باللَّه ، ورسُوله محمَّد ، والقُرْآن ، وبكل كِتَابٍ قَبْلَه » فقالوا : لا نَفْعَل « ، فأنزل اللَّه : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } يعني : بمحمّد [ والقُرآن ] وبموسى والتَّوْرَاة ، { آمنوا بالله ورسوله } : محمد { والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ } : من التَّوْراة ، والإنْجِيل ، والزَّبُور ، وسائر الكُتُب؛ لأن المراد بالكِتَاب الجنس .
وقيل : الخِطَاب مع المُنَافِقِين ، والتَّقْدير : يأيُّهَا الذين آمَنُوا باللِّسان ، آمنوا بالقَلْب ، ويؤيده قوله - تعالى - : { مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } [ المائدة : 41 ] .
وقيل : خِطَاب مع الَّذِين آمَنُوا وَجْه النَّهَار ، وكَفَرُوا آخِره ، والتقدير : يأيُّهَا الَّذِين آمَنُوا وجْه النَّهارِ ، آمنوا آخِره .
وقيل : الخطاب للمُشْرِكين ، تقديره : يأيُّها الذين آمَنُوا باللاَّتِ والعُزَّى ، آمِنُوا .
وقيل : المعنى : يأيها الذين آمَنُوا ، دُومُوا على الإيمان ، واثْبُتُوا عليْه ، أي : يأيُّها الذين آمَنُوا في المَاضِي والحَاضِر ، آمِنُوا في المُسْتَقْبَل؛ كقوله : { فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلأ الله } [ محمد : 19 ] مع أنه كان عَالِماً بذلك .
وقيل : المُراد ب » الذين آمَنُوا « : جميع النَّاس ، وذلك يوم أخذ عَلَيْهم المِيثَاق .
وقيل : يا أيُّها الَّذِين آمَنُوا على سبيل التَّقْلِيدِ ، آمِنُوا على سبيل الاسْتِدْلاَل .
وقيل : يا أيها الَّذِين آمَنُوا بِحَسَب الاسْتِدْلاَلات الإجْمَاليَّةِ ، آمِنُوا بحسَبِ الدَّلائل التَّفْصيليَّة .
وقرأ نافعُ والكوفيون : » والكتاب الَّذِي نزَّل على رَسُوله والكِتَاب الذي أنْزل من قبل « على بناء الفِعْليْن للفَاعِل ، وهو الله - تعالى - ، [ وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو : ] على بنائهما للمَفْعُول ، والقائمُ مقامَ الفَاعِل ضَمِير الكِتَاب .
وحُجَّة الأوَّلِين : قوله - تعالى - : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } [ الحجر : 9 ] ، وقوله { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر } [ النحل : 44 ] ، وحجة الضم : قوله - تعالى - : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] ، وقوله : { يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ [ مِّن رَّبِّكَ بالحق ] } [ الأنعام : 114 ] .
قال بعض العلماء : كلاهما حَسَن ، إلا أن الضَّمَّ أفْخَمُ ، كقوله : { وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ } [ هود : 44 ] .
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : فإن قُلْتَ [ لِمَ ] قال : { نَزَّلَ على رَسُولِهِ } ، و { أَنَزلَ مِن قَبْلُ } ؟ .
قلت : « لأنَّ القرآن نَزَل مُنَجَّماً مفرَّقاً في عِشْرِين سَنَة ، بخلاف الكُتُب قَبْله » ، وقد تَقَدَّم البَحْث معه في ذَلِكَ ، عند قوله - تعالى - : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التوراة } [ آل عمران : 3 ] وأن التَّضْعِيف في « نزَّلَ » للتَّعْدِية ، مرادفٌ للهَمْزَة لا للتَّكْثِير .
فصل
اعلم : أنه [ تعالى ] أمَرَ في هذه الآيَة بالإيمَانِ بأرْبَعة أشْيَاء :
أوّلها : بالله .
وثانيها : برسوله .
وثالثها : بالكتاب الذي نزَّل على رسُوله .
ورابعها : [ الكتاب الَّذِي أنْزَل من قَبْل . وذكر في الكُفْر أمُوراً خَمْسةً :
أولها : الكُفْر باللَّه .
وثانيها : الكُفْر بملائِكَتِهِ .
وثالثها : الكُفْر بكُتُبِه ] .
ورابعها : الكُفْر برسُله .
وخامسها : الكُفْر باليوم الآخر .
ثم قال : { فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } وهاهنا سُؤالات :
السُّوال الأوَّل : لِمَ قدَّم في مراتب الإيمانِ ذكر الرَّسُول على ذكر الكِتَابِ ، وفي مراتب الكُفْر قَلَب القضيَّة؟ .
والجواب : لأن في مرتبة النُّزُول من الخَالِق إلى الخَلْق كان الكتاب مقدماً على الرسول ، وفي مرتبه العُرُوج من الخَلْق إلى الخَالِقِ ، يكُون الرَّسُول مُقَدَّماً على الكِتَاب .
السُّؤال الثَّاني : لِمَ ذكر في مراتب الإيمان أموراً ثلاثة : الإيمان بالله ، وبالرسل ، وبالكتب ، وذكر في مَرَاتِب الكُفْر [ أموراً خَمْسَة : الكُفْر ] باللَّه ، وبالملائكة ، وبالرُّسُل ، [ وبالكُتُب ] ، وباليَوْم الآخِر؟ .
والجواب : لأنَّ الإيمان [ باللَّه و ] بالرُّسُل ، وبالكُتُب متى حَصَل ، فقد حَصَل الإيمان بالملائِكَة ، وباليوم الآخر لا مَحَالَة ، إذ رُبَّما ادّعى الإنْسَان أنه يُؤمِن باللَّه ، وبالرُّسُل ، وبالكُتُب ، ثم إنَّه يُنْكِرُ الملائكة ، وينكر اليَوْم الآخر ، ويزعم أنَّ الآيات الوَارِدَة في المَلائكة وفي اليوم الآخر ، مَحْمُولَة على التَّأوِيل .
فلما احتمل هذا؛ لا جرم نصَّ على أن مُنْكِر المَلاَئِكَة ، ومنكر اليَوْم الآخِر ، كافرٌ باللَّه .
السؤال الثالث : كيف قِيلَ لأهلِ الكِتَاب : { والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ } مع أنهم كانوا مُؤمنين بالتوراة والإنجيل؟ .
والجواب : ما تقدَّم من أن المراد بالكِتَاب : الجنس ، فأمِرُوا أن يُؤمِنُوا بكل الكُتُب؛ لأنَّهم لم يُؤمِنُوا بكُلِّها؛ كما قالوا : نُؤمِنُ بِبَعْضٍ ونكْفُر ببعضٍ ، وأما قوله : { فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } ليس جواباً للأشياء المَذْكُورة ، بل المعنى : ومنْ يكْفُرْ بواحدٍ مِنْهَا .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
لما أمر بالإيمان ، ورغَّب فيه ، بَيَّن فساد طَرِيقة من يَكْفُر بعد الإيمَان .
قال قتادة : هم اليَهُود؛ آمَنُوا بِمُوسى ، ثم كفروا من بعد بعبادتهم العجل ، [ ثم آمَنُوا بالتَّوْراة ] ، ثم كَفَرُوا بعيسى - عليه السلام - ، ثم ازدادُوا كُفْراً بمحمَّد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : هو في جَمِيع أهْل الكِتَاب آمَنُوا بِنَبِيِّهم ، ثم كَفَرُوا به ، وآمَنُوا بالكِتَاب الذي نُزِّل عليه ، ثم كَفَرُوا به ، وكفرهم به : تركهم إيَّاه ، أي : ثم ازْدَادُوا كفراً بمحمَّد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : هذا في قَوْم مُرْتَدِّين ، آمَنُوا ثم ارتَدُّوا ، ومثل هذا هل تقبل تَوْبتهُ؟ حُكِي عن عَلِيٍّ : أنه لا تُقْبَل تَوْبَته ، بل يُقْتَل؛ لقوله - تعالى - : { لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ } وذلك لأن تَكْرَار الكُفْر منهم بعد الإيمان مراتٍ ، يدلُّ على أنَّه لا وَقْع للإيمَانِ في قُلُوبهم ، إذ لو كان للإيمان وَقْعٌ في قُلُوبهم ، لما تركُوهُ بأدْنى سَبَب ، ومن كان كَذَلِك ، فالظَّاهر أنَّه لا يُؤمِن إيماناً صَحِيحاً ، فهذا هُو المُرادُ بقوله : { لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ } وليس المُرَادُ ، أنه لو أتى بالإيمَان الصَّحِيح ، لم يكُن مُعْتَبَراً ، بل المراد مِنْهُ : الاستِبْعَاد ، وأكثر أهْل العِلْم على قُبُول تَوْبَتِه .
وقال مُجَاهِدٌ : { ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } أي : مَاتُوا عليه ، { لم يكن الله ليغفر لهم } : ما أقامُوا على ذلك ، { ولا ليهديهم سبيلا } أي : طريقاً إلى الحَقِّ .
وقيل : المُراد طائِفَة من أهل الكِتَاب ، قَصَدوا تَشْكِيك المُسْلِمينَ ، فكانوا يُظْهِرونَ الإيمانَ تارةً والكُفْر تارةً أخْرى ، على ما أخْبَر اللَّه - تعالى - عنهم قولهم : { آمِنُواْ [ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ ] وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ آل عمران : 72 ] وقوله : { ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } أن بَلَغُوا في ذلك إلى حدِّ الاسْتِهْزَاء ، والسُّخْرية بالإسْلامِ .
فصل
دلَّت الآية على أنَّ الكُفْر يقبل الزِّيادة والنُّقْصَان؛ فوجَب أنْ يَكُونَ الإيمان كَذلك؛ لأنهما ضِدَّان متنافِيَانِ؛ فإذا قَبِلَ أحدُهُما التَّفَاوُت ، فكذلك الآخَر .
فإن قيل : الحُكْم المَذْكُور في هذه الآية : إمَّا أن يكون مَشْرُوطاً بما قبل التَّوبة ، أو بما بَعْدَها .
والأوَّل : باطِلٌ؛ لأن الكُفْر قبل التَّوْبَة غير مَغْفُور على الإطْلاق ، وحينئذٍ تضيع الشُّروطُ المَذْكُورَة .
والثاني : باطل؛ لأن الكُفْر [ يُغْفَر ] بعد التَّوْبَة ، ولو كَانَ بعد ألْفِ مَرَّة ، فعلى التَّقْديرين يلزم السُّؤالُ .
والجوابُ من وُجُوه :
أحدها : ألا نَحْمِل قوله : « إنَّ الَّذين » على الاسْتِغْرَاق ، بل على المَعْهُود السَّابق ، وهم أقْوام مُعَيَّنُون علم الله أنَّهم يَمُوتون على الكُفْر ، ولا يَتُوبون عَنْه ، فقوله : { لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ } إخبار عن مَوْتِهِم على الكُفْر .
وثانيها : أن الكلام خَرَج على الغَالِب المُعْتَاد ، فإن كان كَثِير الانْتِقَال من الإِسْلاَم إلى الكُفْر ، لم يكن للإيمان في قَلْبِه وَقْع ، ولا وَجَد حلاوَةَ الإيمان كما تقدَّم ، والظَّاهِر ممن حاله هذا أنَّه يمُوت كَافراً .
وثالثها : أن الحُكْم على المَذْكُورِ في الآية مَشْرُوطٌ بعدم التَّوْبة عن الكُفْر ، وقول السائل إنَّه على هذا التَّقْدير تَضْييعُ الصِّفات المَذْكُورَة .
قلنا : إنَّ إفْرادَهُ بالذِّكْر يدلُّ على أن كُفْرَهُم أفْحَش ، وخيانتهم أعْظَم ، وعُقُوبتهم في القِيَامَة أوْلَى ، فجرى مُجْرَى قوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] خصَّهُما بالذِّكر لأجل التشريف ، وكقوله : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] .
فإن قيل : اللاَّم في قوله : « لِيَغْفِرَ لَهُم » : للتأكيد ، وهو غَيْر لائقٍ بهذا المَوْضِع ، وإنَّما اللائِق به تَأكيد النَّفْي .
فالجواب : إن نفي التَّأكيد على سَبِيل التَّهَكُم مُبَالَغَة في تَأكِيد النَّفْي ، وهذه اللاَّم تُشْبِه اللاَّم في قوله : { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين } [ آل عمران : 179 ] ، تقدَّم الكلام فيه ، ومَذَاهب النَّاس ، وأن لاَمَ الجحود تُفِيد التَّوْكِيد ، والفرق بَيْن قَوْلك : « مَا كَانَ زَيْد يَقُوم » ، و « ما كانَ لِيَقُوم » .
قوله : { ولا ليهديهم سبيلاً } يدلُّ على أنه - تعالى - لم [ يَهْدِ ] الكافرين إلى الإيمَانِ .
وقالت المُعْتَزِلَةُ : هذا مَحْمُول على زِيَادة الألْطَاف ، أو عَلَى أنَّه لا يَهْدِيهم إلى الجَنَّة في الآخِرة .
قوله { بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً } البشارة : كل خبرٍ تتغيَّرُ به بشرَةُ الوجْهِ ، سارّاً كان أو غَيْر سَارٍّ .
وقال الزَّجَّاج : مَعْنَاه : اجعل في مَوْضع بِشَارتك لَهُم العَذَاب ، كما تقول العرب : « تحيتك الضَّرْبُ وعِتَابُكَ السَّيْفُ » ، أي : بَدَلاً لكُم من التَّحِيَّةِ ، ثم وصَفَ المُنَافِقِين ، فقال : { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } يعني : يتَّخذون اليَهُود والنَّصَارى أولياء ، وأنْصاراً ، وبِطَانة من دُون المُؤمنين ، كان المُنَافقُون يوادُّونَهُم ، ويقول بَعْضهم لبَعْضٍ : إن أمر محمَّد لا يَتِمُّ .
قوله : « الَّذِين » يجُوز فيه النَّصْب والرَّفْع ، فالنصب من وَجْهَيْن :
أحدهما : كونه نعتاً للمُنَافِقِين .
والثاني : أنه نَصْب بفعلٍ مُضْمَر ، أي أذمُّ الَّذِين ، والرَّفْع على خَبر مُبْتَدأ مَحْذُوف ، أي : هم الَّذِين .
فصل
قال القُرْطُبِيُّ : وفي الآيَة دَلِيلٌ على أنَّ من عَمِل مَعْصِيَةً من الموحّدين ، ليس بمنافِقٍ؛ لأنَّه لا يتولّى الكُفَّار ، وتضمنت المَنْع من مُوالاة الكُفَّار ، وأنْ يتَّخِذُوا أعْواناً على الأعْمال المُتَعَلِّقة بالدِّين ، وفي الصَّحيح عن عَائِشَة - رضي الله عنها - : « أنّ رجلاً من المُشْرِكين لحق بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يُقَاتِل مَعَه ، فقال : ارجعْ ، فإنَّنا لا نَسْتَعِين بِمُشْرِكٍ » .
قوله : { أيبتغون عندهم العزة } أي : المَعُونة ، والظُّهور على محمَّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقيل : أيطلبون عندهُم القُوَّة ، والغَلَبة ، والقُدْرة .
قال الواحدي : أصَلُ العِزَّة في اللُّغَة : الشِّدَّة ، ومنه : قيل : للأرْضِ [ الصَّلْبَة ] الشَّديدة : عزَاز ويقال : قد استَعَزَّ المرضُ على المَرِيضِ : إذا اشتدَّ مَرَضُه وكاد أن يَهْلَكَ وعَزَّ الهَمُّ إذا اشْتَدَّ ، ومنه : [ عَزَّ ] عليَّ أن يكُون كذا بِمَعْنَى : اشتَدَّ ، وعز الشَّيْء : إذا قلَّ حتى لا يَكُادُ يُوجَد؛ لأنه اشتدَّ مطلبُهُ ، واعتز فلانٌ بفلان : إذا اشتَدَّ ظَهْرُه به ، وشاةٌ عَزُوزٌ : إذا اشتَدَّ حَلْبُها ، والعِزَّة : القُوَّة ، منقولة عن الشِّدَّة؛ لتقارب مَعْنَيْهما ، والعَزِيز : القوي المَنِيع بخلاف الذَّلِيل ، فالمُنَافِقُون كانوا يَطْلبون العِزَّة والقُوَّة ، بسبب اتِّصالهم باليَهُود ، فأبطل اللَّه عَلَيْهم هذا الرَّأي بقوله : { فإن العزة لله جميعاً } .
والثاني : قوله : « فإن العزة » لِما في الكلام من معنى الشَّرْط ، إذ المَعْنَى : إن إن تَبْتَغُوا من هَؤلاء عِزَّةً { فإن العزة لله جميعاً } ، « جَمِيعاً » : حال من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في قوله : « لِلَّه » لوُقُوعهِ خَبَراً ، [ والمعنى : أنَّ العِزَّة ثبتَتْ لِلَّه - تعالى - حالة كونها جَمِيعاً ] .
فإن قيل : هذا كالمُنَاقض لقوله : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] .
فالجواب : أن القُدْرة الكامِلَة للَّه ، وكل من سِوَاه فبإقداره صَار قادراً ، وبإعْزَازه صارَ عَزِيزاً ، فالعِزَّة الحَاصِلة للرسُول وللمُؤمنين لم تحصل إلا من اللَّه - تعالى - ، فكان الأمْر عند التَّحْقِيقِ : أنَّ العِزَّة للَّه جَمِيعاً .
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
قرأ الجماعة : « نُزِّل » مبنياً للمفعول ، وعاصم ويعقوب قَرَآه « نَزَّلَ » مبنياً للفاعِل ، وأبو حَيْوة وحُميد : « نَزَل » مخففاً مَبْنياً للفاعِل ، والنخعي : « أُنْزِل » بالهَمْزَة مبنياً للمفعُول .
والقائمُ مقامَ الفاعِل في قراءة الجَمَاعة والنَّخعي ، هو « أنْ » وما في حيِّزها ، أي : وقد نَزَّل عليْكُم المَنْعَ من مُجَالستِهِم عند سَماعِكم الكُفْر بالآيَات ، والاسْتِهْزَاء بها .
وأمّا في قراءة عاصمٍ : ف « أنْ » مع ما بعدها في مَحَلِّ نصبٍ مفعولاً به ب « نزَّل » ، والفاعل ضميرُ الله - تعالى - كما تقدَّم .
وأما في قِرَاءة أبي حَيْوة وحمَيد : فمحَلُّها رفعٌ بالفاعِليّة ل « نزل » مخففاً ، فمحَلُّها : إمّا نَصْب على قِرَاءة عَاصِمٍ ، أو رَفْع على قِراءة غيره ، ولكن الرَّفْع مختلف .
فصل
قال المفسِّرون : المَعْنَى : وقد نَزَّل عليكم يا معشر المُؤمنين ، { أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله } يعني : القُرْآن { يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم } يعني : مع المُسْتَهْزِئين { حتى يخوضوا في حديث غيره } ، وذلك أنَّ المُشركِينَ كانُوا يخوضُونَ في مُجَالَسَتِهم في ذِكْر القُرْآن ، يستَهْزِئُون به ، فأنْزَل الله - تعالى - { وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } [ الأنعام : 68 ] وهذه الآية نَزَلَتْ في مَكَّة .
ثم إن أحْبَار اليهُود بالمدينَة ، كانوا يَفْعَلُون فعل المُشْرِكِين ، وكان المُنافِقُون يَقْعُدون معهُم ، ويُوافِقُونهم على ذلك ، فقال - تعالى - مُخَاطِباً لَهُم : « أنه قد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها » والمعنى : إذا سَمِعْتُم الكُفْر بآيَات اللَّه والاستهزاء بِهَا ، لكنَّه أوْقع فعل السماع على الآية ، والمُراد بها : سَمَاع الاسْتِهْزَاء .
قال الكسَائِيُّ : هو كما يُقَال : سَمِعْت عَبْد اللَّه يُلاَم .
قال ابن الخطِيب : وعندي فيه وَجْه آخَر : وهو أنْ يَكُون المَعْنَى : إذا سَمِعْتُم آيَاتِ اللَّه حَالَ ما يُكْفَر بها ويستهزأ بها ، وعلى هذا فلا حَاجَة لما قاله الكسَائيُّ .
قوله : « أنْ إذَا » « أن » هذه هي المُخَفَّفةُ من الثَّقيلة ، واسمُهَا : ضِمِير الأمْر والشَّأن ، أي : أنَّ الأمْر والشأن إذا سَمعْتُم الكُفْر والاسْتهْزَاء ، فلا تَقْعُدُوا .
قال أبو حيان : وما قَدَّره أبو البقاء من قوله : « أنَّكُم إذا سَمِعْتُم » ليس بجَيِّد ، لأن « أن » المخففة لا تَعْمَل إلاَّ في ضِمِير الشَّأن ، إلا في ضرورةٍ؛ كقوله : [ الطويل ]
1888- فَلَوْ أنْكِ فِي يَوْمِ الرَّخَاءِ سألْتِني ... طَلاَقَكِ لَمْ أبْخَلْ وَأنْتِ صَدِيق
قال شهاب الدين : هكذا قال ، ولم أره أنا في إعراب أبِي البَقَاءِ إلا أنَّه بالهَاءِ دون الكَافِ والمَيم ، والجملةُ الشَّرْطِية المُنْعَقدةُ من « إذا » وجوابها في مَحَلِّ رَفْع ، خَبَراً ل « أنْ » ، ومن مَجِيء الجُمْلة الشرطيَّة خبراً ل « أنْ » المُخَفَّفَة : قوله : [ الكامل ]
1889- فَعَلِمْتُ أنْ مَا تَتَّقُوهُ فَإنَّهُ ... جَزْرٌ لِخَامِعَةٍ وفَرْخ عُقَابِ
ف « مَا » شَرْطيةٌ ، و « فإنه » جَوابُها ، والجُمْلَةُ خبرٌ ل « أنْ » المخفَّفَةِ .
قوله : « يُكَفَرُ بِهَا » في محلِّ نَصْب على الحَالِ من الآيات ، و « بها » في محلِّ رفع؛ لقيامِه مقامَ الفاعلِ ، وكذلِك في قوله : « يُسْتَهْزَأُ بِهَا » والأصل : يكفر بها أحدٌ ، فلمَّا حُذِف الفاعلُ ، قام الجارُّ والمَجْرُورُ مقامَه ، ولذلك رُوعِي هذا الفَاعِلُ المَحْذُوف ، فعاد عليه الضَّمِيرُ من قوله : { مَعَهُمْ حتى يخوضوا } كأنه قِيل : إذا سَمِعْتُم آياتِ الله يَكْفرُ بها المُشْرِكُون ، ويَسْتَهزِئُ بها المُنَافِقُون ، فلا تَقْعدوا مَعَهُم حتى يخُوضُوا في حَديثٍ غيره ، أي : غير حَدِيث الكُفْر والاستهزاء ، فعاد الضَّمير في « غيره » على ما دَلَّ عليه المَعْنَى .
وقيل : الضَّمير في « غيره » يجُوزُ أنْ يعودَ على الكُفْر والاستِهْزَاء المفهُومَيْن من قوله : « يُكَفَر بِهَا » و « وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا » ، [ وإنما أفْرَد الضَّمِير وإن كان المُرَاد به شَيْئين؛ لأحد أمرين : ]
إمَّا لأنَّ الكُفر والاستِهْزَاء شيءٌ واحدٌ في المعْنَى :
وإمَّا لإجراءِ الضَّميرِ مُجْرى اسم الإشَارةِ ، نحو : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] . وقوله : [ الرجز ]
1890- كَأنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَق ... وقد تقدَّم تَحْقِيقُه في البقرة ، و « حتى » : غايةٌ للنَّهْي ، والمعنى : أنه يجُوز مُجَالستهم عند خَوْضِهم في غير الكُفْر والاستِهْزَاء .
قال الضَّحاك : عن ابن عبَّاسٍ : دخل في هذه الآية كل مُحْدِث في الدِّين ، وكل مُبْتَدِع إلى يَوْم القِيَامَةِ .
قوله : { إنكم إذاً مثلهم } « إذاً » هنا : مُلغَاةٌ؛ لوقوعها بين مُبْتَدأ وخبر ، والجمهور على رفعِ اللام في « مثلُهم » على خَبَرِ الابتداء ، وقرئ شاذاً بفتحها ، وفيها تَخْريجَان :
أحدهما : - وهو قولُ البصْريِّين - أنه خبر أيضاً ، وإنما فُتِح لإضافته إلى غير مُتَمَكِّن؛ كقوله - تعالى - : { إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 23 ] بفتح اللاَّم ، وقول الفرَزْدَق : [ البسيط ]
1891- . .. . . وإذْ مَا مِثْلَهُمْ بَشَرُ
في أحدِ الأوجه .
والثَّاني : - وهو قولُ الكُوفيِّين - إن « مِثْل » يَجُوز نصبها على المَحَلِّ ، أي : الظرف ، ويُجيزُون : « زيد مِثْلَك » بالنَّصب على المحلِّ أي : زيدٌ في مثل حالك ، وأفرد « مثل » هُنَا ، وإن أخْبَرَ به عن جَمْع ولم يُطابق به كما طابق ما قبله في قوله : { ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } [ محمد : 38 ] ، وقوله : { وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ } [ الواقعة : 22 ، 23 ] .
قال أبُو البقاء وغيره : لأنه قصد به هُنَا المصدر ، فوحَّد كما وحَّد في قوله : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } [ المؤمنون : 47 ] . وتحرير المَعْنَى : أن التقدير : إنَّ عصيانكم مثل عصيانهم ، إلا أنَّ تقدير المصدريّة في قوله : « لِبَشَريْنِ مِثْلِنَا » قلق .
فصل في معنى الآية
والمعنى : أنكم إذاً مِثْلُهُم ، إن قعدْتُم عندهم وهُم يَخُوضُون ويَسْتهزِئُون ، ورضيتم بِهِ ، فأنتم كُفَّار مِثْلُهم ، وإن خَاضُوا في حَدِيث غَيْرِه ، فلا بأس بالقُعُود مَعَهم مع الكَرَاهَة .
قال الحَسَن : لا يجوز القُعُود معهم وإن خَاضُوا في حَدِيث غَيْره؛ لقوله - تعالى - : { وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين } [ الأنعام : 68 ] والأكثرون على الأوَّل ، وآية الأنعام مَكِّية وهذه مَدَنِيَّة ، والمتأخِّر أوْلَى .
فصل
قال بعض العُلَمَاء : هذا يدل على أنَّ من رَضِي بالكُفْرِ ، فهو كافِرٌ ، ومن رَضِيَ بمنكر يَرَاه ، وخالط أهْلَه وإن لَمْ يُبَاشِر ذلك ، كان في الإثْمِ بمَنْزِلة المُبَاشِر لهذه الآية ، وإن لم يَرْض وحَضَر خَوْفاً وتقية ، فلا .
قوله : { إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } أي : كما اجتمعوا على الاسْتِهْزَاء بآيَاتِ اللَّه في الدُّنْيا ، فكذلك يَجْتِمَعُون في العَذَاب يوم القِيَامَةِ ، وأراد : جامعٌ بالتنوين؛ لأنَّه بعدما جَمَعَهُم حذف التَّنْوِين؛ استخفافاً من اللَّفْظ ، وهو مرادٌ في الحَقِيقَةِ .
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
في : « الذين يتربَّصُون » : ستَّة أوجه :
أحدُها : أنه بدلٌ من قوله : « الذين يتَّخِذُون » ، فيجيء فيه الأوْجُه المذْكُورة هناك .
الثاني : أنه نَعْتٌ للمنافِقِين على اللَّفْظِ ، فيكون مَجْرورَ المَحَلِّ .
الثالث : أنه تابعٌ لهم على المَوْضِع ، فيكونُ مَنْصُوبَ المَحَلِّ ، وقد تقرَّر أنَّ اسم الفاعل العامِل إذا أُضيفَ إلى مَعْمُوله ، جاز أن يُتْبَعَ مَعْمُولُه لفظاً وموضعاً ، تقول : « هذا ضاربُ هندٍ العاقلةِ والعاقلةَ » بجرِّ العاقلة ونصبها .
الرابع : أنه منصوبٌ على الشَّتْم .
الخامس : أنه خَبَر مبتدأ مُضْمَر ، أي : هُمُ الذين .
السادس : - وذكره أبو البقاء - أنه مُبْتَدأ ، والخبرُ قوله : { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ } ، وهذا ضَعِيفٌ؛ لنبوِّ المَعْنَى عنه ولزيادةِ الفاءِ في غير مَحَلِّها؛ لأنّ هذا الموصُولَ غيرُ ظاهر الشَّبهِ باسْمِ الشرط .
فصل في معنى الآية
ومعنى « يتربَّصُون بِكُم » : ينتظرون بكُم الدَّوَائِر ، يعنى : المُنَافِقِين ، ينتظرون ما يَحْدُث من خَيْر وشَرٍّ ، { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله } أي : ظهورٌ على اليَهُود ، وظَفر ، وغَنَيِمة ، { قالوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ } على دينكُم وفي الجِهَاد كنَّا معَكُم ، فأعْطُونا قِسْماً من الغَنِيمَةِ ، { وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ } يعني : ظَفرٌ على المُسْلِمِين ، « قَالُوا » : يعني : المُنَافِقِين للكافرين : { أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } والاستحواذ : الاستيلاء والغَلَبة على الشَّيْء ، ومنه : { استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان } [ المجادلة : 19 ] ، ويقال : حَاذَ وأحَاذَ بِمَعْنًى؛ والمصدر : الحَوْذ ، وفي المَعْنَى وُجُوهٌ :
الأول : أن المَعْنَى : ألم نَغْلِبكُم ، ونتمكَّن من قَتْلِكُم وأسركُم ، ثم لم نَفْعَل شَيْئاً من ذَلِك ، { وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين } أي : نَدْفَع عَنْكُم صولة المُؤمِنين بِتَخْذِيلهم ، وتوانينا في مُظاهَرَتِهم ، فأعطونا نَصِيباً ممَّا أصَبْتُم .
الثاني : قال المُبَرِّد : يقول المُنَافِقُون للكفَّار : ألم نَغْلِبْكُم؛ فإن المُنَافِقِين بالغُوا في تَنْفِير الكَافِرِين ، وأطْمَعُوهم أنه سَيضْعُفُ أمر محمَّدٍ ، وسَيَقْوى أمركم ، فإذا اتَّفَقَتْ للكفَّار دَوْلةٌ على المُسْلِمين ، قال المُنَافِقُون : ألَسْنَا غلبناكم على رَأيِكُم في الدُّخُول في الإسْلام ، ومَنَعْنَاكُم منه ، فلمَّا شاهَدْتُم صِدْق قَوْلِنا ، فأعْطُونا نَصِيبَنَا ممَّا أخَذْتُمْ ، ومرادُ المُنافقين : إظْهَار المِنَّة على الكَافِرِين بهذا الكلامِ .
الثالث : ألم نُخْبِرْكم بِعَزِيمَةِ محمَّدٍ وأصحابه ، ونُطْلِعْكُم على سِرِّهِم .
فإن قيل : لِمَ سَمَّى ظَفر المُسْلِمين فتحاً ، وظفر الكُفَّار نَصِيباً .
فالجواب : أنه تعظيم لشأن المُؤمنين ، وتحقير لحظِّ الكَافِرِين؛ لأن ظَفر المُسْلِمين أمر عظيم ، يفتح الله لَهُ أبْوَاب السَّمَاء؛ حتى تَنْزل الرَّحْمَة على أوْلِيَاء اللَّه ، وأما ظَفر الكَافِرِين : فما هُوَ إلا حَظٌّ دنيويٌّ يَنْقَضِي ، ولا يَبْقَى منه إلا اللَّوْم في الدُّنْيَا ، والعُقُوبة في الأخْرَى .
قوله : « ونمنعكم » الجمهورُ على جَزْمه ، عطفاً على ما قبله .
وقرأ ابن بي عَبْلَة بنصب العَيْن وهي ظَاهِرَةٌ؛ فإنه على إضْمَار « أنْ » بعد الوَاوِ المقتَضِيَة للجَمْع في جواب الاستفهامِ؛ كقول الحُطيْئَة : [ الوافر ]
1892- ألَمْ أكُ جَارَكُم ويَكُونَ بَيْنِي ... وَبَيْنَكُمُ الْمَوَدَّةُ والإخَاءُ
وعَبَّر ابنُ عَطِيَّة بعبارة الكوفيين ، فقال : « بفتحِ العَيْن على الصَّرْف » ويعنون بالصَّرْف : عدمَ تَشْريكِ الفِعْلِ مع ما قَبْلَه في الإعْرَاب .
وقرأ أبيّ : « ومنعناكم » فعلاً ماضياً ، وهي ظاهرةٌ أيضاً؛ لأنه حُمِلَ على المَعْنَى ، فإنَّ معنى « أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ » : إنَّا قد اسْتَحْوَذْنا ، لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على نَفْي قَرَّره ، ومثلُه : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا } [ الشرح : 1 ، 2 ] لَمَّا كان « أَلم نَشْرَحْ » في معنى : « قد شَرحْنَا » عُطِفَ عليه « ووضَعْنا » .
ونَسْتَحْوِذُ واستحوذ مِمَّا شَذَّ قياساً ، وفَصُحَ استعمالاً؛ لأنَّه مِنْ حقِّه نَقْلُ حركةِ حَرْفِ علَّتِه إلى السَّاكِن قبلها ، وقَلْبها ألفاً؛ كاسْتَقَام واسْتَبَان وبابه ، وقد قدمت تَحْقِيق هذا في قوله - تعالى - في الفاتحة : « نَسْتَعين » ، وقد شذَّت معه ألفاظٌ أخَرُ ، نحو : « أغْيَمَتْ وأغيلت المرأة وأخيَلت السَّماء » قصرها النَّحْوِيُّون على السَّماع ، وقاسها أبُو زَيْد .
قوله : { فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } قيل : هنا مَعْطوفٌ مَحْذُوف ، أي : وبينهم؛ كقوله : [ الطويل ]
1893- فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً ... أبُو حُجُرٍ إلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ
أي : وبيني ، والظَّاهرُ أنه لا يحتاج لذلك؛ لأن الخِطَاب في « بَيْنَكُم » شاملٌ للجَميع ، والمرادُ : المُخَاطَبُون والغَائِبُون ، وإنما غَلَّبَ الخطاب؛ لما عَرَفْتَ من لُغَة العرب .
فالمعنى : أنَّ الله يَحْكُم بين المُؤمنين والمُنَافقين يوم القيامةِ ، ولم يَضِع السَّيْف في الدُّنْيَا عن المُنَافِقِين ، بَلْ أخّر عِقَابِهِم إلى يَوْم القِيَامَةِ .
قوله : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } .
قال عَلِيٌّ - رضي الله عنه - : في الآخِرة ، قال يُسَيْع الحضرمِيّ : كُنْتُ عند عَلِيٍّ - رضي الله عنه - ، فقال [ له ] رجُلٌ يا أمير المُؤمنين : أرأيْت قوله - تبارك وتعالى - : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } . كيف ذَلِك ، وهم يُقَاتِلُوننَا ويَظْهَرُون علينا أحْيَاناً .
فقال عَلِيٌّ - رضي الله عنه - : معنى ذلك : يَوْم القيامة؛ وهو مَرْوِيٌّ عن ابن عبَّاسٍ ، وقيل : لا يجعل الله للكافرين على المُؤمنين سَبِيلاً ، إلا أنْ يتواصوا بالبَاطِل ، ولا يَتَنَاهَوْا عن المُنْكَر ، ويتقاعَدُوا عن التَّوْبة ، فيكون تَسْلِيطُ العدُوِّ من قبلهم؛ كما قال : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] .
قال ابن العَرَبِيِّ : وهذا نَفِيسٌ .
وقيل : ولَنْ يَجْعَل اللَّه للكَافِرِين على المُؤمنين سَبِيلاً شَرْعاً ، فإنْ وُجِد ، فَبِخلاف الشَّرْع .
وقال عِكْرمة ، عن ابن عبَّاسٍ : حُجَّة في الدُّنْيَا ، وقيل : ظُهُوراً على أصْحَاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقيل : عَامٌّ في الكُلِّ ، إلا ما خصَّه الدَّلِيلُ .
قوله : على المُؤمنين يَجُوز أن يتعلَّق بالجَعْلِ ، ويجُوز أن يتعلَّق بِمَحذُوفٍ ، ؛ لأنه في الأصْل صِفَة ل « سَبِيلاً » ، فلما قُدِّم عليه ، انْتَصَبَ حالاً عَنْهُ .
فصل
استدّلُّوا بهذه الآية على مَسَائِلَ :
منها : استيلاء الكَافِر على مال المُسْلِمِ بدَارِ الحَرْب ، لم يَمْلِكْه .
ومنها : أن الكَافِر ليس لَهُ أن يَشْتَرِي عَبْداً مسلماً .
ومنها : أنَّ المُسْلِم لا يُقْتَل بالذِّمِّيِّ .
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
قد تقدَّم تفسير الخِدَاع واشتقاقه أوّل البقرة ، ومعنى المُفَاعَلة فيه .
قال الزَّجَّاج : مَعْنَاه : يُخَادِعُون الرَّسُول ، أي : يظهرون لَهُ الإيمَان ويبطنون الكُفْرَ؛ كقوله : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] ، وسمّي المُنَافِق مُنَافِقاً؛ أخذاً من : نَافِقَاء اليَرْبُوع؛ وهي جُحْره؛ فإنه يَجْعَلُ له بَابَيْن ، يَدْخُلُ من أحدهما ويَخْرُجُ من الآخَر؛ كذلك المُنَافِق ، يَدْخُل مع المؤمنين بقوله : أنا مُؤمِنٌ ، [ ويدخل مع الكَافِر بقوله : أنا كَافِر ] ، وجُحْرُ اليَرْبُوعِ يُسَمَّى النَّافِقَاء ، والسَّاميَاء والدَّامياء ، [ فالسَّامِيَاء ] : هو الجحر الذي تلد فيه الأنْثَى ، [ والدامياء : هو الذي يَكُون ] فيه .
قوله : « وَهُوَ خَادِعُهُمْ » فيه ثلاثة أقْوَالٍ :
أحدها : ذكرَه أبُو البقاء : أنه نَصْبٌ على الحَالِ .
والثاني : أنَّها في مَحَلِّ رفعٍ عطْفاً على خَبَر « إنَّ » .
الثالث : أنَّها استِئْنَاف إخْبَار بِذَلك .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « وخادعٌ : اسم فاعِل من خَادعْتُه ، فَخَدَعْتهُ إذا غَلَبْتهُ ، وكنت أخْدَع مِنْه » . قوله : « وَهُوَ خَادِعُهُم » أي : مُجَازيهم بالعِقَاب على خِدَاعِهم .
قال ابن عبَّاس : إنهمَ يُعْطَوْن نوراً يَوْم القِيَامةِ كالمؤمنين ، فيَمْضِي المُؤمِنُون بنورهم على الصِّراطِ ، ويُطْفَأ نور المُنَافِقِين ، يدلُّ عليه قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } [ البقرة : 17 ] .
قوله : « وإذا قَامُوا » عطفٌ على خَبَر « إنَّ » أخبر عَنْهم بِهَذِه الصِّفَاتِ الذَّميمة ، و « كُسَالى » : نصبٌ على الحَالِ من ضَمِير « قَامُوا » الواقع جواباً ، والجُمهورُ على ضمِّ الكاف ، وهي لُغة أهل الحِجاز [ جمع كَسْلان : كسَكَارَى ] ، وقرأ الأعرج بفتحها ، وهي لُغَةُ تميم وأسَدٍ ، وقرأ ابن السَّمَيْفع : « كَسْلى » وصَفَهم بِمَا تُوصف به المُؤنَّثَة المفردةُ ، اعْتِبَاراً بمعنى الجماعة؛ كقوله : « وتَرَى الناسَ سَكْرى » ، والكسلُ : الفُتُورُ والتواني ، وأكْسَل : إذا جَامَعَ وفَتَر ولم يُنْزل . والمعنى : أن المُنَافِقِين إذا قامُوا إلى الصَّلاةِ ، قاموا مُتَثَاقِلِين ، لا يُرِيدُون بها الله - تعالى- ، فإن رَآهم أحَدٌ ، صلَّوا ، وإلا انْصَرَفُوا فَلَمْ يُصَلُّوا .
قوله : « يُراؤون [ النَّاسَ ] » في هذه الجُمْلَةِ ثلاثةُ أوجه :
أحدُها : أنها حَالٌ من الضَّمير المُسْتَتر في « كُسَالى » .
الثاني : أنها بَدَلٌ من « كُسَالَى » ؛ ذكره أبو البقاء ، فيكونُ حالاً من فاعل « قَامُوا » وفيه نظر ، لأنَّ الثَّاني ليس الأوَل ولا بَعْضَه ولا مُشْتَمِلاً عليه .
الثالث : أنها مُستأنفةٌ أخْبر عَنْهم بذلك ، وأصلُ يُراؤون : يُرائِيُون ، فأعِلَّ كَنَظائره ، والجمهور على : « يُراؤون » من المُفاعلةِ .
قال الزَّمْخْشَرِيُّ : فإنْ قلت : ما مَعْنَى المراءاة ، وهي مُفاعَلَة من الرُّؤيَة؟ قلت : لها وجهان :
أحدهما : أنَّ المُرَائِيَ يُريهم عَمَلَه ، وهم يُرُونه الاسْتحْسَانَ .
والثاني : أن تكُونَ من المُفاعلة بمعنى : التَّفْعِيل ، يقال : نعَّمه وناعَمَهُ ، وفَنَّقه وفَانَقَه ، وعيش مُفَانِق ، وروى أبو زَيْد : « رأَّت المَرْأةُ المِرْآة [ الرَّجُل ] » إذا أمْسكَتْها له ليرى وَجهَه؛ ويدل عليه قراءةُ ابن أبي إسحاق : « يُرَؤّونَهُم » بهمزةٍ مُشَدَّدةٍ مثل : يُدَعُّونهم ، أي : يُبَصِّرونهم ويُرَاؤونهم كذلك ، يعني : أن قراءةَ : « يُرَؤُّنهم » من غير ألفٍ ، بل بهمزةٍ مَضْمُومةٍ مشدَّدَةٍ توضِّح أنَّ المُفاعَلَة هنا بِمَعْنَى التفعيل .
قال ابن عَطِيَّة : « وهي - يعني هذه القراءة - أقْوَى من » يُرَاؤُونَ « في المعنى؛ لأنَّ مَعْنَاها يَحْمِلُون النَّاسَ على أنْ يَرَوْهم ، ويتظاهَرُون لهم بالصَّلاة ويُبْطنُون النِّفَاقَ » وهذا منه ليس بجيِّد؛ لأنَّ المُفَاعَلة إنْ كَانَت عَلَى بابها ، فهي أبْلَغُ لِما عُرِفَ غيرَ مرَّة ، وإنْ كانت بِمَعْنَى التفعيل ، فهي وَافِيةٌ بالمَعْنَى الذي أرَادَه ، وكأنه لم يَعْرِف أنَّ المفاعلة قد تَجِيءُ بمعنى التَّفْعِيل . ومتعلَّقُ المُرَاءاةِ محذُوفٌ؛ لِيَعُمَّ كلَّ ما يُراءى به ، والأحْسَن أن تُقَدِّر : يُراؤون النَّاسَ بأعْمَالِهم .
قوله : { وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً } « ولا يَذْكُرُون » ، يجوز أن يكون عَطْفاً على « يُرَاؤُون » ، وأن يكون حالاً من فاعِل « يُراؤُون » وهو ضعيفٌ؛ لأن المُضارع المَنْفِيَّ ب « لا » كالمُثْبَتِ ، والمُثْبَتُ إذا وَقَع حالاً ، لا يَقْترِنُ بالوَاوِ ، فإنْ جَعَلها عَاطِفَةً ، جَازَ .
وقوله : « قليلاً » : نعتٌ لمصدرٍ محذُوفٍ ، أو لزمان مَحْذوفٍ ، أي : ذكْراً قليلاً أو زمناً قليلاً ، والقلةُ هُنَا على بابها ، وجَوَّز الزَّمَخْشَرِيُّ وابن عطِيَّة : أن تكون بِمَعْنَى العَدَم ، ويأباه كَوْنُه مُسْتَثْنى ، وقد تقدَّم الردُّ عليهمَا في ذَلِكَ .
فصل
قال ابنْ عبَّاسٍ ، والحسن : إنَّما قال ذَلِك؛ لأنَّهمُ يَفْعَلُونها رِيَاءً وسُمْعَة ، ولو أرَادُوا بذلك القَلِيل وَجْهَ اللَّه ، لكان كَثِيراً ، وقال قتادة : إنَّما قلَّ ذكرُ المُنَافِقِين؛ لأنَّ الله لم يَقْبله ، وكلّ ما قَبِلَ اللَّه ، فهو كَثِيرٌ .
وقيل : المعنى : لا يصلّون إلا قَليلاً ، [ والمُرادُ ب « الذكر » الصَّلاة ] ، وقيل : لا يَذْكُرُون اللَّه في جَمِيع الأوقات ، سواءً كان وَقْت الصَّلاة أوْ لَمْ يكُن إلاَّ قَلِيلاً نادراً .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : [ وترى ] كثيراً من المُتَظَاهِرِين بالإسْلام ، لو صِحِبْتَهُ الأيَّام واللَّيَالي ، لَمْ تسمع منه تَهْلِيلَةً ، ولكن حَدِيث الدُّنْيَا يَسْتَغْرِقُ به أوْقاته ، لا يَفْترُ عَنْه .
قوله : « مُذَبْذَبِينَ » : فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه [ حالٌ ] من فاعل « يراءون » .
الثاني : أنه حالٌ من فاعل « وَلاَ يَذْكُرُون » .
الثالث : أنه منصوبٌ على الذَّمِّ ، والجمهور على « مُذَبْذَبينَ » بميم مضمومة وذَالَيْن معجمتَيْن ، ثانيتهما مفتوحةٌ على أنه اسم مفعول ، من ذَبْذَبْتُهُ ، فَهُوَ مُذَبْذَبٌ ، أي : مُتَحَيِّرٌ ، وقرأ ابن عبَّاس وعمرو بنُ فائدٍ بكَسْر الذال الثانيةِ اسمَ فاعلٍ ، وفيه احتمالان :
أحدهما : أنه من « ذَبْذَب » متعدِّياً ، فيكونُ مفعولُه محذوفاً ، أي : مُذَبْذَبينَ أنْفُسَهُمْ أو دينهُمْ ، أو نحو ذلك .
الثاني : أنه بمعنى تَفَعْلَل ، نحو : « صَلْصَلَ » فيكون قاصراً؛ ويَدُلُّ على هذا الثاني قراءةُ أبَيٍّ ، وما في مصحف عبد الله « مُتَذَبْذِبِينَ » فلذلك يُحْتَمَلُ أن تكونَ قراءةُ ابن عبَّاس بمعنى مُتَذَبْذبين ، وقرأ الحَسَنُ البصريُّ « مَذَبْذَبِين » بفتح الميم .
قال ابن عطيَّة : « وهي مردودةٌ » وقال غيره : لا ينبغي أن تَصِحَّ عنه ، واعتذر أبو حيان عنها لأجْلِ فصاحة الحَسَن ، واحتجاجِ الناس بكلامه بأنَّ فتْح الميم لأجل إتباعها بحركة الذال؛ قال : « وإذا كانُوا قد أتبعوا في » مِنْتِنٍ « حركة الميم بحركة التاء ، مع الحاجز بينهما ، وفي نحو » مُنْحَدُر « أتبعوا حركة الدال بحركة الراء حالة الرفع ، مع أنَّ حركة الإعراب غيرُ لازمة؛ فلأنْ يُتْبِعُوا في نحو » مَذَبْذَبِينَ « أوْلَى » . [ قال شهاب الدين : ] وهذا فاسدٌ؛ لأن الإتباع في الأمثلة التي أوردها ونظائِرَها إنما هو إذا كانت الحركةُ قويةً ، وهي الضمةُ والكسرةُ ، وأمَّا الفتحةُ فخفيفةٌ ، فلم يُتْبِعُوا لأجْلها ، وقرأ ابن القعقاع بدَالَيْن مُهْملتَيْنِ من الدُّبَّة ، وهي الطريقة [ الَّتي يُدَبُّ فيها ] يقال : « خَلِّني وَدُبَّتِي » أي : طريقَتِي؛ قال : [ الطويل ]
1894- طَهَا هُذْرُبَانٌ قَلَّ تَغْمِيضُ عَيْنِهِ ... عَلَى دُبَّةٍ مِثْلِ الْخَنِيفِ المُرَعْبَلِ
وفي حديث ابن عبَّاس : « اتَّبِعُوا دُبَّةَ قُرَيْشٍ » ، أي : طَريقَهَا ، فالمعنى على هذه القراءة : أن يأخُذَ بهم تارةً دُبَّةً ، وتارة دُبَّةً أخرى ، فَيَتْبَعُونَ متحيِّرين غيرَ ماضينَ على طريقٍ واحدٍ .
ومُذَبْذَبٌ وشبهُه نحْوُ : مُكَبْكَبٍ ومُكَفْكَفٍ؛ مِمَّا ضُعِّفَ أولُه وثانيه ، وصَحَّ المعنى بإسقاط ثالثه - فيه مذاهبٌ :
أحدها : - وهو قولُ جمهور البصريين - : أنَّ الكلَّ أصولٌ؛ لأنَّ أقلَّ البنية ثلاثةُ أصولٍ ، وليس أحدُ المكرَّرين أوْلَى بالزيادةِ من الآخر .
الثاني - ويُعْزَى للزجَّاج - : أنَّ ما صَحَّ إسقاطُه زائدٌ .
الثالث - وهو قول الكوفيين - : أن الثالث بدلٌ من تضعيف الثاني ، ويزعُمُون أن أصل كَفْكَفَ : كَفَّفَ بثلاث فاءات ، وذَبْذَبَ : ذَبَّبَ بثلاث ياءات ، فاستُثْقِل توالي ثلاثةِ أمثالٍ ، فأبْدَلُوا الثالثَ من جنْس الأوَّل ، أمَّا إذا لم يَصِحَّ المعنى بحذفِ الثالث ، نحو : سِمْسِم وَيُؤيُو وَوَعْوَعٍ؛ فإنَّ الكلَّ يزعمون أصالةَ الجميعِ ، والذَّبْذَبَةُ في الأصل : الاضطرَابُ والحركة ومنه سُمِّي الذُّباب؛ لكَثْرة حركَتِه .
قال - عليه السلام - : « من وُقي شر قَبْقَبه وذبذبه ولَقْلَقِه وجبت له الجَنَّة » يعني : الذكر يُسَمَّى بذلك لتَذَبْذُبِه ، أي : حركته ، وقيل التَّذَبْذُب : التَّرَدُّد بين حَالَيْن .
قال النابغة : [ الطويل ]
1895- ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أعْطَاكَ سُورَةً ... تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ
وقال آخر : [ الطويل ]
1896- خَيَالٌ لأمِّ السَّلْسَبِيلِ وَدُونَهَا ... مَسِيرَةُ شَهْرٍ للْبَعيرِ المُذَبْذِبِ
بكسر الذال الثانية ، قال ابنُ جنِّي : « أي : القَلق الذي لا يستقرُّ » ؛ قال الزمخشريُّ : « وحقيقةُ المذبذب الذي يُذَبُّ عن كلا الجانبين ، أي : يُذاد ويُدْفع ، فلا يقرُّ في جانبٍ واحدٍ ، كما يقال : » فُلانٌ يُرْمَى به الرَّحَوانِ « ، إلا أنَّ الذبذبة فيها تكريرٌ ليْسَ في الذَّبِّ ، كأنَّ المعنى : كلَّما مالَ إلى جانبٍ ذَبَّ عنه » .
قال ابن الأثير في « النهاية » وأصْلُه من الذَّبِّ وهو الطَّرْدُ؛ ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام : « تزوَّجْ وإلاَّ فأنْتَ مِنَ المُذَبْذَبِينَ » أي : المَطْرُودين عن المؤمنين لأنَّكَ لم تَقْتَدِ بهم ، وعن الرُّهْبَانِ؛ لأنك تَرَكْتَ طَريقَتَهُم ، ويجُوز أن يكُونَ من الأوّل .
و « بَيْنَ » معمولٌ لقوله : « مُذَبْذَبِينَ » و « ذَلِكَ » إشارةٌ إلى الكُفْر والإيمانِ المدلولِ عليهما بذكْرِ الكافرين والمؤمنين ، ونحو : [ الوافر ]
1897- إذا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إليه .. .
أي : إلى السَّفَهِ؛ لدلالة لفظ السفيه عليه ، وقال ابن عطية : « أشر إليه ، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ؛ لتضمُّن الكلام له؛ نحو : { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] يعني توارتِ الشمسُ ، وكُلُّ من على الأرْضِ؛ قال أبو حيان » وليس كذلك ، بل تقدَّم ما يدُلُّ عليه « وذكر ما قدَّمْتُه ، وأشير ب » ذَلِكَ « وهو مفردٌ لاثنين؛ لما تقدَّم في قوله { وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] .
قوله : { لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء } » إِلَى « في الموضعيْنِ متعلقةٌ بمحْذُوف ، وذلك المحذوف هو حالٌ حُذِفَ؛ لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : مُذَبْذَبينَ لا مَنْسُوبينَ إلى هؤلاء ولا منسوبين إلى هؤلاء ، فالعاملُ في الحال نَفْسُ » مُذَبْذَبينَ « ، قال أبو البقاء : » وموضعُ { لا إلى هؤلاءِ } نصبٌ على الحالِ من الضمير في مذبذبين ، أي : يتذبذبون مُتَلَوِّنينَ « وهذا تفسير معنًى ، لا إعراب .
فصل
قال قتادة : معنى الآيَة : ليْسُوا مُؤمِنين مُخْلصِينَ ، فَيَجِبُ لَهُم مَا يجِبُ للمُؤمنين ، ولا مُشْرِكين مُصَرِّحِين بالشِّرْكِ .
وروى نَافعٌ عن ابن عمر ، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال : » مثَلُ المُنَافِقِ كمثلِ [ الشَّاةِ ] العَائِرَةِ بين الغَنَمَيْن تَعِيرُ إلى هذه مَرَّةً وإلى هَذِه مَرَّة « .
فصل في أن الحيرة في الدين بإيجاد الله تعالى
استدلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّ الحِيرَة في الدِّينِ إنَّما تَحْصُل بإيجَادِ اللَّه - تعالى -؛ لأن قوله : » مُذَبْذَبِينَ « يقتضي فَاعِلاً قد ذَبْذَبَهُم ، وصَيَّرَهُم مُتَردِّدِين ، وذلك ليس باخْتِيَار العَبْدِ ، فإن الإنْسَان إذا وَقَع في قلبه الدَّوَاعِي المُتعَارِضَة ، المُوجِبَة للتَّحَيُّر والتَّرَدُّد ، فلو أرَادَ أن يَدْفَع ذلك التَّرَدُّد عن نَفْسِه ، لم يَقْدِر عليه أصْلاً ، ومن تأمَّل في أحْوَالِهِ عَلِمَ ذلك ، وإذا ثَبَت أنَّ تِلْكَ الذَّبْذَبَة لا بُدَّ لها من فاعلٍ ، وأن فاعِلَها لَيْس هو العَبْدُ؛ ثبت أنَّ فَاعِلَهَا هو اللَّه - تعالى - .
فإن قيل : قوله - تعالى - : { لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء } يقتضي ذَمَّهُم على تَرْكِ طَريقَةِ المُؤمنين ، وطريقَة الكُفَّار؛ والذَّمُّ على تَرْكِ طريقِ الكُفَّارِ غير جَائِزٍ .
فالجواب : أنَّ طريقة الكُفَّار وإن كانت خَبِيثَةً ، إلا أن طريقَةَ النِّفَاقِ أخْبَثُ منها؛ ولذلك فإن الله - تعالى - ذم الكُفَّار في أوَّل سُورَةِ البَقَرَةِ في آيتين ، وذمَّ المُنافِقِين في تِسْعَ عَشْرَة آية ، وما ذَلِك إلا لأن طَرِيقَة النِّفَاقِ أخْبَثُ من طَرِيقَةِ الكُفَّارِ ، فهو - تعالى - لم يَذُمَّهم على تَرْكِ الكُفْرِ ، بل لأنَّهُم عَدَلُوا عن الكُفْرِ إلى مَا هُو أخْبَثُ من الكُفْرِ .
قوله : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي : طَرِيقاً إلى الهُدَى .
واسْتَدَلوا بهذه الآيَة على مَسْألتيْنِ :
الأولَى : أن تلك الذَّبْذَبَة من اللَّه - تعالى - ، وإلا لَمْ يتَّصِلْ هذا الكلام بما قَبْلَهُ .
الثانية : أنه صَريحٌ في أن اللَّه - تعالى - أضَلَّهُم عن الدِّينِ .
قالت المعتزلة : فمعنى هذا الإضلالِ : أنه عِبَارةٌ عن حُكْم اللَّه - تعالى - عَلَيْهِ بالضَّلالِ ، أو أنَّه - تعالى - يُضِلُّه يوم القيامة عن طريق الجَنَّة ، وقد تقدَّم مثل ذَلِك .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
لما ذَمَّ المُنَافِقِين بأنَّهُم لم يَسْتقِرُّوا مع أحَد الطَّريقَين ، نَهَى المُسْلِمِين أن يَفْعَلُوا فِعْل المُنَافِقِين؛ فقال : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين } والسبب فيه : « أن الأنْصَار بالمدينَةِ كانت لَهُمْ [ في قُرَيْظَة ] رِضَاع وحِلْفٌ ومَوَدَّة ، فقالُوا : يا رسول الله ، مَنْ نَتَولَّى؟ فقال : » المُهَاجِرِين « ، فَنَزَلَتْ هذه الآية .
وقال القَفَّال - رحمه الله تعالى - : هذا نَهْيٌ للمُسلِمِين عن مُوالاةِ المُنافِقِين ، يقول : قد بَيَّنْتُ لكم أحْوَال هؤلاء المُنَافِقِين ومَذَاهِبهم ، فلا تَتَّخِذُوا مِنْهُم أوْلِيَاء .
ثم قال : { أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } ، [ فإن حَمَلْنَاه على الأوَّلِ وهو نَهْي المُؤمنين عن مُوالاَةِ الكُفَّارِ ، كان المَعْنَى : أتُرِيدُونَ أن تَجْعَلُوا للَّه عليكم سُلْطَاناً مُبِيناً ] على كَوْنِكُم مُنَافِقِين ، المُرَاد أتُرِيدُون أن تجعلُوا لأهْلِ دين اللَّه وهم الرَّسُول وأمته ، وإن حَملْناهُ على المُنَافِقِين ، كان المَعْنَى : أتريدُون أن تَجْعَلُوا للَّه عليكم في عقَابِكُم حُجَّة؛ بِسببِ مُوالاتِكُم مع المُنافِقِين .
قوله : » سُلْطَاناً « : السلطان يُذكَّرُ ويؤنث ، فتذكيرُه باعتبار البرهان ، وتأنيثه باعتبار الحُجَّة ، إلا أن التأنيثَ أكثرُ عند الفُصَحاء ، كذا قاله الفرَّاء ، وحكى : » قَضت عليْكَ السُّلطَانُ « و » أخذتْ فلاناً السُّلْطَانُ « وعلى هذا فكيف ذُكِّرت صفته ، فقيل : مبيناً دون : مبينة؟ والجوابُ : أن الصفة هنا رأسُ فاصلة ، فلذلك عدلَ إلى التذكير ، دون التأنيث ، وقال ابن عطية ما يخالِفُ ما حكاه الفراء؛ فإنه قال : » والتذكيرُ أشهرُ ، وهي لغةُ القرآنِ؛ حيث وقع « . و » عَلَيْكُمْ « يجوزُ تعلُّقه بالجَعْلِ ، أو بمحذوفٍ على أنه حال من » سُلْطَاناً « لأنه صفة له في الأصل ، وقد تقدَّم نظيره .
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
الدَّرْك : قرأ الكوفيُّون - بخلاف عن عاصمٍ - بسكون الراء ، والباقون بفتحها ، وفي ذلك قولان :
أحدهما : أنَّ الدَّرْك والدَّرَكِ لغتان بمعنى واحدٍ ، كالشَّمْعِ ، والقَدْرِ والقَدَرِ .
والثاني : أن الدَّرَكَ بالفتح جمعُ « دَرَكَة » على حدِّ بَقَر وبَقَرة .
وقال أبو حاتم : جَمْع الدَّرْكِ : أدْرَاك؛ مثل حَمْل وأحْمَال ، وفَرْس وأفراس وجمع الدرك : أدْرُك؛ مثل أفْلُس وأكْلُب .
واختار أبو عُبيد الفتح ، قال : لأنه لم يَجِئْ في الآثار ذكرُ « الدَّرَك » إلا بالفتح ، وهذا غيرُ لازمٍ مجيء الأحاديثِ بإحدى اللغتين ، واختار بعضهم الفتح؛ لجمعه علَى أفعال قال الزمخشريُّ : « والوجهُ التحريكُ؛ لقولهم : أدْرَاكُ جَهَنَّمَ » ، يعني أنَّ أفْعَالاً منقاسٌ في « فَعَلٍ » بالفتحِ ، دونَ فَعْل بالسكون ، على أنه قد جاء أفعالٌ في فعْلٍ بالسكون؛ نحو : فَرْخٍ وأفراخ ، وزنْدٍ وأزنَادٍ ، وفَرْدٍ وأفْرَادٍ ، وقال أبو عبد الله الفاسيُّ في شرحِ القصيدِ : « وقال غيرُه - يعني غيرَ عاصم -؛ محتجاً لقراءة الفتحِ؛ قولهم في جمعه : » أدْرَاك « يدُلُّ على أنه » دَرَكٌ « بالفتح ، ولا يلزمُ ما قال أيضاً؛ لأن فعلاً بالتحريك قد جُمِعَ فعلٌ بالسكون على أفعالٍ نحو : فَرْخٍ وأفْرَاخٍ ، كما ذكرته لك ، وحُكِيَ عن عاصم أنه قال : » لو كان « الدَّرَكُ » بالفتح ، لكان ينبغي أن يقال السُّفْلى لا الأسفل « قال بعض النحويِّين : يعني أنَّ الدَّرَك بالفتح جمع » دَرَكَة « ؛ كبَقَرٍ جمع بقَرَةٍ ، والجمعُ يُعامَلُ معاملةَ المؤنثة ، وهذا غيرُ لازم؛ لأنَّ اسم الجنس الفارقُ بين واحده وجمعه تاءُ التأنيث يجوز تذكيرُه وتأنيثه ، إلا ما استُثني وجوبُ تذكيره أو تأنيثه ، والدَّرَكُ ليس منه ، فيجوزُ فيه الوجهان ، هذا بعد تسليم كون » الدَّرْكِ « جمع » دَرَكَةٍ « بالسكون كما تقدم ، والدَّرَكُ مأخوذٌ من المُداركة ، وهي المتابعةُ ، وسُمِّيَتْ طبقاتُ النارِ » دَرَكَاتٍ « ؛ لأنَّ بعضها مَدَارِكُ لبعض ، أي : متتابعة .
قوله : » من النَّارِ « في محلَّ نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنه » الدَّرْك « ، والعامل فيها الاستقرار .
والثاني : أنه الضميرُ المستتر في » الأسْفَل « ؛ لأنه صفةُ ، فيتحمل ضميراً .
قال الليث : الدَّرْكُ أقْصَى قعْر الشيء؛ كالبَحْر ونحوه ، فعلى هذا المُرَاد بالدَّرْكِ الأسْفَل : أقْصَى قعر جَهَنَّم ، وأصْلُ هذا من الإدْرَاكِ بمعنى اللُّحُوق ، ومنه إدراكُ الطَّعَام وإدْراكُ الغُلاَمِ ، قال الضحاك : [ الدَّرج ] إذا كان بَعْضُها فوقَ بَعْضٍ ، والدَّرك إذا كانَ بعضها أسْفَل مِنْ بَعْضٍ .
فصل في معنى الدرك
قال ابن مَسْعُود : الدَّرْكُ الأسْفَل من النَّارِ : توابِيت من حديدٍ مُقْفَلَة في النَّارِ ، وقال أبُو هُرَيْرَة : بَيْتٌ يُقْفَل عليهم ، تتوَقَّد فيه النَّارُ من فوقهم ومن تَحْتِهِم .
فصل
قال ابن الأنْبَارِيّ : قال - تعالى - في صِفَةِ المُنَافِقِين : إنَّهُم في الدَّرْكِ الأسْفَلِ من النَّارِ ، وقال في آلِ فِرْعَوْن :
{ أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } [ غافر : 46 ] فأيُّهُمَا أشَدُّ عَذَاباً : المُنَافِقُون ، أم آل فِرْعوْن؟
وأجَابَ : بأنَّهُ يحتمل أنَّ أشَدَّ العذاب إنَّما يكُون في الدَّرْكِ الأسْفَلِ ، وقد اجْتَمَع فيه الفَريقَانِ .
فصل لماذا كان المنافقون أشد عذاباً من الكفار؟
إنَّما كان المُنَافِقُون أشَدّ عَذَاباً من الكُفَّارِ؛ لأنَّهم مِثْلهم في الكُفْر ، وضَمُّوا إليه نَوْعاً آخَرَ من الكُفْرِ ، وهو الاسْتِهْزَاء بالإسْلامِ [ وأهْلِه أيضاً فإنّهم يُظْهِرُون الإسْلاَم ] ؛ ليَتَمَكَّنُوا من الاطِّلاعِ على أسْرَار المُسْلِمِين ثُمَّ يُخْبِرُون الكُفَّار بذلك فتتضاعف المِحْنَة .
قوله : { وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } مانعاً من العذاب .
واحْتَجُّوا بهَذِهِ الآيَةِ على إثْبَات الشَّفَاعةِ للفُسَّاقِ من المُسْلِمِين؛ لأنه - تعالى - خَصَّ المُنَافِقِين بهذا التَّهْدِيدِ ، ولو كَانَ ذلك حَاصِلاً لِغَيْر المُنَافِقِين ، لم يَكُنْ ذلك زَجْراً عن النِّفَاقِ من حَيْثُ إنَّه نِفَاقٌ ، ولَيْس هذا اسْتِدْلاَلاً بِدَلِيلِ الخِطَابِ ، بل وجْه الاستدلالِ فيه؛ أنه - تعالى - ذَكَرَهُ في مَعْرِضِ الزَّجْرِ عن النِّفَاقِ ، فلو حَصَل ذلك مع عَدَمِهِ ، لم يَبْقَ زَجْراً عَنْه من حَيْث إنَّه نِفَاقٌ .
قوله : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } : فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منصوبٌ على الاستثناء من قوله : « إِنَّ المُنَافِقِينَ » .
الثاني : أنه مستثنىً من الضمير المجْرُورِ في « لَهُمْ » .
الثالث : أنه مبتدأ ، وخبرُه الجملةُ من قوله : { فأولئك مَعَ المؤمنين } ، قيل : ودَخَلَتِ الفاءُ في الخبرِ؛ لشبه المبتدأ باسم الشرط ، قال أبو البقاء ومكي وغيرُهما : « مَعَ المُؤمنينَ » خبرُ « أولَئِكَ » ، والجملةُ خبر « إِلاَّ الَّذِينَ » ، والتقدير : فأولئك مؤمنون مع المُؤمِنِينَ ، وهذا التقديرُ لا تقتضيه الصناعةُ ، بل الذي تقتضيه الصناعةُ : أن يُقَدَّر الخبرُ الذي يتعلَّق به هذا الظرف شيئاً يليقُ به ، وهو « فأولئِكَ مُصَاحِبُونَ أو كائِنونَ أو مستقرُّون » ونحوه ، فتقدِّرُه كوناً مطلقاً ، أو ما يقاربه .
فصل
معنى الآية { إِلاَّ الذين تَابُواْ } : من النِّفَاقِ وآمَنُوا ، « وأَصْلَحُوا » أعْمَالَهُم ، « واعْتَصَمُوا باللَّهِ » ووثِقُوا باللَّهِ ، { وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ } وأراد الإخلاَصِ بالقَلْبِ؛ لأن النِّفَاقَ كُفْر القَلْبِ ، فَزَوالُهُ يكُونُ بإخلاصِ القَلْبِ ، فإذا حَصَلَت هذه الشُّروط ، فِعنْدَها قال : { فأولئك مَعَ المؤمنين } ، ولم يَقُلْ : فأولئَك مُؤمِنُون .
قال الفَرَّاء : معناه : فَأولَئِك من المُؤمِنِين .
قوله : « وَسَوْفَ يُؤْتِ الله [ المؤمنين أَجْراً عَظِيماً » ] رُسِمَتْ « يُؤتِ » دون « يَاءٍ » وهو مضارعٌ مرفوع ، فحقُّ يائه أن تثبت لفظاً وخَطَّاً ، إلا أنها حذفتْ لفظاً في الوصل؛ لالتقاء الساكنين [ وهما اليَاءُ في اللفظ واللام في الجلالة ] فجاءُ الرسمُ تابعاً للفظ ، وله نظائرُ تقدَّم بعضها ، والقراءُ يقفون عليه دون ياءٍ اتِّباعاً للرسْمِ ، إلا يعقوب ، فإنه يقف بالياء؛ نظراً إلى الأصل ، ورُوي ذلك أيضاً عن الكسَائيِّ وحمزة ، وقال أبو عَمْرو : « ينبغي ألاَّ يُوقفَ عليها؛ لأنَّه إنْ وُقِفَ عليها كما في الرسْمِ دون ياء خالَفَ النحويين ، وإن وقف بالياء خالَفَ رسْم المصْحَف » ، ولا بأسَ بما قالَ؛ لأن الوقْفَ ليس ضروريًّا ، فإن اضْطُرَّ إليه واقفٌ؛ لقَطْعِ نفس ونحوه ، فينبغي أن يُتابعَ الرسمُ؛ لأنَّ الأطرافَ قد كَثُر حَذفُهَا ، ومِمَّا يشبه هذا الموضع قوله :
{ وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ } [ غافر : 9 ] فإنه رسم « تَقِ » بقافٍ ، دون هاءِ سكت ، وعند النحويين : أنه أنه إذا حُذِفَ من الفعل شيءٌ؛ حتى لم يَبْقَ منه إلا حرفٌ واحدٌ ، ووُقِفَ عليه ، وجَبَ الإتيانُ بهاء السكت في آخره؛ جَبْراً له؛ نحو : « قِهْ » و « لَمْ يَقِهْ » و « عِهْ » و « لَمْ يَعِهْ » ، ولا يُعتَدُّ بحرف المضارعة؛ لزيادته على بنية الكلمة ، فإذا تقرَّر هذا ، فنقول : ينبغي ألاَّ يُوقَفَ عليه؛ لأنه إن وُقِفَ بغير هاءِ سكتٍ ، خالف الصناعةَ النحويةَ ، وإنْ وُقِفَ بهاء خالف رَسْمَ المُصْحف .
والمراد : « يؤتي الله المؤمنين » في الآخِرَةِ ، « أَجْراً عَظِيماً » [ يعني : الجَنَّة ] .
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
في « مَا » وجهان :
أحدهما : أنها استفهامية ، فتكون في محل نصب ب « يَفْعَل » وإنما قُدِّم؛ لكونه له صدر الكلام ، والباءُ على هذا سببيةٌ متعلقةٌ ب « يَفْعَلُ » ، والاستفهام هنا معناه النفيُ ، والمعنى : أن الله لا يفعلُ بعذابِكُمْ شيئاً؛ لأنه لا يجلبُ لنفسِه بعذابكم نفعاً ، ولا يدْفَعُ عنها به ضُرًّا ، فأيُّ حاجة له في عذابكُمْ؟ [ والمقصودُ منه حمل المكلَّفين على فعل الحَسَن والاحتراز عن القبيح ] .
والثاني : أن « مَا » نافية؛ كأنه قيل : لا يُعذِّبُكُمُ الله ، وعلى هذا : فالباء زائدة ، ولا تتعلَّق بشيءٍ . [ قال شهاب الدين : ] وعندي أن هذين الوجهين في المعنى شيءٌ واحدٌ ، فينبغي أن تكون سبييةٌ في الموضعين أو زائدة فيهما؛ لأن الاستفهام بمعنى النفْيِ ، فلا فرق .
وقال البَغَوِي : هذا اسْتِفْهَام بمعْنَى التَّقْرير معناه : إنه لا يُعَذِّبُ المؤمِنَ الشَّاكِر ، فإن تَعْذِيبَهُ عِبَادهُ لا يَزِيدُ في مُلْكِهِ ، وتَرْكَهُ عُقُوبَتَهُم على فعلهم لا يُنْقصُ من سُلطانِه [ والشُّكْرُ ضد الكُفر ، والكُفْر سَتْر النِّعْمَة والشُّكْرُ إظهَارُهَا ] ، والمصدر هُنا مُضَاف لمفْعُولِهِ .
