حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

ج71.وج72.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب

 

   ج71.و ج72... كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب

ج71.و ج72... كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
  أولا :

   ج71. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
قوله : { يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } . أي : يرسل ماء السماءِ ، ففيه إضمار .
وقيل : السماء : المطر ، أي يرسلُ المطر؛ قال الشاعر : [ الوافر ] .
4878 - إذَا نَزََل السَّماءُ بأرْضِ قَوْمٍ ... رَعيْنَاهُ وإنْ كَانُوا غِضَابَا
و « مِدْراراً » يجوز أن يكون حالاً من « السَّماء » . ولم يؤنث؛ لأن « مفعالاً » لا يؤنث ، تقول : « امرأة مِئْنَاث ، ومِذْكَار » ولا يؤنث بالتاء إلا نادراً ، وحينئذ يستوي فيه المذكر والمؤنث ، فتقول رجُلٌ مخدامةٌ ، ومطرابةٌ ، وامرأة مخدامة ومطرابة ، وأن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، أي : إرسالاً مدراراً . وتقدم الكلام عليه في الأنعام .
وجزم « يرسل » جواباً للأمر ، و « مِدْرَاراً » ذا غيث كثيرٍ .
فصل في حكاية قوم نوح
قال مقاتل : لما كذَّبوا نوحاً - عليه الصلاة والسلام - زماناً طويلاً حبس اللَّهُ عنهم المطر ، وأعقم أرحامَ نسائهم أربعين سنة ، فهلكت مواشيهم وزروعهم فصاروا إلى نوح - عليه الصلاة والسلام - واستغاثوا به ، فقال : { استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } ، أي : لمن أناب إليه ، ثم رغبهم في الإيمان فقال : { يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } .
قال قتادة : علم نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم أنهم أهل حرصٍ على الدنيا ، فقال : هلموا إلى طاعة الله ، فإنَّ في طاعة الله درك الدنيا والآخرة .
فصل في استنزال الرزق بالاستغفار .
في هذه الآية والتي قبلها في « هود » دليلٌ على أنَّ الاستغفار يستنزلُ به الرزق والأمطار قال الشعبيُّ : خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع فأمطروا فقالوا : ما رأيناك استسقيت فقال : لقد استسقيت بمجاديح السماءِ التي يستنزل بها المطر ، ثم قرأ : { استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَارًا } .
قال ابن الأثير : المجاديحُ واحدها « مجدح » والياء زائدة للإشباع ، والقياس أن يكون واحدها مجداح ، فأما مجدح فجمعه « مجادح » ، والمجدح : نجمٌ من النجوم .
قيل : هو الدبران .
وقيل : هو ثلاثةُ كواكب ، كالأثافي تشبيهاً له بالمجدح ، الذي له ثلاث شعبٍ ، وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر ، فجعل الاستغفار مشبهاً بالأنواء ، مخاطبة لهم بما يعرفونه لا قولاً بالأنواء ، وجاء بلفظ الجمع؛ لأنه أراد الأنواء جميعها التي يزعمون أن من شأنها المطر .
وشكى رجلٌ إلى الحسن الجدوبة ، فقال له : استغفر الله ، وشكى آخر إليه الفقر ، فقال له : استغفر الله ، وقال له آخر : ادعُ الله أن يرزقني ولداً ، فقال له : استغفر الله ، وشكى إليه آخرُ جفاف بساتينه فقال له : استغفر الله ، فقلنا له في ذلك ، فقال ما قلت من عندي شيئاً ، إنَّ الله تعالى يقول في سورة « نوح » : { استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } .
فإن قيل : إنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - أمر الكفار أولاً بالعبادة ، والطَّاعة ، فأيُّ فائدةٍ في أن أمرهم بعد ذلك بالاستغفار .
فالجوابُ : لمَّا أمرهم بالعبادة قالوا له : إن كان الدين الذي كُنَّا عليه حقاً ، فلم تأمرنا بتركه ، وإن كان باطلاً ، فكيف يقبلنا بعد أن عصيناه ، فقال نوح - عليه الصلاة والسلام - : إنكم وإن كنتم قد عصيتموه ولكن استغفروا من تلك الذنوب فإنَّه سبحانه كان غفاراً .
فإن قيل : فلم قيل : إنه كان غفاراً ، ولم يقل : إنَّه غفار؟ .
فالجوابُ : كأنه يقول : لا تظنوا أن غفرانه إنما حدث الآن بل هو أبداً هكذا عادته أنه غفارٌ في حق من استغفر .
قوله : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } .
قيل : الرجاء هنا بمعنى الخوف ، أي : ما لكم لا تخافون لله عظمة ، وقدرة على أحدكم بالعقوبة ، أي : أيُّ عذر لكم في ترك الخوف من الله؛ قال الهذليُّ : [ الطويل ]
4879 - إذَا لَسَعتْهُ النَّخْلُ لمْ يَرْجُ لَسْعهَا .. . . .
وقال سعيد بن جبيرٍ وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح : ما لكم لا ترجون لله ثواباً ، ولا تخافون له عقاباً .
وقال سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ } ، لا تخشون لله عقاباً وترجون منه ثواباً .
وقال الوالبي و العوفي عنه : ما لكم لا تعلمون لله عظمة .
وقيل : ما لكم لا تعتقدون لله عظمة .
وقال ابن عباس ومجاهد : ما لكم لا ترون لله عظمة .
قال قطرب : هذه لغةٌ حجازيةٌ ، وهذيل وخزاعةُ ومضر يقولون : لم أرج ، أي : لم أبال .
قوله : « وقَاراً » ، يجوز أن يكون مفعولاً به على معان ، منها : ما لكم لا تأملون له توقيراً ، أي : تعظيماً .
قال الزمخشريُّ : والمعنى ما لكم لا تكونون على حالٍ ، تأملون فيها تعظيم الله إيَّاكم في دار الثواب « ولله » بيانٌ للموقر ، ولو تأخر لكان صلته . انتهى .
أي : لو تأخر « للَّهِ » عن « وقَاراً » لكان متعلقاً به ، فيكون التوقير منهم لله تعالى وهو عكس المعنى الذي قصده ، ومنها : لا تخافون لله حلماً وترك معاجلة بالعقاب فتؤمنوا .
ومنها : لا تخافون لله عظمة ، وعلى الأول يكون الرجاء على بابه ، وقد تقدم أن استعماله بمعنى الخوف مجاز ومشترك .
وأن يكون حالاً من فاعل « تَرجُونَ » ، أي : موقرين الله تعالى ، أي : تعظمونه ف « لِلَّهِ » على هذا متعلق بمحذوف على أنه حالٌ من « وقَاراً » أو تكون اللام زائدة في المفعول به ، وحسنه هنا أمران : كون العامل فرعاً ، وكون المعمول مقدماً ، و « لا تَرْجُونَ » حال .
وقد تقدم نظيره في المائدة .
والوقارُ : العظمة ، والتوقيرُ التعظيم ، ومنه قوله تعالى : { وَتُوَقِّرُوهُ } [ الفتح : 9 ] .
وقال قتادةُ : ما لكم لا ترجون لله عاقبة كأن المعنى : ما لكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان .
وقال ابن كيسان : ما لكم لا ترجون في عبادة الله ، وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيراً .
وقال ابن زيد : ما لكم لا تؤتون لله تعالى طاعة .
وقال الحسنُ : ما لكم لا تعرفون لله حقاً ، ولا تشكرون له نعمة .
وقيل : ما لكم لا توحدون الله لأن من عظمه فقد وحَّده .
وقيل : إن الوقار هو : الثبات لله عز وجل ، ومنه قوله تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [ الأحزاب : 33 ] أي : اثبتن ، والمعنى : ما لكم لا تثبتون وحدانية الله تعالى ، وأنه إلهكم ، لا إله لكم غيره ، قاله ابن بحر ، ثم دلَّهم على ذلك فقال : { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } .
يعني نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاماً ، ولحماً ، ثم أنشأناه خلقاً آخر .
وقيل : « أطْوَاراً » صبياناً ، ثم شباناً ، ثم شيوخاً ، وضعفاء ، ثم أقوياء .
وقيل : « أطواراً » ، أي : أنواعاً ، صحيحاً ، وسقيماً ، وبصيراً ، وضريراً ، وغنياً ، وفقيراً .
وقيل : الأطوار : اختلافهم في الأخلاق ، والأفعال .
قوله : { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } ، جملة حالية من فاعل « تَرْجُونَ » .
والأطوار : الأحوال المختلفة .
قال الشَّاعرُ : [ البسيط ]
4880 - فإنْ أفَاقَ فقَدْ طَارتْ عَمايَتُهُ ... والمَرْءُ يُخلقُ طَوْراً بَعْدَ أطْوارِ
وانتصابهُ على الحال ، أي : منتقلين من حال إلى حال ، أو مختلفين من بين مُسِيءٍ ، ومحسن ، وصالح ، وطالح .
قوله : { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً } .
لما ذكر لهم دليل التوحيد من أنفسهم ، أتبعه بدليل الآفاق فقال : { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً } ، أي : ألم تعلموا أنَّ الذي قدر على هذا ، فهو الذي يجب أن يعبد ، ومعنى : « طباقاً » قال ابن عباس والسدي : أي : بعضها فوق بعض كل سماء منها وطبقة على الأخرى كالقبابِ .
فإن قيل : هذا يقتضي ألا يكون بينهما فرج ، وإذا كان كذلك فكيف تسلكها الملائكة؟ .
فالجواب : أن الملائكة أرواح .
وأيضاً قال المبرِّد : معنى طباقاً ، أي : متوازية لا أنها متماسة .
وقرا الحسنُ : « خلَق الله سبعَ سماواتٍ طِباقاً » على سبع أرضين بين كل أرض وأرض وسماء خلق وأمر .
وقوله : { أَلَمْ تَرَوْاْ } ، على جهة الإخبار ، لا المعاينة كما تقول : ألمْ ترنِي كيف صنعتُ بفلان كذا ، و « طِبَاقاً » نصب على أنه مصدر طابقه طباقاً ، أو حال بمعنى : « ذات طباقٍ » ، فحذف « ذات » وأقام « طِباقاً » مقامه ، وتقدم الكلامُ عليه في سورة « الملك » .
وقال مكيّ : وأجاز الفرَّاء في غير القرآنِ جر « طِباق » على النعت ل « سماوات » .
يعني أنه يجوز أن يكون صفة للعدد تارة وللمعدود أخرى .
قوله : { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً } ، أي : في السماوات ، والقمر إنَّما هو في سماءٍ واحدةٍ منهن قيل : هو في السماء الدنيا ، وإنَّما جاز ذلك لأن بين السماواتِ ملابسة فصح ذلك ، وتقول : زيد في المدينة ، وإنَّما هو في زاوية من زواياها .
وقال ابن كيسانِ : إذا كان في إحداهنَّ فهو فيهنَّ .
وقال قطرب : « فِيهِنَّ » بمعنى : « مَعهُنَّ » .
وقال الكلبيُّ : أي : خلق الشمس والقمر مع خلق السماوات والأرض .
وقال جُلُّ أهل اللغةِ في قول امرىء القيس : [ الطويل ]
4881 - وهَلْ يَنعَمَنْ مَنْ كَانَ آخِرُ عَهدِهِ ... ثَلاثِينَ شَهْراً في ثلاثةِ أحْوالِ
« في » بمعنى : « مَعَ » .
وقال النحاس : سألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية . فقال : جوابُ النحويين : أنه إذا جعله في إحداهن ، فقد جعله فيهن ، كما تقول : أعطني الثيابَ المعلمة ، وإن كنت إنما أعلمت أحدها .
وجواب آخر : أنه يروى أنه وجه القمر إلى داخل السماء ، وإذا كان إلى داخلها فهو متصل بالسماوات ، ومعنى : « نُوْراً » ، أي : لأهل الأرض ، قاله السدي .
وقال عطاءُ : نورٌ لأهل السماوات والأرض .
وقال ابن عباس وابن عمر : وجهه يضيء لأهل الأرض ، وظهره يضيء لأهل السماء .
قوله : { وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } .
يحتمل ان يكون التقدير : وجعل الشمس فيهن - كما تقدم - والشمس ، قيل : في الرابعة ، وقيل : في الخامسة ، وقيل : في الشتاء في الرابعة وفي الصيف في السابعة والله أعلم .
وقوله : « سِراجَاً » . يعني مصباحاً لأهل الأرض ، ليتوصلوا إلى التصرف لمعايشهم ، وفي إضاءتها لأهل السماء ، القولان الأولان ، حكاه الماورديُّ .
وحكى القشيريُّ عن ابن عباسٍ : أن الشمس وجهه في السماوات وقفاه في الأرض .
وقيل : على العكس .
وقيل لعبد الله بن عمر : ما بالُ الشمس تقلينا أحياناً وتبرد علينا أحياناً؟ .
فقال : إنَّها في الصيف في السماء الرابعة ، وفي الشتاء في السماء السابعة عند عرش الرحمنِ ، ولو كانت في السَّماء الدنيا ، لما قام لها شيء .
ولما كانت الشمس سبباً لزوال الليلِ وهو ظل الأرض أشبهت السِّراجَ ، وأيضاً فالسراجُ له ضوءٌ والقمرُ له نورٌ ، والضوء أقوى من النور ، فجعل للشمس كما قال { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً } [ يونس : 5 ] .
قوله : { والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } . يعني آدمَ - عليه الصلاة والسلام - خلقه من أديم الأرض كلِّها ، قاله ابن جريج . وقد تقدم بيانه .
و « نَبَاتاً » . إما مصدر ل « أنبت » على حذف الزوائد ، ويسمى اسم مصدر ، لأن مصدر « أنْبَتَ » « إنباتاً » فجعل الاسم الذي هو النباتُ في موضع المصدر وإمَّا ب « نَبَتُّمْ » مقدراً ، أي : « فَنَبَتُّمْ نَبَاتاً » ، فيكون منصوباً بالمضارع المقدر .
قال الزمشخريُّ : أو نصب ب « أَنْبَتَكُمْ » لتضمنه معنى : « نَبَتُّمْ » .
قال أبو حيَّان : ولا أعقل معنى هذا الوجه بالثاني .
قال شهابُ الدين : هذا الوجه المتقدم ، وهو أنه منصوب ب « أَنْبَتَكُمْ » على حذف الزوائد ومعنى قوله : لتضمنه معنى « نَبَتُّمْ » ، أي : مشتمل عليه ، غاية ما فيه أنه حذفت زوائدهُ .
قال القرطبيُّ : « وقال الخليلُ والزجاجُ : إنه محمول على المعنى ، لأن معنى » أنْبتَكُم « جعلكم تنبتون نباتاً .
وقيل : معناه أنبت لكم من الأرض النبات ، ف » نَبَاتاً « على هذا نصب على المفعول الصريح ، والأول أظهر » .
قال ابن بحر : أنبتكم في الأرض بالكبر بعد الصغر ، وبالطول بعد القصر ، ثم يعيدكم فيها ، أي عند موتكم بالدفن { وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } بالنشور والبعث يوم القيامة .
والإنبات : استعارة بليغة ، قيل : المراد أنبت أباكم .
وقيل : المراد أنبت الكلَّ لأنهم من النطف ، وهي من الأغذية التي أصلها الأرض ، وهذا كالتفسير لقوله : { خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } ، ثم قال : { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } ، وهذا إشارة إلى الطريقة المعهودة في القرآن ، من أنه تعالى لما كان قادراً على الابتداء ، فهو قادر على الإعادة ، وقوله : { وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } ، أكده بالمصدر فإنه قال : يخرجكم حتماً لا محالة .
قوله : { والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً } ، أي : مبسوطة .
{ لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } أي : طرقاً واسعة ، والسُّبُل : الطرقُ ، والفجاجُ : جمع فجٍّ ، وهو الطريق الواسعة ، قاله الفراءُ .
وقيل : الفَجُّ : المسلك بين الجبلين ، وفي « الأنبياء » ، قدَّم الفجاج لتناسب الفواصل . وقد تقدم الكلام على ذلك .
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
قوله : { قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً } .
ذكر أولاً أنهم عصوا ثم ذكر أنهم ضموا إلى عصيانه طاعة رؤسائهم الذين يدعونهم إلى الكفر ، إنما زادهم أموالهم ، وأولادهم خساراً؛ لأنهم سبب لخسارة الآخرة ، والدنيا في جنب الآخرة كالعدم ، فإذا خسرت الآخرة بسببها كانت كاللُّقمةِ من الحلوى مسمومة؛ ولذلك قال جماعة : ليس لله على الكافر نعمة ، وإنَّما هي استدراج للعذابِ .
قال المفسِّرون : لبث فيهم نوحٌ - عليه السلام - كما أخبر الله تعالى ألف سنةٍ إلاِّ خمسين عاماً داعياً لهم وهم على كفرهم وعصيانهم .
قال ابنُ عباس : دعا نوحٌ الأبناءَ بعد الآباءِ ، فكان الآباءُ يأتون بأولادهم إلى نوح - عليه الصلاة والسلام - ويقولون لأبنائهم : إياكم وأن تطيعوا هذا الشيخ؛ فيما يأمركم به ، حتى بلغوا سبع قرونٍ ، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم ، ولبث بعد الطوفان ستين عاماً ، حتى كثر الناس وفشوا .