وقوله « إِن شَكَرْتُمْ » جوابُهُ مَحْذُوفٌ؛ لدلالةِ ما قبله عليه ، أي : إن شَكَرْتُم وآمَنْتُم فما يَفْعَلُ بعَذابكُم .
فصل لِمَ قدَّم الشُّكر على الإيمان في الآية؟
وفي تَقْدِيم الشُّكْرِ على الإيمانِ وُجُوه :
الأول : على التَّقْدِيم والتَّأخير ، أي : آمَنْتُم وشكرْتُم؛ لأن الإيمان مقدَّمٌ على سَائِر الطَّاعَاتِ ، ولا يَنْفَعُ الشكْرُ مع عَدَمِ الإيمَانِ .
الثاني : أن الوَاوَ لا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ .
الثالث : أن الإنْسَانَ إذا نَظَر إلى نَفْسِهِ ، رَأى النِّعْمَة العَظيمَة في تَخْلِيقهَا وتَرْتيبها ، فيْشكُر شُكْراً مُجْمَلاً بِهَا ، ثُمَّ إذا تَمَّمَ النَّظَر في مَعْرِفَة المُنْعِم ، آمَنَ به ثُمَّ شكَر شُكْراً مُفَصَّلاً ، فكان ذلك الشكْرُ المُجْمَل مُقَدَّماً على الإيمانِ؛ فَلِهذَا قُدِّمَ عليه في الذِّكْرِ .
فصل
اسْتَدَلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّهُ لا يُعَذَّبُ أصْحَاب الكَبَائِرِ؛ لأنا نفرض الكلام فيمن شَكَر وآمن ، ثم أقْدَم على الشُّرْبِ أو الزِّنَا ، فهذا يَجِبُ ألاَّ يُعَاقَبَ؛ لقوله - تعالى - : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } وقد تقدَّم الاسْتِدْلاَل على أنَّ صَاحِب الكَبِيرَةِ مُؤمِنٌ .
فصل
قالت المُعْتَزِلَة : دَلَّت هذه الآيةُ على أنَّه - سبحانه [ وتعالى ] - ما خَلَق خَلْقاً ابْتِدَاءً لأجْلِ التَّعْذِيب والعِقَابِ؛ لأن قوله : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } صريحٌ في أنَّه - تعالى - لَمْ يَخْلُق أحْداً لِغَرَضِ التَّعْذِيبِ .
ودلَّت أيضاً على أنَّ فاعل الشُّكْرِ والإيمانِ هو العَبْد ، وليس ذلك فِعْلاً للَّه تعالى وإلا لَصَار التَّقْدِير : ما يَفْعَلُ اللَّه بعذَابِكُم بعد أن خَلَقَ الشُّكْرَ والإيمَانَ فِيكُم ، وذلك غير مُنْتَظِم .
وتقدَّم الجوابُ عن مِثْلِ ذلك . ثم قال { وَكَانَ الله شَاكِراً عَلِيماً } أمرَهُمْ بالشُّكْرِ ، وسَمَّى الجَزَاءَ شُكْراً ، على سَبيلِ الاسْتِعَارةِ ، فالشُّكْرُ من اللَّهِ هو الرِّضَا بالقَلِيلِ من عِبَادِهِ ، وإضْعَافِ الثَّوَابِ عَلَيْه ، والشُّكْر من العَبْدِ الطَّاعَة ، والمُراد من كونه عَلِيماً : أنَّهُ عَالِمٌ بِجَميع الجُزْئيَّات ، فلا يَقَعُ لَهُ الغَلَطُ ألْبَتَّة ، فلا جَرَمَ يُوصلُ الثَّوَابَ إلى الشَّاكِرِ ، والعِقَابَ إلى المُعرِضِ .
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
في كيفيَّة النَّظْمِ وجهانِ :
أحدهما : أنه - تعالى - لمَّا فَضَح المُنَافِقِين وهَتَك سِتْرَهُم ، وكان هَتْكُ السِّتْر غَيْرَ لائقٍ بالرَّحِيم الكريم ، ذكر - تعالى - ما يَجْري مَجْرَى العُذْرِ من ذَلِك؛ فقال : { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ } يعني : لا يُحبُّ إظهارَ الفَضَائِحِ ، إلاَّ في حقِّ من عَظُمَ ضَرَرُه وكَثُر كَيْدُه ومَكْرُه ، فَعِنْد ذلك يَجُوز إظْهَار فَضَائِحِه؛ ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام - : « اذْكُرُوا الفَاسِقَ بِمَا فِيهِ كَيْ يَحْذَرَهُ النَّاسُ » والمُنافِقُون قد كَثُر كيْدهُم ومَكْرهُم وظُلْمهُم ، وضَرَرهُم على المُسْلمِين؛ فلهذا ذَكَر اللَّه فَضَائِحَهُم وكَشَفَ أسْرَارَهُم .
وثانيهما : أنَّه - تعالى - قال في الآية الأولى : أن المُنافِقِين إذا تَابُوا وأخْلَصُوا ، صارُوا من المُؤمنين ، فيُحْتَمَلُ أن يتُوبَ بَعْضُهم ويُخْلصَ تَوْبَته ، ثم لا يَسْلمُ من التَّغير والذَّمِّ من بَعْضِ المُسْلِمِين؛ بسبب ما صَدَر عَنْهُ في المَاضِي من النِّفَاقِ ، فبين - تعالى - في هذه الآية أنَّه لا يُحِبُّ الجَهْرَ بالسُّوءِ مِنَ القول ، إلا مَنْ ظَلَم نَفْسَه وأقَامَ على نِفَاقِهِ ، فإنه لا يُكْرَه .
قوله : « بالسُّوء » متعلق ب « الجَهْر » ، وهو مصدر معرف ب « أل » استدلَّ به الفارسيُّ على جواز إعمالِ المصدر المعرَّف ب « أل » . قيل : ولا دليلَ فيه؛ لأنَّ الظرفَ والجارَّ يعمل فيهما روائحُ الأفعال ، وفاعل هذا المصدر محذوفٌ ، أي : الجَهْر أحد ، وقد تقدم أن الفاعل يَطَّردُ حذفُه في صُورٍ منها المصْدرُ ، ويجوز أن يكون الجهرُ مأخوذاً من فعلٍ مبنيٍّ للمفعول على خلافٍ في ذلك ، فيكون الجارُّ بعده في محلِّ رفعٍ لقيامه مقام الفاعل؛ لأنك لو قلْتَ : لا يحبُّ الله أن يُجْهَرَ بالسوء ، كان « بِالسُّوءِ » قائماً مقام الفاعل ، ولا تعلُّقَ له حينئذٍ به ، و « مِنَ القَوْلِ » حال من « السُّوء » .
قوله : { إِلاَّ مَن ظُلِمَ } في هذا الاستثناء قولان :
أحدهما : أنه متصل .
والثاني : أنه منقطع ، وإذا قيل بأنه متصل ، فقيل : هو مستثنى من « أحَد » المقدَّرِ الذي هو فاعلٌ للمصدر ، فيجوز أن تكون « مَنْ » في محلِّ نصبٍ على أصل الاستثناء ، أو رفعٍ على البدل من « أحَد » ، وهو المختار ، ولو صُرِّح به ، لقيل : لا يُحِبُّ الله أنْ يَجْهَرُ أحَدٌ بالسُّوء إلا المَظْلومُ ، أو المظلومَ رفعاً ونصباً ، ذكر ذلك مكي وأبو البقاء وغيرُهما ، قال أبو حيان : « وهذا مذهبُ الفراء ، أجاز في » مَا قَامَ إلاَّ زيدٌ « أن يكون » زَيْد « بدلاً من » أحَد « ، وأمَّا على مذهب الجمهور ، فإنه يكون من المستثنى الذي فُرِّغ له العاملُ ، فيكون مرفوعاً على الفاعليَّة بالمصدر ، وحسَّن ذلك كونُ الجَهْر في حيِّز النفي ، كأنه قيل : لا يَجْهَرُ بالسُّوءِ من القولِ إلا المظلومُ » انتهى ، والفرقُ ظاهرٌ بين مذهب الفراء وبين هذه الآية؛ فإن النحويِّين إنما لم يَرَوْا بمذهب الفراءِ ، قالوا : لأن المحذوف صار نَسْياً مَنْسِيًّا ، وأما فاعل المصْدر هنا ، فإنه كالمنطوقِ به ليس منسياً ، فلا يلزمُ من تجويزهم الاستثناء من هذا الفاعل المقدَّر أن يكونوا تابعين لمذْهَب الفرَّاء؛ لما ظهر من الفرق ، وقيل : هو مستثنى مفرَّغٌ ، فتكون « مَنْ » في محلِّ رفع بالفاعلية؛ كما تقدَّم في كلام أبي حيان ، والتفريغُ لا يكون إلا في نفي أو شبهه ، ولكنْ لَمَّا وقع الجهْرُ متعلَّقاً للحُبِّ الواقعِ في حيِّز النفْي ساغ ذلك ، وقيل : هو مستثنىً من الجَهْر؛ على حذف مضافٍ ، تقديرُه : إلا جَهْرَ من ظُلِمَ ، فهذه ثلاثة أوجه على تقدير كونه متَّصِلاً ، تحصَّل منها في محل « مَنْ » أربعةُ أوجه : الرفع من وجهين ، وهما البدلُ من « أحَد » المقدَّر ، أو الفاعليَّة؛ على كونه مفرَّغاً ، والنصبُ؛ على أصلِ الاستثناء من « أحد » المقدَّر ، أو من الجهر؛ على حَذْفِ مضاف .
والثاني : أنه استثناءٌ منقطعٌ ، تقديرُه : لكنْ مَنْ ظُلِمَ له أن ينتصفَ من ظالمه بما يوازِي ظُلامته ، فتكون « مَنْ » في محلِّ نصب فقط على الاستثناء المنقطع .
والجمهورُ على { إِلاَّ مَن ظُلِمَ } مبنياً للمفعول قال القرطبي : ويجوز إسْكان اللاَّم ، وقرأ جماعة كثيرة منهم ابن عبَّاس وابن عمر وابن جبير والضحاك وزيد بن أسلم والحسن : « ظَلَمَ » مبنيًّا للفاعل ، وهو استثناء منقطعٌ ، فهو في محلِّ نصب على أصْل الاستثناء المنقطع ، واختلفتْ عبارات العلماء في تقدير هذا الاستثناء ، وحاصلُ ذلك يرجعُ إلى أحد تقديرات ثلاثة : إمَّا أن يكون راجعاً إلى [ الجملة الأولى؛ كأنه قيل : لا يحبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بالسوء ، لكنَّ الظالمَ يُحِبُّهُ ، فهو يَفعلُهُ ، وإما أنْ يكون راجعاً ] إلى فاعل الجَهْر ، أي : لا يحبُّ اللَّهُ أن يَجْهَرَ أحدٌ بالسُّوء [ لأحَدٍ ] ، لكن الظالِمَ يَجْهَرُ به ، [ وإمَّا أن يُجْهَرَ بالسُّوء لأحدٍ ، لكن الظَّالِمَ يُجْهَرُ لَهُ به ] ، أي : يُذكر ما فيه من المساوئ في وجهه ، لعلَّه أن يرتدع ، وكونُ هذا المستثنى في هذه القراءة منصوبَ المحلِّ على الانقطاع هو الصحيحُ ، وأجاز ابن عطية والزمخشريُّ أن يكون في محلِّ رفع على البدلية ، ولكن اختلف مدركهما .
فقال ابن عطية : « وإعرابُ » مَنْ « يحتملُ في بعض هذه التأويلاتِ النَّصْبَ ، ويحتملُ الرفع على البدل من » أحَد « المقدَّر » يعني أحداً المقدَّر في المصدر؛ كما تقدَّم تحقيقه .
وقال الزمخشريُّ : ويجوز أن يكون « مَنْ » مرفوعاً؛ كأنه قيل : لا يحبُّ اللَّهُ الجهرَ بالسُّوء إلا الظالِمُ ، على لغةِ من يقولُ : « مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إلاَّ عَمْرو » بمعنى : ما جَاءني إلاَّ عَمْرو « بمعنى : ما جَاءني إلاَّ عَمرٌو ، ومنه
{ لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله } [ النمل : 65 ] ، ورد أبو حيان عليهما فقال : « وما ذكره - يعني ابن عطية - من جواز الرفع على البدل لا يَصِحُّ؛ وذلك أن المنقطع قسمان : قسمٌ يتوجَّه إليه العامل؛ نحو : » ما فِيهَا أحَدٌ إلاَّ حِمَارٌ « فهذا فيه لغتان : لغة الحجاز وجوبُ النصب ، ولغةُ تميم جوازُ البدل ، وإن لم يتوجه عليه العامل ، وجب نصبُه عند الجميع؛ نحو : » المالُ ما زَادَ إلاَّ النَّقْصَ « ، أي : لكن حصل له النقصُ ، ولا يجوز فيه البدل؛ لأنك لو وجهت إليه العامل ، لم يصحَّ » ، قال : والآيةُ من هذا القسم؛ لأنك لو قلت : « لا يُحِبُّ اللَّهُ أن يَجْهَرَ بالسُّوءِ إلا الظالمُ » - فتسلطُ « يَجْهَر » على « الظَّالِمَ » [ فتسليط يجهر على الظالم يصح ] . قال : « وهذا الذي جَوَّزه - يعني الزمخشريَّ - لا يجوز؛ لأنه لا يمكن أن يكون الفاعلُ لَغْواً ، ولا يمكنُ أن يكون الظالمُ بدلاً من » الله « ، ولا » عَمْرو « بدلاً من » زَيْد « ؛ لأنَّ البدلَ في هذا البابِ يَرْجِع إلى بدل بعضٍ من كلٍّ حقيقة؛ نحو : » مَا قَامَ القَوْمُ إلاَّ زَيدٌ « ، أو مجازاً؛ نحو : » مَا فِيهَا أحدٌ إلاَّ حِمَارٌ « ، والآيةُ لا يجوز فيها البدلُ حقيقةً ، ولا مجازاً ، وكذا المثالُ المذكور؛ لأن الله تعالى عَلَمٌ ، وكذا زيدٌ ، فلا عموم فيهما؛ ليتوَهَّمَ دخولُ شيءٍ فيهما فيُستثنى ، وأمَّا ما يجوزُ فيه البدلُ من الاستثناء المنقطع؛ فلأنَّ ما قبله عامٌّ يُتوهَّم دخولُه فيه ، فيُبْدلُ ما قبله مجازاً ، وأمَّا قوله على لغة من يقول : » مَا جَاءنِي زَيْدٌ إلا عمرٌو « ، فلا نعلم هذه لغة إلا في كتاب سيبويه ، بعد أن أنشد أبياتاً في الاستثناء المنقطع آخرها : [ الطويل ]
1898- عَشِيَّةَ مَا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَهَا ... ولا النَّبْلُ إلاَّ المَشْرِفِيُّ المُصَمِّمُ
[ ما نصُّه : ] » وهذا يُقَوِّي : « ما أتَانِي زَيْدٌ إلا عَمرٌو ، ومَا أعانهُ إخْوَانكُم إلاَّ إخْوانُه » ؛ لأنها معارفُ ليست الأسماء الآخرة بها ولا بعضها « ولم يصرِّح ، ولا لَوَّحَ أن » مَا أتَانِي زَيدٌ إلاَّ عمرٌو « من كلام العرب ، قال من شرح كلام سيبويه : فهذا يُقَوِّي » مَا أتَانِي زَيْدٌ إلا عمرٌو « ، أي : ينبغي أن يَثْبُتَ هذا من كلام العرب؛ لأن النبل معرفةٌ ليس بالمشرفيِّ ، كما أن زيداً ليس بعمرو ، كما أنَّ إخوة زيدٍ ليسوا إخوتَكَ ، قال أبو حيان : » وليس « مَا أتَانِي زَيدٌ إلاَّ عمرٌو » نظير البيت؛ لأنَّه قد يُتَخَيَّلُ عمومٌ في البيت؛ إذ المعنى : لا يُغْنِي السلاح ، وأمَّا « زَيْد » فلا يتوهَّم فيه عمومٌ؛ على أنه لو ورد من كلامهم : « مَا أتَانِي زَيدٌ إلاَّ عمرٌو » ، لأمكن أن يصحَّ على « مَا أتَانِي زَيدٌ ولا غَيرُهُ إلاَّ عمرٌو » ، فحذف المعطوفُ؛ لدلالة الاستثناء عليه ، أمَّا أن يكون على إلغاء الفاعل ، أو على كون « عَمْرو » بدلاً من « زَيْد » ، فإنه لا يجوز ، وأمَّا الآية فليست ممَّا ذكر؛ لأنه يحتمل أن تكون « مَنْ » مفعولاً بها ، و « الغَيْبَ » بدلٌ منها بدلُ اشتمال ، والتقديرُ : لا يعلم غيب من في السماوات والأرض إلاَّ اللَّهُ ، أي : سِرَّهُمْ وعلانيتَهُمْ لا يَعْلَمُهُم إلا الله ، ولو سُلِّم أن « مَنْ » مرفوعةُ المحلِّ ، فيتخيلَّ فيها عمومٌ ، فيُبدل منها « الله » مجازاً؛ كأنه قيل : لا يعلمُ المَوْجُودُونَ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ ، أو يكونُ على سبيل المجازِ في الظرفيَّة بالنسبة إلى الله تعالى؛ إذ جاء ذلك عنه في القرآن والسنة نحو :
{ وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض } [ الأنعام : 3 ] { وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله } [ الزخرف : 84 ] ، قال « أيْنَ الله » قالت : « فِي السَّماءِ » ، ومن كلام العرب : « لا وَذُو في السَّمَاءِ بَيْتُهُ » يعنون اللَّه ، وإذ احتملت الآيةُ هذه الوجوه ، لم يتعيَّنْ حملُها على ما ذكره « انتهى ما رَدَّ به عليهما .
[ وقال شهاب الدين : ] أمَّا ردُّه على ابن عطية ، فواضحٌ ، وأمَّا ردُّه على الزمخشريِّ ، ففي بعضه نَظَرٌ ، أما قوله : » لا نعلمُهَا لغة إلا في كتاب سيبويه « ، فكفى به دليلاً على صحة استعمال مثله ، ولذلك شَرَح الشُّرَّاحُ لكتاب سيبويه هذا الكلام؛ بأنه قياسُ كلام العرب لما أنشد من الأبيات ، وأمَّا تأويله » مَا أتَانِي زَيْدٌ إلاَّ عمرٌو « ب » مَأ أتَانِي ولا غَيْرُهُ « ، فلا يتعيَّنُ ما قاله ، وتصحيحُ الاستثناء فيه أنَّ قول القائل : » مَا أتَانِي زَيْدٌ « قد يوهِمُ أن عمراً ايضاً لم يَجِئْهُ ، فنفى هذا التوهُّمَ ، وهذا القدْر كافٍ في الاستثناء المنقطع ، ولو كان تأويلُ » مَا أتَانِي زَيْدٌ إلاَّ عَمْرٌو « على ما قال ، لم يكن استثناءً منقطعاً بل متصلاً ، وقد اتفق النحويُّون على أن ذلك من المنقطِعِ ، وأمَّا تأويلُ الآية بما ذكره ، فالتجوُّزُ في ذلك أمرٌ خَطِرٌ ، فلا ينبغي أن يُقْدَمَ على مِثْله .
فصل
قال المفسرون : معنى { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء } : القَوْل القَبِيح ، { إِلاَّ مَن ظُلِمَ } فيجوز للمَظْلُوم أن يُخْبِر عن ظُلْمِ الظَّالِمِ ، وأن يَدْعُو عليه؛ قال - [ تعالى ] - : { وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } [ الشورى : 41 ] .
قال الحسن دُعَاؤه عليه أن يقول : » اللهُمَّ أعِنِّي عليه ، اللَّهُمَّ استَخْرِج حَقِّي [ اللهم حُل بَيْنِي وبَيْن ما يُرِيد ونحوه من الدعاء ] .
وقيل : إن شُتم جَازَ أن يَشْتُمَ بمثلِهِ ، ولا يَزِيد عَلَيْه .
قال ابن عبَّاس وقتادة : لا يُحِبُّ الله رفْعَ الصَّوْتِ بما يَسُوء غيْرَه ، إلا المَظْلُوم فإنَّ له أنْ يَرْفَع صوْتَهُ بالدُّعَاءِ على ظَالمِهِ .
وقال مُجَاهِد : إلا أنْ يَجْهَرَ بِظُلْمِ ظالِمِه لَهُ .
وقال الأصَمُّ : لا يَجُوزُ إظهَار الأحْوَال المستُورَة؛ لأن ذَلِكَ يصير سَبَباً لِوُقُوع النَّاسِ في الغيبَةِ؛ ووُقُوع ذلك الإنْسَان في الرِّيبَةِ ، ولكن من ظَلَمَ فيجوز إظْهَارُ ظُلْمِهِ؛ بأن يُذْكَر أنَّه سَرَق أوْ غَصَب .
وقيل : نزلت في أبِي بكرٍ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - « فإنَّ رَجُلاً شَتَمَهُ ، فسَكَت مِرَاراً ثُمّ رَدّ عليه ، فقام النَّبِي صلى الله عليه وسلم . فقال أبُو بَكْر : شَتَمَنِي وأنت جَالِسٌ ، فلَّما رَدَدْتُ عليه قُمْتَ . قال : إن ملكاً كان يَرُدُّ عَنْك ، فلما رَدَدْتَ [ عليه ] ذهَبَ المَلَكُ وجاء الشَّيْطَانُ ، فلم أجْلِسْ عند مَجِيء الشَّيْطَانِ » ، فنزلَت الآية .
وقيل : نَزَلَتْ في الضيفِ؛ روى عُقْبَة بن عَامِرٍ قال : « قُلْنَا يا رسُول الله : إنك تَبْعَثُنا فَنَنْزِلُ على قومٍ لا يُقرُونا فما تَرَى؟ فقال النَّبِي صلى الله عليه وسلم : » إن نَزَلْتُمْ بِقَومٍ فأمَرُوا لَكُم بما ينْبَغِي للضَّيْفِ ، فاقْبَلُوهُ ، فإنْ لَمْ يَفْعَلُوا ، فَخُذُوا مِنْهُم حَقَّ الضَّيْف الذي يَنْبَغِي لَهُم « .
وقيل : معنى الآيةِ إلا من أكْرِهَ [ على ] أنْ يَجْهَر بسُوءٍ من القولِ كُفْراً كان أو نحوه ، فذلك مُبَاحٌ فالآيَةُ على ذَلِك في الإكْرَاه .
قال قُطْرب : { إِلاَّ مَن ظُلِمَ } يريد : المُكْرَه؛ لأنه مَظْلُومٌ ، قال : ويجُوز أنْ يكون المَعْنَى إلا من ظُلِمَ على البَدَلِ؛ كأنه قال : لا يُحِبُّ الله إلا مَنْ ظُلِمَ ، أي : لا يُحِبُّ الظَّالِمَ؛ كأنه يقُول : يُحِبُّ من ظُلِم [ أي : يَأجُرُ من ظُلِمَ ] ، والتقدير على هذا القَوْلِ : لا يُحِبُّ الله ذَا الجَهْرِ بالسُّوءِ إلا مَنْ ظُلِمَ على البَدَلِ .
قال القُرْطُبِيُّ : وظاهر الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّ للمَظْلُومِ أن يَنْتَصِر من ظَالمِهِ ولكن مع اقْتِصَادٍ إن كان مُؤمِناً ، كما قال الحسن ، فأمَّا أن يُقَابِلَ القَذْفَ بالقذف ونحوه فلا ، وإن كان كَافِراً فأرْسِلْ لِسَانَك وادْعُ بِمَا شِئْتَ؛ كما فعل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حيث قال : » اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأتَكَ على مُضَر ، واجْعَلْهَا عَلَيْهِم سنين كَسِني يُوسُف « .
فصل : لا يحب الله الجهر بالسوء ولا غير الجهر
قال العُلَمَاء : إنه - تعالى - لا يُحِبُّ الجَهْرَ بالسُّوءِ من القَوْلِ ولا غَيْر الجَهْر ، وإنما ذكر هذا الوصف؛ لأن كيفيَّة الواقِعَة أوْجَبَتْ ذلك؛ كقوله - تعالى - : { إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ } [ النساء : 94 ] والتَّبَيُّن واجِبٌ في الظَّعْنِ والإقَامَة ، فكذا هَهُنَا .
فصل شبهة المعتزلة وردها
قالت المعتزلةُ : دلت الآيةُ على أنَّهُ لا يُرِيدُ من عِبَادِهِ فِعْلَ القَبَائِحِ ولا يَخْلُقُها؛ لأن مَحَبَّة الله عِبَارةٌ عن إرادته ، فلما قال : { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول } . علمنا أنه لا يُرِيدُ ذلك ، وأيْضاً لو كَانَ خَالِقاً لأفْعَالِ العِبَادِ ، لكان مُرِيداً لَهَا؛ ولو كان مُريداً لَهَا ، لكان قَدْ أحَبَّ إيجَادَ الجَهْرِ بالسُّوءِ من القَوْلِ ، وهو خِلاَفُ الآيَةِ .
والجواب : المَحبَّة عِبَارَةٌ عن إعْطَاء الثَّوَابِ على القَوْلِ ، وعلى هذا يَصِحُّ أن يُقال : إنَّه - تعالى - أرادَهُ ولكِنَّهُ ما أحَبَّهُ .
ثم قال : { وَكَانَ الله سَمِيعاً عَلِيماً } وهو تَحْذِيرٌ من التَّعَدِّي في الجَهْرِ المأذُونِ فيه ، يعني : فَلْيتَّقِ اللَّه ولا يَقُل إلاَّ الحقَّ ، فإنه سَمِيعٌ لما تقوله ، عليم بما تُضْمِرُه ، وقيل : سَمِيعٌ لِدُعَاءِ المَظْلُوم ، عَلِيمٌ بعِقَابِ الظَّالِمِ .
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
قيل : « تُبْدُواْ خَيْراً » أي : حَسَنَةً فيَعْمَل بها ، كُتِبَتْ عَشْرَةٌ ، وإن هَمَّ بِهَا ولم يَعْمَلْهَا ، كُتِبَتْ له حَسَنةٌ واحدةٌ ، وهو قوله : « أَوْ تُخْفُوهْ » .
وقيل : المُراد مِنَ الخَيْرِ : المَال؛ لقوله : { إِن تُبْدُواْ خَيْراً } والمَعْنَى : إن تُبْدُوا صَدَقَةً تُعطُونَها جَهْراً ، أو تُخْفُوها فتُعْطُوها سِرّاً ، { أَوْ تَعْفُواْ عَن سواء } أي : عن مَظْلَمةٍ والظاهر أن الضَّمِير المَنْصُوب في « تُخْفُوه » عائِدٌ على « خَيْراً » ، والمُراد به : أعْمَالُ البرِّ كُلُّها ، وأجَازَ بَعْضُهم أن يعُودَ على « السُّوءِ » أي : أو تُخْفُوا السُّوءَ ، وهو بَعِيد .
ثم قال : { فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً } .
قال الحسن : يَعْفُو عن الجَانِبَيْن مع قُدرَتِهِ على الانْتِقَامِ ، فعَلَيْكُم أن تَقْتَدُوا بِسُنَّةِ اللَّهِ ، وقال الكْلَبِي : اللَّهُ أقْدَرُ على عَفْوِ ذُنُوبكُم مِنْكَ على عَفْوِ صَاحِبِك ، وقيل : عَفُوًّا لمن عَفَى ، قَدِيراً على إيصَالِ الثَّوَابِ إليْه .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
لما تكلم على طَرِيقَة المُنَافِقِين ، أخَذَ يتكَلَّم على مَذَاهَب اليَهُودِ والنَّصَارى ومناقضاتهم ، وذكر في آخِرِ هذه السُّورَةِ من هذا الجِنْسِ أنْوَاعاً :
أولها : إيمَانهم ببعْضِ الأنبياءِ دون بعضٍ؛ لأنهم كَفَرُوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، فبيَّن أن الكُفْرَ به كُفْرٌ بالكُلِّ؛ لأن ما مِنْ نَبِيٍّ إلا وقد أمَر قَوْمَه بالإيمانِ بمُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - وبجميع الأنْبِيَاء .
قال المُفَسِّرون : نزلت هذه الآيةٌ في اليَهُودِ ، وذلِك أنَّهُم آمَنُوا بمُوسَى ، والتَّوْرَاة ، وعُزَيْر ، وكَفَرُوا بعيسى ، والإنْجِيل ، وبمُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - ، والقرآن ، { وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } أي : بين الإيمانِ بالكُلِّ وبَيْن الكُفْرِ بالكُلِّ سَبِيلاً ، أي : وَاسِطَة ، وهي الإيمانُ بالبَعْضِ دُون البَعْضِ ، وأشير ب « ذلك » وهو للمُفْرَد ، والمُرَادُ به : البَيِّنَة ، أي : بين الكُفْرِ والإيمانِ ، وقد تَقَدَّم نظيرها في البَقَرَة ، وفي خَبَرِ « إنَّ » قولان :
الأول : أنه مَحْذُوف ، تقديره : جمعوا المخازي .
والثاني : هو قوله : { أولئك هُمُ الكافرون } والأوَّل أحْسَن لوجهين :
أحدهما : أنه أبْلَغُ؛ لأن الجواب إذا حُذِفَ ذهب الوَهْمُ كُلَّ مَذْهَبٍ ، فإذا ذكر بَقِي مُقْتَصِراً على المَذْكُورِ .
والثاني : أنه رأسُ آيةٍ ، والأحْسَن ألا يكون الخَبَرُ مُنْفَصِلاً عن المُبْتَدأ ، و « بَيْنَ » يجوزُ أن يكونَ مَنْصُوباً ب « يَتَّخِذُوا » ، وأن يكُون مَنْصُوباً بمحْذُوفٍ؛ إذ هو حَالٌ من « سَبيلاً » .
قوله : « حَقّاً » فيه أوجه :
أحدها : أنه مصدر مؤكِّد لمضْمُون الجُمْلَة [ قَبْلَه ] ، فيَجِبُ إضْمَارُ عَامِلِه وتأخيرُه عن الجُمْلَة المؤكِّد لَهَا ، والتقدير : أحُقُّ ذلك حَقاً ، وهكذا كُلُّ مَصْدَر مؤكِّدٍ لِغَيْره أو لِنَفْسِهِ .
قال بعضهم : انْتَصَبَ « حَقّاً » على مِثْلِ قولك : « زَيْدٌ أخُوك حَقّاً » ، تقديره : أخْبَرْتُك بهذا المَعْنَى إخْبَاراً حَقّاً .
والثاني : أنه حالٌ من قوله : « هُمُ الكَافِرُونَ » قال أبو البقاء : أي : « كَافِرُون غير شَكٍّ » وهذا يشبه أن يكونَ تفسيراً للمصْدر المؤكد ، وقد طعن الواحديُّ على هذا التوجيه؛ فقال : « الكُفْرُ لا يكُونُ حَقًّا بوجْهٍ من الوجوه » ، والجوابُ : أنَّ الحقَّ هنا ليس يرادُ به ما يقابلُ الباطلَ ، بل المرادُ به أنه ثابتٌ لا محالةَ ، وأنَّ كفرهم مقطوعٌ به .
الثالث : أنه نعتٌ لمصدر محذوف ، أي : الكافرون كُفْراً حَقًّا ، وهو أيضاً مصدر مؤكِّد ، ولكن الفرق بينه وبين الوجه الأول ، أنَّ هذا عاملُه مذكورٌ ، وهو اسمُ الفاعل ، وذاك عاملُه محذوف .
فصل
أي : كانوا كَافِرين حَقّاً لوجْهَيْن :
الأول : أن الدَّليلَ الذي يدُلُّ على نُبُوَّة البَعْضِ ، ألزم مِنْه القطع بأنَّه حَيْث حصلت المُعْجِزَة حصلت النُّبُوَّة ، فإن جَوَّزْنَا في بَعْضِ المواضِع حُصُول المُعْجِز بدُون الصِّدْق ، تعذَّر الاستدلال بالمُعْجِزِ على الصِّدْق ، وحينئذٍ يَلْزَم الكُفْرُ بِجَميعِ الأنْبِيَاءِ ، فَثَبت أنَّ من لَمْ يَقْبَل نُبُّوة أحدٍ من الأنْبِيَاء ، لَزِمَهُ الكُفْرُ بجَميعِ الأنْبِيَاءِ .
فإن قيل : هَبْ أنه يَلْزَم الكُفْرُ بكل الأنْبِيَاءِ ، ولكن لَيْسَ إذا توجَّه بَعْضُ الإلْزَامَاتِ على إنسانٍ ، لزِمَ أن يكُون ذَلِك الإنْسَان قَائِلاً به ، فإلْزَامُ الكُفْرِ غَيْر [ والتزام الكفر غير ] فالقَوْمُ لمَّا لمْ يَلْتَزِمُوا ذلك ، فكَيْفَ يَقْضِي عَلَيْهم بالكُفْرِ .
فالجواب : [ الإلْزَامُ ] إذا كان خَفِيّاً بحَيْث يُحْتَاج فيه إلى فِكْرٍ وتأمُّلٍ ، كان الأمْرُ كما ذَكَرْتم ، أمَّا إذا كان جَلِيّاً وَاضِحاً ، لم يَبْقَ بَيْن الإلْزَامِ والالْتِزَام فَرْقٌ .
الوجه الثاني : هو أنّ قَبُولَ البَعْضِ دون الكُلِّ إن كان لِطَلَبِ الرِّيَاسَة ، كان ذلك في الحقيقة كُفْراً بكل الأنبياء [ عليهم السلام ] .
{ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } [ « وأعتدنا » أي : هَيَّأنَا ] { لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِينا } ولمَّا ذكر الوعيد ، أتْبَعَهُ بذِكْرِ الوَعْدِ؛ فقال : { والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } الآية .
قد تقدَّم الكلامُ على دخول « بَيْنَ » على « أحَد » في البقرة فأغنَى عن إعادته ، وقرأ الجمهور : « سَوْفَ نُؤتيهم » بنونِ العظمة؛ على الالتفات ، ولموافقةِ قوله : « وأعْتَدْنَا » ، وقرأ حفصٌ عن عاصمٍ بالياء ، أعاد الضمير على اسْمِ الله تعالى في قوله : { والذين آمَنُواْ بالله } . وقول بعضهم : قراءة النون أولى؛ لأنها أفْخَمُ ، ولمقابلة « وأعْتَدْنَا » ليس بجيِّد لتواتُرِ القراءتَيْنِ .
والمعنى : آمَنُوا باللَّه ورَسُلِهِ كُلِّهِم ، ولَمْ يُفَرِّقُوا بين أحد من الرُّسُلِ ، يقولون : لا نُفَرِّق بين أحدٍ من رُسُلِه ، { أولئك سوف نؤتيهم أجورهم } بإيمانِهِم باللَّهِ وكُتُبِهِ ورسُلِهِ ، { وَكَانَ الله غَفُوراً } : يغفر سَيِّئاتهم ، « رحيماً » بهم .
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
وذلك أن كَعْبَ بنَ الأشْرَف ، وفنحَاصَ بن عَازُورَاء من اليَهُودِ قالا لِرَسُول الله صلى الله عليه وسلم : إن كُنْتَ نَبِيّاً فأتِنَا بكِتَابٍ جُمْلةً من السَّماءِ؛ كما أتَى [ به ] مُوسى - عليه السلام - ، فأنزل الله - تعالى - : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء } . وكان هذا السُّؤال مِنْهُم تَحَكُّماً واقْتِرَاحاً ، لا سُؤال انْقِيَادٍ ، واللَّه - تعالى - لا يُنَزِّل الآيَاتِ على اقْتِرَاحِ العِبَادِ ، والمَقْصُود من الآيَةِ : بيان ما جَبِلوا عليه من التَّعنَّتِ؛ كأنه قِيلَ : إن مُوسَى لمَّا نزلَ عليه كِتَابٌ من السَّمَاءِ ، لم يكْتَفُوا بِذلكَ القَدْر ، بل طَلَبُوا مِنْهُ الرُّؤيَة على سَبِيلِ المُعَايَنَةِ ، فكان طَلَبُ هؤلاءِ الكِتَاب لَيْس لأجْلِ الاسْتِرْشَادِ ، بل لمَحْضِ العِنَادِ .
قوله : « فَقَدْ سَأَلُوا » : في هذه الفاءِ قولان : أحدهما : أنها عاطفةٌ على جملة محذوفة ، قال ابن عطيَّة : « تقديره : فلا تبال ، يا محمَّد ، بسؤالِهِم ، وتشطيطهم ، فإنها عادُتُهمْ ، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك .
والثاني : أنها جوابُ شرطٍ مقدَّر ، قاله الزمخشريُّ أي : إن استكْبَرْتَ ما سألوه منْكَ ، فقد سَألُوا » ، و « أكْبَرَ » صفةٌ لمحذوف ، أي : سؤالاً أكْبَرَ من ذَلِكَ ، والجمهور : « أكبرَ » بالباء الموحدة ، والحسن « أكْثَرَ » بالثاء المثلثة .
ومعنى « أكْبَر » أي : أعْظَم من ذَلِك ، يعني : السَّبْعِين الَّذِين خَرَجَ بِهِمْ [ مُوسَى ] إلى الجَبَلِ ، { فقالوا : أَرِنَا الله جَهْرَةً } أي : عِياناً ، فقولهم : « أرِنَا » جُمْلَة مفَسِّرة لِكبَرِ السُّؤال ، وعِظَمِه . [ و « جَهْرَةَ » تقدَّم الكلام عليها ، إلا أنه هنا يجوز أن تكون « جَهْرَةً » من صفةِ القوْلِ ، أو السؤالِ ، أو مِنْ صفةِ السائلين ، أي : فقالوا مجاهِرِين ، أو : سألوا مجاهرينَ ، فيكونُ في محلِّ نَصْبٍ على الحال ، أو على المَصْدر ، وقرأ الجمهور « الصَّاعِقَةُ » . وقرأ النَّخَعِيُّ : « الصَّعْقَةُ » وقد تقدَّم تحقيقه في البقرة والباء في « بِظُلْمِهِمْ » سببيةٌ ، وتتعلَّق بالأخْذ ] .
قوله : { ثُمَّ اتخذوا العجل } يعنى : إلهاً ، { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات } وهي الصَّاعِقَة ، وسمَّاها بَيِّنَاتٍ - وإن كَانَتْ شَيْئاً وَاحِداً؛ لأنها دالَّةٌ على قُدْرَة الله - تعالى - ، وعلى عِلْمهِ وعلى قدمِهِ ، وعلى كَوْنهِ مُخَالِفاً للأجْسَامِ والأعْرَاضِ ، وعلى صِدْق مُوسَى . وقيل : « البَيِّنَات » إنْزَال الصَّاعِقَةِ وإحْيَاؤُهُم بعد إمَاتِتِهم . وقيل : المُعْجِزَاتُ التي أظْهَرَها لِفِرْعَوْن ، وهي العَصَا ، واليَدُ البَيْضَاءُ ، وفَلْقُ البَحْرِ ، وغيرها من المُعْجِزَات القاهرة .
ثم قال : { فَعَفَوْنَا عَن ذلك } ولم نَسْتَأصِلْهُم . قيل : هذا اسْتِدْعَاءٌ إلى التَّوْبَة ، مَعْنَاه : أن أولئك الَّذِين أجْرَمُوا تَابُوا ، فَعَفَوْنَا عَنْهُم ، فتُوبوا أنْتُم حتى نَعْفُوا عَنْكُم . وقيل : مَعْنَاه : أن قَوْم مُوسَى - وإن كَانُوا قَدْ بَالَغُوا في اللِّجَاجِ والعِنَادِ ، لكنا نَصَرْنَاهُ وقَرَّبْنَاهُ فعَظم أمْرُه وضَعُفَ خَصْمُه ، وفيه بِشَارَةٌ للرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - على سبيلِ التَّنْبِيهِ والرَّمْزِ ، وهو أنَّ هؤلاء الكُفارِ وإن كانوا يُعَانِدُونه - فإنَّه بالآخِرَة يَسْتَوْلي عَلَيْهم ويَقْهَرُهُم .
ثم قال [ - تعالى - ] : { وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً } أي : حُجَّة بَيِّنَة ، وهي الآيات السَّبْع . قوله : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بِمِيثَاقِهِمْ } [ في « فوقهم » : وجهان : أظهرهما أنه متعلق ب « رَفَعْنا » ، وأجاز أبو البقاء وجهاً ثانياً وهو أن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ لأنه حالٌ من الطور . و « بميثاقهم » متعلقٌ أيضاً بالرفع ، والباءُ للسببية ، قالوا : وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ تقديرُه : بنقض ميثاقهم ] . [ و ] قال بَعْضُ المفَسِّرين : إنهم امْتَنَعُوا من قُبُول شَرِيعَة التَّوْرَاةِ ، ورفع الله الجَبَل فَوْقَهُم حَتَّى قَبِلُوا ، والمعنَى : ورفَعْنَا فَوْقَهُم الطُّورَ؛ لأجْلِ أن يُعْطُوا المِيثَاقَ بقُبُول الدِّين .
وقال الزمخشريُّ : « بِمِيثَاقِهِمْ : بسبب ميثاقهم؛ ليخافوا فلا ينقضُوه » وظاهر هذه العبارة : أنه لا يُحْتَاجُ إلى حذْفِ مضاف ، بَلْ أقول : لا يجُوزُ تقدير هذا المضافِ؛ لأنه يقتضي أنهم نقضوا الميثاق ، فرَفَعَ اللَّهُ الطُّورَ عليهم؛ عقوبةً على فعلِهِمُ النقضَ ، والقصةُ تقتضي أنَّهم هَمُّوا بنقضِ الميثاق ، فرفعَ اللَّهُ عليهم الطُور ، فخافُوا فلم يَنْقُضُوهُ ، [ وإن كانوا قد نَقَضُوه ] بعد ذلك ، وقد صَرَّحَ أبو البقاء بأنهم نقضوا الميثاقَ ، وأنه تعالى رفع الطُّور عقوبةً لهم فقال : « تقديرُه : بنَقْضِ ميثاقِهِمْ ، والمعنى : ورَفَعْنَا فوقَهُمُ الطُّور؛ تخْويفاً لَهُمْ بسبب نقْضِهِم الميثاق » ، وفيه ذلك النظرُ المتقدِّم ، ولقائلٍ أن يقول : لمَّا هَمُّوا بنقْضه وقاربوه ، صحَّ أن يقال : رَفَعْنَا الطُّورَ فوقهم؛ لنقضهم الميثاق ، أي : لمقاربتهم نقضَهُ ، لأنَّ ما قارب الشيء أعْطِيَ حكمَه؛ فتصِحُّ عبارةُ مَنْ قدَّر مضافاً؛ كأبي البقاء وغيره .
وقال بَعْضُ المُفَسِّرين : إنَّهُم أعْطوا المِيثَاقَ على أنهم إن هَمُّوا بالرُّجُوع عن الدِّينِ ، فاللَّهُ - تعالى - يُعَذِّبهم بأيِّ أنْواعِ العذابِ ، أراد : فَلَمَّا هَمُّوا بَتَرْكِ الدِّينِ ، أظَلَّ اللَّهُ الطُّورَ عَلَيْهِم . والميثاق مصدر مضاف لمفعوله ، وقد تقدَّم في البقرة الكلام على قوله { ادخلوا الباب سُجَّداً } ، و « سُجَّداً » حالٌ من فاعل « ادْخُلُوا » .
قوله : « لاَ تَعْدُوا » قرأ الجمهور : « تَعْدُوا » بسكون العين ، وتخفيف الدال مِنْ عَدَا يَعْدُو ، كَغَزَا يَغْزُو ، والأصل : « تَعْدُوُوا » بواوين : الأولى لام الكلمة والثانية ضمير الفاعلين ، فاستثقلتِ الضمة على لام الكلمة ، فحُذِفَتْ ، فالتقى بِحَذْفِها ساكنان ، فحُذِفَ الأوَّل ، وهو الواو الأولى ، وبقيتْ واو الفاعلين ، فوزنه : تَفْعُوا ومعناه : لا تعْتَدُوا ولا تَظْلِمُوا باصْطِيَاد الحِيتانِ فيه .
قال الوَاحِدِي : يُقال : عَدَا عليه أشَدَّ العَدَاءِ [ والعَدْو ] والعُدْوَان ، أي : ظَلَمَه ، وجَاوَز الحَدَّ؛ ومنه قوله : { فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعام : 108 ] وقيل : { لاَ تَعْدُواْ فِي السبت } من العَدْوِ بمعْنَى الحُضْرِ ، والمُرَادُ به النَّهْي عن العَمَل والكَسْبِ يَوْم السَّبْتِ؛ كأنه قِيل : اسْكُنُوا عَنِ العَمَلِ في هَذَا اليَوْم واقْعُدوا في مَنَازِلِكُم [ فأنا الرَزَّاق ] .
وقرأ نافع بفتح العين وتشديد الدال ، إلا أن الرواة اختلفوا عن قالون عن نافع : فرَوَوْا عنه تارةً بسكون العين سكوناً محضاً ، وتارةً إخفاء فتحة العين ، فأما قراءة نافع ، فأصلها : تَعْتَدُوا ، ويدلُّ على ذلك إجماعُهُمْ على : { اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت } [ البقرة : 65 ] كونه من الاعتداء ، وهو افتعالٌ من العدوان ، فأُريد إدغامُ تاء الافتعال في الدالِ ، فنُقِلتْ حركتُها إلى العين ، وقُلبت دالاً وأدغمت . وهذه قراءةٌ واضحةٌ ، وأما ما يُروَى عن قالون من السكُون المحْضِ ، فشيءٌ لا يراه النحْويُّون؛ لأنه جَمْعٌ بين ساكنينِ على غير حَدِّهما ، وأمَّا الاختلاسُ فهو قريب للإتيان بحركة ما ، وإن كانت خفيَّةً ، إلا أنَّ الفتحة ضعيفةٌ في نَفْسِهَا ، فلا ينبغي أن تُخْفَى لِتُزادَ ضعفاً؛ ولذلك لم يُجز القراءُ رَوْمَهَا وقْفاً لضعفِها ، وقرأ الأعمش : « تَعْتَدُوا » بالأصل الذي أدغَمُه نافع .
ثم قال { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } قال القفال : المِيثَاقُ الغَلِيظُ : هو العَهْدُ المؤكَّدُ غَايَة التَّوْكِيدِ .
قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ } : في « مَا » هذه وجهان :
أحدهما : أنها زائدةٌ بين الجارِّ ومجروره تأكيداً .
والثاني : أنها نكرة تامَّة ، و « نَقْضِهِمْ » بدلٌ منه ، وهذا كما تقدَّم في [ قوله ] { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله } [ آل عمران : 159 ] . و « نَقْضِ » مصدرٌ مضاف لفاعله ، و « مِيثَاقَهُمْ » مفعوله ، وفي متعلَّق الباءِ الجارةِ ل « مَا » هذه وجهان :
أحدهما : أنه « حَرَّمْنَا » المتأخِّر في قوله : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا } [ النساء : 160 ] وعلى هذا ، فيقال : « فَبِظُلْمٍ » متعلِّق ب « حَرَّمْنَا » أيضاً ، فيلزم أن يتعلق حرفاً جَرٍّ متحدانِ لفظاً ومعنًى بعاملٍ واحدٍ؛ وذلك لا يجوز إلا مع العطف أو البدل ، وأجابوا عنه بأن قوله « فَبِظُلْمٍ » بدل من قوله « فبمَا » بإعادة العامل ، فيقال : لو كان بدلاً لما دخلَتْ عليه فاءُ العطف؛ لأن البدل تابعٌ بنفسه من غير توسُّطِ حرفِ عطفٍ ، وأُجيبَ عنه بأنه لمَّا طالَ الكلام بين البدل والمبدلِ منه ، أعادَ الفاءَ للطُّولِ ، ذكر ذلك أبو البقاء والزَّجَّاج والزمخشريُّ وأبو بَكْرٍ وغيرهم .
ورَدَّه أبو حيان بما معناه أنَّ ذلك لا يجوز لطُول الفصْل بين المبدَلِ والبدل ، وبأنَّ المعطوفَ على السببِ سببٌ ، فيلزمُ تأخُّرُ بعضِ أجزاءِ السبب الذي للتحريم في الوقتِ عن وقت التحريم؛ فلا يمكنُ أن يكون سبباً أو جزء سببٍ إلا بتأويلٍ بعيدٍ ، وذلك أن قولهم : { إِنَّا قَتَلْنَا المسيح } وقولهم على مريم البهتان إنما كان بعد تحْريم الطيبات ، قال : « فالأوْلَى أن يكونَ التقدير : لَعَنَّاهُمْ ، وقد جاء مصرَّحاً به في قوله : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم » .
والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوف ، فقدَّره ابنُ عطيَّة : لعنَّاهُمْ وأذْلَلْنَاهُمْ وختمنا على قلُوبهم ، قال : « وحَذْفُ جواب مثْلِ هذا الكلام بليغٌ » ، وتسميةُ مثل هذا « جَوَاب » غيرُ معروف لغةً وصناعةً ، وقدَّره أبو البقاء : « فَبِمَا نَقْضِهِمْ ميثاقَهُمْ طُبعَ على قُلُوبِهِمْ ، أوْ لُعِنُوا ، وقيل : تقديرُه : فبما نقضهِمْ لا يُؤمِنُونَ ، والفاءُ زائدةٌ » .
[ أي : في قوله تعالى { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } ] . انتهى . وهذا الذي أجازه أبو البقاء تَعَرَّضَ له الزمخشريُّ ، وردَّه ، فقال : « فإن قلْتَ : فهلاَّ زَعَمْتَ أنَّ المحذوفَ الذي تعلَّقَتْ به الباء ما دَلَّ عليه قوله » بَلْ طَبَعَ اللَّهُ ، فيكون التقديرُ : فبمَا نقضِهِمْ طَبَعَ اللَّهُ على قُلُوبِهِمْ ، بل طَبَعَ الله عَلَيْهَا بكُفْرهِمْ قلت : لم يصحَّ لأن قوله : { بل طبع الله عليها بكفرهم } ردٌّ وإنكارٌ لقولهم : « قُلُوبُنَا غُلْفٌ » ، « فكانَ متعلِّقاً به » ، قال أبو حيان : « وهو جوابٌ حسنٌ ، ويمتنعُ من وجهٍ آخر ، وهو أنَّ العطفَ ب » بَلْ « للإضرابِ ، والإضرابُ إبطالٌ ، أو انتقالٌ ، وفي كتاب الله في الإخبار لا يكون إلا للانتقالِ ، ويُسْتفادُ من الجملةِ الثانية ما لا يُسْتفاد من الأولى ، والذي قَدَّره الزمخشريُّ لا يَسُوغُ فيه الذي قرَّرناه؛ لأنَّ قوله : فَبِمَا نَقْضِهِم ميثَاقَهُمْ وَكُفْرهِمْ بآياتِ الله وقوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا [ هو مدلولُ الجمْلة التي صَحبتها » بَلْ « ، فأفادت الثانِيَة ما أفَادَتِ الأولَى ، ولو قُلْت : مرَّ زَيْد بِعَمْرو ، بل مَرَّ زَيْدٍ بعمرو ، لم يَجُزْ » . وقَدَّرَهُ الزمَخْشَرِي : فَعَلْنَا بِهِم ما فَعَلْنَا ، وتقدَّم الكَلاَم على الكُفْرِ بآيَاتِ اللَّهِ ، وقَتْلِهِم الأنْبِياءَ بغَيْرِ حَقٍّ في البَقَرة .
وأمَّا قولُهم : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } جمع غِلاَفٍ ، والأصل « غُلُفٌ » بتحريك اللاَّم ، وخُفِّفَ كما قِيلَ بالتَّسْكِين؛ ككُتْب وَرُسْل بتَسْكِين التاءِ والسِّين والمَعْنَى على هذا : أنهم قالوا : قُلُوبُنَا غُلْف ، أي : أوْعِيَةٌ للعِلْمِ ، فلا حَاجَة بِنَا إلى عِلْمٍ سِوَى ما عِنْدَنَا ، فكَذَّبُوا الأنْبِيَاء بهَذَا القَوْلِ .
وقيل : إن غُلْفاً جَمْع أغْلَف وهو المغَطَّى بالغلافِ ، أي : بالغِطَاءِ ، والمَعْنَى على هذا : أنَّهمُ قالُوا : قُلُوبُنَا في أغْطِيَةٍ ، [ فَهي ] لا تَفْقَهُ ما تَقُولُون؛ نظيره قولُهُم : { قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] .
قوله : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا } هذا إضرابٌ عن الكلام المتقدِّم ، أي : ليس الأمرُ كما قالوا من قولهم : « قُلُوبُنَا غُلْفٌ » ، وأظهرَ القرَّاءُ لامَ بَلْ في « طَبَعَ » إلا الكسائي ، فأدغم من غيرِ خلاف ، وعن حمزة خلاف ، والباء في « بِكُفرهِمْ » يُحتمل أن تكون للسببية ، وأن تكون للآلة؛ كالباء في « طَبَعْتُ بالطِّينِ على الْكِيسِ » يعني أنه جعل الكُفْر كالشيء المطْبُوع به ، أي : مُغَطِّياً عليها ، فيكونُ كالطابع ، وقوله : « إِلاَّ قَلِيلاً » يحتملُ النصبَ على نعت مصدر محذوف ، أي : إلا إيماناً قليلاً وهو إيمانُهُم بمُوسَى والتَّوراة فقط ، وقد تقدم أن الإيمَانَ بالبَعْضِ دُونَ البَعْضِ كُفْرٌ ، ويُحْتَمل كَوْنُه نَعْتاً لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ ، أي : زَمَاناً قَلِيلاً ، ولا يجُوزُ أن يكُون مَنْصُوباً على الاسْتِثْنَاءِ من فَاعِل « يؤمنُونَ » أي : إلاَّ قَلِيلاً مِنْهُم فإنَّهُم يُؤمِنُون؛ لأنَّ الضَّمِير في « لاَ يُؤْمِنُونَ » عائدٌ على المَطْبُوعِ على قُلُوبهم ، ومن طُبعَ على قَلْبِه بالكُفْرِ ، فلا يَقَعُ مِنْهُ الإيمانُ .
[ والجواب أنَّه مِنْ إسنادِ مَا للبعض للكُلِّ ، أي : في قوله : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } فتأمّل ] .
وقال البغوي : « إِلاَّ قَلِيلاً » يعني : ممَّن كَذَّب الرُّسُل [ لا ] من طُبِعَ على قَلْبِهِ؛ لأنَّ من طَبَعَ الله على قَلْبِه ، لا يُؤمِنُ أبَداً ، وأرَادَ بالقَلِيلِ : عَبْد الله بن سَلاَم وأصْحَابه .
قوله : « وبكُفْرهِمْ » : فيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوفٌ على « مَا » في قوله : « فَبِمَا نَقْضهِمْ » فيكونُ متعلِّقاً بما تعلَّق به الأول .
الثاني : أنه عطفٌ على « بِكُفرِهِمْ » الذي بعد « طَبَعَ » ، وقد أوضح الزمخشريُّ ذلك غايةَ الإيضاح ، واعترضَ وأجابَ بأحسنِ جواب ، فقال : « فإنْ قلْتَ : علامَ عَطَفَ قوله » وَبكُفْرِهِمْ « ؟ قلتُ : الوجهُ أن يُعْطَفَ على » فَبِمَا نَقْضِهمْ « ، ويُجْعَلَ قولُه : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } كلاماً يَتْبَع قوله : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } على وجه الاستطراد ، ويجوزُ عطفه على ما يليه من قوله » بِكُفْرِهِمْ « ، فإن قلت : فما معنى المجيءِ بالكُفْر معطوفاً على ما فيه ذِكْرُهُ؟ سواءٌ عطف على ما قبل الإضْراب ، أو على ما بعده ، وهو قوله : { وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله } ، وقوله » بِكُفْرِهمْ « ؟ قُلْتُ : قد تكرر منهم الكُفْر؛ لأنهم كفروا بموسَى ، ثم بعيسى ، ثم بمحمدٍ ، فعطف بعض كُفْرِهِمْ على بعض ، أو عَطَفَ مجموعَ المعطوفِ على مجموعِ المعطوف عليه؛ كأنه قيل : فبجمْعِهِمْ بين نقضِ الميثاقِ ، والكُفْرِ بآيات الله ، وقتلِ الأنبياء ، وقولهم : قُلُوبُنَا غُلْفٌ ، وجمعهم بين كفرِهمْ وبَهْتِهِمْ مريم وافتخارهم بقتلِ عيسى؛ عاقبناهم ، أو بلْ طَبَع الله عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم كذا وكذا » .
قوله : [ { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ } ] « بُهْتَاناً [ عظيماً ] » في نصب [ « بُهْتَاناً » ] خمسةُ أوجه :
أظهرُها : أنه مفعولٌ به؛ فإنه مُضَمَّنٌ معنى « كَلاَم » ؛ نحو : قُلْتُ خُطْبَةٌ وشِعْراً .
الثاني : أنه منصوبٌ على نوع المصدر ، كقولهم : « قَعَدَ القُرْفُصَاءَ » يعني : أن القول يكون بُهتاناً وغير بهتان .
الثالث : أن ينتصبَ نعتاً لمصدر محذوف ، أي : قولاً بُهْتَاناً ، وهو قريبٌ من معنى الأول .
الرابع : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ من لفظه ، أي : بَهَتُوا بُهْتَاناً .
الخامس : أنه حال من الضميرِ المجْرور في قولهم ، أي : مُبَاهِتينَ ، وجازَ مجيءُ الحال من المضاف إليه؛ لأنه فاعلٌ معنًى ، والتقديرُ : وبأن قالوا ذلك مباهتين .
فصل في المقصود بالبهتان
والمراد بالبُهْتَانِ : أنَّهُم رموا مَرْيَم بالزِّنَا ، لأنَّهم أنكَرُوا قُدْرَة الله - تعالى - على خَلْقِ الوَلَدِ من غير أبٍ ، ومُنْكِرُ قُدْرَةِ الله على ذلك كَافِرٌ؛ لأنه يَلْزَمُ أن يقُول : كُلُّ ولَدٍ مَسْبُوقٍ بوَالِدٍ لا إلى أوَّل ، وذَلِك يُوجِبُ القَوْل بِقِدَم العَالَمِ والدَّهْرِ ، والقَدْحُ في وجُود الصَّانِعِ المُخْتَار ، فالقَوْمُ أولاً أنكَرُوا قُدْرَة الله - تعالى - علَى خَلْقِ الوَلَدِ من غَيْر أبٍ ، وثانياً : نَسَبُوا مَرْيَم إلى الزِّنَا .
فالمراد بقوله : « وَبِكُفْرِهِم » هو إنْكَارُهُم قُدْرَة الله - تعالى - ، وبقوله : { وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } نِسْبَتُهُم إيّاهَا إلى الزِّنَا ، ولمَّا حَصَل التغَيُّر حسن العَطْف ، وإنما صار هذا الطَّعْنُ بُهْتاناً عَظِيماً؛ لأنه ظَهَر عند ولادَةَ عِيسَى - عليه السلام - [ من ] الكَرَامَاتِ والمُعْجِزَاتِ ، ما دَلَّ على بَرَاءَتِها من كُلِّ عَيْبٍ ، نحو قوله : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً } [ مريم : 25 ] وكلام عيسى - [ عليه السلام ] - طفْلاً مُنْفصِلاً عن أمِّهِ ، فإنَّ كُلَّ ذلك دَلاَئِل قاطِعَةٌ على بَراءة مَرْيَم - [ عليها السلام ] - من كل رِيبَةٍ ، فلا جَرَم وَصَف اللَّهُ - [ تعالى ] - [ طَعْنَ ] اليهُود فيها بأنَّهُ بُهْتَانٌ عَظِيمٌ .
واعلم أنَّه لما وَصَفَ طَعْن اليَهُود في مَرْيم بأنَّه بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ، ووصَفَ طَعْن المُنَافِقِين في عَائِشَةَ بأنَّهُ بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ، حَيْثُ قال : { سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [ النور : 16 ] ؛ دلَّ ذلك على أنَّ الرَّوَافِضَ الَّذِين يَطْعَنُون في عَائِشَةَ ، بمَنْزِلَة اليَهُودِ الَّذِين يَطْعَنُون في مَرْيم - عليها السلام - .
قوله : « وَقَوْلُهُم » عَطْف على « وَكُفْرِهِم » ، وكُسِرت « إنَّ » لأنَّها مُبْتَدأ بعد القَوْلِ وفَتْحهَا لُغَة .
و « عِيسَى » بدلٌ من « المَسِيح » ، أو عطفُ بيان ، وكذلك « ابن مَرْيَم » ، ويجوز أن يكونَ صفةً أيضاً ، وأجاز أبو البقاء في « رَسُول الله » هذه الأوجه الثلاثة ، إلا أنَّ البدل بالمشتقات قليلٌ ، وقد يُقال : إنَّ « رَسُول الله » جرَى مَجْرَى الجوامدِ ، وأجاز فيه أن يَنْتصبَ بإضمار « أعني » ، ولا حاجةَ إليه . قوله « شُبِّهَ لَهُمْ » : « شُبِّهَ » مبني للمفعول ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مسند للجارِّ بعده؛ كقولك : « خُيِّلَ إليه ، ولُبِّسَ علَيْهِ » [ كأنَّه قيل : ولكن وقع لهم التشبيه ] .
والثاني : أنه مسندٌ لضمير المقْتُول الَّذِي دَلَّ عليه قولهم : « إِنَّا قَتَلْنَا » أي : ولكن شُبِّه لهم من قتلُوه ، فإن قيل : لِمَ لا يَجُوز أن يعودَ على المسيحِ؟ فالجوابُ : أن المسيحَ مشبَّه به [ لا مشبَّه ] .
فصل
وهذا القَوْلُ مِنْهُم يَدُلُّ على كُفْرٍ عَظِيمٍ مِنْهُم؛ لأن قَولَهُم ، فَعَلْنَا ذَلِك ، يدل على رَغْبَتِهِم في قَتْلِهِ [ بجدٍّ واجْتِهَادٍ ] ، وهذا القَدْرُ كُفْر عَظِيمٌ .
فإن قِيلَ : اليَهُود كَانُوا كَافِرِين بِعيسَى - عليه السلام - أعداء لَهُ ، عَامِدِين لِقَتْلِه ، يسَمُّونَهُ السَّاحِرَ ابن السَّاحِرَة؛ والفاعِل ابْنَ الفاعِلة ، فكيف قَالُوا : إنّا قَتلْنَا المَسيح [ عيسى ] ابن مَرْيَم رسُول الله؟ .
فالجوابُ من وَجْهَيْن :
الأول : أنهم قَالُوهُ على وَجْه الاسْتِهْزَاءِ؛ كقول فِرْعَوْن :
{ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] وقول كُفَّار قُرَيْش لمحمد - عليه السلام - : { ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] .
الثاني : أنه يجُوزُ أن يَضَعَ الله الذِّكْرَ الحَسَنَ مَكَانَ ذِكْرِهم القَبِيح في الحِكَايَةِ عَنْهُم؛ رفعاً لعِيسى ابن مَرْيَمِ - عليه السلام - عمَّا كَانُوا يَذْكُرُونَه به .
ثم قال - تعالى - : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ } .
واعلم أن اليَهُودَ لمَّا زعموا أنَّهُم قتلوا المسيحَ ، كذَّبَهم الله في هَذِه الدَّعْوَى ، فقال . . . الآية .
فإن قيل : إذا جَازَ أن يُلقي الله - تعالى - شِبْه إنْسَانٍ على إنْسَانٍ آخر ، فهذا يَفْتَحُ بابَ السَّفْسَطَة ، فإذا رَأيْنَا زَيْداً فَلَعَلَّهُ لَيْس بِزَيْدٍ ، ولَكِنَّه ألْقَى شِبْهَ زيْد عليه ، وعِنْد ذلك لا يَبْقَى الطَّلاقُ والنِّكَاحُ والمِلْكُ مَوْثُوقاً بِهِ ، وأيضاً يُفْضِي إلى القَدْحِ في التَّوَاتُرِ؛ لأن خَبَر التَّواتُر إنَّما يُفِيد العِلْمَ بِشَرطِ انْتِهائِهِ إلى المَحْسُوسِ ، فإذا جَوَّزْنَا حُصُول مِثْل هَذَا الشِّبْهِ في المَحْسُوسَاتِ ، يُوَجَّهُ الطَّعْن في التَّوَاترُ ، وذلكِ يُوجِبُ القَدْح في جَمِيع الشَّرَائع ، ولَيْسَ لمُجِيبٍ أن يُجِيبَ عَنْهُ؛ بأن ذَلِك مُخْتَصٌّ بزمان الأنْبِياء - [ عليهم الصلاة والسلام ] -؛ لأنا نَقُول : لو صَحَّ ما ذَكَرْتُم ، فذلِكَ إنَّما يُعْرَفُ بالدَّليلِ والبُرْهَانِ ، فمن لَمْ يَعْلَمْ ذلك الدَّلِيلَ وذلِك البُرْهَان ، وجَبَ ألاَّ يَقْطَع بِشَيءٍ من المَحْسُوسَاتٍ ، فَتوَجَّه الطَّعْن في التَّوَاتُر ، ووَجَبَ ألاَّ يُعْتَمدُ على شَيءٍ مِنَ الأخْبَارِ المُتَوَاتِرَة .
وأيضاً : ففي زَمانِنا إن انْسَدَّتِ المُعْجِزَات ، فطَريقُ الكَرَامَاتِ مَفْتُوحٌ ، وحينئذٍ يعُود الاحْتِمَال المَذْكُور في جَمِيعِ الأزْمِنَةِ ، وبالجُمْلَة فَفَتْحُ هذا الباب يُوجِبُ الطَّعْنَ في التَّواتُر ، والطَّعْنُ في التَّوَاتُرِ يوجب الطَّعْنَ في نُبُوَّة [ جميع ] الأنْبِياء - عليهم الصلاة والسلام - ، وإذَا كان هذا يُوجِبُ الطَّعْنَ في الأصُولِ ، كان مَرْدُوداً .
فالجوابُ : قال كَثِيرٌ من المتَكَلِّمين : إن اليَهُود لمَّا قَصَدُوا قَتْلَه ، رفَعَهُ الله على السَّمَاءِ ، فخَافَ رُؤسَاءُ اليَهُودِ من وُقُوعِ الفِتْنَةِ بَيْن عَوامِّهِم ، فأخَذُوا إنْسَاناً وقَتَلُوه وصَلَبُوهُ ، وألْبَسُوا على النَّاسِ أنَّه هُوَ المَسِيحُ ، والنَّاسُ ما كَانُوا يَعْرِفُون المسيح إلا بالاسْمِ؛ لأنه كَانَ قَلِيلَ المُخَالطَةِ للنَّاسِ ، وإذا كان اليَهُود هُم الَّذِين ألْبَسُوا على النَّاسِ ، زال السُّؤالُ ، ولا يُقالُ : إن النَّصَارى يَنْقُلُون عن أسْلافِهِم أنهم شَاهَدُوهُ مَقْتُولاً؛ لأن تَوَاتُرَ النَّصَارى يَنْتَهِي إلى أقْوَام قَلِيلين ، لا يبْعُد اتِّفَاقُهُم على الكَذِب ، وقيل غَيْر ذلِكَ ، وقد تقدَّم بَقِيَّة الكلام على الأسئِلَة الوارِدَة هُنَا عِنْد قوله : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } في سورة آل عمران [ الآية : 55 ] .
ثم قال : { وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } هذا الاختلافُ فيه قولان :
الأول : أنَّهم هم النصَارى كُلُّهُم مُتَّفِقُون على أنَّ اليَهُودَ قَتَلُوهُ ، إلا أنهم ثلاث فِرقٍ : نَسْطُورِيَّة ، ومَلْكَانِية ، ويعقوبية :
فالنَّسْطُوريَّة : زعموا أن المَسِيحَ صُلِبَ من جِهَةِ ناسُوتهِ ، لا مِنْ جهة لاهُوتِه ، وهو قَوْل أكْثَر الحُكَمَاء؛ لأن الإنْسَان لَيْس عِبَارَةٌ عن هذا الهَيْكَل ، بل هُوَ إمَّا جِسْمٌ شَرِيفٌ في هذا البَدَنِ ، وإمَّا جَوْهَرٌ رَوْحَانِيٌّ مُجَرَّدٌ في ذاتِهِ ، وهُو مُدَبِّر لهَذَا البَدَن ، والقَتْلُ إنَّما وَرَدَ هلى هذا الهَيْكَل ، وأمَّا حَقيقَةُ نَفْس عِيسَى ، فالقَتْلُ ما وَرَدَ عَليْهَا ، ولا يُقَال : كُلُّ إنْسَانٍ كَذَلِك ، فما وَجْه هَذَا التَّخْصِيص؟ لأنَّا نَقُول إن نَفْسَه كَانَت قُدِسيَّةً عُلْوِيَّة سَمَاوِيَّة ، شديدة الإشْرَاقِ بالأنْوَارِ الإلهِيَّة ، وإذا كانت كَذَلِكَ ، لَمْ يَعْظُم تَألُّمُهَا بِسَبَبِ القَتْلِ وتَخْرِيب البدن ، ثم إنَّها بعد الانْفِصَالِ عن ظُلْمَةِ البَدَنِ ، تَتَخَلَّصُ إلى فُسْحَة السَّمواتِ وأنوار عَالَم الجلالِ ، فَتَعْظُم بَهْجَتُهَا وسَعَادَتُها هُنَاكَ ، وهذه الأحْوَال غَيْرُ حَاصِلةٍ لكُلِّ النَّاسِ ، وإنما حَصَلَت لأشْخَاصٍ قَلِيلِين من مَبْدَإ خَلْق آدَمَ إلى قِيَامِ القِيَامَةِ ، فهذا فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ .
وأما الملْكَانِيَّة فَقَالُوا : القَتْل والصَّلْبُ وصَلاَ إلى اللاَّهُوت بالإحْسَاسِ والشُّعُور ، لا بالمُبَاشَرَةِ .
وقالت اليعقوبية : القَتْلَ والصَّلْبُ وقعا بالمسيح الذي هو جَوْهرٌ مُتَوَلِّدٌ من جَوْهَرَيْن .
فهذا شرح مَذَاهِب النَّصَارَى في هذا البَابِ ، وهو المُرَاد من قوله : { وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } .
والمنزل الثاني : أن المُراد ب { الذين اختلفوا فِيه } اليَهُود ، وفيه وجهان :
الأوَّل : أنهم لمَّا قَتَلُوا الشَّخْص المُشَبَّه به ، كان المُشَبَّهُ قد ألْقِي على وَجْهِه ، ولم يُلْقَ على جَسَدِهِ شِبْه جَسَد عِيسَى ، فلما قَتَلُوه ونَظَرُوا إلى بَدَنِهِ ، قالوا : الوجْهُ وجْهُ عِيسَى والجَسَدُ جسد غَيْرِه .
والثاني : قال السُّدِّي : إن اليَهُود حَبَسُوا عِيسى - عليه السلام - مع عَشَرَةٍ من الحَوَارِييّن في بَيْتٍ ، فَدَخَلَ عَلَيْه رَجُلٌ من اليَهُودِ ليُخْرِجَهُ ويَقْتلهُ ، فألقى الله شِبْه عِيسَى - عليه السلام - على ذَلِك الرَّجُلِ ، ورَفَع عيسى إلى السَّماء ، فأخذوا ذلك الرَّجُل فَقَتَلُوهُ على أنَّه عيسى - عليه السلام - ، ثم قالوا [ إن كان هذا عِيسَى فأيْن صَاحِبُنَا ، وإن كان صَاحِبُنَا فأيْن عيسى ] ، فَذَلِكَ اخْتِلافُهُم فِيه .
قوله : « لَفِي شَكٍّ مِّنْه » : « مِنْهُ » في محلِّ جرِ صفة ل « شَكٍّ » يتعلَّقُ بمحذوف ، ولا يجوز أن تتعلَّق فَضْلةٌ بنفس « شَكٍّ » ؛ لأن الشكَّ إنما يتعدَّى ب « في » لا ب « مِنْ » ، ولا يقال : إنَّ « مِنْ » بمعنى « في » ؛ فإن ذلك قولٌ مرجوحٌ ، ولا ضرورة لنا به هنا .
وقوله : { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } يجوز في « مِنْ عِلْمٍ » وجهان :
أحدهما : أنه مرفوع بالفاعليَّة ، والعاملُ أحد الجارَّيْنِ : إمَّا « لَهُمْ » وإما « به » ، وإذا جُعِلَ أحدُهما رافعاً له ، تعلَّق الآخرُ بما تعلَّق به الرافِعُ من الاستقرار المقدَّر ، و « مِنْ » زائدةٌ لوجودِ شرطي الزيادة .