قال الحسن : كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين ، حكاه الماورديُّ .
قوله « وولده » قرأ أهل « المدينة » و « الشام » وعاصم : « وَوَلَدُه » بفتح اللام والواو .
والباقون : « وَوُلْدُهُ » بضم الواو وسكون اللام ، وقد تقدم أنهما لغتان ك « بَخَل وبُخْل » .
قال أبو حاتم : ويمكن أن يكون المضموم جمع المفتوح ك « خَشَب وخُشْب » .
وأنشد لحسَّانٍ : [ الكامل ]
4882 - يَا بِكْرَ آمنةَ المُباركِ وُلْدُهَا ... مِنْ وُلدِ مُحْضنةٍ بِسعْدِ الأسْعَدِ
قوله : { وَمَكَرُواْ } ، عطف على صلة « من » لأن المتبوعين هم الذين مكروا .
{ وَقَالُواْ } للإتباع : { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ } ، وإنَّما جمع الضمير حملاً على المعنى ، بعد حملها على لفظها في { لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ } ، يجوز أن يكون مستأنفاً إخباراً عن الكفار .
قوله « كُبَّاراً » ، العامة : على ضم الكاف وتشديد الباء ، وهو بناء مبالغة أبلغ من « كُبَار » بالضم والتخفيف .
قال عيسى : وهي لغةٌ يمانية؛ وأنشد : [ الكامل ]
4883 - والمَرْءُ يُلحِقُهُ بِفِتْيانِ النَّدى ... خُلقُ الكَريمِ وليْسَ بالوُضَّاءِ
وقول الآخر : [ الكامل ]
4884 - بَيْضَاءُ تَصْطادُ الغَوِيَّ وتَسْتَبِي ... بالحُسْنِ قَلْبَ المُسْلِمِ القُرَّاءِ
ويقال : رجل طُوَّال ، وجميل ، وحُسَّان ، وعظيم ، وعُظَّام .
وقرأ ابن عيسى وابن محيصن وأبو السمال وحميد ومجاهد : بالضم والتخفيف ، وهو بناء مبالغة أيضاً دون الأول .
وقرأ زيد بن علي وابن محيصن أيضاً : بكسر الكاف وتخفيف الباء .
قال أبو بكر : هو جمع كبير ، كأنه جعل « مَكْراً » ، مكان « ذُنُوب » ، أو « أفاعيل » يعني فلذلك وصفه بالجمع .
فصل في المقصود بالمكر في الآية
قيل مكرهم : هو تحريشهم سفلتهم على قتل نوح .
وقيل : هو تعزيزهم الناس بما أوتوا من الدنيا ، والولد ، حتى قالت الضعفة : لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النِّعمَ .
وقال الكلبيُّ : هو ما جعلوه لله من الصاحبة والولد ، وهذا بعيد ، لأن هذا إنما قاله النصارى وهم بعد قوم نوح عليه السلام بأزمان متطاولة .
وقال مقاتل : هو قول كبرائهم لأتباعهم : { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } ، فمنعوا القوم عن التوحيد وأمروهم بالشرك ، واعلم أنه لما كان التوحيد أعظم المراتب ، لا جرم كان المنعُ منه أعظم الكبائر ، فلهذا وصفه اللَّهُ تعالى بأنه كبار .
قال ابن الخطيب : وإنَّما سماه مكراً لوجهين :
الأول : لما في إضافة الآلهة إليهم من الحيل الموجبة ، لاستمرارهم على عبادتها؛ لأنها معبود آبائهم ، فلو قبلتم قول نوحٍ لاعترفتم على أنفسكم بأنكم كنتم جاهلين ضالين ، وعلى آبائكم بأنهم كانوا كذلك ، ولما كان اعتراف الإنسانِ على نفسه وعلى أسلافه بالقصور والنقص والجهل بهذه الكلمة وهي لفظة « آلهتكم » وصدفكم عن الدين؛ فلهذه الحجة الخفية سمّى الله كلامهم مكراً .
الثاني : أنه تعالى حكى عن المتبوعين أنهم كان لهم مال وولد ، فلعلهم قالوا لأتباعهم : إن آلهتكم خير من إله نوح؛ لأن آلهتكم يعطونكم المال والولد ، وإله نوح [ لا يعطيه شيئاً لأنه فقير ] فصرفوهم بهذا المكر عن طاعة نوح ، وهو مثل مكر فرعون إذ قال : { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ } [ الزخرف : 51 ] ، وقوله { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ } [ الزخرف : 52 ، 53 ] .
قوله : { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً } [ نوح : 23 ] يجوز أن يكون من عطف الخاص على العام ، إن قيل : إن هذه الأسماء لأصنام ، وألا يكون إن قيل : إنها أسماء رجال صالحين على ما ذكر المفسِّرون .
وقرأ نافع : « وُدّاً » بضم الواو ، والباقون : بفتحها .
وأنشد بالوجهين قول الشاعر : [ البسيط ]
4885 - حَيَّاكَ وُدٌّ فإنَّا لاَ يَحِلُّ لَنَا ... لَهْوُ النِّساءِ ، وإنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا
وقول الآخر : [ الطويل ]
4886 - فَحيَّاكَ وُدُّ مَنْ هداكَ لعِسِّهِ ... وخُوص بأعْلَى ذِي فَضالة هجِّه
قال القرطبي : قال الليث : « وَدٌّ » - بفتح الواو - صنم كان لقوم نوح ، و « وُدّ » - بالضم - صنم لقريش ، وبه سمي عمرو بن عبد ود .
وفي الصحاح : « والوَدُّ » بالفتح : الوتد في لغة أهل نجد ، كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال . والود في قول امرىء القيس : [ الرمل ]
4887 - تُظْهِرُ الوَدَّ إذَا مَا أشْجَذتْ ... وتُواريهِ إذَا ما تَشْتَكِرْ
قال ابن دريدٍ : هو اسم جبلٍ .
و « ود » : صنم كان لقوم نوح - عليه الصلاة والسلام - ثم صار لكلب ، وكان بدومةِ الجَندلِ ، ومنه سموا بعبد ودّ .
قوله : { وَلاَ يَغُوثُ وَيَعُوقَ } . قرأهما العامة بغير تنوين ، فإن كانا عربيين : فالمنع من الصرف للعلمية والوزن ، وإن كانا أعجميين : فالعجمة والعلمية .
وقرأ الأعمش : « ولا يغوثاً ويعوقاً » مصروفين .
قال ابن عطية : « وذلك وهم ، لأن التعريف لازم ووزن الفعل » . انتهى .
قال شهاب الدين : وليس بوهم لأمرين :
أحدهما : أنه صرفهما للتناسب إذ قبلهما اسمان مصروفان وبعده اسم مصروف كما صرف « سَلاسِل » .
والثاني : أنه جاء على لغة من يصرف غير المنصرف مطلقاً ، وهي لغة حكاها الكسائي ، ونقل أبو الفضل : الصرف فيهما عن الأشهب العقيلي ، ثم قال : جعلهما « فعولاً » ، فلذلك صرفهما ، فأما في العامة : فإنهما صفتان من الغوثِ والعوقِ .
قال شهاب الدين : « وهذا كلامٌ مشكلٌ ، أما قوله : » فعولاً « فليس بصحيح ، إذ مادة يغث ويعق مفقودة ، وأما قوله : صفتان من الغوث والعوق ، فليس في الصفات ولا في الأسماء » يفعل « والصحيح ما قدمته » .
وقال الزمخشريُّ : وهذه قراءة مشكلة لأنهما إن كانا عربيين أو أعجميين ، ففيهما المنع من الصرف ، ولعله وجد الازدواج ، فصرفهما لمصادفته أخواتهما منصرفات : ودّاً وسواعاً ونسراً ، كما قرىء { وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] بالإمالة لوقوعه مع الممالات للازدواجِ .
قال أبو حيَّان : كأنه لم يطلع على أن صرف ما لا ينصرف لغة .
فصل في بيان هذه الأسماء .
قال ابن عبَّاس وغيره : وهي أصنامٌ ، وصور كان قوم نوحٍ يعبدونها ، ثم عبدتها العربُ ، وهذا قول الجمهورِ .
وقيل : إنَّها للعربِ لم يعبدها غيرهم ، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم ، فلذلك خصُّوا بالذكر بعد قوله : { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً } .
وقال عروة بن الزبير : اشتكى آدمُ - عليه الصلاة والسلام - وعند بنوه : ود ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسر ، وكان ود أكبرهم ، وأبرّهم به .
قال محمد بن كعب ، كان لآدمَ خمس بنينَ : ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وكانوا عُبَّاداً ، فمات رجل منهم فحزنوا عليه ، فقال الشيطان : أنا أصور لكم مثله ، إذا نظرتم إليه ذكرتموه ، قالوا : افعل ، فصوّره في المسجدِ ، من صفر ورصاصٍ ، ثم مات آخرُ ، فصوره حتى ماتوا كلُّهم ، وصوروهم وتناقصت الأشياءِ كما ينقص اليوم إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين ، فقال لهم الشيطان : ما لكم لا تعبدون شيئاً؟ .
قالوا : وما نعبدُ؟
قال آلهتكم وآلهة آبائكم ، ألا ترونها في مصلاكم؟ فعبدوها من دون الله ، حتى بعث الله نوحاً ، فقالوا : { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً } الآية .
وقال محمد بن كعبٍ أيضاً ومحمد بن قيس : بل كانوا قوماً صالحين ، بين آدم ونوح وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا زيَّن لهم إبليس أن يصوروا صورهم؛ ليتذكروا بها اجتهادهم ، وليتسلوا بالنظر إليها فصوّروهم ، فلما ماتوا هم وجاء آخرون قالوا : ليت شعرنا ، وما هذه الصورُ التي كان يعبدها آباؤنا؟ فجاءهم الشيطان فقال : كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم وتسقيهم المطر ، فعبدوها فابتدىء عبادة الأوثان من ذلك الوقت .
وبهذا المعنى فسر ما جاء في الصحيحين من حديث عائشةَ : « أنّ أم حبيبةَ وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة ، تسمى مارية فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إنَّ أولئِكَ كَانَ إذَا مَاتَ فيهِم الرَّجلُ الصَّالحُ ، بَنَوا على قَبْرهِ مَسْجداً ، ثُمَّ صوَّرُوا فِيْهِ تِلكَ الصُّورَ أولئك شِرارُ الخَلقِ عند اللَّهِ يَوْمَ القِيَامةِ «
وذكر الثعلبيُّ عن ابن عباس قال : هذه الأصنام أسماء رجال صالحين ، من قوم نوح فلمَّا هلكوا أوحى الشيطانُ إلى قومهم أن ينصبوا في مجالسهم أنصاباً ، ويسمونها بأسمائهم
وهذا بعيدٌ ، لأن نوحاً - عليه الصلاة والسلام - هو الآمرُ لهم بتركها وذلك يدل على أنَّهم كانوا قبل نوحٍ ، حتى أرسلَ نوحٌ إليهم .
وروي عن ابن عباس : أنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - كان يحرس جسد آدمَ - عليه الصلاة والسلام - على جبل الهند فيمنع الكافرينَ أن يطوفوا بقبره ، فقال لهم الشيطانُ : إن هؤلاء ، يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم ، وإنما هو جسد ، وأنا أصوّر لكم مثله تطوفون به ، فصوَّر لهم هذه الأصنام الخمسة ، وحملهم على عبادتها ، فلمَّا كان أيام الطوفانِ دفنها الطين ، والتراب ، والماء ، فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطانُ لمشركي العرب وكانت للعربِ أصنام أخر ، فاللات كانت لقديد ، وأساف ونائلة وهبل ، لأهل مكة .
قال الماورديُّ : فما » ود « فهو أول صنم معبود سمي » ودّاً « لودهم له ، وكان بعد قوم نوح لكلب بدومةِ الجندلِ ، على قول ابن عباس وعطاء ومقاتل؛ وفيه يقول شاعرهم : [ البسيط ]
4888 - حَيَّاكَ وُدٌّ فإنَّا لا يحلُّ لَنَا ... لَهْوُ النِّساءِ وإنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا
وأما » سُواع « فكان لهذيل بساحل البحر في قولهم .
وقال ابن الخطيب : » وسُواع لهمدَان « .
وأما » يَغُوثُ « فكان لقطيف من مراد بالجوف من سبأ ، في قول قتادة .
وقال المهدويُّ : لمراد ثم لغطفان .
وقال الثعلبيُّ : واتخذت - أعلى وأنعم - وهما من طيىء ، وأهل جرش من مذحج يغوث ، فذهبوا به إلى مراد ، فعبدوه زماناً ، ثُمَّ بَنِي ناجية ، أرادوا نزعه من » أنعم « ففروا به إلى الحصين أخي بني الحارث بن كعب بن خزاعة . ؟
وقال أبو عثمان المهدويُّ : رأيت » يغُوث « وكان من رصاص ، وكانوا يحملونه على جمل أجرد ، ويسيرون معه ولا يهيجونه ، حتى يبرك بنفسه ، فإذا برك نزلوا ، وقالوا : قد رضي لكم المنزل فيه فيضربون عليه بناء ، وينزلون حوله .
وأما » يعوق « فكان لهمدان ببلخ ، في قول عكرمة وقتادة وعطاء ، ذكره الماورديُّ .
وقال الثعلبيُّ : وأما » يعوق « فكان لكهلان من سبأ ، ثم توارثه بنوه الأكبر فالأكبر ، حتى صار في الهمداني .
وفيه يقول غط الهمداني : [ الوافر ]
4889 - يَرِيشُ اللَّهُ في الدُّنيَا ويَبْرِي ... ولا يَبْرِي يعُوقُ ولا يَرِيشُ
وقيل : كان « يَعُوق » لمراد؛ وأما « نَسْر » ، فكان لذي الكلاع من حمير ، في قول قتادة ومقاتل .
وقال الواقدي : كان « ودّ » على صورة رجلٍ ، و « سُواع » على صورة امرأة ، و « يَغُوث » على صورة أسد ، و « يعوق » على سورة فرس ، و « نَسْر » على سورة نسر من الطير ، والله أعلم . قوله : { وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً } ، أي : الرؤساء فهو عطف على قوله : { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } ، أو الأصنام ، وجمعهم جمع العقلاءِ ، معاملة لهم معاملة العقلاء لقوله تعالى : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس } [ إبراهيم : 36 ] .
قوله : { وَلاَ تَزِدِ الظالمين } . عطف على قوله : { رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي } [ على حكاية كلام نوح بعد « قال » وبعد الواو النائبة عنه ، أي قال : إنهم عصوني ] ، وقال : « لا تَزِد » ، أي : قال هذين القولين ، فهما في محل نصب ، قاله الزمخشريُّ . قال : « كقولك : قال زيد نودي للصلاة ، وصلِّ في المسجد يحكي قوليه ، معطوفاً أحدهما على صاحبه » .
وقال أبو حيَّان : « ولا تَزِد » معطوف على « قَدْ أضلُّوا » لأنها محكية ب « قَالَ » مضمرة ، ولا يشترط التناسب في الجمل المتعاطفة ، بل تعطف خبراً على طلب ، وبالعكس خلافاً لمن اشترط ذلك .
فصل في معنى « إلا ضلالاً »
معنى قوله : { إِلاَّ ضَلاَلاً } .
قال ابن بحر : أي إلا عذاباً ، لقوله تعالى : { إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } [ القمر : 47 ] .
وقيل : إلاَّ خسراناً .
وقيل : إلاَّ فتنة بالمال .
قوله : { مِّمَّا خطيائاتهم } . « مَا » مزيدة بين الجار والمجرور للتوكيد ، ومن لم ير زيادتها جعلها نكرة ، وجعل « خَطِيئَاتهِم » بدلاً وفيه تعسف .
وتقدم الخلاف في قراءة « خَطِيئاتِهِم » في « الأعراف » .
وقرأ أبو رجاء : « خطيّاتهم » جمع سلامة إلاَّ أنه أدغم الياء في الياء المنقلبة عن الهمزة .
وقال أبو عمرو : قوم كفروا ألف سنةٍ فلم يكن لهم إلاَّ خطيَّات ، يريد أنَّ الخطايا أكثر من الخطيَّات .
وقال قوم : خطايا وخطيات ، جمعان مستعملان في القلة ، والكثرة ، واستدلوا بقول الله تعالى : { مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله } [ لقمان : 27 ] .
وقال الشاعر : [ الطويل ]
4890 - لَنَا الجَفنَاتُ الغُرّ يَلْمَعْنَ بالضُّحَى ... وأسْيَافُنَا يَقْطُرنَ مِنْ نَجْدةٍ دَمَا
وقرأ الجحدريُّ وتروى عن أبيِّ « خطيئتهم » بالإفراد ، والهمز .
وقرأ عبد الله « مِنْ خَطيئاتِهم مَا أغْرِقُوا » ، فجعل « ما » المزيدة بين الفعلِ وما يتعلق به .
و « من » للسببية تتعلق ب « أغْرقُوا » .
وقال ابنُ عطية : لابتداء الغايةِ ، وليس بواضح .