والوجه الثاني : أن يكون « مِنْ عِلْمٍ » مبتدأ زيدت فيه « مِنْ » أيضاً وفي الخبر احتمالان :
أحدهما : أن يكونَ « لَهُم » فيكون : « به » : إمَّا حالاً من الضمير المستكنِّ في الخبر ، والعاملُ فيها الاستقرارُ المقدَّر ، وإمَّا حالاً من « عِلْمٍ » ، وإنْ كان نكرةً؛ لتقدُّمها عليه ، ولاعتمادِه على نَفْي ، فإن قيل : يلزمُ تقدُّمُ حالِ المجرورِ بالحرفِ عليه ، وهو ضرورةٌ ، لا يجوزُ في سَعة الكَلاَم .
فالجوابُ : أنَّا لا نُسَلِّم ذلك ، بل نقل أبو البقاء وغيره؛ أنَّ مذْهَب أكثر البصريين جوازُ ذلك ، ولئِنْ سلَّمْنَا أنه لا يجوز إلا ضرورةً ، لكن المجرور هنا مجرورٌ بحرف جرٍّ زائدٍ ، والزائدٌ في حكْم المُطَّرَح ، وأمَّا أن يتعلَّق بمحذوفٍ على سبيل البيانِ ، أي : أعْني به ، ذكره أبو البقاء ، ولا حاجةَ إليه ، ولا يجوزُ أن يتعلق بنفس « عِلْم » ؛ لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه .
والاحتمال الثاني : أن يكون « به » هو الخبر ، و « لَهُمْ » متعلق بالاستقرار؛ كما تقدم ، ويجوز أن تكون اللام مبيِّنةً مخصَّصة كالتي في قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] . وهذه الجملةُ المنفية تحتمل ثلاثة أوجه : الجرّ على أنها صفةٌ ثانية ل « شَكٍّ » أي : غير معلوم .
الثاني : النصب على الحال من « شَكٍّ » ، وجازَ ذلك ، وإنْ كان نكرةً لتخصُّصِه بالوصف بقوله « مِنْه » .
الثالث : الاستئنافُ ، ذكره أبو البقاء ، وهو بعيدٌ .
قوله : { إِلاَّ اتباع الظن } في هذا الاستثناء قولان :
أصحهما : ولم يذكر الجمهورُ غيره : أنه منقطع؛ لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم ، [ قال شهاب الدين : ] ، ولم يُقْرأ فيما علمتُ إلا بنصبِ « اتِّباع » على أصل الاستثناء المنقطِعِ ، وهي لغةُ الحجاز ، ويجوزُ في تميم الإبدالُ من « عِلْم » لفظاً ، فيجرُّ ، أو على الموضع ، فيُرفَعُ؛ لأنه مرفوع المحلِّ؛ كما قدَّمته لك ، و « مِنْ » زائدةٌ فيه .
والثاني - قال ابن عطية - : أنه متصِلٌ ، قال : « إذ العلْمُ والظنُّ يضمهما جنسُ أنهما من معتقدات اليقين ، يقول الظانُّ على طريق التجوُّز : » عِلْمِي في هذا الأمْرِ كَذَا « إنما يريدُ ظَنِّي » انتهى ، وهذا غيرُ موافقٍ عليه؛ لأن الظنَّ ما ترجَّحَ فيه أحد الطرفَيْن ، واليقينُ ما جُزِم فيه بأحدهما ، وعلى تقدير التسليم فاتباعُ الظنِّ ليس من جنس العلم ، بل هو غيره ، فهو منقطع أيضاً ، أي : ولكنَّ اتباع الظنِّ حاصلٌ لهم .
ويُمْكِنُ أن يُجَابَ شهاب الدِّين عما رَدَّ به عَلَى ابن عَطِيَّة : بأن العِلْمَ قد يُطْلَقُ على الظَّنِّ ، فيكون من جِنْسِهِ؛ كقوله - تعالى - { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } [ البقرة : 46 ] وأراد : يَعْلَمُون ، وقوله : { حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } [ يوسف : 110 ] أي : تَيَقَّنُوا ، وقوله : { وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } [ الكهف : 53 ] وإذا كان يَصِحُّ إطلاقُهُ عليه ، صار الاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلاً .
فصل في دفع شبهة لمنكري القياس
احتَجَّ نُفَاةُ القِيَاسِ بهذه الآيَةِ ، وقالوا : العَمَلُ بالقياسِ من اتِّبَاع الظَّنِّ ، وهو مَذْمُومٌ؛ لأن الله - تعالى - ذكر اتِّبَاعَ الظَّنِّ في مَعْرِضِ الذَّمِّ هَهُنَا ، وذَمِّ الكُفَّار في سُورَةِ الأنْعَامِ بقوله :
{ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [ الأنعام : 116 ] وقال : { إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً } [ يونس : 36 ] فدَلَّ ذلك على أنَّ اتِّبَاع الظَّنِّ مَذْمُومٌ .
والجوابُ : لا نُسَلِّمُ أن العَمَلَ بالقِيَاسِ [ من اتِّبَاع الظَّنَّ؛ فإن الدَّلِيلَ القَاطِعَ لمَّا دَلَّ على العَمَلِ بالقِيَاسِ ] ، كان الحُكْمُ المُسْتَفَاد من القِياسِ مَعْلُوماً لا مَظْنُوناً .
قوله : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } الضمير في « قَتَلُوهُ » فيه أقوال :
أظهرها : أنه ل « عيسى » ، وعليه جمهور المفسرين .
والثاني - وبه قال ابن قتيبة والفراء - : أنه يعودُ على العلم ، أي : ما قتلوا العلم يقيناً ، على حدِّ قولهم : « قَتَلْتُ العِلْمَ والرأي يقييناً » و « قَتَلتهُ عِلْماً » ، ووجْه المجاز فيه : أن القتلَ للشيء يكون عن قَهْرٍ واستعلاءٍ؛ فكأنه قيل : وما كان علْمُهُم علْماً أُحيطَ به ، إنما كان عن ظن وتخمين .
الثالث - وبه قال ابن عباس والسُّدِّيُّ وطائفة كبيرة - : أنه يعود للظنِّ تقول : « قَتَلْتُ هَذَا عِلْماً وَيَقِيناً » ، أي : تحقَّقت ، فكأنه قيل : وما صَحَّ ظنُّهم عندهم وما تحقَّقوه يقيناً ، ولا قطعوا الظنَّ باليقين .
قوله : « يَقيناً » فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ ، أي : قتلاً يقيناً .
الثاني : أنه مصدر من معنى العامل قبله؛ كما تقدم مجازه؛ لأنه في معناه ، أي : وما تيقَّنوه يقيناً .
الثالث : أنه حال من فاعل « قَتَلُوهُ » ، أي : وما قتلوه متيقنين لقتله .
الرابع : أنه منصوبٌ بفعلٍ من لفظه حُذِفَ للدلالة عليه ، أي : ما تيقَّنوه يقيناً ، ويكون مؤكِّداً لمضمون الجملةِ المنفيَّة قبله ، وقدَّر أبو البقاء العامل على هذا الوجه مثبتاً ، فقال : « تقديره : تيقَّنوا ذلك يَقِيناً » ، وفيه نظر .
الخامس - ويُنْقَل عن أبي بَكْر بن الأنباريِّ - : أنه منصوبٌ بما بعد « بَلْ » من قوله : « رَفَعَهُ الله » ، وأن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، أي : بَلْ رفعه الله إليه يقيناً ، وهذا قد نَصَّ الخليلُ ، فمَنْ دونه على منعه ، أي : أن « بَلْ » لا يعمل ما بعدها فيما قبلها؛ فينبغي ألا يَصِحَّ عنه ، وقوله : { بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ } رَدٌّ لما ادَّعَوْهُ مِنْ قتله وصلبه ، والضمير في « إلَيْه » عائدٌ على « الله » على حَذْفِ مضاف ، أي : إلى أسمائه ومحلِّ أمره ونهيه .
فصل : إثبات المشبهة للجهة ودفع ذلك
احتَجَّ المُشَبِّهَةُ بقوله - تعالى - : { بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ } في إثْبَات الجِهَةِ .
والجوابُ : أن المُراد الرَّفْعُ إلى موضعٍ لا يَجْرِي فِيهِ حُكْمُ غير الله - تعالى -؛ كقوله تعالى { وإلى الله تُرْجَعُ الأمور } [ آل عمران : 109 ] وقوله - تعالى - : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ } [ النساء : 100 ] ، وكانت الهِجْرَة في ذلك الوَقْت ، إلى المَدِينَةِ .
وقال إبراهيمُ : { إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الصافات : 99 ] .
فصل : دلالة الآية على رفع عيسى عليه السلام
دلت [ هذه ] الآيةُ على رفع عيسى - عليه السلام - إلى السَّمَاءِ ، وكذلك قوله : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } [ آل عمران : 55 ] .
ثم قال : { وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً } ، والمراد بالعِزَّة : كَمَال القُدْرَة ، ومن الحِكْمَة : كمال العلم ، نَبَّه بهذا على أنَّ رَفْعَ عيسى - عليه السلام - إلى السَّموات وإن [ كَانَ ] كالمتَعَذِّر على البَشَرِ ، لَكِنَّه لا بُدَّ فيه من النِّسْبَةِ إلى قُدْرَتِي وحِكْمَتِي؛ كقوله - تعالى - : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [ الإسراء : 1 ] فإنّ الإسْرَاء وإن كان مُتَعذِّراً بالنِّسْبَةِ إلى قُدْرَةِ مُحَمَّدٍ ، إلا أنَّه سهل بالنسْبَة إلى قُدْرة الله - تعالى .
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
لما ذكر فَضَائِح اليَهُود وقبحَ أفْعَالِهِم ، وأنَّهم قَصَدُوا قَتْل عِيسَى عليه الصلاة والسلام ، وأنَّه لم يَحْصُل لهم ذَلِكَ المَقْصُود ، وأنَّ عيسى - عليه السلام - حَصَل له أعْظَمُ المَنَاصِبِ ، بَيَّن أن هؤلاء اليهُود الذين بَالَغُوا في عَدَاوَتِهِ ، لا يَخْرُجُ أحَدٌ مِنْهُم من الدُّنْيَا إلا بَعْدَ أن يُؤمِنَ به ، فقال : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } ، « إنْ » هنا نافيةٌ بمعنى « مَا » ، و « مِنْ أهْلِ » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه صفة لمبتدأ محذوف ، والخبرُ الجملةُ القسمية المحذوفة وجوابها ، والتقدير : وما أحدٌ من أهل الكتاب إلاَّ واللَّهِ ليُؤمِننَّ به ، فهو كقوله : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] ، أي : ما أحدٌ مِنَّا ، وكقوله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] أي : مَا أحَدٌ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُها ، هذا هو الظاهر .
والثاني - وبه قال الزمخشري وأبو البقاء - : أنه في محلِّ الخبر ، قال الزمخشري : « وجملة » لَيُؤْمِنَنَّ به « جملةٌ قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف ، تقديره : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتاب أحَدٌ إلاَّ ليُؤمِنَنَّ بِهِ ، ونحوه : { وما منا إلا له مقام معلوم } { وإن منكم إلا واردها } ، والمعنى : » وما من اليهود أحَدٌ إلاَّ ليُؤمنَنَّ « ، قال أبو حيان : » وهو غلطٌ فاحشٌ؛ إذ زعم أن « لَيُؤْمِنَنَّ بِه » جملة قسمية واقعةٌ صفةً لموصوف محذوف إلى آخره ، وصفة « أحَد » المحذوف إنما الجار والمجرور؛ كما قَدَّرناه ، وأمَّا قوله : « لَيُؤْمِنَنَّ بِه » ، فليستْ صفةً لموصوف ، ولا هي جملة قسمية ، إنما هي جملة جواب القَسَم ، والقسم محذوفٌ ، والقسمُ وجوابُه خبر للمبتدأ ، إذ لا ينتظم من « أحَد » ، والمجرور إسناد؛ لأنه لا يفيد ، وإنما ينتظم الإسنادُ بالجملة القسمية وجوابها ، فذلك هو مَحَطُّ الفائدةِ ، وكذلك أيضاً الخبرُ هو { إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ } ، وكذلك « إِلاَّ وَارِدُهَا » ؛ إذ لا ينتظم مما قبل « إلاَّ » تركيب إسناديٌّ « . [ قال شهاب الدين ] وهذا - كما تَرَى - قد أساء العبارة في حق الزمخشريِّ؛ بما زعم أنه غلط ، وهو صحيح مستقيم ، وليت شعري كيف لا ينتظم الإسنادُ من » أحَد « الموصوفِ بالجملة التي بعده ، ومن الجارِّ قبله؟ ونظيرُه أن تقول : » مَا فِي الدَّارِ رَجُلٌ إلاَّ صَالِحٌ « فكما أن » فِي الدَّار « خبر مقدَّم ، و » رَجُلٌ « مبتدأ مؤخر ، و » إلاَّ صَالِحٌ « صفته ، وهو كلامٌ مفيد مستقيمٌ ، فكذلك هذا ، غايةُ ما في الباب أنَّ » إلاَّ « دخلت على الصفة؛ لتفيدَ الحصْر ، وأما ردُّه عليه حيث قال : جملةٌ قسميَّة ، وإنما هي جوابُ القسَم ، فلا يَحْتاجُ إلى الاعتذار عنه ، ويكفيه مثلُ هذه الاعتراضاتِ .
واللام في « ليُؤمِنَنَّ » جوابٌ قسمٍ محذوف ، كما تقدَّم . وقال أبو البقاء : « ليُؤمِنَنَّ جواب قسم محذوفٍ ، وقيل : أكَّدَ بها في غير القسَم؛ كما جاء في النفي والاستفهام » ، فقوله : « وقيل . . . إلى آخره » إنما يستقيم ذلك ، إذا أعَدْنا الخلاف إلى نونِ التوكيد؛ لأنَّ نون التوكيد قد عُهِد التأكيدُ بها في الاستفهام باطِّرادٍ ، وفي النفي على خلاف فيه ، وأما التأكيدُ بلام الابتداء في النفي والاستفهام ، فلم يُعْهَد ألبتة ، وقال أيضاً قبل ذلك : وما مِنْ أَهْلِ الكتاب أحدٌ ، وقيل : المحذوفُ « مَنْ » وقد مرَّ نظيره ، إلا أنَّ تقديرَ « مَنْ » هنا بعيدٌ ، لأن الاستثناء يكون بعد تمام الاسْمِ ، و « مَنْ » الموصولة والموصوفةُ غيرُ تامَّة « ، يعني أن بعضهم جعل ذلك المحذوفَ لفظَ » مَنْ « ، فيقدِّر : وإنْ مِنْ أهْلِ مَنْ إلاَّ ليُؤمِنَنَّ ، فجعلَ موضع » أحَد « لفظ » مَنْ « ، وقوله : » وقَدْ مرَّ نظيره « ، يعني قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله } [ آل عمران : 199 ] ومعنى التنظير فيه أنه قد صرَّح بلفظ » من « المقدَّرةِ ههنا .
وقرأ أبَيٌّ : » ليُؤمِنُنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِمْ « بضم النون الأولى مراعاة لمعنى » أحَد « المحذوف ، وهو وإن كان لفظه مفرداً ، فمعناه جمع ، والضمير في » به « لعيسى - عليه السلام - ، وقيل : لله تعالى ، وقيل : لمحمَّد - عليه السلام - ، وفي » مَوْته « لعيسى ، ويُروى في التفسير؛ أنه حين ينزل إلى الأرض يُؤمِنُ به كلُّ أحدٍ ، حتى تصيرَ المِلّةُ كلُّها إسلامية وهو قَوْلُ قَتادَة ، وابن زَيْدٍ وغيرِهِما ، وهو اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ .
وقيل : يَعُود على » أحَد « المُقدَّر ، أي : لا يَمُوت كِتَابِيٌّ حتى يُؤمن بعيسى قبل مَوْتِهِ عند المُعَايَنَةِ حين لا يَنْفَعُهُ .
ونُقِل عن ابن عَبَّاسٍ ذلك ، فقال له عِكْرِمة ، أفَرأيْتَ إن خَرَّ بَيْتٌ أو احْتَرَق أو أكَلَهُ سَبُعٌ؟ قال : لا يمُوتُ حَتَّى يُحَرِّكَ بها شَفَتَيْهِ ، أي : بالإيمَانِ بعيسى .
وروى شَهْر بن حَوْشب [ عن الحَجَّاج؛ أنه ] قال يا شهر آية في كتاب الله ما قَرأتُهَا إلاَّ في نفسي مِنْهَا شَيْءٌ ، يعني : هذه الآيَةَ؛ فإني أضْرِبُ عُنُقَ اليَهُودِي ، ولا أسْمَعُ منه ذلِك ، فقُلْتُ : إن اليَهُودِي إذا حَضَرَهُ المَوْتُ ضَرَبَت الملائِكَة وَجْهَهُ وَدبُرَهُ ، وقالوا : يا عَدُوَّ اللَّهِ ، أتاك عِيسَى نَبِيّاً فكَذَّبْت [ به ، فيقُولُ : ] آمنْتُ أنه عَبْدُ الله ، فأهْلُ الكِتَابِ [ يؤمِنُون ] به ، ولكن حَيْثُ لا يَنْفَعُهُم ذَلِك الإيمانُ ، فاسْتَوَى الحَجَّاج جَالِساً فقال : مِمَّن نَقَلْتَ هذا؟ فقال : حَدَّثَنِي [ به ] محمد بن عَلِيّ ابن الحَنفِيَّة ، فأخذ يَنْكُتُ في الأرْضِ بِقَضيبٍ ، ثم قال : أخَذْتهَا من عَيْنٍ صَافِيَةٍ .
وقرأ الفَيَّاض بن غزوان » وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب « بتشديد » إنَّ « ، وهي قِرَاءةٌ مَرْدُودَةٌ لإشْكَالِهَا .
فصل
رَوَى أبُو هُرَيْرَة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال : « يُوشِكُ أنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابن مَرْيَمَ حَكَماً عَدْلاً ، يَكْسِرُ الصَّلِيبَ ، ويَقْتُلُ الخِنْزِيرَ ، ويَضَعُ الجزْيَةَ ، ويَفِيضُ المَالُ حَتَّى لا يَقْبَلُه أحَدٌ ، وتميلُ في زَمَانِهِ المِلَلُ كُلُّهَا إلى الإسْلامِ ، ويَقْتل الدَّجَّال ، فيمْكُثُ في الأرْضِ أرْبَعين سَنَةً ، ثم يُتَوَفَّى فيُصَلّى عليه المُسْلِمُون » وقال أبو هريرة اقْرَءُوا إن شِئْتُم : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } أي : قبل مَوْتِ عيسى ابن مريم - [ عليه السلام ] - ثم ليعيدها أبو هُرَيْرَة ثلاث مَرَّاتٍ .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : والفَائِدَةُ في إخْبَارِ الله - تعالى - بإيمانِهِم بعِيسَى قَبْلَ مَوْتِهِم - أنَّهُم متى عَلِمُوا أنه لا بُدَّ لهم من الإيمَانِ به لا مَحَالَة ، مع كَوْنِه لا يَنْفَعُهُم الإيمانُ في ذَلِك الوَقْتِ ، فلا يُؤمِنُوا به حَالَ ما يَنْفَعُهُم ذلك الإيمَانُ .
قوله سبحانه { وَيَوْمَ القيامة } العالم فيه « شَهِيداً » وفيه دليلٌ على جوازِ تقدُّم خبر « كان » عليها؛ لأنَّ تقديمَ المعمولِ يُؤذِن بتقديمِ العامل ، وأجاز أبو البقاء أن يكون منصوباً ب « يكُون » وهذا على رأي مَنْ يجيز ل « كَان » أن تعمل في الظرفِ وشبهه ، والضميرُ في « يكُون » لعيسى يعني : يكُون عيسى عليهم شَهيداً : أنه قد بَلَّغَهُم رِسَالة رَبِّه ، وأقَرَّ بالعُبُودِيَّة على نفْسِهِ مُخْبِراً عنهم { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } [ المائدة : 117 ] وكل نَبِيٍّ شَاهِدٌ على أمَّتِهِ ، وقيل : الضَّميرُ في « يكُونُ » لمحمَّدٍ - عليه السلام - .
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
قوله - تعالى - : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ } الآية لمَّا ذكر قَبَائِح أفْعَالِ اليَهُودِ ، ذكر عَقِيبَهُ تشديدَهُ - تعالى - عليْهِم في الدُّنْيَا والآخِرَةِ ، أما تَشْدِيدُه في الدُّنْيَا ، فهو تَحْرِيمُ الطَّيِّبَاتِ عليهم وكانتْ مُحَلَّلَةً لهم قَبْل ذلك؛ لقوله - تعالى - : { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } [ الأنعام : 146 ] إلى قوله [ - تعالى - ] : { ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ } [ الأنعام : 146 ] وقيل : لمحمد عليه السلام .
قوله سبحانه : « فَبِظُلمٍ » : هذا الجارُّ متعلِّق ب « حَرَّمْنَا » والباء سببية ، وإنما قُدِّم على عاملِه؛ تنبيهاً على قبح سبب التحريمِ ، وقد تقدَّم أنَّ قوله : « فَبِظُلْمٍ » بدلٌ من قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ } ، وتقدَّم الردُّ على قائله أيضاً فأغْنَى عن إعادته ، و « مِنَ الذِينَ » صفة ل « ظُلْم » أي : ظُلْمٍ صادر عن الذين هادُوا ، وقيل : ثَمَّ صفةٌ للظلم محذوفةٌ للعلْمِ بها ، أي : فبظُلْمٍ أيِّ ظُلْمٍ ، أو فبِظُلْمٍ عَظِيمٍ؛ كقوله : [ الطويل ]
1900- فَلاَ وَأبِي الطَّيْرِ المُرِبَّةِ بِالضُّحَى ... عَلَى خَالِدٍ لَقَدْ وَقَعْتِ عَلَى لَحْمِ
أي : لَحْمٍ عظيمٍ .
قوله جلَّ وعلا : « أُحِلَّتْ لَهُمْ » هذه الجملةُ صفةٌ ل « طَيِّبَات » فمحلُّها نصبٌ ، ومعنى وصفها بذلك ، أي : بما كانَتْ عليه مِنَ الحِلِّ ، ويوضِّحه قراءة ابن عباس : « كانَتْ أُحِلَّتْ لَهُم » والمُرَادُ من ظُلْمِهِم : ما تقدَّم ذِكْرُه من نَقْضِ الميثاقِ ، وكُفْرِهِم بآيَاتِ اللَّهِ ، وبُهْتَانِهِم على مَرْيَمَ ، وقولهم : « إنا قتلنا المسيح » { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ } وهو ما ذُكِرَ في سُورَةِ الأنْعَامِ [ الأنعام : 146 ] « وبصَدِّهِمْ » وبصرْفِهِم أنْفُسهم وغيرهم { عَن سَبِيلِ الله } عن دين اللَّهِ .
قوله : « كثيراً » فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه مفعول به ، أي : بصدِّهم ناساً ، أو فريقاً ، أو جمعاً كثيراً ، وقيل : نصبُه على المصدرية ، أي : صَدّاً كثيراً ، وقيل : على ظرفية الزمان ، أي : زماناً كثيراً ، والأوَّل أوْلَى؛ لأنَّ المصادر بَعْدها ناصبةٌ لمفاعليها ، فيجري البابُ على سَنَنٍ واحدٍ ، وإنما أعيدتِ الباءُ في قوله : « وَبِصَدِّهِمْ » ولم تَعُدْ في قوله : « وأخْذِهِمْ » وما بعده؛ لأنه قد فُصِلَ بين المعطوف والمعطوف عليه بما ليس معمولاً للمعطوف عليه ، بل بالعامل فيه وهو « حَرَّمْنَا » وما تعلَّق به ، فلمَّا بَعُد المعطوف من المعطوف عليه بالفصْلِ بما ليس معمولاً للمعطُوف عليه ، أعيدت الباءُ لذلك ، وأمَّا ما بعده ، فلم يُفْصَلْ فيه إلا بما هو معمولٌ للمعطُوفِ عليه وهو « الرِّبَا » . { وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } في التوراة .
والجملةُ من قوله تعالى : { وَقَدْ نُهُواْ عَنْه } : في محلِّ نصب؛ لأنها حاليةٌ ، ونظيرُ ذلك في إعادة الحرفِ وعدمِ إعادته ما تقدَّم في قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ } [ الآية 155 ] الآية . [ وبِالبَاطِلِ « يجوز أن يتعلق ب » أكْلِهِم « على أنها سببيةٌ أو بمحذوفٍ على أنها حال من » همْ « في » أكْلِهِمْ « ، أي : ملتبسين بالباطل .
ج24.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وأمَّا التَّشْدِيدُ في الآخِرَة ، وهو قوله : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } لما وصَفَ طَريقَةَ الكُفَّارِ والجُهَّال من اليَهُودِ ، وصَفَ طَريقَة المُؤمِنِين المُحِقِّين مِنْهُم ، فقال : { لكن الراسخون فِي العلم } جيء هنا ب « لَكِنْ » لأنها بين نقيضين ، وهما الكفارُ والمؤمنون ، و « الرَّاسِخُونَ » مبتدأ ، وفي الخبر احتمالان :
أظهرهما : أنه « يُؤمِنُونَ » .
والثاني : أنه الجملة من قوله : « أولَئِكَ سنؤتيهم » ، و « فِي العِلْمِ » متعلقٌ ب « الرَّاسِخُونَ » . و « منْهُمْ » متعلِّق بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في « الرَّاسِخُونَ » .
فصل
مَعْنَى الكلام : لَيْسَ أهْلُ الكِتَابِ كُلُّهُم بهذه الصِّفَةِ ، لكنِ الرَّاسِخُونَ المُبَالِغُون في العِلْمِ مِنْهُم أولُو البَصَائِر ، وأراد به : الذين أسْلَمُوا؛ كعَبْد الله بن سلام وأصْحَابه .
قوله تعالى : { والمؤمنون } عطفٌ على « الرَّاسِخُونَ » ، وفي خبره الوجهان المذكوران في خبر « الرَّاسِخُونَ » ولكن إذا جَعَلْنا الخبرَ « أولَئِكَ سَنُؤتِيهِمْ » ، فيكون يؤمنون ما محلُّه؟ والذي يَظْهر أنه جملة اعتراض؛ لأنَّ فيه تأكيداً وتسديداً للكلام ، ويكون الضَّمير في « يُؤمِنُونَ » يعود على « الرَّاسِخُونَ » و « المُؤمِنُونَ » جميعاً ، ويجوز أن تكون حالاً منهما؛ وحينئذٍ لا يُقال : إنها حال مؤكِّدة لتقدُّم عاملٍ مشاركٍ لها لفظاً؛ لأنَّ الإيمانَ فيها مقيَّدٌ ، والإيمانُ الأولُ مُطْلَقٌ ، فصار فيها فائدةٌ ، لم تكُنْ في عاملها ، وقد يُقَالُ : إنها مؤكِّدة بالنسبةِ لقوله : « يُؤمِنُونَ » ، وغيرُ مؤكِّدة بالنسبة لقوله : « الرَّاسِخُونَ » ، والمراد ب « المُؤمِنُونَ » المهاجُرونَ والأنْصار .
قوله سبحانه : « والمُقِيمينَ الصَّلاةَ » قرأ الجمهورِ بالياء ، وقرأ جماعة كثيرة : « والمُقِيمُونَ » بالواو؛ منهم ابن جُبَيْر وأبو عَمْرو بن العلاء في رواية يونُسَ وهارُونَ عنه ، ومالك بن دينار وعصمة عن الأعمش ، وعمرو بن عبيد ، والجَحْدَرِي وعيسى بن عُمَر وخلائق . فأما قراءةُ الياء ، فقد اضطربَتْ فيها أقوالُ النحاة ، وفيها ستةُ أقوال :
أظهرها - وعزاه مكيٌّ لسيبويه ، وأبو البقاء ، للبصريين - : أنه منصوبٌ على القَطْع ، يعني المفيد للمدْحِ؛ كما في قطع النعوتِ ، وهذا القطعُ في قوله « والمُؤتُونَ الزَّكَاةَ » على ما سيأتي هو لبيانِ فَضْلِها أيضاً ، لكنْ على هذا الوجه يجبُ أن يكونَ الخبرُ قوله : « يُؤمِنُونَ » ، ولا يجوز قوله « أولَئِكَ سنُؤتِيهِمْ » ، لأن القطع إنما يكون بعد تمامِ الكلام ، قال مكي : « ومَنْ جَعَلَ نَصْبَ » المُقِيمِينَ « على المدح جعل خبرَ » الرَّاسِخِينَ « : » يُؤمِنُونَ « ، فإنْ جَعَل الخبر » أولَئِكَ سنُؤتِيهِمْ « لم يجز نصب » المُقِيمِينَ « على المدح ، لأنه لا يكون إلا بعد تمام الكلام » .
وقال أبو حيان : « ومن جَعَلَ الخبرَ : أولَئِكَ سَنُؤتيهِمْ فقوله ضعيفٌ » قال شهاب الدين : وهذا غيرُ لازمٍ؛ لأن هذا القائل لا يَجْعَلُ نصب « المُقِيمينَ » حينئذٍ منصوباً على القطع ، لكنه ضعيفٌ بالنسبةِ إلى أنه ارْتَكَبَ وجْهاً ضعيفاً في تخريج « المقيمين » كما سيأتي . وحكى ابنُ عطية عن قوم مَنْعَ نصبه على القَطْع من أجلِ حرف العطف ، والقطعُ لا يكونُ في العطف ، إنما ذلك في النعوت ، ولما استدلَّ الناسُ بقول الخرنِقِ : [ الكامل ]
1901- لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الذينَ هُمُ ... سُمُّ العُدَاةِ وآفَةُ الْجُزْر
النَّازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ ... والطَّيِّبُونَ مَعَاقِدَ الأزْرِ
على جواز القَطْع ، فرَّق هذا القَائِلُ بأنَّ البيت لا عَطْفَ فيه؛ لأنها قطعت « النَّازِلِينَ » فنصبته ، و « الطَّيِّبُونَ » فرفعتْه عن قولِها « قَوْمِي » ، وهذا الفرقُ لا أثرَ له؛ لأنه في غير هذا البيت ثَبَت القَطْع مع حرف العطف ، أنشد سيبويه : [ المتقارب ]
1902- وَيَأوي إلَى نِسْوَةٍ عُطَّلٍ ... وَشُعْثاً مَرَاضِيعَ مِثْلَ السَّعَالِي
فنصب « شُعْثاً » وهو معطوف .
الثاني : أن يكون معطوفاً على الضمير في « مِنْهُمْ » ، أي : لكن الراسخُونَ في العلْمِ منهم ، ومن المقيمين الصلاة .
الثالث : أن يكون معطوفاً على الكاف في « إلَيْكَ » ، أي : يؤمنون بما أُنزل إليك ، وإلى المقيمين الصَّلاة ، وهم الأنبياء .
الرابع : أن يكون معطوفاً على « مَا » في « بِمَا أُنزِلَ » ، أي : يؤمنون بما أُنْزِلَ إلى محمَّد صلى الله عليه وسلم وبالمقِيمينَ ، ويُعْزَى هذا للكسائيِّ ، واختلفت عبارة هؤلاء في « المُقِيمينَ » ، فقيل : هم الملائكةُ ، قال مكي : ويؤمنون بالملائكة الذين صفتُهم إقامةُ الصلاة؛ كقوله : { يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } [ الأنبياء : 20 ] ، وقيل : هم الأنبياء ، وقيل : هم المسلِمُون ، ويكون على حَذْفِ مضافٍ ، أي : وبدين المقيمين :
الخامس : أن يكون معطوفاً على الكاف في « قَبْلِك » أي : ومِنْ قَبْلِ المُقيمينَ ، ويعني بهم الأنبياءَ أيضاً .
السادس : أن يكون معطوفاً على نفسِ الظَّرْفِ ، ويكون على حَذْفِ مضاف ، أي : ومن قبل المقيمين ، فحُذِف المضافُ ، وأُقيمَ المضافُ إليه مُقَامَهُ ، فهذا نهايةُ القولِ في تخريجِ هذه القراءةِ .
وقد زَعَمَ قومٌ أنها لَحْنٌ ، ونقلوا عن عائشة وأبَانِ بْنِ عثمانَ أنها خطأٌ من جهةِ غلَطِ كاتبِ المصْحَفِ .
قالوا : وحِكِيَ عن عَائِشَةَ وأبان بن عُثْمَان؛ أنه من غَلَط الكَاتِب ، وهذا يعني أنْ يَكْتُبَ : « والمُقِيمُون الصَّلاة » ، وكذلك في سُورة « المائِدة » : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون } [ المائدة : 69 ] ، وقوله : { إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ } [ طه : 63 ] ، قالوا : هذا خطأ من الكَاتِبِ .
وقال عُثْمَان : « إن في المُصْحَفِ لَحْناً سَتُقِيمُه العَرَب بألْسِنَتِها » فقيل له : إلا تُغَيِّرُه ، فقال : دَعُوه؛ فإنَّه لا يُحِلُّ حَرَاماً ، ولا يُحَرِّم حلالاً .
وقالوا : وأيضاً فهي في مصحْفِ ابن مسعودٍ بالواو فقط نقله الفراء ، وفي مصحفِ أبَيٍّ كذلك وهي قراءة مالك بن دينار والجَحْدَرِي وعيسى الثقفيِّ ، وهذا لا يَصِحُّ عن عائشة ولا أبَانَ ، وما أحْسَنَ قول الزمخشريِّ رحمه الله : « ولا يُلتفتُ إلى ما زعموا من وقوعه لَحْناً في خط المصْحَف ، وربما التفت إليه مَنْ لم ينظر في الكتاب ، ومَنْ لم يعرف مذاهبَ العَرَبِ وما لهم في النصْبِ على الاختصاص من الافتنانِ ، وغَبِيَ عليه أنَّ السابقين الأولين الذين مَثَلهُم في التوراة ومثلُهم في الإنجيل ، كانوا أبعدَ همةً في الغَيْرَةِ عن الإسلام وذَبِّ المَطَاعِن عنه من أن يقولوا ثُلْمَةً في كتاب الله؛ ليسُدَّها من بَعْدَهم ، وخَرْقاً يَرْفُوهُ مَنْ يلحَقُ بهم » . وأمَّا قراءةُ الرفْعِ ، فواضحةٌ .
قوله تعالى : { والمؤتون } فيه سبعةُ أوجهٍ أيضاً :
أظهرها : أنه على إضمار مبتدأ ، ويكون من باب المدحِ المذكورِ في النصب وهذا أوَّل الأوجه .
الثاني : أنه معطوفٌ على « الرَّاسِخُون » ، وفي هذا ضَعْفٌ؛ لأنه إذا قُطِعَ التابعُ عن متبوعه ، لم يَجُزْ أن يعود ما بعده إلى إعراب المتبوعِ ، فلا يُقالُ : « مَرَرْتُ بِزَيْدٍ العَاقِلَ الفَاضلِ » بنصب « العَاقِل » ، وجر « الفاضل » ، فكذلك هذا .
الثالث : أنه عطفٌ على الضمير المستكنِّ في « الرَّاسِخُونَ » ، وجاز ذلك للفصل .
الرابع : أنه معطوفٌ على الضمير في « المُؤمِنُونَ » .
الخامس : أنه معطوفٌ على الضمير في « يُؤمِنُون » .
السادس : أنه معطوفٌ على « المُؤمِنُونَ » .
السابع : أنه مبتدأ وخبره « أولئك سَنُؤتيهمْ » ، فيكون « أولئك » مبتدأ ، و « سُنؤتِيهِمْ » خبره ، والجملةُ خبرُ الأوَّلِ ، ويجوزُ في « أولَئِكَ » أن ينتصِبَ بفعلٍ محذوفٍ يفسِّرهُ ما بعده ، فيكون من باب الاشتغال ، إلا أنَّ هذا الوجه مرجوحٌ من جهةِ أنَّ « زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ » بالرفع أجودُ من نصبه؛ لأنه لا يُحْوِجُ إلى إضمار؛ ولأنَّ لنا خلافاً في تقديم معمول الفعل المقترن بحرف التنْفِيسِ في نحو « سأضْرِبُ زَيْداً » منع بعضهم « زَيْداً سَأضْرِبُ » ، وشرطُ الاشتغالِ جوازُ تسلُّط العامل على ما قبله ، فالأولى أن نَحْمِلَهُ على ما لا خلاف فيه ، وقرأ حمزة : « سَيُؤتيهِمْ » بالياء؛ مراعاةً للظاهر في قوله : « والمُؤمِنُونَ بالله » ، والباقون بالنون على الالتفات تعظيماً ، ولمناسبةِ قوله : « وأعْتَدْنَا » ،
فصل
والعُلَمَاءُ على ثلاثةِ أقسام :
[ الأوَّل ] : علماءٌ بأحْكَام اللَّهِ فقط .
[ الثاني ] : عُلماءٌ بِذاتِ اللَّه وصفاته فقط .
[ الثالث ] : عُلَمَاء بأحْكام اللَّه ، وبِذاتِ اللَّهِ .
والله [ - تعالى - ] وصف العُلَمَاءَ أوَّلاً : بِكَوْنِهِم رَاسخين في العِلْمِ ، ثم شَرَح ذلك مُبيِّناً :
أولاً : كَوْنهم عالِمِين بأحْكَامِ الله ، وعَامِلِين بِهَا .
أما عِلْمُهُم بأحْكَامِ الله ، فهو قوله [ - تعالى - ] : { والمؤمنون يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } .
وأما عَمَلُهُم بِهَا ، فهو قوله : { والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة } وخصَّهُمَا بالذِّكْر؛ لِكونهما أشْرَف الطَّاعَاتِ البَدَنِيَّة والماليَّة .
ولمَّا شرح كَوْنَهُم عالِمِينَ بالأحْكَامِ وعَامِلِين بها ، شَرَح بَعْدَهُ كونَهُم عالمين بالله .
وأشرف المعارف العلم بالمبدأ ، والمعاد؛ فالعلم بالمَبْدَأ قوله - تعالى - : { والمؤمنون بالله } ، والعلم بالمعاد قوله : { واليوم الآخر } .
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
لما حَكَى أن اليَهُود يَسْألُون الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أنْ يُنَزِّل عَلَيْهِم كِتَاباً من السَّمَاءِ؛ وذكر - تعالى - بَعْدَهُ أنَّهُم لا يَطْلُبُون ذَلِك اسْتِرشاداً ، ولكن عِناداً ، وحَكَى أنْواع فَضَائِحِهم وقَبَائِحِهم ، فلما وصل إلى هذا المَقَامِ ، شرع الآن في الجواب عن تلك الشُّبْهَة؛ فقال : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ } . والمَعْنَى : أنّا تَوافَقْنَا على نُبُوَّة نُوحٍ وإبراهيمَ وإسماعيل وجميع المَذْكُورين ، على أنَّ الله - تعالى - أوحَى إليهم ، ولا طَريقَ إلى العِلْم بكَوْنِهِم أنْبِيَاء الله وَرُسُلِهِ إلا المُعْجِزَاتِ ، ولكُلِّ واحدٍ مِنْهُم نوْعٌ من المُعْجِزَة مُعَيَّنَة ، وأما أنْزلَ الله على كُلِّ وَاحِدٍ من هؤلاء المذكورين [ كِتَاباً بتَمَامِهِ؛ مثل ما أنْزَلَ على مُوسَى ، فلما لم يَكُن عَدَمُ إنْزَالِ الكِتَابِ على هؤلاء ] دفْعَةً واحِدَةً قَادِحاً في نُبُوَّتِهِم ، بل كفى في ظُهُور نُبُوَّتِهم نَوْعٌ واحدٌ من أنْوَاعِ المُعْجِزَاتِ ، عَلِمْنَا أن هذه الشُّبْهَة زَائِلَة ، وأن إصْرَار اليَهُود على طَلَبِ المُعْجِزَةِ باطِلٌ؛ لأن إثْبات المدْلُولِ يَتَوَقَّفُ على إثبَاتِ الدَّلِيل ، فإذا حَصَل الدَّليلُ وتَمَّ ، فالمُطَالَبَةُ بِدَلِيل آخر يَكُون تَعَنُّتاً ولَجَاجاً .
قوله سبحانه : { كَمَآ أَوْحَيْنَآ } : الكافُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : إيحاءً مثْلَ إيحَائِنَا ، أو على أنه حالٌ من ذلك المصدر المحذوف المقدَّرِ معرَّفاً ، أي : أوحينَاهُ ، أي : الإيحاءَ حال كونه مُشْبِهاً لإيحَائِنَا إلى مَنْ ذكر ، وهذا مذهبُ سيبويه ، وقد تقدَّم تحقيقه ، وفي « ما » وجهان : أن تكون مصدريةً؛ فلا تفتقر إلى عائدٍ على الصحيح ، وأن تكون بمعنى « الذي » ، فيكون العائدُ محذوفاً ، أي : كالذي أوحيناهُ إلى نوح ، و « مِنْ بعْدِهِ » متعلقٌ ب « أوْحَيْنَا » ، ولا يجوز أن تكون « مِنْ » للتبيين؛ لأنَّ الحالَ خبرٌ في المعنى ، ولا يُخْبَرُ بظرفِ الزمانِ عن الجثَّة إلا بتأويلٍ ، وأجاز أبو البقاء أن يتعلَّق بنفس « النَّبيِّينَ » ، يعني أنه في معنى الفعل؛ كأنه قيل : « وَالَّذِينَ تَنَبَّئُوا من بَعْدِهِ » وهو معنى حَسَنٌ .
فصل لماذا ذكر نوح - عليه السلام - أولاً
قالوا : إنَّما بَدَأ - تعالى - بذِكْرِ نُوحٍ؛ لأنه كان أبا البَشَرِ مِثْل آدم - عليه السلام - ، قال : { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين } [ الصافات : 77 ] ؛ ولأنَّه أول نَبِيٍّ شرحَ الله على لِسَانِه الأحْكَام ، وأوَّل نَذِيرٍ على الشِّرْك ، وأوَّل من عُذِّبَتْ أمَّته لردِّهم دَعْوَتَه ، وأهْلِك أهْلُ الأرْضِ بدُعَائِهِ ، وكان أطْوَل الأنْبِيَاءِ عُمُراً ، وجُعِلَت مُعْجِزَتُه في نَفْسِهِ ، لأنَّه عمر ألْفَ سَنَةٍ ، فلم تَنْقُص له سِنٌّ ، ولم تَشِبْ له شَعْرَةٌ ، ولم تَنْتقصْ له قُوَّة ، ولم يَصْبِر أحَدٌ على أذَى قَوْمِهِ مِثْل ما صَبَر هُو على طُولِ عُمُرِه .
فصل
قوله [ - تعالى - ] { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ } ثم خصَّ بعض النَّبِييِّن بالذِّكْرِ؛ لكونهم أفْضَلَ من غَيْرهم؛ كقوله :
{ وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] .
واعْلَم أنَّه ذكر في هذه الآية اثْنَا عشرة نَبِيًّا ، ولَمْ يذكُر مُوسَى مَعَهُم؛ لأن اليَهُود قالُوا : إنْ كُنْتَ يا مُحَمَّد نَبِيًّا [ حَقًّا ] ، فأتِنَا بكتابٍ من السَّماءِ دَفْعَةً واحِدَةً؛ كما أتى موسى - عليه الصلاة والسلام - بالتَّوْرَاةِ دفعةً واحدةً؛ فأجَابَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَة بأنَّ هؤلاء الأنْبِيَاءِ الاثْنَي عشر ، كانوا أنْبِيَاءَ وَرسُلاً ، مع أنَّ واحداً منهم لم يأتِ بكتاب مثل التَّوْراةِ دفْعَةً واحِدَةً .
وإذَا كَانَ المَقْصُود من تعديده هؤلاءِ الأنْبِيَاء هذا المَعْنَى ، لم يجز ذِكْر مُوسَى مَعَهُم .
وفي « يُونُس » ستُّ لغاتٍ؛ أفصحُها : واوٌ خالصةٌ ، ونون مضمومة ، وهي لغةُ الحجاز ، وحُكِيَ كسرُ النونِ بعد الواو ، وبها قرأ نافع في رواية حبَّان ، وحُكِي أيضاً فتحها منقولَتَيْنِ من الفعل المبنيِّ للفاعل أو للمفعول ، جعل هذا الاسم مشتقاً من الأنْسِ ، وإنما أبُدلَتِ الهمزةُ واواً؛ لسكونها وانضمام ما قبلها؛ ويدلُّ على ذلك مجيئه بالهمزةِ على الأصل في بعض اللغات؛ كما سيأتي ، وفيه نظرٌ ، لأن هذا الاسم أعجميٌّ ، وحُكِي تثليث النون مع همز الواو؛ كأنهم قلبوا الواوَ همزةً؛ لانضمام ما قبلها؛ نحو : [ الوافر ]
1903- أحَبُّ المُؤْقِدِينَ إليَّ مُؤْسَى .. . .
قال شهاب الدين : وقد تقدَّم تقريرُه ، وحُكِيَ أنَّ ضمَّ النون مع الهمز لغةُ بعض بني أسدٍ ، إلا أني لا أعْلَمُ أنه قُرِئَ بشيء من لغات الهمز ، هذا إذا قلنا : إن هذا الاسمَ ليْسَ منقولاً من فِعْل مبنيٍّ للفاعل أو للمفعول حالةَ كَسْر النون أو فتحها ، أمَّا إذا قلنا بذلك ، فالهمزةُ أصليةٌ غيرُ منقلبةٍ من واو؛ لأنه مشتق من الأنس ، وأمَّا مع ضمِّ النونِ ، فينبغي أن يُقال بأن الهمزة بدلٌ من الواو؛ لانتفاء الفعلية مع ضم النون .
قوله تعالى : { زَبُوراً } قرأ الجمهورُ بفتح الزاي ، وحمزة بضَمِّها ، وفيه ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أنه جمعُ « زَبْرٍ » قال الزمخشريُّ : جمع « زَبْرٍ » ، وهو الكتابُ ، ولم يَذْكر غيره ، يعني أنه في الأصْل مصدرٌ على فعلٍ ، ثم جُمِعَ على فُعُولٍ ، نحو : فَلْسٍ وفُلُوسٍ ، وقَلْسٍ وقُلُوسٍ ، وهذا القول سبقه إليه أبو علي الفارسيُّ في أحد التخريجَيْنِ عنه ، قال أبو عَلِيٍّ : « ويحتمل أن يكون جمع زَبْرٍ وقع على المَزْبُور ، كما قالوا : ضَرْبُ الأميرِ ، ونَسْجُ اليَمَنِ فصار اسماً ، ثم جُمِعَ على زُبُور كشُهُود وشهد؛ كما سُمِّي المكتوبُ كِتَاباً » ، يعني أبو عليٍّ؛ أنه مصدرٌ واقعٌ موقع المفعول به؛ كما مثَّله .
والثاني : أنه جمع « زَبُورٍ » في قراءة العامة ، ولكنه على حَذْفِ الزوائد ، يعني حُذِفت الواوُ منه ، فصار اللفظ : زَبُر ، وهذا التخريجُ الثاني لأبي عليٍّ ، قال أبو عليٍّ : « كما قالوا : ظَرِيفٌ وظُرُوفٌ ، وكَرَوَان وكِرْوان ، وَوَرَشَان ووِرْشَان على تقدير حذف الياء والألف » ، وهذا لا بأس به؛ فإنَّ التكسير والتصغير يَجْريان غالباً مجرى واحداً ، وقد رأيناهُمْ يُصَغِّرونَ بحذفِ الزوائد نحو : « زُهَيْرٍ وحُمَيْدٍ » في أزْهَرَ ومَحْمُودٍ ، ويسميه النحويون « تصْغير التَّرخيم » ، فكذلك التكسيرُ .
الثالث : أنه اسمٌ مفردٌ ، وهو مصدرٌ جاء على فُعُول؛ كالدُّخُول ، والقُعُود ، والجُلُوس ، قاله أبو البقاء وغيره ، وفيه نظرٌ؛ من حيث إن الفُعُولَ يكون مصدراً للازم ، ولا يكون للمتعدِّي إلا في ألفاظ محفوظةٍ ، نحو : اللُّزُومِ والنُّهُوكِ ، وزَبَرَ - كما ترى - متعدٍّ ، فيضعفُ جَعْلُ الفُعُولِ مصدراً له .
قال أهل اللُّغَة : الزَّبُور الكِتَاب ، وكُلُّ كِتَاب زَبُور ، وهُو « فَعُولٌ » بمعنى « مَفْعُول » ؛ كالرَّسُولِ والرَّكُوبِ والحَلُوب ، وأصْلُه من زَبَرْتُ بمعنى كَتَبْتُ ، وقد تقدَّم مَعْنَى هذه المادّة في آل عمران [ آية 184 ] .
فصل في معنى الآية
معنى { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } أي : صُحُفاً وكُتُباً مَزْبُورَة ، أي : مَكْتُوبَة ، وكان فيها التَّحْمِيدُ والتَّمْجِيدُ والثَّناءُ على اللَّهِ تعالى .
قال القُرْطُبيُّ - رحمه الله - : الزَّبُورُ كِتَابُ داود - عليه السلام - مائة وخمسين سُورة ، لَيْسَ فيها حُكْمٌ ، ولا حَلالٌ ، ولا حَرَامٌ ، وإنَّما هي حِكمٌ وموَاعِظٌ ، والأصل في الزَّبْرِ التَّوْثِيقُ؛ فَيُقَال : بِئْرٌ مَزْبُورَة ، أي : مَطْوِيَّةٌ بالحِجَارَةِ ، والكِتَاب يُسَمَّى زَبُوراً؛ لقوَّة الوثِيقَةِ بِه .
وكان داوُد - عليه الصلاة والسلام - حَسَن الصَّوْتِ؛ وإذا أخَذَ في قِرَاءةِ الزَّبُورِ ، اجتمع عليه الإنْسُ والجنُّ والطَّيْر والوحشُ؛ لحُسْنِ صوتِهِ ، وكان مُتَواضِعاً يأكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ في الخوصِ ، فكان يَصْنَعُ الدُّرُوعَ ، فكان أزْرَقَ العَيْنَيْن ، وجَاءَ في الحديث : « الزُّرْقَةُ في العَيْن يُمْنٌ » .
قوله - عزَّ وجلَّ - : { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ { عَلَيْكَ } ] الجمهور على نَصْب « رُسُلاً » ، وفيه ثلاثةُ أوجُه :
أحدها : أنَّه مَنْصُوب على الاشْتِغَالِ؛ لوجود شُرُوطِهِ ، أيْ : وقَصَصْنا رُسُلاً .
قال القُرْطُبيُّ : ومثلهُ مما أنْشد سِيبَويْهِ : [ المنسرح ]
1904- أصْبَحْتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولا ... أمْلِكُ رَأسَ البَعيرِ إنْ نَفَرَا
والذِّئْبَ أخْشَاهُ إنْ مَرَرْتُ بِهِ ... وَحْدِي وَأخْشَى الرِّيَاحَ والمَطَرَا
أي : وأخْشَى الذِّئْبَ ، والمعنى على حَذْف مضاف ، أي : قصصنَا أخبارَهُمْ ، فيكون « قَدْ قَصَصْنَاهُمْ » لا محلَّ له؛ لأنه مفسِّرٌ لذلك العاملِ المضمَرِ ، ويُقَوِّي هذا الوجه قراءةُ أبَيٍّ : « وَرُسُلٌ » بالرفع في الموضعين ، والنصبُ هنا أرجحُ من الرفع؛ لأن العطف على جملة فعلية ، وهي : { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } .
الثاني : أنه منصوب عطفاً على معنى { أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ } ، أي : أرْسَلْنَا ونَبَّأنَا نُوحاً وَرُسُلاً ، وعلى هذا فيكون « قَدْ قَصَصْنَاهُمْ » في محلَّ نصب؛ لأنه صفةٌ ل « رُسُلاً » .
الثالث : أنه منصوب بإضمار فعلٍ ، أي : وأرسلنا رُسُلاً؛ وذلك أنَّ الآية نزلَتْ رادَّة على اليهود في إنكارهم إرسال الرسل ، وإنزالَ الوحْيٍ ، كما حكى اللَّهُ عنهم في قوله : { مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ }
[ الأنعام : 91 ] والجملةٌ أيضَاً في محل الصفة .
وقيل : نصب على حذف حر الجرِّ ، والتقدير : كما أوحَيْنَا إلى نُوحٍ ، وإلى رُسُل .
وقرأ أبيُّ : « وَرُسُلٌ » بالرفع في الموضعين ، وفيه تخريجان :
أظهرهما : أنه مبتدأ وما بعده خبرُه ، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرةِ؛ لأحدِ شيئين : إمَّا العطفِ؛ كقوله : [ البسيط ]
1905- عِنْدِي اصْطِبَارٌ وشَكْوَى عِنْدَ قَاتِلَتِي ... فَهَلْ بأعْجَبَ مِنْ هَذَا امرُؤٌ سَمِعَا
وإما التفصيل؛ كقوله : [ المتقارب ]
1906- فَأقْبَلْتُ زَحْفاً على الرُّكْبَتَيْنِ ... فَثَوْبٌ لَبِسْتُ وَثَوْبٌ أجُرْ
وكقوله : [ الطويل ]
1907- إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ
والثاني - وإليه ذهب ابن عطيَّة - : أنه ارتفع على خبر ابتداء مضمر ، أي : وهم رُسُلٌ ، وهذا غير واضح ، والجملة بعد « رسُل » على هذا الوجه تكونُ في محلِّ رفع؛ لوقوعها صفةً للنكرة قبلها .
قوله : { وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ } كالأول . وقوله : { وَكَلَّمَ الله موسى } الجمهور على رفع الجلالة ، وهي واضحةٌ . و « تَكْلِيماً » مصدرٌ مؤكد رافعٌ للمجاز .
قال الفرَّاء : العَرَبُ [ تُسَمِّي ] ما يُوصَلُ إلى الإنْسَانِ كلاماً بأيِّ طَرِيقٍ وَصَلَ ولكِنْ لا تُحَقِّقُه بالمصْدَرِ ، فإذا حُقِّق بالمصْدَرِ ، لم يَكُنْ إلاَّ حَقِيقَةَ الكلامِ؛ كالإرادَةِ ، يُقال : أراد فُلانٌ إرادَةً ، يريد : حَقيقةَ الإرَادَة .
قال القُرْطُبِي : « تَكْلِيماً » يقدر مَعْنَاه بالتَّأكِيدِ ، وهذا يَدُلُّ على بُطْلانِ قول من يقُولُ : خَلَق [ اللَّه ] لِنَفْسه كَلاَماً في شَجَرةٍ ، فَسَمِعَهُ مُوسَى - [ عليه السلام ] - ، بل هو الكلامُ الحقيقيُّ الذي يكُون به المُتَكَلِّم مُتَكَلِّماً .
قال النَّحَّاس : وأجمع النَّحوِيُّون على أنَّك إذا أكَّدْت الفِعْلَ بالمصْدَر ، لم يَكُنْ مجازاً ، وأنَّه لا يجُوزُ في قول الشاعر : [ الرجز ]
1908- امْتَلأ الْحَوْضُ وقال قَطْنِي ... أن يقول : قال قولاً فكذا لمَّا قال : « تَكْلِيماً » وجَبَ أن يكُون كلاماً على الحَقِيقَةِ .
ومعنى الآية : أنَّ الله - تعالى - ذكر هَؤلاء الأنْبِيَاء والرُّسُل [ وخص مُوسَى ] بالتكْلِيم مَعَهُ ولم يَلْزَم مِنْ تَخْصِيصِ مُوسَى عليه السلام بهَذَا التَّشْرِيف ، الطَّعْن في نُبُوة الأنْبِيَاء - عليهم السلام - ، فكَذَلِك لا يلزم من إنْزَالُ التَّوْرَاة دفْعَةً واحِدَةً الطَّعْن فيمن أُنْزِل عليه الكِتَاب مُفَصَّلاً .
وقرأ إبْراهيم ويَحْيَى بن وَثَّاب : بنَصْبِ الجلالة .
وقال بعضُهُم : { وَكَلَّمَ الله [ موسى تَكْلِيماً ] } معناه : وجَرَحَ اللَّهُ مُوسَى بأظْفَار المحن ومَخَالِب الفَتن ، وهذا تَفْسِيرٌ بَاطِلٌ .
وقد جاء التأكيد بالمصدر في ترشيح المجاز؛ كقول هند بنت النعمانِ بن بشير في زوْجِها رَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ وزيرِ عبد الملِكِ بْنِ مَرْوَانَ : [ الطويل ]
1909- بَكَى الْخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وأنْكَرَ جِلْدَهُ ... وَعَجَّتْ عَجِيجاً مِنْ جُذَامَ المَطَارِفُ
تقول : إنَّ زوْجَها رَوْحاً قد بكَى ثيابُ الخَزِّ مِنْ لُبْسِهِ؛ لأنه ليس من أهل الخَزِّ ، وكذلك صرخَتْ صُرَاخاً من جُذَام - وهي قبيلة رَوحٍ - ثيابُ المطارِفِ ، تعني : أنهم ليسوا من أهل تلك الثياب ، فقولها : « عَجَّتِ المَطَارِفُ » مجازٌ؛ لأن الثياب لا تعجُّ ، ثم رَشحَتْهُ بقوله عَجِيجاً ، وقال ثَعْلَبٌ : لولا التأكيد بالمصدر ، لجاز أن يكونَ كما تقول : « كَلَّمْتُ لك فُلاناً » ، أي : أرسلْتُ إليه ، أو كتبتُ له رُقْعةً .
قوله تعالى : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ } : فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه بدل من « رُسُلاً » الأول في قراءة الجمهور ، وعبَّر الزمخشريُّ عن هذا بنصبه على التكْريرِ ، كذا فهم عنه أبو حيان .
الثاني : أنه منصوبٌ على الحال الموطِّئة؛ كقولك : « مَرَرْتُ بِزَيْدٍ رَجُلاً صَالِحاً » ، ومعنى الموطِّئة ، أي : أنَّها ليست مقصودةً ، إنما المقصودُ صفتُها؛ ألا ترى أن الرجوليَّة مفهومة من قولك « بِزَيْدٍ » ، وإنما المقصودُ وصفه بالصلاحية .
الثالث : أنه نُصِبَ بإضمار فعل ، أي : أرْسَلْنا رُسُلاً .
الرابع : أنه منصوبٌ على المَدْح ، قدَّره أبو البقاء ب « أعني » ، وكان ينبغي أن يقدِّره فعلاً دالاًّ على المدْح ، نحو : « أمْدَح » ، وقد رجَّح الزمخشريُّ هذا الأخير ، فقال : « والأوجَهُ أن ينتصِبَ » رُسُلاً « على المدح » .
قوله : « لِئَلاَّ » هذه لام كَيْ ، وتتعلَّقُ ب « مُنْذِرِينَ » على المختار عند البصريِّين ، وب « مُبَشِّرِينَ » على المختار عند الكوفيِّين؛ فإن المسألةَ من التنازُع ، ولو كان من إعمالِ الأول ، لأضمرَ في الثاني من غير حذفٍ ، فكان يُقال : مُبَشِّرينَ ومُنْذِرينَ [ له ] لئلا ، ولم يَقُل كذلك ، فدلَّ على مذهب البصريِّين ، وله في القرآن نظائرُ تقدَّم منها جملة صالحة ، وقيل : اللامُ تتعلَّقُ بمحذوف ، أي : أرسلْنَاهُم لذلك ، و « حُجَّةٌ » اسمُ « كانَ » ، وفي الخبر وجهان :
أحدهما : هو « عَلَى الله » و « لِلنَّاسِ » حال .
والثاني : أن الخبر « للنَّاسِ » و « عَلَى الله » حال ، ويجوز أن يتعلَّق كُلٌّ من الجارِّ والمجرور بما تعلَّق به الآخرُ ، إذا جعلناه خبراً ، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ على الله ب « حُجَّة » ، وإن كان المعنى عليه؛ لأنَّ معمول المصدر لا يتقدم عليه ، و « بَعْدَ الرُّسُلِ » متعلقٌ ب « حُجَّة » ، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه صفةٌ ل « حُجَّة » ؛ لأنَّ ظروف الزمان تُوصفُ بها الأحداثُ؛ كما يخْبر بها عنها؛ نحو : « القِتَالُ يَوْمُ الجُمُعَةِ » .
فصل في جواب الآية عن شبهة اليهود
هذه الآيةُ جوابٌ عن شُبْهَة اليهُودِ ، وتقريرُه : أن المقْصُود من بَعْثَةِ الرُّسُلِ أن يُبَشِّرُوا ويُنْذِرُوا ، وهذا المَقْصُود حَاصِلٌ سواءٌ كان الكِتَاب نَازِلاً دَفْعَةً واحدةً أو مُنَجَّماً ، ولا يَخْتَلِفُ هذا الغرضُ بِنزُول الكِتَابِ مُنَجَّماً أو دفعةً واحدةً .
بل لو قِيلَ : إن إنْزَال الكِتَاب مُنَجَّماً مُفَرَّقاً أقْرَبُ إلى المصْلَحَة ، لكان أوْلَى؛ لأن الكِتَاب إذا نَزَل دَفْعَةً واحِدَة ، كثُرت التَّكَالِيفُ على المكَلَّفِ ، فيَثْقُل فِعْلُهَا؛ ولهذا السَّبَب أخَذ قومُ مُوسَى - عليه السلام - على التمرُّدِ ، ولم يَقْبَلُوا تلك التَّكَالِيف .
أمَّا إذا نَزَل الكتابُ مُنَجَّماً مُفَرَّقاً ، سَهُل قُبُولُه للتَّدرِيجِ ، فحينئذٍ يَحْصُل الانْقِيَادُ والطَّاعةُ من القَوْمِ ، فكان اقْتِرَاحُ اليَهُودِ إنْزَالَ الكِتَابِ دفعَةً واحِدَة اقْتِراحاً فاسِداً
ثم قال : { وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً } يعني : هذا الذي تَطْلُبُونَه من الرسول أمْر هَيِّنٌ في القُدْرَةِ ، وإنما طَلَبْتُمُوه على سَبِيلِ اللِّجَاجِ ، وهو - تعالى - عَزِيزٌ ، وعِزَّتُهُ تَقْتَضِي ألا يُجَابَ المُتَعَنِّتُ إلى مَطْلُوبِه ، وكذَلِك حِكْمَتُه تَقْتَضِي هذا الامْتِنَاع؛ لِعلْمِهِ - تعالى - بأنَّهُ لو فَعلَ ذلك لبَقَوْا مُصرِّين على اللِّجَاج؛ لأنه - تعالى - أعْطَى مُوسى - [ عليه الصلاة والسلام ] - هذا التَّشْرِيف ، ومع ذلك أصَرُّوا على المُكَابَرة واللِّجَاج .
فصل
احْتَجُّوا بهذه الآيةِ على أنّ معرِفَة اللَّهِ - تعالى - لا تثبت إلا بالسَّمْع؛ لأن قوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } يدلُّ على أنَّ قَبْل البَعْثَةِ يكُونُ للنَّاسِ حُجَّة في تَرْك الطَّاعَاتِ ، ويؤيِّدُه قوله - تعالى - : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، وقوله : { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولاا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى } [ طه : 134 ] .
فصل شبهة للمعتزلة وردها
قالت المعتزلة : دلَّت هذه الآيةُ على أن العَبْد قد يَحتَجُّ على الربِّ - سبحانه وتعالى - وأنَّ الذي يَقُولُه أهْل السُّنَّةِ من أنَّهُ تعالى لا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ في شَيْءٍ ، وأنَّه يَفْعَلُ ما يَشَاءُ كما شَاءَ لَيْس بِشَيْءٍ؛ لأن قوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } يَقْتَضِي أنَّ لَهُم حُجَّة على الله قَبْلَ الرُّسُل ، وذلك يُبْطِل قول أهْلِ السُّنَّة .
والجواب : أن المُرادَ { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله } أي : فيما يُشْبِهُ الحُجَّة فِيمَا بَيْنَكُم .
فصل شبهة للمعتزلة وردها
قالت المُعْتَزِلَةُ : دلَّت الآيةُ على أنَّ تكْلِيفَ ما لا يُطَاق غَيْر جَائِزٍ؛ لأن عدم إرْسَالِ الرُّسُلِ إذا كان يَصْلُح عُذْراً ، فبأن يَكُون عدمُ المُكْنَةِ والقُدْرَة صَالِحاً لأنْ يكُونَ عُذْراً أولى .
والجواب : بالمُعَارَضَةِ بالعِلْمِ .
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
قوله تعالى : { لكن الله يَشْهَدُ } هذه الجملة الاستدراكية لا يبتدأ بها ، فلا بدَّ من جملة محذوفة ، وتكون هذه الجملةُ مستدركةً عنها ، والجملة المحذوفةُ هي ما رُويَ في سبب النزول؛ أنه لَمَّا نَزَلَت : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } [ الآية : 163 النساء ] ، قالوا : ما نشهد لك بهذا أبداً ، فنزلت : { لكن الله يَشْهَدُ } ، وقد أحسن الزمخشريُّ هنا في تقدير جملةٍ غيرِ ما ذكرتُ ، وهو : « فإنْ قلْتَ : الاستدراكُ لا بُدَّ له من مُسْتدركٍ ، فأيْنَ هو في قوله : { لكن الله يَشْهَدُ } ؟ قلتُ : لمَّا سأل أهلُ الكتاب إنزال الكتاب من السماء ، وتعنَّتوا بذلك ، واحتجَّ عليهم بقوله : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } قال : { لكن الله يَشْهَدُ } بمعنى أنهم لا يشهدون ، لكن اللَّهُ يَشْهَدُ » ، ثم ذكر الوجه الأول .
وقرأ الجمهور بتخفيفِ « لَكِن » ورفعِ الجلالة ، والسُّلَمِيُّ والجرَّاح الحكمي بتشديدها ونَصْب الجلالة ، وهما كالقراءتين في { ولكن الشياطين } [ البقرة : 102 ] وقد تقدَّم ، والجمهورُ على « أنْزَلَهُ » مبيناً للفاعل ، وهو الله تعالى ، والحسن قرأه « أُنْزِلَ » مبنيًّا للمفعول ، وقرأ السلميُّ « نَزَّلَهُ بِعِلْمِهِ » مشدَّداً ، والباء في « بعلْمِهِ » للمصاحبة ، أي : ملتبساً بعلمه ، فالجارُّ والمجرور في محلِّ نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : الهاءُ في « أنْزَلَهُ » .
والثاني : الفاعل في « أنْزَلَهُ » أي : أنزله عالماً به ، و « والمَلائِكةُ يَشْهَدُونَ » مبتدأ وخبر ، يجوز أن تكون حالاً أيضاً من المفعول في « أنْزَلَهُ » ، أي : والملائكة يَشْهَدُونَ بصدْقه ، ويجوزُ ألاَّ يكونَ لها محلٌّ ، وحكمه حينئذٍ كحُكْم الجملة الاستدراكيّة قبله ، وقد تقدَّم الكلامُ على مِثْلِ قوله : { وكفى بالله شَهِيداً } [ النساء : 166 ] .
فصل
قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : إن رُؤسَاء مكَّةَ أتوا رسُول الله صلى الله عليه وسلم وشَرَّف وكَرَّم ومَجَّد وعَظَّم وقالوا : يا مُحمَّد ، إنا سَألْنَا عنْكَ اليَهُودَ ، عن صفتِك في كِتَابِهِم ، فَزَعَمُوا أنَّهُم لا يَعْرِفُونَك ودخل عليه جَمَاعَةٌ من اليَهُودِ ، فقال لَهُم : « والله إنَّكُمْ لتَعَلمُن أنِّي رَسُولُ اللَّهِ » فقالوا : ما نَعْلَمُ ذلك واللَّهِ ، فأنزلَ الله - تعالى - : { لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ [ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } ] إن جحدوك وكَذَّبُوك ، وشهادَةُ الله عُرِفَتْ بإنْزَالِ هذا القُرآنِ البَالِغ في الفَصَاحَةِ إلى حَيْثُ عَجَز الأوَّلُون والآخِرُون عن مُعَارَضَتِهِ ، فكان ذَلِكَ مُعْجِزاً ، وإظْهَارُ المُعْجِزَة شهادَةٌ بكَوْن المُدَّعِي صَادِقاً ، ولما كانت شهادتُهُ إنما عُرِفَتْ بإنْزَالِهِ بواسِطَة القُرْآنِ ، قال : { لكن الله يَشْهَدُ } لك بالنُّبُوَّةِ ، بواسِطَة إنْزَالِ هذا القُرْآنِ عليك ، ثم بيَّن صفَة هذا الإنْزَال ، وهو أنَّه - تعالى - أنْزَلَهُ بِعِلْمٍ تَامٍّ ، وحِكْمَةٍ بَالِغَة . فقولُهُ بغايَةِ الحُسْن ونهاية الكَمَالِ؛ كما يُقالُ في الرَّجُل المَشْهُور بكَمَالِ الفَضْل والعِلْم ، إذا صَنَّف كتاباً واسْتَقْصَى في تحْريره : إنَّه إنما صنَّفَ هذا بكَمَالِ عِلْمِه وفَضْلِه ، يعني : أنه اتَّخَذَ جُمْلَة عُلُومه وسِيلَةً إلى تَصْنِيفِ هذا الكِتَابِ ، فيدُلُّ ذَلِك عَلَى وَصْفِ ذلك التَّصْنِيف بِغَايَةِ الجَوْدَةِ والحُسْنِ ، فكذا هَهُنَا دلَّت هذه الآيَةُ على أنَّ لله - تعالى - عِلْماً؛ لأنَّها أثْبَتتِ العلم للَّه - تعالى - ولو كان عِلْمُهُ نَفْس ذَاتِهِ ، لزم إضافَةُ الشَّيْء إلى نَفْسِهِ ، وهُوَ مُحَال .
وقوله - تعالى - : { والملاائكة يَشْهَدُونَ } إنَّما تُعْرَفُ شَهَادَةُ المَلاَئِكَة له بذلك؛ لأن إظهار المُعْجزة على يَدِهِ ، لمَّا دلَّ على أنَّ اللَّه - تعالى - شَهِد بذلك ، فالمَلاَئِكَة [ أيضاً ] يشهدُون لا مَحَالَة ، لأنَّهُم لا يَسْبِقُونَهُ بالقَوْلِ ، فكأنَّهُ قيل : يا محمد إن كَذَّبَكَ هؤلاء [ اليَهُود ] ، فلا تُبَالِ بِهِم ، فإنَّ إله العَالمِينَ يُصَدِّقُك ، وملائِكَةُ السَّمَوات يُصَدِّقُونَك في ذلك ، ومن صَدَّقَهُ ربُّ العَالَمِين ، وملائكةُ العَرْشِ والكُرْسِيّ ، والسَّمواتُ السَّبْع أجْمَعِين ، لم يَلْتَفِتْ إلى تكْذِيب أخَسِّ النَّاسِ .
ثُمَّ قال : { وكفى بالله شَهِيداً } [ وقد تقدَّم الكلامُ فيه ] .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
قوله - تعالى - : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } الآية والجمهورُ على « وَصَدُّوا » مبنيًّا للفاعل ، وقرأ عكرمة وابن هُرْمُزٍ : « وَصُدُّوا » مبنيًّا للمفعول ، وهما واضحتانِ ، وقد قرئ بهما في المتواترِ في قوله : { وَصُدُّواْ } [ الرعد : 33 ] في الرعْد ، و { وَصُدَّ عَنِ السبيل } [ غافر : 37 ] في غافر .
والمراد كَفَرُوا بقوْلِهِم : لو كان رَسُولاً ، لأتى بِكِتَابٍ دَفْعَةً واحِدَةً من السَّماءِ؛ كما أنْزِلَت التوراة على مُوسَى؛ وقولهم : إنَّ الله - تعالى - ذكر في التَّوْرَاةِ؛ أنَّ شَريعَة موسى لا تُبَدَّلُ ولا تُنْسَخُ إلى يَوْمِ القيامَةِ ، وقولهم : إنَّ الأنبْيِاءَ لا يَكُونُون إلاَّ مِنْ وَلَد هَارُونَ وَدَاوُد ، وصَدِّهم عن سَبيلِ اللَّهِ : بِكِتْمَان نَعْت مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم .
{ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاَ بَعِيداً } ، إلا أنَّ أشدَّ النَّاس ضلالاً من كَان يَعْتَقِدُ في نَفْسِهِ أنَّه مُحِقٌّ ، ثم يَتَوَسَّلُ بذلك الضَّلال إلى اكْتِسَابِ المالِ والجَاهِ ، ثم يَبْذُلَ جَهْدَهُ في إلْقَاءِ غيره في مِثْلِ ذلِك الضَّلالِ ، فهذا قَدْ بَلَغَ في الضَّلاَلِ إلى أقْصَى الغَايَاتِ .