وقرأ العامةُ : « أغرقوا » من « أغرق » .
وزيد بن علي : « غُرِّقُوا » بالتشديد .
وكلاهما للنقل ، تقول : « أغرقت زيداً في الماء ، وغرَّقته به » .
فصل في صحة « عذاب القبر »
قال ابن الخطيب : دل قوله : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } ، على إثبات عذاب القبر لأنه يدل على أنه حصلت تلك الحالة عقيب الإغراق ، ولا يمكن حمل الآية على عذاب الآخرة وإلاَّ بطلت دلالة هذه الفاء ، وأيضاً فقوله « فأدْخِلُوا » يدل على الإخبار عن الماضي ، وهذا إنَّما يصدق لو وقع ذلك ، وقال مقاتل ، والكلبيُّ : معناه أنهم سيدخلون في الآخرة ناراً ، ثم عبر عن المستقبل بلفظ الماضي؛ لصدق وقوع وعده كقوله : { ونادى أَصْحَابُ الجنة } [ الأعراف : 44 ] .
قال ابن الخطيب : وهذا ترك للظاهر ، من غير دليل ، فإن قيل : إنما تركنا الظاهر لدليل ، وهو أن من مات في الماء ، فإنا نشاهده هناك ، فكيف يمكن أن يقال : إنهم في تلك الساعة أدخلوا ناراً؟ فالجواب : إن هذا الإشكال ، إنَّما جاء لاعتقاد أنَّ الإنسان هو مجموعُ هذا الهيكل ، وهذا خطأ لأن الإنسان هو الذي كان موجوداً من أول عمره ، مع أنَّه كان صغير الجثَّة في أول عمره ، ثم إن أجزاءه دائماً في التحلل والذوبان ، ومعلوم أن الباقي غير المتبدل ، فهذا الإنسانُ عبارة عن ذلك الشيء الذي هو باقٍ ، من أول عمره إلى الآن ، فلمَ لا يجوز أن يقال : نقل الأجزاء الباقية الأصلية التي في الإنسان عبارة عنها إلى النار وإلى العذاب .
ونقل القرطبيُّ عن القشيري أنه قال : هذه الآية تدل على عذاب القبرِ ، ومنكروه يقولون : صاروا مستحقين دخول النار ، أو عرض عليهم أماكنهم من النار ، كقوله تعالى : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] .
وقيل : أشار إلى ما في الخبر من قوله : « البحرُ نارٌ في نارِ » .
وروى أبو روق عن الضحاك في قوله تعالى : { أَغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } ، قال : يعني عذبوا بالنار في الدنيا في حالة واحدة ، كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في الماء من جانب . ذكره الثعلبي .
وأنشد ابن الأنباري : [ البسيط ]
4891 - الخَلْقُ مُجتمِعٌ طَوْراً ومُفْتَرِقٌ ... والحَادثَاتُ فُنونٌ ذاتُ أطوَارِ
لا تَعْجَبنَّ لأضْدادٍ قَد اجْتمَعَتْ ... فاللَّهُ يَجْمَعُ بينَ المَاءِ والنَّارِ
قال المعربون : « فأدخلُوا » يجوز أن يكون من التعببير عن المستقبل بالماضي ، لتحقق وقوعه كقوله : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] ، وأن يكون على بابه ، والمراد عرضهم على النَّار في قبورهم كقوله في آل فرعون : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] .
قوله : { فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ الله أَنصَاراً } ، أي : من يدفع عنهم العذاب ، وهذا يدل على أنهم إنما عبدوا تلك الأصنام لتدفع عنهم الآفاتِ ، وتجلب المنافع إليهم فلما جاءهم العذاب لم ينتفعوا بتلك الأصنام ، ولم يدفعوا عنهم العذاب وهو كقوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا } [ الأنبياء : 43 ] .
{ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } .
قال الزمخشريُّ : « ديَّاراً » من الأسماء المستعملة في النفي العام ، يقال : ما بالدار ديار وديور ، كقيَّام وقيُّوم ، وهو « فَيْعَال » من الدارة أصله : « ديْوَار » ففعل به ما فعل بأصل « سيِّد وميِّت » ولو كان « فَعَّالاً » لكان « دوَّاراً » انتهى .
يعني أنه كان ينبغي أن تصح واوهُ ولا تقلب ياء ، وهذا نظير ما تقدم له من البحث في « مُتَحيِّز » وأن أصله : « مُتَحَيْوز » لا « مُتَفعِّل » إذ كان يلزم أن يكون « متحوِّزاً » لأنه من « الحَوْز » ويقال فيه أيضاً : « دَوَّار » نحو « قيَّام وقوَّام » .
وقال مكيٌّ : وأصله « ديْوَار » ثم أدغموا الواو في الياء مثل « ميِّت » أصله « ميْوِت » ثم أدغموا الثاني في الأول ، ويجوز أن يكون أبدلوا من الواو ياء ، ثم أدغموا الياء الأولى في الثانية .
قال شهاب الدين : قوله أدغموا الثاني في الأول ، هذا لا يجوز؛ إذ القاعدة المستقرة في المتقاربين قلب الأول لا الثاني ، ولا يجوز العكسُ إلا شذوذاً أو لضرورة صناعية ، أما الشذوذ فكقوله : { واذَّكَرَ } [ يوسف : 45 ] بالذال المعجمة ، و { فهل من مُذَّكر } [ القمر : 15 ] بالذال المعجمة أيضاً وأما الضرورة الصناعية فنحو : امدح هذا ، لا تقلب الهاء حاء ، لئلا يدغم الأقوى في الأضعف وهذا يعرفه من عانى التصريف ، والديار : نازل الدار ، يقال : ما بالدار ديار ، وقيل : الديار صاحب الدار .
وقال البغويُّ : « الدَّيارُ يعني أحداً يدور في الأرض ، فيذهب ويجيء » فعَّال « من الدوران » .
فصل في دعاء نوح على قومه
لما أيس نوح - عليه الصلاة والسلام - من أتباعهم إياه دعا عليهم .
قالت قتادة : دعا عليهم بعد أن أوحى الله إليه { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [ هود : 36 ] ، فأجاب الله دعوته وأغرق أمته ، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم : « اللَّهُمَّ مُنزِلَ الكتابِ هَازِم الأحزابِ ، اهْزمهُم وزلْزلهُمْ » .
وقيل : سبب دعائه أنَّ رجلاً من قومه حمل ولداً صغيراً على كتفهِ فمرَّ بنوحٍ ، فقال : احذر هذا فإنه يضلك ، فقال : يا أبتِ ، أنزلني فأنزله فرماه فشَجَّه ، فحينئذ غضب ودعا عليهم .
وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد : إنَّما قال هذا ، حين أخرج اللَّهُ كلَّ مؤمنٍ من أصلابهم وأرحام نسائهم ، وأعقم أرحام أمهاتهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة ، وقيل : بسبعين سنة ، فأخبر اللَّهُ نوحاً أنهم لا يؤمنون ، ولا يلدون مؤمناً كما قال تعالى : { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [ هود : 36 ] ، فحنيئذ دعا عليهم نوحٌ ، فأجاب اللَّهُ دعاءَ فأهلكهم كلَّهم ، ولم يكن فيهم صبي وقت العذابِ ، لأن الله تعالى قال : { وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل أَغْرَقْنَاهُمْ } [ الفرقان : 37 ] . ولم يوجد التكذيب من الأطفال .
فصل في بيان أنه لا يدعى على كافر معين
قال ابن العربي : دعا نوح على الكافرين أجمعين ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على من تحزب على المؤمنين وألّبَ عليهم ، وكان هذا أصلاً في الدعاء على الكافرين في الجملة فأمَّا كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه؛ لأن مآله عندنا مجهول ، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء على عُتبةَ وشَيبَةَ وأصحابه لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم . والله أعلم .
قوله : { رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ } .
العامة : على فتح الدال على أنه تثنية والد؛ يريد : أبويه .
واسم أبيه : لملك بن متوشلخ ، واسمه أمه : شمخى بنت أنوش ، وكانا مؤمنين .
وحكى الماورديُّ : اسم أمه : منجل .
وقرأ الحسن بن علي - رضي الله عنهما - ويحيى بن يعمر والنخعيُّ : ولولدي ، تثنية ولد يعني : ابنيه ساماً وحاماً .
وقرأ ابن جبير والجحدري : « ولوالدِي » - بكسر الدال - يعني أباه .
فيجوز أن يكون أراد أباه الأقرب الذي ولده ، وخصَّه بالذَّكر لأنه أشرف من الأم ، وأن يريد جميع من ولده من لدن آدم إلى زمن من ولده .
قال الكلبيُّ : كان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم مؤمن .
وذكر القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لم يكفر لنوح والد فيما بينه وبين آدم عليهما الصلاة والسلام .
قوله { وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً } .
قال ابن عباس رضي الله عنه : أي : مسجدي ومصلاي ، « مُؤمِناً » ، أي : مُصدِّقاً بالله ، ف « مُؤمِناً » حال ، وكان إنما يدخل بيوت الأنبياء من آمن بهم ، فجعل المسجد سبباً للدعاء بالمغفرة .
وقيل : المراد بقوله « بيتي » ، أي : سفينتي .
وقال ابن عباس : أي : دخل في ديني .
فإن قيل : فعلى هذا يصير قوله : « مُؤمِناً » مكرراً .
فالجواب : إنَّ من دخل في دينه ظاهراً قد يكون مُؤمناً ، وقد لا يكون مؤمناً ، فالمعنى : ولمن دخل دخولاً مع تصديق القلبِ .
قوله : { وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } ، خصَّ نفسه أولاً بالذكر والدعاء ، ثم المتصلين به لأنَّهم أولى ، وأحق بدعائه ، ثم عمَّ المؤمنين ، والمؤمناتِ إلى يوم القيامة ، قاله الضحاك .
وقال الكلبيُّ : من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم .
وقيل : من قومه ، والأول أظهر ، ثم ختم الكلام مرةً أخرى بالدعاءِ على الكافرين [ فقال : { وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً } ، أي : هلاكاً ، ودماراً ، والمراد بالظالمين : الكافرين ] فهي عامة في كل كافر ومشرك .
وقيل : أراد مشركي قومه ، و « تَبَاراً » مفعول ثاني ، والاستثناءُ مفرغ ، والتبار : كل شيء أهلك فقد تبر ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ } [ الأعراف : 139 ] .
وقيل : التَّبارُ الخُسران .
قال المفسّرون : فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم .
روى الثعلبيُّ عن أبيِّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورةَ نُوحٍ ، كَانَ مَنَ المُؤمِنْينَ الَّذينَ تُدركُهمْ دَعْوَة نُوحٍ عليْهِ السَّلامُ » .
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
قوله : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ } ، هذه قراءةُ العامة ، أعني كونها من « أوْحَى » رباعياً .
وقرأ العتكي عن أبي عمرو وابن أبي عبلة وأبو إياس : « وَحَى » ثلاثياً .
وهما لغتان ، يقال : وَحَى إليه كذا وأوحى إليه بمعنى واحد ، فقلبت الواو همزة ، ومنه قوله تعالى : { وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ } [ المرسلات : 11 ] ؛ وأنشد العجاج : [ الرجز ]
4892 - وحَى لَهَا القَرارَ فاسْتَقَرَّتِ ... وقرأ زيد بن علي والكسائي في رواية وابن أبي عبلة أيضاً : « أُحي » بهمزة مضمومة لا واو بعدها ، وخرجت على أن الهمزة بدلٌ من الواو المضمومة ، نحو « أعد » في « وَعَد » فهذا فرع قراءة « وَحَى » ثلاثياً .
قال الزمخشريُّ : وهو من القلب المطلق جواباً في كل واو مضومة ، وقد أطلقه المازنيُّ في المكسورة أيضاً : ك « إشاح ، وإسادة » ، و « إعاء أخيه » [ يوسف : 76 ] .
قال أبو حيَّان : وليس كما ذكر بل في ذلك تفصيل ، وذلك أن الواو المضمومة قد تكون أولاً ، وحشواً ، وآخراً ، ولكل منها أحكام ، وفي بعض ذلك خلاف ، وتفصيل مذكور في كتب النحو . وتقدم الكلام في ذلك مشبعاً في أول الكتاب .
ثم قال أبو حيَّان بعدما تقدم عن المازنيِّ : وهذا تكثير وتبجح .
قوله : { أَنَّهُ استمع } ، هذا هو القائمُ مقام الفاعل لأنَّه هو المفعول الصريحُ ، وعند الكوفيين والأخفش يجوز أن يكون القائمُ مقامه الجار ، والمجرور ، فيكون هذا باقياً على نصبه ، والتقدير : أوحي إليَّ استماع نفرٍ « من الجن » صفة ل « نَفَر » .
فصل في تفسير الآية
قال ابن عباس وغيره : قل يا محمد لأمَّتك أوحِيَ إليَّ على لسانِ جبريل ، أنَّه استمع نفرٌ من الجنِّ ، والنَّفرُ : الجماعةُ ما بين الثلاثة إلى العشرة ، واختلفوا ، هل رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ .
فظاهرُ القرآن يدل على أنَّه لم يرهم لقوله تعالى : { أَنَّهُ استمع } ، وقوله : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن } [ الأحقاف : 29 ] .
وفي صحيح مسلم ، والترمذي عن ابن عباسٍ قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشيطان ، وبين خبر السماء ، وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطينُ إلى قومهم فقالوا : ما لكم؟ .
فقالوا : حِيْلَ بيننا وبين خبر السماءِ ، وأرسلت علينا الشهب قالوا : ما ذلك إلا من شيء حدث ، فاضربوا في مشارق الأرض ومغاربها ، فمرَّ النفرُ الذين أخذوا نحو « تهامة » وهو وأصحابه بنخلة قاصدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه الفجر فلمَّا سمعوا القرآن قالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ، فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } فأنزل الله على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن } الآية .
قال القرطبيُّ : وفي هذا الحديث دليلٌ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يرَ الجنَّ ولكن حضروه وسمعوا قرآنه .
فإن قيل : الذين رموا بالشُّهب هم الشياطينُ والذين سمعوا القرآن هم الجنُّ ، فما وجه الجمع؟ فالجواب من وجهين :
الأول : أنَّ الجن كانوا مع الشياطين ، فلما رمي الشياطين أخذوا الجنَّ الذين كانوا منهم في تجسس الخبرِ .
الثاني : أن الذين رموا بالشهبِ كانوا من الجن ، إلا أنهم قيل لهم : شياطين كما قيل : شياطين الإنس والجنِّ ، فإنَّ الشيطان كل متمرد ، وبعيد من طاعة الله تعالى .
قال ابن الخطيب رحمه الله : واختلف في أولئك الجنِّ الذين سمعوا القرآن من هم؟ .
فروى عاصم عن ذر قال : قدم رهطُ زوبعة وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم ثم انصرفوا ، فذلك قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن } .
وقيل : كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عدداً وعامة جنود إبليس منهم .
وقيل : كانوا سبعة ، ثلاثة من أرض « حرَّان » وأربعة من أرض « نَصِيبينَ » ، : قريِةٌ من قرى اليمن غير التي بالعراق رواه أيضاً عنهم عاصم عن ذر .
وقيل : إنَّ الجنَّ الذين أتوه بمكةَ جنُّ نصيبين ، والذين أتوه بنخلة جنُّ نينَوى .
وقال عكرمةُ : كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل .
ومذهب ابن مسعود أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمسير إليهم ليقرأ القرآن عليهم ويدعوهم إلى الإسلام ، روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أمِرْتُ أن أتْلُوَ القُرآنَ على الجِنِّ فمَنْ يَذْهَبُ مَعِي؟ فَسَكَتُوا ، ثُمَّ قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الثانية : ثُمَّ قال النبي صلى الله عليه وسلم الثالثة ، فقلتُ : أنَا أذْهَبُ مَعَكَ يا رسُولَ اللَّهِ ، فانطلقَ ، حتى أتى الحَجُونَ عند شعب ابن أبي دب خط عليَّ خطّاً فقال : لا تجاوزه ، ثُمَّ مضَى إلى الحَجُونِ فاتَّخَذُوا عليه أمْثَالَ الحجل كأنَّهُم رِجالُ الزُّطِّ ، قال ابنُ الأثير في » النهاية « : » الزّطّ : قومٌ من السودان والهنود « يقرعون في دُفُوفهِمْ ، كما تَقرَعُ النِّسوةُ في دُفُوفِها ، حتَّى غشاهُ ، فغَابَ عنْ بَصرِي ، فقُمْتُ ، فأوْمَأ بيدِه إليَّ أن اجْلِسْ ثُمَّ تلا القرآن صلى الله عليه وسلم فلم يزلْ صوتهُ يَرتفِعُ ، ولصقوا في الأرضِ ، حتَّى صِرْتُ لا أرَاهُمْ » .
وفي رواية أخرى ، « قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ أنْتَ؟ .
قال صلى الله عليه وسلم : أنَا نَبِيٌّ ، قالوا : فَمنْ يَشهَدُ لَكَ على ذَلِكَ؟ .
فقال الحبيب المجتبى صلى الله عليه وسلم : هذه الشَّجرةُ ، تعالي يا شجرةُ فجَاءتْ تجرُّ عُروقهَا لها قعاقعُ ، حتى انتصبتْ بين يديه صلى الله عليه وسلم فقال لها صلى الله عليه وسلم : على ماذا تشهدين فيَّ؟ .
فقالت أشْهَدُ أنَّك رسُولُ الله قال صلى الله عليه وسلم لها : اذْهَبِي ، فَرجعَتْ فذهبت مكانها كَمَا جاءتْ ، حتى صارتْ كما كانتْ .
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : فلمَّا عاد إليَّ قال : أردت أن تأتيني ، قلت : نعم يا رسول الله قال : مَا كَانَ ذلكَ لَكَ ، قال : هؤلاءِ الجِنُّ أتَوا يَسْتمعُونَ القُرآنَ ثُمَّ ولَّوا إلى قَومِهِم مُنْذرينَ ، فَسألُونِي الزَّادَ ، فزوَّدتهُم العَظْمَ والبَعْرَ ، فلا يَسْتطِيبنَّ أحدكُمْ بعَظْمٍ ، ولا بَعْر » .
وفي رواية : « أنَّه صلى الله عليه وسلم لما فرغ وضع رأسهُ صلى الله عليه وسلم على حِجْرِ ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - فرقد ، ثُمَّ استيقظ صلى الله عليه وسلم فقال : هَلْ مِنْ وُضُوءٍ؟
قال : لا ، إلاَّ أنَّ معي إداوة نبيذٍ ، فقال صلى الله عليه وسلم : هَلْ هُو إلاَّ تمرٌ وماء » فَتوضَّأ مِنْهُ « .
قال ابن الخطيب : وطريقُ الجمع بين المذهبين مذهب ابن عباس ومذهب ابن مسعود من وجوه :
أحدها : لعل ما ذكره ابن عباس وقع أولاً فأوحى الله تعالى إليه بهذه السورةِ ، ثم أمر بالخروج إليهم بعد ذلك كما روى ابن مسعود رضي الله عنهما .
وثانيها : أن بتقدير أن تكون واقعة الجن مرة واحدة إلا أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم ، وما عرف أنَّهم ماذا قالوا ، وأي شيءٍ فعلوا ، فالله تعالى أوحى إليه أنه كان كذا وكذا ، وقالوا كذا .
وثالثها : أن الواقعة كانت مرة واحدة ، وهو صلى الله عليه وسلم رآهم ، وسمع كلامهم ، وهم آمنوا به ، ثم رجعوا إلى قومهم ، قالوا لقومهم على سبيل الحكايةِ : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } وكان كذا وكذا فأوحى اللَّهُ تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما قالوه لأقوامهم .
قال ابن العربي : » ابن مسعود أعرفُ من ابن عباس ، لأنه شاهده ، وابن عباس سمعهُ ، وليس الخبرُ كالمعاينة « .
قال القرطبي : وقيل : إن الجنَّ أتوا النبي صلى الله عليه وسلم دفعتين .
أحدهما : بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود .
والثانية : بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس .
قال البيهقيُّ : الذي حكاه عبد الله إنما هو في أول ما سمعت الجنُّ قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمت بحاله ، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه عبد الله بن عباس ثم أتاه داعي الجنِّ مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود .
فصل في لفظ » قل «
قال ابن الخطيب : اعلم أنَّ قوله تعالى : قُلْ » أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يظهر لأصحابه - رضي الله عنهم - ما أوحى إليه تعالى في واقعة الجنِّ ، وفيه فوائد .
أحدها : أن يعرفوا بذلك أنه صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الجن ، كما بعث إلى الإنس .
وثانيها : أن تعلم قريش أنَّ الجنَّ مع تمردهم لما سمعُوا القرآن عرفوا إعجازه فآمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم .
وثالثها : أن يعلم القومُ أنَّ الجنَّ مكلفون كالإنس .
ورابعها : أن تعلم أنَّ الجنَّ يستمعون كلاماً تفهمه من لغتنا .
وخامسها : أن يظهر المؤمنُ منهم بدعوى غيره من الجنِّ إلى الإيمان ، وفي هذه الوجوه مصالحُ كثيرة إذا عرفها الناس .
فصل في بيان أصل الجن
اختلف العلماءُ في أصل الجنِّ ، فروى الحسنُ البصريُّ أنَّ الجنَّ ولد إبليس ، والإنس ولد آدمَ - صلوات الله وسلامه عليه - ومن هؤلاء وهؤلاءِ مؤمنون وكافرون ، وهم شركاء في الثَّواب والعقاب ، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرٌ فهو شيطانٌ ، روى الضحاك عن ابن عباس أن : الجن هم ولد الجان ، وليسوا شياطين ومنهم المؤمن ومنهم الكافر ، والشياطين ولد إبليس ، لا يموتون إلاَّ مع إبليس ، وروي أن ذلك النفر كانوا يهوداً .
وذكر الحسن أنَّ منهم يهوداً ونصارى ومجوساً ومشركين .
فصل في دخول الجِنة الجَنة
اختلفوا في دخول الجنِّ الجنةِ على حسب الاختلاف في أصلهم ، فمن زعم أنهم من الجانِّ لا من ذرية إبليس قال : يدخلون الجنَّة بإيمانهم ، ومن قال : إنهم من ذرية إبليس فله فيهم قولان :
أحدهما : وهو قول الحسن : يدخلونها .
الثاني : وهو قولُ مجاهد : لا يدخلونها
فصل فيمن أنكر الجن
قال القرطبيُّ : وقد أنكر جماعةٌ من كفرة الأطباءِ والفلاسفة : الجن ، وقالوا : إنهم بسائط ، ولا يصح طعامهم ، اجتراء على الله والقرآن والسنة ترد عليهم ، وليس في المخلوقات بسائط مركب من زوج ، إنما الواحد سبحانه وتعالى ، وغيره مركب ، ليس بواحد كيفما تصرف حاله ، وليس يمتنع أن يراهم النبي صلى الله عليه وسلم في صورهم كما يرى الملائكة وأكثر ما يتصورون هنا في صور الحياتِ .
ففي الحديثِ : « أن رجلاً حديث عهدٍ بعرسٍ استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النَّهارِ أن يرجع إلى أهله » الحديث .
وفيه : « فإذا حية عظيمة مطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها » وذكر الحديث .
وفي الحديث : « أنَّه صلى الله عليه وسلم قال : » إنَّ لهذه البيوتِ عوامر فإذا رأيتمْ منها شَيْئاً فحَرِّجُوا عليْها ثلاثاً ، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر «
وقال : » اذهبوا فادفنوا صاحبكم « » .
وذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة كقوله في الصحيح : « إنِّ بالمدينة جنّاً قد أسْلمُوا » ، وهذه لفظ مختص بها فتختص بحكمها .
قال القرطبي : قلنا : هذا يدل على أنَّ غيرها من البيوت مثلها؛ لأنه لم يعلل بحرمة « المدينة »؛ فيكونُ ذلك الحكمُ مخصوصاً بها وإنَّما علل بالإسلام وذلك عام في غيرها ، ألا ترى قوله في الحديث مخبراً عن الجنِّ الذين لقي وكانوا من جنِّ الجزيرة وعضد هذا قوله : « ونَهَى عَن عوامِر البيوتِ » وهذا عام وقد مضى في سورة البقرة .
قوله تعالى : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } ، أي : قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كقوله تعالى { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ } [ الأحزاب : 37 ] ، { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل } [ القصص : 29 ] { فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } [ الأحقاف : 29 ] ، ووصف القرآن ب « عَجَباً » إما على المبالغة ، أي : خارجاً عن حد أشكاله إما في فصاحة كلامه ، وإما في بلاغة مواعظه ، أو عجباً من عظم بركته ، أو عزيزاً لا يوجد مثله وإما على حذف مضاف أي ذا عجب ، وإمَّا بمعنى اسم الفاعل ، أي : معجب . قوله « يَهْدِي » صفة أخرى ، أي : هادياً .
{ إِلَى الرشد } . قرأ العامةُ : « الرشد » بضمة وسكون ، وابن عمر : بضمها وعنه أيضاً : فتحهما . وتقدم هذا في الأعراف . والمعنى : يهدي إلى الصواب .
وقيل : إلى التوحيد .
قوله تعالى : { فَآمَنَّا بِهِ } ، أي : بالقرآن ، أي : فاهتدينا به ، وصدقنا أنه من عند الله ، { وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } ، أي : لا نرجع إلى إبليس ، ولا نطيعه ، ولا نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك ، وهذا يدل على أنَّ أولئك الجنِّ كانوا مشركين .
قوله : { وَأَنَّهُ تعالى } . قرأ الأخوان وابن عامر وحفص : بفتح « أنَّ » ، وما عطف عليها بالواو في اثنتي عشرة كلمة ، والباقون : بالكسر .
وقرأ أبو بكر وابن عامرٍ : « وإنَّهُ لمَّا قَامَ عبد الله يدعوه » بالكسر ، والباقون : بالفتح .
واتفقوا على الفتح في قوله تعالى : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } .
وتلخيص هذه أن « أنَّ » المشددة في هذه السورة على ثلاثة أقسام :
قسم : ليس معه واو العطف ، فهذا لا خلاف بين القراء في فتحه أو كسره على حسب ما جاءت به التلاوة واقتضته العربية ، كقوله { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن } ، لا خلاف في فتحه لوقوعه موقع المصدر ، وكقوله { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } ، لا خلاف في كسره لأنه محكي بالقول .
القسم الثاني : أن يقترن بالواو ، وهوأربع عشرة كلمة ، إحداها : لا خلاف في فتحها وهو قوله : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } وهذا هو القسمُ الثاني .
والثالث : « وأنه لما قام » يكسرها ابن عامر وأبو بكر ، وفتحها الباقون . كما تقدم تحرير ذلك كله .
والاثنتا عشرة : وهي قوله { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ } [ الجن : 3 ] ، { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ } [ الجن : 4 ] { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } [ الجن : 5 ] ، { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ } [ الجن : 6 ] ، { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ } [ الجن : 7 ] ، { وَأَنَّا لَمَسْنَا } [ الجن : 8 ] ، { وَأَنَّأ كُنَّا } [ الجن : 9 ] ، { وَأَنَّا لاَ ندريا } [ الجن : 10 ] ، { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون } [ الجن : 11 ] ، { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } [ الجن : 12 ] ، { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا } [ الجن : 13 ] ، { وَأَنَّا مِنَّا المسلمون } [ الجن : 14 ] .
فهذا ضبطها من حيثُ القراءات ، وأما توجيه ذلك فاختلف الناسُ فيه .
فقال أبو حاتم في الفتح : هو معطوف على مرفوع « أوحِيَ » ، فتكون كلها في موضع رفع لما لم يسم فاعله .
ورد ذلك من حيث أنَّ أكثرها لا يصح دخولها تحت معمول « أوحِيَ » ، ألا ترى أنه لو قيل « أوحي إلينا أنا لمسنا السماء ، وأنا كنا ، وأنا لا ندري وأنا منا الصالحون ، وأنا لما سمعنا الهدى ، وأنا منا المسلمون » لم يستقم معناه .
وقال مكيٌّ : وعطف « أن » على « آمنَّا بِهِ » أتم في المعنى من العطف على « أنَّهُ اسْتمَعَ » لأنَّك لو عطفت « وأنا ظننا ، وأنا لما سمعنا ، وأنه كان رجال من الإنس ، وأنا لمسنا » وشبه ذلك على « أنَّهُ اسْتمَعَ » لم يجز؛ لأنه ليس مما أوحي إليه إنَّما هو أمر أخبروا به عن أنفسهم ، والكسر في هذا أبينُ وعليه جماعة من القُرَّاءِ .
الثاني : أن الفتح في ذلك عطف على محل « بِهِ » من « آمنَّا بِهِ » .
قال الزمخشريُّ : « كأنه قال : صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا ، وأنه يقول سفيهنا ، وكذلك البواقي » .
إلا أن مكياً ضعف هذا الوجه فقال : « والفتح في ذلك على الجمل على معنى : » آمنَّا بِهِ « ، فيه بعدٌ في المعنى؛ لأنهم لم يخبروا أنهم آمنوا ، بأنهم لما سمعوا الهدى آمنوا به ، ولم يخبروا أنَّهم آمنوا أنه كان رجال ، إنما حكى الله عنهم أنهم قالوا ذلك مخبرين به عن أنفسهم لأصحابهم ، فالكسر أولى بذلك »
وهذا الذي قاله غير لازم ، فإن المعنى على ذلك صحيح ، وقد سبق الزمخشري إلى هذا التخريج الفرَّاء والزجاج ، إلا أن الفراء استشعر إشكالاً وانفصل عنه ، فإنه قال : فتحت « أن » لوقوع الإيمان عليها ، وأنت تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض فلا يمنع من إمضائهن على الفتح ، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح « أن » نحو : صدقنا ، وشهدنا ، كما قالت العرب : [ الوافر ]
4893 - وزَجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونَا ... فنصب « العيونَ » لإتباعها « الحواجب » ، وهي لا تزجج إنما تكحل ، فأضمر لها الكحل . انتهى فأشار إلى شيء مما ذكره وأجاب عنه .
وقال الزجاج : « لكن وجهه أن يكون محمولاً على » آمنَّا بِهِ « وصدقناه وعلمناه ، فيكون المعنى : صدقنا أنه تعالى جد ربِّنا ما اتخذ صاحبة » .
الثالث : أنه معطوف على الهاء في « بِهِ » ، أي : آمنا به وبأنه تعالى جد ربنا ، وبأنه كان يقول - إلى آخره - وهو مذهب الكوفيين .
وهو ، وإن كان قوياً من حيثُ المعنى ، إلا أنه ممنوع من حيث الصناعة لأنه لا يعطف على الضمير المجرور ، إلا بإعادة الجار .
وتقدم تحرير هذين القولين في سورة « البقرة » عند قوله :
{ وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام } [ البقرة : 217 ] على أن مكياً قد قوى هذا المدرك ، وهو حسن جداً ، فقال : هو يعني العطف على الضمير المجرور دون إعادة الجار في « أن » أجود منه في غيرها لكثرة حذف حرف الجر « إلى » مع « أن » .
ووجه الكسر : العطف على « إن » في قوله : « إنَّا سَمعْنَا » فيكون الجميع معمولاً للقول فقالوا : « إنَّا سَمِعْنَا » ، وقالوا : « إنَّه تعَالى جَدُّ ربِّنَا » إلى آخرها .
وقال بعضهم : الجملتان من قوله تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس } ، { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ } معترضتان بين قول الجن ، وهما من كلام الباري تعالى .
والظاهر أنه من كلامهم قاله بعضهم لبعض .
ووجه الكسرِ والفتح في قوله : { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله } ما تقدم .
ووجه إجماعهم على فتح { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على « أنَّه اسْتَمَعَ » فيكون موحى أيضاً .
والثاني : أنه على حذف حرف الجر ، وذلك الحرف متعلق بفعل النهي ، أي : فلا تدعوا مع الله احداً ، لأن المساجد لله . ذكرهما أبو البقاء .
وقال الزمخشريُّ : « أنَّهُ اسْتَمَع » - بالفتح - لأنه فاعل « أوْحِيَ » ، و « إنَّا سَمِعْنَا » بالكسر لأنه مبتدأ ، محكي بعد القول ، ثُمَّ يحمل عليهما البواقي ، فما كان من الوحي فتح ، وما كان من قول الجنِّ كسر ، وكلهم من قولهم الثنتين الأخريين وهما : « وأن المساجد ، وأنه لما قام عبد الله يدعوه » ، ومن فتح كلهن ، فعطفاً على محلّ الجار والمجرور في « آمنَّا بِهِ » ، أي : صدقناه وصدقنا به .
والهاء في { أَنَّهُ استمع نَفَرٌ } ، وأنه تعالى وما بعد ذلك ضمير الأمر والشأن ، وما بعده خبر « أن » .
قوله : { جَدُّ رَبِّنَا } . قرأ العامة : { جَدّ رَبَّنَا } بالفتح ل « رَبَّنَا » .
والمراد به هنا العظمة .
وقيل : قدرته وأمره .
وقيل : ذكره .
والجدُّ أيضاً : الحظُّ ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « وَلاَ ينفعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ » والجدُّ أيضاً : أبو الأب ، والجدُّ أيضاً - بالكسر - ضد التواني في الأمر .
وقرأ عكرمة : بضم ياء « ربُّنا » وتنوين « جدٌّ » على أن يكون « ربنا » بدلاً من « جد » .
والجد : العظيمُ . كأنه قيل : وأنه تعالى عظم ربنا ، فأبدل المعرفة من النكرة .
وعنه أيضاً : « جداً » على التمييز و « ربنا » فاعل ب « تعَالى » ، وهو منقول من الفاعلية؛ إذ التقدير : « جد ربنا » ثم صار تعالى ربنا جداً أي عظمة نحو تصبب زيداً عرقاً أي عرق زيد ، وعنه أيضاً وعن قتادة كذلك إلا انه بكسر الجيم ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه نعت لمصدر محذوف ، وربنا فاعل ب « تعالى » ، والتقدير : تعالى ربُّنا تعالياً جداً ، أي : حقاً لا باطلاً .