ولمَّا وصف الله ضلالهُم ، ذكر وعيدَهُم؛ فقال : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ } بِكِتْمَان نَعْتِ مُحمَّد [ صلى الله عليه وسلم ] ، وظلموا أتْبَاعَهُم بإلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ { لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ } ، وقد تقدَّم الكلامُ على قوله « لِيَغْفِر لَهُم » وأن الفِعْلَ مع هَذِهِ اللاَّم أبْلَغُ مِنْهُ دُونَهَا .
واعلم أنَّا إن حَمَلْنَا قوله : « إِنَّ الذينَ » على المَعْهُود السَّابِقِ لم يَحْتَجْ إلى إضْمَارِ شَرْطٍ في هذا الوَعِيد على أقْوَامٍ علِمَ اللَّهُ منْهُمْ أنَّهُم يمُوتُون على الكُفْرِ .
وإنْ حَمَلْنَاهُ على الاسْتِغْرَاقِ ، أضَمَرْنَا فيه شَرْطَ عَدَم التَّوْبَةِ .
قوله سبحانه : { وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ } في هذا الاسْتِثْنَاء قولان :
أحدهما : أنه اسْتِثْنَاء مُتَّصِلٌ ، لأن [ المُرَادَ ] بالطَّرِيق الأوَّلِ : العُمُوم ، فالثَّانِي من جِنْسِهِ .
والثاني : انه مُنْقَطِعٌ إن أُريد بالطَّرِيق شَيْءٌ مَخْصُوصٌ؛ وهو العمل الصَّالِحُ الذي يَتَوَصَّلُون به إلى الجَنَّة ، وانْتَصَب « خَالِدِين » على الحَالِ ، والعَامِلُ فيه مَعْنَى « لا يهديهم اللَّه » ؛ لأنه بِمَنْزِلَةِ : يُعَاقِبهُم خَالِدِين ، وانْتَصَب « أبَداً » على الظَّرْفِ ، { وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً } أي : لا يتعذَّر عليْه شيءٌ .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
قوله - تعالى - : { ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبِّكُمْ } الآية لما أجَابَ عن شُبْهَة اليَهُودِ ، [ و ] بين فَسَادَ طِرِيقهِم ، ذَكَر خِطَاباً عَامّاً يَعُمُّهُم ويَعُمّ غَيْرُهم في الدَّعْوةِ إلى الإسلامِ .
قوله سبحانه : { بالحق } : فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلِّق بمحذوفٍ ، والباءُ للحال ، أي : جاءكُمُ الرسولُ ملتبساً بالحقِّ ، أو متكلِّماً به .
والثاني : أنه متعلقٌ بنفس « جَاءَكُمْ » ، أي : جاءكم بسبب إقامةِ الحقِّ ، والمراد بهذا الحق القرآنُ ، وقيل : الدعوة إلى عبادة الله ، والإعراض عن غيره ، و « مِنْ ربِّكُمْ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ بمحذوف؛ على أنه حال أيضاً من « الحَقِّ » .
والثاني : أنه متعلقٌ ب « جاء » ، أي : جاء من عند الله ، أي : أنه مبعوثٌ لا متقوَّلٌ .
قوله تعالى : { فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ } في نصبه أربعة أوجه :
أحدها - وهو مذهب الخليل وسيبويه - : أنه منصوب بفعلٍ محذوفٍ واجب الإضمار ، تقديره : وأتُوا خيراً لكم؛ لأنه لمَّا أمرهم بالإيمان فهو يريدُ إخراجهم من أمرٍ ، وإدخالهم فيما هو خيرٌ منه ، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره؛ قال : « وذلك أنه لمَّا بعثَهم على الإيمان وعلى الانتهاءِ عن التثْلِيثِ ، علم أنه يَحْمِلُهم على أمر ، فقال : خيراً لكُمْ ، أي : اقصِدوا وأتُوا أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكُفْر والتثليث » .
الثاني - وهو مذهب الفراء - : أنه نعت لمصْدر محذوف ، أي : فآمنوا إيماناً خيراً لكم ، وفيه نظر؛ من حيث أنه يُفْهِمُ أنَّ الإيمان منقسم إلى خير وغيره ، وإلاَّ لم يكنْ لتقييده بالصفةِ فائدةٌ ، وقد يُقالُ : إنه قد يكون لا يقولُ بمفهوم الصفة؛ وأيضاً : فإن الصفة قد تأتي للتأكيد وغير ذلك .
الثالث - وهو مذهب الكسائي وأبي عبيد - : أنه منصوب على خبر « كَانَ » المضمرة ، تقديرُه : يكنِ الإيمانُ خيراً ، وقد ردَّ بعضُهم هذا المذهب؛ بأنَّ « كَانَ » لا تُحْذَف مع اسمها دون خبرها ، إلا فيما لا بدّ له منه ، ويزيد ذلك ضعفاً أنَّ « يَكُن » المقدرة جوابُ شرطٍ محذوف ، فيصيرُ المحذوفَ الشرطُ وجوابُه ، وهو « يَكُن الإيمَانُ » وأبقيتَ معمولَ الجواب ، وهو « خَيْراً » ، وقد يقال : إنه لا يحتاج إلى إضمار شرطٍ صناعيٍّ ، وإن كان المعنى عليه؛ لأنَّا ندَّعِي أن الجزْم الذي في « يَكُنِ » المقدرةِ ، إنما هو بنفس جملة الأمر التي قبله ، وهو قوله : « فآمِنُوا » من غير تقدير حرفِ شرطِ ، ولا فعلٍ له ، وهو الصحيحُ في الأجوبة الواقعة لأحد الأشياء السبعة ، تقول : « قُمْ أكْرِمْكَ » ، ف « أكْرِمْكَ » جواب مجزومٌ بنفس « قُمْ » ؛ لتضمُّن هذا الطلب معنى الشرط من غير تقدير شرط صناعيٍّ .
الرابع - والظاهرُ فساده - : أنه منصوبٌ على الحال ، نقله مكي عن بعض الكوفيِّين ، قال : « وهُوَ بعيدٌ » ، ونقله أبو البقاء أيضاً ، ولم يَعْزُه .
« وإنْ تَكْفُرُوا » فإنَّ الله غَنِيٌّ عن إيمَانِكُم؛ لأنه مَالِك السَّمَاوات والأرضِ وخَالِقُهَا ، ومن كان كذلِك ، لم يكن مُحْتَاجاً إلى شَيْءٍ ، ويكون التَّقْدِير فإنَّ للَّه ما فِي السَّماوات ومَا فِي الأرْضِ ، ومن كان كَذَلِك ، قَادِراَ على إنْزَالِ العَذَابِ عَلَيْكُم لو كَفَرْتُم ، أو يكون المرادُ : إن كَفَرْتُم ، فلَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ والأرْضِ ، ومن كان كذلِك فله عَبيدٌ يَعْبُدُونَهُ ويَنْقَادُون لأمْرِهِ ، فيُجَازِي كُلاًّ بِفِعْلِه .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
لمَّا أجابَ عن شُبَهَاتِ اليَهُودِ ، تكلَّم بعد ذَلِك مع النَّّصَارَى ، والتَّقْدِير : يا أهل الكتابِ من النَّصَارَى لا [ تغلُوا في دينكم ] ، اي : تُفْرطوا في تَعْظِيم المَسيحِ ، والغُلُوُّ : تجاوُز الحدِّ ، ومنه : غلْوَة السَّهْم ، وغَلاَء السِّعْرِ .
واعلم أنه - تعالى - حَكَى عن اليَهُودِ مُبَالَغَتَهُم في الطَّعْنِ في المَسِيحِ ، وهنا حَكَى عن النَّصَارَى مُبَالَغَتَهُم في تعظِيمِه ، وهم أصْنَاف اليَعْقُوبِيَّة ، والملْكَانِيَّةَ ، والنَّسْطُورِيَّة والمُرْقُسِيَّة .
فقالت اليَعْقُوبيَّة : عِيسَى هو اللَّه ، وكَذَلِك الملْكَانِيَّة .
وقالت النَّسْطُوريَّة : عيسى ابْنُ اللَّهِ .
وقالت المرقسيّة : ثَالِثُ ثلاثةٍ ، فأنْزَل الله هذه الآية .
ويُقالُ : إن المْلكانِيَّة تقُولُ : عيسَى هُو اللَّهُ ، واليَعْقُوبِيَّة يقُولُون : ابْنُ الله ، والنَّسْطُوريَّة يقُولُون : [ ثَالِث ] ثلاثة عليهم رَجُلٌ من اليَهُود يُقَال لَهُ : بُولُص ، وسيأتِي في سُورةِ التَّوْبَةِ - إن شاء الله تعالى - .
وقال الحسن : يَجُوزُ أن تكُون نزلت في اليَهُود والنَّصَارَى؛ فإنهم جَمِيعاً غَلَواْ في أمْرِ عيسى - عليه السلام - فاليَهُود بالتَّقْصِير ، والنَّصَارى بمُجَاوَزَةِ الحدّ ، وهو في الدِّين حَرَامٌ .
{ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } وتَصِفُوا اللَّهَ بالحُلُولِ والاتَّحَادِ في بدَنِ الإنْسَانِ أوْ رُوحِهِ .
وقيل : لا تَقُولُوا إنَّ لَهُ شَرِيكاً أوْ وَلْداً ، ونزِّهُوهُ عن هَذِه الأحْوَالِ .
قوله : « إلاَّ الحَقَّ » هذا استثناء مُفَرَّغٌ ، وفي نصبه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول به؛ لأنه تضمَّن معنى القول؛ نحو : « قُلْتُ خُطْبَةً » .
والثاني : أنه نعتُ مصدر محذوف ، أي : إلا القولَ الحَقَّ ، وهو قريب في المعنى من الأوَّل .
قوله [ - سبحانه - ] : { إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله } .
قرأ جعفر بن محمَّد : « المِسِّيح » بوزن « السِّكِّيت » ؛ كأنه جعله مثال مبالغة؛ نحو : « شِرِّيب العَسَل » ، و « المسيح » مبتدأ بعد « إنَّ » المكفوفة ، و « عِيسَى » بدلٌ منه ، أو عطف بيان ، و « ابنُ مَرْيَمَ » صفته و « رَسُولُ الله » خبر المبتدأ ، و « كَلِمَتُهُ » عطف عليه .
و « ألْقَاها » جملةٌ ماضية في موضع الحال ، و « قَدْ » معها مقدرةٌ ، وفي عاملِ الحال ثلاثةُ أوجه نَقَلها أبو البقاء :
أحدها : أنه معنى « كَلِمة » ؛ لأنَّ معنى وصْفِ عيسى بالكلمة : المُكَوَّنُ بالكلمة من غير أبٍ ، فكأنه قال : وَمَنْشَؤُهُ ومُبْتَدَعُهُ .
والثاني : أن يكون التقدير : إذ كان ألقاها ، ف « إذْ » ظرفُ زمانٍ مستقبل ، و « كان » تامَّة ، وفاعلها ضمير الله تعالى ، و « ألقاها » حالٌ من ذلك الفاعل ، وهو كقولهم : « ضَرْبِي زَيْداً قَائِماً » .
والثالث : أن يكون حالاً من الهاء المجرورة ، والعاملُ فيها معنى الإضافة ، تقديره : وكلمةُ اللَّهِ مُلْقياً إيَّاهاَ . انتهى . أمَّا جعله العامل معنى « كلمة » فصحيحٌ ، لكنه لم يبين في هذا الوجه من هو صاحبُ الحال؟ وصاحبُ الحال الضميرُ المستتر في كَلِمَتُهُ « العائدُ على عيسى؛ لما تضمَّنَتْهُ من معنى المشتقِّ؛ نحو : » مُنْشَأ ومُبْتَدَع « ، وأمَّا جعلُهُ العاملَ معنى الإضافة ، فشيءٌ ضعيفٌ ، ذهب إليه بعض النحويِّين ، وأمَّا تقديرُه الآية بمثل » ضَرْبِي زَيْداً قَائِماً « ، ففاسدٌ من حيث المعنى ، والله أعلم .
فصل في تفسير الكلمة
قد تقدَّم في تَفْسِير « الكَلِمَةِ » في قوله : { يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ا } [ آل عمران : 45 ] ، والمعْنَى : أنَّهُ وُجِدَ بكَلِمَةِ اللَّهِ وأمْرِه ، من غَيْرَ وَاسِطَة [ أب ] ولا نُطْفَة؛ لقوله [ تعالى ] : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن [ فَيَكُونُ ] } [ آل عمران : 59 ] .
قوله تعالى { وَرُوحٌ } عطفٌ على « كَلِمَة » ، و « مِنْهُ » صفة ل « رُوح » ، و « مِنْ » لابتداء الغاية مجازاً ، وليست تبعيضيَّةً ، ومن غريب ما يحكى أن بعض النصارى ناظَرَ عليَّ بْنَ الحُسَيْنِ بن واقدٍ المَرْوزِيَّ ، وقال : « في كتاب الله ما يَشهدُ أنَّ عيسى جُزْءٌ مِنَ الله » ، وتلا : « وَرُوحٌ مِنْهُ » ، فعارضه ابنُ واقدٍ بقوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] ، وقال : « يلزمُ أنْ تكونَ تلك الأشياءُ جزءاً من الله تعالى ، وهو محالٌ بالاتفاقِ » ، فانقطع النصرانيُّ وأسْلم .
فصل
قيل : معنى « رُوحٌ مِنْهُ » [ هي ] رُوحٌ كسَائِرِ الأرْواحِ ، وإنَّما أضَافَها الله - تعالى - إلى نَفْسِهِ تَشْرِيفاً .
وقيل : الرُّوحُ هو النَّفْخُ الذي نَفَخَهُ جِبْريل في دِرْعِ مَرْيم - [ عليها السلام ] - فَحَمَلَتْ بإذْنِ اللَّه ، سُمِّي النَّفْخُ « رُوحاً » ؛ لأنَّه ريحٌ يخْرُجُ من الرُّوح ، وأضافَهُ إلى نَفْسِهِ؛ لأنه كان بأمْرِهِ .
والرُّوح والرِّيحُ مُتَقَارِبَانِ ، فالرُّوحُ : عِبَارَةٌ عن نَفْخِ جِبْرِيلٍ - عليه السلام - ، وقوله : « مِنْهُ » يعني : أنَّ ذلِك النَّفْخَ من جِبْرِيل كان بأمْر الله وإذْنه ، فَهُو مِنْهُ؛ وهكذا قولُه : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم : 12 ] .
وقيل : « رُوحٌ مِنْهُ » أي : رَحْمَةً مِنْهُ ، فكان - عليه السلام - رحْمَة لمن تبعَهُ ، وآمَن بِهِ ، من قوله - [ تعالى ] - : { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } [ المجادلة : 22 ] . أي : برحْمَةٍ مِنْهُ وقال - عليه الصلاة والسلام - : « إنَّما أنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ » .
وقيل : الرُّوحُ الوَحِي ، أوْحَى إلى مَرْيَمَ بالبشَارَة ، وإلى جِبْرِيلَ بالنَّفْخِ ، وإلى عيسى أن كُنْ فكان؛ كقوله - [ تعالى ] - : { يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [ النحل : 2 ] . يعني : بالوَحْي؛ وقال - تعالى - في صِفَةِ القُرْآنِ : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] .
وقيل : أراد بالرُّوح : جِبْريل ، مَعْنَاهُ : كَلِمتهُ ألْقَاهَا إلى مَرْيَمَ ، وألْقَاها - أيضاً - رُوحٌ مِنْهُ بأمْرِهِ ، وهو جِبْرِيلُ [ - عليه السلام - ] ؛ كقوله : { تَنَزَّلُ الملائكة [ والروح فِيهَا ] }
[ القدر : 4 ] يعني : جِبْرِيل فيها ، وقال : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } [ مريم : 17 ] يعني : جِبْرِيل .
وقيل : لما جَرْت عادَةُ النَّاسِ أنَّهُم إذا وَصَفُوا شيئاً بِغَايَة الطَّهارَة والنَّظَافة ، قالوا : إنَّه روحٌ ، فلما كان عيسَى لَمْ يتكوَّن مِنْ نُطْفَةٍ ، وإنما من نَفْخَة جِبْرِيل - عليه السلام - لا جَرَم وُصِفَ بأنَّهُ روحٌ ، والمراد من قوله : « مِنْهُ » التَّشْرِيف والتَّفْضِيل؛ كما يقال : هذه نِعْمَةٌ من الله ، أي : تلك النِّعْمَة الكَامِلَة الشَّريفَة .
وقيل : إنه كان سَبَباً لحياة الخَلْقِ في أدْيَانهم ، [ فوُصِفَ أنَّه رُوحٌ؛ كما وُصِف القُرْآن في قوله : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] ، سمَّاه رُوحاً؛ لمَّا كان سَبَباً لحياةِ الخَلْق في أدْيَانِهِم ] .
وقيل : لما أدْخَل التَّنْكِير في لفظِ « رُوحٌ » أفاد التَّعْظِيم ، فكان المَعْنَى : رُوحٌ من الأرْوَاح الشَّريفَة القُدسِيَّة العَالِيَة .
وقوله : « مِنْهُ » أضاف ذلك الرُّوح إلى نَفْسِهِ تَشْرِيفاً ، ثم قال : { فآمنوا بالله ورسله } أي : أنَّ عيسَى من رسُلِ اللَّهِ ، فآمِنُوا به كإيمَانِكُم بسَائِر الرُّسُل ، ولا تَجْعَلُوه إلهاً .
قوله - تعالى - : { وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ } ، أي : لا تَقُولُوا آلهتُنَا ثلاثة ، ف « ثَلاَثةٌ » خبر مبتدأ مضمرٍ ، والجملةُ من هذا المبتدأ والخبر في محلِّ نصب بالقول ، أي : ولا تقولوا : « آلهتنا ثلاثةٌ » قال الزَّجاج : ويدلُّ عليه قوله بعد ذلك : { إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ } ، وقيل : تقديره : الأقَانِيمُ ثلاثةٌ ، أو المعبودُ ثلاثةٌ ، وقال الفارسيُّ : تقديره : الله ثالثُ ثلاثةٍ ، ثم حُذف المضافُ ، وأقيمَ المضافُ إليه مقامَهُ ، يريدُ بذلك موافقةَ قوله : { لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [ المائدة : 73 ] .
قال الفرَّاء : تقديره : ولا تقُولُوا هم ثلاثة؛ كقوله : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ } [ الكهف : 22 ] وكانت النَّصارى [ يقُولُون : ] أبٌ ، وابنٌ ، ورُوحُ القُدس .
فصل في بيان تفسير النصارى للتثليث
قال القُرْطُبي : فرقُ النَّصارى مجتمعُون على التَّثْلِيثِ ، ويقولون : إن الله جوهرٌ واحدٌ ، وله ثلاثةٌ أقَانِيمَ ، فَيَجْعِلُون كُلَّ أقْنُوم إلهاً ، ويَعْنون بالأقانِيم : الوُجُود والحياة والعِلْم ، وربما يُعَبِّرون [ عن ] الأقانِيمِ بالأبِ ، والابْنِ ، وروح القُدُسِ ، فَيَعْنُونَ بالأبِ الوُجُود ، وبالرُّوح الحياة ، وبالابْن المسيح ، في كلامٍ لهم فيه تَخْبِيطٌ .
ومحصول كلامهم يَئُولُ إلى التَّمَسُّكِ بأنَّ عيسَى إلهٌ؛ بما كان يُجْرِي اللَّه على يَديه من خَوَارِق العَادَاتِ على حَسَبِ دواعِيه وإرادَتِهِ .
قالوا : قد عَلِمْنَا خروجَ هذه الأمُورِ من مَقْدُور البَشَرِ ، فينْبَغِي أن يكون المُقْتَدِر عليها مَوْصُوفٌ بالإلهيّة .
فيقال لَهُم : لو كان ذَلِك من مَقْدُوراتِهِ وكان مسْتَقِلاًّ به ، كان تَخْليصُ نفسه من أعْدَائِه ، ودفع شرِّهم عَنْهُ من مقدُورَاتِهِ ، وليس كذلك؛ فإن اعْتَرَفُوا بذل سَقَطَ اسْتِدْلالهم وقولهم : إنه كان يَفْعَلُهَا ، وإن لَمْ يُسَلِّموا فلا حُجَّة لهم - أيضاً -؛ لأنَّهم معَارضُون بمُوسى - عليه السلام - ، وما كان يُجْري الله - تعالى - على يديه من الأمور العِظَامِ؛ كفلق البَحْر ، وقَلْبِ العَصَا ثُعْباناً ، واليد البَيْضَاء ، وضَرْب الحَجَر فانْفَجَرَت مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَة عَيْناً ، وإنْزال المنِّ والسَّلْوَى وغير ذَلِك ، وكَذَلِك ما جَرَى على أيْدِي الأنْبِياء - عليهم الصلاة والسلام - ، فإن أنْكَرُوا ذَلِك ، فيُنكَر ما يدَّعُونَهُ في ظُهُورِه على يَدٍ عيسى - عليه السلام - ، ولا يُمْكِنُهم إثْبَات شَيْءٍ من ذلك [ لعيسى؛ فإن إثْبَاتَهُ عندنا بِنَصِّ القُرآنِ ، وهم يُنْكِرُون القُرْآن ويكذِّبُون من أتى به ] ، ولا يُمْكِنُهم إثْبَاتُ ذلك بأخْبَارِ التَّواتُر .
[ و ] قوله - عز وجل - : { انتهوا خَيْراً لَّكُمْ } نصب « خيْراً » لِنَصْبه فيما تقدَّم في جَمِيع وُجُوهِهِ ، ونِسْبته إلى قَائِلِيه ، ثم أكَّدَ التَّوْحِيد بقوله : { إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ } ثم نزَّه نَفْسَه عن الولد بقوله : { سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } وتقدِيرُه : من أنْ يكُونَ ، أو : عن أنْ يكُون؛ لأنَّ مَعْنى : « سُبْحَان » : التَّنْزِيه : فكأنَّهُ قيل : نَزِّهُوه عن أن يكُون ، أو مِنْ أنْ يكُونَ لَهُ ولد ، فيجيء في مَحَلِّ « أنْ » الوجهان المَشْهُورَانِ ، وقد تقدَّمَتْ دَلاَئِل تَنْزيه اللَّه عن الوَلَدِ في سُورَة « آل عمران » و « واحدٌ » نعت على سبيل التوكيد ، وظاهر كلام مكي أنه نعتٌ لا على سبيل التوكيد ، فإنه قال : و « الله » مبتدأ ، و « إلهٌ » خبره ، و « واحدٌ » نعت ، تقديره : « إنَّمَا الله مُنْفَرِد في إلهيَّتِهِ » ، وقيل : « وَاحِدٌ » تأكيدٌ بمنزلة { لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين } [ النحل : 51 ] ، ويجوز أن يكون « إله » بدلاً من « الله » ، و « وَاحِدٌ » خبره ، تقديره : إنَّما المعبُودُ وَاحِدٌ ، وقوله : { أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } تقديم نظيره [ في الآية 47 آل عمران ] . وقرأ الحسن : « أَن يَكُونَ » بكسر الهمزة ورفع « يكُونُ » على أنَّ « إنْ » نافية ، أي : ما يكونُ له ولدٌ ، فعلى قراءته يكونُ هذا الكلامُ جملتَيْنِ ، وعلى قراءةِ العامة يكون جملة واحدة .
ثم قال - تعالى - : { لَّهُ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } .
واعلم أنَّه - تعالى - في كل مَوْضِعٍ نَزَّه نَفْسَه عن الولد ذكر كَوْنَه مَلِكَاً ومالِكاً لما في السموات وما في الأرضِ؛ فقال في « مَرْيَم » : { إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً } [ مريم : 93 ] ، والمعنى : أن من كان مَالِكاً لما في السَّموات وفي الأرْضِ ، ولكُلِّ ما فيها ، كان مَالِكاً لعِيسَى ولمَرْيم؛ لأنهما كانا في السَّموات وفي الأرْضِ ، ولما هُو أعْظَم مِنْهُمَا في الذَّاتِ والصِّفَات ، وإذا كان مَالِكاً لما هُوَ أعْظَم مِنْهُمَا ، فبأنْ يكُون هُو أعْظَم مِنْهُمَا في الذَّاتِ والصِّفَاتِ ، وإذا كان مَالِكاً لما هُوَ أعْظَم مِنْهُمَا ، فبأنْ يكُون مَالِكاً لهُمَا أوْلَى ، وإذا كَانَا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ ، فكَيْفَ يَعْقِلُ مع هذا تَوَهُّم كَونهما وَلَداً وزَوْجَةً .
ثم قال - تعالى - : { وكفى بالله وَكِيلاً } أي : إن الله - تعالى - كَافٍ في تَدْبِير المَخْلُوقَاتِ ، وفي حِفْظِ المحْدَثَاتِ ، فلا حَاجَة مَعَهُ إلى القَوْلِ بإثْبَاتِ آله آخرَ ، وهو إشارَةٌ إلى ما يَذْكُرُه المتَكَلِّمُون؛ من أنَّهُ لمَّا كَانَ [ - تعالى - ] عالماً بِجَميع المَعْلُومَاتِ قَادِراً على كل المَقْدُورَاتِ ، كان كَافِياً في الإلهِيَّة ، فلو فَرَضْنَا آلهاً آخَر ، كان مُعَطَّلاً لا فَائِدَة فيه ، وذلك نَقْصٌ ، والنَّاقِص لا يَكُون إلهاً .
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
قوله : { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملاائكة المقربون } الآية لمَّا أقام الحُجَّة القَاطِعَة على أنَّ عيسى عَبْدُ الله ، لا يَجُوز أن يكُون ابْناً لَهُ ، أشَارَ بَعْدَه إلى حِكَايَةِ شُبْهَتِهِم ، وأجَابَ عَنْهَا؛ لأنَّ الشُّبْهَة التي عَوَّلُوا عَلَيْها في إثْبَاتِ أنَّهُ ابن اللَّهِ؛ هو [ أنَّه ] كان يُخْبِرُ عن الغيبيّات ، ويأتي بِخَوارقِ العاداتِ من الإبْرَاء والإحْيَاء ، فكأنَّهُ - تعالى - قال : { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح } بسبب القَدْرِ من العِلْم والقُدْرَة عن عِبَادةِ الله - [ سبحانه ] وتعالى - ، فإن الملائِكَة المقَرَّبينَ أعْلَى حَالاً مِنْهُ في اَلقُدْرَة؛ لأن ثَمَانِيةً منهم حَمَلةُ العَرْشِ على عَظَمَتِهِ ، ثم [ إنّ ] الملائكة مع كمالهم في العُلُوم ، لمْ يَسْتَنْكِفُوا عن عُبُودِيَّة الله ، فكيف يَسْتَنْكِفُ المَسِيحُ عن عُبُوديَّته بسبب هذا القَدْرِ القَلِيلِ الذي كان مَعَهُ من العِلْمِ والقُدْرَة .
والاسْتنْكَافُ : استفعالٌ من النَّكْفِ ، والنَّكْفُ : أن يُقال [ له ] سوء ، ومنه : « وما عليه في هذا الأمْرِ نَكْفٌ ولا وَكْفٌ » ، قال أبو العباس : « واسْتَفْعَلَ هنا بمعنى دفع النَّكْفَ عَنْه » ، وقال غيره : « هو الأنَفَةُ والتَّرفُّع » ، ومنه : « نَكَفْتُ الدَّمْعَ بإصْبَعِي » ، إذا منعته من الجَرْي على خَدِّك ، قال : [ الطويل ]
1910- فبَانُوا فُلُولاً ما تَذَكَّرُ مِنْهُمُ ... مِنَ الحِلْفِ لَمْ يُنْكَفْ لِعَيْنَيْكَ مَدْمَعُ
فصل
رُوِيَ أن وَفْدَ نَجْرَان قالُوا : يا مُحَمَّد ، إنك تَعِيبُ صَاحِبَنَا ، فتقول : إنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : « ليْسَ بعارٍ لعيسى - عليه السلام - أنْ يكُونَ عَبْداً لِلَّهِ » فنزلَت هذه الآية .
وقرأ عَلِيٌّ : « عُبَيْداً » على التَّصْغِير ، وهو مُنَاسِبٌ للمَقَام ، وقرأ الجمهورُ « أن يكُون عَبْداً لِلَّهِ » بفتح همزة « أنْ » ، [ فهوُ في موضعِ نَصْبٍ ، وقرأ الحسن : « إنْ » بكَسْر الهمزة على أنَّها نَفيٌ بمعنى ] : ما يكون له ولدٌ ، فينبغي رفع « يكونُ » ، ولم يذكره الرواة؛ نقله القرطبيّ .
وقوله تعالى : { وَلاَ الملاائكة } عطف على « المَسِيح » ، أي : ولَنْ يَسْتَنْكِفَ الملائكةُ أن يكُونُوا عَبيداً لله ، وقال أبو حيان ما نصُّه : « وفي الكلام حَذْفٌ ، التقدير : ولا الملائكةُ المقرَّبون أن يكونُوا عبيداً لله ، فإن ضُمِّن » عَبْداً « معنى » مِلْكاً لله « ، لم يَحْتَجْ إلى هذا التقدير ، ويكونُ إذ ذاك { وَلاَ الملاائكة } من باب عطف المفردات ، بخلاف ما إذا لُحِظَ في » عَبْد « معنى الوَحْدَة ، فإن قوله : { وَلاَ الملاائكة } يكون [ من ] عطف الجملِ؛ لاختلاف الخبر ، وإنْ لُحِظَ في قوله : { وَلاَ الملاائكة } معنى : » ولا كلُّ واحدٍ مِنَ الملائِكَةِ « كان من باب عطف المفردات » ، وقال الزمخشريُّ : « فإن قلتَ : علام عُطِفَ » والمَلاَئِكَةُ « ؟ قلت : إمَّا أن يُعْطَفَ على » المَسِيحُ « ، أو اسم » يَكُونُ « ، أو على المستتر في » عَبْداً « لما فيه من معنى الوصْف؛ لدلالته على العبادة ، وقولك : » مَرَرْتُ بِرَجُلٍ عَبْدٍ أبُوهُ « فالعطفُ على المسيحِ هو الظاهرُ؛ لأداء غيره إلى ما فيه بعضُ انحرافٍ عن الغرضِ ، وهو أن المسيحَ لا يأنَفُ أن يكون هو ولا من فَوقَهُ موصوفين بالعبودية ، أو أن يعبُدَ الله هو ومن فوقه » ، قال أبو حيان : « والانحراف عن الغرضِ الذي أشارَ إليه كونُ الاستنكَافِ يكون مختصًّا بالمسيحِ ، والمعْنَى التامُّ إشراكُ الملائكة مع المسيح في انتفاء الاستنكَافِ عن العبوديَّة ، ويظهرُ أيضاً مرجوحيَّةُ الوجهين من وجه دخُول » لاَ « ؛ إذ لو أُريدَ العطفُ على الضمير في » يكُون « أو في » عَبْداً « لم تَدْخُل » لا « ، بل كان يكون التركيبُ بدونها ، تقول : » ما يريدُ زيدٌ أن يكُونَ هُو وأبُوهُ قَائِمَيْن « و » ما يُريدُ زيدٌ أنْ يَصْطَلِحَ هُوَ وعَمْرٌو « ، فهذان التركيبان لَيْسَا من مَظَنَّةِ دخولِ لا ، وإن وُجد منه شيءٌ ، أوِّل » .
انتهى ، فتحصَّل في رفع « المَلاَئِكَةُ » ثلاثة أوجه ، أوجَهُهَا الأوَّل .
فصل
اسْتَدَلَّ الجُمهور بهذه الآية : على أنَّ الملكَ أفْضَلُ من البَشَر ، وقد تقدَّم الكلام عَلَيْه ، في البقرة [ آية 34 ] .
وقال ابن الخطيب : والذي نقُولُه هَهُنَا : إنَّا نُسَلِّم أنَّ اطِّلاع الملائِكَة على المُغَيِّبَاتِ أكْثَرُ من اطلاع البَشَرِ عليهما ، ونُسَلِّم أن قُدْرَة الملائِكَة على التَّصرُّفِ في هذا العَالم أشَدُّ من قُدْرة البَشَر ، إنما النِّزاعُ في أنَّ ثوابَ طاعَاتِ الملائِكَة أكْثَرُ ، أمْ ثوابُ طاعَاتِ البَشَرِ وهذه الآيَةُ لا تَدُلُّ على ذلك؛ وذلك أن النَّصَارَى إنَّما أثْبَتُوا إلهيَّة عِيسَى؛ لأنه أخْبَر عن الغَيْب ، وأتى بخَوَارِقِ العَادَاتِ ، فإيرادُ الملائِكَة لأجْلِ إبْطَال هذه الشُّبْهَة ، إنما يَسْتَقِيم إذا كانت الملائِكَةُ أقْوَى حالاً في هذا العَالَمِ ، وفي هذه القُدْرَة من البَشَرِ ، ونحن نَقُول بمُوجبهِ .
فأما أن يُقَالَ : المُرادُ من الآية تَفْضِيل الملائِكَة على المَسيحِ في كَثْرَةِ الثَّوَابِ على الطَّاعَاتِ ، فذلك ممَّا لا يُنَاسِب هذا الموضعَ ، ولا يَليقُ به .
فظهر أنَّ هذا الاستدْلاَل إنَّما قَوِي في الأوْهَام؛ لأن النَّاسَ ما لخّصوا مَحَلَّ النِّزَاع .
وأجاب البغوي عن استدلالهم بهذه الآية؛ فقال : ولا حُجَّة لهم فِيهِ؛ لأنه لم يَقُلْ ذَلِك رَفْعاً لمقامِهِم على مَقَامِ البَشَرِ ، بل رَدّاً على الذين يَقُولُون : الملاَئِكَة آلِهَةٌ ، لما ردَّ على النَّصَارَى قولهم : المَسِيحُ ابْنُ اللَّه ، وقال ردّاً على النَّصارَى بزَعْمِهِم؛ فإنَّهُم يقُولُون بتَفْضِيل الملائِكَة ، وهذه الآيَةُ تدُلُّ على أنَّ طبقات المَلاَئكة مُخْتَلِفةٌ؛ لقوله - تعالى - : { وَلاَ الملاائكة المقربون } .
قوله تعالى { فَسَيَحْشُرُهُمْ } الفاءُ يجوز أن تكون جواباً للشَّرْط في قوله : { وَمَن يَسْتَنْكِفْ } ، فإن قيل : جوابُ « إن » الشرطية وأخواتها غير « إذا » لا بدَّ أن يكون محتملاً للوقُوعِ وعدمه ، وحشرُهُمْ إليه جميعاً لا بُدَّ منه ، فكيف وقعَ جَواباً لها؟ فقيل في جوابه وجهان :
أصحهما : أن هذا الكلام تضمَّن الوعد والوعيد؛ لأنَّ حَشْرَهُمْ يقتضي جزاءَهم بالثوابِ أو العقاب ، ويَدُلُّ عليه التفصيلُ الذي بعده في قوله : « فَأَمَّا الذِينَ » إلى آخره ، فيكونُ التقديرُ : ومن يَسْتَنْكِفْ عن عبادته ويَسْتَكْبِرْ ، فيعذبُهُ عند حَشْرِهِ إليه ، ومن لم يستنكفْ ولم يستكبر ، فيثيبه .
والثاني : أنَّ الجوابَ محذوف ، أي : فيجازيه ، ثم أخبر بقوله : { فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } ، وليس بالبيِّن ، وهذا الموضوعُ محتملٌ أن يكون مِمَّا حُمِلَ على لفظةِ « من » تارة في قوله : « يَسْتَنْكِف » [ و « يَسْتَكْبِر » ] فذلك أفرد الضمير ، وعلى معناها أخرى في قوله : « فَسَيحْشُرُهُم » ولذلك جمعهُ ، ويحتمل أنه أعاد الضمير في « فَسَيحْشُرُهُم » على « مَنْ » وغيرها ، فيندرجُ المستنكفُ في ذلك ، ويكون الرابطُ لهذه الجملةِ باسم الشرط العمومَ المشارَ إليه ، وقيل : بل حَذَفَ معطوفاً لفَهْم المعنى ، والتقديرُ : فسيحشُرُهُمْ ، أي : المُسْتنكفينَ وغيرَهُمْ ، كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] ، أي : والبَرْدَ .
و « جَميعاً » حالٌ ، أو تأكيد عند مَنْ جعلها ك « كُلّ » وهو الصحيح ، وقرأ الحسن : « فَسَنحْشُرهُمْ » بنونِ العظمة ، وتخفيف باء « فَيُعَذِبُهُمْ » ، وقرئ « فَسَيَحْشِرُهُمْ » بكسر الشين ، وهي لغةٌ في مضارع « حَشَرَ » .
وقوله تعالى : { فَأَمَّا الذين } : قد تقدَّم الكلامُ على نظيرتها ، ولكن هنا سؤالٌ حسنٌ قاله الزمخشريُّ وهو : « فإن قلت : التفصيل غير مطابقٍ للمفصَّلِ؛ لأنه اشتمل على الفريقين ، والمفصَّلُ على فريق واحد ، قلتُ : هو مثلُ قولك : » جَمَعَ الإمَامُ الخوارجَ : فمن لم يخرجْ عليه ، كساه حُلَّةً ، ومن خَرَجَ عليه ، نَكَّلَ به « وصحةُ ذلك؛ لوجهين :
أحدهما : أن يحذف ذكرُ أحد الفريقين؛ لدلالةِ التفصيل عليه؛ ولأنَّ ذكرَ أحدهما يدلُّ على ذكر الثاني؛ كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله عَقِيبَ هذا : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ } [ النساء : 175 ] .
والثاني : وهو أن الإحسانَ إلى غيرهم مما يَغُمُّهُم؛ فكان داخلاً في جملة التنكيلِ بهم ، فكأنه قيل : ومن يَسْتَنْكِف عن عبادته ويَسْتكبرْ فسيعذبُهُم بالحَسْرة ، إذا رأوْا أجُورَ العاملين ، وبما يصيبُهُم من عذاب الله » . انتهى ، يعني بالتفصيل قوله : « فأمَّا » و « أمَّا » ، وقد اشتمل على فريقين ، أي : المثابين والمعاقبين ، وبالمفصَّل قوله قبل ذلك : « وَمَن يَسْتَنْكِفْ » ، ولم يشتمل إلا على فريقٍ واحدٍ هم المعاقَبُون .
فصل
بيَّن ثواب الَّذِين آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَات أنه يُوَفِّيهم أجُورَهم ، ويزيدهُم من فَضْلِه من التَّضعِيف ما لا عيْنٌ رأتْ ، ولا أذنٌ سَمِعَت ، ولا خطر على قَلْب بَشَر .
قوله : { وَأَمَّا الذين استنكفوا واستكبروا } عن عبادته { فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } .
وقدم ثواب المُؤمنين على عقاب المسْتَنْكِفِ لأنَّهم إذا رَأوْا ثواب المُطيعين ، ثم شَاهَدُوا بعده عقاب أنفسهم ، كان ذلك أعْظَم في الحسرة .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
لما أوْرَد الحُجَّة على جميع الفرق من المُنَافِقِين والكُفَّار واليَهُودِ والنَّصَارَى ، وأجَابَ عن شُبُهَاتِهِم عمم الخطاب ، ودعا جميع النَّاس إلى الاعْتِرَافِ بِرِسَالةِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ن والمراد بالبُرْهَان : محمد - عليه الصلاة والسلام - ، وسُمِّي بُرْهَاناً؛ لأن حِرْفَتَهُ إقامَة البُرْهَان على تحْقِيق الحقِّ ، وإبْطَال البَاطِل ، والنُّور المُبينُ هو القُرآن؛ لأنه سَبَبٌ لوُقُوع نُور الإيمانِ في القَلْبِ .
قوله تعالى : { مِّن رَّبِّكُمْ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مُتَعَلِّق بمَحْذُوفٍ ، لأنه صِفَةٌ ل « بُرْهَان » أي : بُرْهَانٌ كائِنٌ من ربكم ، و « مِنْ » يجُوز أن تكُون لابتداء الغَايَةِ مَجَازاً أو تَبْعِيضيَّة ، أي : من بَرَاهِينِ رَبِّكُم .
والثاني : أنه مُتَعَلِّقٌ بنفس « جَاءَ » ، لابتداء الغَايَةِ كما تقدَّم .
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
فالمُراد : أنهم امتنعُوا به من زَيْغِ الشَّيْطَانِ ، { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ } .
فصل
قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : المراد بالرَّحْمَةِ الجَنَّة ، وبالفَضْلِ : ما يَتَفَضَّل به عليْهِم بمَا لا عَين رَأتْ ، ولا أذُن سَمِعَتْ ، [ ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشر ] .
{ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } .
قوله عزَّ وجَّل : { صِرَاطاً } : مفعولٌ ثان ل « يَهْدِي » ؛ لأنه يتعدَّى لاثنين؛ كما تقدم تحريره ، وقال جماعةٌ منهم مَكِّيٌّ : إنه مفعولٌ بفعْلٍ محذوف دلَّ عليه « يَهْدِيهم » ، والتقدير : « يُعَرِّفُهُمْ » . وقال أبو البقاء قريباً من هذا إلا أنه لم يُضْمِرْ فعلاً ، بل جعله منصوباً ب « يَهْدِي » على المعنى؛ لأنَّ المعنى يُعرِّفُهُم ، قال مكيٌّ في الوجه الثاني : « ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً ل » يَهْدِي « ، أي : يَهْدِيهِم صِرَاطاً مستقيماً إلى ثوابه وجزائه » قال شهاب الدين : ولم أدْرِ لِمَ خَصَّصُوا هذا الموضِعَ دُونَ الذي في الفاتِحَةِ [ الآية : 3 ] ، واحتاجوا إلى تقدير فعل ، أو تضمينه معنى « يُعَرِّفُهُمْ » ؟ وأجاز أبو عليٍّ أن يكون منصوباً على الحال من محذوف؛ فإنه قال : « الهاءُ في » إليه « راجعةٌ إلى ما تقدَّم من اسم الله ، والمعنى : ويَهْديهم إلى صراطه ، فإذا جعلنا » صِرَاطاً مُسْتَقِيماً « نصباً على الحالُ ، كانت الحالُ من هذا المحْذُوفِ » . انتهى ، فتحصَّل في نصبه أربعةُ أوجه :
أحدها : أنه مفعول ب « يَهْدِي » من غير تضمين معنى فعل آخر .
الثاني : أنه على تضمين معنى « يُعَرِّفُهُمْ » .
الثالث : أنه منصوبٌ بمحذوفٍ .
الرابع : أنه نصبٌ على الحال ، وعلى هذا التقدير الذي قدَّره الفارسيُّ تقْرُبُ من الحالِ المؤكِّدة ، وليس كقولك : « تَبَسَّمَ ضَاحِكاً » ؛ لمخالفتِها لصاحبها بزيادة الصفةِ ، وإن وافقته لفظاً ، والهاءُ في « إلَيْهِ » : إمَّا عائدةٌ على « الله » بتقدير حذفِ مضافٍ؛ كما تقدَّم من نحو : « ثواب » أو « صِرَاطه » ، وإمَّا على الفضلِ والرحمة؛ لأنهما في معنى شيء واحد ، وإما عائدةٌ على الفضل؛ لأنه يُراد به طريقُ الجنان .
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
قوله - جل وعلا - : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة } إلى آخر السورة لما تكَلَّم [ في ] أوَّل السُّورَة [ في ] أحْكَام الأمْوَالِ ، خَتَمَها بذلِك الآخِرِ مشاكلاً للأوَّل ، ووسَطُ السُّورةِ مُشْتَمِلٌ على المُنَاظَرَة مع الفرقِ المُخَالِفِين في الدِّينِ .
قال المفسرون : نزلت في جابر بن عبد الله ، قال : عَادَني رسُول الله صلى الله عليه وسلم [ وشرف وكرم وعظم ] ، وأنا مَرِيضٌ لا أعْقِل ، فَتَوَضَّأ وصبَّ من وُضوئه عليَّ ، فعَقَلْتُ ، فَقُلْت : يا رسُول الله ، لِمن المِيرَاثُ ، إنَّهُما يَرِثُنَي كلالة ، فنزلت { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة } . ومعنى : يَسْتفتُونَك : يَسْتَخْبِرُونَك ، قال البَرَاء بن عَازِب : هذه آخر آية نَزَلَتْ من القُرْآن .
قال القرطبي : كذا قال في مُسْلم ، وقيل أنزلَتْ في النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم .
قوله سبحانه وتعالى : { فِي الكلالة } : متعلق ب « يُفْتيكُم » ؛ على إعمال الثاني ، وهو اختيار البصريّين ، ولو أعْمَلَ الأولَ ، لأضمرَ في الثاني ، وله نظائرُ في القرآن : { هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ } [ الحاقة : 19 ] . { آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [ الكهف : 96 ] { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله } [ المنافقون : 5 ] { والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ } [ البقرة : 39 ] ، وقد تقدَّم الكلامُ فيه في البقرة ، وتقدَّم الكلام في اشتقاق الكلالة في أوَّل هذه السُّورة [ النساء : 12 ] ، وقوله : { إِن امرؤ } كقوله : { وَإِنِ امرأة } [ النساء : 128 ] . و « هَلَكَ » جملةٌ فعليةٌ في محلِّ رفع صفة ل « امْرُؤٌ » .
و { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } جملةٌ في محلِّ رفعِ أيضاً صفةً ثانية ، وأجاز أبو البقاء أن تكون هذه الجملةُ حالاً من الضمير في « هَلَكَ » ، ولم يذكر غيره ، ومنع الزمخشريُّ أن تكون حالاً ، ولم يبيِّن العلةَ في ذلك ، ولا بيَّن صاحب الحال أيضاً ، هل هو « امْرُؤٌ » أو الضميرُ في « هَلَكَ » ؟ قال أبو حيان : « ومنع الزمخشريُّ أن يكون قوله : { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } جملةً حالية من الضمير في » هَلَكَ « ، فقال : ومحلُّ { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } الرفع على الصفةِ ، لا النصبُ على الحال » . انتهى ، قال شهاب الدين : والزمخشريُّ لم يَقُلْ كذلك ، أي : لم يمنعْ كونها حالاً من الضمير في « هَلَكَ » ، بل منع حاليتها على العموم ، كما هو ظاهر قوله ، ويحتملُ أنه أراد منع حاليتها من « امْرُؤٌ » ؛ لأنه نكرةٌ ، لكنَّ النَكرة هنا قد تخصَّصَتْ بالوصف ، وبالجملةِ فالحالُ من النكرَةِ أقلُّ منه من المعرفة ، والذي ينبغي امتناعُ حاليتها مطلقاً؛ كما هو ظاهر عبارته؛ وذلك أنَّ هذه الجملة المفسِّرة للفعل المحذوف لا موضعَ لها من الإعراب؛ فأشبهت الجمل المؤكِّدة ، وأنت إذا أتبعت أو أخبرت ، فإنما تريدُ ذلك الاسم المتقدِّم في الجملة المؤكِّدة السابقة ، لا ذلك الاسم المُكَرَّرَ في الجملة الثانية التي جاءت تأكيداً؛ لأن الجملة الأولى هي المقصودة بالحديث ، فإذا قلت : « ضَرَبْتُ زَيْداً ، ضربْتُ زَيْداً الفَاضِل » ، ف « الفَاضِل » صفةُ « زَيْداً » الأوَّلِ؛ لأنه في الجملة المؤكدة المقصودُ بالإخبار ، ولا يضُرُّ الفصلُ بين النعتِ والمنعوت بجملة التأكيد ، فهذا المعنى يَنْفِي كونها حالاً من الضمير في « هَلَكَ » ، وأما ما ينفي كونها حالاً من « امْرؤٌ » فلما ذكرته لك من قلَّةِ مجيء الحال من النكرةِ في الجملة ، وفي هذه الآية على ما اختارُوهُ من كون « لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ » صفة - دليلٌ على الفصْلِ بين النعت والمنعوت بالجملة المفسرة للمحذوف في باب الاشتغال ، ونظيرُه : « إنْ رَجُلٌ قام عَاقِلٌ فأكْرِمْهُ » ف « عَاقِلٌ » صفةٌ ل « رَجُلٌ » فُصِل بينهما ب « قَامَ » المفسِّر ل « قام » المفسَّر .
فصل
قال القُرطبيُّ : معنى قوله - تعالى - : { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } أي : ليس لَهُ ولدٌ ولا وَالِدٌ ، فاكْتَفَى بِذْكِرِ أحدهما .
قال الجُرْجَانِيُّ : لفظ الولد يَنْطَلِقُ على الوالدِ والموْلُود ، فالوالدُ يُسَمَّى والداً؛ لأنه وَلد ، والمَوْلُود يسَمَّى ولداً؛ لأنه [ وُلد ] ؛ كالذُّرِّيَّة [ فإنَّهَا من ذَرَأ ] ثم تُطْلَقُ على الولد ، وعلى الوَالِدِ؛ قال - تعالى - : { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون } [ يس : 41 ] وقوله - سبحانه - : { وَلَهُ أُخْتٌ } ؛ كقوله : { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } ، والفاء في « فَلَهَا » جوابُ « إنْ » .
فصل في تقييدات ثلاثة ذكرها الرازي في الآية
قال ابن الخطيب : ظَاهِرُ هذه الآية فِيهِ تَقْيِيداتٌ ثلاثة :
الأول : أن ظاهرهَا يَقْتَضِي أن الأخْتَ إنَّما تأخُذ النِّصْفَ عند عدم الولد فأما عند وجود الولد ، فإنها لا تأخذ النصف ، وليس الأمر كذلك بل شرط كون الأخت تأخذ النصف ألاَّ يكون للميت ولد ابن ، وهذا لا يرد على ظاهر الآية؛ لأن المقصُودَ من الآيَةِ بيانُ أصْحَاب الفُرُوضِ ومُسْتَحقِّيها ، وفي هذه الصُّورَة إنما تأخذ النِّصْف بالتعصيب لا بكونه مَفْروضاً أصالة ، بل لِكَوْنه ما بَقِي بدليل أنه لو كان معها بنتان ، فإن لها الثلث الباقي بعد فرض البنتين .
الثاني : ظاهر الآية يَقْتَضِي أنَّه إذا لم يَكُن للميت ولد ولا والِدٌ؛ لأن الأخْت لا ترثُ مع الوالِدِ بالإجْمَاعِ ، وهذا لا يرد - أيضاً - على ظاهرِ الآية في الكلالةِ ، وشَرطُها عدم الولدِ والوَالِد .
الثالث : أن قوله : « وله أخت » المراد منه الأخت من الأبَوَيْن ، ومن الأبِ؛ لأن الأخْتَ من الأم ، والأخَ من الأمِّ قد بَيَّن الله حُكْمَه في أوَّل السُّورَة .
وقوله عز وجل : { وَهُوَ يَرِثُهَآ } لا محلَّ لهذه الجملة من الإعراب؛ لاستئنافها ، وهي دالةٌ على جواب الشرط ، وليست جواباً؛ خلافاً للكوفيِّين وأبي زيد ، وقال أبو البقاء : « وقد سدَّتْ هذه الجملةُ مَسَدَّ جواب الشرط » ، يريد أنها دالةٌ كما تقدَّم ، وهذا كما يقول النحاة : إذا اجتمع شرطٌ وقسم ، أُجِيبَ سابقهما ، وجعل ذلك الجوابُ سادّاً مسدَّ جواب الآخر ، والضَّميران من قوله : « وهو يَرِثُهَا » عائدان على لفظ امرئ وأخت دون معناهما ، فهو من باب قوله : [ الطويل ]
1911- وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهْوَ سَارِبُ
وقولهم : « عنْدي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ » ، وقوله تعالى : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } [ فاطر : 11 ] ، وإنما احتيج إلى ذلك؛ لأنَّ الحيةَ لا تُورثُ ، والهالكَ لا يرثُ ، فالمعنى : وامْرَأ آخَرَ غيرَ الهَالِكِ يَرِثُ أختاً له أخْرَى .
فصل
المعنى : إن الأخَ يَسْتغْرِق ميراث الأخْتِ ، إن لم يكُن للأخْتِ ولدٌ ، فإن كان لها ابْنٌ ، فلا شيء للأخ ، وإن كان ولدُهَا أنْثَى ، فللأخِ ما فضُل عن فَرْضِ البَنَاتِ ، وهذا في الأخ للأبَوَيْنِ أو [ الأخِ ] للأب ، فأما الأخ للأمِّ؛ فإنه [ لا يَسْتَغْرِقُ الميراثَ ، ويَسْقُط بالوَلَدِ ] .
قوله تعالى : { فَإِن كَانَتَا اثنتين } الألف في « كَانَتَا » فيها أقوال :
أحدها : أنها تعود على الأختين يدلُّ على ذلك قوله : « ولَهُ أختٌ » ، أي : فإن كانت الأختان اثنتين ، وقد جَرَتْ عادةُ النحويّين أن يسألوا هنا سؤالاً ، وهو أنَّ الخبر لا بُدَّ أن يفيد ما لا يفيدُهُ المبتدأ ، وإلاَّ لم يكنْ كلاماً ، ولذلك منعُوا : « سيِّدُ الجَارِيَةِ مالِكُهَا » ؛ لأن الخبر لم يَزِدْ على ما أفاده المبتدأ ، والخبرُ هنا دَلَّ على عدد ذلك العدد مستفادٌ من الألف في « كَانَتَا » ، وقد أجابوا عن ذلك بأجْوبَةٍ منها : ما ذكره أبو الحسن الأخْفشُ وهو أنَّ قوله « اثْنَتَيْن » يدلُّ على مجرَّد الاثْنَيْنيَّة من غير تقييدٍ بصغير أو كبير أو غير ذلك من الأوصاف ، يعني أن الثُّلثين يستحقَّان بمجرَّد هذا العدد من غير اعتبار قيدٍ آخر؛ فصار الكلام بذلك مُفِيداً ، وهذا غيرُ واضحٍ؛ لأنَّ الألفَ في « كَانَتَا » تدلُّ أيضاً على مجرَّد الاثْنينيَّة من غير قيد بصغير أو كبير أو غيرهما من الأوصاف ، فقد رجع الأمرُ إلى أنَّ الخبر لم يُفِدْ غير ما أفادَهُ المبتدأ ، ومنها : ما ذكرَهُ مكي عن الأخْفَشِ أيضاً ، وتبعه الزمخشريُّ وغيره؛ وهو الحَمْلُ على معنى « مَنْ » ، وتقريرُه ما ذكره الزمخشريُّ؛ قال رحمه الله : « فإن قلت : إلى مَنْ يرجعُ ضميرُ التثنية والجمع في قوله : » فإنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ ، وإنْ كَانُوا إخْوة « ؟ قلتُ : أصلُه : فإن كان مَنْ يَرِثُ بالأخوَّة اثْنتين ، وإن كان من يرثُ بالأخوَّة ذكوراً وإناثاً ، وإنما قيل : » فإنْ كَانَتَا ، وإن كَانُوا « كما قيل : » مَنْ كَانَتْ أمَّكَ « ، فكما أنَّث ضمير » مَنْ « لمكان تأنيث الخبر كذلك ثَنَّى وجمع ضميرَ مَنْ يرث في » كَانَتَا « و » كَانُوا « ؛ لمكانِ تثنية الخبر وجمعه » ، وهو جوابٌ حسن .
إلا أن أبا حيان اعترضَهُ ، فقال : « هذا تخريجٌ لا يَصِحُّ ، وليس نظيرَ » مَنْ كانَتْ أمَّكَ « ؛ لأنه قد صَرَّح ب » مَنْ « ، ولها لفظٌ ومعنًى ، فمن أنَّث ، راعى المعنى؛ لأن التقدير : أيةُ أمٍّ كانَتْ أمكَ » ومدلولُ الخبر في هذا مخالفٌ لمدلولِ الاسمِ؛ بخلافِ الآية؛ فإن المدلولَيْنِ واحد ، ولم يؤنِّث في « مَنْ كَانَتْ أمكَ » ؛ لتأنيث الخبر ، إنما أنَّث لمعنى « مَنْ » ؛ إذ أراد بها مؤنَّثاً؛ ألا ترى أنك تقول : « مَنْ قَامَتْ » ، فتؤنث مراعاة للمعنَى؛ إذ أردْتَ السؤال عن مؤنَّث ، ولا خبر هنا؛ فيؤنَّثَ « قَامَتْ » لأجله « . انتهى . قال شهاب الدين : وهذا تحاملٌ منه على عادته ، والزمخشريُّ وغيره لم يُنْكِرُوا أنه لم يُصَرِّحُ في الآية بلفظ » مَنْ « ؛ حتَّى يُفَرِّقَ لهم بهذا الفرقِ الغامِضِ ، وهذا التخريجُ المذكورُ هو القولُ الثاني في الألف .
والظاهرُ أنَّ الضمير في » كَانَتَا « عائدٌ على الوَارِثَتَيْنِ ، و » اثْنَتَيْنِ « خبرُه ، و » لَهُ « صفةٌ محذوفة بها حصلتِ المغايرةُ بين الاسْم والخبر ، والتقديرُ : فإن كانت الوارثَتَانِ اثنتَيْن من الأخَوَاتِ ، وهذا جوابٌ حسنٌ ، وحذفُ الصفةِ لفهمِ المعنى غيرُ مُنْكَرٍ ، وإن كان أقلَّ من عكْسه ، ويجوز أن يكون خبرُ » كَانَ « محذوفاً ، والألفُ تعودُ على الأختين المدْلُولِ عليهما بقوله : » وَلَهُ أُخْتٌ « ؛ كما تقدَّم ذكره عن الأخفش وغيره؛ وحينئذٍ يكونُ قوله : » اثْنَتَيْن « حالاً مؤكِّدة ، والتقديرُ : وإنْ كانت الأختانِ له ، فحذفَ » لَهُ « ، لدلالةِ قوله : » وَلَهُ أُخْتٌ « عليه . فهذه أربعةُ أقوال .
فصل
أرادَ اثْنَتَيْن فَصَاعِداً ، وهو أنَّ من مَاتَ له أخواتٌ فَلَهُنَّ الثُلُثَانِ .
قوله تعالى : { وَإِن كانوا } في هذا الضمير ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه عائد على معنى » مَنْ « المقدرة ، تقديرُه : » فإنْ كَانَ مَنْ يَرِثُ إخْوَة « ؛ كما تقدَّم تقريره عن الزمخشريِّ وغيره .
الثاني : أنه يعود على الإخْوَة ، ويكون قد أفاد الخبر بالتفصيل؛ فإنَّ الإخوة يشمل الذُّكُورَ والإنَاث ، وإن كان ظاهراً في الذكور خاصَّة ، فقد أفاد الخبر ما لم يُفِدْه الاسم ، وإن عاد على الوارث ، فقد أفاد ما لم يُفِدْه الاسم إفادةً واضحةً ، وهذا هو الوجهُ الثالثُ ، وقوله : » فَلِلذَّكَرِ « ، أي : منهم ، فحُذِفَ لدلالةِ المعنَى عليه .
فصل
هذه الآيةُ دَالَّةٌ على أنّ الأخْتَ المَذْكُورة لَيْسَت هي الأخْت للأمِّ .
رُوِي أن الصِّديق - رضي الله عنه - قال في خُطْبَتهِ : ألا إنّ الآية الَّتِي أنْزَلَهَا الله - تعالى - في سُورة النِّسَاء في الفَرَائِض؛ فأولها : في الوَلَدِ والوَالِدِ ، وثانيها : في الزَّوْج والزَّوْجَة والإخْوَة من الأمِّ ، والآية التي ختم بها السُّورة في الإخْوَة والأخَوَاتِ ، والآيَةُ التي خَتَم بها في سُورة الأنْفَالِ أنْزَلَها في أولي الأرْحَامِ .
قوله - تعالى - : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أظهرها : أن مفعول البيان محذوفٌ ، و « أن تَضِلُّوا » مفعولٌ من أجله؛ على حذفِ مضاف ، تقديره : يُبَيِّنُ اللَّهُ أمْرَ الكلالةِ كراهة أنْ تَضِلُّوا فيها ، أي : في حُكْمِهَا ، وهذا تقديرُ المبرِّد .
والثاني - قول الكسائي والفراء وغيرهما من الكوفيين - : أنَّ « لا » محذوفةٌ بعد « أنْ » ، والتقدير : لئلاَّ تَضِلُّوا ، قالوا : وحذفُ « لا » شائعٌ ذائعٌ؛ كقوله : [ الوافر ]
1912- رَأيْنَا مَا رَأى البُصَراءُ فِيهَا ... فَآلَيْنَا عَلَيْهَا أنْ تُبَاعَا
أي : ألاَّ تُبَاعَ ، وقال أبو إسحاق الزَّجاج : « هو مثل قوله تعالى : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ } [ فاطر : 41 ] أي : لئلا تَزُولا ، وقال أبو عبيد : » رَوَيْتُ للكسائيِّ حديث ابن عُمَر وهو : « لا يَدْعُونَّ أحدُكُمْ على وَلَدِهِ أن وَافَقَ مِنَ الله إجَابَة » فاستحسنه ، أي : لئلاَّ يوافق .
قال النَّحَّاس : المعنى عند أبي عُبَيْد : لئلا يُوافِق من اللَّه إجابة ، وهذا القَوْلُ عند البصريِّين خطأ؛ لأنهم لا يُجِيزُون إضْمَار « لا » ، والمعنى عندهُم : يبيِّن الله لَكُم كرَاهَة أنْ تَضِلُّوا ، ثم حذف؛ كما قال : { [ واسأل القرية ] } [ يوسف : 82 ] ، وكذا معنى الحديث ، أي كَراهَة أن يُوافِقَ من اللَّه إجَابَة .
ورجَّح الفارسيُّ قول المبرِّد؛ بأنَّ حذفَ المضاف أشيعُ من حذف « لا » النافية .
الثالث : أنه مفعول « يُبَيِّنُ » ، والمعنى : يبيِّن الله لكُمُ الضلالة ، فتجتنبونَها؛ لأنه إذا بيَّن الشر اجتُنِبَ ، وإذا بيَّن الخيرَ ارتُكِب .
فصل
اعلم أن في هذه السُّورَة [ الشَّرِيفَة ] لَطِيفَة عَجِيبة ، وهي أن أوَّلَها مشتمل على بيان كمال قُدْرَة الله - تعالى -؛ لقوله : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ النساء : 1 ] وهذا دَالٌّ على سِعَة القُدْرَة ، وآخِرَهَا مُشْتَمِلٌ على بيان كَمَالِ العِلْمِ ، وهو قوله تعالى : { والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وهذا الوَصْفَان؛ أعني : العِلْم والقُدْرَة بهما تثبت الرُّبُوبِيَّة والإلهِيَّة والجلال والعِزَّة ، وبهما يَجب على العَبْد أن يكُون مُطِيعاً للأوامر والنَّواهِي ، مُنقَاداً للتَّكَالِيف .
رُوِي عن البَرَاء [ بن عَازِب ] قال : آخِرُ سُورَة [ نَزَلت ] كَامِلَة { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله } [ التوبة : 1 ] وآخر آية نزلت ، آخر سُورة النِّسَاءِ : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة } .
وروي [ عن ] ابن عباس؛ [ أنَّ ] آخِر آية نزلت آية الرِّبَا ، وآخر سُورة نزلت : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } [ النصر : 1 ] .
ورُوي بعدمَا نَزَلَتْ سُورة « النصْر » عاشَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم بَعْدَهَا سِتَّة أشْهُر ، ثم نَزَلَتْ في طَرِيق حجَّة الوداع : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة } فسمِّيت آية الصَّيْف ، لأنها نَزَلَتْ في الصَّيْف ، ثم نَزَلَتْ وهو وَاقِفٌ بعَرَفَات : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [ وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً ] } [ المائدة : 3 ] ، فعاش بَعْدَها إحْدَى وعِشْرِين يوماً .
عن أبيٍّ قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ النِّساء فَكَأنَّمَا تَصَدَّقَ على كلِّ مَنْ وَرِثَ مِيرَاثاً ، وأعْطِي مِنَ الأجْرِ كَمَنِ اشْتَرى مُحرّراً ، وبَرِئ مِنَ الشِّرْك ، وَكَانَ في مَشِيئةَ اللَّهِ - تعالى - مِنَ الَّذِين يَتَجَاوَزُ عَنْهُمْ » .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } بالعقود أي : بالعهود ، ويقال : وَفَّى بالعهد ، وأوفى به . قال الزَّجَّاج : هي أوكد العهود ، ويقال : عاقدت فلاناً ، وعقدت عليه ، أي : ألزمته ذلك باستيثاق ، وأصله من عقد الشيء بغيره ، ووصله به كما يعقد الحبل بالحبل .
فالعهد إلزام ، والعقد التزام على سبيل الإحكام ، ولما كان الإيمان هو المعرفة بالله تعالى وصفاته وأحكامه ، وكان من جملة أحكامه أنه يجب على الخَلْقِ إظهار الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه وأوامره ونواهيه - أمر بالوفاء بالعقود ، أي : أنكم التزمتم بإيمكانكم أنواع العقود والطاعة بتلك العقود .
فصل في الكلام على فصاحة الآية
قال القرطبي : هذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها ، لكل بصير بالكلام؛ فإنها تضمنت خمسة أحكام :
الأول : الأمر بالوفاء بالعقود .
الثاني : تحليل بهيمة الأنعام .
الثالث : استثناء ما يلي بعد ذلك .
الرابع : استثناء حال الإحرام فيما يُصَادُ .
الخامس : ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم .
وحكى النقاش أن أصحاب الكندي ، قالوا له : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن ، فقال : نعم أعمل مثل بعضه فاحتجب أياماً كثيرة ، ثم خرج ، فقال : والله ما أقدر ، ولا يطيق هذا أحد ، إني فتحت المصحف فخرجت سورة « المائدة » ، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ، ونهى عن النكث ، وحلل تحليلاً عاماً ، ثم استثنى استثناء بعد استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين [ ولا ] يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد .
فصل في الخطاب في الآية
واختلفوا في هذه العقود ، فقال ابن جريج : هذا خطاب لأهل الكتاب ، يعني : { يا أيها الذين آمنوا } بالكتب المتقدمة أوفوا بالعهود ، التي عهدتها عليكم في شأن محمد - عليه الصلاة والسلام - وهو قوله : { وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 187 ] .
وقال آخرون : هو عام .
وقال قتادة : أراد بها الحِلْفَ الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية .
وقال ابن عباس : هي عهود الإيمان والقرآن .
قال ابن عباس : « أوفوا بالعقود » أي : بما أحل وبما حرم ، وبما فرض ، وبما حَدَّ في جميع الأشياء كذلك ، قاله مجاهد وغيره .
وقال ابن شهاب [ الدين ] : قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لعمرو بن حَزْم حين بعثه إلى « نجران » ، وفي صدره : هذا بيان للناس من الله ورسوله ، { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } الآية ، فكتب الآيات فيها ، إلى قوله : { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } ، والمقصود أداء التكاليف فعلاً وتركاً .
وإنما [ سميت التكاليف عقوداً لأنه - تعالى - ربطها بعبادته كما يربط الشيء بالشيء بالحبل ] الموثق .
وقيل : هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم .
فصل في فقه الآية
قال الشافعي : إذا نذر صوم [ يوم ] العيد ، أو نذر ذبح الولد لغى .
وقال أبو حنيفة رحمه الله : بل يصح ، واحتج بقوله : « أوفوا بالعقود » وبقوله : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ] ، وبقوله : { يُوفُونَ بالنذر } [ الإنسان : 7 ] { والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } [ البقرة : 177 ] ولقوله عليه الصلاة والسلام : « أوفِ بنَذْرِكَ » .
وقال الشافعي : هذا نذر معصية ، فيكون لغواً؛ لقوله عليه السلام : « لا نذر في معصية الله » .
وقال أبو حنيفة : خيار المجلس غير ثابت؛ لأن البيع والشراء قد انعقدا ، فحرم الفسخ لقوله تعالى : { أَوْفُواْ بالعقود } .
وقال الشافعي : يثبت؛ لأن هذا العموم [ قد خص بقوله عليه الصلاة والسلام : « المتبايعان بالخيار كل واحد منهما ما لم يتفرقا » .
وقال أبو حنيفة : الجمع بين الطلقات ] حرام؛ لأن النكاح عقد ، فوجب أن يحرم رفعه لقوله تعالى : { أَوْفُواْ بالعقود } تُرك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع ، فيبقى فيما عداها على الأصل .
وقال الشافعي : ليس بحرام لتخصيص هذا العموم بالقياس ، وهو أنه لو حرم الجمع لما نفذ ، وقد نفذ فلا يحرم .
قوله سبحانه : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } لما قرر أولاً جميع التكاليف من حيث الجملة ، شرع في ذكرها من حيث التفصيل .
والبهيمة كل ذات أربع في البر والبحر [ وقيل : ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم .
قالوا وأصله : كل حي لا عقل له فهو بهيمة ] من قولهم : استبهم الأمر على فلان إذا أشكل ، وهذا البابُ مُبْهم ، أي : مسدود الطريق ، ثم اختص هذا الاسم بذوات الأربع ، وكل ما كان على وزن « فعيل » أو « فعيلة » حلقي العين ، جاز في فائه الكسر إتباعاً لعينه ، نحو : بهيمة ، وشعيرة ، وصغيرة ، وبحيرة .
والأنعام هي الإبل والبقر والغنم ، قال تعالى : { والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ } [ النحل : 5 ] إلى قوله : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا } [ النحل : 8 ] وقال تعالى : { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً } [ يس : 71 ] إلى قوله : { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يس : 72 ] وقال : { وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً } [ الأنعام : 142 ] .
وقال الواحدي : لا يدخل في اسم الأنعام الحافر؛ لأنه مأخوذ من نعومة الوطء ، وقد تقدم في « آل عمران » .
فإن قيل : البهيمة اسم جنس ، والأنعام اسم نوع ، فقوله : « بَهِيمَةُ الأنعام » يجري مجرى قول القائل : حيوان الإنسان ، فالحيوان إن قلنا إن المراد بالبهيمة وبالأنعام شيء واحد ، فإضافة البهيمة إلى الأنعام [ إما للبيان ] فهو كقولك : خاتم فضّة ، أي : من فضّة ، ومعناه [ أنَّ ] البهيمة من الأنعام ، أو للتأكيد كقولنا : نفس الشيء وذاته وعينه .
وإن قلنا : المراد بالبهيمة شيء ، والأنعام شيء آخر ، ففيه وجهان :
أحدهما : أن المراد من بهيمة الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوها ، كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ، ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار ، فأضيف الاجترار إلى الأنعام لحصول المشابهة .
والثاني : أن المراد ببهيمة الأنعام أجنة الأنعام ، روي عن ابن عباس [ - رضي الله عنهما - ] أن بقرة ذبحت ، فوجد في بطنها جنين ، فأخذ ابن عباس بذنبه ، وقال : هذا من بهيمة الأنعام .
وعن ابن عمر أنها أجنة الأنعام ، وذكاته ذكاة أمه ، ومثله عن الشعبي .
وذهب أكثر اهل العلم إلى تحليله؛ لما روى أبو سعيد ، « قال : قلنا : يا رسول الله : » نَنْحَرُ الناقة ، ونذبح البقرة والشاة ، فنجد في بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله « ؟ قال : » كُلُوهُ إنْ شِئْتُمْ ، فإنَّ ذكاتَه ذكاة أمِّهِ « وشرط بعضهم الإشعار .
فإن قيل : لو قال : أحلت لكم الأنعام ، لكان الكلام تاماً؛ كقوله تعالى في آية أخرى : { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام } [ الحج : 30 ] فما فائدة زيادة لفظ » البهيمة « هنا؟
[ الجواب : إن قلنا : إن بهيمة الأنعام هي الأجنة ] فالجواب : ما تقدم من الإضافة ، أعني إضافة بهيمة الأنعام .
فإن قيل : لِمَ أفرد » البهيمة « وجمع لفظ » الأنعام « ؟
فالجواب : إرادة للجنس .
فصل في الرد على شبهة الثنوية
قالت الثنوية : ذبح الحيوان إيلامٌ ، والإيلام قبيح ، والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم ، فيمتنع أن يكون الذبح حلالاً مباحاً بحكم الله ، وتحقيق ذلك أن هذه الحيوانات ليس لها قدرة على الدفع عن أنفسها ، ولا لها لسان تحتج به على من قصد إيلامها ، وإيلام من بلغ في العجز إلى هذا الحد أقبح .
وعند هذه الشبهة افترق المسملون فرقاً كثيرة :
فقالت المكرمية : لا نسلم أن هذه الحيوانات تتألم عند الذبح ، بل لَعَلَّ تعالى يرفع عنها ألم الذبح ، وهذا مكابرة للضروريات .
وقالت المعتزلة : لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقاً ، بل إنما يقبح إذا لم لم يكن مسبوقاً بجناية ، ولا ملحوقاً بعوض .
وهاهنا الله تعالى عوض هذه الجنايات بأعواض شريفة ، فخرج هذا الذبح عن كونه ظُلْماً .