والجِدُّ - بكسر الجيم - ضد الهزل .
والثاني : أنه منصوب على الحال ، أي : تعالى ربنا حقيقة وتمكناً ، قاله ابن عطية .
وقرأ حميد بن قيس : « جُدُّ ربِّنا » - بضم الجيم - مضافاً ل « ربِّنا » ، وهو بمعنى العظيم حكاه سيبويه .
وهو في الأصل من إضافة الصفة لموصوفها؛ إذ الأصل : ربنا العظيم ، نحو : « جرد قطيفة » الأصل : قطيفةُ جرد ، وهو مؤولٌ عن البصريين .
وقرأ ابنُ السميقع : « جدا ربنا » بألف بعد الدال مضافاً ل « ربِّنا » .
والجَدَا والجدوى : النفع والعطاء ، أي : تعالى عطاء ربِّنا ونفعه .
فصل في معنى « الجد »
قال القرطبيُّ : الجد في اللغة : العظمةُ والجلالُ ، ومنه قول أنس - رضي الله عليه - : « كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا » أي : عظم وجل فمعنى « جَدُّ ربِّنَا » أي : عظمته وجلاله ، قاله عكرمة ومجاهد وقتادة ، وعن مجاهد أيضاً : ذكره .
وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمةُ أيضاً : غناه .
ومنه قيل للحظ جد ورجل مجدود : أي : محظوظ ، وفي الحديث : « وَلا يَنْفَعُ ذَا الجدِّ منْكَ الجَدُّ » ، قال أبو عبيد والخليل ، أي ذا الغنى منك الغنى ، إنما تنفعه الطاعة .
وقال ابن عباس رضي الله عنه : قدرته وقال الضحاك : فعله .
وقال القرظي والضحاك : آلاؤهُ ونعماؤه على خلقه .
وقال أبو عبيد والأخفش : ملكه وسلطانه .
وقال السدي : أمره .
وقال سعيد بن جبير : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا } ، أي : تعالى ربنا .
وقيل : إنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أبو الأب ، ويكون هذا من الجنِّ .
وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع : ليس لله تعالى جد وإنما قالته العرب للجهالة فلا يوحدونه .
قال القشيريُّ : ويجوز إطلاق لفظ الجدِّ في حق الله تعالى إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن ، غير أنه لفظ موهم ، فتجنُّبُه أولى .
قال القرطبيُّ : « ومعنى الآية : وأنه تعالى جدُّ ربِّنا أن يتخذ ولداً أو صاحبة للاستئناس بهما ، أو الحاجة إليهما ، والربُّ يتعالى عن ذلك كما يتعالى عن الأنداد والنظراء » .
وقوله عز وجل : { مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً } ، مستأنف ، فيه تقرير لتعالي جده .
قوله : { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً } .
الهاء في « أنه » للأمر أو الحديث ، و « سَفِيهُنَا » يجوز أن يكون اسم « كَانَ » و « يقُولُ » الخبر ، ولو كان مثل هذه الجملة غير واقعة خبراً ل « كَانَ » لامتنع تقديمُ الخبرِ حينئذ ، نحو « سَفِيهُنَا يقُولُ » ، لو قلت : « يَقُولُ سَفيْهُنَا » على التقديم والتأخير ، لم يجز فيه والفرق أنه في غير باب « كَانَ » يلتبس بالفعل والفاعل ، وفي باب « كَانَ » يؤمن ذلك .
ويجوز أن يكون « سَفِيهُنَا » فاعل « يقُولُ » والجملة خبر « كَانَ » واسمها ضمير الأمر مستتر فيها ، وقد تقدم هذا في قوله : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } [ الأعراف : 137 ] وقوله تعالى : { شَطَطاً } تقدم في سورة الكهف مثله .
قال القرطبيُّ : « ويجوز أن يكون » كان « زائدة ، والسفيه : هو إبليس ، في قول مجاهد وابن جريج وقتادة . ورواه أبو بردة عن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : المشركون من الجنِّ .
قال قتادةُ : عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس والشططُ والإشطاط : الغلو في الكفر .
قال أبو مالك : هو الجور وقال الكلبي : هو الكذب وأصله البعد ويعبر به عن الجور لبعده عن العدل وعن الكذب لبعده عن الصدق؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
4894 - بأيَّةِ حالٍ حَكَّمُوا فِيكَ فاشْتَطُّوا ... وما ذَاكَ إلاَّ حَيْثُ يَمَّمَكَ الوَخْطُ
قوله : { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } أي : حسبنا { أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً } .
» أنْ « مخففة ، واسمها مضمر والجملة المنفية خبرها ، والفاعل بينهما هنا حرف النفي ، و » كذباً « مفعول به ، أو نعت مصدر محذوف ، أي : قولاً كذباً .
وقرأ الحسن والجحدري وأبو عبد الرحمن ويعقوب : » تقَوَّل « - بفتح القاف والواو المشددة - وهو مضارع » تقوَّل « أي : كذب ، والأصل : تتقوَّل ، فحذف إحدى التاءين ، نحو » تذكرون « . وانتصب » كَذِباً « في هذه القراءة على المصدر؛ لأن التقول كذب ، فهو نحو قولهم : » قَعدْتُ جُلُوساً « .
ومعنى الآية : وأنَّا حسبنا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً ، فلذلك صدقناهم في أن لله صاحبة وولداً حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق .
وقيل : انقطع الإخبار عن الجنِّ - هاهنا - فقال الله تعالى جل ذكره لا إله إلا هو- :
{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس } فمن فتح ، وجعله من قول الجنِّ ردَّها إلى قوله : { أَنَّهُ استمع } ، ومن كسرها جعلها من قول الله تعالى .
والمراد به ما كانوا يفعلونه ، من قول الرجل إذا نزل بواد : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه ، فيبيت في جواره حتى يصبح ، قاله الحسن وابن زيد وغيرهما .
وقيل : كانوا في الجاهلية إذ أقحطوا ، بعثُوا رائدهم ، فإذا وجد مكاناً فيه كلأ وماءٌ رجع إلى أهله فسار بهم حتى إذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذُ بك بربِّ هذا الوادي أن تصيبنا فيه آفةٌ ، يعنون من الجن ، فإن لم يفزعهم أحد نزلوا ، وإن أفزعهم الجن رجعوا .
قال مقاتل : أول من تعوذ بالجنِّ قومٌ من أهل اليمن ، ثم من بني حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب ، فلَّما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم .
وقال كردم بن أبي السائب : خرجت مع أبي إلى المدينة أول ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فآواني المبيت إلى راعي غنمٍ ، فلما انتصف الليل جاء الذئب ، فحمل حملاً من الغنم ، فقال الراعي : يا عامر الوادي جارك الله ، فنادى منادٍ : يا سرحان أرسله ، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمةٌ ، فأنزل الله تعالى على رسوله السيد الكامل المكمل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بمكة : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادوهُمْ رَهَقاً } ، أي : زاد الجنُّ الإنس رهقاً ، أي : خطيئة ، وإنما قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم .
والرَّهقُ : الإثم في كلام العرب وغشيان المحارم ، ورجل رهق إذا كان كذلك ، ومنه قوله : { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } [ يونس : 27 ] ؛ وقال الأعشى : [ البسيط ]
4895 - لا شَيْءَ يَنْفعُنِي من دوُنِ رُؤْيتها ... هَلْ يَشتفِي عَاشقٌ ما لم يُصِبْ رَهقَا
يعني إثماً ، ورجل مرهق ، أي : يغشاه السائلون .
قال الواحديُّ : الرَّهَقُ : غشيان الشيء ، ومنه قوله تعالى : { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } .
وأضيفت الزيادةُ إلى الجن إذ كانوا سبباً لها .
وقال مجاهد أيضاً : « فزَادُوهُم » أي : أن الإنس زادوا الجنَّ طغياناً بهذا التعوذ ، حتى قالت الجنُّ : « سدنا الإنس والجن » .
وقال قتادة أيضاً ، وأبو العالية والربيع وابن زيد : ازداد الإنس بهذا فرقاً وخوفاً من الجن .
وقال سعيد بن جبير : كفراً .
ولا يخفى أنَّ الاستعاذة بالجنِّ دون الاستعاذة بالله شركٌ وكفرٌ .
وقيل : لا يطلق لفظ الرجال على الجنِّ ، فالمعنى : وأنه كان رجالٌ من الإنس يعوذون من شرِّ الجن برجال من الإنس وكان الرجل من الإنس يقول مثلاً : أعوذ بحذيفة بن بدر من جنِّ هذا الوادي .
قال القشيريُّ : وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق الرِّجالِ على الجن .
وقوله : « مِنَ الإنس » صفة ل « رِجَالٌ » وكذلك قوله « مِنَ الجِنِّ » .
قوله تعالى : { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً } .
الكلام في « أنْ لنْ » كالكلام في الأول ، و « أن » وما في خبرها ، سادةٌ مسدَّ مفعولي الظن والمسألة من باب الإعمال ، لأن « ظنُّوا » يطلب مفعولين ، و « ظَننْتُم » كذلك ، وهو من إعمال الثاني للحذف من الأول .
والضمير في « أنَّهُم ظنُّوا » للإنس ، وفي « ظَنَنْتُمْ » ، للجن ، ويجوز العكس
فصل في الخطاب في الآية
هذا من قول الله تعالى للإنس ، أي : وإن الجن ظنوا أن لن يبعث الله الخلق كما ظننتم .
قال الكلبيُّ : ظنت الجنُّ كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولاً من خلقه يقيم به الحجة عليهم وكل هذا توكيد للحجة على قريش ، أي : إذا آمن هؤلاء الجن بمحمد صلى الله عليه وسلم فأنتم أحق بذلك .
قوله : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء } . هذا من قول الجنِّ ، أي : طلبنا خبرها كما جرت عادتنا { فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً } ، أي ملئت حفظاً يعني : الملائكة .
فاللَّمْسُ : المس ، فاستعير للطلب ، لأن الماس متقرب ، يقال : لمسه والتمسه ونحوه الجس يقال : جسوه بأعينهم وتجسسوه .
والمعنى : طلبنا بلوغ السَّماء واستماع كلام أهلها .
قوله : { فَوَجَدْنَاهَا } ، فيها وجهان :
أظهرهما : أنها متعدية لواحد؛ لأن معناها : أصبنا وصادفنا ، وعلى هذا فالجملة من قوله « مُلِئَتْ » في موضع نصب على الحال على إضمار « قَدْ » .
والثاني : أنها متعدية لاثنين ، فتكونُ الجملة في موضع المفعول الثاني .
و « حَرَساً » نصب على التمييز نحو « امتلأ الإناء ماء » .
والحَرَس : اسم جمع ل « حَارِس » نحو « خَدَم » ل « خَادِم » و « غيب » لغائب ، ويجمع تكسيراً على « أحْراس »؛ كقول امرىء القيس : [ الطويل ]
4896 - تَجَاوَزْتُ أحْرَاساً وأهْوَال مَعْشَرٍ ... حِرَاصٍ عليَّ لو يُسِرُّونَ مَقْتَلِي
والحاس : الحافظُ الرقيبُ ، والمصدر الحراسةُ ، و « شديداً » صفة ل « حَرسَ » على اللفظ؛ كقوله : [ الرجز ]
4897 - أخْشَى رُجَيْلاً أو رُكَيْباً عَادِيَا ... ولو جاء على المعنى لقيل : « شداد » بالجمع ، لأن المعنى : مُلئتْ ملائكة شداد ، كقولك السلف الصالح ، يعني : الصالحين .
قال القرطبيُّ : « ويجوز أن يكون حَرَساً مصدراً على معنى : حرست حراسة شديدة » .
قوله : « وشُهُباً » . جمع « شِهَاب » ك « كِتَابِ وكُتُب » .
وقيل : المراد النجوم ، أو الحرسُ أنفسهم ، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عن استراقة السمع ، وقد تقدم في سورة « الحجر ، والصافات » .
وإنَّما عطف بعض الصفات على بعض عند تغاير اللفظ ، كقوله : [ الطويل ]
4898 - . . ... وهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونهَا النَّأيُ والبُعْدُ
وقرأ الأعرجُ : « مُلِيتْ » بياء صريحة دون همزة .
قوله : { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ } ، المقاعد : جمع « مقعد » اسم مكان ، والضمير في « منها » ، أي : من السماء ، والمقاعد مواضع يقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء ، وذلك أنَّ مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماءِ فيلقوها إلى الكهنة فحرسها الله - تعالى - حين بعث رسوله بالشهب المحرقةِ ، فقالت الجن حينئذ : { فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } يعني بالشهاب الكواكب المحرقة .
قوله « الآن » . هو ظرفٌ حالي ، واستعير هنا للاستقبال ، كقوله الشاعر : [ الوافر ]
4899 - . ... سأسْعَى الآنَ إذ بَلغَتْ إنَاهَا
فاقترن بحرف التنفيس ، وقد تقدم هذا في البقرة عند قوله : « فالآن باشروهن » .
و « رصداً » إما مفعول له ، وإما صفة له « شهاباً » أي « ذا رصد » وجعل الزمخشري : « الرصد » اسم جمع ك « حرس » ، فقال : والرصد : اسم جمع للراصد ك « حرس » على معنى : ذوي شهاب راصدين بالرجم وهم الملائكة ويجوز أن يكون صفة ل « شهاب » بمعنى الراصد ، أو كقوله : [ الوافر ]
4900 - . . ومِعَى جَياعَا
فصل في بيان متى كان قذف الشياطين
اختلفوا : هل كانت الشياطينُ تقذف قبل البعث أو كان ذلك أمراً حدث لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ؟
فقال قوم : لم تحرس السماء في زمن الفترة فيما بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - خمسمائة عامٍ ، وإنَّما كان من أجل بعثة النبي فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلِّها وحرست بالملائكة والشهب ، قاله الكلبيُّ ، ورواه عطية عن ابن عباس ، ذكره البيهقي .
وقال عبد الله بن عمرو : لما كان اليوم الذي نُبِّىءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم منعتِ الشياطينُ ورموا بالشُّهبِ .
وقال عبد الملك بن سابور : لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ، ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حُرستِ السماءُ ورميتِ الشياطينُ بالشهب ، ومنعت من الدنو من السماء .
قال نافع بن جبيرٍ : كانت الشياطين في الفترة تستمع فلا ترى ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رميت بالشهب ، ونحوه عن أبي بن كعبٍ قال : لم يرم بنجم ، منذ رفع عيسى - عليه الصلاة والسلام - حتى نُبِّىءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُمِيَ بها .
وقيل : كان ذلك قبل البعثِ ، وإنِّما زادت بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنذاراً بحاله .
وهو معنى قوله : « قَدْ مُلِئَتْ » ، أي : زيد في حرسها .
وقال أوس بن حجر - وهو جاهلي - : [ الكامل ]
4901 - فانْقَضَّ كالدُّرِّيِّ يَتْبَعُهُ ... نَقعٌ يَثُورُ تَخالهُ طُنُبَا
قال الجاحظُ : « هذا البيت مصنوع ، لأنَّ الرمي لم يكن قبل البعث » .
والقول بالرمي أصح لهذه الآية ، لأنها تخبر عن الجن ، أنَّها أخبرت بالزيادة في الحرس وأنها امتلأت من الحرس ، والشهب .
وقال بشر بن أبي خازم : [ الكامل ]
4902 - والعِيرُ يَرْهَقُها الغُبَارُ وجَحْشُهَا ... يَنقَضُّ خَلفَهُمَا انقِضَاضَ الكَوْكَبِ
وروى الزهريُّ عن علي بن الحسين عن ابن عباس - رضي الله عنهم - قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا كُنتُمْ تقُولونَ في مِثْلِ هذا فِي الجَاهليَةِ »
قالوا : كُنَّا نقُولُ : يَمُوتُ عَظِيمٌ ابنُ عظيمِ ، أو يولد عظيم [ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنها لا ترمى لموتِ أحدٍ ولا لحياته ، ولكنَّ رَبَّنَا - تبارك وتعالى - إذَا قَضَى أمْراً فِي السَّماءِ ، سبَّح حملةُ العَرْشِ ، ثُمَّ سَبَّحَ أهْلُ كُلِّ سماءٍ ، حتَّى يَنتهِي التَّسبيحُ إلى هذه السَّماءِ ، ويَسْتَخْبِر أهْلُ السَّماءِ : ماذا قال ربُّكمْ ، فيُخْبَرُون ، ويُخبر أهْلُ كُلِّ سماءٍ ، حتَّى يَنْتَهِي الخَبَرُ إلى هذه السَّماءِ فتَخْطفُهُ الجنُّ ، فيروونه كما جاءُوا به فهو حقٌّ ولكنَّهم يزيدُون فيه »
وهذا يدلُّ على أن هذه الشهب كانت موجودة قبل البعث ، وهو قول الأكثرين .
قال الجاحظ : فلو قال قائلٌ : كيف تتعرض الجنُّ لإحراق نفسها بسماع خبرٍ بعد أن صار ذلك معلوماً عندهم؟ .