ويدلُّ على صحة ما قلناه أن ما تقرر في العقول أنه يحسن تحمل ألَم الفَصْد والحجامة لطلب الصحة ، فإذا حَسُنَ تحمُّل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة ، فكذا القول في الذبح .
وقال أهل السُّنة : إن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه والمالك لا اعتراض عليه إذا تصرف في ملك نفسه ، والمسألة طويلة .
فصل
قال بعضهم : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } مجمل؛ لأن الإحْلال إنما يضاف إلى الأفعال ، وهاهنا أضيف إلى الذات ، فتعذر إجراؤه على ظاهره ، فلا بُدَّ من إضمار فعل ، وليس إضمار الأفعال أولى من بعض ، فيحتمل أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها ، أو بعظمها ، أو صوفها ، أو لحمها ، أو المراد إحلال الانتفاع بالأكل ، فصارت الآية مجملة ، إلا أن قوله تعالى : { والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [ النحل : 5 ] دل على أن المراد بقوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام } إباحة الانتفاع من كل هذه الوجوه ، والله أعلم .
[ قوله { إلا ما يتلى عليكم } هذا مستثنى من » بهيمة الأنعام « والمعنى : ما يتلى عليكم تحريمه ] وذلك قوله تعالى :
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } [ المائدة : 3 ] إلى قوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } [ المائدة : 3 ] .
وفي هذا الاستثناء قولان :
أحدهما : أنه متصل .
والثاني : أنه منقطع حسب ما فُسر به المتلوُّ عليهم ، كما سيأتي بيانه .
وعلى تقدير كونه [ استثناء ] متصلاً يجوز في محلّه وجهان :
أظهرهما : أنه منصوب؛ لأنه استثناء متصل من موجب ، ويجوز أن يرفع على أنه نعت ل « بهيمة » على ما قرر في علم النحو .
ونقل ابن عطيَّة عن الكوفيين وجهين آخرين
أحدهما : أنه يجوز رفعه على البدل من « بهيمة » .
والثاني : أن « لا » حرف عطف ، وما بعدها عطف على ما قبلها ، ثم قال : وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس ، نحو : جاء الرجال إلا زيد ، كأنك قلت : غير زيد ، وقوله : وذلك ظاهره أنه مُشارٌ به إلى الوجهين : البدل والعطف .
وقوله : إلا من نكرة غير ظاهرة؛ لأن البدل لا يجوز ألبتة من موجب عند أحد من الكوفيين [ والبصريين .
ولا يُشترط في البدل التوافقُ تعريفاً وتنكيراً وأما العطف فذكره بعض الكوفيين ] .
وأما الذي اشترط البصريون فيه التنكير ، أو ما قاربه ، فإنما اشترطوه في النعت ب « إلاَّ » فيُحتمل أنه اختلط على أبي محمد شرط النعت ، فجعله شرطاً في البدل ، هذا كله إذا أريد بالمتلوِّ عليهم تحريمه في قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } [ المائدة : 3 ] إلى آخره .
وإن أريد به الأنعامُ والظباء وبقرُ الوحش وحُمره ، فيكون منقطعاً بمعنى « لكن » عند البصريين ، وبمعنى « بل » عند الكوفيين .
وسيأتي بيان هذا المنقطع [ بأكثر من هذا ] في نصب « غير » .
قوله : « غَيْرَ » في نصبه خمسة أوجه :
أحدها : أنه حال من الضمير المجرور في « لكم » ، وهذا قول الجمهور ، وإليه ذهب الزمخشري ، وابن عطية وغيرهما .
وقد ضعف هذا الوجه بأنه يلزم منه تقييدُ إحلال بهيمة الأنعام لهم بحال كونهم غَيْرَ محلِّي الصيد ، وهم حرم؛ إذْ يصير معناه : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } [ في حال كون انتفاء كونكم تحلون الصيد ، وأنتم حرم ، والغرض أنهم قد أحلت لهم بهيمة الأنعام ] في هذه الحال وفي غيرها ، هذا إذا أريد ببهيمة الأنعام نفسها .
وأما إذا عني بها الظباء ، وحُمُر الوحش ، وبقره على ما فسَّره بعضهم ، فيظهر للتقييد بهذه الحالة فائدة؛ إذ يصير المعنى « أحلّت لكم » هذه الأشياء حال انتفاء كونكم تحلُّون الصيد وأنتم حرم ، فهذا معنى صحيح ، ولكن التركيب [ الذي قدرته لك ] فيه قَلَقٌ ولو أريد هذا المعنى من الآية الكريمة لجاءت به على أحسن تركيب وأفصحه .
القول الثاني : وهو قول الأخفش وجماعة أنه حال من فاعل « أوفوا » ، والتقدير : أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم محلِّين الصيد وأنتم حُرم ، وقد ضعفوا هذا المذهب من وجهين :
الأول : أنه يلزم [ منه ] الفَصْلُ بين الحال وصاحبها بجملة أجنبية ، ولا يجوز الفَصْل إلا بجمل الاعتراض ، وهذه الجملة وهي قوله : { أحلَّت لكم بهيمة الأنعام } ليست اعتراضية ، بل هي منشئة أحكاماً ومبينة لها .
وجملة الاعتراض إنما تفيد تأكيداً وتسْديداً .
والثاني : أنه يلزم تقييد الأمر بإيفاء العقود بهذه الحالة ، ويصير التقدير؛ كما تقدم ، فإذا اعتبرنا مَفْهُومه يصير المعنى : فإذا انتفت هذه الحال فلا توفوا بالعقود ، والأمر ليس كذلك فإنهم مأمورون بالإيفاء بالعقود على كل حال من إحرام وغيره .
الوجه الثاني : أنه منصوب على الحال من الضمير المجرور في « عليكم » [ أي ] : لا [ ما ] يتلى عليكم ، حال انتفاء كونكم محلّين الصيد ، وهو ضعيف أيضاً بما تقدم من أن المتلو عليهم لا يتقيد بهذا الحال دون غيرها ، بل هو متلو عليهم في هذه الحال ، وفي غيرها .
الوجه الرابع : أنه حال من الفاعل المقدر يعني الذي حُذِفَ ، وأقيم المفعول مقامه في قوله تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام } ، فإن التقدير عنده : أحل الله لكم بهيمة الأنعام غير محلي لكم الصيد وأنتم حرم ، فحذف الفاعل ، وأقام المفعول مقامه ، وترك الحال من الفاعل باقية .
وهذا الوجه فيه ضعف من وجوه :
الأول : أن الفاعل المنوب عنه صار نَسْياً مَنْسياً غير ملتفت إليه ، نَصُّوا على ذلك ، لو قلت : أنزل الغيث مجيباً لدعائهم ، وتجعل مجيباً حال من الفاعل المنوب عنه؛ فإن التقدير : أنزل الله الغيث حال إجابته لدعائهم ، لم يجز ، فكذلك هذا ، ولا سيما إذا قيل : بأن بنية الفعل المبني للمفعول بنية مستقلة غير محلولة من بنية مبنية للفاعل كما هو قول الكوفيين ، وجماعة من البصريين .
الثاني : أنه يلزم منه [ التقييد بهذه الحال إذا عُني بالأنعام الثمانية الأزواج ، وتقييد إحلاله تعالى لهم هذه الثمانية الأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم والله تعالى قد أحل لهم هذه مطلقاً ] .
الثالث : أنه كتب « مُحلّي بصيغة الجمع ، فكيف يكون حالاً من الله تعالى ، وكأن هذا القائل زعم أن اللفظ » محل « من غير ياء ، وسيأتي ما يشبه هذا القول .
الوجه الخامس : أنه منصوب على الاستثناء المكرر ، يعني أنه هو وقوله : » إِلاَّ مَا يتلى [ عَلَيْكُمْ ] « مستثنيان من شيء واحد ، وهو بهيمة الأنعام .
نقل ذلك بعضهم عن البصريين ، قال : والتقدير : إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد ، وأنتم محرمون ، بخلاف قوله تعالى : { إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } [ الذاريات : 32 ] على ما سيأتي بيانه .
قال هذا القائل : ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام؛ لأنه مستثنى من الإباحة ، وهذا وجه ساقط ، فإذاً معناه : أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلِّي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد .
انتهى .
وقال أبو حيان : إنما عرض الإشكال من جعلهم غير محلّي الصيد حالاً من المأمورين بإيفاء العقود ، أو من المحلّل وهو الله تعالى ، أو من المتلو عليهم وغرَّهم في ذلك كونه كتب « مُحِلِّي » بالياء ، وقدروه هم أنه اسم [ فاعل ] من « أحَلَّ » وأنه مضاف إلى « الصيد » إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول ، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة ، وأصله غير محلِّين الصيد ، إلا في قول من جعله [ حالاً ] من الفعل المحذوف ، فإنه لا يقدر حذف نون ، بل حذف تنوين ، وإنما يزول الإشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله : « مُحِلِّي الصيد » من باب قولهم : حِسَان النِّسَاء ، والمعنى : النساء الحسان ، فكذلك [ هذا ] أصله غير الصيد المُحلّ ، [ والمحل ] صفة للصيد لا للناس ، ولا للفاعل المحذوف .
ووصف الصيد أنه « محل » على وجهين :
أحدهما : أن يكون معناه دخل في الحل ، كما تقول : أحَلَّ الرجل إذا دخل في الحِلِّ ، وأحرم إذا دخل في الحرمِ .
والوجه الثاني : أن يكون معناه صار ذا حلٍّ أي : حلالاً بتحليل الله تعالى ، وذلك أن الصيد على قسمين : حلال وحرام .
ولا يختص الصيد في لغة العرب بالحلال ، لكنه يختصُّ به شرعاً ، وقد تجوزت العرب ، فأطلقت الصيد على ما لا يُوصَفُ بحلّ ولا حُرْمة .
كقوله : [ البسيط ]
1913- لَيْثٌ بِعَثَّرَ يَصْطَادُ الرِّجَالَ إذَا ... مَا اللَّيْثُ كَذَّبَ عَنْ أقْرَانِهِ صَدَقَا
وقول الآخر : [ الطويل ]
1914- وَقَدْ ذَهَبَتْ سَلْمَى بِعَقْلِكَ كُلِّهِ ... فَهَلْ غَيْرُ صَيْدٍ أحْرَزَتْهُ حَبَائِلُهْ
وقول امرئ القيس : [ المتقارب ]
1915- وَهِرٌّ تَصِيدُ قُلُوبِ الرِّجَالِ ... وَأفْلَتَ مِنْهَا ابْنُ عمْرٍو حُجُرْ
ومجيءُ « أفْعَلَ » على الوجهين المذكورين كثيرٌ في لِسَانِ العربِ ، فَمِنْ مجيءِ « أفْعَلَ » لبلوغ المكان ، ودخوله قولُهم : أحْرَم الرجلُ ، وأعْرَقَ ، وأشْأمَ ، وأيْمَنَ ، وأتهم ، وأنْجَدَ ، إذا بلغ هذه الأماكنَ ، وحَلَّ بها .
ومن مَجِيء « أفْعَل » بمعنى صار ذا كذا قولُهُمْ : أعْشَبَتِ الأرضُ وأبْقَلَتْ ، وأغَدَّ البعير وألْبَنَتِ الشاة ، وغيرُها ، وأجْرَتِ الكلبُ ، وأصْرَمَ النخل ، وأتْلَتِ الناقةُ ، وأحْصَدَ الزرعُ وأجْرَبَ الرجلُ ، وأنْجبتِ المرأةُ .
وإذا تَقَرَّرَ أنَّ الصيدَ بوَصْفٍ بكونه مُحلاً باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحلّ أو صار ذا حِلٍّ ، اتَّضَحَ كَوْنُهُ استثناءً ثانياً ، ولا يكون استثناءً من استثناء؛ إذ لا يمكنُ ذلك لتناقضِ الحُكْم؛ لأنَّ المستثنى من المحلل مُحرَّمٌ ، [ والمستثنى من المحرم محلل ] بل إنْ كان المعني بقوله : بهيمةَ الأنعامِ الأنعام أنفسها ، فيكون استثناءً منقطعاً وإنْ كان المرادُ الظِّبَاءَ ، وبَقَر الوحْشِ وحُمُرَهُ ، فيكون استثناءً متصلاً على أحد تَفْسِيري المحل ، استثنى الصَّيدَ الذي بلغ الحلّ في حالِ كونِهِم ، مُحْرِمينَ .
فإنْ قُلْتَ : ما فائدةُ هذا الاستثناء بَعْد بُلُوغِ الحل ، والصيدُ الذي في الحرم لا يحلّ أيضاً؟
قُلْتُ : الصيدُ الذي في الحرمِ لا يَحِلُّ للمحرم ولا لِغَيْر المحْرِمِ ، وإنَّما يحَلّ لِغَيْرِ المحرِمِ الصيدُ الذي في الحلّ ، فنبَّهَ بأنَّهُ إذَا كَان الصيدُ [ الذي ] في الحّل يَحْرمُ على المُحْرم - وإنْ كان حَلالاً لِغَيْرِه - فأحْرَى أن يحرم عليه الصيدُ الذي هو بالحَرَمِ ، وعلى هذا التفسير [ يكون ] قوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } إنْ كان المرادُ بِهِ ما جاء بعده مِنْ قوله :
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } [ المائدة : 3 ] الآية استثناءً منقطعاً؛ إذْ لا تختصُّ الميْتَةُ وما ذُكِر معها بالظِّبَاءِ ، وبقرِ الوحشِ وحُمُرِه ، فيَصيرُ التقديرُ : لكِنْ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ أي : تحريمُهُ فهو مُحرَّمٌ وإنْ كانَ المُرادُ ببهيمة الأنْعامِ [ الأنعام ] والوحوش ، فيكون الاستثناءانِ راجعيْن إلى المجموع على التَّفْصِيلِ ، فيَرْجِع « مَا يتلى عَلَيْكُمْ » إلى « ثَمَانِيَة » الأزْوَاجِ ، ويرجِعُ « غَيْرَ مُحِلِّي الصيد » إلى الوحوشِ؛ إذْ لا يمكنُ أنْ يكون الثَّانِي استثناءً من الاستثناءِ الأوَّلِ ، وإذا لم يمكنْ ذلك ، وأمْكَنَ رُجُوعُهُ إلى الأوّلِ بوجهٍ ما رجع إلى الأولِ .
وقد نَصَّ النحويونَ : أنَّه إذا لَمْ يمكنْ استثناء بَعْضِ المستثنيات مِنْ بَعْض جُعِل الكُلّ مُسْتثنى من الأوَّل ، نحو : قام القومُ إلا زيداً إلا عمْراً إلا بَكْراً ، فإن قلت ما ذكرته من هذا التخريجِ الغريبِ ، وهو كونُ المحلّ مِنْ صفة الصَّيْدِ ، لا مِنْ صِفَة النّاسِ ، ولا مِنْ صِفَة الفاعلِ المحذوفِ يَأبَاهُ رَسْمُهُ في المصْحَف « محلّي » بالياء ، ولو كان مِنْ صِفَةِ الصَّيدِ دُونَ الناسِ لكُتبَ « مُحِلّ » من غير ياءٍ ، وكون القُرَّاءِ وَقَفُوا عليه بالياء أيضاً يأبى ذلك .
قلتُ : لا يعكّر ذلك على هذا التخريج؛ لأنَّهم قَدْ رَسَمُوا في المصحفِ الكريمِ أشياء تخالِفُ النُّطْقَ بها ككتابتهم : { لأَاْذْبَحَنَّهُ } [ النمل : 21 ] ، { وَلأَوْضَعُواْ } [ التوبة : 47 ] ، ألفاً بَعْد لامِ الألف [ وكتابتهم { بِأَيْيْدٍ } [ الذاريات : 47 ] بياءين بعد الهمزة وكتابتهم « أولئك » بزيادة واوِ ونَقْصِ ألف بَعْدَ اللاَّمِ ، وكِتَابتِهِمْ : « الصَّالِحَاتِ » [ ونحوه ] بسُقُوطِ العَيْن إلى غير ذلك .
وأمَّا وقْفُهم عليه بالياء فلا يجُوزُ؛ إذْ لا يُوقَفُ على المضافِ دُونَ المضافِ إليه .
وإنْ وقف واقفٌ فإنَّما يكونُ بقَطْعِ نَفَسِ واختيار .
على أنَّه يمكنُ تَوْجِبهُ كتابتِهِ بالياء والوقفِ عَلَيْه بها ، وهو أن لُغَةَ « الأزْد » يَقفونَ فيها على « بزيدٍ ، بزيدي » بإبدال التَّنْوين ياءً ، فَكُتِبَ « مُحِلّي » على الوقف على هذه اللُّغَةِ - بالياءِ ، وهذا توجيه شُذُوذٍ رَسْمِيّ ، ورسمُ المصحفِ ممّا لا يقاسُ عليه ، انتهى .
قال شهابُ الدين : وهذا الذي ذَكَرَهُ ، وأجازه ، وغَلَّطَ النَّاسَ فيه لَيْسَ بشيء ، وما ذكره من تَوجيه ثُبُوتِ الياءِ خَطّاً ووَقْفاً ، فَخَطَأٌ محض؛ لأنه على تقدير تَسْلِيم ذلك في تلك اللُّغَةِ ، فأيْنَ التنوينُ الذي في « مُحِلّ » ؟ وكيف يكونُ فيه تنوينٌ ، وهو مضافٌ حَتّى يقول : إنَّه قد يُوجَّهُ بلُغَةِ « الأزْدِ » ؟
وما ذكره مِنْ كونه يَحْتَمِلُ مِمَّا يكونون قَدْ كتبوه كما كتبوا تلك الأمثلة المذكورة ، فَشَيءٌ لا يُعَوَّلُ عليه؛ لأنّ خَطّ المصحفِ سُنَّة متبعة لا يقاسُ عليها ، فكيفَ يقول : يحتمل أن يقاسَ هذا على تلك الأشياء؟
وأيضاً فإنهم لم يُعْرِبُوا [ غَيْر ] إلاَّ حالاً ، حتّى نقل بعضُهم الإجْماعَ على ذلك .
وإنما اختلفُوا في صاحِبِ الحالِ ، فقوله : إنه استثناءٌ ثانٍ مع هذه الأوجه الضَّعيفةِ خَرْقٌ للإجماع إلا ما تقدَّم نقْلُهُ عن بعضهِم منْ أنَّه استثناءٌ ثانٍ ، وعَزَاهُ للبصريين ، لكِنْ لا على هذا المَدْرَكِ الذي ذكره الشيخ .
وقديماً وحديثاً اسْتَشْكَلَ النَّاسُ هذه الآية .
وقال ابن عَطِيَّة : وقد خلطَ الناسُ في هذا الموضع في نصب « غَيْرَ » وقدَّرُوا تَقْدِيماتٍ وتَأخِيراتٍ ، وذلك كُلُّه غيرُ مُرضٍ؛ لأنَّ الكلام على اطّرادِهِ ، فيمكنُ اسْتِثْناء بعد استثناءٍ .
وهذه الآيةُ مِمّا اتضحَ لِلْفُصَحاء والبُلغَاءِ فَصَاحَتُها وبلاغَتُها ، حتى يُحكَى أنَّهُ قِيلَ لِلْكنديّ : أيّها الحكيمُ ، اعْمَلْ لَنَا مِثْلَ هذا القرآنِ ، فقال : نَعَمْ أعمل لَكُمْ مِثْلَ بعضه ، فَاحْتَجَبَ أيَّاماً كثيرةً ، ثُمّ خرج فقال : والله لا يَقْدِرُ أحدٌ على ذلك ، إنّني فتحتُ [ سورة ] من المصحف فخرجتْ سورةُ « المائدة » ، فإذا هو قَدْ نَطَقَ بالوَفَاءِ ، ونَهَى عن النّكثِ ، وحَلَّل تَحْلِيلاً عامّاً ، ثم اسْتَثْنَى استثناءً بعد استثناءٍ ، ثُمَّ أخبر عَنْ قُدْرتِهِ وحِكْمته في سَطْريْنِ .
والجمهورُ على نَصْبِ « غَيْرَ » ، وقرأ ابنُ أبي عَبْلَةَ برفعه ، وفيه وجهان :
أظهرُهُمَا : أنّه نعتٌ ل « بهيمة الأنعام » والمَوْصُوفُ ب « غير » لا يلزمُ فيه أنْ يكونَ مُمَاثِلاً لما بَعْدها [ في جنسه ] تقولُ : مررتُ بِرَجُلٍ غَيْرِ حِمَارٍ ، هكذَا قالُوه ، وفيه نظر ، ولَكِنْ ظاهرُ هذه القراءةِ يَدُلُّ لهم .
والثاني : أنَّهُ نعتٌ للضمير في « يُتلَى » .
قال ابنُ عَطِيَّة : لأنَّ { غَيْرَ مُحِلِّي الصيد } في المَعْنَى بمنزلةِ غَيْرِ مُسْتَحَلٍّ إذَا كان صَيْداً ، وفيه تكلُّفٌ ، والصيدُ في الأصلِ مصدرُ : صَادَ يَصِيدُ ويُصَاد ، ويُطْلَقُ على المَصِيدِ ، كدِرْهَم ضَرْبِ الأميرِ .
وهو في الآية الكريمةِ يَحْتَملُ الأمرين أي من كونه بَاقِياً على مَصْدْرِيَّته ، كأنَّهٌ قيل : أحِلّ لَكُمْ بهيمَةُ الأنْعَام ، غَيْرَ مُحِلّينَ الاصْطِيادَ وَأنْتُم مُحْرِمُونَ ، ومَنْ كونِهِ وَاقِعاً مَوْقِعَ المفعول أيْ : غَيْر مُحلِّينَ الشَّيْءَ [ المصيد ] وأنتم محرمون .
وقوله : « وَأنْتُمْ حُرُم » مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ في محلِّ نَصْبٍ على الحال ، وما هو صاحبُ هذه الحالِ؟
فقال الزَّمَخْشَرِيُّ : هِيَ حَال عَنْ « محلّي الصيد » ، كأنه قِيلَ : أحْلَلْنَا لكم بعضَ الأنعامِ في حالِ امْتناعِكُم مِنَ الصيد ، وأنْتُمُ مُحْرِمُونَ ، لِئَلاّ نَتحرَّج عليكم .
قال أبو حَيّان : وقد بَيَّنَا فسادَ هذا القولِ بأنَّ الأنعامَ مُبَاحَةٌ ، مُطْلقاً لا بالتَّقْييدِ بهذا الحالِ .
قال شهاب الدين : وهذا الرَّدُ لَيْسَ بشيءٍ؛ لأنَّه [ إذا ] أحَلَّ لهم بعضَ الأنعامِ في حالِ امتناعِهِمْ مِنَ الصيد ، فأن يحلَّها لهم وهم غير مُحْرِمين بطريق الأوْلَى و « حُرُم » جمع « حَرَام » بمعنى مُحْرم .
قال : [ الطويل ]
1916- فَقُلْتُ لَهَا : فِيئي إليكِ فإنَّني ... حَرَامٌ وإنِّي بَعْدَ ذَاكَ لَبِيبُ
أيْ : مُلَبٍّ ، وأحْرَمَ إذا دَخَل في الحَرَمِ ، أو في الإحْرَامِ .
وقال مَكيُ بنُ أبي طالب : هو في موضع نَصْبٍ على الحال [ من ] المضمر في « مُحِلّي » ، وهذا هو الصحيحُ .
و [ أما ] ما ذكره الزَّمَخْشَرِيُّ ، فلا يَظْهَرُ فيه مجيءُ الحالِ من المضاف إليه في غير المواضع المستثناة .
وقرأ يَحْيَى بنُ وثَّاب ، وإبراهيم والحسن « حُرْم » بسكون الراء .
وقال أبو الحسن البصريُّ : هي لغة « تَمِيم » يَعْنِي يُسَكِّنون ضمة « فُعُل » جمعاً ، نحو : « رُسْل » . قد تقدم كلامُ المعربين في الآية الكريمة .
قال المفسرون : معنى الآيةِ ، أحِلَّتْ لَكُم الأنعامُ كُلُّها ، إلا ما كان منها وَحْشِيًّا؛ [ فإنه صَيْدٌ ] لا يَحِلُّ لكم في حال الإحرامِ ، وقوله : { لأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } استثناءٌ مُجْمل ، واستثناءُ المجمل من الكلام المفصل يجعلُ ما بقي بعد الاستثناء مُجْملاً ، إلاَّ أن المفسرِينَ أجْمعوا على أنّ المرادَ من هذا الاستثناءِ هو قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } [ المائدة : 3 ] ووجهُ هذا أن قوله { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام } يقتضي إحْلاَلَها لهم على جميع الوجوهِ ، ثُمَّ بيَّن أنّها إنْ كانت مَيْتةً أو موقُوذةً أو مُتردِّيةً أو نَطيحةً أو افترسها السبعُ أو ذُبِحت على غير اسم الله فهي مُحرمةٌ .
وقوله : { غَيْرَ مُحِلِّي الصيد } معناه : أنه لما أحلّ بهيمة الأنعام ، ذكر الفرقَ بين صيدها وغيره ، فبيَّن أنَّ كُلَّ ما كان صَيْداً ، فإنّه حلالٌ في الإحلالِ دُونَ الإحرامِ ، وما لم يكنْ صيداً فإنّه حلالٌ في الحاليْنِ جَمِيعاً .
وظاهرُ هذه الآيةِ يَقْتضِي أنّ الصيد مُطْلقاً حَرَامٌ على المُحْرم ، [ إلاَّ أنَّه تعالى أباح في آيةٍ أخْرَى أنّ الصيدَ المحرَّمَ على المحْرِم ] إنَّما هو صيدُ البَرِّ لا صيدَ البحرِ ، بقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً } [ المائدة : 96 ] فبيَّن ذلك الإطلاق .
ثم قال تعالى : { إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } أيْ أنَّ الله تعالى أباح الأنعامَ في جميع الأحوالِ ، وأباح الصيد في بعضِ الأحوالِ دُون بعضٍ ، فلو قال قائلٌ : ما السببُ في هذا التفصيل والتَّخْصيصِ ، كان جوابهُ : أنَّه تعالى مالك الأشياءِ وخالقها فلا اعْتراضَ عليه في حُكْمه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } الآية لما حَرّم [ الله ] الصيد على المحرم نَهَى في هذه الآيةِ عن مخالفةِ تكاليفِ الله تعالى .
قال المُفسِّرون : نزلتْ في الحطم ، واسمُه : شُرَيْحُ بنُ ضُبَيْعَةَ البَكْرِيّ ، « أتى المدينة ، وخَلَّفَ خَيْلهُ خارجَ المدينةِ ، ودخل وَحْدَه على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال [ له : ] إلام تدعُو الناس إليه؟ ، فقال : » إلى شهادة أنْ لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاةِ « ، فقال حسنٌ ، إلاّ أنّ لي أمراء لا أقطعُ أمْراً دُونهم ، ولَعَلِّي أسْلِمُ وَآتِي بهم ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : » يدخلُ عليكم رجلٌ مِنْ رَبيعَة يتكلم بلسانِ شَيْطان « ثم خرج شُرَيْحٌ منْ عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لَقَدْ دَخَلَ بوَجْهِ كَافِر ، وخرج بِقَفَا غَادِرٍ ، وما الرَّجُلُ بِمُسْلمٍ « ، فمرّ بِسَرْحِ المدينة فاسْتاقَه وانْطلقَ ، فتَبعُوه وَلَمْ يُدْرِكُوه ، فلما كان العامُ المقبلُ خرج حَاجًّا في حُجاج بَكْر بن وائلٍ مِنْ اليمَامَةِ ، ومعه تجارةٌ عظيمةٌ ، وقد قَلَّدُوا الهَدْي ، فقال المسلمونَ للنبي صلى الله عليه وسلم : هذا الحطم قد خرج حَاجًّا ، فخلِّ بَيْنَنَا وبَيْنَهُ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » إنّه قَدْ قَلَّد الهديَ « ، فقالوا : يا رسول الله هذا شيءٌ كنا نفعله في الجاهلية ، فأبَى النبي صلى الله عليه وسلم » فأنزل الله تعالى { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } الآية .
قال ابن عباسٍ ومجاهدٌ : هي مناسِكُ الحج ، وكان المشركون يَحُجُّونَ فيهدُونَ ، فأراد المسلمون أن يُغِيرُوا عليهم فناههم الله عن ذلك .
وقال أبُو عُبَيْدَة : « شَعَائِرَ الله » هي الهَدَايَا [ المُشْعَرةُ لقوله تعالى : { والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله } [ الحج : 36 ] ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّه تعالى ذكر { شَعَآئِرَ الله } ] ثم عطف عليها الهدايا ، والمعطوفُ يجبُ أنْ يكون مُغَايِراً للمعطوف [ عليه ] ، والإشعارُ من الشعار وهي العلامَةُ ، وإشعارُهَا إعلامُهَا بما يُعْرَفُ أنَّها هَدْيٌ ، والشَّعَائِرُ جَمْعٌ ، والأكثرونَ على أنَّهُ جَمْعُ شَعيرَة .
وقال ابنُ فارسٍ : واحِدَتُهَا شِعَارةٌ ، والشَّعِيرةُ : فَعِيلَةٌ بِمَعنى مفعلة والمُشْعَرَةُ : المُعْلَمَةُ ، والإشْعَارُ : الإعلامُ ، وكُلُّ شَيْءٍ أشْعرَ فقد أعْلم ، وهو هاهنا أنْ يُطْعَنَ في صَفحةِ سنَان البَعير بحديدةٍ حَتّى يَسِيلَ الدَّمُ ، فيكونَ ذلك علامَةً أنها هَدْيٌ ، وهي سنَّةٌ في الهدايا إذَا كانَتْ من الإبل .
وقاسَ الشَّافِعِيُّ البَقَرَ على الإبل في الإشْعارِ ، وأمّا الغنمُ فلا تُشْعَرُ بالجرح ، فإنها لا تَحْتَمِلُ الجُرْحَ لِضَعْفِهَا .
وعند أبي حَنِيفَةَ لا يُشْعَرُ الهَدْيُ .
وروى عَطِيَّةُ عَنْ ابْنِ عباس : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } في أنْ تَصِيد وأنْتَ مُحْرم لقوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } .
وقال السُّدِّيُّ : أراد حرمَ الله ، وقيل المرادُ النَّهْيُ عَنِ القتلِ في الحرمِ .
وقال عطاءُ : « شَعَائِرَ اللَّهِ » حُرُمَاتِ اللَّهِ .
ثم قال : { وَلاَ الشهر الحرام } أي بالقتال فيه ، قال تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [ التوبة : 36 ] فقيل هي : ذُو القَعْدَةِ وذُو الحَجَّةِ ومُحَرَّمٌ ورَجَب ، فقوله : { وَلاَ الشهر الحرام } يجوزُ أنْ يكونَ المرادُ رجب ، لأنَّه أكمل هذه الأشهرَ الأربعةَ في هذه الصفة .
وقال ابنُ زَيْدٍ : هي النَّسِيءُ؛ لأنَّهُم كَانُوا يُحِلُّونَهُ عاماً ويُحَرِّمُونَه عَاماً .
قال : « وَلاَ الْهَدْي » .
قال الواحدي : الهدي ما أهْدِيَ إلى بَيْتِ اللَّهِ الحَرامِ مِنْ نَاقَةٍ أو بَقَرَةٍ أوْ شَاةٍ ، وَاحِدُهَا هَدْيَةٌ بِتَسْكِينِ الدَّالِ ، ويُقالُ [ أيضاً ] : هَدِيِّةٌ ، وجمعها هَديّ قال الشاعر : [ الوافر ]
1917- حَلَفْتُ برَبِّ مكَّة والمُصَلَّى ... وأعْنَاقِ الهديِّ مُقَلَّداتِ
ونَظِيرُ هذِهِ الآيَةِ قولُهُ تعالى : { هَدْياً بَالِغَ الكعبة } [ المائدة : 95 ] ، وقولُهُ : { والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } [ الفتح : 25 ] .
قَوْلُهُ سُبحانَهُ : { وَلاَ القلاائد } [ أيْ : ولا ذَواتِ القَلاَئِد ] عَطفٌ على الهَدْي مُبَالَغَةً في التوصية بها؛ لأنَّها أشَرَفُ الهَدْي ، كَقَوْلِهِ تعالى : { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] كأنَّهُ قِيلَ : وَذَواتِ القَلاَئِد ] كأنَّهُ قِيلَ : وَذَواتِ القلائِدِ مِنْهَا خُصُوصاً .
قال القُرْطُبِيُّ : فَمَنْ قَالَ المرادُ بالشَّعَائِرِ المناسِكُ ، قال : ذَكَرَ الهَدْي تَنْبيهاً عَلَى تَخْصيصه ، ومَنْ قَالَ : الشَّعَائِرُ الْهَدْي قال : الشَّعَائِرُ مَا كَانَ مُشْعَراً ، أيْ : مُعْلَماً بإسَالَةِ الدَّمِ من سنامه ، والْهَدْي ما لم يُشعَر ، [ اكْتَفَى فِيهِ بالتَّقْلِيدِ ، وقيل : الشعائرُ هي البُدنُ مِنَ الأنْعامِ ، والْهَدْيُ البقر والغَنَمُ والثِّيَابُ وكُلُّ ما يُهدى ] .
وقال الجُمْهُور : الهَدْيُ عامٌّ في كُلِّ ما يُتقرّبُ به من الذَّبَائحِ والصَّدَقَاتِ ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : « المُبَكِّرُ للجُمُعَةِ كالمُهْدِي بَدَنة » ، إلى أنْ قَالَ : « كالمُهْدِي بَيْضَة » فَسَمَّاهَا هَدْياً ، وتسميةُ البَيْضَةِ هَدْياً إنَّمَا يُرَادُ بِهِ الصَّدَقَةُ وكذلك قال العلماءُ : إذَا قالَ جعلتُ ثَوْبِي هَدْياً فَعَلَيْهِ أنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ؛ إلاَّ أنَّ الإِطْلاَقَ يَنْصَرِفُ إلى أحَدِ الأصْنَافِ الثَّلاثَةِ مِنَ الإبِلِ والْبَقَرِ والْغَنَمِ ، وسَوْقُها إلى الْحَرَمِ وَذَبْحُهَا فِيهِ ، وهَذَا إنَّما يُلَقَّى مِنْ عُرْف الشَّرع .
قال تعالى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي } [ البقرة : 196 ] وأراد به الشَّاةَ ، وقال : { هَدْياً بَالِغَ الكعبة } [ المائدة : 95 ] ، وأقَلُّهُ شاةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ .
وقال مَالِكٌ : « إذَا قَالَ : ثَوْبِي هَدْيٌ ، يَجْعَلُ ثَمَنُهُ في هَدْيٍ » .
ويجوز أنْ يكونَ المرادُ « والقَلاَئِدَ » حَقيقَةً ، ويكونُ فِيهِ مبالغَةٌ في النَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْهَدْي المَقلَّدِ بِهَا ، كقوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } [ النور : 31 ] ؛ لأنَّهُ نَهَى عَنْ إظْهارِ الزِّينةِ ، فَمَا بالُكَ بِمَواضِعِهَا مِنَ الأعْضَاءِ ، والقَلاَئِدُ : جَمْعُ قِلاَدَة وَهِيَ الَّتِي تُشَدُّ عَلَى عُنُقِ البَعيرِ .
وقالَ عَطَاءٌ : أرَادَ أصْحَابَ القَلاَئِدِ ، وذلِكَ أنَّهُمْ كَانُوا في الْجَاهِلِيَّةِ إذَا أرَادُوا الخُرُوج مِنَ الحرمِ قَلَّدُوا أنْفُسَهُم وإبلَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الحرمِ ، كَيْلاَ يُتعرَّض لَهُمْ ، فَنَهى الشَّرْعُ عَنِ اسْتِحْلاَلِ شَيْءٍ مِنْهَا .
قوله تعالى : { ولاا آمِّينَ البيت الحرام } .
أيْ : وَلاَ تُحِلُّوا قوماً آمين ، أيْ : قَاصِدِينَ ، ويَجُوزُ أنْ يكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ، أيْ : لا تُحِلُّوا قِتَالَ قَوْم [ أوْ أذَى ] قَوْمٍ آمِّينَ .
وقَرَأ عَبْدُ الله وَمَنْ تبعَهُ : « ولا آمِّي الْبَيْتِ الْحَرَامِ » بِحَذْفِ النّونِ ، وإضَافَةِ اسْمِ الفَاعِلِ إلى مَعْمُولِهِ ، والْبَيْتُ نُصِبَ على المفْعُولِ بِهِ ب « آمين » [ أيْ : ] قاصِدِينَ الْبَيْتَ ، وَلَيْسَ ظَرْفاً .
وَقولُهُ : « يَبْتَغُونَ » حالٌ مِنَ الضَّميرِ في « آمِّينَ » ، أيْ : حَالَ كَوْنِ « الآمِّينَ » مُبْتَغِينَ فَضْلاً ، وَلاَ يَجُوزُ أنْ تكُونَ هَذِهِ الجملةُ صِفَةٌ ل « آمِّين » ؛ لأنَّ اسْمَ الفَاعِلِ مَتَى وُصِفَ بَطَلَ عَمَلُهُ على الصَّحيحِ . وخَالَف الكُوفيُّونَ فِي ذلِكَ .
وأعْرَبَ مَكي هذه الجملة صِفَةً ل « آمين » ، ولَيْسَ بِجيِّدٍ لما تقدَّمَ ، وكأنَّهُ تَبعَ في ذَلِكَ الكُوفِيِّين .
وهَاهُنَا سُؤالٌ ، وهَوَ أنَّهُ لم لا قيل بجوازِ إعْمَالِهِ قَبْلَ وَصْفِهِ كَمَا فِي هَذِهِ الآيَةِ قِيَاساً على المصْدَرِ ، فإنَّه يعملُ قَبْلَ أنْ يُوصَفَ ، نَحْو : يُعْجِبُنِي ضَرْبٌ زيداً شديدٌ .
والجُمْهُورُ عَلى « يَبْتَغُونَ » بيَاءِ الْغَيْبَةِ ، وقَرَأ حُمَيْدُ بنُ قَيْسٍ ، والأعْرَجُ « تَبْتَغُونَ » بِتَاءِ الخِطَابِ ، على أنَّه خطابٌ للمؤمنينَ ، وهي قلقَةٌ ، لقوله : « مِنْ ربِّهمْ » وَلَوْ أُريد خطَابُ المؤمنينَ ، لكانَ تَمامُ المناسَبَةِ { تَبْتَغُون فَضْلاً مِنْ ربِّكُم } و « من ربِّهمْ » ، يجُوزُ أن يتعلَّقَ بِنَفْسِ الْفَعْلِ ، وأنْ يتعلَّقَ بمَحْذُوفٍ على أنَّهُ صِفَةٌ ل « فَضْلاً » ، أيْ : فَضْلاً كَائِناً « مِنْ ربِّهِمْ » .
وقد تَقَدَّمَ الخلافُ في ضَمِّ رَاءِ « رُضْوَان » في آلِ عمران .
وإذا عَلَّقْنَا « مِنْ ربِّهمْ » بِمَحْذُوفٍ على أنَّهُ صِفَةٌ ل « فَضْلاً » ، فَيَكُون قَدْ حَذَفَ صِفَةَ « رِضْوَان » لِدلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ ، أيْ : وَرِضْوَاناً مِنْ رَبِّهِم .
وَإذَا عَلَّقْنَاهُ بِنَفْسِ الفِعْلِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ .
فصل
قِيلَ : المرادُ ب « الفَضْل » الرِّزْقُ بالتِّجارَةِ و « الرِّضْوَانُ » ، أيْ : عَلَى زَعْمِهِمْ؛ لأنَّ الكَافِرَ لا نَصِيبَ لَهُ فِي الرِّضْوَانِ .
قال الْعُلَمَاءُ : المشركون كَانُوا يَقْصدُونَ بِحَجِّهِمْ رضْوَان اللَّهِ ، وَإنْ كانُوا لا يَنَالُونَ ذَلِكَ فَلا يَبْعُدُ أنْ يَحْصُلَ لَهُمْ بسَبَبِ ذَلِكَ القصدِ نَوْعٌ مِنَ الْحُرْمَةِ .
وَقِيلَ : المرادُ بِفَضْلِ اللَّهِ الثَّوابُ ، وبالرِّضْوانِ أنْ يَرْضَى اللَّهُ عَنْهم؛ وذَلِكَ لأنَّ الْكَافِرَ وإنْ كان لا ينَالُ الفضْل والرِّضْوَان لَكِنَّهُ يَظُنُّ [ أنَّهُ بِفِعْلِهِ طَالبٌ لهما ] فَوُصِفَ بذلِكَ بِنَاءً على ظَنهِ ، كقوله : { وانظر إلى إلهك } [ طه : 97 ] ، وقوله : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] .
فصل
قال قَوْمٌ : هذه الآيةُ مَنْسُوخَةٌ؛ لأنَّ قوله تعالى : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام } يَقْتَضي حُرْمَةَ القِتَالِ [ في ] الشَّهْرِ الْحَرَامِ ، وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ يقُولُ اللَّهُ تعالى : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] ، وقوله : { ولاا آمِّينَ البيت الحرام } يَقْتَضِي حُرْمَة مَنْعِ المُشْرِكِينَ عن المسْجِدِ الحرامِ ، وذلك مَنْسُوخٌ بقوْلهِ : { فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام }
[ التوبة : 28 ] وهوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وُمجَاهِدٍ والحسَن وقتادَةَ .
وقال الشَّعْبيُّ : لم يُنْسخْ مِنْ سورةِ المائدةِ إلاَّ هذهِ الآية ، وقال آخرُون : هذه الآيةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ ، وهؤلاء لَهُم طَريقَانِ :
الأوَّلُ : أنَّ الله تعالى أمَر في هذه الآية ألاَّ نُخيفَ مَنْ يَقْصُدُ بَيْتَهُ من المُسْلِمينَ ، وحَرَّمَ عَلَيْنَا أخْذَ الْهَدْي مِنَ المُهْدين إذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ لقوله أوّلِ الآية : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } وهذا إنَّما يَلِيقُ بنُسُكِ المسلمينَ لا بنُسُكِ الكُفَّار ، وقولُهُ آخِرِ الآية : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } وهذا إنَّمَا يَلِيقُ بالمسلمِ لاَ بالْكافِرِ .
والثاني : قال أبُو مُسْلِم : المرادُ بالآيةِ الكفارُ الذين كَانُوا في عَهْد النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا زَالَ [ الْعَهْدُ زَالَ ] الحَظْرُ ، وَلَزِمَ المُرَادُ بقوله : { فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } [ التوبة : 28 ] .
قوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } وقُرِئ « أحْلَلْتُم » وهي لُغَةٌ في « حَلَّ » ، يُقَالُ : أحلَّ مِنْ إحْرَامِهِ ، كما يُقَالُ : حَلَّ .
وَقَرَأَ الحَسَنُ بْنُ عِمْران وأبُو وَاقِدٍ والجَرَّاح بِكَسْرِ الْفَاءِ العَاطِفَةِ وهِيَ قَراءَةٌ ضَعِيفَةٌ مُشْكِلَةٌ .
وَخَرَّجَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أنَّ الكَسْرَ فِي الْفَاءِ بَدَلٌ مِنْ كَسْرِ الْهَمْزَةِ [ في ] الابْتِدَاءِ .
وقال ابْنُ عَطِيَّةَ : هِيَ قِرَاءةٌ مُشْكِلَةٌ ، وَمنْ توجيهها أنْ يكُونَ راعَى كَسْرَ ألف الوَصْلِ إذَا ابْتَدَأ فَكَسَر الْفَاءَ مُرَاعَاةً ، وتَذَكُّراً لِكَسْرِ ألِفِ الْوَصْلِ .
وقال أبُو حَيَّان : وليس هُو عِنْدي كَسْراً مَحْضاً ، بَلْ هو إمالةٌ مَحْضَةٌ لتوهُّمِ وُجُودِ كَسْرِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ ، كَمَا أمَالُوا « فإذَا » لِوُجُودِ كَسْرِ الهَمْزَة .
فصل
هَذَا أمْرُ إبَاحَةٍ ، أبَاحَ لِلْحُلاَّلِ أخْذَ الصَّيْدِ ، وظَاهِرُ الأمْرِ وإنْ كَانَ لِلْوُجُوبِ فهو هنا للإبَاحَةِ ، كقوله : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض } [ الجمعة : 10 ] ، وهو كقول القائِلَ : « لا تَدخُلَنَّ هذِهِ الدَّارَ حَتّى تُؤدِّيَ ثَمَنَها ، فإذَا أدَّيْتَ فادْخُلْهَا » أيْ : فإذا أدَّيْتَ فقد أبيحَ لك دُخُولُهَا ، وحاصِلُ الكلام أنَّا إنَّما عَرَفْنَا أنَّ الأمرَ هُنَا لَمْ يُفد الوُجوبَ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ، وهذه الآيةُ مُتَعلِّقَةٌ بقوله { غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } [ المائدة : 1 ] يعني [ إذَا كَانَ الْمَانِعُ مِن ] حل الاصطِيَادِ هُوَ الإحْرَامُ ، فإذَا زَالَ الإحْرَامُ وَجَبَ أنْ يَزُول المنْعُ .
قوله سبحانه وتعالى : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } قرأ الجمهور : « يَجْرمنكم » بفتحِ اليَاءِ مِنْ « جَرَمَ » ثُلاثياً ، وَمَعْنَى « جَرَمَ » عِنْدَ الكِسَائِيِّ وثَعْلَبٍ « حَمَلَ » ، يقال : جَرَمَهُ على كَذا ، أيْ : حَمَلَهُ علَيْهِ .
قال الشاعر : [ الكامل ]
1918- وَلَقَدْ طَعَنْت أبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَة ... [ جَرَمَتْ فَزَارَة ] بَعْدَها أنْ يَغْضَبُوا
فَعَلى هذا التَّفْسِير يتعدَّى « جَرَم » لِوَاحدٍ ، وهو الكافُ والميمُ ، ويكونُ قولُهُ : « أَن تَعْتَدُواْ » عَلَى إسْقَاطِ حَرْفِ الخَفْضِ ، وهو « عَلَى » أيْ : وَلاَ يَحْمِلنَّكُمْ بُغْضُكُمْ لِقَوْمٍ على اعْتِدَائِكُم عليْهِم ، فَيَجِيءُ في مَحَلِّ « أنْ » الخلافُ المشْهُورُ ، وإلى هذا المعْنَى ذَهَب ابنُ عبَّاسٍ وقَتَادَةُ .
ومَعْنَاهُ عِنْدَ أبِي عُبَيْدَةَ والفَرَّاءِ : كسب ، وَمِنْهُ فُلانٌ جَريمةُ أهْلِهِ أيْ : كَاسِبُهُم .
وعَنِ الكِسَائيّ - أيضاً - أنَّ جَرَمَ وأجْرَمَ بِمَعْنَى : كَسَبَ غَيْرَهُ فَالْجَرِيمَةُ والجَارِمُ بِمَعْنَى الْكَاسِبِ ، وأجْرَمَ فُلانٌ أيْ : اكْتَسَبَ الإثْمَ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : [ الوافر ]
1919- جرِيمَةُ ناهِضٍ في رَأْسِ نِيقٍ ... تَرَى العِظَام ما جَمَعتْ صَلِيبا
أيْ : كَاسِبٌ قُوَّةً ، والصَّلِيبُ الوَدَكُ .
قال ابنُ فَارِسٍ : يُقَالُ جَرَمَ وأجْرَمَ ، ولا جَرَمَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ : لا بُدَّ وَلاَ مَحَالَةَ [ وأصْلُه ] مِنْ جَرَمَ أيْ : كَسَبَ ، فَعَلَى هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ :
أحدهُمَا : أنَّهُ مُتَعَدٍّ لِوَاحِدٍ .
والثاني : [ أنَّهُ ] مُتَعَدٍّ لاثْنَيْنِ ، [ كما أنَّ « كَسَبَ » كَذلِكَ ، وأمَّا في الآية الكريمة فلا يكون إلاَّ مُتَعَدِّياً لاثْنَيْن : ] أوَّلُهمَا : ضَمِيرُ الْخطَابِ ، والثَّانِي : « أنْ تَعْتَدُوا » أيْ : لا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغْضُكَمْ لقوم الاعْتِدَاءَ عَلَيْهِمْ .
وَقَرَأ عَبْدُ الله « يُجْرِمَنَّكُمْ » بِضَمِّ الياءِ مِنْ « أجْرَمَ » رُبَاعِيّاً .
وقيل : هو بمعنى « جَرَم » كما تقدم عن الكِسَائِي .
وقيل : « أجْرَمَ » مَنْقُولٌ مِنْ « جَرَم » بهمزة التَّعْدِية .
قال الزَّمَخْشَرِيّ : « جَرَمَ » ؛ يجري مَجْرَى « كَسَبَ » في تعْدِيَتهِ إلى مَفْعُولِ وَاحِدٍ وإلى اثْنَيْن ، تقولُ : جَرَمَ ذَنْباً أيْ كَسَبَهُ ، وجرَمْتَهُ ذَنْباً ، أيْ كَسَبْتَهُ إيَّاهُ ، ويقال أجْرَمْتُه ذَنْباً على نقل المُتَعَدِّي إلى مفعولٍ بالهمزةِ إلى مَفْعُولَيِْنِ كقولك : أكْسَبْتُهُ ذَنْباً ، وعليه قراءةُ عبْدِ الله « وَلاَ يُجْرمَنَّكُمْ » وأوَّلُ المفعوليْنِ على القراءتين ضَمِيرُ المُخَاطَبِينَ . وثانيهما : « أَنْ تَعْتَدُوا » اه .
وأصلُ هذه المادةِ - كما قال ابنُ عيسَى الرُّمَّانِي - القطعُ ، فَجَرَمَ حُمِلَ عَلَى الشَّيءِ لِقَطْعِهِ عَنْ غيره ، وجَرَمَ كَسَبَ لانْقِطَاعِهِ إلى الكَسْبِ ، وجَرَمَ بِمَعْنَى حَقَّ؛ لأنَّ الحَقَّ يُقْطَعُ عَلَيْهِ .
قَالَ الخَلِيلُ : { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار } [ النحل : 62 ] أيْ : لقد حَقَّ [ هكذا ] قاله الرُّمانيُّ ، فجعل بين هذه الألفاظ قَدْراً مُشْتركاً ، وليس عنده مِنْ باب الاشْتِراكِ اللَّفْظِيّ .
و « شَنآن » [ معناه ] : بُغْض ، وهو مَصْدَرُ شَنىءَ ، أيْ : أبْغَضَ .
وقرأ ابْنُ عَامِرٍ وأبُو بَكرٍ عَنْ عَاصِمٍ « شَنْآنُ » بسُكونِ النُّونِ ، والباقون بِفَتْحِهَا ، وجَوَّزُوا فِي كُلٍّ منهما أنْ يكونَ مَصْدراً ، وأنْ يكُونَ وَصْفاً حَتَّى يُحْكى عَن أبِي عَلِيٍّ أنَّهُ قال : مَنْ زَعَمَ أنَّ « فَعلاَن » إذَا سُكِّنَتْ عَيْنُهُ لَم يكُنْ مَصْدَراً فَقَدْ أخْطَأ ، لأنَّ « فَعْلان » بِسُكُونِ الْعَيْنِ قَلِيلٌ في المصَادِرِ ، نحو : لَوْيتُه دَيْنَه لَيَّاناً ، بَلْ هُوَ كَثير في الصِّفَاتِ نَحْوُ : سَكْرَان وَبَابُهُ و « فَعَلاَن » بالْفَتْحِ قليلٌ في الصفاتِ ، قالُوا : حِمَارٌ قَطَوَان ، أي : عَسِرُ السير ، وتَيْسٌ عَدَوَان .
قال : [ الطويل ]
1920- .. كَتَيْس ظِبَاءِ الْحُلَّبِ العَدَوَانِ
ومِثْلُهُ قولُ الآخَرِ ، أنْشَدَهُ أبُو زَيْدٍ : [ الطويل ]
1921- وقَبْلَكَ مَا هَابَ الرِّجَالُ ظُلاَمَتي ... وَفَقَّأتُ عَيْنَ الأشْوَسٍ الأبَيَانِ
بِفَتْحِ الباء واليَاء ، بل الكثيرُ أنْ يكُونَ مَصْدَراً ، نحو : الغَلَيَان والنَّزَوَان ، فإن أريد ب « الشَّنْأنَ » السَّاكِن الْعَيْنِ الوصْفُ ، فالمعْنَى : وَلاَ يَجرمنكُمْ بَغيضُ قَوْمٍ ، وَبَغيضٌ بِمَعْنَى : مُبْغِضٍ ، اسمُ فاعِلٍ من « أبْغَضَ » ، وهو مُتعدٍّ ، فَفَعِيلٌ بمعنى الفاعِلِ كقَدِير ونَصِير ، وإضافَتُه ل « قوْمٍ » على هذا إضَافَةُ بيانٍ ، أيْ : إنَّ البغيض مِنْ بَيْنِهم ، وليس مَضَافاً لفاعِل ولا مَفْعولٍ ، بخلاف ما إذَا قَدَّرْتَهُ مَصْدراً فإنه يكون مُضَافاً إلى مَفْعُولِهِ أوْ فَاعِلِه كما سيأتي .
وقال صاحبُ هذا القول : يُقَالُ : رَجُلٌ شَنْآنُ ، وآمْرأةٌ شَنْآنَةٌ ، كنَدْمَانَ ، ونَدْمَانَةٍ ، وقياسُ هذا أنْ يكونَ مِنْ فِعْلٍ متعد [ وحكي : رجل شَنْآن ، وامرأة شَنْأى ك « سكران وسكرى » وقياس هذا أن يكون من فعل لازم ] ، ولا بُعْدَ في ذلك ، فإنَّهم قد يشتقُّون من مادَّةٍ واحدةٍ القَاصِرَ والمتعدِّي ، قالُوا : فَغَرْتُ فاه ، وفَغَرَ فوه أيْ : فَتَحته فانفتح ، [ وإنْ ] أُرِيدَ بِه المصدَرُ فَوَاضِحٌ ، ويَكُونُ مُضَافاً إلى مفعُولِه ، أيْ : بُغضكم لِقَوْم ، فحذف الفاعل ، ويجوزُ أنْ يكونَ مُضَافاً إلى فاعلِهِ ، أيْ بُغْضُ قَوْمٍ إيَّاكُمْ ، فحذف مَفْعُولَهُ .
والأوَّلُ أظْهَرُ في المعنى ، وحُكْمُ شَنَآنَ بِفَتْحِ النُّونَ مَصْدَراً وَصِفَةُ حُكْم إسْكَانِهَا ، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك ، ومِنْ مَجِيءِ شَنْآن السَّاكِنِ الْعَيْنِ مَصْدَراً قَوْلُ الأحوصِ : [ الطويل ]
1922- وَمَا الْحُبُّ إلاَّ مَا تَلَذُّ وتَشْتَهِي ... وإنْ لاَمَ فيه الشَّنَانِ وَفَنَّدَا
أرَادَ الشَّنْآنَ بِسُكُونِ النُّونِ فنقل حركة الهمزة إلى النُّونِ السَّاكنة ، وحذف الهمزة [ ولَوْلاَ سُكُونُ النُّونِ لما جَازَ النَّقْلُ ولو قال قَائِلٌ : إنَّ الأصْلَ الشَّنَآنُ بفتح النون ] وخَفَضَ الهَمْزَةَ بحَذْفِهَا رَأساً ، كما قُرِئ { إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر } [ المدثر : 35 ] بحذفِ همزة « إحْدَى » لكانَ قَوْلاً يَسْقُطُ به الدليلُ لاحتماله ، و « الشَّنآن » بالفتح عَمَّا شذَّ عن القاعدةِ الكُلِّيَّةِ .
قال سِبَوَيْه : كُلُّ بِنَاءٍ مِنَ المصادِرِ على وَزْنِ « فَعَلاَن » بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَم يتعدَّ فِعْلُهُ إلاَّ أنْ يَشذَّ شيءٌ كالشَّنَآنِ ، يَعْنِي أنَّه مصدرٌ على « فَعَلاَن » بالفتح ، ومع ذلك فعْلُهُ مُتَعِدّ ، وفعلهُ أكثرُ الأفعالِ مَصَادِر سُمِعَ لَهُ سِتَّةَ عَشَرَ مَصْدراً ، قالُوا : شَنِئَ يَشْنَأُ [ شَنْئاً ] وشَنآناً مُثَلَّثي الشِّين ، فهي سِتُّ لُغَاتٍ .
وَقَرَأ ابْنُ وُثَّابٍ ، والحسنُ ، والوليدُ عَنْ يَعْقُوبَ « يَجْرِمَنْكُمْ » بِسُكُونِ النُّون جعلوها نون التوكيد الخَفِيفةِ ، والنَّهيُ في اللَّفْظِ للشَّنْآنِ ، وهو في المعنى للمُخَاطبينَ نحو : « لا أريَنَّكَ هاهُنَا » و { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 102 ] قالَهُ مَكِّيٌّ .
فصل
قال القَفَّالُ : هذا معطوفٌ على قوله : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } إلى قوله : { ولاا آمِّينَ البيت الحرام } يعني : لا يَحْمِلَنكمْ عَدَاؤُكُمْ لِقَوْمٍ مِنْ أجْلِ أنَّهُمْ صَدُّوكُمْ عن المسْجِد الحَرَامِ أنْ [ تَعْتَدوا فَتَمْنَعُوهُمْ ] عَنِ المسْجِد الحرامِ ، فإنَّ البَاطِل لا يَجُوز أنْ يعتدَى به .
قال محمدُ بنُ جَرِير : هذه السورةَ نزلتْ بعد قِصَّةِ « الحُدَيْبِيَةِ » ، فكان الصَّدُّ قد تقدّمَ ، وليس للناس أنْ يُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً على العُدْوانِ ، حتى إذا تَعَدَّى واحدٌ منهم على الآخر [ تَعَدَّى ذلك الآخرُ ] عليه ، لكنَّ الواجبَ أنْ يُعِينَ بَعْضُهُم بَعْضاً على ما فيه البِرُّ والتَّقْوَى .
قوله سبحانه وتعالى : { أَن صَدُّوكُمْ } .
قرأ أبُو عَمرو ، وابْنُ كَثِيرٍ ، بِكَسْرِ « إنْ » ، والباقُون بِفَتْحِهَا ، فَمَنْ كَسَرَ فعلى أنَّها شَرْطِيَّةٌ ، والْفَتْحُ على أنها عِلَّةٌ للشنآنِ ، أيْ لا يَكْسبَنَّكُمْ أوْ لا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُكُمْ لِقَوْم لأجْلِ صَدِّهِمْ إيَّاكُم عن المسْجِد الحرامِ ، وَهِيَ قِراءةٌ واضِحَةٌ ، وقد اسْتَشْكَلَ [ الناسُ ] قراءةَ الأخَويْن مِنْ حَيْثُ إنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي أنَّ الأمْرَ المشروطَ لَمْ يَقَعْ والغَرضُ أن صَدَّهُمْ عنِ البيت الحَرَامِ كان قَدْ وَقَعَ ، ونزولُ هذه الآيةِ مُتَأخرٌ عنه بمدّةٍ ، فإنَّ الصَّدَّ وقع عَامَ « الحُدَيْبِيَة » وَهِيَ سَنَةُ سِتٍّ ، والآيةُ نزلَتْ سَنَةَ ثَمَانٍ .
وأيضاً ، فإنَّ « مَكَّةَ » كانت عامَ الفتحِ في أيْدِيهم ، فكيف يُصَدُّونَ عَنْها .
قال ابنُ جُرَيْج والنَّحاسُ وغيرُهما : هذه القراءةُ مُنْكَرَةٌ ، واحْتَجُّوا بما تقدَّمَ مِنَ الإشْكَالِ .
قال شهابُ الدِّين رحمه الله : ولا إشْكَالَ في ذَلِكَ ، والجوابُ عَمَّا قَالُوه مِنْ وَجْهَيْنِ :
أحدهما : ألاَّ نُسَلم أن الصَّدَّ كان قبلَ نُزولِ الآية؛ فإنَّ نُزُولَهَا عامَ الفتح ليس مُجْمَعاً عليه .
وذكر اليزيدِيُّ أنَّها نزلتْ قبل الصَّدِّ ، فصاد الصدُّ أمراً مُنْتَظَراً .
والثاني : أنَّهُ وَإنْ سَلَّمْنَا أنَّ الصَّدَّ [ كان مُتقَدِّماً على نُزُولِها ، فيكون المَعْنَى : إنْ وقع صَدٌّ مِثْلُ ذلك الصدِّ ] الذي وقع زمن « الحديبية » « فَلاَ يَجْرِمَنكُم » .
قال مَكِّي : ومثلُه عند سيبويْهِ قَوْلُ الفَرَزْدَقِ : [ الطويل ]
1923- أتَغْضَبُ إنْ أذْنَا قُتَيْبَةَ حُزَّتَا .. . .
[ وذلك شَيْء قد كان وقع ، وإنما معناهُ : ] إنْ وقع مِثْلُ ذلِكَ الغَضَبِ ، وجوابُ الشَّرْطِ ما قَبْلَهُ ، يَعْنِي : وجوابُ الشرطِ ما دَلَّ عليه ما قَبْلَهُ؛ لأنَّ البَصْرِيِّينَ يَمْنَعُونَ تَقْدِيمَ الْجَواب إلاَّ أبَا زَيْدٍ .
وقال مَكِّي - أيضاً - : ونظيرُ ذلك أنْ يقولَ الرجلُ لامْرأتِهِ : أنْتِ طَالقٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ ، بِكَسْر « إنْ » لَمْ تُطَلَّقْ بِدُخُولِهَا الأوَّلِ؛ لأنَّه أمْرٌ يُنْتَظَرُ ، وَلَوْ فَتَحَ لَطُلِّقَتْ عَلَيْه؛ لأنَّه أمرٌ كَانَ وَوقَعَ ، فَفَتْحُ « أنْ » لما هو عِلّةٌ لما كان ووقع ، وكسرُهَا إنَّما هو لأمرٍ مُنتظر ، والوَجْهَانِ حَسَنانِ على معنييهما وهذا الذي قاله مَكِّي فَصَّل فيه الفقهاءُ بين مَنْ يعرفُ النحوَ ، وبين مَنْ لا يعرِفُهُ ، وَيُؤيِّدُ هذه القراءةَ قراءةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : « إنْ يَصُدُّوكُمْ » .
قال أبُو عُبَيْدَة : حدثنا حَجَّاجٌ عَنْ هَارُونَ ، قَالَ : قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ فذكرها قال : وهذا لا يَكُونُ إلاَّ عَلَى اسْتِئْنَافِ الصَّدِّ ، يعني إنْ وقع صَدٍّ آخر ، مِثْلُ ما تَقَدَّمَ في عام « الحُدَيْبِيَة » .
ونَظْمُ هذه الآياتِ على ما هِيَ عَلَيْهِ مِنْ أبْلَغِ مَا يَكُونُ وأفْصَحه ، وليس فيها تقديمٌ ولا تأخيرٌ كما زعم بعضُهم ، فقال : أصلُ تركيب الآية الأولى { غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } [ المائدة : 1 ] فإذا حَلَلْتُمْ فاصْطَادُوا .
وأصلُ تركيب الثَّانِيَة : { ولاا آمِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } .
ونَظَّرَه بآيةِ البقرةِ يَعْنِي : { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] ، وهذا لا حاجة إليه مع أنَّ التقديمَ والتَّأخيرَ عند الجمهورِ مِنْ ضَرَائِرِ الشِّعْرِ ، فَيَجِبُ تَنْزيهُ القرآنِ عَنْه ، ولَيْست الجملةُ - أيضاً - مِنْ قوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } مُعْتَرِضَةً بَيْن قوله : { ولاا آمِّينَ البيت الحرام } وبَيْنَ قوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } ، بَلْ هي مؤسِّسةٌ ومُنْشِئَةٌ حُكْماً ، وهو حِلُّ الاصْطيادِ عند التَّحَلُّلِ مِنَ الإحْرَامِ ، والجملة المُعْتَرِضَةٌ إنَّما تُفِيدُ تَوْكيداً وتَسْديداً ، وهذه مفيدةٌ حُكْماً جَدِيداً كما تقدم .
وقوله : « أنْ تَعْتَدُوا » قَدْ تقدم أنَّه مِنْ مُتعلقاتِ { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } على أنَّه مَفْعُولٌ ثانٍ ، أوْ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الجر ، فمَنْ كَسَرَ { إنْ صَدُّوكُمْ } يكُون الشرطُ وجوابُه المقدَّرُ في مَحَلِّ جرٍّ صِفَةً ل « قَوْم » ، أيْ : شَنَآنُ قَوْمٍ هذه صِفَتُهُم ومَنْ فتحها فمحلُّها الجَرُّ والنَّصْبُ ، لأنَّها على حَذْفِ لامِ الْعِلَّةِ كما تقدم .
قال الزَّمخْشَرِيُّ : والمعنى : ولا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغضُ قَوْمٍ؛ لأنَّ صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه .
قال أبو حيّان : وهذا تفسيرُ مَعْنًى لا تفسير إعْراب؛ لأنّه يمتنعُ أنْ يكون مدلولُ « جرم » حمل وكسب في استعمالٍ واحدٍ لاختلاف مُقتضاهما ، فَيَمْتَنِعُ أنْ يكُون [ أنْ تَعْتَدوُا ] في مَحَلِّ مفعول به ، ومحلُّ مفعولٍ على إسْقاطِ حَرْف الجر .
قال شهابُ الدِّين : هذا الذي قاله لا يتصَوَّرُ أنْ يتوهمه من له أدْنَى بَصَرٍ بالصِّنَاعةِ حتى ينبِّهَ عليه .
وقد تقدم قراءةُ البَزِّي في نحو : « ولا تَعاوَنُوا » وأنَّ الأصَل : [ « تتعاونوا » فأدغم ] وحذف الباقون إحْدَى التاءيَنْ عند قوله تعالى : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } [ البقرة : 267 ] .
قوله عز وجل : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى } أيْ : ليعن بعضُكم بَعْضاً على البر والتقوى .
قِيلَ : البِرُّ : متابعةُ الأمْرِ ، والتَّقْوَى مُجانَبَةُ النَّهْيِ .
وقيل : البرُّ : الإسلامُ ، والتقوى : السُّنةُ .
{ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان } .
قيل الإثُم : الكفرُ ، والعُدْوانُ : الظلمُ . وقيل : الإثمُ : المعصيةُ والعُدوان : البِدْعَةُ .
وقال النَّواسُ بْنُ سَمْعان الأنْصَارِيّ : « سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثْمِ ، فقال : » البرُّ حُسْنُ الخلقِ ، والإثمُ ما حَاكَ في [ صَدْرِك ] ، وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليه الناسُ « ، ثم قال تعالى : { واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ آلْعِقَابِ } ، والمرادُ منه التهديدُ والوعيدُ .
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
وقوله عز وجلا : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير } الآية .
وهذا هو المُسْتَثْنَى مِنَ الإبَاحَةِ في قوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 1 ] وهو أحَدَ عَشَرَ نَوْعاً ، وقد تقدم إعرابُ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } وأصْلُهَا .
واعلمْ أنَّ تحريمَ الميتةِ موافقٌ للمعقولِ؛ لأنَّ الدمَ جوهرٌ لَطِيفٌ جِداً فإذا ماتَ الحيوانُ حَتْفَ أنْفِهِ احْتَبَسَ الدمُ في عُرُوقِهِ وتعفَّن وفَسَدَ؛ وحصل من أكْلِهِ مَضَرَةٌ .
وأمَّا الدمُ فقال الزَّمَخْشَرِيُّ : كانوا يَمْلَؤُونَ المِعَى مِنَ الدَّمِ وَيَشْوونَهُ ويُطْعمُونَه للضيفِ ، فحرّم الله ذلك عليهم .
وأما الخنزيرُ فقال العلماءُ : الغذاءُ يصيرُ جُزْءاً من جوهرِ المتغذِّي ولا بُدَّ أنْ يَحْصُلَ لِلْمُتغذِي أخلاقٌ وصفاتٌ مِنْ جِنْسِ ما كان حَاصِلاً في الغذاء ، والخنزيرُ مَطْبوعٌ على حِرْصٍ عَظيمٍ ورغبة شديدةٍ في المُشْتهياتِ ، فحرَّمَ اللَّهُ أكلهُ على الإنسانِ لِئلاَّ يَتَكيّفَ بِتلْكَ الكيفيّةِ؛ وذلك لأنَّ الفرنج لما وَاظَبُوا على أكْلِ لَحْمِ الخنزيرِ أوْرَثَهُمُ الحرص العظيم والرغبة الشديدة في المُشْتهياتِ ، وأورثهم عدم الغيرةِ ، [ فإنّ الخِنْزِيرَ يَرَى الذّكرَ من الخنزيرِ يَنْزُو على الأنْثَى التي لَهُ لا يتعرض إليه؛ لعدم الغَيْرةِ ، وقد ] تقدمَ الكلام على الخنزيرِ واشتقاقِهِ في سورة البقرة .
وأمَّا الشاةُ فإنها حيوانٌ في غَايَةِ السَّلاَمَةِ ، وكأنَّها ذَاتُ عَارِيَةٍ عَنْ جَمِيعِ الأخْلاقِ ، فلذلك لا يَحْصُلُ للإنسانِ بِسَبَبِ أكْلِها كَيْفِيَّةٌ أجْنَبِيَّةٌ عن أحوالِ الإنسانِ .
وأمَّا ما { أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } ، والإهلالُ رَفْع الصوتِ ، ومنه يقالُ : فلانٌ أهَلَّ بالحجِّ إذَا لَبَّى ، ومِنْهُ استهلالُ الصَّبِي وهو صراخُهُ إذا وُلِد ، وكانوا يقولُونَ عند الذَّبْح باسم اللاَّتِ والعُزَّى ، فحرم الله ذلك ، وقدِّمَ هنا لَفْظُ الجلالةِ في قوله : { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } وأخِّرتْ في البقرة [ آية 173 ] ؛ لأنَّها هناك فاصلةٌ ، أو تُشْبِهُ الفاصِلَةَ بخلاف هاهنا ، فإنَّ بَعْدَها مَعْطُوفاتٍ .
والمنخنِقَةُ وهي التي تموتُ خَنْقاً ، وهو حَبْسُ النَّفَسِ سَواءٌ فعل بها ذلك [ آدمِيٌّ أو ] اتفق لها ذلك في حَبْلٍ أوْ بين عُودَيْنِ أو نحوه .
وذكر قتادةُ أنَّ أهل الجاهليةِ كانوا يَخْنُقُونَ الشاةَ وغيرَها ، فإذا ماتَتْ أكَلُوها ، وذكر نحوه ابنُ عباسٍ .
والمَوْقُوذَةُ : وهي التي وُقذَتْ أي : ضُربَتْ حتى ماتت من وَقَذَه أيْ ضَرَبَهُ حتى اسْتَرْخَى ، ومنه وَقَذََهُ النُّعَاسُ أيْ : غلبه ووقذه الحُلُم : أيْ : سكنه وكأنَّ المادة دالَّةٌ على سُكُونٍ واسْتِرخاءٍ ، ويدل في الموقوذةِ ما رُمِيَ بالبندقِ فماتَ ، وهي - أيضاً - في مَعْنى الميتةِ وفي معنى المنخنقةِ ، فإنها ماتَتْ ولم يَسِلْ دَمُهَا .
والمتردِّيَةُ : من تَرَدَّى ، أي : سَقَطَ مِنْ عُلُوٍّ فَهَلَكَ ، ويُقالُ : ما يُدْرَى أين « ردَى » ؟ أيْ : ذَهَبَ ، ورَدَى وتَرَدَّى بمعنى هَلكَ .
قال تعالى : { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى } [ الليل : 11 ] ، والمتردِّي أنْوَاعٌ : فالمترديةُ هي التي تسقطُ مِنْ جَبَلٍ أو مَوْضِعٍ مُشْرِفٍ أو في بِئْر فتموت ، فهذه مَيْتَةٌ ، لأنَّها ماتَتْ وما سَال منها الدمُ ، ويدخل فيه إذا أصابه سَهْمٌ وهو في الجبل فَسَقَطَ على الأرض؛ فإنه يُحَرَّمُ أكْلُه؛ لأنَّه لا يُعْلَمُ ماتَ بالتَّرَدِّي أوْ بالسَّهْم .
ودخلتِ الهاءُ في هذه الكلمةِ؛ لأنّ المنخنقةَ هي الشاةُ المنخنقةُ ، كأنه قِيلَ : حُرِّمَتْ عليكم الشاةُ المنخنقةُ والموْقوذَةُ والمترديةُ ، وخَصَّ الشاة؛ لأنَّها من أعَمِّ [ ما يَأكُلُ ] الناسُ ، والكلامُ يُخَرَّجُ على الأعَمِّ الأغْلَبِ ، ويكُونُ المرادُ هو الكُلَّ .