فالجوابُ : أنَّ الله تعالى ينسيهم ذلك ، حتى تعظم المحنة كما ينسى إبليس في كل وقت أنه لا يسلم ، وأن الله - تعالى - قال له : { وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين } [ الحجر : 35 ] ، ولولا هذا لما تحقق التكليف .
قال القرطبيُّ : « والرَّصدُ » ، قيل : من الملائكة ، أي : ورصداً من الملائكة ، وقيل : الرَّصَد هو الشهب ، والرصد : الحافظ للشيء ، والجمع أرصاد ، وفي غير هذا الموضع يجوز أن يكون جمعاً كالحرس ، والواحد : راصد .
وقيل : الرَّصَد هو الشهاب ، أي : شهاب قد أرصد له ليرجم به فهو « فعل » بمعنى « مفعول » ك « الخَبَط والنفض » .
قوله : { وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض } ، في { أَشَرٌّ أَرِيدَ } وجهان :
أحسنهما : الرفع بفعل مضمر على الاشتغال ، وإنما كان أحسن لتقدم طالب الفعل وهو أداة الاستفهام .
والثاني : أن الرفع على الابتداءِ .
ولقائل أن يقول : يتعين هذا الرفع بإضمار فعل لمدرك آخر ، وهو أنه قد عطف ب « أمْ » فعل ، فإذا أضمرنا فعلاً رافعاً ، كنا قد عطفنا جملة فعلية على مثلها ، بخلاف رفعه بالابتداء فإنه - حينئذٍ - يخرجُ « أمْ » عن كونها عاطفة إلى كونها منقطعة إلا بتأويلٍ بعيدٍ ، وهو أن الأصل : أشَرٌّ أريد بهم ، أم خيرٌ ، فوضع لقوله : « أمْ أراد بِهمْ » موضع خير .
وقوله : « أشَرٌّ » ساد مسدَّ مفعول « ندري » ، بمعنى أنه معلق به ، وراعى معنى « مَنْ » في قوله : « بِهمْ ربُّهُمْ » فجمع .
فصل في معنى الآية
قال ابن زيد : معنى الآية : أنَّ إبليس قال : لا ندري هل أراد بهذا المنعِ أن ينزل على أهل الأرض عذاباً ، أو يرسل إليهم رسولاً .
وقيل : هو من قول الجنِّ فيما بينهم من قبل أن يسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم أي : لا ندري أشرٌّ أريد بمن في الأرض بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذب من الأمم ، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا ، فالشر والرشد على هذا الكفر والإيمان ، وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي .
وقيل : لا ، بل هذا قول قالوه لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين ، أي : لما آمنوا أشفقوا أن لا يؤمن كثيرٌ من أهل الأرض فقالوا : إنَّا لا ندري ، أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم يؤمنون؟ .
قوله : { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } .
هذا من قول الجنِّ ، أي : قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم : وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون .
قوله : { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } ، يحتمل وجهين :
أحدهما : يحتمل أن « دُونَ » بمعنى « غير » ، أي : ومنا غير الصالحين ، أي : كافرون ، وهو مبتدأ ، وإنما فتح لإضافته إلى غير متمكن كقوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] فيمن نصب على أحد الأقوال ، وإلى هذا نحا الأخفش .
والثاني : أن « دُونَ » على بابها من الظرف ، وأنها صفة لمحذوف ، تقديره : ومنا فريق أو فوج دون ذلك ، وحذف الموصوف مع « مِنْ » التبعيضية يكثر ، كقولهم : منَّا ظعنَ ومنَّا أقام ، أي : منا فريقٌ ظعن ، ومنا فريق أقام .
ومعنى الآية : ومنا صالحون دون أولئك في الصلاح .
قوله : { كُنَّا طَرَآئِقَ } ، فيه أوجه :
أحدها : أن التقدير : كنا ذوي طرائق ، أي : ذوي مذاهب مختلفة .
الثاني : أن التقدير : كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائقِ المختلفةِ .
الثالث : أن التقدير : كنا ذوي طرائقَ مختلفةٍ؛ كقوله : [ الكامل ]
4903 - . ... كَمَا عَسَلَ الطَّريقَ الثَّعلَبُ
الرابع : أن التقدير : كانت طريقتنا طرائق قدداً ، على حذف المضاف الذي هو الطرائقُ ، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه ، قاله الزمخشريُّ .
فقد جعل في ثلاثة أوجه مضافاً محذوفاً .
وقال : إنَّه قدر في الأول : « ذَوِي » .
وفي الثاني : مثل .
وفي الثالث : طرائق .
ورد عليه ابو حيَّان قوله : { كُنَّا طَرَآئِقَ } ؛ كقوله : [ الكامل ]
4904 - ... كَمَا عَسَل الطَّريقَ الثَّعلبُ
بأن هذا لا يجوز إلا في ضرورة أو ندور ، فلا يخرج القرآنُ عليه ، يعني تعدى الفعل بنفسه إلى ظرف المكان المختص .
والقددُ : جمع قددة ، والمراد بها الطريقةُ ، وأصلها السيرة ، يقال : قِدَّة فلان حسنة ، أي : سيرته ، وهو من قدَّ السير ، أي : قطعه على استواء ، فاستعير للسيرة المعتدلة .
قال الشاعر : [ البسيط ]
4905 - ألقَابِضُ البَاسِطُ الهَادِي بطَاعتِه ... في فِتْنَةِ النَّاس إذْ أهْواؤهُم قِدَدُ
وقال آخر : [ البسيط ]
4906 - جَمعْتُ بالرَّأي منهُمْ كُلَّ رَافضَة ... إذْ هُمْ طَرائقُ في أهوائِهمْ قِدَدُ
وقال لبيد في أخيه : [ المنسرح ]
4907 - لَمْ تَبْلُغِ العَيْنُ كُلَّ نَهْمتهَا ... لَيْلةَ تُمْسِي الجِيادُ كالقِددِ
والقِدُّ - بالكسر - سير يُقَدّ من جلد غير مدبوغ ، ويقال : ما له قد ولا قحف ، فالقد : إناء من جلد ، والقحف : إناء من خشب .
فصل في معنى الآية
قال سعيد بن المسيِّب : معنى الآية « كنا مسلمين ، ويهود ونصارى ومجوساً » .
وقال السدي : في الجن مثلكم قدرية ، ومرجئة وخوارج ، ورافضة ، وشيعة ، وسنية .
وقال قوم : إنا بعد استماع القرآنِ مختلفون منا المؤمنون ، ومنا الكافرون .
وقيل : أي : ومنا الصالحون ومنا المؤمنون لم يتناهوا في الصلاح .
قال القرطبيُّ رحمه الله : « والأول أحسن ، لأنه كان في الجن من آمن بموسى ، وعيسى ، وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا : { إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [ الأحقاف : 30 ] ، وهذا يدل على إيمان قوم منهم في دعاء من دعاهم إلى الإيمان ، وأيضاً لا فائدة في قولهم : نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر ، والطرائق : جمع طريقة ، وهي مذهب الرجل ، أي : كنا فرقاً ، ويقال : القوم طرائق أي : على مذاهب شتَّى ، والقددُ : نحو من الطرائق وهو توكيد لها واحده : قدَّة ، يقال : لكل طريقةٍ قِدَّةٌ » .
قوله : { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِي الأرض وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } .
والظنُّ هنا بمعنى العلم ، واليقين ، وهو خلاف الظن في قوله تعالى : { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً } ، « وأنَّهُم ظنُّوا » ، أي : علماً بالاستدلال والتفكر في آيات الله تعالى ، أنا في قبضته ، وسلطانه لن نفوته بهرب ، ولا غيره .
وقوله : « فِي الأرضِ » ، حال ، وكذلك « هَرباً » مصدر في موضع الحالِ ، تقديره : لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها ، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء .
قوله : { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى } ، يعني القرآن « آمنَّا بِهِ » ، وباللَّه ، وصدقنا محمداً صلى الله عليه وسلم على رسالته ، وكان صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الإنس والجنِّ .
قال الحسن - رضي الله عنه - بعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن ولم يبعث الله قط رسولاً من الجنِّ ولا من أهل البادية ولا من النِّساء ، وذلك قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى } [ يوسف : 109 ] .
وفي الحديث : « بُعثْتُ إلى الأحْمَرِ والأسْودِ » ، أي : الإنس والجن . وقد تقدم هذا الكلام في سورة الأنعام في قوله تعالى : { يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ } [ الآية : 130 ] .
قوله : { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } .
قال ابنُ عباس : لا يخاف أن ينقص من حسناته ، ولا أن يزاد في سيئاته؛ لأن البخس : النقصان ، والرهق : العدوان ، وغشيان المحارمِ ، وقد تقدم في بيت الأعشى .
قوله : « فَلا يَخَافُ » ، أي : فهو لا يخافُ ، أي فهو غير خائف؛ ولأن الكلام في تقدير مبتدأ وخبر فلذلك دخلت الفاءُ ، ولولا ذلك لقيل : لا يخف ، قاله الزمشخريُّ .
ثم قال : « فإن قلت : أي فائدة في رفع الفعل ، وتقدير مبتدأ قبله حتى يقع خبراً له ووجوب إدخال الفاء ، وكان كل ذلك مستغنى عنه بأن يقال : لا يخف؟ .
قلتُ : الفائدة أنَّه إذا فعل ذلك فكأنه قيل : » فهُو لا يخَافُ « ، فكان دالاً على تحقيق أن المؤمن ناجٍ لا محالة وأنَّه هو المختص بذلك دُون غيره » .
قال شهاب الدين : « وسببُ ذلك أن الجملة تكون اسمية حينئذٍ ، والاسمية أدلُ على التحقيقِ والثبوتِ من الفعلية » .
وقرأ ابن وثاب والأعمشُ : بالجزم ، وفيها وجهان :
أحدهما : ولم يذكر الزمخشريُّ غيره ، أن « لا » نافية ، والفاء حينئذ واجبة .
والثاني : أنها نافية ، والفاء حينئذٍ زائدةٌ ، وهذا ضعيفٌ .
وقوله « بَخْساً » ، فيه حذف مضاف ، أي : جزاء بخس ، كذا قرره الزمخشريُّ .
وهو مستغنى عنه .
وقرأ ابن وثاب : « بَخَساً » بفتح الخاء .
قال القرطبيُّ : وقرأ الأعمش ويحيى وإبراهيم : « فَلا يَخفْ » جزماً على جواب الشرط ، وإلغاء الفاء أيضاً .
قوله : { وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون } . أي : وأنا بعد استماع القرآن مختلفون ، فمنا من أسلم ومنا من كفر ، والقاسط : الجائر لأنه عادل عن الحق ، والمقسط : العادل لأنه عادل إلى الحق ، قسط : إذا جار ، وأقسط : إذا عدل؛ قال : [ الكامل ]
4908 - قَوْمٌ همُ قتلُوا ابنَ هِنْدٍ عَنْوةً ... عَمْراً وهُمْ قَسطُوا على النُّعمَانِ
وقد تقدم في أول « النساء » أن « قَسَطَ » : ثلاثياً بمعنى « جَارَ » ، و « أقسط » الرباعي بمعنى « عَدَل » . وأن الحجاج قال لسعيد بن جبيرٍ : ما تقول فيَّ؟ .
قال : إنَّك قاسط عادل ، فقال الحاضرون : ما أحسن ما قال ، فقال : يا جهلة ، جعلني كافراً جائراً ، وتلا قوله تعالى : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } . وقرأ { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] .
قوله : { فَمَنْ أَسْلَمَ فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً } .
أي : قصدوا طريق الحقِّ ، وتوخوه ، وطلبوه باجتهاد ، ومنه التحري في الشيء .
قال الراغبُ : « حرى الشيء يحري ، أي : قصد حراه ، أي : جانبه ، وتحراه كذلك ، وحَرَى الشيء يَحْرِي ، نقص ، كأنَّه لزم حراه ، ولم يمتد؛ قال الشاعر : [ الكامل ]
4909 - . . ... والمَرْءُ بَعْدَ تمامهِ يَحْرِي
ويقال : رماه الله بأفعى حارية ، أي : شديدة » انتهى .
وكأن أصله من قولهم : هو حريٌّ بكذا ، أي حقيق به . و « رَشَداً » مفعول به .
والعامة قرأوا : « رشداً » - بفتحتين - والأعرج : بضمة وسكون .
قوله : { وَأَمَّا القاسطون } . أي : الجائرون عن طريق الحق والإيمان { فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } أي : وقوداً ، وقوله « فَكانُوا » أي : في علم الله تبارك وتعالى .
فإن قيل : ذكر عقاب القاسطين ولم يذكر ثواب المسلمين .
فالجواب : بل ذكر ثواب المؤمنين بقوله { تَحَرَّوْاْ رَشَداً } أي : تَحرَّوا رشداً عَظِيماً لا يعلم كنهه إلاَّ الله تعالى ، ومثل هذا لا يتحقق إلا بالثَّواب .
فإن قيل : فإنَّ الجنَّ مخلوقون من النَّار ، فكيف يكونون حطباً للنار؟ .
فالجواب : أنّهم وإن خلقوا من النار لكنهم تغيروا عن تلك الكيفية فيصيرون لحماً ، ودماً هكذا قيل .
وهذا آخر كلام الجن .
قوله { وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة } ، « أنْ » هي المخففة من الثقيلة ، وتقدم أنه يكتفي ب « لو » ، فأصله بين « أن » المخففة ، وخبرها إذا كان جملة فعلية في سورة « سَبَأ » .
وقال أبو البقاء هنا : « ولو » عوض كالسِّين ، وسوف ، وقيل : « لَوْ » بمعنى « إن » و « إن » بمعنى اللام ، وليست بلازمة كقوله { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ } [ مريم : 46 ] ، وقال في موضع آخر : { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ } [ المائدة : 37 ] ذكره ابن فضالة في البرهان .
قال شهاب الدين : « وهذا شاذٌّ لا يلتفت إليه ألبتة لأنه خلاف النحويين » .
وقرأ العامة : بكسر « وأن لو » على الأصل .
وابن وثَّاب والأعمشُ : بضمها ، تشبيهاً بواو الضمير . وقد تقدم تحقيقه في البقرة .
فصل في بيان أن الله أوحى إليهم أن الإيمان بسبب البسطة في الرزق
هذا من كلام الله تعالى ، أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق ، وهذا محمولٌ على الوحي ، أي أوحي إليَّ أن لو استقاموا .
قال ابنُ بحر كل ما كان في هذه السروة من « أنَّ » المثقلة فهي حكايةٌ لقول الجن الذين سمعوا القرآن ، فرجعوا إلى قومهم منذرين ، وكل ما فيها من « أن » المفتوحة المخففة فهي وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال ابن الأنباريِّ : ومن كسر الحروف ، وفتح { وأنْ لو اسْتقَامُوا } أضمر يميناً تأويلها : والله أن لو استقاموا على الطريقة ، كما يقال في الكلام : والله إن قمت لقمت ، والله لو قمت قمت .
قال الشاعر : [ الوافر ]
4910 - أمَا - واللَّهِ - أن لَوْ كُنْتَ حُرّاً ... ومَا بالحُرِّ أنْتَ ولا العَتِيقِ
ومن فتح ما قبل المخففة نسقها على تقدير : { أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ } ، { وَأَلَّوِ استقاموا } أو « على آمنا به » ويستغنى عن إضمار اليمين .
والضمير في قوله { وَأَلَّوِ استقاموا } ، قيل : يرجع إلى الجنِّ الذين تقدم ذكرهم ووصفهم أي : هؤلاء القاسطون لو أسلموا لفعلنا بهم كذا وكذا .
وقيل : بل المراد الإنس لأن الترغيب في الانتفاع بالماءِ الغدقِ ، إنما يليق بالإنس ، لا بالجن وأيضاً أن هذه الآية إنَّما نزلت بعد ما حبس الله المطر عن أهل مكة سنين ، أقصى ما في الباب أنَّهُ لم يتقدم ذكر الإنس ، ولكنه لما كان ذلك معلوماً جرى مَجْرى قوله : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] .
وقال القاضي : الأقرب أن الكل يدخلون فيه .
قال ابن الخطيب : « ويدل على صحة قول القاضي ، أنه تعالى أثبت حكماً معللاً بعلة ، وهي الاستقامةُ فوجب أن يعم الحكم لعموم العلة » .
والغدق - بفتح الدال وكسرها - : لغتان في الماء الغزير ، ومنه الغداق : للماء الكثيرِ وللرجل الكثير الغدق ، والكثير النطق .
ويقال : غدقت عينه تغدق أي : هطل دمعها غدقاً .
وقرأ العامة : « غَدَقاً » بفتحتين .
وعاصم فيما يروي عنه الأعشى ، بفتح الغين وكسر الدال ، وقد تقدم أنهما لغتان .
قوله : { وَأَلَّوِ استقاموا } .
قال ابن الخطيب : إن قلنا : إن الضمير راجعٌ إلى الجنِّ ففيه قولان :
أحدهما : أن المعنى لو ثبت أبوهم على عبادته وسجد لآدم ، ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض } [ الأعراف : 96 ] الآية ، { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ } [ المائدة : 66 ] الآية ، وقوله : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } [ الطلاق : 2 ] . وقوله : { فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ } [ نوح : 10 - 11 ] ، إلى قوله : { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } [ نوح : 12 ] الآية .
وإنَّما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافعِ وهذا هو اللائق بالجنِّ لا الماء المشروب .
الثاني : أن المعنى لو استقام الجنُّ أي الذين سمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها ، ولم ينتقلوا عن الإسلام لوسعنا عليهم الدنيا كقوله : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ } [ الزخرف : 33 ] الآية .
والقول الأول : اختيار الزجاج ، قال : لأنَّه تعالى ذكر الطريقة معرفة بالألف واللام فيرجع إلى الطريقة المعروفة ، وهي طريقة الهدى .
ومعنى : { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي : لنختبرهم هل يقومون بشكرها أم لا ، وإن قلنا : إنَّ الضمير يعود على الإنس فالاحتمالان كما هما .
قوله : { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } ، دليلٌ على أنه تبارك وتعالى يضل عباده . وأجاب المعتزلة ، بأنَّ الفتنة هي الاختبار ، كما يقال : فتنت الذهب بالنار لا خلق الضلالة .
واستدلت المعتزلة بقوله تعالى { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } على أنه تعالى إنما يفعل لغرض .
وأجيبوا : بأن الفتنة بالاتفاق ليست مقصودة فدلَّت هذه الآية على أن اللام ليست للغرض في حق الله تبارك وتعالى .
فصل في التحذير من الدنيا
روى مسلمُ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « » أخْوفُ ما أخَافُ عليْكمْ ما يُخْرجُ اللَّهُ لكم مِنْ زهرةِ الدُّنيَا « قالوا : ومَا زَهْرةُ الدُّنيَا؟ .
قال : » بَركَاتُ الأرْضِ « . وذكر الحديث »
وقال - عليه الصلاة والسلام - : « فواللَّهِ مَا الفَقْرَ أخْشَى عليْكُم ، وإنَّما أخْشَى علَيكُمْ أنْ يبسِطَ اللَّهُ عَليكُم الدُّنْيَا فتَنَافَسُوا فيها كما تَنَافَسَ فِيهَا مَنْ كَانَ قَبلكُمْ ، فيُهلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَهُمْ »
قوله : { وَمَن يُعِرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ } ، أي : عن عبادته ، أو عن موعظته ، أو عن وحيه .
وقال ابن زيدٍ : يعني القرآن ، وفي إعراضه وجهان :
الأول : عن القبول إن قيل إنها في الكفار والثاني عن العمل ، إن قيل إنَّها في أهل الإيمان .
وقيل : { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ } ، أي : لم يشكره .
قوله : { يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } .
قرأ الكوفيون : « يَسْلكْهُ » - بياء الغيبة - لإعادة الضمير على الله تعالى ، وباقي السبعة : بنون العظمة على الالتفات .
وهذا كما تقدم في قوله تعالى : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً }
[ الإسراء : 1 ] ، ثم قال : { بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } [ الإسراء : 1 ] .
وقرأ مسلم بن جندب : « نسلكه » بنون العظمة مضمومة من « أسلكه » . وبعضهم : بالياء من تحت مضمومة ، وهما لغتان ، يقال : سلكه وأسلكه .
وأنشد : [ البسيط ]
4911 - حَتَّى إذَا أسْلكُوهُم فِي قَتائِدَةٍ ... و « سلك ، وأسلك » يجوز أن يكونا فيهما ضُمِّنا معنى الإدخال ، فلذلك يتعديان لاثنين ويجوز أن يقال : يتعديان إلى أحد المفعولين ، بإسقاط الخافض ، كقوله تعالى : { واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ } [ الأعراف : 155 ] .
فالمعنى : ندخله عذاباً ، أو نسلكه في عذابٍ ، هذا إذا قلنا : إن « صَعَداً » مصدر .
قال الزمخشريُّ : يقال : صَعَداً وصُعُوداً ، فوصف به العذاب لأنه يتصعد للمعذب ، أي : يعلوه ، ويغلبه ، فلا يطيقه ، ومنه قول عمر - رضي الله عنه - : ما تصعد شيء ما تصعدتني خطبةُ النِّكاح يقول : ما شقَّ عليَّ ، ولا غلبني .
وأما إذا جعلناه اسماً لصخرة في جهنم ، كما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره ، فيجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون « صعداً » مفعولاً به أي « يسلكه » في هذا الموضع ويكون « عذاباً » مفعولاً من أجله .
الثاني : أن يكون « عذاباً » مفعولاً ثانياً كما تقدم ، و « صعداً » بدلاً من عذاباً ، ولكن على حذف مضاف أي : عذاب صعد ، وقرأ العامة بفتحتين ، وقرأ ابن عباس والحسن بضم الصاد وفتح العين ، وهو صفة تقتضي المبالغة كحُطَم ولُبَد ، وقرىء بضمتينِ وهو وصف أيضاً ك « جُنُب » و « شُلُل » .
فصل
ومعنى عذاباً صعداً : أي شاقاً شديداً .
[ وقيل عن ابن عباس : ] هو جبل في جهنم ، قال الخدريُّ : كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت .
وعن ابن عباس : إن المعنى مشقّة من العذاب ، لأن الصعد في اللغة هو المشقة ، تقول : تصعدني الأمر إذا شقَّ عليك ، ومنه قول عمر المتقدم ، والمشي في الصعود يشق ، وصعود العقبة الكئودِ .
وقال عكرمةُ : هي صخرة في جهنم ملساء يكلف صعودها ، فإذا انتهى إلى أعلاها حُدِر إلى جهنم .
وقال : يكُلَّفُ الوليدُ بن المغيرة أن يصعد جبلاً في النار من صخرةٍ ملساءَ يجذب من أمامه بسلاسل ، ويضرب من خلفه بمقامع ، حتَّى يبلغ أعلاها ولا يبلغ في أربعين سنة فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها ، ثم يكلف صعودها ، فذلك دأبه أبداً ، وهو قوله : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } [ المدثر : 17 ] .
قوله : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } . قد تقدم أن السبعة أجمعت على الفتح ، بتقدير : وأوحي إليَّ أن المساجد للَّهِ .
وقال الخليل : أي ولأن المساجد ، فحذف الجارُّ ، ويتعلق بقوله « فلا تدعُوا » .
وجعلوه كقوله تعالى : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } [ قريش : 1 ] فإنه متعلق بقوله { فَلْيَعْبُدُواْ } كقوله : { إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ } [ الأنبياء : 92 ] .
وقرأ طلحة وابن هرمز : « وإنَّ المسَاجِدَ » - بالكسر . . ، وهو يحتمل الاستئناف والتعليل ، فيكون في المعنى كتقدير الخليل
فصل في المراد ب « المساجد »
المساجدُ : قيل هي جمع « مسجد » - بالكسر - وهو موضع السجود ، وقد تقدم أن قياسه الفتح .
وقيل : هو « مسجد » - بالفتح - مراداً بها الأعضاء الواردة في الحديثِ : « الجبهة والأنف والركبتان واليدان والقدمان » ، وهو قول سعيد بن المسيب .
والمعنى : إن هذه الأعضاء أنعم الله بها عليكم فلا تسجد لغيره فتجحد نعمة الله ، وقال عطاء : مساجدك أعضاؤك التي أمرت بالسجود عليها لا تذللها لغير خالقها .
قال - عليه الصلاة والسلام - « أمرت أن أسجد على سبعة أعظم » وذكر الحديث ، وقال عليه الصلاة والسلام : « إذَا سَجَدَ العَبْدُ سَجَدَ مَعهُ سَبعةُ أعْضَاءٍ » وقيل : بل جمع مسجد ، وهو مصدر بمعنى السجودِ ، ويكون الجمع لاختلاف الأنواع .
وقال القرطبي : « المراد بها البيوت التي تبنيها أهل المللِ للعبادة » .
قال سعيد بن جبير رضي الله عنه : قالت الجن : كيف لنا ان نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } ، أي : بنيت لذكر الله ولطاعته .
وقال ابن عبَّاسٍ : المساجد هنا مكة التي هي القبلة ، وسميت مكة مساجد ، لأن كلَّ أحد يسجد إليها .
قال القرطبيُّ : « والقول بأنها البيوت المبنية للعبادة ، وهذا أظهر الأقوال ، وهو مروي عن ابن عباس » .
قال ابن الخطيب : « قال الواحديُّ : وواحد المساجد - على الأقوال كلِّها - » مسجد « - بفتح الجيم - إلا على قول من يقول : إنها المواضع التي بنيت للصلاةِ؛ فإنَّ واحدها » مسجد « - بكسر الجيم - لأن المواضع ، والمصادر كلَّها من هذا الباب - بفتح العين - إلا في أحرف معدودة وهي : المسجد ، والمطلِع ، والمنسِك ، والمسكِن ، والمنبِت ، والمفرِق ، والمسقِط ، والمجزِر ، والمحشِر ، والمشرِق ، والمغرِب وقد جاء في بعضها الفتح ، وهي : المنسك والمطلع والمسكن والمفرق ، وهو جائز في كلِّها وإن لم يسمع » .
قوله : « للَّهِ » . إضافة تشريف وتكريم ، ثم خص بالذِّكر منها البيت العتيق ، فقال تعالى : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ } [ الحج : 26 ] وقال - عليه الصلاة والسلام - : « لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلاَّ إلى ثلاثةِ مساجدَ »
وقال - عليه الصلاة والسلام - : « صَلاةٌ فِي مَسْجدِي هذا خَيْرٌ مِنْ ألْفِ صلاةٍ فيما سواهُ إلاَّ المَسجد الحَرامَ »
وقد روي من طريق آخر لا بأس بها « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » صَلاةٌ في مَسْجدِي هذا خَيْرٌ من ألفِ صلاةٍ فِيمَا سِواهُ إلاَّ فِي المسْجِد الحَرامِ ، فإنَّ صلاةٌ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ مائةِ ألفِ صلاةٍ في مَسْجديْ هَذَا «
قال القرطبي : » وهذا حديث صحيح « .
فصل في نسبة المساجد إلى غير الله
فإن قيل : المساجد وإن كانت لله ملكاً وتشريفاً فإنَّها قد تنسب إلى غيره تعالى تعريفاً كما قيل في الحديث :
« سابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق » .
ويقال : مسجد فلان ، لأنه حبسه ، ولا خلاف بين الأمة في تحبيس المساجدِ والقناطرِ والمقابرِ ، وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك .
فصل في معنى الآية
معنى : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } لا يذكرُ فيها إلا اللَّهُ تعالى فإنَّه يجوز قسمةُ الأموالِ فيها ، ويجوز وضعُ الصدقات فيها ، على رسم الاشتراك بين المساكين ، والأكل فيها ، ويجوز حبسُ الغريمِ فيها والنوم ، وسكن المريضِ فيه ، وفتح الباب للجار إليها وإنشاد الشعر فيه إذا عري عن الباطل .
قوله : { فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } . وهذا توبيخٌ للمشركين ، في دعواهم مع الله غيره في المسجد الحرام .
وقال مجاهد : كانت اليهودُ ، والنصارى إذا دخلوا كنائسهم ، وبيعهم أشركوا بالله تعالى ، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة الحق إذا دخلوا المساجد كلها ، فلا تشركوا فيها صنماً وغيره مما يعبد .
وقيل : المعنى أفردوا المساجدَ لذكر الله ، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيباً ، وفي الحديث : « مَنْ نَشدَ ضالَّةً في المسجد فقولوا : لا ردَّها اللَّه عليكَ ، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا »
وقال الحسن : من السنة إذا دخل رجل المسجد أن يقول : لا إله إلا الله ، لأن قوله تعالى { فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } في ضمنه أمر بذكر الله ودعائه .
وروى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنه - « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قدَّم رجله اليمنى وقال : » وأنَّ المسَاجِدَ لِلَّهِ فلا تَدْعُوا مع اللَّهِ أحداً ، اللَّهُمَّ إني عبدُكَ وزائِرُكَ وعلى كُلِّ مزُورٍ حقٌّ لزائره ، وأنْتَ خَيْرُ مزُورٍ ، فأسْألُكَ بِرحْمتكَ أنْ تَفُكَّ رقَبَتِي من النَّارِ « فإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى وقال : » اللَّهُمْ صُبَّ عليَّ الخَيْرَ صباً ولا تَنزِعْ عنِّي صالحَ ما أعْطَيْتنِي أبداً ، ولا تَجْعَلْ معِيْشتِي كدّاً ، واجعل لِي في الأرضِ جداً « » .
قوله : { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } .
يجوز الفتحُ ، أي : أوحى الله إليه أنه ، ويجوز الكسر على الاستئناف ، و « عَبْدُ اللَّهِ » هو محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن حسب ما تقدم أول اسورة . « يَدعُوهُ » ، أي : يعبده .
وقال ابن جريج : « يَدْعوهُ » ، أي : قام إليهم داعياً إلى الله تعالى ، فهو في موضع الحالِ ، أي : يوحد الله .
{ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } .
قال الزُّبيرُ بن العوام : هم الجنُّ حين استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم أي : كاد يركب بعضهم بعضاً ازدحاماً عليه ويسقطون حرصاً على سماع القرآنِ العظيم .
وقيل : كادوا يركبونه حرصاً ، قاله الضحاكُ .
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : رغبة في سماع القرآن .
يروى عن مكحول : أن الجنَّ بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة ، وكانوا سبعين ألفاً ، وفرغوا من بيعته عند الفجر .
وعن ابن عباس أيضاً : أن هذا من قول الجنِّ لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع والسجود .
وقيل : كاد الجنُّ يركب بعضهم بعضاً حرصاً على النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال الحسن وقتادة وابن زيد : « لمَّا قَامَ عبدُ اللَّهِ » محمد بالدعوة تلبدت الإنس ، والجن على هذا الأمر ليطفئوه فأبى اللَّهُ تعالى إلاَّ أن ينصره ويتم نوره ، واختار الطبريُّ أن يكون المعنى كادت العربُ يجتمعون على النبي صلى الله عليه وسلم ويتظاهرون على إطفاء النورِ الذي جاء به .
قال مجاهد : اللِّبَد : الجماعات .
قوله « لِبَداً » : قرأ هشام : بضم اللام ، والباقون : بكسرها .
فالأولى : جمع « لُبْدَة » - بضم اللام - نحو « غُرفَة وغُرَف » .
وقيل : بل هو اسم مفرد صفة من الصفات نحو « حطم » وعليه قوله تعالى { مَالاً لُّبَداً } [ البلد : 6 ] .
وأما الثانية : فجمع « لِبْدة » - بالكسر - نحو « قربة وقِرَب » .
واللبدة : الشيء المتلبد ، أي : المتراكب بعضه على بعض ، ومنه قولهم « لبدة الأسد » . كقول زهير : [ الطويل ]
4912 - لَدَى أسَدٍ شَاكٍ السِّلاحِ مُقذَّفٍ ... لَهُ لِبَدٌ أظفَارُهُ لم تُقلَّمِ
ومنه : اللبد؛ لتلبُّد بعضه فوق بعض ، ولبد : اسم نسر لقمان بن عاد ، عاش مائتي سنةٍ ، حتى قالوا : أطال اللَّهُ الأمد على لبد .
والمعنى : كادت الجنُّ يكونون عليه جماعات متراكمة متزاحمين عليه كاللبد .
وقرأ الحسن والجحدريُّ : « لُبُداً » - بضمتين - ورواها جماعة عن أبي عمرو .
وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أنه جمع « لَبْد » نحو « رَهْن » جمع « رُهُن » .
والثاني : أنه جمع « لَبُود » نحو « صَبُور ، وصُبُر » وهو بناء مبالغة أيضاً .
وقرأ ابن محيصن : بضمة وسكون ، فيجوز أن تكون هذه مخففة من القراءة التي قبلها ويجوز أن يكون وصفاً برأسه .
وقرأ الحسن والجحدريُّ أيضاً : « لُبَّداً » - بضم اللام وتشديد الباء ، وهي غريبة جداً .
وقيل : وهو جمع « لابد » ك « ساجد وسُجَّد ، وراكع ورُكَّع » .
وقرأ أبو رجاء : بكسر اللام ، وكسر الباء ، وهي غريبة أيضاً .
وقيل : اللُّبَد - بضم اللام وفتح الباء - : الشيء الدائم ، واللبد أيضاً : الذي لا يسافر ولا يبرح؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
4913 - من امْرِىءٍ ذِي سماحٍ لا تزَالُ لَهُ ... بَزْلاءُ يَعْيَا بِهَا الجثَّامةُ اللُّبَدُ
ويروى : اللَّبد ، قال أبو عبيد : وهو أشبه ، ويقال : ألبدت القربة جعلتها في لبيد .
ولبيد : اسم شاعر من بني عامر .
قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
قوله : { إِنَّمَآ أَدْعُواْ } ، قرأ عاصم وحمزةُ : بلفظ الأمر التفاتاً ، أي : قل يا محمد ، والباقون : « قال » إخباراً عن « عبد الله » وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
قال الجحدريُّ : وهي في المصحف كذلك . وقد تقدم لذلك نظائر في « قل سبحان ربي » آخر « الإسراء » ، وكذا في أول « الأنبياء » وآخرها ، وآخر « المؤمنون » .