و « النَّطِيحَةُ » « فَعيلَة » بمعنى « مَفْعُولة » ، وكان مِنْ حَقِّها ألاَّ تَدْخُلَها تاءُ التأنيثِ كقَتِيل وجَريح ، إلاَّ أنَّها جَرَتْ مَجْرَى الأسماءِ ، أوْ لأنَّها لم يُذْكَرْ مَوصُوفُها؛ لأنك إنْ لَمْ تُدْخِل الهاءَ لَمْ يُعرَفْ أرَجُلٌ هُوَ أمِ امْرَأةٌ ، ومثلُهُ : الذَّبِيحَةُ والنَّسيكَةُ . كذا قاله أبُو البَقاءِ ، وفيه نظر؛ لأنَّهُم [ إنَّما ] يلحقون التاءَ إذا لم يذكر الموصوفُ لأجل اللَّبْسِ ، نَحْوَ : مررت بِقَتيلةِ بَنِي فُلانٍ ، لئلا يلتبس بالمؤنثِ وهنا اللَّبْسُ مُنْتفٍ ، وأيضاً فحكم الذكرِ والأنْثَى في هذا سَوَاءٌ .
والنَّطِيحَةُ هي التي تَنْطَحُها الأخْرَى فتموت ، وهذه - أيضاً - لأنها ماتت من غير سَيَلانِ الدَّم .
قوله تعالى : { وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } « مَا » الأولى بمعنى « الَّذِي » ، وعائِدُهُ محذُوفٌ ، أيْ : وما أكلَهُ السّبُعُ ، ومحلُّ هذا الموصولِ الرفعُ عَطْفاً على مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُه ، وهذا غيرُ ماشٍ على ظاهره؛ لأنَّ ما أكله السبعُ وفرغ منه لا يُذَكَّى ، فلا بُدَّ من حذف . ولذلك قال الزَّمَخْشَرِيُّ : وما أكَلَ بَعْضَهُ السبعُ .
وقرأ الحسنُ والفياض وأبو حَيْوة : « السَّبْعُ » بسكون الباءِ ، وهو تسكين المضموم ، ونقل فتح السين والباء معاً .
والسَّبُعُ : كُلُّ ذِي نَابٍ ومخْلب كالأسدِ والنَّمرِ ، ويطلقُ على ذِي المِخْلب من الطيور قال : [ الخفيف ]
1924- وسبَاعُ الطَّيْر تَغْدُو بِطَاناً ... [ تَتَخَطَّاهُمُ فَمَا تَسْتقلُّ ]
فصل
معنى الكلام ما يُريدُ ما بَقِيَ مما أكل السبعُ . قال قتادةُ : كان أهْلُ الجاهلية إذا جَرَحَ السبعُ شَيْئاً فقتله وأكل بعضَه أكلُوا ما بَقِيَ ، فحرمه الله .
قوله تعالى : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } فيه قولان :
أحدهما : أنه استثناءٌ متصلٌ ، والقائلون بهذا اختلَفُوا ، فقال عَلِيٌّ ، وابنُ عباسٍ ، والحسنُ وقتادةُ : هو مُسْتَثْنَى من قوله : « والمُنْخَنِقَة » إلى قوله : { وَمَآ أَكَلَ السبع } وعلى هذا إن أدْرَكْتَ ذكَاتَهُ بأنْ وَجَدْتَ عَيْناً تَطْرِفُ ، أوْ ذَنَباً يَتَحرَّكُ ، أوْ رجلاً تَرْكُضُ فاذْبَحْ فإنَّهُ حلالٌ ، فإنَّ هذه الحالَ تدلُ على بقاءِ الحياةِ فيه بتمامها .
وقال أبُو البَقاءِ : والاستثناءُ راجعٌ على المتردِّيةِ ، والنَّطِيحَةِ وأكيلة السبُع ، وليس إخراجُه المُنْخَنِقَة [ منه بجَيِّدٍ ] .
ومنهم من قال : هو مستثنى مما أكل السبعُ خاصَّة .
والقولُ الثاني : أنَّه منقطعٌ ، أيْ : ولكنْ ما ذَكيْتم مِنْ غيرها فحلالٌ ، أو فكُلُوه ، كأنَّ هذا القائِلَ رأى أنَّها وَصَلَتْ بهذه الأسبابِ إلى الموتِ ، أو إلى حالةٍ قَرِيبةٍ فلم تُفِدْ تَزْكِيتَها عِنْدَه شيئاً .
والتَّذْكِيَةُ : الذَّبْحُ ، وذَكَتِ النَّارُ : ارتفعتْ ، وأصلُ الذَّكاةِ تمامُ الشيء ومنه الذَّكاءُ في الفهمِ ، وهو تمامُهُ [ والذكاء ] في السِّن ، وهو النهايةُ في الشباب ، ذَكَى الرجُل أيْ : أسَنَّ ، قال : [ الوافر ]
1925- عَلَى أعْرَاقِهِ تَجْرِي الْمَذَاكِي ... وَلَيْسَ عَلَى تَقَلُّبِهِ وجُهْدِهْ
وقيل : الاستثناءُ من التحريم لا مِنَ المحرماتِ ، يَعْنِي ، حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ما مَضَى إلاَّ مَا ذَكَّيْتُم فإنه لكم حلالٌ ، فيكون الاستثناءُ منقطعاً - أيضاً - .
وإذا قيل : أصلُ التذكيةِ الإتمامُ ، فالمرادُ ههنا إتمامُ فَرْي الأوَداجِ وإنْهارِ الدَّم .
قال - عليه الصلاة والسلام - : « مَا أنْهَرَ الدَّمَ ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّه عَلَيْهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ » .
قال القُرْطُبِيُّ : جمهورُ العلماءِ على أنَّ كلَّ ما أفرى الأوْدَاجَ فأنْهَر الدمَ فهو مِنْ آلاتِ الذَّكاةِ ما خلَى السِّنَّ والظُّفُرَ والعَظْمَ ، وعلى هذا تَوَاترتِ الأخبارُ .
وقال به فقهاءُ الأمصارِ ، والسنُّ والظُّفُرُ المنهيُّ عنهما في التذكية هما غَيْرُ المنزوعَيْنِ؛ لأنَّ ذلك يَصيرُ خَنْقاً ، ولذلك قال ابنُ عباسٍ : ذلك الخنقُ .
فأمّا المنزُوعانِ إذا فَرَيا الأوْدَاجَ فالذكاةُ جائِزَةٌ بِهِمَا عِنْدَهُمْ .
وكره قومٌ السنَّ والظفرَ والعظمَ على كُلِّ حالٍ مَنْزُوعانِ كانا أو غَيْر منزُوعَيْنِ ، منهم إبراهيمُ والحسنُ واللّيْثُ بنُ سَعْدٍ ، وهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّافِعي .
وأقلُّ الذَّكاةِ في الحيوانِ المقدُورِ عليه قطعُ الحُلْقُومِ والمري ، وكمالهُ أن يقطعَ الودجيْنِ معهما ، ويجوزُ بكل محدَّدٍ يجرح من حَديدٍ أو قصبٍ أو زجاجٍ أو حجرٍ أو غيره إلاَّ السِّنَّ والظفرَ للحديث المتقدم .
وإنَّما يحلُّ ما ذكيته بعدما جرحه السبعُ فأكل منه شيئاً إذا أدْرَكْتَهُ والحياةُ فيه مستقرةٌ فذبحتَهُ ، فأمَّا ما يجرحُ السبعُ فيخرجه إلى حالةِ المذبوحِ فهو في حُكمِ الميتَةِ فلا يكونُ حَلاَلاً ، والمُترديةُ والنَّطيحةُ إذا أدركتهما حيَّةً ، قَبْلَ أنْ تصيدَ إلى حالة المذبُوحِ فذبحتها تكونُ حلالاً ، ولو رُمِي صيدٌ في الهواءِ فأصابَهُ فسقَطَ على الأرضِ [ وماتَ كانَ حلالاً؛ لأنَّ الوقوعَ على الأرضِ ضرورتُهُ ، فإنْ سقَطَ على شجرٍ أو جَبَلٍ فتردَّى منه ] فمات فلا يَحِلُّ؛ لأنَّه من المتردية ، إلاَّ أنْ يكونَ السهمُ ذَبَحَهُ في الهواءِ فيَحِلّ كيفما وقع؛ لأنَّ الذبحَ قد حصل قبل التردِيَةِ .
فصل
واختلفُوا [ فيمنْ رَفَعَ ] [ يَدَهُ ] قبل تمامِ الذَّكاةِ ثُم رجع [ على الفور ] وأكْمَلَ الذَّكَاة فقيل : يُجْزِئُهُ ، وقيل : لا يُجْزِئه .
فالأولُ أصَحُّ؛ لأنَّه جَرَحَهُ ثُم ذَكَّاهُ بعدُ وحياته مُسْتَجْمعةٌ فيه .
قوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } رَفْعٌ - أيضاً - عطفاً على « الميتةِ » .
واختلفُوا في النُّصُبِ ، فَقِيل : هي حجارةٌ ، كانوا يَذْبَحُون عليها ، ف « على » هنا وَاضِحَةُ .
وقيل : هي الأصنَامُ؛ لأنَّها تُنْصَبُ لتُعْبَد ، فعلى هذا في « على » وَجْهانِ :
أحدُهما : أنها بمعنى اللام ، أيْ : وما ذُبِحَ لأجْلِ الأصنامِ ، كذا ذكره أبُو البقاءِ وفيه نَظَرٌ ، وهو كونُه قَدَّرَ المتعلَّق شيئاً خاصاً .
والجمهورُ على « النُّصب » بضَمتين ، فقيل : هو جمعُ « نِصاب » .
وقيل : هو مُفْردٌ ويدل له قَوْلُ الأعْشَى : [ الطويل ]
1926- وَذَا النُّصُبَ المَنْصُوبَ لا تَقْربَنَّهُ ... ولا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ واللَّهَ فاعْبُدَا
وفيه احتمالٌ .
وقرأ طلحةُ بنُ مُصَرِّفٍ بضم النُّونِ وإسْكَانِ الصَّادِ ، وهو تخفيفُ القراءة الأولى .
وقرأ عيسى بنُ عُمَرَ : « النَّصَب » بِفَتْحتين .
قال أبُو البقاء : وهو اسمٌ بمعنى : المنصُوبِ ، كالقَبْضِ والنَّقَصِ ، بمعنى : المقبُوض والمنقُوصِ .
والحسنُ النَّصْب بفتح النون وسكُون الصادِ ، وهو مَصْدَرٌ واقعٌ مَوْقِع المفعولِ به ، ولا يجوزُ أنْ تكونَ تخفيفاً كقراءة عِيسَى بنِ عُمر؛ لأنَّ الفتحةَ لا تُخَفَّفُ .
فصل
« النُّصُب » يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ جَمْعاً وأنْ يكونَ واحداً ، فإنْ كان جَمْعاً ففي واحدِه وُجُوهٌ :
أحدها : أنَّ واحدَهُ نصابٌ ونُصُبٌ ، كحِمار وحُمُر .
وثانيها : أنَّ وَاحِدَهُ نَصْبٌ فقولُكَ : نَصْبٌ ونُصُب كسَقْفٍ وسُقُف ، وهو قولٌ لابْن الأنْبَارِي .
وثالثها : أنَّ واحدهُ النَّصْبَةُ . قال اللَّيْثُ : [ النَّصْبُ ] جمعُ النَّصْبَةِ ، وهي علامةٌ تُنْصَبُ للقومِ ، وإنْ قُلْنا : النصبُ وَاحِدٌ ، فجمعُهُ أنْصَابٌ ، مثل عُنُق وأعْنَاق .
قال الأزْهَرِيُّ : وقد جعل الأعْشَى النُّصُبَ واحداً ، وذكر البيتَ المُتَقَدِّم لَكِنْ رَوَاهُ عَلَى وَجْهٍ آخر ، قال : [ الطويل ]
1927- وَلاَ النُّصُبَ المَنْصُوبَ لا تَعْبُدَنَّهُ ... لِعَافِيَةٍ واللَّهَ رَبَّكَ فَاعْبُدَا
فصل
قال بَعْضُهمْ : النُّصُبُ الأوْثانُ ، واسْتَبْعَدَهُ قَوْمٌ؛ لأنَّ هذا مَعْطُوفٌ على قولِهِ : { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } وذلك هو الذَّبْحُ على اسمِ الأوْثانِ ، والمعطوفُ يَجِبُ أنْ يكُونَ مُغَايِراً للمعطوفِ عَلَيْهِ .
وقال ابنُ زَيْدٍ : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } ، { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } هُمَا وَاحِدٌ .
وقال مُجاهدٌ وقتادةُ وابن جُرَيح : كانَتْ حولَ البيتِ ثلاثمائة وستُّونَ [ حَجَراً مَنْصُوبَة ] كان أهلُ الجاهِليّةِ يَعْبُدُونَها وَيُعَظِّمُونها ويَذْبَحُونَ لها وليست هي بأصْنامٍ ، وإنَّما الأصنامُ هي المصَوَّرةُ المنقوشَةُ ، وكانوا يُلَطِّخُونَها بتلك الدماءِ ، ويضعُون اللحومَ عليها . فقال المسلمون يا رسول الله : كان أهلُ [ الجاهلية ] يُعظمون البيتَ بالدَّمِ ، فنحنُ أحَقُّ أنْ نُعَظِّمَهُ ، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكَره ذلك ، فأنزل اله تعالى : { لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا } [ الحج : 37 ] .
وقوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } .
[ فيه وجهان :
أحدهما : وما ذبح على الاعتِقادِ وتَعْظِيم النُّصب ] .
والثاني : ومَا ذُبِح لِلنُّصبِ ، و « اللاَّمُ » و « عَلَى » يتعاقَبَانِ . قال تعالى : { فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين } [ الواقعة : 91 ] [ أي : فَسَلامٌ عَلَيْكَ ] ، وقال : { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] أي فعليها .
قولُه سبحانَهُ : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام } « أنْ » وما في حَيِّزهَا في مَحَلِّ رَفْعٍ عَطْفاً على « الميْتَةِ » .
والأزْلامُ : القِدَاحُ ، واحدُها : زَلْم ، وزُلْم بِفَتْح الزَّاي وضَمِّها ذكره الأخْفَشُ .
وإنَّما سُمِّيتِ القِدَاحُ بالأزلامِ؛ لأنَّها زُلِمَتْ أي : سُوِّيَتْ ، ويقال : رجلٌ مُزْلِمٌ ، وأمرأةٌ مُزْلِمَةٌ إذَا كان خَفِيفاً قَلِيلَ العلائِقِ ، ويقال : قَدَحٌ مُزْلَمٌ وزَلْم إذا حُرِّرَ وأُجِيدَ قَدُّهُ وَصِفَتُهُ ، ومَا أحْسَنَ ما زلم سهمه ، أيْ : سَوَّاهُ ، ويقالُ لِقَوائمِ البَقَرِ : أزْلاَمٌ شُبِّهَتْ بالقِدَاحِ لِلَطَافَتِهَا .
وَفِي الاسْتِقْسامِ بالأزلامِ قولانِ :
الأوَّلُ : كان أحدُهُم إذا أراد سَفَراً أو غَزْواً أو تِجَارَةً [ أو نِكَاحاً ] أو أمْراً آخَرَ ضرب بالقِدَاحِ ، وكانوا قد كتبوا على بعضها أمَرَنِي رَبِّي ، وعلى بعضها نَهَانِي رَبِّي ، وتركوا بَعْضَهَا خَالِياً عن الكِتَابَةِ ، فإنْ خرجَ الأمرُ أقدْمَ على العملِ ، وإنْ خرجَ النَّهْيُ أمْسَكَ وأعادَ ، وإنْ خرج الغَفْل أعاد العملَ مَرَّةً أخْرَى .
وذكر البَغَوِيُّ أنَّ أزلامَهم كانت سبعةَ أقْدَاحٍ مُسْتَوِيةً مِنْ شوحط يكونُ عند [ سادن ] الكعبة ، مكتوب على واحدٍ منها : نَعمْ ، وعلى واحد : لاَ ، وعلى واحدٍ منها : مِنْكم ، وعلى واحدٍ مِنْ غَيْرِكم ، وعلى واحد : مُلْصَق ، وعلى واحد : العَقْل ، وواحد غفل ليس عليه شيءٌ ، وكانوا إذا أرادُوا أمْراً أو تداوَرُوا في نَسَبٍ أو اختلفوا في تَحَمُّلِ عَقْلٍ جاءوا إلى هُبَل ، وهو أعظمُ أصْنامِ قُرَيشٍ ، وجاءوا بِمائَةِ دِرْهَمٍ وجَزُورٍ فأعطَوْها صاحبَ القِداح حتى يُجيلَ القومُ ويقولُون : يا إلَهنَا إنَّا أرَدْنَا كذا وكذا ، فإنْ خرج نَعَمْ فعلُوا ، وإنْ خرج : لا ، لمْ يَفْعَلُوا ذلك ، ثُم عادُوا إلى القِدَاح ثانيةً ، وإذا أجالُوا على نسبٍ ، فإنْ خرج منكُم [ كان وسيطاً منهم ، وإن خرج من غيركم كان حليفاً ، وإن خرج مُلْصقٌ كان على منزلته لا ] نسب له ولا حِلْفَ ، وإذا اختلفُوا في عَقْلٍ فمن خرج عليه قَدَحُ العَقْلِ حَمَلَهُ ، وإنْ خَرَجَ الغَفْل أجَالُوا ثانياً حتى يخرج المكتوبُ فنهى اللهُ تعالى عن ذلك وحرَّمهُ .
قال القُرطبيُّ : وإنّما قِيل لهذا الفعلِ اسْتِقْسام؛ لأنَّهُمْ كانوا يَسْتَقْسِمُون به [ الرِّزْقَ ] فِيما يُريدون ، كما يُقال : الاستقسامُ في الاستدعاءِ للسقي ، ونظيرُ هذا الذي حرَّمه [ اللَّهُ ] قولُ المنَجِّم : لا يخرج من أجل نجم كذا ، وأخرج من أجل نَجْم كذا .
وقال المؤرِّجُ وكثيرٌ مِنْ أهْلِ اللُّغَةِ : الاستقسامُ هاهنا هو المَيْسِرُ والقمارُ ، ووجهُ ذِكْرِها مع هذه المطاعِمِ أنَّها كانت تقعُ عند البيتَ مَعَها .
وقال سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ : الأزلامُ حَصًى بيضٌ يَضْرِبُونَ بها ، وقال مُجاهِدٌ هي كعابُ فارسٍ والرُّومِ التي يَتَقَامَرُونَ بها .
وقال الشَّعْبِيُّ : الأزلامُ للعرب والكعابُ للعَجَمِ .
وقال سُفيانُ بنُ وكِيع : هي الشَّطَرَنج ، قال عليه الصلاة والسلام : « مَنْ تَكَهَّنَ أو اسْتَقْسَمَ أو تَطَيَّرَ طيرةً تردّه عن سَفَرِهِ لَنْ يَلِجَ الدرجاتِ العُلَى مِنَ الجنَّةِ » .
قوله : « ذَلِكُمْ فِسْقٌ » مُبْتَدأ وخَبَرٌ ، واسمُ الإشارَةِ راجعٌ إلى الاستقسام بالأزلامِ خاصّةً ، وهو مَرْوِيٌّ عن ابْنِ عبَّاسٍ؛ لأنَّ معناه : حَرَّمَ عليكم تَناوُلَ الميْتَة [ وكذا ] ، فرجع اسمُ الإشارةِ إلى هذا المُقَدَّرِ ، فإنْ قيل : لم صار الاستقسامُ بالأزلامِ فِسْقاً والنبيُّ صلى الله عليه وسلم كان يُحِبُّ الفَألَ [ الحَسَن ] ؟
فالجوابُ : قال الواحِدِي : إنَّما حرّم ذلك؛ لأنَّه طلبٌ لمعرفةَ الغَيْبِ ، وذلك حرام لِقَوْلِه تعالى : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } [ لقمان : 34 ] وقوله تعالى : { لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله } [ النمل : 65 ] ، والحديث المتقدم .
قوله تعالى : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } « اليَوْمَ » ظرف مَنْصُوبٌ ب « يَئِسَ » ، والألفُ واللامُ فيه للْعَهْدِ .
قيل : أراد به يَوْمَ « عَرَفَة » وهو يَوْمُ « الجُمُعَةِ » عام حَجَّةِ الوَدَاعِ نزلت هذه الآيةُ فيه بَعْد العَصْرِ .
[ وقيل : هو يوم ] دخوله صلى الله عليه وسلم « مَكَّةَ » سنةَ تِسْعٍ .
وقِيل : [ سنة ] ثَمَانٍ .
وقال الزَّجَّاجُ - وتبعه الزَّمَخْشَرِيُّ - : إنَّها لَيْسَتْ للْعَهْدِ ، ولم يُرِدْ ب « اليوم » [ يوماً ] مُعَيَّناً ، وإنَّما أراد به الزمانَ الحاضِرَ وما يُدانيه من الأزْمِنَةِ الماضِيَةِ والآتِيَةِ كقولك : كُنْتَ بالأمْس شابًّا ، وأنْتَ اليومَ أشْيَب ، لا تُرِيدُ بالأمسِ الذي قَبْلَ يَوْمِك ، و [ لا ] باليومِ الزَّمَن الحاضِر فَقَطْ ، ونحوه « الآن » في قَوْلِ الشَّاعِرِ : [ الكامل ]
1928- الآنَ لَمَّا ابْيَضَّ مَسْرُبَتِي ... وعَضَضْتُ مِنْ نَابِي عَلَى جذْم
ومثله أيضاً قوله زهير : [ الطويل ]
1929- وأعْلَمُ مَا في اليَوْمِ والأمْسِ قَبْلَهُ ... وَلكنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غدٍ عَمِ
لم يُرِدْ بهذه حقائقها .
والجمهورُ على « يَئسَ » بالهمزة ، وقرأ يَزِيدُ بنُ القَعْقَاع « يَئسَ » بِيَاءيْنِ مِنْ غَيْرِ همزة .
ورُوِيَتْ - أيضاً - عَنْ أبِي عَمْرو ، ويقال : يَئِسَ يَيْئَسُ ويَئْيِسُ بفتح عَيْنِ المضارعِ وكسرها ، فهو شاذّ .
ويقال : أيس [ أيضاً ] مقلوبٌ من « يَئِسَ » فوزنُهُ « عَفِل » ويدلُ على القَلْبِ كَوْنُهُ لم يُعَلَّ ، إذ لو لم يقدر ذلك لَلَزِمَ إلغاءُ المقتضى ، وهو تَحَرُّكُ حَرْفِ العَلّة ، وانفتاحُ ما قبله ، لكنَّه لما كان في مَعْنَى ما لم يُعَلَّ صَحَّ .
واليَأسُ : انقطاعُ الرَّّجاءِ ، وهو ضدُّ الطَّمَعِ .
« مِن دِينِكُمْ » مُتَعلقٌ ب « يئس » ، ومعناها ابتداءُ الغَايَةِ ، وهو على حَذْفِ مُضَاف ، أي : منْ إبْطَالِ أمْرِ دِينكم .
فصل
لَمَّا حَرَّم وحَلَّلَ فِيما تقدم ، وخَتَمَ الكلام بقوله : « ذَلِكُمْ فِسْقٌ » ثُمَّ حَرَّضَهُم على التمسُّكِ بما شَرَع لهم ، فقال : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون } أي : فلا تخافُوا المُشْرِكين في خلافكم لهم في الشَّرائعِ والأدْيَانِ ، فإنِّي أنْعَمْتُ عليكم بالدولةِ القاهِرَةِ ، وصارُوا مَقْهُورِينَ لكم ذَلِيلينَ عندكم ، وحصل لهم اليأسُ مِنْ أنْ يَصِيروا قاهِرين لكم مُسْتَوْلِين عليكم ، وإذا صار الأمرُ كذلك فيجبُ عليكم أنْ لا تَلْتَفِتُوا إليهم وأنْ تُقْبِلُوا على طاعَةِ اللَّهِ تعالى ، والعملِ بشرائعِهِ .
وفي قوله : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } قولان :
الأولُ : يَئِسُوا مِنْ أنْ يُحَلِّلُوا الخبائِثَ بعد أنْ جعلها الله محرمةً .
والثاني : يَئسُوا مِنْ أنْ يَغْلِبُوكم على دينكُم؛ لأنَّ الله تعالى قد وعد بإعلاء هذا الدين على كُلِّ الأديانِ بقوله : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] فَحَقَّقَ ذلك النَّصْرَ ، وأزالَ الخوفَ .
واسْتَدَلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّ التقيَّةَ جائِزةٌ عِنْد الخوفِ؛ لأنَّ اللَّه تعالى أمرهم بإظهارِ الشَّرائعِ عند زوال الخَوْفِ مِنَ الكفَّارِ ، فدلَّ على جوازِ تركِهَا عند الخوف .
قوله سبحانه وتعالى : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } في قوله : « الْيَوْمَ » [ كالكلام في « اليوم » ] قبلَهُ .
نزلت هذه الآيةُ يَوْمَ الجُمُعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ بعد العصر فِي حجَّةِ الوداع ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم [ وشرف وكرم ومجد وعظم ] وَاقِف بِعَرَفات على ناقَتِهِ العَضْبَاءِ فكاد عَضُدُ الناقةِ يَنْقَدُّ من ثِقلها ، فَبَرَكَتْ .
عن عُمَر بن الخطَّابِ رضي الله عنه أنَّ رَجُلاً من اليهودِ قال له : يا أميرَ المؤمِنينَ آيةٌ في كتابكم تقرؤونها ، لو علينا مَعْشَرَ يَهُودٍ نَزَلَتْ لاتَّخَذْنَا ذلِكَ اليومَ عِيداً ، قال : أيُّ آيةٍ؟ قال : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً } قال عُمَرُ : قَدْ عرفْنَا ذلك اليوم والمكانَ الذي أنْزِلَتْ فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائِمٌ بِعَرَفَةَ يوم جمعة .
أشار عُمَرُ إلى أن ذلك اليومَ كان لنا عِيداً .
قال ابنُ عباسٍ : كان ذلك اليوم خمسةَ أعْيادٍ ، جُمْعَةً وعَرفَةَ وعِيدَ اليَهُودِ والنَّصارَى والمَجُوسِ ، ولم يَجْتَمِعْ أعيادُ أهْلِ المِلَلِ في يوم قبله ولا بعده .
وروى هارونُ بنُ عنترةَ عن أبيه قال : « لما نزلت هذه الآيةُ بَكَى عُمَرُ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم » ما يُبْكِيكَ يا عُمَرُ؟ « فقال : أبْكانِي أنا كنا في زيادَةٍ مِنْ ديننَا ، [ فأما إذْ ] كمُلَ فإنَّهُ لم يكمل شيءٌ إلا نَقَصَ ، قال : » صَدَقْتَ « ، فكانت هذه الآيةُ نَعْيَ النبي صلى الله عليه وسلم .
وعاش بعدها إحْدَى وثمانِينَ يَوْماً ، ومات يَوْم الاثنَيْنِ بعدما زَاغَتِ الشمسُ لليلتين خَلَتَا من شهرِ ربيع الأوَّلِ سَنَة إحْدَى عَشَر مِنَ الْهِجْرَةِ ، وقيل : يومَ الاثنين يَوْمَ الثاني عشر مِنْ ربيع الأولِ ، وكانت هجرتُه في الثاني عشر مِنه .
فقوله : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يَعْنِي يوم نُزولِ هذه الآيةِ أكملتُ لكُمْ دينكمْ الفَرائِضَ والسُّنَنَ ، والحدُودَ والجهادَ ، والحلالَ والحرامَ ، فلم ينزل بعد هذه الآيةِ حلالٌ ولا حرامٌ ولا شيءٌ من الفرائِضِ ، وهذا [ معنى ] قولِ ابْنِ عباسٍ .
ورُوي عنه أنَّ آيةَ الرِّبَا نزلت بعدها ، وقال سَعِيدُ بنُ جُبَيْر وقتادةُ : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فلم يَحُجَّ معكم مشْرِكٌ ، وقيل : أظهرت دينَكُمْ وأمَّنْتكم من العدُوِّ ، وقوله تعالى : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يَقْتَضِي أن الدين كان نَاقِصاً قَبْلَ ذلك ، وذلك يُوجِب أنَّ الدينَ الذي كان عليه محمدٌ صلى الله عليه وسلم مُواظِباً عليه أكْثَرَ عُمُرِه كان ناقصاً ، وإنما وُجِدَ الدينُ الكامل في آخر عمرِهِ مُدَّةً قليلةً .
وأجَابُوا عنه بوجُوهٍ :
أحدها : أنَّ المرادَ ما تقدم من إزالةِ الخوفِ عنهم ، كما يقولُ الملِكُ إذا اسْتَوْلى على عدوه وقَهَرَهُ قَهْراً كُلِّياً : كَمُلَ ملكُنَا ، وهذا ضَعيفٌ؛ لأنَّ مُلْكَ ذلك المَلِك كان قبل قَهْرِ العدو ناقصاً فينبغي على هذا أن يُقال : إنَّ دينَ محمد صلى الله عليه وسلم كان ناقصاً قبل ذلك اليوم .
ثانيها : [ أنَّ ] المراد أكملتُ لكُم ما تَحْتَاجُون إليه في تكاليفكم من تعاليم الحلالِ والحرامِ ، وهذا - أيضاً - ضعيفٌ؛ لأنه لو لم يُبَيّن قبل هذا اليوم ما كانوا مُحْتاجين إليه من الشرائعِ ، كان ذلك تأخيراً للبيانِ عن وقت الحاجة ، وأنه لا يَجُوزُ .
وثالثها : وهو المختارُ ما ذكره القفَّالُ وهو أن الدينَ ما كان ناقصاً ألْبَتَّةَ ، بل كان كامِلاً أبداً ، وكانت الشرائِعُ النازِلةُ من عند الله تعالى في كل وقت كافية في ذلك إلا أنه تعالى كان عالماً في أوّل وقتِ المبعثِ في أن هذا اليوم ليس بكاملٍ في الغَدِ ، ولا مَصْلَحَةَ فيه ، فلا جَرَمَ كان يُنْسَخ بعد الثبوت ، وكان ينزل بعد العدم ، وأما في آخر زمانِ المبْعَثِ فأنزل الله شريعةً كامِلَةً ، وحكم ببقائها إلى يوم الدِّين .
فالشرعُ أبداً [ كَانَ ] كامِلاً ، إلاَّ أنَّ الأوّلَ كمال إلى زمان مَخْصُوصٍ والثاني : كمالٌ إلى يوم القيامة ، فلهذا قال : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } .
وأجاب القُرْطبي : يقال : لِمَ قُلتَ إن كل نقص فهو عَيْبٌ ، أرَأيْتَ نُقْصانَ الشَّهْرِ عَيْباً؟ ونُقْصان صلاةِ المسافرِ أهُوَ عَيْبٌ ونقصان العمر الذي أراده الله بقوله : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } [ فاطر : 11 ] أهو عيب؟ وكذلك نُقصَانُ أيّامِ الحَيْضِ عن المعهود؟ ونقصان أيام الحمل؟ ونقصان المال بسرقَةٍ أو حَرِيقٍ أو غَرَقٍ إذا لم يَفْتقر صاحبه؟ فنقصان الدين في الشرع قَبْلَ أن يلحق الله الأجزاء الباقية في عِلْمِ الله تعالى لَيْسَ بعَيْبٍ ، فمعنى قوله : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يخرج على وجهين :
أحدهما : أن المراد بلَّغْتُه أقْصَى الحد الذي كان له عندي فيما قضيتُهُ وقدَّرْتُهُ ، وذلك لا يُوجِبُ أنْ يكونَ ما قَبْلَ ذلك ناقصاً عما كان عند الله تعالى لكنه يُوصَفُ بنُقصان مُقَيّد ، فيقال : أكمل الله ناقِصاً عما كان عند الله تعالى أنه مُلحِقه به وضامه إليه كالرجل يُبلغه الله تعالى مائةَ سَنَةٍ ، فيُقالُ : أكمل الله عُمُرَهُ [ فلا يلزم من ذلك أنْ يكون عُمُره ] ناقصاً حِين كان ابْن ستِّين سنة نَقْصَ قُصُورٍ وخللٍ ، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : « مَنْ عمَّره الله سِتين سَنَةً فقد أعْذَرَ إليه في العُمُر » وقد بلغ الله بالظُّهر والعصر والعشاء أربع ركعات ، فلو قيل : أكملها كان الكلامُ صحيحاً ، ولا يَلْزَمُ من ذلك أنَّها حينَ كانت ركعتين كانت ناقصةً نَقْصَ قُصُورٍ وخللٍ ، ولو قيل : كانت ناقصة عما عند الله أنه ضامَّه إليها وزائده عليها لكان ذلك صحيحاً ، فهكذا هذا في شرائع الإسلام وما كان شرع منها شيئاً فشيئاً إلى أنْ أنْهى الله الدِّين مُنْتَهَاهُ الذي كان له عنده .
الثاني : أنَّ المراد بقوله : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } أنَّهُ وفَّقَهُمْ إلى الحجِّ الذي لم يكن بقي عليهم مِنْ أرْكان دينهم غَيْرُه ، فحَجُّوا فاستجمع لهم الدِّين أداء لأرْكَانِه ، ولقوله - عليه الصلاة والسلام - : « بُنِيَ الإسلامُ على خَمْسٍ » الحديثَ ، وقد كانُوا تشَهَّدُوا وصَلُّوا وزكوا وصامُوا وجاهَدُوا واعْتَمرُوا ولم يكونوا حجُّوا ، فلما حجُّوا ذلك اليوم أنزل الله تعالى وهم بالموقف هذه الآية .
فصل رد شبه الاستدلال بهذه الآية على بطلان القياس
استَدلُّوا بهذه الآيةِ على بُطْلان القياسِ ، لأنَّ الآيةَ دلت على أنه تعالى قد نَصَّ على الحُكْمِ في جميع الوقائعِ ، [ إذْ لَوْ بَقِيَ بَعْضُهَا غَيْرَ مُبَيَّنِ الحكم لم يكن الدينُ كامِلاً ، وإذا حصلَ النص في جميع الوقائعِ ] فالقياسُ إنْ كان [ على ] وفْقِ النصِّ كان عَبَثاً ، وإنْ كان خلافَهُ كان باطِلاً .
وأجيبُ بأن المرادَ بإكْمالِ الدينِ أنَّهُ تعالى بيَّن حُكْمَ جَميعِ الوَقَائِعِ بعضها بالنص ، وبعضُها بيَّن طريقَ الحكمِ فيها بالقياسِ فإنَّهُ تعالى لما جَعَل الوقائع قِسْمَيْن :
أحدهما : التي نَصَّ على أحكامهما .
والثاني : أنواعٌ يمكنُ استنباطُ الحكمِ فيها بواسطةِ قياسِها على القسم الأولِ ، ثم إنَّه تعالى أمَرَ بالقياسِ ، وتعبَّد المُكَلفِين به فكان ذلك في الحقيقة بياناً لِكُل الأحْكامِ .
قال نُفاةُ القياسِ : الطريقُ المقتضيةُ لإلحاقِ غَيْرِ المنصُوصِ بالمنصُوصِ ، إمَّا أنْ تكونَ قَطْعِيَّةً أو غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ .
فإنْ كانت قطعيّةً فلا نِزاعَ في صحته ، فإنَّا نسلم أن القياسَ المبنيّ على المقدمات اليَقِينيَّةِ حُجةٌ ، وهذا القياسُ يكون المصِيبُ فيه واحداً ، ومخالِفهُ يَسْتَحِقُّ العقاب وينْقَصُ به قضاءُ القاضِي ، وأنتم لا تقولون بذلك ، وإنْ كانت طريقة ظنية كان كل واحدٍ يُمْكِنُه أنْ يَحْكُمَ بما غلب على ظَنِّه مِنْ غَيْرِ أنْ يَعْلَم [ هل ] هو دين اللَّهِ أمْ لا؟ وهل هو الحكمُ الذي حكم [ به الله ] أم لا؟ ومثل هذا لا يكون إكْمالاً للدّين ، بل يكون ذلك إلقاءً للخلقِ في وَرطَة الظُّنونِ ، وأجيب بأنه إذَا كان كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُكَلَّفاً بالعمل بمقتضى ظَنِّه [ كان ] ذلك إكْمَالاً ويكون كُلُّ مكلفٍ قاطعاً بأنَّه عامل بحكم الله تعالى .
قوله سبحانه : { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } « عليكم » متعلقٌ ب « أتممت » ، فلا يجوزُ [ تعلُّقهُ ] ب « نعمتي » ، وإن كان فعلها يتعدَّى ب « على » نحو : { للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 37 ] ؛ لأن المصدر لا يتقدَّمُ عليه معمولُه ، إلا أن ينُوبَ مَنَابَهُ .
قال أبُو البقاءِ : فإنْ جعلتهُ على التَّبِيين أيْ : « أتْمَمْتُ » أعْنِي « عَلَيْكُمْ » جاز ولا حاجة إلى ما ادّعَاهُ .
ومعنى { أتممت عليكم نعمتي } أيْ : أنجزتُ وَعْدِي في قوله : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 150 ] ، وكان مِنْ تَمَامِ نعمته أنْ دَخَلُوا مكةَ آمنينَ ، وعليها ظَاهِرِينَ ، وحَجُّوا آمنين مُطْمَئِنِينَ لمْ يخالِطْهُمْ أحَدٌ من المشركين .
قال ابنُ الخطيبِ : وهذا المعنى قد عُرِفَ بقوله : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } فَحَمْلُهُ على هذا تَكْرِيرٌ ، وإنما معنى قوله : { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً } أي : بسبب ذلك الإكمالِ؛ لأنه لا نِعْمَةَ أتم مِنْ نعمة الإسلام .
قوله سبحانه : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً } في « رَضِيَ » وجهان :
أحدهما : أنه مُتعد لِواحدٍ ، وهو « الإسلامَ » ، و « دِيناً » على هذا حال .
وقيل : هو مُضَمَّنٌ معنى صَيَّرَ وجعل ، فيتعدَّى لاثْنَيْن؛ أولهما : « الإسْلاَمَ » والثاني : « دِيناً » .
« لكم » يجُوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلق ب « رَضَيَ » .
والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حالٌ من الإسلامِ ، ولكنَّه قُدِّمَ عليه .
ومعنى الكلام أنَّ هذا هو الدينُ المرضِيُّ عند الله ، ويُؤكِّدُهُ قوله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] .
وقوله تعالى : { فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } قد تقدم الكلامُ عليها في البقرة [ آية : 173 ] .
و « فِي مَخْمَصَةٍ » متعلقٌ ب « اضْطُرَّ » ، [ ومعنى : « اضْطُرَّ » ] أُصِيبَ بالضر الذي لا يمكنه الامتناعُ معه من الميتةِ .
و « المخمصةُ » : المَجَاعَةُ؛ لأنها تَخْمُصُ [ لها ] البطونُ : أيْ : تَضْمُرُ .
قال أهل اللُّغَةِ : الخَمْصُ والمَخْمَصَةُ : خَلاَءُ البطن من الطعام ، وأصْلُهُ مِنَ الخَمْصِ الذي هو ضُمُور البَطْنِ . يقال : رجل خميصٌ وخُمْصَان ، وامرأة خَمِيصَةٌ وخُمْصَانة ، والجمع خَمَائِصُ وخُمْصَانَاتٌ ، وهي صِفَةٌ مَحْمُودَةٌ في النساء .
ويقال : رجل خُمْصَان وامرأة خُمْصَانة ، ومنه أخْمَصُ القدمِ لدِقَّتِهَا ، ويستعمل في الجوع والغَرْث .
قال : [ الطويل ]
1930- تَبِيتُونَ في المَشْتَى مِلاءً بُطُونكُمْ ... وَجَارَاتُكُمْ غَرْثَى يَبِتْنَ خَمَائِصَا
وقال آخر : [ الوافر ]
1931- كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... فإنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصٌ
وُصِفَ الزمانُ بذلك مبالغةً كقولهم : نَهَارُهُ صَائِمٌ ، ولَيْلُهُ قائم . و « غَيْرَ » نُصبَ على الحال .
قال بعضُهم : يَنْتَصِبُ بمحذوفٍ مُقَدَّرٍ على معنى : فيتناول غَيْر مُتجانِفٍ ، ويجوز أن يَنْتَصِبَ بقوله : « اضْطُرَّ » ويكونُ المقدرُ متأخراً .
والجمهور على « مُتجَانِفٍ » بألف وتخفيف النون من « تَجَانَفَ » .
وقرأ أبُو عبدِ الرحمن والنَّخَعِيُّ « مُتَجنِّفٍ » بتشديدِ النُّونِ دُونَ ألفٍ .
قال أبو مُحمدِ بن عَطِية : وهي أبْلَغُ من « متجانف » في المعنى؛ لأنَّ شِدّةَ العينِ تدلُ على مُبالغةٍ وتوغُّلٍ في المعنى .
و « لإثم » متعلّق ب « متجانف » ، واللام على بابها .
وقيل : هي بمعنى « إلى » أي غَيْرَ مائِلٍ إلى إثْمٍ ولا حاجة إليه .
وقد تقدم معنى هذا واشتقاقها عند قوله : { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً } [ البقرة : 182 ] .
قال القُرْطبي : هو معنى قوله : { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } [ البقرة : 173 ] ، ومعنى « الإثم » هاهنا أنْ تأكُلَ فوق الشِّبَع تلذُّذاً في قولِ أهل « العراق » .
وفي قولِ أهْلِ « الحجازِ » : أنْ تكُون عَاصِياً .
قال قتادةُ : غَيْرَ مُتَعرِّضٍ لمعْصِية في مقصده .
وقوله : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ } جُمْلةٌ ، إمَّا في محلِ جَزْمٍ ، أو رفعٍ على حَسَبِ ما قيل في « مَنْ » ، وكذلك القول في الفاء إما واجبةٌ أو جائزةٌ ، والعائدُ على كِلاَ التقديرين محذوفٌ ، أيْ : « فَإِنَّ الله غَفُورٌ » له ، [ يعني ] : يَغْفِرُ له أكْلَ المُحَرَّمِ عند الاضطرارِ « رَحِيمٌ » بعباده ، حَيْثُ أحَلَّ لهم ذلك المحرمَ عند احتياجهم إلى أكْلِهِ ، وهذا مِنْ تَمام ما تقدم ذكره في المطاعِمِ التي حَرَّمَها الله تعالى ، يَعْنِي : إنها وإنْ كانت مُحرمةً إلا أنها تحل في حالِ الاضطرارِ ، ومن قوله : « فِسْق » إلى هاهنا - اعتراضٌ وقع في النَّسَقِ ، والغَرَضُ منه تأكيدُ ما ذُكِر مِنْ مَعْنى التحريم ، فإن تحريم هذه الخبائثِ من جملةِ الدِّينِ الكاملِ والنعْمةِ الثابتةِ والإسلامِ الذي هو الدينُ المرضيُّ عند الله تعالى .
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } الآية .
وهذا أيضاً مُتَّصِلٌ بما قَبْلَهُ من ذِكْرِ المطعُومَاتِ ، وقد تقدم الكلامُ على « مَاذَا » [ وما قيل فيها فليلتفت إليه ] .
وقوله : « لَهُمْ » بلفظ الغَيْبَةِ لتقدمِ ضَميرِ الغَيْبةِ في قوله تعالى : « يَسْألُونَكَ » .
ولو قيل في الكلام : ماذا أحِلَّ لنا؟ لكان جائزاً على حكايةِ الجملةِ ، كقولك : أقْسَمَ زَيْدٌ ليَضرْبَنَّ ولأضربَنَّ ، بلفظ الغيبة والتكلمِ ، إلا أن ضمير المتكلّمِ يَقْتَضي حكايةَ ما قالوا : كما أن « لأضربن » يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها ، و « ماذا أحِلّ؟ » هذا الاستفهامُ معلّق للسؤال ، وإن لم يكن السؤالُ من أفعالِ القُلُوبِ إلاَّ أنَّهُ كان سبب العلم ، والعلم يعلق ، فكذلك سببهُ ، وقد تقدم تحريره في « البقرة » .
وقال الزمخشري هنا : في السؤال معنى القول ، فلذلك وقع بعده ماذا أحل لهم ، كأنه قيل : يقولون : ماذا أحل لهم ، ولا حاجة إلى تضمين السؤال معنى القول؛ لما تقدم من أن السؤال يعلق بالاستفهام كمسببه .
وقال ابن الخطيب : لو كان حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا : ماذا أحلَّ لهم ، ومعلوم أن ذلك باطل لا يقولونه ، وإنما يقولون ماذا أحِلَّ لنا ، بل الصحيح أنه ليس حكاية لكلامهم ، بل هو بيان كيفية الواقعة .
قال القُرْطُبي : « مَا » فِي مَوْضِعِ رفعٍ بالابتداء ، والخبرُ « أُحِلَّ لَهُمْ » ، و « ذَا » زَائِدَةٌ وإنْ شِئْتَ كانت بمعنى « الذي » ، ويكون الخبر { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات « .
فصل في سبب نزولها
قال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ : نزلت هذه الآيةُ في عديّ بْنِ حَاتِم ، وَزَيْدِ بْنِ المُهَلْهِلِ [ الطائيين وهو ] زَيْدُ الخيل الذي سمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم زيد الخيْرِ ، فقال : » يا رسول الله ، إنّا قَوْمٌ نَصِيدُ بالكِلاَبِ ، والبزاةِ ، فَمَاذَا يَحِلُّ لَنَا منها؟ « . فنزلت هذه الآية .
وقيل : سببُ نزولِها أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل الكلابِ ، قالوا : يا رسول اللَّهِ ، ماذا يحلُّ لنا من هذه الأمَّةِ التي أمرت بقتلها؟ فنزلت هذه الآية ، فلما نزلت أذِنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في اقتناءِ الكِلابِ التي يُنْتَفَعُ بها ، وَنَهَى عن إمْسَاكِ مَا لاَ يُنْتَفَعُ بها .
قوله تعالى : { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } يعني : الذَّبَائح على اسم الله عزَّ وجلَّ .
وقيل : كلُّ ما تستطيبه العرب وتستلذُّه من غير أن يراد بتحريمه نصٌّ من كتاب أو سنة ، وكانت العرب في الجاهليةَ يحرمون أشياء [ من الطيبات ] كالبحيرَة والسَّائِبَةِ والوَصِيلَةِ ، والحامِ ، فهم كانوا يستطيبونها إلا أنَّهُم كانوا يحرِّمُونَ أكلها لِشُبُهَاتٍ ضعيفة ، فذكر تعالى أن كلَّ ما يُسْتَطَابُ فهو حلال ، وأكَّدَهُ بقوله تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق }
[ الأعراف : 32 ] وبقوله : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث } [ الأعراف : 157 ] ، والطَّيب في لغةِ العرب هو المستلذُّ والحلالُ المأذُونُ ، يصير - أيضاً - طَيّباً تشبيهاً بما هو مستلذ؛ لأنَّهُما اجتمعا في انتفاء الضَّرورة ، ولا يمكن أن يكونَ المرادُ بالطيِّبَاتِ هنا المحللات وإلا لصار تقديرُ الآية : قل [ أحِلَّ ] لكم المحللات ، وهذا ركيك ، فوجب حمل الطيبات على المستلذِّ المشتهى .
واعلم أن العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة؛ فإنَّ أهل البادية يستطيبون أكلَ جميع الحيوانات ، واعلمْ أنَّ قوله تعالى : { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً } [ البقرة : 29 ] يقتضي التَّمكن من الانتفاع بكل ما في الأرض ، إلا أنَّهُ ورد تخصيصه بقوله : { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث } [ الأعراف : 157 ] ، ونص في هذه الآية على إبَاحَةِ المستلذات والطيبات ، وهذا أصل كبير في معرفة ما يحلُّ وما يحرمُ من الاطعمة .
قوله سبحانه : { لطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ } في « ما » هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها موصولة بمعنى « الذي » ، والعائد محذوف ، أي [ ما ] علمتموه ، ومحلها الرفع عطفاً على مرفوع ما لم يُسَمَّ فاعله أي : وأحل لكم صَيْدُ أو أخذ ما علمتم ، فلا بد من حذف هذا المضاف .
والثاني : أنَّهَا شرطيّة فمحلها رفع بالابتداء ، والجوابُ قوله : « فَكُلُوا » .
قال أبو حيان : وهذا أظهرُ؛ لأنَّه لا إضمار فيه .
والثالث : أنَّهَا موصولة - أيضاً - ومحلُّها الرفع بالابتداء ، والخبر قوله : « فَكُلُوا » وإنَّمَا دخلت الفاء تَشَبُّهاً للموصول باسْمِ الشَّرْطِ ، وقوله : من الجَوَارِحِ في محَلِّ نصب ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنَّهُ الموصول وهو « ما » .
والثاني : أنَّهُ الهاء العائدة على الموصول ، وهو في المعنى كالأوَّل .
والجوارح : جمع جارحة ، والهاء للمبالغة سميت بذلك؛ لأنَّهَا تجرح الصيد غالباً ، أو لأنَّهَا تكسب والجرح الكَسْب .
ومنه : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار } [ الأنعام : 60 ] والجارحة صفة جارية مجرى الأسماء؛ لأنَّهَا لم تذكر موصوفها غالباً .
وقرأ عبد الله بن عبَّاس ، وابن الحنفية « عُلِّمْتُمْ » مبنياً للمفعول ، وتخريجها : أن يكون ثَمَّ مضافٌ محذوف ، أي : وما علّمكم الله من أمر الجوارح [ « مكلبين » : حال من فاعل « علمتم » ومعنى مكلبين : مؤدبين ومضرين ومعوِّدين ، أي : حال تكليبكم ] هذه الجوارح ، أي : إغرائكم إياها على الصَّيد .
قال أبو حيَّان : وفائدة هذه الحال ، وإن كانت مؤكدة لقوله : « عَلَّمتم » - فكان يستغنى عنها - أن يكون المعلم ماهراً بالتعليم ، حاذقاً فيه موصوفاً به اه .
وفي جعله هذه الحال مؤكدةً نظر ، بل هي مؤسسة .
واشتُقَّت هذه الحالُ من لفظ « الْكَلْب » هذا الحيوان المعروف ، وإن كانَتِ الجوارحُ يندرج فيها غيره حتى سِبَاعُ الطيور تغليباً له؛ لأنَّ الصَّيْدَ أكثر ما يكون به عند العَرَبِ .
أو اشتقت من « الكَلَب » ، وهو الضَّراوة ، ويقال : هو كَلِبٌ بكذا أي : حريص ، وبه كَلَبٌ أي حِرْصٌ ، وكأنه - أيضاً - مشتقّ من الكَلْبِ هذا الحيوان لحرصه أو اشتقت من الكَلْبِ ، والكَلْبُ : يطلق على السَّبُع - أيضاً - .
ومنه الحديث : « اللهُمَّ سَلِّطْ عليهِ كَلْباً مِنْ كِلابِكَ » فأكله الأسَدُ .
قال أبو حيَّان : وهذا الاشتقاق لا يَصِحُّ؛ لأنَّ كونَ الأسَدِ كَلْباً هو وصف فيه ، والتكليب من صفة المعلّم ، والجوارح هي سِباعٌ بنفسها ، وكلاب بنفسها لا بجعل المُعَلِمِّ ، ولا طَائِلَ تحت هذا الرَّدِّ .
وقرئ « مُكْلِبين » بتخفيف اللام ، وفَعَّل وأفعل قد يشتركانِ في معنى واحد ، إلا أنَّ « كَلَّب » بالتَّشْدِيدِ معناه : عَلَّمها وضَرَّاها ، وأكْلب معناه صار ذا كِلاَب .
على أن الزجاج قال : يقال : رجلُ مُكلِّب يعني بالتشديد ، ومُكْلِب يعني [ من ] أكلب وكلاّب يعني بتضعيف اللام أي : صاحب كِلاَبٍ .
وجاءت جملة الجواب هنا فعلية ، وجملة السؤال هنا اسمية ، وهي ماذا أحل؟ فهي جواب لها من حيث المعنى ، لا من حيث اللفظ؛ إذ لم يتطابقا في الجِنْس .
والكلاَّب والمكلِّب هو الذي يعلم الكلاب الصيد .
فمكلِّب صَاحِب الكلابِ كمعلِّم : صاحبِ التَّعليم ، ومؤدِّب : صاحب التّأديب .
فصل
معنى الآيةِ وأحِلَّ لكم صَيْدُ ما علمتم من الجوارحِ . واختلفُوا في هذه الجَوَارحِ ، فقال الضَّحاكُ والسُّدِّيُّ : [ هي ] الكلاب دون غَيْرِها ، ولا يحلُّ ما صاده غير الكلب إلا أن يُدرِكَ ذكاته ، ولا عملَ على هذا ، بل عامَّةُ أهلِ العلمِ على أنَّ المرادَ من الجَوَارِحِ الكواسب من سباع البَهَائِمِ كالفهد ، والنمر ، والكلب ، ومن سباعِ الطَّيْر كالبازي والعُقابِ والصَّقْرِ ونحوها مما يقبل التعليم فيحلُّ صيد جميعها .
قوله سبحانه وتعالى : « تُعَلِّمُونَهُنَّ » فيه أربعةُ أوْجُهٍ :
أحدها : أنَّهَا جُملةٌ مستأنَفَةٌ .
الثاني : أنَّهَا جملة في محلِّ نصبٍ على أنَّها حال ثانية من فاعل « عَلَّمتُم » .
ومنع أبُو البقاء ذلك؛ لأنَّه لا يجيز للعامل أنْ يعمل في حالين ، وتقدَّم الكلامُ في ذلك .
الثالث : أنَّها حال من الضَّميرِ المستكنِّ في « مكلِّبين » فتكونُ حالاً من حالٍ ، وتُسمَّى المتداخلة وعلى كلا التقديرين المتقدمين فهي حال مؤكِّدة؛ لأن معناها مفهوم من « علمتم » ، ومِنْ « مُكَلِّبين » .
الرابعُ : أن تكون جملةً اعتراضيةً ، وهذا على جَعْلِ ما شرطيّة أو موصولة خبرها « فَكُلُوا » فيكونُ قد اعترض بين الشَّرْط وجوابه ، أو بين المبتدأ وخبره .
فإن قيل : هَلْ يجوز وجهٌ خَامِسٌ ، وهو أن تكون هذه الجملة حالاً من « الجَوَارِحِ » ، أو من الجوارح حال كوْنِهَا تُعلمُونَهُنَّ؛ لأنَّ في الجملة ضمير ذِي الحلالِ؟
فالجوابُ : أنَّ ذلك لا يجوزُ لأنه يؤدِّي إلى الفَصْلِ بين هذه الحال وبين صاحبها بأجنبِيٍّ ، وهو مُكَلِّبينَ الذي هو حال من فاعل « علمتم » .
وأنث [ الضمير في « تُعَلِّمُونَهُنَّ » ] مراعاة للفظِ الجوارحِ؛ إذْ هو جمع جارحةٍ ، ومعنى « تُعَلِّمُونَهُنَّ » تؤدبونهن أدبَ أخذ الصَّيد ، { مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله } أي من العلم الذي « عَلَّمَكُمُ اللَّهُ » .
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
قوله تعالى : [ { اليوم ] أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } الآية .
الكلامُ فيه كالكلام فيما قَبْلَهُ ، وزعم قوم أنَّ المراد بالثلاثة أيام المذكورة هنا وقت واحد ، وإنَّما كرره توكيداً ، ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حَسُنَ تكريره ، وليس بشيء .
وادَّعَى بعضهم أنَّ في الكلام تَقْدِيماً وتأخيراً ، وأنَّ الأصْلَ { فاذْكُرُوا اسم الله عليه } { وكُلُوا مِمَّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } وهذا يشبه [ قول ] من يعيد الضمير على الجوارح المرسلة .
قوله تعالى : { وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب } فيه وجهان :
أصحهما : أنَّهُ مبتدأ ، وخبره « حِلٌّ لَّكُمْ » وأبرز الإخبار بذلك في جملة اسمية اعتناءً بالسؤال عنه .
وأجاز أبُو البقاء أنْ يكون مرفوعاً عَطْفاً على مرفوع ما لم يسم فاعله وهو « الطيِّبَات » ، وجعل قوله : « حِلّ لَّكُم » خبر مبتدأ محذوف ، وهذا ينبغي ألا يجوز البتة لتقدير ما لا يحتاج إليه مع ذهاب بلاغة الكلامِ .
وقوله : { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } مبتدأ وخبر ، وقياس قول أبي البقاءِ أن يكون « طَعَام » عَطْفاً على ما قبله ، « وحلّ » خبر مبتدأ محذوف ، ولم يذكره ، كأنه استشعر الثواب .
فصل
ومعنى { أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } يعني الذّبائح على اسم الله عزَّ وجلَّ ، وفي المراد ب { طعام الذين أوتُوا الكتاب } ثلاثة أقوال :
الأوَّلُ : الذَّبائِحُ ، يريد ذبائح اليهود والنّصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمَمِ قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم .
فأمَّا من دَخَلَ في دينهم بعد المبعث فلا تَحِلُّ ذبيحته ، فلو ذبح يهوديٌّ أو نصرانيّ على اسم غير الله ، كالنَّصراني يذبح على اسم المسيح ، فاختلفوا فيه : فقال ابنُ عُمَرَ : لا يحلُّ ، وهو قول ربيعةَ . وذهب أكثرُ العلماء إلى أنه يَحِلُّ ، وهو قول الشَّعْبِيُّ وعطاء والزهريِّ ومكحولٍ .
وسُئِلَ الشعبيُّ وعطاء عن النصراني يذبح باسم المسيح قالا : يحلُّ ، فإن الله تعالى قد أحلَّ ذبائحهم وهو يعلم ما يقولُونَ .
وقال الحسنُ : إذا ذبح اليهوديُّ والنصرانيُّ فذكر اسم غير الله وأنْتَ تسمع فلا تأكله ، وإذا غَابَ عنك فَكُلْ ، فقد أحَلَّ الله ذلك .
وأما المجوسُ فقد سنَّ فيهم سنةَ أهلِ الكِتابِ في أخذ الجزيَةِ منهم دون أكْلِ ذبائحهم ونكاح نِسَائِهِم .
وعن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّهُ استثنى نصارى بني تغلب ، وقالوا : ليسوا على النَّصرانيَّة ، ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر ، وبه أخَذَ الشافعيُّ - رضي الله عنه - وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّه سُئل عن ذبائح نصارى العَرَبِ ، فقال : لا بأسَ به ، وبه أخذ أبو حنيفة .
والقول الثاني : أنَّ المرادَ بطعامهم الخبزُ والفاكِهَةُ ، وما لا يحتاج فيه إلى الزكاة ، وهو منقولٌ عن بعض أئمَّةِ الزَّيديَّةِ .
القول الثالثُ : أنَّ المراد جميع المطعومات .
وحجَّةُ القول الأوَّلِ : أنَّ ما سوى الذبائح حلال قبل أن كانت لأهل الكتاب ، فلا يبقى للتَّخصيص بأهل الكتاب فائدةٌ ، ولأن ما قبل هذه الآية في بيان الصيْدِ والذّبائح [ فحمل الآية على الذبائح أوْلَى ] وهي التي تصير طعاماً بفعل الذّبائح [ فحملُ الآية عليه أولى ] وقوله : « وَطَعَامُكمْ » فإنْ قيل : كيف شُرِعَ لهم حلُّ طعامنا وهم كفَّارٌ ليسوا من أهل الشَّرْعِ؟
قال الزَّجَّاجُ : معناه حلالٌ لكم أنْ تطعموهم ، فيكون خطاب الحلِّ مع المسلمين؛ وقيل : لأنَّه ذكر عقيبه حكم النِّسَاءِ ، ولم يذكر حلَّ المسلمات لهم ، فكأنه قال : حلالٌ لكم أنْ تطعموهم حرامٌ عليكم أن تزوّجوهم .
فصل
قوله : { والمحصنات مِنَ المؤمنات } في رفع « المُحْصَنَات » وجهان :
أحدهما : أنَّهُ مبتدأ خبره محذوف ، أي : والمحصنات حِلٌّ لكم أيضاً وهذا هو الظاهر .
واختار أبُو البقاءِ أن يكون معطوفاً على « الطِّيبَاتِ » ، فإنَّهُ [ قال : ] « مِنَ المُؤمِنَاتِ » حال من الضَّميرِ في « المُحْصَنَات » أو من نفس « المُحْصَنَات » إذا عطفتها على « الطَّيِّبَاتِ » و « حلّ » مصدر بمعنى الحلال؛ فلذلك لم يؤنَّث ولم يُثنَّ ، [ ولم يجمع ] لأنه أحسن الاستعمالين في المصادر الواقعة صفة للأعيان ، ويقال في الإتباع ، حِلٌّ بلٌّ وهو كقولهم : حَسَنٌ بَسَنٌ ، وعَطْشَان نَطْشَان .
و « مِنَ المُؤمِنَاتِ » حال كما تقدَّمَ ، إما من الضمير في « المُحْصَنَات » ، أو من « المُحْصَنَات » ، وقد تقدَّم [ الكلام في ] اشتقاق هذه اللفْظَة ، واختلاف القراء فيها في سورة النساء .
فصل في معنى المحصنات
هذا منقطع عن قوله : { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } وراجع إلى الأوَّلِ .
واختلفوا في معنى « المُحْصَنَات » ، فذهب أكثر العلماء إلى أنَّ المراد الحَرَائِرُ ، وأجازوا [ نكاح ] كل حَرَّة مؤمنة كانت أو كتابية فاجرة كانت أو عفيفة ، وهو قول مجاهد . وقال هؤلاء : لا يجُوزُ للمسلم نكاح الأمة الكتابيّة لقوله : { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ } [ النساء : 25 ] جَوَّز نكاح الأمة بشرط أنْ تكون مؤمنة ولقوله : { إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } ، ومهر الأمة لا يدفع إليها بل إلى سيِّدها ، وجوَّزَ أكثرهُم نِكَاحَ الأمة الكتابيّة الحربيّة لقوله : { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم } [ النساء : 25 ] .
وقال ابن عباس : لا يجوز ، وقرأ : { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله } [ التوبة : 29 ] إلى قوله : { حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ التوبة : 29 ] فمن أعطى الجزية حَلّ لنا نساؤهم ، ومن لم يعط لم يحلّ لنا نساؤه .
وذهب قومٌ إلى أنّ المراد من « المُحْصَنَات » في الآية العفائفُ من الفريقين حرائر كُنّ ، أو إماءً .
وأجازُوا نكاح الأمة الكتابيّة وحرّموا البَغَايا من المُؤمِنَاتِ والكتابيّات وهو قول الحسن ، وقال الشعبيُّ : إحصان الكتابية أنْ تستعفَّ عن الزّنا ، وتغتسل من الجنابة .
وذهب ابْنُ عُمَرَ إلى أنَّهُ لا يجوز نكاح الذميّة لقوله تعالى : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 ] ويقول : لا أعلم شِرْكاً أعظم من قولها : إنَّ [ ربَّها ] عيسى ، وأجاب من قال بهذا القول عن التّمسك بقوله : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } بوجوه :
أحدُها : أنَّ المراد الذين آمنوا منهم ، فإنَّهُ كان يحتمل أن يخطر ببال بعضهم أنَّ الكتابية إذا آمنت هل يجوزُ للمسلم التزويج بها أم لا؟ فبين اللَّهُ تعالى بهذه الآية جواز ذلك .
وثانيها : ما روي [ عن عطاء ] قال : « إنَّما رخّص اللَّهُ - تعالى - في التزويج بالكتابيَّةِ في ذلك الوقت؛ لأنَّه كان في المسلمات قلّة ، والآن ففيهن كثرة عظيمةٌ فزالت الحاجة ، فلا جَرَمَ زالت الرُّخصة » .
وثالثها : الآياتُ الدّالة على وُجوب مباينة الكفَّارِ ، كقوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] وقوله { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } [ آل عمران : 118 ] ، ولأنَّ عند حصول الزَّوجيّة ربما قويت المحبَّة فيصير ذلك سبباً لميل الزوج إلى دينها .
قوله سبحانه : { إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } ظرف العامل فيه أحد شيئين ، إمَّا « أحَلَّ » وإما « حِلّ » المحذوف على حسب ما قُرِّر ، والجملة بعده في محلّ خفض بإضافته إليها ، وهي - هنا - لمجرَّد الظرفيَّة .
ويجوز أن تكون شرطيةً ، وجوابها محذوف ، أي : { إذا أتيتموهن [ أجورهن ] } حللن لكم .
والأوَّلُ أظهرُ .
و « مُحْصِنينَ » حال ، وعاملها أحد ثلاثة أشياء : إما « آتيتمُوهُنَّ » ، وصاحب الحال الضمير المرفوع .
وأما « أحِلّ » المبني للمفعول .
وأما « حل » المحذوف كما تقدَّم .
و « غَيْر » يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن ينتصب على أنَّهُ نعت ل « محصنين » .
والثاني : أن ينصب على الحال ، وصاحب الحال الضمير المستتر في « مُحْصنِينَ » .
والثالث : أنهُ حال من فاعل « آتيْتُمُوهُنَّ » على أنَّهَا حال ثانية منه ، وذلك عند من يجوز ذلك .
فصل
تقييد التحليل بإيتاء الأجور يدلّ على تأكيد وجوهاً ، وأن من تزوَّج [ امرأة ] وعزَمَ أن لا يعطي الزوجة صداقها كان في صورة الزّاني ، فتسمية المهر بالأجرة يدلُّ على أنَّ الصّداق لا يتقدر كما أنَّ أقل الأجل في الإجارات لا يتقدَّرُ .
وقوله : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } أي غير معالنين بالزِّنَا { وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ } .
قال الشعبِيُّ : الزِّنَا ضربان :
السفاح [ وهو الزِّنَا على سبيل الإعلان ، واتَّخاذ الخدن ] وهو الزّنا في السرِّ واللَّهُ تعالى حرّمهما في هذه الآية ، وأباحَ التمتُّعَ بالمرأة على جهة الإحصان .
قوله تعالى : { وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ } يجوز فيه الجَرُّ على أنه [ عطف ] على « مُسَافحينَ » ، وزيدت [ « لا » ] [ تأكيداً للنَّفي ] المفهوم من « غَيْر » ، والنَّصب على أنَّهُ عطف على « غير » باعتبار أوجهها الثلاثة ، ولا يجُوز عطفها على « محصنين » ؛ لأنَّهُ [ مقترن ب « لا » ] المؤكدة للنفي المتقدم ، ولا نفي مع « مُحْصِنينَ » ، وتقدَّمَ معاني هذه الألفاظ .
وقوله تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان } تقدَّم له نظائر .
وقيل : المراد بالإيمان المؤمن به ، فهو مصدر واقع موقع المفعول به كدرْهم ضَرْب الأمير .
وقيل : ثَمَّ مضاف محذوف ، أي بموجب الإيمان ، وهو الباري - تبارك وتعالى - .
واعلم أنَّ الكَافِرَ إنَّمَا يكفر بالله ورسوله . وأمَّا الكفر بالإيمانِ فهو مُحَالٌ ، فلذلك اختلف المفسرون ، فقال ابن عباس ومجاهد قوله : { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان } أي باللَّهِ الذي يجب الإيمان به ، وإنَّما حَسُنَ هذا المجاز؛ لأنَّه يقال : رب الإيمان ورب الشيء قد يسمى باسم ذلك الشيء على سبيل المجاز .
وقال الكلبيُّ : « بالإيْمان » بكلمة التَّوحيد ، وهي شهادة أنْ لا إله إلاّ الله؛ لأن الإيمان من لوازمها ، وإطلاق الشَّيء على لازمه مجازٌ مشهور .
وقال قتادةُ : إنَّ ناساً من المسلمين ، قالوا : كيف نتزوج نساءهم مع كونهم على غير ديننا ، فأنزل الله هذه الآية : { وَمَن يَكْفُرْ } أي بما [ نزل ] في القرآن ، فهو كذا وكذا ، فسمّى القرآن إيماناً؛ لأنَّهُ مشتملٌ على [ بيان ] كلِّ ما لا بُدَّ منه في الإيمان . وقيل : ومن « يَكْفُرْ بالإيمَانِ » أن يستحلَّ الحرامَ ويحرّم الحلالَ « فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ » .
فصل
القائِلَونَ بالإحْبَاطِ ، قالوا : المراد بقوله : { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } فقد حبط ، أي : عقاب كفره يزيل ما كان حاصلاً له من ثوابِ إيمانِهِ ، والذين ينكرون القول بالإحباط قالوا : معناه أن عمله الذي أتى به بعد ذلك الإيمان فقد هَلَكَ وضاع ، فإنَّهُ إنَّما يأتي بتلك الأعمال بعد الإيمان لاعتقاده أنها خير من الإيمان فإذا لم يكن الأمر كذلك ، بل كان ضائعاً باطلاً كانت تلك الأعمال باطلة في نفسها .
قوله تعالى : { وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } الظَّاهر أن الخبر قوله : « مِنَ الخَاسِرينَ » ، فيتعلَّق قوله : « فِي الآخرة » بما تعلَّق به هذا الخبر .
وقال مَكِّيٌّ : العاملُ في الظَّرْفِ محذوفٌ تقديره : هو خاسر في الآخرة ، ودَلَّ على المحذوف قوله : « مِنَ الخَاسِرِينَ » فإنْ جعلت الألف واللام في « الخَاسِرِينَ » ليستا بمعنى « الذين » جاز أن يكون العامل في الظَّرْفِ « مِنَ الخَاسِرِينَ » بمعنى أنَّه لو كانت موصولةً لامتنع أن يعمل ما بعدها فيما قبلها؛ لأنَّ الموصول لا يتقدم عليه ما في حَيِّزِهِ ، وهذا كما قالوا في قوله : { إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين } [ الشعراء : 168 ] ، { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين } [ يوسف : 20 ] .
وتقدير مكيٍّ متعلّق هذا الظرف وهو خاسر ، وإنَّما هو بناء على كون « أل » موصولة بدليل قوله : فإن جعلت الألف واللاَّم ليستا بمعنى « الذين » وبالجملة فلا حاجة إلى هذا التقديرِ ، بل العامل فيه كما تقدَّمَ العامل في الظرف الواقع خبراً ، وهو الكون المطلق ، ولا يجوزُ أن يكون « في الإخِرَةِ » هو [ الخبر و « من الخاسرين » متعلق بما تعلق به ، لأنه لا فائدة في ذلك ، فإن جعل ] « من الخاسرين » حالاً من ضمير الخبر ، ويكون حالاً لازمة جاز ، وهو ضعيف في الإعْرابِ ، وقد تقدَّم نظير هذه الآية في « البقرة » عند قوله :
{ وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين } [ البقرة : 130 ] .
فصل
قوله : { وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } مشروطٌ بشرط غير مذكور في الآية ، وهو أنْ يموت على ذلك الكفر إذ لو تاب عن الكفر لم يكن في الآخرة من الخاسرين ، ويدل على أنَّهُ لا بدَّ من هذا الشّرط قوله : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولاائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة } [ البقرة : 217 ] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
قوله سبحانه وتعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } الآية اعلم أنَّ الله تعالى افتتح السورة بقوله : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] . فطلب الوَفَاءَ بعهد العبوديَّة ، فكأنَّ العبد قال : يا إلهي ، العهد نوعان : عهد الرُّبوبيّة منك ، وعهد العبوديّة منا ، فأنتَ أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الرُّبوبية والكرم ، [ نعم أنا أوفي بعهد الربوبية والكرم ] ومعلوم أنَّ منافع الدنيا محصورة في نوعين : لذات المطعم ، ولذات المنكح ، فبيَّن تعالى ما يحلُّ وما يحرم من المطاعم والمناكح ، ولما كانت الحَاجَةُ [ إلى ] المطعوم فوق الحاجة إلى المَنْكُوحِ قدم بيان المطعوم على المنكوح ، فلما تم هذا البيان فكأنه قال : قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب من منافع الدُّنيا ، فاشتغل أنت في الدُّنيا بالوفاء بعهد العبودية ، فلما كان أعظم الطَّاعات بعد الإيمان الصَّلاة ، ولا يمكن إقامتها إلا بالطَّهارة لا جَرَمَ بدأ اللَّهُ تعالى بذكر شرائط الوضوء .
قوله تعالى : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } .
قالوا : تقديره : إذا أردتم القيامَ كقوله : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ } [ النحل : 98 ] .
وهذا من إقامَةِ المُسَبَّب مقام السبب ، وذلك أنَّ القيام متسبِّبٌ عن الإرادة ، والإرادة سَبَبُهُ .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : فإن قلت : لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل؟ قلت : لأنَّ الفعل يوجد بقدرة الفاعِلِ عليه ، وإرادته له ، وهي قصده إليه وميله ، وخلوص داعيته ، فكما عبر عن القدرة على الفعل [ بالفعل ] في قولهم : الإنسان لا يطير ، والأعمى لا يبصر ، أي : لا يقدران على الطَّيران والإبصار؛ ومنه قوله تعالى : { نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 104 ] أي : قادرين على الإعادة ، كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل ، وذلك لأنَّ [ الفعل ] مُسَبَّب عن القدرة ، فأقيم [ المسبب ] مقام السبب للمُلاَبَسَةِ بينهما ، ولإيجاز الكلام .
وقيل : تقديره : إذا قصدتم الصلاة؛ لأنَّ من تَوَجَّه إلى شيء وقام إليه كان قاصداً له ، فعَبَّر بالقيام عن القصد .
والجمهورُ قدروا حالاً محذوفة من فاعل « قُمْتُمْ » ، أي : إذا قمتم إلى الصلاةِ مُحْدِثين؛ إذ لا وضوء على غير المحدث ، وإن كان قال به جماعةٌ قالوا : وَيَدُلُّ على هذه الحال المحذوفة مقابلتها بقوله : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا } ، فكأنه قيل : إن كنتم محدثين الحدث الأصغر فاغسلوا كذا ، وامْسَحُوا كذا ، وإن كنتم محدثين [ الحدث الأكبر ] فاغْسِلُوا الجسد كُلَّهُ .
قال شهابُ الدِّين : فيه نظر .
فصل هل الأمر بالوضوء تكليف مستقل؟
قال قوم : الأمر بالوضوء ليس تكليفاً مستقلاً بنفسه ، لأنَّ قوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا } جملة شرطية ، الشَّرط فيها القيام إلى الصلاة ، والجزاء الأمر بالغسل ، والمعلَّق على الشيء بحرف الشرط [ يعدم عند ] عدم الشَّرط ، فاقتضى أن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصَّلاة .
وقال آخرون : المقصُودُ من الوضوء الطَّهارة ، والطَّهارة مقصودة بذاتها لقوله تعالى في آخر الآية : { ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } ، ولقوله عليه الصلاة والسلام :
« [ بُنِيَ ] الدِّينُ على النَّظَافَةِ » ، وقال : « أمَّتِي غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ أثَرِ الوُضُوء يَوْمَ القِيَامَةِ » .
والأخبار الواردة في كون الوضوء سبباً لغفران الذنوب كثيرة .
فصل
قال دَاوُد : يجبُ الوضوء لكلِّ صلاة لظاهر الآية لأن قوله تعالى : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } يقتضي العموم ، [ وقال أكثر الفقهاء : لا يجب ] .
قال الفقهاء كلمة « إذَا » لا تفيد العموم؛ لأنَّهُ لو قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق ، فدخلت مرة طُلِّقَتْ ، فلو دخلت ثانية لم تطلق [ ثانياً ] وإذا قال السيِّد لعبده : إذا دَخَلْتَ السُّوقَ فادْخُلْ على فلان ، وقل له كذا وكذا ، فهذا لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة .
ويمكن أن يجاب بأنَّ التَّكاليف الواردة في القرآن مبناها على التَّكرير وليس الأمر كذلك في الصور التي ذكرتم فإن القرائن الظاهرة دلت على أنه ليس مبنى الأمر فيها على التكرير ، وأما الفقهاء فاستدلوا على صحة قولهم بأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يوم الفتح صلّى صلوات كلّها بوضوء واحد ، وجمع يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد .
وأجابَ داودُ بأنَّ خبر الواحد لا يَنْسَخُ القرآن ، وقال قومٌ : هو أمر على طريق النّدب ، ندب من قام إلى الصلاة أن يجدِّدَ الطَّهَارَة وإن كان على طهرٍ لما روى عبد الله بن حنظلة بن عامر أنَّ رسُولَ الله - صلّى الله عليه وعلى آله وسلم - أمر بالوضوء عند كلِّ صلاة طاهراً ، أو غير طاهر ، فلما شقّ ذلك عليه أمر بالسّواك عند كل صلاة ، وقال قوم : هو إعْلام من الله تعالى ورسوله أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصَّلاة دون غيرها من الأعمال ، فأذن له أن يفعل بعد الحدث ما بدا لَهُ من الأفعال غير الصلاة ، كما روى ابن عبّاسِ « قال : كنا عند النّبيِّ صلى الله عليه وسلم فرجع من الغائط ، فأتي بطعام فقيل : » ألا تتوضأ ، فقال : لَم أصَلِّ فأتَوضَّأ « .
قوله سبحانه : { فاغسلوا وُجُوهَكُمْ } .
وحدُّ الوجه من [ منابت الشَّعر ] إلى منتهى الذقنِ طولاً ، وما بين الأذنين عرضاً يجب غسل جميعه في الوُضوء ، ويجب إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين ، وأهداب العينين ، والشّارب ، والعذارِ ، والعَنْفَقَةِ وإن كان كثيفه .
وأما العَارِضُ واللِّحية وإن كانت كثيفة لا ترى البَشْرَة من تحتها لا يجب غسل باطنها في الوُضُوءِ ، بل يجبُ غسل ظاهرها ، وهل يجبُ إمرار الماء لما على ظاهر ما استرسل من اللحية عن الذَّقْنِ؟ .
فقال أبُو حنيفة : لا يجب؛ لأنَّ الشَّعر النازل عن حدِّ الرَّأس لا يكون حكمه حكم الرأس في جواز المَسْحِ؛ كذلك النازِل عن حدِّ الوجه لا يكون حكمه حكم الوجه في وجوب غسله ، وقال غيره : يجب إمرار الماء على ظاهره؛ لأنَّ الله تعالى أمَرَ بغسل الوَجْهِ ، والوجهُ ما يقع به المواجهة ، قال ابنُ عباسٍ : يجبُ غسل داخل العينين؛ لأنَّهُ من الوجه ، وقال غيره : لا يجبُ للحرج .
والمضمضة والاستنشاق يجبان في الوضوء .
والغسلُ عند أحمد وإسحاق وعند الشَّافِعِيِّ لا يجبان بناء على أنهما من الباطِنِ ، ولو نبت للمرأة لحية؟ وجب إيصال الماء إلى جلدَةِ الوجه ، وإن كانت كثيفة .
قوله [ سبحانه ] : { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق } .
في « إلى » هذه وجهان :
أحدهما : أنَّها على بابها من انتهاء [ الغاية ] ، وفيها حينئذٍ خلاف .
فقائل : إن ما بعدها لا يدخُلُ فيما قبلها .
وقائل بعكس ذلك .
وقائلٌ : لا تعرض لها في دخول ولا عدمه ، وإنَّما [ يدور ] الدخول والخروج مع الدَّليل وعدمه .
وقائل : إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها [ دخل ] في الحكم ، وإلاَّ فلا ، ويُعْزَى لأبي العبَّاس .
وقائل : إن كان ما بعدها من غير جنس ما قبلها لم يدخل ، وإن كان من جنسه ، فيحتمل الدخول وعدمه .
وأوَّلُ هذه الأقوال هو الأصَحُّ عند النُّحاة .
قال بعضهم : وذلك أنَّا حيث وجدنا قرينة مع « إلى » ، فإن تلك القرينة تقتضي الإخراج مما قبلها ، فإذا ورد كلام مجرد عن القرائن ، فينبغي أن يحمل على الأمر الفاشي الكثير ، وهو الإخراج ، وفرق هذا القائل بين « إلى » و « حتّى » فجعل « حتى » تقتضي الإدخال ، و « إلى » تقتضي الإخراج بما تقدَّم من الدَّليل .
[ وهذه الأقوال دلائلها في غير هذا الكتاب ، وقد أوضحتها في كتابي « شرح التسهيل » ] .
والوجه الثاني : أنَّهَا بمعنى « مع » أي : مع المرافِقِ ، وقد تقدَّمَ الكلامُ في ذلك عند قوله : « إلى أمْوالِكُمْ » .
و « المرافِق » جمع « مَرْفِق » بفتح الميم وكسر الفاء على الفصيح من اللغة ، وهو مِفْصَلٌ بين العَضُدِ والمِعْصَمِ .
فصل
ذهب أكثرُ العلماء إلى وجوب غسلِ اليديْنِ مع المرفقين والرجلين مع الكعبين . وقال مالكٌ والشعبيُّ ومُحمَّد بنُ جرير وزفَرُ : لا يجب غسلُ المرفقين والكعبين في اليد والرجّل؛ لأن حرف « إلى » للغاية ، والحدّ لا يدخل في المحدود ، وما يكون غاية للحكم يكون خارجاً عنه كقوله : { أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } [ البقرة : 187 ] .
والجوابُ : أنَّ حدَّ الشيء قد يكون منفصلاً عن المحدود بمقطع محسوس ، فها هنا يكون الحد خارجاً عن المحدود كقوله : { أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } [ البقرة : 187 ] فإنَّ النَّهار مُنفَصِلٌ عن الليل انفصالاً محسوساً ، وقد لا يكون منفصلاً كقولك : « بعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى ذلك الطرف » ، فإن طرف الثوب غير منفصل عن الثوب بمقطع محسوس فإذا كان كذلك فامتياز المرفق عن السَّاعد ليس له مفصل معين؛ فوجب غسله .
وثانياً : سلّمنا أنّ المرفق لا يجب غسله ، إلاَّ أنَّ المرفقَ اسم لما جاوز طرف العظم؛ لأنَّهُ هو الذي يرتفق به أي يتَّكِئ عليه ، ولا نِزَاع أنَّ ما وراء طرف العظم لا يجب غسله ، قاله الزجاج .
فصل في غسل ما أمكن مما هو دون المرفق
فإن قطع ما دون المرفق؛ وجب غسل ما بقي؛ لأنَّ محل التكليف باقٍ وإن كان قطع مما فوق المرفق لم يجب؛ لأنَّ محلّ التّكليف زال ، وإن كان قطع من المرفق؛ فقال الشافعي : يجب إمساسُ [ الماء عند ملتقى العظمين؛ وجب مساس ] لطرف العظم؛ لأنَّ غسل المرفق كان واجباً ، وهو عبارة عن ملتقى العَظْميْنِ ، فوجب إمساسُ الماء عند ملتقى العَظْمَيْنِ ، وجب إمْسَاس لطرف العظم الباقي لا محالة .
قوله عزَّ وعلا : { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ } .
في هذه « الباء » ثلاثةُ أوْجُه :
أحدها : أنَّها للإلصاق ، أي : ألصقوا المسح برؤوسكم .
قال الزمخشريُّ : المرادُ إلصاق المَسْحِ بالرَّأسِ ، وما مسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما مُلْصق المسح برأسه .
قال أبو حيَّان : وليس كما ذكر ، يعني أنَّهُ لا يطلق على [ الماسح ] بعض رأسه ، أنَّهُ ملصق المسح برأسه ، وهذا مُشَاحَّةٌ لا طَائِلَ تحتها .
والثاني : أنها زائدة كقوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] .
وقوله : [ البسيط ]
1932- . ... لا يَقْرَأنَ بالسُّوَرِ
وهو ظاهرُ كلام سيبويْهِ ، فإنَّهُ حكى : خشَّنت صدره وبصدره ، ومسحت رأسه وبرأسه ، والمعنى واحد .
وقال الفرَّاءُ : تقول العربُ : خذ الخِطَامَ ، و [ خذ ] بالخطام . وَهزَّ به ، وخذ برأسه ورأسه .
والثالث : أنَّها للتبعيضِ ، كقوله : [ الطويل ]
1933- شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ .. . . .
وهذا قول ضعيفٌ ، وتقدَّم الكلامُ في ذلك في أول البسملة .
فصل في ذكر الخلاف في القدر الواجب من مسح الرأس
اختلف العلماء في قدر الواجب من مَسح الرَّأسِ ، فقال مالكٌ وأحْمَدُ : يجب مسح جميع [ الرأس كما يجب مسح جميع ] الوجه في التيمم وقال أبو حنيفة : يجب مسح ربع الرَّأس .
وقال الشافعيُّ : قدر ما يطلق عليه اسم المسح ، واحتج الشافعيُّ بأنَّهُ لو قال مسحت بالمنديلِ ، فهذا لا يصدق إلا عند مسحه بكلِّه ، ولو قال : مسحتُ يدي بالمنديلِ ، فهذا يكفي في صدقه مسح اليَدِ بجزء من أجْزَاءِ ذلك المنديل .
فقوله [ سبحانه ] : { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ } يكفي في العملِ به مَسْحُ اليد بجزء من أجْزَاء الرَّأسِ وذلك الجزء غير مقدّر في الآية ، فإن قدَّرْناهُ بمقدار معين لم يتعين ذلك المقدار إلا بدليل غير الآية ، فيلْزَمُ صيرورة الآية مجملة ، وهو خلاف الأصل ، وعلى ما قلناه تكونُ الآية مبينةٌ مفيدة ، فهو أولى ، ويؤيِّده ما روي عن المغيرة بن شُعْبَةَ « أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وخُفَّيْه » .
وأجاز أحمد المسح على العمامَةِ ، ووافقه الأوزاعيُّ [ والنوويُّ ] والثوريُّ ، ومنعه غيره .
وحمل الحديث على أنَّ فرض المسح سقط عنه بِمَسْحِ النَّاصية .
فصل
قال القرطُبِيُّ : لو غسل المتوضِّئ رَأسَهُ بدل المسح ، قال ابن العربيِّ : لا نعلم خلافاً في أن ذلك يجزئه إلا ما نُقِلَ عن بعضهم أنَّ ذلك لا يجزئ .
وهذا مَذهَبُ أهل الظَّاهر .
فإن قيل : هذه زيادة خرجت عن اللَّفظ المتعبَّد به .
قلنا : ولم يخرج عن معناه في إيصال الفعل إلى المحلّ ، وكذلك لو مسح رأسه ثم حلقه لم يكن عليه إعادة المسح .
قوله عزَّ وجلَّ : { وَأَرْجُلَكُمْ } .
قرأ نافعٌ ، وابن عامرٍ ، والكسائيُّ ، وحفص عن عاصم « أرْجُلَكُمْ » نَصْباً ، وباقي السبعة « وَأرْجُلِكُمْ » جَرًّا .
والحسن بن أبي الحسن « وَأرْجُلُكُمْ » رفعاً .
فأمَّا قراءة النَّصْبِ ففيها تخريجان :
أحدهما : أنها معطوفة على « أيْدِيكُم » ، فإن حكمها الغُسْل كالأوجه والأيدي . كأنه قيل : واغسلوا أرجلكم ، إلا أن هذا التَّخريج أفسده بعضهم؛ بأنَّهُ يلزم منه الفصل بين المتعاطفين بجملة [ غير ] اعتراضية؛ لأنها منشئة حكماً جديداً ، فليس [ فيها ] تأكيد للأول .
وقال ابنُ عُصْفُورٍ - وقد ذكر الفصل بين المتعاطفين - : وأقبح ما يكون ذلك بالجمل ، فدل [ قوله ] على أنه لا يجوز تخريج الآية على ذلك .
وقال أبو البقاء عكس هذا ، فقال : هو مَعْطُوفٌ على الوجوه ، ثم قال : وذلك جائز في العربيّة بلا خلاف .
وجعل السنّة الواردة بغسل الرِّجلين مقوية لهذا التخريج ، فليس بشيء .
فإنَّ لقائلٍ أن يقول : يجوز أن يكون النَّصب على محل المجرور [ وكان حكمها المسح ، ولكنه نسخ ذلك بالسُّنَّة ، وهو قول مشهور العلماء .
والثاني : أنه منصوب عطفاً على قبله ] كما تقدم تقريره قبل ذلك .
وأمَّا قراءة الجرِّ ففيها أربعة تخاريج :
أحدها : أنها منصوب في المعنى عطفاً على الأيدي المغسولة ، وإنَّمَا خفض على الجوار ، كقولهم : هذا جُحْرُ ضَبٍّ خربٍ ، بجر « خَربٍ » ، وكان حقه الرفع؛ لأنَّهُ صفة في المعنى ل « الجحر » لِصحة اتصافه به ، والضَّب لا يوصف به ، وإنما جره على الجوارِ .
وهذه المسألة عند النَّحويين لها شرط ، وهو أن يُؤمَنَ اللَّبْسُ كما تقدم تمثيله ، بخلاف : قام غلامُ زَيْدٍ العاقِلُ ، إذا جعلت العاقل نعتاً للغلام ، امتنع جره على الجوارِ لأجل اللَّبْسِ .
وأنشدوا - أيضاً - قول الشاعر : [ البسيط ]
1934- كأنَّمَا ضَرَبَتْ قُدَّامَ أعْيُنِهَا ... قُطْناً بِمُسْتَحْصِدِ الأوْتَارِ مَحْلُوج
وقول الآخر : [ الوافر ]
1935- فإيَّاكُمْ وَحَيَّةَ بطنِ وَادٍ ... هَمُوزِ النَّابِ لَيْسَ لَكُمْ بِسِيِّ
وقول الآخر : [ الطويل ]
1936- كَأنَّ ثَبِيراً فِي عَرَانِينِ وَبْلِهِ ... كَبِيرُ أنَاسٍ في بِجَادٍ مُزَمَّلِ
وقول الآخر : [ الرجز ]
1937- كَأنَّ نَسْجَ العُنْكَبُوتِ المُرْمَلِ ... بجر « مَحْلُوج » وهو صفة ل « قطناً » المنصوب وبجر « هموز » ، وهو صفة ل « حية » المنصوب ، وبجر « المُزَمِّل » وهو صفة « كبير » ؛ لأنَّه بمعنى المُلْتَف ، وبجر « المُرْمَل » وهو صفة « نسج » ، وإنما جرت هذه لأجل المُجَاورة .
وقرأ الأعمش : { إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين } [ الذاريات : 58 ] بجر « المتين » مجاورة ل « القوة » وهو صفة ل « الرزاق » ، وهذا وإن كان وارداً إلا أن التخريج عليه ضعيفٌ لضعف الجوار من حيثُ الجملة .
وأيضاً فإن الخفض على الجوار إنَّما وَرَدَ في النعت لا في العطف ، وقد ورد في التوكيد قليلاً في ضرورة الشِّعْر .
قال : [ البسيط ]
1938- يَا صَاحِ بَلِّغْ ذَوِي الزَّوْجَاتِ كلِّهم ... أنْ لَيْسَ وَصْلٌ إذَا انْحَلَّتْ عُرَى الذَّنَب
بجر « كلهم » وهو توكيدٌ ل « ذوي » المنصوب ، وإذا لم يردا إلاَّ في النَّعت ، وما شذَّ من غيره ، فلا ينبغي أن يُخَرَّج عليه كتاب الله [ تعالى ، وهذا المسألة قد أوضحتها وذكرت شواهدها في « شرح التسهيل » ] ، وممن نص على ضعف تخريج الآية على الجوار مكي ابن أبي طالب وغيره .
قال مكي ، وقال الأخفشُ ، وأبو عُبيدةَ : الخفضُ فيه على الجوارِ ، والمعنى للغُسْلِ ، وهو بعيد لا يُحْمَلُ القرآن عليه .
وقال أبُو البقَاءِ : وهو الإعراب الذي يقال : هو على الجوار ، وليس بممتنع أنْ يقع في القرآن لكثرته ، فقد جاء في القرآن والشعر .
فمن القرآن قوله تعالى : { وَحُورٌ عِينٌ } [ الواقعة : 22 ] على قراءة من جَرَّ وهو معطوف على قوله : { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } [ الواقعة : 18 ] وهو مختلف المعنى؛ إذ ليس المعنى يطوف عليهم ولدان مُخَلَّدون بحور عين .
وقال النَّابِغَةُ : [ البسيط ]
1939- لَمْ يَبْقَ إلاَّ أسيرٌ غَيْرُ مُنْفَلِتٍ ... أوْ مُوثقٍ في حِبَالِ الْقَوْم مَجْنُوبِ
والقوافي مجرورة ، والجِوَارُ مشهور عندهم في الإعراب [ ثم ذكر أشياء كثيرة زعم أنها مقوية لمدّعاه منها قلب الإعراب ] في الصفات كقوله تعالى : { عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } [ هود : 84 ] ، واليوم ليس بمحيطٍ ، وإنَّما المحيط هو العذابُ .
ومثله قوله تعالى : { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [ إبراهيم : 18 ] ، وعاصف ليس من صفة اليوم بل من صفة الريح .
ومنها قلب بعض الحُرُوفِ إلى بعض كقوله عليه السلام : « ارْجعْنَ مأزُورَاتٍ غَيْرَ مأجُورَاتٍ » ، والأصل : مَوْزُورات ، ولكن أريد التَّوَاخي .
وكذلك قولهم : [ إنَّهُ ] ليأتينا بالغدايا والعَشَايا ، يعني أن الأصل بالغَدَاوى؛ لأنَّها من الغُدْوَة ، ولكن لأجل ياء العشايا جاءت بالياء دون الواو .
ومنها تأنِيثُ المذكَّرِ كقوله تعالى : { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] ، فحذف التاء من « عشر » ، وهي مضافة إلى « الأمْثَالِ » ، وهي مذكرة ، ولكن لما جاورت الأمثال ضمير المؤنَّثِ أجري عليها حكمه ، وكذلك قوله : [ الكامل ]
1940- لمَّا أتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تواضَعت ... سُورُ المدينَةِ والْجِبَالُ الْخُشَّعُ
وقولهم : ذهبت بَعْضُ أصابعه يعني أن « سور » مذكرة ، « وبعض » - أيضاً - كذلك ، ولكن لما جَاوَرَوا المؤنث أعْطِيَا حكمه .
ومنها : قامت هندُ لما لم يفصلوا ، أتَوْا بالتَّاءِ ، ولمَّا فصلوا لم يأتوا بها ، ولا فَرْقَ إلا المجاورة وعدمها .
[ ومنها : ] استحسانهم النَّصْبَ في الاشتغال بعد جملة فعليَّةٍ ، في قولهم : قام زيد وعمراً كلمته لمجاورة الفعل .
ومنها : قلبهم الواو المجاورة للظّرف همزة نحو : أوائل بخلاف طواويس لبعدها من مجاورة الظرف .
قال : وهذا مَوضِعٌ يحتمل أن يكتب فيه أوراق من الشواهد ، قد بوّب له النحويون له [ باباً ] ورتَّبُوا عليه مسائل ، وأصَّلُوه بقولهم : هذا جُحْر ضبٍّ خَرِبٍ .
[ حتى ] اختلفوا في جواز جرِّ التثنية والجمع ، فأجاز الإتباع فيهما جماعة من حُذَّاقهم قياساً على المُفْرد المَسْمُوعِ ، ولو كان لا وجه له بحال لاقتصروا فيه على المسموع فقطْ ، ويتأيَّدُ ما ذكرناه أن الجرَّ في الآية قد أجيز غيره وهو الرّفع والنّصب ، والرّفع والنّصب غير قاطعين ولا ظاهرين ، على أن حكم الرِّجْلين المسح ، فكذلك الجرّ يجب أن يكون كالنَّصْبِ والرفع في الحكم دون الإعراب . انتهى .
قال شهاب الدين : أمَّا قوله : إنّ { وَحُورٌ عِينٌ } [ الواقعة : 22 ] من هذا الباب فليس بشيء؛ لأنَّهُ إمَّا أنْ يُقَدَّرَ عطفهما على ما [ تقدَّم بتأويل ] ذكره الناس كما سيأتي ، أو بغير تأويل .
وإما ألاَّ يعطفهما ، [ فإن عطفهما على ما تقدم ، وجب الجر ، وإن لم يعطفهما لم يجب الجر ، وأمّا جرهما على ما ذكره الناس فقيل : لعطفهما ] على المجرور بالياء قبلهما على تضمين الفعل المتقدم « يتلذّذون وينعمون بأكواب وكذا وكذا » .
أو لا يُضَمَّن الفعل شيئاً ، ويكون لطواف الولدان بالحور العين على أهل الجنَّةِ لَذَاذَةٌ لهم بذلك ، والجوَارُ إنَّمَا يكون حيث يستحقُّ الاسم غير الجر ، فيجر لمجاورة ما قبله ، وهذا كما ترى قد صَرَّح هو أنَّهُ معطوف على « بأكواب » .
غاية ما في الباب أنَّه جعله مختلف المعنى ، يعني أن عنده لا يجوز عطفهما على « بأكْوَابٍ » إلا بمعنى آخر ، وهو تضمين الفعل ، وهذا لا يقدحُ في العطفية .
وأمَّا البيتُ فجَرُّ « موثّق » ليس لجواره ل « منفلت » وإنَّما هو مراعاة للمجرور ب « غير » ؛ لأنَّهم نصوا على أنَّك إذا جئت بعد « غير » ومخفوضها يتابع جاز أن يتبع لفظ « غير » ، وأن يتبع المضاف إليه ، وأنشدوا البيت ، ويروى : [ البسيط ]
1941- لَمْ يَبْقَ [ فيها طَرِيدٌ ] غَيْرُ مُنْفَلِتٍ ... أوْ موثقٍ في حِبَالِ الْقَوْمِ مَجْنُوبِ
وأما باقي الأمثلة التي أوردها فليس من المجاورة التي تؤثر في التغيير ، أي تغيير الإعراب ، وقد تقدَّم أنَّ النَّحويين خصَّصوا ذلك بالنَّعت ، وأنَّهُ قد جاء في التوكيد ضرورة .
والتَّخْرِيج الثاني : أنَّهُ معطوف على « بِرءُوسِكُم » لفظاً ومعنى ، ثم نسخ ذلك بوجوب الغسل ، وهو حكم باقٍ ، وبه قال جماعة ، أو يحمل مسح الأرْجُلِ على بعض الأحوال ، وهو لُبْسُ الخُفِّ ، ويُعْزَى للشافعيِّ .
التخريج الثالث : أنَّها جُرَّتْ مَنْبَهَةً على عدم الإسراف باستعمال الماء؛ لأنَّها مظنَّةٌ لصبِّ الماء [ كثيراً ] ، فعطفت على الممسوح ، والمرادُ غسلها كما تقدّم .
وإليه ذهب الزمخشريُّ ، قال : « وقيل : إِلَى الكعبين » فجيء بالغاية إمَاطَةً لظن ظَانٍّ يحسبهما مَمْسُوحَةً؛ لأنَّ المسح لم تُضْرَبْ له غاية في الشريعة .
وكأنَّهُ لم يَرْتَض هذا القول الدافع لهذا الوَهْمِ ، وهو كما قال .
التخريج الرابع : أنها مجرورة بحرف جر مقدر ، دَلَّ عليه المعنى ، ويتعلّق هذا الحرف بفعل محذوفٍ أيضاً يليق بالمحلّ ، فيُدَّعى حذف جملةٍ فعليةٍ وحَذْفُ حرف جر ، قالوا : وتقديره : « وافعلوا بأرْجُلِكُم غَسْلاً » .
قال أبُو البَقَاء : وحَذْفُ حرف الجَرِّ ، وإبقاء الجرّ جائزٌ؛ كقوله : [ الطويل ]
1942- مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحينَ عَشِيرَةً ... وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا
وقال الآخر : [ الطويل ]
1943- بَدَا لِيَ أنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى ... ولا سَابِقٍ شَيْئاً إذَا كَانَ جَائِيَا
فجر بتقدير الباء ، وليس بموضع ضرورة .
قوله : وإبقاء [ الجرّ ] ليس على إطلاقه ، وإنَّما يطردُ منه مواضع نصَّ عليها أهل اللِّسَانِ ليس هذا منها .
وأمَّا البيتان فالجرُّ فيهما عند النُّحَاةِ يسمَّى العطف على التوهُّم يعني كأنَّهُ توهم وجود الباء زائدة في خبر « لَيْسَ » ، لأنها يكثر زيادتها ، ونظَّروا ذلك بقوله تعالى : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين } [ المنافقون : 10 ] بجزْمِ « أكن » عَطْفاً على « فأصَّدقَ » على توهُّم سقوط الفاء من « فأصَدَّق » نص عليه سيبويه وغيره ، فظهر فسادُ هذا التخريج .
وأما قراءة الرَّفْع فعلى الابتداء ، والخبرُ محذوفٌ ، أي : وأرْجُلكم مغسولة ، أو ممسوحة على ما تقدَّم في حكمها [ والكلام ] في قوله « إلى الكَعْبَيْنِ » كالكلام في « إلى المرفقين » .
« والكَعْبَان » فيهما قولان [ مشهوران ] .
أشهرهما : أنَّهُما العظمان الناتئان عند مفصل السَّاق والقَدمِ في كل رجل كعبان .
والثاني : أنَّهُ العظم النّاتئ في وجه القَدَمِ ، حيث يجتمع شراك النَّعْلِ ، ومراد الآية هو الأوَّل .
والكَعْبَةُ ، كُلُّ بيت مُرَبَّع ، وسيأتي [ بيانه ] في موضعه إن شاء الله - تعالى - .
فصل
قد تقدَّم كلام النُّحاة في الآية .
وقال المُفَسِّرون : من قرأ بالنصْب على تقدير : « فاغْسِلُوا وجوهكم ، وأيديكم ، واغسلوا أرجلكم » ومن قرأ بالجرِّ فذهب بعضهم إلى أنَّه يمسح على الرجلين .
روي عن ابن عباس أنَّه قال : « الوُضُوء غَسْلتَانِ وَمَسْحَتَانِ » ، ويروى ذلك عن عكرمة وقتادةَ .
قال الشَّعبيُّ : نزل جبريل بالمسحِ ، وقال : ألا ترى التيمُّمَ ما كان غسلاً ، ويلقى ما كان مسحاً .
وقال مُحَمَّدُ بْنُ جرير : يتخيرُ المتوضئ بين المسح على الخفين وبين غسل الرجلين ، وذهب جماعةُ من أهل العلم من الصحابَةِ والتابعين وغيرهم إلى وجوب غسل الرجلين ، وقالوا : خفض اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ لا على موافقة الحكم كقوله : { عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } [ هود : 26 ] ، فالأليم صفة العذاب ، ولكنَّه جرّ للمجاورة كقولهم : « جُحْرُ ضَبٍّ خَرِب » . ويدلُّ على وجوب غسل الرِّجلين ما روى عبد الله بن عمرو ، قال : « تخلفَ عنا رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في سفر سافرناهُ ، فأدركناه وقد راهقتنا صلاة العصر ونحن نتوضّأ ، فجعلنا نمسحُ على أرْجُلِنَا ، فَنَادَانَا بأعلى صوته : » وَيْلٌ للأعْقَابِ مِنَ النَّار « .
والأحاديثُ الواردة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كثيرة ، وكلهم وصفوا غسل الرجلين .
وقال بعضهم : أراد بقوله « وأرْجلكُم » : المسح على الخفين ، كما رُوي أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - « كَانَ إذا رَكَع وضَعَ يَدَهُ على رُكْبَتَيْهِ » ، وليس المرادُ منه أنَّهُ لم يكن بينهما حائل ، ويقالُ : قبَّلَ فلان رأس الأمير ويده ، وإنْ كانت العمامة على رأسِهِ ويده في كمه فالواجب في غسل أعضاء الوضوء هذه الأربعة .
فصل : حكم النيّة في الوضوء
اختلفوا في وجوب النية فذهب أكثر العلماء إلى وجوبها لأن الوضوء عبادة فيفتقر إلى النية كسائر العباداتِ ، ولقوله عليه السلام : « إنَّما الأعْمَالُ بالنيَّات » وذهب النووي وأصحاب الرّأي إلى عدم وجوبها .
فصل [ حكم الترتيب ]
واختلَفُوا في وجوب الترتيب وهو أن يغسل أعضاءه على التَّرْتيب المذكور في الآية فذهب مالكٌ والشافعيُّ ، وأحمد وإسحاق إلى وجوبه ، ويروى ذلك عن أبي هريرة ، واحتجُّوا بقول الله تعالى : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ } فاقتضى وجوب الابتداء بغسل الوجه؛ لأنَّ الفاء للتّعقيب ، وإذا أوجب الترتيب في هذا العضو؛ وجب في غيره ، إذ لا قائل بالفرق .
[ قالوا : فاء التعقيب إنما دخلت ] في جملة هذه الأعمال ، فجرى [ الكلام ] مجرى قوله : إذا قُمتمْ إلى الصلاةِ ، فأتوا بمجموع هذه الأفعال .
قلنا : فاء التّعقيب إنّما دخلت على الوجه لالتصاقها بذكر الوجه ، وبواسطة دخولها على الوجْهِ ، دخلت على سائر الأفعالِ ، فكان دخولها على الوجه أصل ، ودخولها على المجموع تبع لدخولها على غسل الوجه ، فنحنُ اعتبرنا دلالة الفاء في الأصْلِ ، واعتبرتموها في التبع ، فكان قولنا أولى .
وأيضاً فقوله - عليه الصلاة والسلام - : « ابْدَءوا بما بَدَأ اللَّهُ بِه » يقتضي العموم ، وأيضاً فإهمال الترتيب في الكلام مستقبح فيجب تنزيه كلام الله تعالى عنه ، وكونه تعالى أدرجَ ممسوحاً بين مغسولَيْن ، وقطع النّظير عن النظير ، يدلُّ على أنَّ التَّرتيب مراد .
وأيضاً فإن وجوبَ الوضُوءِ غير معقول المعنى؛ لأنَّ الحدث يخرج من موضع والغسل يجب في موضع آخر ، وأعضاء المحدث طَاهِرَةٌ ، لأنَّ الميت لا ينجس حيّاً ولا ميتاً ، وتطهير الطَّاهر محالٌ .
وأقيم التيمم مقام الوضوء وهو ضدّ النظافة والوضاءة ، وأقيم المَسْح على الخفين مقام الغسل ، وذلك لا يفيدُ في نفس العُضْوِ نظافة ألْبَتَّةَ .
والماء [ العَفِن ] الكَدِرُ يفيد الطَّهارة ، وماء الورد لا يفيدها ، وإذا كان غير معقول المعنى وجب الاعتماد فيه على مورد النَّصِّ لاحتمال أن يكون الترتيب المذكور إما لمحض التعبد ، أو لحكمة خفية لا نعرفها ، ولهذا السّبب أوجبنا الترتيب في أركان الصلاة ، وذهب جماعة منهم أبو حنيفة إلى أن الترتيب ليس بواجب ، قالوا : لأنَّ ذلك زيادة على النَّصِّ فلا يجوز؛ لأنَّه نَسخٌ . والواوات المذكورة [ في الآية للجمع ] لا للترتيب كالواوات في قوله :
{ إِنَّمَا الصدقات } الآية [ التوبة : 60 ] .
واتفقوا على أنه لا يجب الترتيب في صَرْفِ الصَّدقاتِ ، فكذلك هنا .
وأجيبوا بأن قولهم : الزيادة على النّص نسخٌ ، ممنوع على قيد في علم الأصول .
وأمَّا الصَّدقات : فلم يرو عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ راعى التّرتيب فيها .
وفي الوُضُوءِ لم ينقل أنَّهُ توضَّأ إلا مرتباً ، وبيان الكتاب يؤخذ من السُّنَّةِ ، قال تعالى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] وقال [ الله ] تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا } [ الحج : 77 ] ، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أنه قدم السُّجود على الرُّكوع ، بل راعى الترتيب ، فكذلك هاهنا .
فصل حكم المولاة
الموالاة أوجبها مالكٌ وأحْمَدُ ، وقال أبو حنيفة والشَّافِعيُّ [ في الجديد ] ليست شرطاً لصحة الوُضُوء .
فصل
لو كان على وجهه أو بدنه نجاسة فغسلها أو نوى الطَّهارة عن الحدث بذلك الغُسْلِ ، فقال بعض العلماء : يكفي لأنَّه أمر بالغسل ، وقد أتى به ، فيخرج عن العهدة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى » فيجب أن يحصل له المنوي .
فصل
لو وَقَفَ تحت ميزاب حتى سال عليه الماء ، ونَوَى رفْع الحدثِ ، فقيل : لا يَصِحُّ؛ لأنه أمر بالغسلِ ، والغَسْلُ عملٌ وهو لم يَأتِ بالعَملِ ، وقيل : يَصِحُّ؛ لأنَّ الغَسْلَ عِبارَةٌ عن الفِعْلِ المُفْضِي [ إلى الانغسال ] وُوُقُوفُهُ تَحْتَ الميزَابِ فعلٌ مُفْضٍ إلى الاغتسال ، فكان غُسْلاً .
فصل
إذا غَسَلَ هذه الأعْضَاء ثم بعد ذلك تَقَشَّرَت الجلْدَة عنها ، فَمَا ظَهَر من تحت الجلْدَة غير مَغْسُولٍ ، فالأظْهَرُ وجُوب غَسْلِهِ؛ لأنَّه تعالى أمَرَ بِغَسْلِ هذه الأعْضَاءِ ، وذلك الموْضِعُ غير مَغْسُول ، إنَّما المغْسُول هو الجِلْدَة التي زَالَت .
فصل
لو أخَذَ الثَّلْج وأمَرَّه على هذه الأعْضَاءِ ، فإن كان الهَوَاءُ حَارًّا يُذيبُ الثَّلْجَ ويُسِيلُهُ جاز وإلا فلا ، خِلافاً للأوْزَاعِي .
لنا : أنَّ هذَا لا يُسَمَّى غُسْلاً ، فأُمِرَ بالغسْلِ .
فصل في التسمية في الغسل
التَّسْمِيَةُ في أوَّل الغسل والوُضُوءِ : قال أحْمَد وإسْحَاق : واجِبَةٌ .
وقال غَيْرُهُما : هي سُنَّةٌ؛ لأنَّهَا لَيْسَت مَذْكُورة في الآيَةِ ، واسْتَدلُّوا عليه بقوله - عليه الصلاة والسلام - : « لا صَلاَة إلاَّ بِوُضُوءٍ ، ولا وُضُوءَ لِمَن لم يَذْكُرِ اسْمَ الله عليْه » .
قوله - سبحانه - : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا } .
قال الزَّجَّاج : مَعْنَاهُ تَطَهَّرُوا؛ لأن « التَّاء » تُدْغَمُ في « الطَّاءِ » ؛ لأنَّهُمَا من مَكَانٍ واحِدٍ ، فإذا أدْغِمت « التَّاء » في « الطَّاء » سُكِّنَ أوَّلُ الكَلِمَة فَزيدَ ألِفُ وصْلٍ ليُبْتَدَأ بها ، فَقِيل : « اطَّهَّرُوا » .
ولمَّا ذَكَر تعالى كَيْفِيَّة الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى ، ذكر بعدَهَا الطَّهارة الكُبْرَى ، وهي الغُسْلُ من الجَنَابَةِ . ولمَّا كانت الطَّهَارَةُ الصُّغْرى مَخْصُوصَة ببعض الأعْضَاءِ ، لا جَرَم ذكر تِلْكَ الأعْضَاء على التَّعْيين ، ولما كانت الطَّهَارَةُ الكُبْرَى في كُلِّ البَدَنِ أُمِرَ بها على الإطْلاَقِ .
رَوتْ عَائِشَةُ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كان إذا اغْتَسَل من الجَنَابَةِ بَدَأ فَغَسَل يَدَيْهِ ، ثم تَوَضَّأ كما يتوَضَّأ للصَّلاة ، ثم يُدْخِلُ أصَابِعَهُ في الماءِ فَيُخَلِّل بها أصُولَ شَعْرِهِ ، ثم يَصُبُّ المَاءَ على رَأسِهِ ثلاثَ غَرْفَاتٍ بيدهِ ، ثم يَفيضُ الماءَ عَلى جِلْدِهِ كُلِّهِ .
فصل
قال القُرْطُبِي : قوله تعالى : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا } أمر بالاغْتِسَالِ بالمَاءِ ، وكذلك رأى عُمَرُ وابْنُ مَسْعُودٍ : أنَّ الجُنُبَ لا يَتَيَّممُ ألْبَتَّةَ ، بل يَدَعُ الصَّلاة حتى يَجِد المَاءَ ، وهذا يَرُدُّهُ قوله - عليه الصلاة والسلام - : « وجُعِلَ لِيَ الأرْضُ مَسْجِداً وتُرَابُها طهُوراً » وقوله : « التُّرَابُ طهُورُ المُسْلِمِ ، ما لم يَجِدِ المَاءَ عَشْرَ سِنين » ، وحديثُ عُبَادة ، وحديثُ عمرَان بن الحصين أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - رأى رَجُلاً معهُ ماء لم يصلّ في القومِ الحديث .
فصل
ولِحُصُولِ الجَنَابَةِ سَبَبَانِ :
الأوَّلُ : نُزُول المَنِيِّ ، قال - عليه الصلاة والسلام - : « إنَّما الماءُ من المَاءِ » .
والثاني : في التِقَاءِ الختانَيْنِ ، وقال زَيْدُ بن ثابتٍ ، ومُعاذ [ وأبو سعيد الخُدْرِي : ] لا يَجِبُ الغُسْلُ إلاَّ عِنْد نُزُولِ المَاءِ .
لنا : قوله - عليه الصلاة والسلام - : « إذا الْتَقَى الخِتَانَان وجَبَ الغُسْلُ وإنْ لَمْ يُنْزِلْ » ، وختانُ الرَّجُلِ : هو المَوْضِعُ الذي يقطع منه جِلْدَة القلفَةِ ، وأما خِتَانُ المرْأةِ فَشَفْرَان مُحِيطَانِ بِثَلاثَةِ أشْيَاء : ثُقْبَةٌ في أسْفَلِ الفَرْجِ وهو مَدْخَلُ الذَّكَرِ ومَخْرَجُ الحَيْضِ والولدِ ، وثُقْبَةُ [ أخْرَى ] فَوْقَ [ هذه ] مثل إحْلِيلِ الذَّكَرِ وهي مَخْرجُ البَوْلِ لا غير ، [ وفوق ] ثُقْبَة البَوْل مَوْضِعُ خِتَانِهَا ، وهُنَاكَ جِلْدَةٌ رَقيقَةٌ قَائِمَةٌ مِثْل عُرْف الدِّيك ، وقَطْعُ هذه الجِلْدةِ هُو خِتَانُها ، فإذا غَابَتِ الحَشْفَةُ حتى حَاذَى خِتَانُهُ خِتَانها ، فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ .
فصل في حكم الدلك
الدَّلْكُ غير واجبٍ؛ لأنَّه لم يُذْكَر في الآيةِ ، وقال - عليه الصلاة والسلام - لما سُئِلَ عن الاغْتِسَالِ من الجنابَةِ - قال : « أمَّا أنَا فأحْثِي على رَأسِي ثلاثَ حَثَيَاتٍ فأنَا قد طَهُرْت » ولم يَذْكُر الدَّلْك .
قال مالكٌ : هُوَ وَاجِبٌ .
فصل
والمَضْمَضَةُ والاسْتِنْشَاقُ واجبانِ في الغُسْلِ عِنْد أبِي حَنِيفَة وأحْمد ، وقال الشَّافِعِيُّ : لا يَجِبَانِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : « أمَّا أنَا فأحْثِي على رَأسِي ثلاثَ حَثَيَاتٍ » ولمْ يَذْكُرْهُمَا ، واحتَجَّ الأوَّلُون بقوله : « فاطَّهَّرُوا » فأمر بِتَطهِير جَمِيع الأجْزَاءِ وترك العَمَل به في الأجْزَاء البَاطِنَة لتعذُّرِ تَطْهِيرها ، وداخِلِ الأنْفِ والفَمِ يُمْكِنُ تَطْهِيرُها فدخَلا تَحْتَ النَّصِّ ، وبِقَوْلِهِ - عليه الصلاة والسلام - : « بلُّوا الشَّعْرَ وانْتِفُوا البَشَرة ، فإنَّ تَحْتَ كلِّ شَعْرةٍ جَنَابَة » ، فيدخل الأنْفُ؛ لأنَّ في داخِلِهِ شَعْرٌ ، وقوله : « وانتفِوا البَشَرة » يَدْخُلُ فيه جِلْدَة داخل الفَمِ؛ لأنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الظَّاهِرِ بحيث لَوْ وُضِعَ في فَمهِ لم يفطر ، ولوْ وضع فيه خَمْراً لم يُحَدَّ .
والأكثَرُون على عَدَمِ وُجُوبِ التَّرْتيبِ في الغُسْلِ ، وقال إسحاق : يَجِبُ البَدَاءَةُ على البَدَنِ .
قوله تعالى : { وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } .
قال مَكِّي : من جعل الصَّعيد : الأرْضَ ، أو وَجهَ الأرْضِ نصب « صعيداً » على الظَّرْف ، ومنْ جَعَل الصَّعيد : التُّرَاب نَصَبَ على أنَّهُ مَفْعُولٌ به ، حذف مِنْهُ حرف الجَرِّ : بِصَعِيدٍ ، و « طَيِّباً » نَعْتُهُ ، أي : نَظِيف .
وقيل : طيِّباً مَعْنَاهُ : حَلالاً ، فَيَكُون نَصْبُهُ على المَصْدَرِ ، أو على الحَالِ .
فصل
وهذا يَدُلُّ على جَوَازِ التَّيَمُّم للمَرِيضِ ، ولا يُقَال : إنَّه شَرَط فيه عَدَمَ المَاءِ؛ لأنَّ عدم المَاءِ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ بِغَيْرِ مَرَضٍ ، وإنَّما يَرْجِع قوله : { فَلَمْ [ تَجِدُواْ ] مَآءً فَتَيَمَّمُواْ } إلى المُسَافِر .
والمَرضُ ثلاثةُ أقْسَامٍ :
أحدها : أن يَخَافَ الضَّرَر والتَّلَفَ باسْتِعْمَال الماءِ ، فهذا يجُوزُ له التَّيَمُّم بالاتِّفَاقِ .
والثاني : ألاَّ يخافَ الضَّرَرَ [ ولا ] التَّلَفَ ، فقال الشَّافِعِيُّ : لا يجُوزُ له التَّيَمُّمُ ، وقال مالِكٌ وأبُو حَنِيفَة : يجُوزُ لِقَوْلِهِ : { وَإِن كُنتُم مرضى } .
الثَّالِثُ : أنْ يَخَافَ الزِّيَادَةَ في العِلَّةِ ، وبُطْءَ البرءِ ، فيجوزُ لَهُ التَّيَمُمُ عند أحْمد ، وفي أصَحِّ القَوْلَيْن للشَّافِعِيِّ ، وبه قال مالكٌ وأبو حنيفة ، فإن خَافَ بقاء شين في العُضْوِ ، فقال بَعْضُهُم : لا يَتَيممُ ، وقال آخَرُون : يتَيممُ وهو الصَّحِيحُ .
فصل
يجوز التيمم في السَّفَرِ القَصِيرِ ، للآيَة ، وقال بَعْضُهُم : لا يجوزُ؛ إذا كان مَعَهُ مَاءٌ وحيوانٌ مُشْرِفٌ على الهَلاك جَازَ له التَّيَمُّمُ ، ووَجَب صَرْفُ المَاء إلى [ ذَلِكَ ] الحَيَوان .
فصل
فإن لَمْ يكنْ مَعَهُ ماءٌ ، وكان مع غيره ، ولا يُمْكِنه أن يشْتَرِيَهُ إلاَّ بالغَبْنِ الفَاحِشِ جَازَ لَهُ التَيمُّم ، لقوله : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] ، فإن وَهَبَ منه ذلك الماء ، فقيل : لا يَجِبُ قُبُولُه لِمَا فِيهِ مِن المنَّة ، فإن أُعِير [ منه ] الدَّلْو والرشاء ، فقال الأكْثَرُون : لا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ لِقِلَّةِ المِنَّة في هَذِه العَادَةِ .
فصل
إذا جَاءَ من الغَائِط وَجَب عَلَيْه الاستنْجَاءُ ، إمَّا بالحَجَارَةِ ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - « فليَسْتَنْجِ بِثَلاثَةِ أحْجَارٍ » .
وقال أبُو حَنِيفَة : لا يَجِبُ؛ لأنَّهُ تعالى أوْجَبَ عِندَ المَجِيءِ مِن الغَائِطِ الوُضُوءَ والتَّيَمُّمَ؛ ولم يُوجِبْ غُسْلَ مَوْضِعِ الحَدَثِ .
[ فصل انتقاض وضوء اللامس والملموس
ظاهِرُ قوله { أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء } يَدلُّ على انتقاضِ وضوء اللاَّمس ، وأمَّا انتقاض وضوء الملمُوس فَغَيْرُ مَأخُوذٍ من الآيَة ، وإنَّما أُخِذَ من الخَبَرِ أو مِن القياسِ الجَليِّ ] .
فصل
يَجُوزُ الوُضُوءُ بِمَاء البَحْرِ ، وقال عَبْدُ الله بن عَمْرو بن العاصِ : « لا يَجُوزُ بل يَتَيممُ » .
ولنَا : أنَّ التَيَمُّمَ شَرْطُهُ عدم المَاءِ ، ومن وَجَدَ مَاءَ البَحْرِ فإنَّهُ واجِدٌ لِلمَاءِ .
فصل
قال أكثرُ العُلَمَاء : لا بُدَّ في التَّيَمُّمِ من النِّيَّةِ؛ لأنَّ التَّيَمُّمَ عِبَارَةٌ عن القَصْدِ ، وقال زفر : لا تَجِبُ .
فصل في الخلاف في حد تيمم المرفقين
قال الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة : [ التيمُّمُ ] في اليَدَيْن إلى المِرْفَقَيْنِ ، وعن عَلِيٍّ وابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهم - إلى الرُّسْغَيْنِ ، وعن مَالِكٍ وغيرِهِ إلى الكُوعَيْن ، [ وعن ] الزُّهرِي إلى الآبَاطِ .
فصل في وجوب استيعاب العضو بالتراب
يجب اسْتِيعَابُ العُضْوين في التَّيَمُّمِ ، ونَقَل الحسنُ بنُ زِيادٍ عن أبِي حنيفة : إذا يَمَّمَ الأكْثَر جَازَ؛ لأن « البَاء » في قوله : « بِرُؤوسِكُمْ » يَقْتَضِي مَسْحَ البَعْضِ ، فكذا هَاهُنَا .
فصل في صفة التراب
إذا لَمْ يَكُن لِلتُّرابِ غُبَارٌ يَعْلَقُ بالْيَدِ لم يَجُزِ التَّيَممُ به وهو قَوْل الشَّافِعِيِّ وأبي يُوسُف ، وقال أبُو حَنيفَة ومالِكٌ : [ يجزئه ، وقال الشافعي : لا يجُوزُ التِّيَمُّمُ إلا بالتُّرَابِ الخَالِصِ ، وقال أبو حنيفَة ] : يَجُوزُ بالتُّرَاب وبالرَّمْلِ وبالخَزَفِ المَدْقُوقِ والجَصِّ والمدر والزَّرنِيخ .
لنا : ما روى ابْنُ عبَّاسٍ أنه قال : « الصَّعِيدُ هُو التُّرَابُ » .
فصل
لو وَقَفَ في مَهَبِّ الرِّيَاحِ ، فَسَفَتْ عليه التُّرابَ وأمَرَّ يَدَهُ [ عليه ] أوْ لَمْ يُمِرَّهَا ، فظَاهِرُ مَذْهَب الشَّافِعِيّ أنَّهُ لا يَكْفي . وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقين : إنَّهُ لا يَكْفِي؛ لأنَّهُ قَصَدَ اسْتِعْمال الصَّعيدِ في أعْضَائِهِ .
فصل
قال الشَّافِعِيُّ وأحمَد : لا يجُوز التَيَمُّمُ إلا بَعْدَ دُخُول الوَقْتِ ، لقوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } [ والقِيَامُ إلى الصلاة ] لا يكُونُ إلاَّ بَعْدَ دُخُولِ وقتها .
فصل
إذَا ضَرَب ثَوْباً فارْتَفَع مِنْهُ غُبَارٌ ، فقال أبُو حنيفة : يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ ، وقال أبُو يُوسف : لا يَجُوزُ .
فصل
لا يُجُوزُ التَّيَمُّمُ بتُرَابٍ نَجِسٍ ، لقوله تعالى : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } والنَّجِسُ لا يكُونُ طيِّباً .
وفُرُوع [ التَّيَمُّم ] كثيرة مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ الفِقْهِ .
قوله - سبحانه - « مِنْهُ » في مَحَلِّ نَصْبٍ مُتَعَلِّقاً ب « امْسَحُوا » ، و « مِنْ » فيها وجهان :
أظْهَرُهُمَا : أنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ .
والثاني : أنَّها لابْتِدَاء الغَايَةِ ، ولهذا لا يُشْتَرَطُ عند هؤلاءِ أنْ يتعلَّقَ [ باليَدِ ] غُبَارٌ .
وقوله تعالى : « لِيَجْعَلَ » : الكلام في هذه « اللاَّم » كالكلام عَلَيْهَا في قوله { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [ النساء : 26 ] ، إلا أنَّ مَنْ جَعَل مَفْعُولَ الإرَادَةِ مَحْذوفاً ، وعلَّق به « اللاَّم » من « لِيَجْعَلَ » زاد « من » في الإيجَابِ في قوله : « مِنْ حَرَجٍ » ، وسَاغَ ذَلِكَ؛ لأنَّهُ في حَيِّزِ النَّفْي ، وإنْ لَمْ يَكُنِ النَّفْي واقعاً على فِعل الحَرَجِ ، و « مِنْ حَرَجٍ » مَفْعُولٌ « لِيَجْعَلَ » .
و « الجَعْلُ » : يحتمل أنَّهُ بمعنى الإيجَادِ والخَلْقِ ، فَيَتَعَدَّى لواحد وهو « مِنْ حَرَجٍ » و « من » مزيدة فيه كما تقدَّم ، ويتعَلّق « عَلَيْكُم » حينئذٍ بالجَعْلِ ، ويجُوزُ أن يتعلَّق ب « حَرَجٍ » .
فإن قِيلَ : هُو مَصْدَرٌ ، والمَصْدَرُ لا يَتَقَدَّم معمولُه عليه ، قيل : ذلك في المَصَدرِ المُؤوَّلِ بحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وفعل ، لأنه بِمَعْنَى المَوْصُول ، وهذا لَيْسَ مُؤوَّلاً بِحَرْف مَصْدَرِيٍّ ، [ ويجُوز أن يكون الجَعْلُ بِمَعْنَى التَّصْيير ] ، فَيَكُون « عَلَيْكُم » هُوَ المَفْعُول الثَّانِي .
فصل في معنى الآية
المَعْنَى { مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم } : بما فَرَضَ من الوُضُوء والغُسْلِ والتَّيَمُّمِ ، « من حَرَجٍ » : من ضِيق ، « ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ » : من الأحْدَاثِ والجَنَابَات والذُّنُوبِ .
فصل
قالت المعتزِلَةُ : دلَّت هذه الآيَةُ على أنَّ الأصْلَ في المضارِّ ألاَّ تكون مَشْرُوعَةً ، فإنَّه تعالى ما جعل عَلَيْنَا في الدِّين مِنْ حَرَجٍ ، وقال تعالى : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } [ البقرة : 185 ] ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : « لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ في الإسلام » وأيْضاً فَدَفْع الضَّررِ مُسْتَحْسَنٌ في العُقُول ، فوجَبَ أن يَكُونَ كَذَلِكَ في الشَّرع .
قوله - سبحانه - : { ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } .
اخْتَلَفُوا في تَفْسِير هذا التَّطْهِير ، قال جُمْهُور الحَنفيَّةِ : إنَّ عند خُرُوجِ الحَدَثِ تنجس الأعْضَاءُ نَجاسَةً حُكْمِيَّةً ، والمَقْصُود من هذا التَّطْهِير إزَالَةُ [ تلك ] النجاسَةِ الحُكْمِيَّةِ ، وهذا بَعِيدٌ لِوُجُوه :
إحداها : قوله تعالى : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] ، وكَلِمَةُ « إنَّما » للِحَصْر ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ المُؤمن لا تَنْجُسُ أعْضَاؤُه .
وثانيها : قوله - عليه الصلاة والسلام - : « المُؤمِنُ لا تَنْجُسُ أعْضَاؤُه لا حَيَّا ولا مَيِّتاً » .
وثالثها : أجمَعَتِ الأمَّةُ على أنَّ بَدَن المُحْدِثِ لو كَانَ رَطْباً ، فأصَابَهُ ثَوْبٌ لَمْ يَنْجس الثَّوْب ، ولَوْ حَمَلَهُ إنْسَانٌ وصَلَّى به لم تفسد صلاتُه .
ورابعها : لو كان الحدثُ يُوجِبُ نجاسَةُ الأعْضَاءِ ، ثم كَانَ تَطْهِيرُ الأعْضَاءِ الأرْبَعَة يُوجِبُ طَهَارة كُل الأعْضَاء ، لوَجَبَ ألاَّ يَخْتَلِفَ ذَلِكَ باخْتِلاَف الشَّرَائِعِ ، والأمْرُ لَيْس كذلِكَ .
وخامسها : أنَّ خُروج النَّجَاسَةِ من مَوْضِع ، كيف يُوجِبُ تَنَجُّسَ مَوضِعٍ آخَر؟ .
وسادسها : أنَّ المَسْح على الخُفَّيْنِ قَائِمٌ مقَامَ غَسْلِ الرِّجْلَيْن ، ومَعْلُومٌ أنَّ هذا لا يُزِيلُ شَيْئاً ألْبَتَّةَ عن الرِّجْلَين .
وسابعها : أنَّ الذي يُرَاد زوالُهُ إنْ كانَ جِسْماً ، فالحسّ يَشْهَدُ ببُطْلاَن ذلك ، وإنْ كان عَرَضاً فَهُوَ مُحَالٌ ، لأنَّ انتِقَالَ الأعْرَاضِ مُحَالٌ .
القولُ الثاني : أنَّ المُرَادَ به التَّطْهِير من المَعَاصِي والذُّنُوب ، وهو المُرَادُ بقوله - عليه الصلاة والسلام - : « إذَا تَوَضَّأ العَبْدُ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ من وَجْهِهِ وكذا يَدَيْهِ ورَأسِهِ ورِجْلَيْه » .
وقوله تعالى : { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } .
قال مُحَمَّد بن كَعْبٍ : إتمَامُ النِّعْمةِ تَكْفِيرُ الخَطَايَا بالوُضُوءِ ، وهَذَا الكَلاَمُ مُتَعَلِّق بما ذَكَرَهُ أوَّل السّورةِ من إبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ من المَطَاعِم والمَنَاكِح ، ثُمَّ بَيَّن بَعْدَه كَيْفِيَّة فَرْضِ الوُضُوءِ ، كأنَّهُ قال : إنَّما ذَكَرْت ذلِكَ لتتمَّ النَّعْمَة المَذْكُورَةُ أوَّلاً ، وهِيَ نِعْمَةُ الدُّنْيَا ، وهذه النِّعْمَةُ المَذْكُورة الثَّانِيَةُ وهي نِعْمَة الدِّين .
وقيل : المُرادُ { لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } بالرخص بالتِّيَمُم ، والتَّخْفِيفِ في حالِ المَرَضِ والسَّفَر ، فاسْتَدَلُّوا بذلك على أنَّه تعالى يُخَفِّفْ عَنْكُمْ يَوْمَ القيامةِ ، بأنْ يَعْفُوَ عَنْ ذُنُوبِكُمْ . ويَتَجَاوَز عَن سَيِّئَاتِكُمْ .
قوله - جلا وعلا - : « عَلَيْكُم » فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ :
أظهرُهَا : أنَّهُ مُتَعلِّقٌ ب « يُتِمّ » .
والثاني : أنَّهُ مُتعلِّق ب « نِعْمَتِهِ » .
والثالث : أنَّهُ مُتَعلِّقٌ بمحذُوفٍ على أنَّهُ حالٌ من « نِعْمَتِهِ » .
ذكر هَذَيْن الوَجْهَيْنِ الأخِيرَيْن أبُو البَقَاءِ ، وهَذِه الآيَةُ بِخِلاف التي قَبْلَها [ في قوله ] : { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [ المائدة : 3 ] ، حَيْثُ امْتَنَعَ تَعَلُّقُ الجَارِّ بالنِّعْمَةِ؛ لتَقَدُّم مَعْمُول المصْدَر [ عليه ] كما تَقَدَّم بَيَانُهُ .
قال الزَّمَخشَرِيُّ : وقُرِئَ « فأطْهِرُوا » أي : أطْهِرُوا [ أبْدَانَكُمْ ] ، وكَذِلِكَ « لِيُطْهِرَكُمْ » ، يعني : أنَّهُ قُرِئَ « أطْهِرُوا » أمْرٌ من « أطْهِرْ » رُبَاعِيّاً ك « أكْرِمْ » ، ونسب النَّاسُ القِرَاءَةَ الثَّانِية ، أعني قوله : « لِيُطْهِرَكُم » لسَعِيدِ بن المُسَيِّب .
ثم قال تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، والكَلاَمُ في لَعَلَّ مَذْكُور في البقرة عند قوله { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 183 ] .
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
قوله - سبحانه - : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } الآية .
لما ذَكَر التَّكَالِيفُ أرْدَفَهُ بما يُوجِبُ عَلَيْهِمْ القبُول والانْقِيَاد ، وذلك مِن وَجْهَيْن :
الأوَّلُ : كَثْرَةُ نِعَم اللَّهِ عَلَيْهِم؛ لأنَّ كَثْرَة النِّعَمِ تُوجِبُ على المُنْعِمِ عَلَيْه الاشْتِغَالَ بِخِدْمَةِ المُنْعمِ ، والانْقِيَاد لأوَامِرِه ونَوَاهِيه .
وقال : « نِعْمَةَ اللَّه » ولمْ يَقُلْ « نِعَم اللَّهِ » ؛ لأنَّ هذا الجِنْسَ لا يَقْدِرُ عَلَيْه غير اللَّه؛ لأنَّ نِعْمَة الحَيَاةِ ، والصِّحَّة ، والعَقْل ، والهِدَايَةِ ، والصَّوْن من الآفَاتِ ، وإيصَال الخَيْرَاتِ في الدُّنْيَا والآخِرَة شيء لا يَعْلَمُهُ إلاَّ الله تعالى ، وإنَّما المُرادُ [ التَّأمُّل ] في هذا النَّوْع مِن حَيْثُ إنَّهُ مُمْتَازٌ عن نِعْمَةِ غَيْرِهِ .
والوجه الثاني في السببِ المُوجبِ للانْقِيَادِ للتَّكَالِيفِ : هُوَ المِيثَاقُ الذي واثَقَكُمْ بِهِ .
فإن قِيلَ : [ قوله ] { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } مشعِرٌ بسَبْقِ النِّسْيَان : وكَيْفَ يُمْكِن نِسْيَانُها [ مع أنها ] مُتَوَاتِرَةٌ متَوالِيَةٌ [ علينا ] في جَميعِ السَّاعَاتِ والأوْقَاتِ؟ فالجَوابُ : أنَّها لِكَثْرتها وتعاقُبها صارتْ كالأمْرِ المُعْتَاد ، فصارت غَلَبَةُ ظُهُورِهَا وكَثْرتها سَبباً لِوُقوعِهَا مَحَلَّ النِّسْيَان .
فصل في تفسير الميثاق
اختَلَفُوا في تَفْسِير هذا الميثاقِ ، فقال أكْثَرُ المُفَسِّرين : هو العَهْدُ الذي عَاهَدَ اللَّه عَلَيْه المُؤمنين حين بَايَعُوا رَسُول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرَّف وكرم - تَحْتَ الشَّجَرَةِ وغَيْرها على أن يكُونُوا على السَّمْعِ والطاعَةِ في [ المَحْبُوبُ والمكروه ] ؛ وأضَافَ الميثاقَ الصَّادِر عن الرَّسُول إلى نَفْسِهِ ، كقوله تعالى : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] ، وأكَّدَ ذَلِكَ بأنَّهم التزمُوا وقالُوا : « سَمِعْنَا وأطَعْنَا » ، ثم حذَّرَهم عن نَقْضِ تِلْك العُهُود فلا تَعْزِمُوا بقلوبكم على نَقْضِهَا ، فاللَّهُ يَعْلَم ذلك ، وكَفَى به مُجَازِياً .
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ : هو المِيثاقُ الذي أخذه اللَّه على بَنِي إسْرائِيل حين قالُوا : آمَنَّا بالتَّوْرَاة وبكُلِّ ما فيها ، وكان من جُمْلة ما في التَّوْرَاةِ البِشَارَةُ بمقدم مُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - .
وقال مُجَاهِدٌ والكَلْبِي ومقاتلٌ : هو المِيثَاقُ الذي أخَذَهُ منهم حِين أخْرَجَهم من ظَهْر آدَم ، وأشْهَدَهُمْ على أنْفسِهم { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ ، قَالُوا : ْ بلى } [ الأعراف : 172 ] .
وقال السّديّ : المُرَاد بالمِيثاقِ : الدَّلائل العَقْلِيَّة والشَّرْعِية التي نَصَبَها اللَّهُ على التَّوْحِيدِ والشَّرائعِ .
قوله تعالى : { إِذْ قُلْتُمْ [ سَمِعْنَا ] } ، في « إذْ » ثلاثةُ أوْجُه :
أظهرها : أنَّهُ مَنْصوب ب « وَاثَقَكُمْ » .
الثاني : أنَّهُ مَنْصَوبٌ على الحَالِ من الهَاءِ في « بِهِ » .
الثالث : أنَّهُ حال من [ « ميثاقِهِ » ] ، وعلى هذَيْن الوَجْهَيْن الأخيريْن يتعلَّقُ بمحذُوفٍ على القاعِدَة المُقَرَّرَةِ .
و « قُلْتُم » في محلّ خَفْضٍ بالظَّرْف ، و « سَمِعْنَا » في محلِّ نَصْبٍ بالقَوْلِ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
قوله تعالى : { يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بالقسط } الآية .
لما حثَّهُم على الانْقِيَاد للتَّكَالِيف ، وهي مع كثرتها مَحْصُورَةٌ في نَوْعين : التَّعْظِيم لأمر اللَّه ، والشَّفقة على خَلْقِ اللَّه .
قوله : { كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ } إشارةٌ على التَّعْظيم لأمر اللَّه ، ومعنى القيام للَّه : هو أن يَقُومَ للَّه بالحقِّ في كلِّ ما يَلْزَمه ، وقوله : « شُهَدَاء بالقسطِ » إشارةٌ إلى الشَّفقة على خَلْقِ اللَّه ، فيه قولان :
الأوَّل : قال عطاءُ : لا تُحاب من شهادتِكَ أهْل وُدِّك وقَرابتِك ، ولا تمنع شهادتك أعداءَك وأضْدَادَك .
الثاني : أمرهم بالصِّدْق في أفْعالهم وأقوالهم ، وتقدَّم نَظِيرُها في « النِّسَاء » ، إلاَّ أنَّ هناك قدَّم لَفْظَة « القِسْط » وهنا أخِّرَت ، وكأنَّ الغَرَضَ في ذلك - والله أعلم - أنَّ آية « النِّسَاء » جِيء بها في مَعْرِض الإقْرَارِ على نَفْسِهِ ووالِدَيْه وأقَارِبِه ، فَبُدِئ فيها بالقِسْطِ الذي هو العَدْلُ من غير مُحَابَاة نَفْسٍ ، ولا والِدٍ ، ولا قَرَابَةٍ ، والَّتِي هنا جِيءَ بها في [ مَعْرِض ] ترك العداوة ، فبُدِئ فيها [ بالأمْر ] بالقِيام لِلَّه ، لأنَّهُ أرْدَعُ لِلْمُؤمنين ، ثم ثُنِّي بالشَّهادة بالعَدْلِ ، فَجِيءَ في كُلِّ مَعْرضٍ بما يُنَاسِبُه .
وقوله : « وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ » تقدَّم مثله ، وكذلك « شَنَآنُ قَوْمٍ » .
قوله تعالى : { على أَلاَّ تَعْدِلُواْ } .
أي لا يحملَنَّكُم بُغْضُ قومٍ على أن لا تَعْدلُوا ، وأراد : لا تَعْدِلوا فيهم فَحُذِفَ لِلْعِلْم به ، وظُهُور حرف الجرِّ هنا يرجحُ تَقْدِيرهُ .
قيل : والمعنى : ولا يَحْمِلَنَّكُم [ بُغْضُ ] قوم على أن تجُورُوا عَلَيْهم ، وتتَجاوزُوا الحدَّ ، بل اعْدِلُوا فيهم ، وإن أسَاءُوا إلَيْكم ، وهذا خِطَابٌ عامٌّ ، وقيل : إنَّها مُخْتَصَّةٌ بالكُفَّار ، فإنَّها نزلت في قُرَيْشٍ لما صَدُّوا المُسْلِمين عن المَسْجِد الحَرَام .
قوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } .
نهاهم أوَّلاً عن أن يَحْمِلَهُم البَغْضَاءُ على ترك العدلِ ، ثم اسْتَأنَفَ فصرَّح لهم بالأمْر بالعدْل تأكِيداً ، ثم ذكر عِلَّة الأمْر بالعَدْل وهو قوله : { هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } ، والمَعْنَى : أقْرَبُ إلى الاتِّقَاء من مَعَاصِي اللَّه ، وقيل : أقْرَبُ إلى الاتِّقَاء من عَذَابِ اللَّه .
و « هُوَ » ضمير المَصْدرِ المَفْهُوم من الفِعْلِ أي : العدل ، وفيه تَنْبِيهٌ على أنَّ وجوب العَدْلِ إذا كان مع الكُفَّار الذين هُمْ أعداءُ اللَّه بهَذِه الصِّفَة من القُوَّة ، فَكَيْفَ بوجُوبِهِ مع المُؤمنين الذين هم أوْلِيَاؤُه وأحِبَّاؤُه ، ثم ذكر كلاماً كالوعد للمُطِعين والوعيد للمُذْنِبِين ، وهو قوله : { ا واتقوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ، يعني : [ أنَّه ] عالم بجميع المَعْلُومَات ، لا يَخْفَى عليه شَيْءٌ من أحْوَالِكُمْ .
ثم ذَكَرَ وعْدَ المُؤمنين فقال : « وَعْدَ اللَّه . . » الآية .
واعلم أن « وَعْد » يتعدَّى لاثْنَيْن :
أوَّلهما : الموْصُولُ .
والثاني : [ مَحْذُوف ] أي الجنَّة .
وقد صرَّح بهذا المَفْعُول في غير هذا المَوْضِع ، وعلى هذا فالجُمْلَةُ من قوله : « لَهُم مَغْفِرَةٌ » لا مَحَلَّ لها؛ لأنَّها مُفَسِّرة لذلك المَحْذُوف تَفْسِير السَّبَب للمُسَبّبِ ، فإن الجَنَّة مسببة عن المَغْفِرَة ، وحُصُول الأجْرِ العَظِيم ، والكلام قبلها تَامٌّ بِنَفْسه .
وذكرَ الزَّمَخْشَرِيُّ في الآيَة احْتِمالاتٌ [ أخَر ] .
أحدها : أنَّ الجملة من قوله « لَهُم مَّغْفِرَةٌ » [ بيان للوعد ] ، كأنَّه قال : قدم لهم وَعْداً ، فَقِيلَ : أيُّ شيء وَعَدَهُ؟ فقال : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } ، وعلى هذا فلا مَحَلَّ لها أيضاً ، وهذا أوْلَى من الأوَّل؛ لأنَّ تفسير المَلْفُوظِ به أوْلَى من ادِّعاء تَفْسِير شَيْءٍ مَحْذُوف .
الثاني : أنَّ الجملة مَنْصُوبةٌ بقول محذوف ، كأنَّه قيل : وعدهُم ، وقال لهم : « مَغْفِرَة » .
الثالث : إجراء الوَعْدِ مجرى القَوْل؛ لأنَّه ضَرْبٌ منه ، ويَجْعَل « وَعَدَ » واقعاً على الجُمْلَةِ الَّتِي هي قوله : « لَهُمْ مَغْفِرَةٌ » ، كما وقع « تَرَكْنَا » على قوله تعالى : { سَلاَمٌ على نُوحٍ } [ الصافات : 79 ] كأنه قيل : وعدهَمُ هذا القَوْل ، وإذا وَعَدَهُمْ من لا يَخْلِفُ المِيعاد فَقَدْ وعدهم مَضْمُونَهُ من المَغْفِرَة والأجْرِ العَظِيم ، أي : وعدهُم بهذَا المَجْمُوع ، وإجراء الوَعْدِ مَجْرى القَوْل مذهب كُوفِيٌّ .
ثم ذكر وَعِيدَ الكُفَّار فقال : { والذين كَفَرُواْ } الآية .
« الذين كفروا » مبتدأ ، و « أولَئِكَ » مُبْتَدأ ثانٍ ، و « أصْحَابُ » خبره ، والجُمْلَة خَبَرُ الأوَّل ، وهذه الجُمْلَة مُسْتَأنَفَةٌ ، آُتِي بها اسمية دلالة على الثُّبُوتِ والاسْتِقْرَارِ ، ولم يُؤتَ بِها في سِيَاقِ الوعيد ، كما أتى بالجُمْلَةِ قَبْلَها في سِيَاقِ الوَعْدِ حَسْماً لرَجَائهم ، وأجاز بَعْضُهُمْ أن تكون هذه الجُمْلَة داخِلَةً في حَيِّز الوَعْد على ما تقدم تقريره في الجُمْلَةِ قبلها .
قال : لأنَّ الوعيدَ اللاَّحِقَ بأعْدائِهم ممَّا يَشْفِي صُدورهُمْ ، ويُذْهِب ما كانوا يَجِدُونَهُ من أذَاهُمْ ، ولا شَكَّ أن الأذى اللاَّحقِ للعَدُوِّ ، مما يَسُرُّ ، ويفرح ما عند عَدُوِّهِ ، وفيه نظر ، فإن الاسْتِئنَاف وافٍ بهذا المَعْنَى ، فإن الإنْسَان إذا سَمِعَ خبراً يَسُوء عَدُوَّهُ سُرَّ بذلك ، وإن لم يُوعد به ، وقد يتقوى [ صاحب ] هذا القول المُتقدِّم بأن الزَّمَخْشَرِيَّ قد نحَا إلى هذا المَعْنَى في سورة { سُبْحَانَ } [ الإسراء : 9 ، 10 ] .
قال : فإن قُلْتَ ، علام عَطَف { وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الإسراء : 10 ] .
قلت : على { أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } [ الإسراء : 9 ] على أنه بُشرى للمؤمنين ببشارتيْن بثوابِهِم ، وبعقَابِ أعْدَائهم ، فجعل عِقاب أعدائِهِم داخِلاً في حَيِّز البشارَة فالبشارة هناك كالوَعْدِ هُنَا .
وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الخُلود في النَّار لَيْس إلا للكُفَّار؛ لأنَّ قوله : { أولئك أَصْحَابُ الجحيم } يفيدُ الحَصْر ، والمُصَاحَبَةُ تَقْتَضِي المُلازَمَةَ ، كما يقال : أصْحَاب الصَّحراء ، أي : المُلازِمُون لها .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
قوله سبحانه : { يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } الآية .
قتال قتادة : نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخل فأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا به وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلاة فأطلع الله تبارك وتعالى نبيه على ذلك ، وأنزل الله صلاة الخوف ، وقال الحسن : كان النبي صلى الله عليه وسلم محاصراً غطفان بنخل ، فقال رجل من المشركين : هل لكم في أن أقتل محمداً؟ قالوا : وكيف تقتله؟ قال : أفتك به ، قالوا : وددنا أنك قد فعلت ذلك ، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم والنبيُّ صلى الله عليه وسلم متقلد سيفه ، فقال : يا محمد أرني سيفك فأعطاه إيّاه فجعل الرجل يهزّ السيف وينظر مرة إلى السيف ومرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : من يمنعك مني يا محمد؟ قال : الله فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشام السيف ومضى ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقال مجاهد وعكرمة والكلبي وابن يسار عن رجاله : « بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي وهو أحد النقباء ليلة العقبة في ثلاثين راكباً من المهاجرين والأنصار إلى بني عامر بن صعصعة فخرجوا فلقوا عامر بن الطفيل على بئر معونة وهي من مياه بني عامر واقتتلوا فقتل المنذر بن عمرو وأصحابه إلا ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم أحدهم عمرو بن أمية الضمري فلم يرعهم إلا الطير يحوم في السماء يسقط من بين خراطيمها علق الدم فقال أحد النفر : قتل أصحابنا ثم تولى يشتد حتى لقي رجلاً فاختلفا ضربتين فلما خالطته الضربة رفع رأسه إلى السماء وفتح عينيه وقال الله أكبر الجنة وربِّ العالمين ، فرجع صاحباه فلقيا رجلين من بني سليم وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما موادعة ، فانتسبا لهما إلى بني عامر فقتلاهما وقدما قومهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون الدية فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم ، حتى دخلوا على كعب بن الأشرف وبني النضير يستعينهم في عقلهما ، وكانوا قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات ، قالوا : نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة اجلسْ حتى نعطمك ونعطيك الذي سألته ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فخلا بعضهم ببعض وقالوا : إنكم لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمر بن جحاش : أنا ، فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله تعالى يده وجاء جبريل وأخبره ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة ثم دعا علياً فقال : لا تبرح مكانك فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عني فقل : توجه إلى المدينة ، ففعل ذلك علي رضي الله عنه حتى تناهوا إليه ثم تبعوه »
، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال : { فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ واتقوا الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } [ المائدة : 11 ] .
قوله تعالى : « عَلَيْكُم » يجُوزُ أن يَتعَلَّقَ ب « نِعْمَة » ، وأن يتعلَّق بمَحْذُوفٍ على أنَّه حَالٌ مِنْها .
و « إذْ [ هَمَّ ] » ظرف ناصبه « النِّعْمة » أيضاً ، أي : اذْكُروا نِعمتَهُ عليْكم في وقت هَمِّهم [ عليكم ] .
ويجُوزُ أن يتعلَّق هذا الظَّرف بما يتعلَّق به « عَلَيْكُم » ، إذا جَعَلته حالاً من « نِعْمَة » ، ولا يجُوز أن يكُون مَنْصُوباً ب « اذْكُرُوا » لتَّنافي زَمَنيهما ، فإن « إذْ » للمُضيّ ، و « اذْكُرُوا » مُستقبل ، و « أن يَبْسُطُوا » على إسْقَاطِ البَاءِ أي هَمُّوا بأنْ يَبْسطوا ، ففي موضع « أنْ » الخلاف المشهور .
ومعنى بسط اليَد مدَّها إلى المَبْطُوش به كقولِهِم : فلان بَسِيطُ البَاعِ ، ومديدُ البَاعِ بمعنًى واحد ، يُقال : بَسَط إليه لِسَانه إذا شَتَمَهُ ، وبَسَطَ إليه يَدَهُ إذا بَطَشَ به ، { فكف أيديهم عنكم } أي : مَنعَها أن تَصِل إليْكم .
ثم قال : { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } أي : كُونُوا مواظبين على طاعة الله ، ولا تخافوا أحداً في إقامة طاعَةِ اللَّه .
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
قوله جلا وعلا : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ } الآية في اتِّصال هذه الآية بما قَبْلَها وجُوه :
أحدُهَا : أنه لما ذكر في الآية الأولى ، وهو قوله : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ المائدة : 7 ] ، ذكر بَعْدَهُ أخذ الميثاق من بَنِي إسرائيل لكنَّهُم نَقَضُوه ، وتَركُوا الوَفَاء به ، أي فلا تكُونُوا مثل أولَئِك من اليَهُود في هذا الخُلُق الذَّمِيم ، فَتَصِيروا مِثْلَهُم فيما نزل بهم .
وثانيها : لما قال تعالى : { اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ } [ المائدة : 11 ] ، وقد تقدَّم في بعض رواياتِ أسْبَاب النُّزُول أنَّها نزلت في اليَهُود ، وأنَّهم أرادوا إيقاع الشَّرِّ برسُول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فلما ذكر اللَّه تعالى [ ذلك ] أتْبَعَهُ بِذِكْرِ فَضَائِحِهمْ ، وبيان أنَّهُم [ أبداً ] كانوا مُواظبِين على نَقْضِ الموَاثيق .
ثالثها : أنَّ الغَرض من الآيات المُتقدِّمة ترغِيبُ المكلَّفِين في قُبُول التكاليف وترك العصيان ، فذكر تعالى أنَّه كلَّفَ من كان قَبْلَكُم كما كلَّفكم؛ لِتَعْلَموا أنَّ عادة الله في عِبَادِه أن يُكَلِّفَهُم ، فليس التَّكْليف مَخْصوصاً بكم أيُّهَا المُؤمِنُون ، بل هي عَادَةٌ جَارِيَةٌ له مع جَمِيع عِبَادِه .
قوله سبحانه : { وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً } .
[ « منهم » ] يجُوزُ أن يتعلَّق ب « بَعَثْنَا » ، ويجُوزُ أن يتعلَّق بِمَحْذُوف على أنَّهُ حال من « اثني عَشَرَ » ، لأنه في الأصْلِ صفةٌ لَهُ فلما [ قُدِّم نصب ] حالاً ، وقد تقدَّم الكلامُ في تركيبِ « اثني عَشَرَ » وبنائه ، وحَذْفِ نُونهِ في « البَقَرة » [ البقرة 60 ] .
[ « وميثاقٌ » يجُوز أن يكُونَ مُضافاً إلى المَفْعُول - وهو ظاهر - أي : إنَّ الله - تعالى - واثَقَهُم ، وأن يكونَ مُضَافاً إلى فاعله ، أي : إنِّهم واثَقُوه تعالى .
والمُفَاعَلَة : يجوز نِسْبَة الفَعْل فيها إلى كلٍّ من المَذْكَورين ] .
« والنَّقِيب » فعيلٌ ، قيل : بمعْنَى فاعل مُشْتَقّاً من النَّقْب وهو التَّفْتِيش ، ومنه : { فَنَقَّبُواْ فِي البلاد } [ ق : 36 ] ، وسُمِّي بذلك؛ لأنَّهُ يُفَتِّشُ عن أحْوَال القَوْمِ وأسْرارِهِم .
قال الزَّجَّاج : أصْلُهُ النَّقبُ ، وهو الثُّقْبُ الواسِعُ ، ومنه المَناقِبُ ، وهي الفضَائِل؛ لأنَّها لا تظهر إلا بالتَّنْقِيب عنها ، ونَقَبْتُ الحَائِطَ أي : بلغت في النَّقب إلى آخره ، ومنه : النَّقْبَةُ من الجرب؛ لأنه داءٌ شديد الدُّخُول؛ لأن البَعِير يطلى بالهناء فهو حَدُّ طعم القطران في لَحْمِه ، والنَّقبَة في السَّراويل بغير رِجْلَيْن؛ لأنَّه قد يُولَع في فتحها ، ونقبها ويقال : كَلْبٌ نَقِيبٌ ، وهو كَلْبٌ ينقب حنجرته لِئلاَّ يرتفع صوت نُبَاحه ، يفعله البُخَلاءُ من العرب لِئلاَّ يظفر بهم ضيْفٌ .
وقيل : هو بمعنى مَفْعُول ، كأنَّ القَوْمَ اختاروه على عِلْمٍ منهم ، وتَفْتِيشٍ على أحْواله .
وقيل : هو للمبالغة كَعَليم وخبير .
وقال الأصَمّ : هو المَنْظُور إليه المُسْنَدُ إليه أمُور القوم وتَدْبير مَصَالِحهم .
فصل
قال المُفَسِّرون : إن بَنِي إسرائيل كانوا اثْنَيْ عشر سِبْطاً ، واختار الله من كل سِبْط رجلاً يكون نَقِيباً لهم وحَاكِماً فيهم .
وقال مجاهد : إن النقبَاء بعثوا إلى مدينة الجَبَّارين الذين أمر مُوسى بالقتال مَعَهُمْ ليقفُوا على أحْوَالِهِمْ ، ويرجعوا بذلك إلى نَبيّهم .
قال القُرْطُبِي : ذكر مُحمَّدُ بن حَبيبٍ في « المحبر » أسماء نُقَبَاءِ بني إسرائيل ، فقال : من سبط روبيل : شموع بن رَكُوب ، ومن سِبْط شَمْعون : شوقوط بن حوري ، ومن سِبْط يَهُوذا : كالب بن يوقنا ، ومن سِبْط السَّاحر : يُوغول بن يُوسُف ، ومن سِبْط أفرائيم ابن يوسف : يوشَع بن النون ، ومن سِبْط بِنيَامِين : يلظى بن روقو ، ومن سِبْطِ ربالون : كرابيل بن سودا ، ومن سِبْط منشا بن يوسف كدى بن سوشا ، ومن سِبْط دَان : عمائيل بن كسل ، ومن سِبْط كاذ كوال بن موخى ، ومن سِبْط نَفْتَال : يُوحنَّا بن قوشا ، ومن سِبْط شير ستور بن ميخائيل ، فلَّما ذهبُوا إليهم رأوا أجراماً عظيمة وقوَّة وشَوْكةً فَهَابُوهم ورجعوا ، وحدَّثُوا قومهم وقد نَهَاهُم موسى - عليه السلام - أن يحدِّثُوهم ، فنكثوا الميثاقِ إلا كَالب ابن يوقنا من سِبْطِ يَهُوذا ، ويوشَع بن نون من سبط أفرائيم بن يوسف ، وهما اللذان قال الله تعالى فيهما : { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ } [ المائدة : 23 ] .
فصل
قال القُرْطُبِي : دلَّت هذه الآيةُ على قُبُول خبَرِ الواحِدِ فيما يَفْتَقِرُ إليه المَرْءُ ، ويحتاج إلى اطِّلاعه من حاجاته الدينِيَّة والدُّنْيَويَّة ، فترتب عليه الأحْكَام ، ويربط به الحلال والحرام ، وفيها - أيضاً - دليلٌ على اتِّخاذ الجَاسُوس ، وقد بَعَثَ رسُول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بَسْبَسَة عيناً ، أخرجه مسلم . وسيأتي حُكْمُ معاني الجَاسُوس في المُمْتَحنة إن شاء الله تعالى .
قوله سبحانه : { وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة } في الكلام حذف ، والتقدير : وقال الله لهم إنِّي مَعَكُم؛ إلاَّ أنَّه [ حذف ] ذلك لاتِّصال [ الكلام ] بِذكْرِهِم وقوله : « إنِّي مَعَكُمْ » قيل : هذا خِطَابٌ للنُّقَبَاء ، وقيل : [ خطاب ] لكلِّ بَنِي إسْرائيل ، والأوَّل أوْلَى؛ لأنَّه أقْرَبُ إلى الضمير .
قوله تعالى : { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة } هذه هي اللاَّم الموطِّئة للقَسَم ، والقسم معها مَحْذُوف ، وقد تقدَّم أنَّه إذا اجْتَمَع قَسمٌ وشرط أجيب سابقُهمَا ، إلا أن يتقدَّم ذُو خبر ، فيُجَابُ الشَّرْط مُطْلقاً .
واعلم أنَّ الكلام قد تَمَّ عند قوله : { وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ } أي : بالعلم والقُدْرة ، فأسمع كلاَمَكم ، وأرى أفْعَالَكم ، وأعْلَمُ ضَمَائِرَكم ، وهذه مقدِّمة مُعْتَبرة في التَّرْغيب والتَّرهيب ، ثم ابْتَدأ بعدها جُمْلَة شَرْطية ، والشَّرْط مركَّبٌ من خمسة أمور ، وهي قوله : { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمْ الزكاة وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً } .
قوله عز وعلا : « لأكَفِّرَنَّ » هذه « اللاَّم » هي جوابُ القسم لسبقه ، وجواب الشَّرْط محذوفٌ لدلالةِ جواب [ القسم ] عليه ، وهذا معنى قول الزَّمَخْشَرِيِّ : أن [ معنى ] قوله : « لأكَفِّرَنَّ » سادٌّ مَسَدّ جوابَي القَسَم والشَّرط ، لا كَما فَهِمَهُ بَعْضُهم وردّ عليه ذلك .
ويجُوزُ أن يكون « لأكَفِّرَنَّ » جواباً لقوله تعالى قبل ذلك : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ } لما تضمَّنه الميثاق [ من ] معنى القَسَمِ ، وعلى هذا فتكُون الجُمْلتان ، أعني قوله : « وَبعثْنَا » « وقال اللَّهُ » فيهما وجهان :
أحدهما : أنَّها في محلِّ نَصْب على الحال .
الثاني : أن تكونا جملتي اعتراضٍ ، والظَّاهر أنَّ قوله : « لَئِن أقَمْتُم » جوابه « لأكَفِّرَنَّ » كما تقدَّم ، وجملة هذا القسم المَشْروط وجوابه مُفسرة لذلِكَ المِيثَاق المتقدم .
والتَّعْزِيرُ التَّعْظيم .
قال : [ الوافر ]
1944- وَكَمْ مِنْ ماجِدٍ لَهُمُ كَرِيمٍ ... وَمِنْ لَيْثٍ يُعزَّرُ في النَّدِيِّ
وقيل : هو الثَّناء بخير قاله يونس ، وهو قريب من الأوَّل .
وقال الفرَّاء : هو الردَّ عن الظُّلْم .
وقال الزَّجَّاج : هو الرَّدْعُ والمَنْعُ ، فعلى القَوْلَين الأوَّليْن يكون المعنى : وعظَّمْتُموهم [ وأثنيت ] عليهم خيراً ، وعلى الثَّالث والرابع يكون المعنى : وَرَدَدْتُمْ وَرَدعْتُمْ عنهم سُفَاءَهُم .
قال الزَّجَّاج : عَزَّرْت فُلاناً فعلتُ به ما يردعه عن القَبِيح [ مثل نكلت ] ، فعلى هذا يكون « عزَّرْتُمُوهُمْ » رددتم عنهم أعْدَاءَهُم .
وقرأ الحَسَنُ البَصْرِي « بِرُسْلِي » بسُكُونِ السِّين حيث وَقَع .
وقرأ الجَحْدَرِيُّ : « وَعَزَرْتُمُوهم » خفيفَةَ الزَّاي ، وهي لغة .
وقرأ في [ الفتح : 9 ] [ « وَتَعْزُرُوه » ] بفتح عين المضارعةِ ، وسكون العين ، وضم الزَّاي ، وهي موافقة لقراءته هنا ، وتقدَّم الكلام في نَصْب « قَرْضاً » في [ البقرة : 245 ] .
فإن قيل : لم أخَّر الإيمان بالرُّسُل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزَّكاة ، مع أنه مُقدَّم عليهما؟ .
فالجواب : أنَّ اليهود كانوا مُقرِّين بأنَّه لا بد في حُصُول النَّجاة من إقَامَةِ الصلاةِ ، وإيتاء الزَّكاة ، إلاَّ أنَّهم كانوا مُصرِّين على تكذيب بعض الرُّسلِ ، فذكر بعد إقامة الصَّلاة وإيتاء الزَّكاة أنَّه لا بد من الإيمان بجميع الرُّسل حتى يحصُلَ المَقْصُود ، وإلاَّ لم يكن لإقامة الصلاة وإيتاء الزَّكاة تأثير في حُصول النَّجاة بدون الإيمان بجميع الرُّسُل .
فإن قيل : قوله : { وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً } دخل تحت إيتاء الزَّكاة ، فما فائدة الإعَادة؟ .
فالجواب : أنَّ المراد بالزَّكاة الواجبة ، وبالقرض الصَّدقة المندوبة ، وخصَّها بالذِّكر تنبيهاً على شَرَفها .
قال الفرَّاء : ولو قال : وأقرضتم الله إقراضاً حسناً ، لكان صَوَاباً ، إلا أنَّه قد يقام الاسْمُ مقام المَصْدَر ، ومثله { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } [ آل عمران : 37 ] ، ولم يقل : يتَقَبَّل ، وقوله : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } [ آل عمران : 37 ] ولم يقل إنباتاً .
قوله سبحانه : { فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } .
أي : أخطأ الطَّرِيق المسْتَقِيم الذي هو الدِّين المَشْرُوع لهم ، وقد تقدَّم الكلامُ على سَوَاءِ السَّبِيل .
فإن قيل : من كفر قبل ذلك أيضاً فقد ضَلَّ سواء السَّبيل؟ فالجوابُ : نعم ، ولكن الضَّلال بعده أظْهر وأعْظَم؛ لأنَّ الكُفْرَ إنما عَظُم قُبْحُه لعظم النِّعْمَة المَكْفُورة ، فإذا زادت النِّعْمة زاد قُبْحُ الكُفْرِ .
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
قوله تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } الآية .
قد تقدَّم الكلامُ على نَظِيره .
قال القُرْطُبِي : والمعنى : فبنقضهم ميثاقهم ، و « مَا » زائدة للتَّوْكيد .
قال قتادةُ وغيرُه : وذلك أنَّها تؤكِّد الكلام بمعنى تمكنه في النَّفْس من جهة حسن النَّظْم ، ومن جهة تَكْثِيرِه [ للتَّوْكِيد ] ، كقوله [ الوافر ]
1945- . ... لِشَيْءٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ
وقيل : نَقْضُ الميثاق تكْذيبُ الرُّسل ، وقيل : الأنْبِيَاء عليهم الصلاة والسلام ، وقيل : كِتْمَانهم صفة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : المَجْمُوع .
وقال عطاء : « لَعَنَّاهم » أبعدناهم من رحمتنا ، وقال الحسن ومُقاتل : مسَخْنَاهم قِرَدة وخنازير . وقال ابن عبَّاس : ضربنا الجِزْية عَلَيْهِم .
قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } .
قرأ الجمهور « قَاسِيَة » اسم فاعل من قَسَا يَقْسُو .
وقرأ الأخوان وهي قراءة عَبْد الله « قَسِيَّة » بفتح القاف وكَسْرِ السِّين وتشديد اليَاء ، واختلف الناس في هذه القراءة .
فقال الفَارِسي : لَيْسَت من ألْفَاظِ العرب [ في الأصل ] ، وإنَّما هي كَلِمَةٌ أعْجَمِيَّةٌ معرَّبة ، يعني أنها مأخوذَةٌ من قولهم : درهم قَسِيّ ، أي : مَغْشُوش ، شبَّه قلوبهم في كونها غير صَافِية من الكَدَرِ بالدَّراهم المَغْشوشة غير الخَالِصَة ، وأنْشَدُوا قول أبي زُبَيْد : [ البسيط ]
1946- لها صَوَاهِلُ فِي صُمِّ السِّلامِ كَمَا ... صَاحَ القَسِيَّاتُ في أيْدِي الصَّيَارِيفِ
وقول الآخر : [ الطويل ]
1947- وَمَا زَوَّدُونِي غَيْرَ سَحْقِ عمَامَةٍ ... وَخَمْسِ مِىءٍ مِنْهَا قَسِيٌّ وَزَائِفُ
وقال الزَّمَخْشَرِي ، وقرأ عبد الله « قسيَّة » ، أي : رديئة مغشوشة من قولهم : « درهم قَسيّ » ، وهو من القَسْوة؛ لأن الذَّهَبَ والفضَّةَ الخالِصَيْن فيهما لين ، والمغشوش فيه صلابةٌ ويُبْسٌ والقَاسِي والقاسِح بالحاء المهملة أخوان في الدَّلالة على اليُبْس .
وهذا القول سبقه إليه « المُبَرِّد » ، فإنه قال : « يسمى الدِّرْهم المَغْشُوش قَسِيًّا لصلابته وشدَّتهِ للغِشِّ الذي فيه » ، وهو يرجعُ للمعنى الأوَّل ، والقاسِي والقَاسِح بمعنى واحد .
وعلى هذين القَولَيْن تكون اللَّفظة عَرَبيَّةً .
وقيل : بل هذه القِرَاءَةُ توافق قِراءَة الجَمَاعَة في المعنى والاشْتِقَاق؛ لأنَّه « فَعِيل » للمُبَالغة ك « شاهد » ، و « شهيد » ، فكذلك قاسٍ وقَسِيّ ، وإنما أنِّث على معنى الجماعةِ في المعنى والاشْتِقَاق .
وقرأ الهَيْصَم بن شداخ : « قُسِيَّة » بضم القَافِ وتشديد اليَاء .
وقرئ « قِسِيَّة » بكسر القاف إتْبَاعاً ، وأصْلُ القراءَتَيْن : « قاسِوَة » ، و « قَسِيوة » لأن الاشْتِقَاق من القَسْوة .
فصل
والمعنى أنَّ قلوبهم ليست بخالصة الإيمان ، بل إيمانُهُم مشوبٌ بالكُفْرِ والنِّفَاق ، وقيل : نائيةٌ عن قُبُول الحقِّ ، مُنْصَرِفة عن الانقيادِ للدَّلائل .
وقالت المُعْتَزِلَة : أخْبِرْنا عنها بأنَّها صارت قَاسِيَة ، كما يُقَال : فلانٌ جعل فُلاناً قاسِياً وعدْلاً . ثم إنَّه تعالى ذكر بَعْضَ نتائج تلك القَسْوَة ، فقال : { يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ } وهذا التَّحْرِيفُ هو تَبْدِيلُهم نعت النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم - ، وقيل : التَّأويل البَاطل .
والجملة من قوله : « يُحَرِّفُونَ » فيها أرْبَعَةُ أوْجُه :
أحدها : أنَّها مستأنَفَةٌ بيان لِقَسْوة قُلُوبهم؛ لأنَّه لا قَسْوَةَ أعظم من الافتراء على اللَّه تعالى .
والثاني : أنَّها حَالٌ من مَفْعُول « لَعَنَّاهُمْ » أي : لَعَنَّاهم حال اتِّصافهم بالتَّحْريف .
والثالث : قال أبو البقاء : أنَّها حال من الضَّمِير المسْتَتِر في « قَاسِيَة » .
وقال : ولا يجُوزُ أن يكون حَالاً من « القُلُوب » ؛ لأنَّ الضَّمير في « يُحَرِّفُون » لا يرجع إلى « القُلُوب » ، وفي هذا نَظَرٌ من حيث جواز أن يكون حَالاً من الضَّمِير في « قَاسِيَة » ، يَلزَمُهُ أن يُجوِّزَ أن يكون حَالاً من « القُلُوبِ » ، لأنَّ الضَّمير المستتر في « قَاسِيَة » يعود على « القُلُوبِ » ، فكما يمتَنِعُ أن يكون حالاً من ظاهره [ يمتنع أن يكون حالاً من ضميره ] ، وكأنَّ المانع الذي توهمه كون الضَّمير وهو الواو في « يُحَرِّفُون » إنَّما يعُود على اليَهُودِ بِجُمْلَتِهِم لا على قُلُوبهم خاصَّةً ، فإن القُلُوب لا تحرَّف ، إنما يُحرَّف أصْحَابُ القُلوب ، وهذا لازِمٌ له في تجويزه الحالِيَّة من الضَّمِير في « قَاسِيَة » .
ولقائِل أن يَقُول : المراد ب « القُلُوب » نفس الأشْخَاص ، وإنما عبَّر عنهم بالقُلُوب؛ لأن هذه الأعضاء هي محلُّ التَّحْريف ، أي : إنَّه صَادِرٌ عَنْها بتَفَكُّرِها فيه ، فيجُوزُعلى هذا أن يكُون حَالاً من « القُلُوب » .
والرابع : أن يكون حالاً من « هم » في « قُلُوبِهم » .
قال أبو البَقَاء : وهو ضعيف يعني : لأنَّ الحال من المُضَاف إليه لا تَجُوزُ ، وغيره يجوِّزُ ذلك في مثل هذا الموضع؛ لأن المُضافَ بَعْضُ المُضَافِ إليه .
وقرأ الجمهور بفتح الكاف وكَسْرِ اللاَّم ، وهو جمع « كَلِمَة » .
وقرأ أبو رجاء « الكِلْم » بكَسْرِ الكَافِ وسُكُون اللاَّم ، وهو تَخْفيفُ قِرَاءة الجَمَاعَة ، وأصْلُها أنَّه كَسَرَ الكاف إتْبَاعاً ، ثم سكن العَيْنَ تَخْفِيفاً .
وقرأ السُّلمي والنَّخْعي : « الكَلاَم » بالألف ، و « عَنْ مَوَاضِعهِ » وتقدَّم مثله في « النِّسَاء » [ النساء : 46 ] .
قوله تعالى : { وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } .
قال ابن عباسٍ : تركوا نَصِيباً ممَّا أمِرُوا بِهِ من الإيمَان بِمُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - .
قوله - سبحانه - : { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ } .
في « خَائِنَةٍ » [ ثَلاثةُ أوْجُه ] :
أحدها : أنَّها اسم فاعل ، والهاء لِلْمُبَالغة ك « راوية وعلاَّمة [ ونسَّابة ] » ، أي : على شخص خائن .
قال الشَّاعر : [ الكامل ]
1948- حَدَّثْتَ نَفْسَكَ بِالْوَفَاءِ وَلَمْ تَكُنْ ... لِلْغَدْرِ خَائِنَةً مُغِلَّ الإصْبَعِ
الثاني : أن التَّاء للتَّأنيث ، وأنِّث على معنى : طائفة أو فرقة أو نفس أو فَعْلة خائنة .
قال ابن عبَّاسٍ : « على خَائِنَةٍ » ، أي : على مَعْصِية ، وكانت خِيَانَتُهُم نقض العَهْدِ ، ومظاهرتُهمْ المُشْرِكين على حَرْبِ رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وهَمّهم بِقَتْلِهِ وسمه ونحوها من الخِيَانَاتِ الَّتي ظَهَرَتْ منهم .
الثالث : أنها بمعنى المَصْدَرِ ك « العافِيَة والعَاقِبَة والكاذِبَة واللاغية والواقِيَة » ، قال تعالى : { فَأُهْلِكُواْ بالطاغية } [ الحاقة : 5 ] أي : بالطُّغيان ، وقال : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } [ الواقعة : 2 ] أي كذب ، وقال : { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } [ الغاشية : 11 ] أي : لغواً .
وتقول العرب : سمعت رَاغِيَة الإبل ، وثاغية الشاء ، يعنون رُغَاءَها وثُغَاءَها .
قال الزَّجَّاج : [ ويقال ] عافاه اللَّهُ عافِيَةً ، ويؤيِّد هذا الوجْهُ قراءة الأعمش « على خِيَانَة » وأصل « خَائِنة » خاوِنَة وخِيَانة وخوانة [ لقولهم : تَخوَّنَ ، وخَوَّان ] وهو [ أخْوَن ، وإنما أُعِلاَّ إعلال « قائمة » ، و « قيام » ] .
و « مِنْهُم » صفة ل « خَائِنة » إن أُرِيد بها الصِّفَة ، وإن أُرِيد بها المَصْدر قُدِّر مضَاف ، أي : من بَعْض خيَانَاتِهِم .
قوله تعالى : « إلاَّ قَلِيلاً » منصُوب على الاسْتِثْنَاء ، وفي المُسْتَثْنَى منه أربَعَةُ أقْوال :
أظهرُهَا ، أنَّه لفظ « خَائِنة » ، وهُمَ الأشخاص المَذْكورُون في الجُمْلَةِ قَبْلَه ، أي : لا تَزالُ تطَّلِع على مَنْ يَخُون منهم إلاَّ القليل ، فإنَّه لا يَخُون فلا تَطلعْ عليه ، وهم الذين أسْلَمُوا من أهْلِ الكِتَاب كعَبْدِ الله بن سلام وأصْحَابه .
قال أبُو البَقَاء : « ولو قُرئ بالجَرِّ على البَدَلِ لكان مُسْتَقِيماً » ، يعني على البَدَل من « خَائِنَة » ، فإنَّهُ في حيز كلامٍ غير مُوجب .
والثاني ذكره ابْنُ عطيَّة : أنَّهُ الفعل أي : لا تَزَالُ تَطَّلِعُ على فِعْلِ الخيانة إلا فَعْلاً قَلِيلاً ، وهذا واضِحٌ إن أُريد بالخِيَانَة أنَّها صِفَةٌ لِلْفَعْلَةِ المقدَّرَة كما تقدَّم ، ولكن يبْعد ما قاله ابنُ عطيَّة قوله بعده : « مِنْهُم » ، وقد تقدَّم لَنَا نَظِيرُ ذلك في قوله : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] من حَيْث جَوَّز الزَّمَخْشَرِيّ فيه أنْ يكون صِفَةً لمَصْدرٍ مَحْذُوفٍ .
الثالث : أنَّه « قُلُوبهُم » في قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } ، قال صاحب هذا القول : والمُرادُ بِهِمْ : « المُؤمِنُون؛ لأنَّ القَسْوَة زالت عن قُلُوبِهِم » ، وهذا بَعِيدٌ جدًّا؛ لقوله : « لَعَنَّاهُمْ » .
الرابع : أنَّهُ الضَّمِير في « مِنْهُم » من قوله : { على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ } قال مَكيّ .
قوله [ تعالى ] : { فاعف عَنْهُمْ واصفح } .
قيل : « العَفْوُ » نُسِخَ بآية السَّيْف ، وقيل : لَمْ يُنْسَخُ ، وعلى هذا فيه وجهان :
أحدهما : معناه : فاعْفُ عن مُؤمنيهم ، ولا تُؤاخِذْهُم بما سلَفَ منهم .
الثاني : أنَّا إن حملنا القَلِيل على الكُفَّار [ منهم الذين بَقُوا على الكُفْر ] ، فالمعنى : أنَّ الله تعالى أمر رسوله بالعَفْوِ عنهم في صَغَائِر زَلاَّتِهِم ما داموا بَاقِين على العهد ، وهو قَوْل أبِي مُسْلِم .
ثم قال تعالى : { إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } .
قال ابنُ عبَّاسٍ : إذا عَفَوْت فأنْتَ مُحْسِنٌ ، وإذا كنْتَ مُحْسناً فقد أحبَّك اللَّه .
وقيل : المراد بهؤلاء المُحْسنين : هم المَعْنيّون بقوله تعالى : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } وهمْ الذين ما نَقَضُوا الْعَهْد .
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
قوله سبحانه : { وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى } الآية .
في قوله : { وَمِنَ الذين قَالُواْ } خمسَة أوْجه :
أظهرها : [ أنَّ « مِنَ » ] مُتعلِّق بقوله : « أخَذْنَا » ، والتَّقدير الصَّحيح فيه أنْ يُقال : تقديره : وأخْذَنا مِن الذين قالُوا : إنَّا نَصَارى ميثاقَهُمْ ، فَتُوقعُ « الَّذِين » بعد « أخَذْنَا » وتُؤخر عنهم « ميثاقَهُمْ » ، ولا يجُوز أن تُقدِّر : « وأخَذْنَا مِيثاقَهُمْ » مِن « الَّذين » فيتقدَّم « ميثاقُهم » على « الذيِن قَالُوا » .
وإن كان ذَلِكَ جَائِزاً من حيث كَوْنِهمَا مَفْعُولَيْنِ ، كلٌّ منهما جَائِز التَّقْديم والتَّأخير؛ لأنَّه يلزم عَوْدُ الضَّمير على مُتَأخِّر لَفْظاً ورتْبة وهو لا يجُوز إلا في مَوَاضِع مَحْصُورة ، نصَّ على ذَلِك جماعة منهم مَكِّي وأبُو البَقَاء .
والثاني : أنَّهُ متعلِّق بمَحْذُوف على أنَّهُ خبر لمُبْتَدأ مَحْذُوف ، قامت صِفَتُهُ مقامَهُ ، والتَّقْدِير : { وَمِنَ الَّذِين قالوا إِنَّا نَصَارى قَوْمٌ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ } ، فالضَّمير في « مِيثَاقَهُم » يعودُ على ذلك المَحْذُوف .
والثالث : خَبرٌ مقدَّم - أيضاً - ولكن قَدَّرُوا المُبْتدأ مَوْصُولاً حُذِف ، وبقيت [ صِلَتُه ] والتقدير : ومِن الَّذِين قالوا : إنَّا نَصَارَى مَنْ أخذْنَا ميثَاقَهُم فالضمير في « مِيَثاقَهُم » عائد على « مِنْ » ، والكوفِيُّون يُجِيزُونَ حذفَ الموصول ، وقد تقدم لنا معهم البَحْثُ في ذلك ، ونقل مَكِّي مذهب الكُوفيِّين هذا ، [ وقدَّره عندهم : « ومن الذين قالوا إنَّا نصارى من أخذنا » ] ، وهذا التَّقدير لا يُؤخَذُ مِنْه أنَّ المحذوف مَوْصُولٌ فقط ، بل يَجُوز أن تكون « مِنْ » المُقَدَّرة نكرةٌ موصُوفَةٌ حذفت وَبقِيَت صِفَتُها ، فيكون كالمَذْهَبِ الأوَّل .
الرابع : أن تتعلَّق « من » ب « أخذنا » كالوجه الأوَّل ، إلا أنَّه لا يلْزَمُ فيه ذلك التَّقْدير ، وهو أن توقع « من الَّذين » بعد « أخذنا » وقبل : « مِيثَاقَهُم » ، بل يجُوزُ أن يكون التَّقْدير على العَكْسِ ، بمعنى : أنَّ الضَّمير في « مِيثاقَهُم » يعود على بَني إسْرائيل ، ويكون المَصْدَرُ من قوله : « مِيثَاقَهُم » مصدراً تشبيهيًّا ، والتَّقْدير : أخذنا من النَّصَارى مِيثَاقاً مثل مِيثاق بَنِي إسْرَائيل ، كقَوْلك : أخَذْتُ من زيد ميثاقَ عَمْرو ، أي [ ميثاقاً مثل ميثاق عمرو ] ، وبهذا الوَجْه بدأ الزَّمَخْشَري ، فإنَّه قال : أخَذْنَا من النَّصَارى مِيثَاق من ذكر قَبْلَهم من قَوْم مُوسَى ، أي : مِثْل مِيثَاقِهم بالإيمَان باللَّه والرُّسُل .
والخامس : أن « مِن الَّذين » معطوفٌ على « مِنْهُم » في قوله : { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ } [ المائدة : 13 ] أي : من اليَهُود [ والمعنى : ولا تزال تَطَّلِع على خَائِنَةٍ من اليَهُودِ ] ، ومن الذين قالوا إنَّا نَصَارَى ، ويكون قوله : « أخَذْنَا مِيثَاقَهُم » على هذا مُسْتأنفاً ، وهذا يَنْبَغِي ألاَّ يَجُوز لِوَجْهَيْن :
أحدهما : الفَصْلُ غير المُغْتَفَر .
والثاني : أنَّه تهيئَةٌ للعامِل في شيء ، وقَطْعه عنه ، وهو لا يَجُوز .
فصل
إنما قال : { وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى } ولم يقل : « ومن النَّصارى » ؛ لأنَّهم سمُّوا أنْفُسَهم بهذا الاسْمِ ادَّعاءً لِنُصْرة الله ، بِقَوْلهم لعيسى : { نَحْنُ أَنْصَارُ الله } [ آل عمران : 52 ] ، وليسوا مَوْصُوفِين بِهِ .
قال الحسن : فيه دَلِيلٌ على أنَّهُم نَصَارى بتَسْمِيَتِهِم لا بتَسْمِيَة اللَّه وقيل : أراد بِهِم اليَهُود والنَّصارى ، فاكْتَفَى بذكر أحدهما ، والصَّحيح الأوَّل ، والمراد ب « مِيثَاقَهُم » أنَّه مكتُوب في الإنْجِيل أن يُؤمِنُوا بِمُحَمَّدٍ - عليه الصلاة والسلام - { فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } وذلك الحَظُّ هو الإيمانُ بمحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وتنكير « الحَظّ » يدلُّ على أنَّ المراد به حَظٌّ واحد ، وهو الإيمانِ بِمُحَمَّد ، وإنما خَصَّ هذا الواحد بالذِّكْر مع أنَّهُم تَرَكُوا كثيراً ممَّا أمرهم به ، لأنَّ هذا هو المُهِمُّ الأعْظَم .
وقوله : { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة } بالأهواء المختلفة والجِدَال في الدِّين ، فقيل : بَيْن اليَهُود والنَّصَارى ، وقيل : بين فِرَقِ النَّصَارى ، وأن بعضهم يُكَفِّر بَعْضاً إلى يوم القِيَامة .
وقوله : { وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } وعيد لهم .
قوله : « بَيْنَهُمْ » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه ظَرْف ل « أغْرَيْنَا » .
والثاني : أنَّهُ حال من « العَدَاوَةِ » ، فيتعلَّق بِمَحْذُوف ، ولا يَجُوز أن يَكُون ظَرْفاً لِلْعَدَاوةَ؛ لأنَّ المصدر لا يتقدَّم مَعْمُولُه عليه .
و { إلى يَوْمِ القيامة } أجاز فيه أبُو البَقَاء أن يتعلَّق ب « أغْرَيْنَا » ، أو ب « العَدَاوة » أو ب « البَغْضَاء » أي : أغرينا إلى يَوْمِ القيامة [ بينهم العداوة والبغضاء ، أو أنهم يتعادون إلى يوم القيامة ] أو يتباغضُون إلى يومِ القيامة .
وعلى ما أجَازَهُ أبو البَقَاء أن تكون المَسألَةُ من باب الإعْمَال ، ويكون قد وجد التَّنَازع بين ثلاثةِ عوامِلٍ ، ويكون من إعْمَال الثَّالِث للحَذْفِ من الأوَّل والثَّاني ، وتقدَّم تَحْرِير ذلك .
و « أغْرَيْنَا » من أغْرَاه بكذا أي : ألزمه إياه ، وأصْلُه من الغِرَاء الذي يُلْصَقُ به ، ولامُهُ وَاوٌ [ فالأصلُ ] أغْرَوْنَا ، وإنما قلبت الواوُ ياءً؛ لوقوعها رابعَةٌ [ ك « أغْوَيْنَا » ، ] ، ومنه قولهم : سَهْمٌ مغروٌّ أي : معمول بالغِرَاء ، يقال : غَرِيَ بكذا يغْرى غَرًى وغرَاء ، فإذا أريد تَعْدِيته عُدِّي بالهمزة ، فقيل : أغْرَيْتُه بكذا .
والضمير في « بَيْنَهُم » يحتمل أن يعُود على { الذين قَالُواْ : إِنَّا نصارى } ، وأن يعود على اليَهُود المتقدمين الذِكْر ، وبكلٍّ قال جماعَةٌ كَمَا [ قَدَّمْنَا ] وهذا الكلامُ مَعْطُوفٌ على الكلام قَبْلَه من قوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ } [ المائدة : 12 ] أي : ولقد أخَذَ الله ميثاقَ بني إسْرَائيل ، وأخَذْنا من الَّذين قالوا .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
لما حكى عن اليهود والنَّصارى نَقْضَ العَهْد ، دَعَاهُم بعد ذلك إلى الإيمان بِمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ، فقال : { يَا أَهْلَ الكتاب } وأراد اليَهُود والنَّصَارى ، وَوَحَّد « الكِتَاب » إرادة للْجِنْس .
ثم قال : { يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ } .
قال ابن عباس : أخْفُوا آية الرَّجْمِ من التَّوْراة وبَيَّنَها الرَّسُول - عليه السلام - لهم ، وهو لَمْ يَقْرأ [ كتاباً ] ولم يتعلَّم علماً من أحَد ، وهذه مُعْجِزة ، وأخفوا صِفَةَ مُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - في الإنْجِيلِ ، وغير ذَلِك .
قوله : « يُبَيِّن » في محلِّ نَصْب على الحَال من « رَسُولُنَا » ، أي : جَاءَكم رسولُنا في هذه الحالة ، و « ممَّا يتعلَّق بَمْحذُوف؛ لأنَّه صِفَة ل » كَثيراً « ، و » مَا « موصولةٌ اسميَّة ، و » تُخْفُون « صلتُهَا ، والعائد مَحْذُوفٌ ، أي : من الذين كُنْتُم تُخْفُونَهُ ، و » مِن الكِتَابِ « متعلِّق بِمَحْذُوف على أنَّه حالٌ من العَائِد المَحْذُوف .
وقوله : { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } ، أي : لا يُظْهِر كثيراً مما كُنْتُم تُخْفُون من الكِتَاب ، فلا يتعرَّض لكم ، ولا يُؤاخذكم به؛ لأنَّه لا حاجةَ له إلى إظْهَارِهِ ، والفَائِدةُ في ذلك : أنهم علموا كَوْنَ الرَّسُول عالماً بكُلِّ ما يُخْفُونَه ، فيصير ذلك داعياً لهم إلى تَرْكِ الإخْفَاء ، لئلا يفتضح أمرهم .
والضَّمِير في » يُبَيِّنُ « و » يَعْفُو « يعود على الرَّسُول .
وقد جوَّز قومٌ أن يعود على الله تعالى ، وعلى هذا فلا مَحَلَّ لِقَوْلِهِ : » يُبَيِّنُ « من الإعراب ، ويمتنعُ أن يكون حَالاً من » رَسُولُنَا « لعدم الرَّابِط ، وصِفَةُ » كَثِير « محذوفة لِلْعِلْمِ بها ، وتَقْدِيرُه : عن كثير من ذُنُوبِكُمْ ، وحذف الصِّفَة قَلِيلٌ .
قوله : { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ } لا محلَّ له [ من الإعراب ] لاستئنَافِه ، و » من اللَّه « يَجُوز أن يتعلق ب » جاء « ، وأن يتعلَّق بمحذُوف على أنَّه حَالٌ من » نُورٌ « ، قدِّمت صفة النَّكرة عليها ، فنُصِبَتْ حالاً .
فصل في معنى الآية
والمراد بالنُّور : محمد - عليه الصلاة والسلام - ، وبالكتاب : القُرْآن ، وقيل : المراد بالنُّور : الإسلام ، وبالكِتَاب القُرْآن ، وقيل : النُّور والكتاب والقُرْآن ، وهذا ضعيفُ؛ لأنَّ العَطْفَ يوجبُ التَّغَاير .
قوله تعالى : » يَهْدِي « فيه خَمْسَة أوجه :
أظهرها : أنَّه في محلِّ رفْع؛ لأنَّهُ صفة ثَانِيَةٌ ل » كِتَاب « ، وصفَهُ بالمفرد ثم بالْجُمْلَة ، وهو الأصْلُ .
الثاني : أن يكون صِفَةً أيضاً لكن ل » نُورٌ « ، وصَفَهُ بالمُفْرَد ثم بالجُمْلَة ، ذكره أبو البقاء وفيه نظر ، إذ القَاعِدَةُ أنَّه إذا اجْتَمَعَتِ التَّوابع قُدِّم النَّعْت على عَطْف النَّسَق ، تقول جاء زَيْدٌ العَاقِل وعَمْرو ، ولا تقُولُ : جاء زيْدٌ وعمرو العَاقِل؛ لأنَّ فيه إلباساً أيضاً .
الثالث : أن يكون حالاً من « كِتَاب » ، لأن النَّكرة لما تخصَّصَت بالوَصْف قَرُبت من المَعْرِفة .
وقياس قول أبي البقاء أنَّه يجوز أن يكون [ حالاً من « نُورٌ » ، كما جاز أن يكُون ] صِفَة لَهُ .
الرابع : أنَّهُ حال من « رسُولُنا » بدلاً من الجُمْلَة الواقِعَة حالاً له ، وهي قوله : « يُبَيِّنُ » .
الخامس : أنَّهُ حالٌ من الضَّمير في « يُبَيِّن » ذكرهما أبُو البقاء ، ولا يَخْفَى ما فيهما من الفَصْلِ؛ ولأن فيه ما يُشْبِهُ تَهْيِئَة العَامِل للعَمَلِ ، وقَطْعه عنه ، والضَّمِير في « بِهِ » يعُودُ على من جعل « يَهْدي » حالاً منه ، أو صِفَة لَه .
قال أبو البقاء : فَلِذَلِكَ أفْرِدَ ، أي : إن الضمير في « بِهِ » أُتِي به مُفْرداً ، وقد تقدَّمه شيئان وهُمَا : « نُورٌ » و « كِتَابٌ » ، ولكن لما قصد بالجُمْلَة من قوله : « يَهْدي » الحال ، أو الوصف من أحدهما ، أُفْرِد الضَّمير .
وقيل : الضمير في « بِهِ » يعود على الرَّسُول [ وقيل : يَعُودَ على « السَّلام » ] ، وعلى هذين القَوْلَيْن لا تكون الجُمْلَةُ من قوله : « يَهْدِي » حالاً ولا صِفَةً لعدم الرَّابط .
و « مَنْ » موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفةٌ ، ورَاعَى لَفْظَها في قولِهِ : « اتَّبَع » فلذلك [ أفرد الضَّمِير ، ومَعْناها ، فَلِذَلك ] جمعه في قوله : « وَيُخْرِجُهُم » .
وقرأ عُبَيْد بن عُمَيْر ، ومُسْلِم بن جُنْدُب ، والزُّهَري « بهُ » بضم الهاء حيث وقع ، وقد تقدَّم أنَّه الأصْل .
وقرأ الحسن « سُبْلَ » بسكون الباء ، وهو تخْفيفٌ قياسي به كقولهم في عُنُق : عُنْق ، وهذا أوْلَى لِكَوْنه جمعاً ، وهو مَفْعُول ثانٍ ل « يَهْدِي » على إسقاط حَرْفِ الجرِّ ، أي إلى « سُبْل » ، وتقدَّمَ تحقيق نظيره ، ويجُوزُ أن يَنْتَصِبَ على أنَّهُ بدَل من « رِضْوَانَهُ » إما بَدَل كُل من كلّ لأن سبل السلام [ هي رضوان الباري تعالى ، وإما بدل اشتمال؛ لأن الرضوان مشتمل على سبل السلام؛ أو لأنها مشتملة على رضوان الله تعالى ، وإما بدل ] بعض من كل؛ لأن سبل السلام بعض الرضوان .
فصل
معنى { يَهْدِي بِهِ الله } أي : بالكِتَاب المُبِين { مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ } أي : كان مطلوبُهُ من طلب الدِّين اتِّباع الدِّين [ الذي ] يَرْتَضِيه اللَّه ، « سُبُلَ السلام » [ أي : طُرُق السَّلامَة ] وقيل : السلام هو الله عزَّ وجلَّ ، و « سُبُلَهُ » : دينَهُ الذي شرع لِعبَادِه ، ويجُوزُ أن يكون على حَذْفِ مُضَافٍ ، أي : سُبُل دار السلام ، ونظيره قوله : { والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } [ محمد : 4 - 5 ] ومعلومٌ أنَّه ليس المُرادُ هِدَايَة الاسْتِدْلاَل ، بل الهدايَةُ إلى طَرِيق الجَنَّة .
ثم قال : { وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِهِ } أي : من ظُلمات الكُفْر إلى نورِ الإيمان « بإذْنِهِ » بتوفيقه و « بإذنِهِ » متعلِّق ب « يُخْرِجُهُم » أي : بتَيْسِيره أو بأمْره ، و « البَاءُ » للحال أي : مُصَاحِبِين لِتَيْسِيرِه أو للسَّبَبِيَّة ، أي : بسبب أمْرِه المُنَزَّل على رسوله .
وقيل : « الباء » تتعلق بالاتِّبَاع ، أي : يتَّبع رِضْوَانه بإذْنِه .
قال ابنُ الخَطِيب : ولا يجُوزُ أن تتعلَّق بالهِدَاية ، [ ولا بالإخْرَاج؛ لأنَّه لا مَعْنَى له ، فَدَلَّ ذلك على أنَّه لا يتبع رضوان الله إلا من أرَادَ اللَّه منه ذَلِكَ ] .
ثم قال : { يَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وهو الدِّين الحقُّ .
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
وهمُ اليَعْقُوبيَّة من النَّصارى ، يقولون : المَسِيحُ هو الله ، وهذا مذهب الحُلوليَّة ، فإنَّهُم يَقُولُون : إنَّ الله تعالى قد يَحِلُّ في بدن إنْسَان معيَّن أو في رُوحِهِ ، ثم إنَّه تعالى احَتَّج على فَسَادِ هذا المذْهَب بقوله تعالى : { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً } .
قوله تعالى : { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ } [ الفاء عاطِفةٌ هذه الجملة على جُمْلة مقدَّرة قبلها ، والتقدير : قل كَذَبُوا ، أو ليس الأمْر ذكلك فَمَن يَمْلِك؟ ] وقوله : « مِنَ الله » فيه احتمالان :
أظهرهما : أنَّه متعلِّقٌ بالفِعْلَ قَبْلَه .
والثاني : ذكره أبُو البقاء : أنَّه حالٌ من « شَيئاً » ، يعني : من حَيْثُ إنَّه كان صِفَةً في الأصْلِ للنَّكرة ، فقدَّم عليها [ فانْتَصَب حالاً ] ، وفيه بُعْدٌ أو مَنْعٌ .
وقوله « فَمَنْ » استفهامُ تَوْبِيخٍ وتقرير وهو دالٌّ على جواب الشَّرْط بعدَهُ عند الجُمْهُور .
قوله : { إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } وهذه جُمْلَةٌ شرطيَّةٌ قُدِّم فيها الجزاءُ على الشَّرْط ، والتَّقْدير : إن أرَاد أن يَهْلِكَ المسيحَ ابن مَرْيَم وأمَّهُ ومن في الأرض جميعاً فمن الذي يقدر أن يَدْفَعَهُ عن مُرَادِهِ ومَقْدُوره .
وقوله : { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً } أي : فَمَنْ يَمْلِكُ من أفْعَال الله شَيْئاً ، والمُلْكُ هو القُدْرة ، أي : فمن الذي يَقْدِر على دَفْعِ شَيْءٍ من أفْعال الله .
وقوله { وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } ، يعني : أنَّ عيسى مُشَاكِلٌ من في الأرْض في القُدْرة والخِلْقَة والتَّركيب وتغْيِير الأحوال والصِّفات ، فلما سلّمتم كَوْنَهُ تعالى خَالِقاً للكُلِّ ، وَجَبَ أن يكون خَالِقاً لِعيسى .
قوله : { وَمَن فِي الأرض } من باب عَطْفِ التَّامِّ على الخاصِّ ، حتى يبالغ في نفي الإلهيَّة عنهما ، فكأنَّه نَصَّ عليهما مَرَّتَيْن؛ مرَّة بذِكْرِهما مُفْرَدَيْن ، ومرَّة بانْدِرَاجِهما في العُمُوم .
و « جميعاً » : حالٌ من المسيحِ وأمّه ومَنْ في الأرض ، أو مِنْ « مَنْ » وحدَهَا لعُمُومها .
ويجُوز أن تكون مَنْصُوبَةً على التَّوْكِيد مثل « كل » ، وذكرهَا بعض النُّحاة من ألْفَاظ التوكيد .
ثم قال : { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض } ثم قال : « ومَا بَيْنَهُمَا » ، ولم يقل : بَيْنَهُنَّ؛ لأنَّه ذهب بذلك مذهب الصِّنْفَيْن والنَّوْعَيْن .
وقوله : { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } جُمْلَة لا مَحَلَّ لها من الإعْراب لاسِئْنَافِها ، وفي مَعْنَاها وجْهان :
الأول : يَخْلُقُ ما يشاء ، فتارة يخلق الإنسان من ذكر وأنْثَى كما هو مُعْتَاد ، وتارة لا من الأب والأم كما في [ حقِّ آدم ] ، وتارة من الأمِّ لا من الأب كما في حقِّ عيسى - عليه السلام - .
والثاني : { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } يعني : أنَّ عيسى إذا قدر صور الطير من الطِّين ، فالله يَخْلُق فيه الحَيَاة والقُدْرَة مُعْجِزةً لِعيسَى ، وتارَةً يُحْيِي المَوْتَى ، وتارة يُبْرِئ الأكْمَهَ والأبْرَص مُعْجِزةٌ لَهُ ، [ ولا اعتراض على الله ] في شيء من أفْعْالِهِ ، { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
واعلم : أنَّ اليَهُود والنَّصَارى لا يقُولُون ذلك؛ فَلِهَذا ذكر المُفَسِّرُون وُجُوهاً :
أحدها : أنَّ هذا من باب حَذْفِ المُضَاف ، أي : نحن أبناءُ رُسُلِ الله ، كقوله : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] .
الثاني : أن لَفْظَ الابْنِ كما يُطلَقُ على ابن الصَّلْب ، قد يُطْلَق - أيضاً - على من يتَّخِذُ أبْنَاء ، بمعنى تَخْصِيصه بِمَزيدِ الشَّفقة والمحبَّة ، فالْقَوْم لما ادَّعَوْا عِنَاية الله بِهِم ، ادَّعَوْا [ أنَّهُمْ أبْنَاءُ لِلَّه ] .
الثالث : أنَّ اليهود زَعَمُوا أنَّ العُزَيْرَ [ ابْن اللَّه ] ، والنَّصَارى زَعَمُوا أنَّ المسيح ابن الله ، ثم زَعَمُوا أنَّ العُزَيْرَ والمسيحَ كانَا مِنهُم كأنَّهمُ قالوا : نَحْنُ أبْنَاء الله ، ألا تَرَى أنَّ أقارِبَ المَلكِ إذا فاخَرُوا أحَداً يقولون : نَحْنُ مُلُوك الدُّنْيَا ، والمُرادُ : كَوْنهُم مُخْتَصِّينَ بالشَّخْصِ الذي هو الملك ، فكذا هَا هُنَا .
الرابع : قال ابن عبَّاسٍ : إن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا جماعَةً من اليَهُودِ إلى دين الإسْلام ، وخوَّفهم بِعِقَاب اللَّه تعالى ، فقَالُوا كيف تُخَوِّفُنَا بِعِقَاب الله ونَحْنُ أبْنَاء الله وأحِبَّاؤُه ، فهذه الرِّواية [ إنما ] وقعت عن تلك الطَّائِفَة .
وأما النَّصارى فإنَّهُم يتلون في الإنجيل أنَّ المسيح قال لَهُم : أذهب إلى أبِي وأبيكُمْ ، وقيل : أرَادُوا أن اللَّه تعالى كالأبِ لنا في الحُنُوِّ والعَطْفِ ، ونحن كالأبْنَاء [ له ] في القُرْبِ والمَنْزِلَة .
وقال إبْراهيم النَّخْعِي : إنَّ اليَهُود وجدوا في التَّوْرَاة ، يا أبناء [ أحْبَاري ، فَبَدَّلوا يا أبناء ] أبْكَارِي فمن ذلك قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } ، وجملة الكلام أنَّ اليهود والنَّصارى كانوا يَرَوْنَ لأنْفُسِهِم فَضْلاً على سَائِر الخَلْقِ ، بسبب أسْلافِهِم الأنْبِيَاء إلى أن ادَّعَوْا ذلك .
قوله تعالى : « فَلِمَ يُعَذِّبكُمْ » هذه الفاء جوابُ شرط مقدَّر ، وهو ظاهرُ كلام الزَّمَخْشَرِي ، فإنَّهُ قال : فإن صَحْ أنكم أبْنَاء اللَّه وأحِبَّاؤُه فلم تُذْنِبُون وتُعذَّبُون؟ ويجُوزُ أن يكُون الكلامُ كالفَاءِ قَبْلَها في كَوْنِها عَاطِفَة على جُمْلةٍ مُقَدَّرة ، أي : كَذَبْتُم فلم يُعَذِّبكُم ، و « الباءُ » في « بِذُنُوبِكُم » سببية ، و « مِمَّنْ خَلَقَ » صِفَة ل « بَشَر » فهو في مَحَلِّ رفع مُتعلِّق بِمَحْذُوف .
فإن قيل : القَوْمَ إما أن يدعُوا أنَّ الله عَذَّبَهُم في الدُّنْيَا أو يدَّعُوا أنَّه سيُعَذِّبُهُم في الآخِرَة ، فإن كان مَوْضِع الإلْزَامِ عَذَاب الدُّنْيَا ، فهذا لا يقْدَحُ في ادِّعَائِهِم كونهم أحِبَّاءُ الله؛ لأنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم كان يدعى هو وأمَّتهُ أحِبَّاء الله ، ثم إنَّهُم ما خَلَوْا عن مَحِنِ الدُّنْيَا كما في وَقْعَةِ أحُد وغَيْرها ، وإن كان مَوْضِعُ الإلْزَام هو أنَّهُ تعالى سيُعَذِّبُهُم في الآخِرة ، فالقَوْمُ يُنْكِرُون ذلك ، ومجرد إخْبَارِ مُحَمَّد - عليه السلام - ليس بكافٍ في هذا البَابِ ، فكان هذا اسْتِدْلالاً ضَائِعاً .
الجواب : من وُجُوه :
أحدُها : أنَّ موضع الإلْزَام هو عَذَابُ الدُّنْيَا ، والمعارَضَةُ بِيَوم أُحُدٍ غير لازِمَة؛ لأنَّا نَقُول : لو كانوا أبْنَاء الله وأحِباءهُ ، لِمَ عذَّبَهُم في الدُّنيا؟ ومَحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - إنَّما ادَّعى أنَّه من أحِبَّاء الله ولم يَدَّع أنَّهُ من أبْنَاء اللَّه .
الثاني : أنَّ موضع الإلْزَام عذاب الآخِرَة ، واليَهُود والنَّصَارى كانوا مُعْتَرِفِين بِعَذَاب الآخِرَة ، كما أخْبَر اللَّه عَنْهُم أنَّهُم قالوا : { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] .
الثالث : أن قوله : « فَلِمَ يُعَذِّبُكُم » أي : لِمَ عَذَّبَ من قَبْلَكُمْ بذنوبهم فَمَسَخَهُمْ قِرَدَةً وخَنَازِير ، إلاَّ أنَّهُم لما كانوا من جِنْسِ أولَئِكَ المُتَقَدِّمِين ، حسنت هذه الإضَافَةُ وهذا أوْلَى؛ لأنَّهُ تعالى لم يَكُنْ لِيَأمُر رسُوله - عليه الصلاة والسلام - أن يحتَجَّ عليهم بِشَيءٍ لم يَدْخُل بَعْدُ في الوُجُود .
قال تعالى : { بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } كسائر بَنِي آدَم يُجْزَوْنَ بالإحْسَان والإسَاءَة ، { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } : فضلاً ، { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } : عدلاً ، ليس لأحَد عليه [ حقٌّ يوجبُ عليه ] أن يغفر له ، يَفْعَلُ ما يَشَاءُ ، ويَحْكُم ما يُرِيدُ .
ومذهب المُعْتَزِلَة : أنَّ كُلَّ من أطَاعَ الله واحْتَرَز عن الكَبَائِرِ ، فإنَّه يجب على الله عقلاً إيصال الرَّحْمة والنِّعْمة إليه أبدَ الآبَاد ، ولو قطع عَنْه تلك النِّعْمة لحظةً واحِدَة لبَطَلَتِ الإلهيَّة ، وهذا أعْظَمُ من قول اليَهُود والنَّصَارى نَحْنُ أبْنَاءُ الله وأحِبَّاؤُه .
كما أنَّ قوله : { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } إبطالاً لِقَوْلِ اليَهُود ، فبأن يكون إبْطَالاً لِقَوْل المُعْتَزِلَة أوْلَى .
ثم قال تعالى : { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } يعني : من كان هكذا أو قُدْرَته هكذا ، كيف يستحق البَشَرُ الضَّعِيفُ عليه حقاً واجباً؟ وكيف يَمْلِكُ عليه الجَاهِلُ بعبادته النَّاقِصَة دَيْناً لازِماً؟ { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } [ الكهف : 5 ] .
ثم قال : « وَإلَيْه المَصِيرُ » أي : وإليه يَؤُول أمْر الخَلْقِ؛ لأنَّه لا يملك الضَّرَّ والنَّفْع هُنَاك إلاَّ هو .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
قوله : « يبيّنُ لكم » فيه وجهان :
أحدهما : إن المبين هو الدِّين والشَّرائع ، وإنما حَسُن حَذْفُهُ؛ لأنَّ كل أحد يَعْلَم أنَّ الرَّسُول إنَّما أُرْسِل لبيان الشَّرَائع؛ لدلالة اللَّفْظِ عليه .
الثاني : أن يكون التَّقْدِير : يُبَيِّن لكم البَيَان ، وحَذْفُ المَفْعُول أكمل؛ لأنَّهُ يصير أعمَّ فائدة ، وتقدَّمَ الكلام في « يُبَيِّن » .
قوله : « عَلَى فَتْرَة » فيه ثلاثةُ أوجه :
أظهرها : أنَّهُ متعلِّق [ ب « جاءكم » ] أي : جاءكم على حين فُتور من إرسَالِ الرَّسُل ، وانْقطِاع من الوَحْي ذكره الزَّمَخْشَرِيُّ .
والثاني : أنَّه حال من فاعل « يُبَيِّن » أي يُبَيِّن في حَالِ كَوْنِهِ على فَتْرَة .
والثالث : أنَّهُ حال من الضَّمير المَجْرُور في « لَكُم » ، فيعلَّق على هَذَيْن الوجْهَيْن بمحذوف ، و « مِنَ الرُّسُل » صِفَة ل « فَتْرة » ، على أن معنى « مِنْ » : ابتداءُ الغاية ، أي : فَتْرَة صادرة من إرْسَالِ الرُّسُلِ .
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ : يريد على انْقِطَاعٍ من الأنْبِيَاء ، يقال : فَتَر الشَّيْ يَفْتُر فُتُوراً إذا سَكَنَتْ حَرَكَتُه ، فَصَارَ أقَلَّ ما كان عليه ، وسمِّيَت المدَّة بين الأنْبِيَاء فَتْرة؛ لفُتُور الدَّوَاعي في العمل بِتَرْك الشَّرَائع .
واخْتَلَفُوا في مُدَّة الفَتْرَة بين عِيسَى ومُحَمَّد - عليهما الصلاة والسلام - قال أبُو عُُثْمان النهدي : ستمائة سَنَة ، وقال قتادَة : خمسمائة سنة وسِتُّون سنة ، وقال مَعْمَرُ والكَلْبِيُّ : خمسمائة سَنة وأرْبعُون سنة .
وعن الكَلْبِيِّ بين مُوسى وعيسى ألْفٌ وسبعمائة سنة وألفا نبيّ ، وبَين عيسى ومحمد أربعةٌ من الأنبياء؛ ثلاثةٌ من بني إسرائيل ، وواحدٌ من العرب وهو خالد بن سِنَان العَبْسي .
والفائدة في بَعْثَة مُحَمَّدٍ - عليه الصلاة والسلام - على فَتْرَةٍ من الرُّسُلِ؛ لأنَّ التَّحْريف والتَّغْيِير قد تَطَرَّق إلى الشَّرَائِع المُتقدِّمة ، لتقَادُم عَهْدِهَا وطول أزْمَانِها ، ولهذا السَّبَب اخْتَلط الحقُّ بالبَاطِل ، والصِّدق بالكَذِبِ ، فصار عذْراً للخَلْقِ في إعْرَاضِهِم عن العِبَادَات .
وسُمِّيت فَتْرة؛ لأنَّ الرُّسل كانت تَتْرَى بعد مُوسى - عليه السلام - من غير انْقِطَاع إلى عيسى ، ولم يَكُنْ بعد عيسى سِوى رسُول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما تقدَّم عن الكَلْبِي .
قوله : « أنْ تَقُولُوا » مَفْعُولٌ من أجْلِهِ ، فَقَدَّره الزَّمَخْشَرِي « كَراهَة أن تَقُولُوا » .
وأبُو البقاء « مخَافَة أن تَقُولُوا » ، والأوَّل أوْلَى وقوله : « يُبَيِّن » يجوز ألاَّ يُرادَ له مفعولُ ألْبَتَّة ، والمعنى : يبذل لكم البيان ، ويجُوز أن يكُون مَحْذُوفاً إمَّا لدلالة اللَّفظ عليه ، وهو ما تقدَّم من قوله : { يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً } [ المائدة : 15 ] وإمَّا لدلالة الحَالِ أي : يُبَيِّن لكم ما كُنْتم تَخْتَلِفُون فيه .
و « مِنْ بَشيرٍ » فاعل زيدَت فيه « مِنْ » لوجود الشَّرْطين ، و « لا نَذِيرٍ » عطف على لفظه ، ولو قُرِئ برفعه مُراعَاةً لوضْعِه جَازَ .
وقوله : « فَقَدْ جَاءَكُمْ » عطف على جُمْلَةٍ مُقَدَّرة ، أي : لا تعتذروا فقد جَاءَكُم ، وما بعد هذا من الجُمَلِ واضِحُ الإعْرَاب لما تقدَّم من نَظَائِرِهِ .
ثم قال : { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، والمعنى : [ أنَّ ] حصول الفَتْرَة يوجِبُ احْتِياجَ الخَلْقِ إلى بَعْثَة الرُّسُلِ عليهم السلام ، والله قَادِرٌ على البَعْثَة؛ لأنَّهُ رحيمٌ كريمٌ قادرٌ على البَعْثَة ، فوجَبَ في رَحْمَتِه وكَرَمه أن يَبْعَثَ إليهم الرُّسُل .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
الواو في قوله : « وَإذْ قَالَ » واو عَطْفٍ ، وهو مُتَّصِلٌ بقوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ } [ المائدة : 12 ] ، كأنَّهُ قيل : أخَذَ عَليْهِم الميثاق ، وذكر مُوسى نِعَم الله وأمَرَهُم بمحارَبةِ الجَبَّارين ، فَخَالَفُوا المِيثَاقَ ، وخالَفُوا في مُحَارَبَة الجَبَّارين .
واعلم : أنَّه تعالى مَنَّ عليهم بثلاثَةِ أمُورٍ :
أوَّلها : جعل فيهم أنْبيَاء؛ لأنَّه ما بَعَثَ في أمَّة ما بَعَث في بَنِي إسْرائيل من الأنْبِيَاء ، فمنهم السَّبْعُون الذين اخْتَارَهُم مُوسَى من قَوْمِه فانْطَلَقُوا مَعَهُ إلى الجَبَلِ ، وكانوا من أوْلاَدِ يَعْقُوبَ بن إسْحَاق بن إبراهيم ، وهؤلاءِ الثَّلاثةُ من أكَابِر الأنْبِياء بالاتِّفَاق ، وأوْلاَدُ يَعْقُوب - أيضاً - كانوا أنْبِيَاء على قَوْل الأكْثَرِين ، والله تعالى أعلم مُوسَى أنَّهُ لا يَبْعَثُ من الأنْبِيَاء إلا من وَلَدِ يَعْقُوب ومن وَلَدِ إسْمَاعيل ، [ فهذا الشَّرَفُ ] حَصَلَ بمن مَضَى من الأنْبِيَاء ، وبالَّذِين كانوا حَاضِرِين مع مُوسَى ، وبالَّذين أخْبر الله مُوسَى أنَّه يَبْعَثُهُم من وَلَدِ يَعْقُوب وإسْمَاعِيلَ بعد ذَلِك .
وثانيها : قوله « وَجَعلَكُمْ مُلُوكاً » ، قال ابن عبَّاس : أصْحَاب خدم وحَشَمٍ .
قال قتادةُ : كانوا أوَّل من مَلَك الخدم ، ولم يَكُنْ قَبْلَهم خَدَمٌ ، وعن أبي سعيدٍ الخُدْرِيّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم : « كان بنو إسرائيل إذا كان لأحَدٍ خَادِمٌ وامْرَأةٌ ودَابَّة يُكْتَبُ مَلِكاً » .
وقال أبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمي : سَمِعْتُ عَبْدَ الله بْن عمرو بن العَاصِ ، وسأله رَجُل فَقالَ : ألَسْنََا فُقَراء المُسْلمين المُهَاجِرِين؟ فقال لَهُ عَبْدُ الله : « ألَكَ امْرَأةٌ تَأوِي إلَيْهَا؟ قال : نَعَمْ ، قال : ألَكَ سَكَنٌ تَسْكُنُه؟ قال : نَعَمْ ، قال : فأنْتَ من الأغْنِيَاء ، قال : لِي خَادِمٌ ، قال : فأنت من المُلُوكِ » .
وقال السديُّ : وجَعَلكُمْ [ مُلُوكاً ] أحراراً تَمْلِكُون أمْرَ أنفُسِكُمْ ، بَعْدَما كُنْتُم في أيْدِي القبطِ يَسْتَعْبِدُونَكُمْ .
وقال الضَّحَّاك : كانت مَنَازِلُهُمْ واسِعَة ، فيها مِيَاهٌ جَارِيَةٌ ، فمن كان مَسْكَنُهُ واسِعاً وفيه نهرٌ جارٍ ، فهو مَلِكٌ .
وقيل : إنَّ كل من كان رسُولاً ونَبِيّاً كان مَلِكاً؛ لأنَّه يَمْلِكُ أمْر أمَّتِهِ وكان نافِذَ الحُكْم عليهم فكان مَلِكاً ، ولهذا قال تعالى : { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } [ النساء : 54 ] .
وقيل : كان في أسْلافِهِم وأخلافِهِم المُلُوكُ والعُظْمَاءُ ، وقد يُقَال لمن حصل فيهم المُلُوك : أنْتُم ملوكٌ على سَبِيل الاسْتعارَة .
قال الزَّجَّاج : المَلِكُ من لا يَدْخُل علَيْه أحدٌ إلا بإذْنِهِ .
وثالثها : قوله تعالى : { وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين } وذلك لأنَّه تعالى خَصَّهم بأنْوَاع عَظِيمَة من الإكْرَامِ ، فلق البَحْرَ لهم وأهْلك عَدُوَّهم وأوْرَثهُمْ أمْوَالهم ، وأنْزَل عليهم المَنَّ والسَّلْوَى ، وأخرج لهم المياه الغَزِيرَة من الحَجَرِ ، وأظلَّ فَوْقَهُم الغَمام ، ولَمْ يَجْتَمِع المُلْكُ والنُّبُوَّة لِقَومٍ كما اجْتَمَعَا لَهُم ، وكانوا في تِلْكَ الأيَّام هُمُ العُلَمَاءُ باللَّه ، وهم أحْبَابُ اللَّهِ وأنْصَار دينِهِ .
ولما ذَكَر هذه النِّعَمَ وشرحَها لهم أمَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِجَهَاد العَدُوِّ ، فقال : { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } .

 قلت المدون التالي هو ج25.و26.بمشيئة الله

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...