قال المفسرون : سبب نزولِ هذه الآية أنَّ كفار قريش قالوا له : إنَّك جئت بأمر عظيم ، وقد عاديت الناس كلهم ، فارجع عن هذا ونحن نجيرك ، فنزلت .
قوله : { قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَدًا } .
قرأ الأعرج : « رُشُداً » - بضمتين - . وجعل الضر عبارة عن الغي؛ لأن الضرر سبب عن الغي وثمرته ، فأقام المسبب مقام السبب ، والأصل : لا أملك غياً ، ولا رشداً ، فذكر الأهم .
وقيل : بل في الكلام حذف ، والأصل : لا أملكُ لَكُمْ ضراً ولا نَفْعاً ولا غيّاً ولا رشداً فحذف من كل واحدٍ ما يدل مقابله عليه .
فصل في معنى الآية
المعنى لا أقدر أن أدفع عنكم ضراً ولا أسوق لكم خيراً .
وقيل : { لا أملك لكم ضرّاً } ، أي : كفراً « ولا رَشداً » أي : هُدَى ، أي : إنما عليَّ التبليغ .
وقيل : الضَّرُّ : العذاب ، والرشدُ : النعيم ، وهو الأول بعينه .
وقيل : الضرُّ : الموت ، والرشد الحياة .
قوله : { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ } ، أي : لن يدفع عني عذابه أحدٌ إن استحفظته وذلك أنهم قالوا : اترك ما تدعو إليه ، ونحن نجيرُك .
وروى أبو الجوزاء عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : انطلقتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجُون فخطَّ علينا خطّاً ، ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه فقال سيد يقال له وِرْدان : أنا أزجلهم عنك ، فقال : { إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ } ، ذكره الماورديُّ رحمة الله عليه ، قال : ويحتمل معنيين :
أحدهما : لن يجيرني مع إجارة الله لي أحد .
الثاني : لن يجيرني مما قدره الله تعالى علي أحدٌ ، { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } أي : ملجأ الجأ إليه ، قاله قتادة ، وعنه نصيراً ومولى .
وقال السدي : حِرْزاً ، وقال الكلبيُّ : مدخلاً في الأرض مثل السِّرب ، وقيل : مذهباً ولا مسلكاً ، حكاه ابن شجرة؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
4914 - يَا لَهْفَ نَفْسِي ولَهْفِي غَيْرُ مُجْزيَةٍ ... عَنِّي ومَا مِنْ قضَاءِ اللَّهِ مُلتَحَدُ
و « مُلتَحَداً » مفعول « أحد » لأنها بمعنى « أصيب »
قوله { إِلاَّ بَلاَغاً } ، فيه وجوه :
أحدها : أنه استثناء منقطع ، أي : لكن إن بلغت عن الله رحمتي ، لأن البلاغ من الله - تبارك وتعالى - لا يكونُ داخلاً تحت قوله : { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } .
لأنه لا يكون من دون الله - عز وجل - وبعنايته وتوفيقه .
والثاني : أنَّه متصل ، وتأويله ، أن الإجارة مستعارة للبلاغ ، أو هو سببها أو بسبب رحمته تعالى ، والمعنى لن أجِدَ شيئاً أميل إليه وأعتصمُ به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني ، وإذا كان متصلاً جاز نصبه من وجهين :
أحدهما : أن يكون بدلاً من « مُلتحَداً » لأن الكلام غير موجب ، وهذا اختيار الزَّجاجِ .
والثاني : أنه منصوب على الاستثناء .
الثالث : أنه مستثنى منقطع من قوله { لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراً } .
قال قتادة : أي : لا أملك إلا بلاغاً إليكم ، وقرره الزمخشري ، فقال : أي : لا أملك لكم إلا بلاغاً من الله ، وقيل : { إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله } جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاسطاعة وعلى هذا فالاستثناء منقطع .
الرابع : أنَّ الكلام ليس استثناء ، بل شرطاً ، والأصل : « إن لا » ف « إنْ » شرطية وفعلها محذوفٌ ، لدلالة مصدره ، والكلام الأول عليه ، و « لا » نافية ، والتقدير : « إن لا أبلغ بلاغاً من الله فلن يجيرني من الله أحدٌ » .
وجعلوا هذا كقول الآخر : [ الوافر ]
4915 - فَطلِّقْهَا فلسْتَ لهَا بِكُفءٍ ... وإلاَّ يَعْلُ مفْرِقَكَ الحُسامُ
أي : وإن لا تطلقها يعلُ ، فحذف الشرط ونفى الجواب ، وفي هذا الوجه ضعف من وجهين :
أحدهما : أن حذف الشرط دون أدلته قليل جداً .
والثاني : أنَّه حذف الجزءان هنا ، أعني الشرط والجزاء .
فيكون كقول الشاعر : [ الرجز ]
4916 - قَالتْ بنَاتُ العَمِّ : يا سَلْمَى وإنْ ... كَانَ فَقيراً مُعدماً ، قالتْ : وإنْ
أي قالت : وإن كان فقيراً معدماً فقد رضيته .
وقد يقال : إن الجواب مذكور عند من يرى جواز تقديمه ، وإما في قوة المنطوق به لدلالة ما قبله عليه .
وقال الحسنُ : { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله وَرِسَالاَتِهِ } . فإن فيه النجاة والأمان .
قوله { مِّنَ الله } . فيه وجهان :
أحدهما : أن « مِنْ » بمعنى « عَنْ » لأن « بلغ » يتعدى بها ، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - : « ألاَ بلَّغُوا عنِّي » .
والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة ل « بلاغ » .
قال الزمخشري : « مِنْ » ليست للتبليغ وإنما هي بمنزلة « مِنْ » في قوله تعالى { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 1 ] ، بمعنى : « بلاغاً كائناً من اللَّهِ » .
قوله { وَرِسَالاَتِهِ } . فيه وجهان :
أحدهما : أنها منصوبة نسقاً على « بلاغاً » ، كأنه قيل : لا أملك لكم إلا التبليغ ، والرسالات ولم يقل الزمخشري غيره .
والثاني : أنها مجرورة نسقاً على الجلالة ، أي : إلا بلاغاً عن الله وعن رسالاته ، قدره أبو حيَّان وجعله هو الظاهر ، ويجوز في جعله « مِنْ » بمعنى « عَنْ » ، والتجوز في الحروف رأي الكوفيين ومع ذلك فغير متعارف عندهم .
قوله : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ } ، في التوحيد ، والعبادة { فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } ، العامة : على كسر « إن » جعلوها جملة مستأنفة بعد فاء الجزاء .
قال الواحديُّ : « إن » مكسورة الهمزة لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء .
ولذلك حمل سيبويه قوله : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] ، { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً } [ البقرة : 126 ] { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } على أن المبتدأ فيها مضمر تقديره : فجزاؤه أنَّ له نار جهنَّم ، أو فحكمه أنَّ له نار جهنَّم .
قال ابن خالويه : « سمعت ابن مجاهد يقول : لم يقرأ به أحدٌ ، وهو لحنٌ ، لأنه بعد فاء الشرط ، قال : سمعتُ ابن الأنباري يقول : هو صواب ، ومعناه : فجزاؤه أنَّ لهُ نار جهنَّم » .
قال شهاب الدين : ابن مجاهد ، وإن كان إماماً في القراءات إلا أنه خفي عليه وجهها ، وهو عجيبٌ جداً كيف غفل عن قراءتي { فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأنعام : 54 ] في « الأنعام » ، لا جرم أن ابن الأنباري استصوب القراءة لطول باعه في العربية .
قول « خالدينَ » . حالٌ من الهاء في « له » ، والعامل الاستقرار الذي تعلق به هذا الجار وحمل على معنى « مِنْ » فلذلك جمع؛ لأن المعنى لكل من فعل ذلك فوحد أولاً اللفظ ، ثم جمع المعنى .
فصل في رد كلام المعتزلة
استدل جمهور المعتزلة بهذه الآية الكريمة على أن فُسَّاق أهل الصراة يخلدون في النار؛ لأن هذا العموم أقوى في الدلالة على المطلوب من سائرِ العمومات ، وأيضاً : فقوله « أبداً » ينفي قول المخالف بأن المراد بالخلود المكثُ الطويلُ .
والجوابُ : أنَّ السياقَ في التبليغ عن الله ، والرسالة ، ثم قال تعالى : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } وإذا كان هنا محتملاً سقط الاستدلال ، أو نقول : هذه الصورة لا بد وأن تندرج في العموم ، وترك التبليغ عن الله تعالى أعظم ، فلا يجوز أن تساويه الذنوب التي ليست مثله في العقوبة ، فلا يتعدى هذا الحكمُ إلى غيره من الذنوب ، أو نقول : إن الله تعالى لم يقيد في سائر عمومات الوعيد في القرآن بالتأبيد إلا في هذه الآيةِ الكريمة فلا بد وأن يكون لهذا التخصيص فائدة ، ومعنى ، وليس المعنى إلا أن يكون هذا الذنب أعظم الذُّنُوبِ ، وإذا كان السبب في هذا التخصيصِ هذا المعنى ، علمنا أن هذا الوعيد مختص بهذا الذنب ، فلا يتعدى إلى غيره من الذنوب فدلت هذه الآيةُ على أن حال سائر المذنبين مخالف لذلك ، أو نقول : { وَمَن يَعْصِ الله } إلا في الكفر وإلا في الزنا وإلا في شرب الخمر ، فإن مذهب القائلين بالوعيد أنَّ الاستثناءَ إخراج ما لولاه كان داخلاً تحت اللفظ ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله تعالى { وَمَن يَعْصِ الله } متناولاً لكل من أتى بكل المعاصي .
فإن قيل : يستحيلُ العموم هنا لأن من جملة المعاصي التجسيم والتعطيل ، والقائل بالتجسيم يمتنع أن يكون مع ذلك قائلاً بالتعطيل .
قلنا : يخص هذا بدليل الفعل فيحمل على جميع ما لا يستحيل اجتماعه .
فصل في أن الأمر للوجوب
دلت هذه الآية على أن الأمر مقيد بالوجوب لأن تارك المأمورية عاص لقوله { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } [ طه : 93 ] ، { لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ } [ التحريم : 6 ] ، { وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } [ الكهف : 69 ] .
والعاصي مستحق للعقاب لقوله تعالى { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } .
قوله : { حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : بم تعلق حتى ، وجعل ما بعده غاية له؟ .
قلت : بقوله : { يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } [ الجن : 19 ] على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ، ويستضعفون أنصاره ، ويستقلون عددهم { حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } من بوم بدر ، وإظهار الله عليهم ، أو من يوم القيامة { فَسَيَعْلَمُونَ } حينئذٍ { مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً } .
قال : ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار ، واستقلالهم لعددهم ، كأنه قال لا يزالون على ما هم عليه ، حتى إذا رأوا ما يوعدون ، قال المشركون : متى هذا الوعد؟ إنكاراً له .
فقال : « قُلْ » : إنه كائن لا ريب فيه .
قال أبو حيان : قوله : بم تعلق ، إن عنى تعلق حرف الجر فليس بصحيح لأنها حرف ابتداءٍ ، فما بعدها ليس في موضع جر خلافاً للزجاج ، وابن درستويه ، فإنهما زعما أنها إذا كان حرف ابتداءٍ فالجملة الابتدائية بعدها في موضع جر ، وإن عنى بالتعلق اتصال ما بعدها بما قبلها وكون ما بعدها غاية لما قبلها ، فهو صحيح ، وأما تقديره : أنها تتعلق بقوله : { يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } فهو بعيد جداً لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة وقدر بعضهم ذلك المحذوف ، فقال : تقديره : دعهم حتَّى إذا رأوا .
وقال التبريزي : جاز أن يكون غاية لمحذوف ، ولم يبيِّن ما هو .
وقال أبو حيان : « والذي يظهر لي أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم لكينونة النار لهم كأنه قيل : إن العاصي يحكم له بكينونة النار ، والحكم بذلك هو وعيد حتى إذا رأوا ما حكم بكينونته لهم فيسعلمون » .
قوله : { مَنْ أَضْعَفُ } . يجوز في « مَنْ » أن تكون استفهامية فترفع بالابتداء ، و « أضْعَفُ » خبره ، والجملة في موضع نصب سادَّةٌ مسدَّ المفعولين لأنها معلقة للعلم قبلها .
وأن تكون موصولة ، و « أضعف » خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو أضعف ، والجملة صلة وعائدٌ وحسن الحذف طول الصلة بالتمييز ، والموصول مفعول للعلم بمعنى العِرفَان .
قال القرطبي : « حتى » هنا مبتدأ ، أي « حتى أذا رأوا ما يوعدون » من عذاب الآخرة أو ما يوعدون من عذاب الدنيا ، وهو القتل يوم بدر { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً } . و « مَنْ » يظهر أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم ، بكينونة النار لهم ، كأنه قيل : إن العاصي أهم أم المؤمنون؟ و « أقَلُّ عَداداً » معطوف .
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
قوله : { قُلْ إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } ، يعني : قيام الساعة لا يعلمه إلاَّ اللَّهُ فهو غيب لا أعلم منه إلا ما يعلمنيه الله تعالى جلت قدرتهُ .
قوله : { أَقَرِيبٌ } ، خبرٌ مقدمٌ ، و { مَّا تُوعَدُونَ } مبتدأ مؤخر ، ويجوز أن يكون « قَرِيبٌ » مبتدأ لاعتماده على الاستفهام و « مَا تُوعَدُون » فاعل به ، أي : أقريب الذي توعدون ، نحو « أقَائِمٌ أبواك » ، و « مَا » يجوز أن تكون موصولة فالعائد محذوف ، وأن تكون مصدرية فلا عائد ، و « أمْ » الظاهر أنها متصلة .
وقال الزمخشريُّ : « فإن قلت : ما معنى قوله : { أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً } ، والأمد يكون قريباً وبعيداً ، ألا ترى إلى قوله تعالى { تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } [ آل عمران : 30 ] ، قلت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقرب الموعد ، فكأنه قال : ما أدري أهو حالٌّ متوقع في كُلِّ ساعة ، أم مؤجل ضربت له غاية؟ » .
وقرأ العامة : بإسكان الياء من « ربِّي » .
وقرأ الحرميان وأبو عمرو : بالفتح .
فصل في تعلق الآية بما قبلها
قال مقاتل : لما سمعوا قوله تعالى : { حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } . قال النضر بن الحارث : متى يكون هذا الذي توعدنا به؟ .
فقال الله تعالى : { قُلْ إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } إلى آخره ، والمعنى أنَّ وقوعه متيقن ، وأما وقت وقوعه فغير معلوم .
وقوله تعالى : { أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً } ، أي : غاية وبعداً ، وهذا كقوله تعالى : { إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } .
فإن قيل : أليس « أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : » بُعثْتُ أنَا والسَّاعَةُ كهَاتيْنِ « ، فكان عالماً بقُربِ وقُوعِ القيامةِ ، فكيف قال - هاهنا - : لا أردي أقريب أم بعيد؟ .
فالجواب : أن المراد بقرب وقوعه ، هو أن ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى فهذا القدر من القرب معلوم ، فأما معرفة القرب المرتب وعدم ذلك فغير معلوم .
قوله : { عَالِمُ الغيب } ، العامة : على رفعه ، إما بدلاً من » ربِّي « وإما بياناً له وإما خبراً لمبتدأ مضمر ، أي هو عالم .
وقرىء : بالنصب على المدح .
وقرأ السديُّ : علم الغيب ، فعلاً ماضياً ناصباً للغيب .
قوله : » فلا يُظهرُ « . العامة : على كونه من » أظْهَر « ، و » أحَداً « مفعول به .
وقرأ الحسنُ : » يَظْهرُ « بفتح الياء والهاء من » ظهر « ثلاثياً ، و » أحد « فاعل به .
فصل في تفسير الغيب
الغيب ما غاب عن العباد .
وقد تقدم الكلام عليه أول البقرة .
قوله : { إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } . يجوز أن يكون استثناء منقطعاً ، أي لكن من ارتضاه فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه بالوحي و » مِنْ « في قوله : » مِنْ رسُولٍ « لبيان المرتضين وقوله : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ } بيان لذلك .
وقيل : هو متصل ، و « رَصَداً » تقدم الكلام عليه .
ويجوز أن تكون « مِنْ » ، شرطية ، أو موصولة مضمنة معنى الشرط ، وقوله « فإنَّهُ » خبر المبتدأ على القولين؛ وهو من الاستثناء المنقطع أيضاً ، أي : لكن ، والمعنى : لكن من ارتضاه من الرسل ، فإنَّه يجعل له ملائكة رصداً يحفظونه .
فصل في الكرامات
قال الزمخشريُّ : « في إهذه الآية إبطال الكرامات؛ لأن الذين تضاف إليهم الكرامات ، وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل ، وقد خصَّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وفيها أيضاً إبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء ، وأدخل في السخط » .
قال الواحديُّ : وفيها دليل على أن من ادعى أنَّ النجوم تدل على ما يكون من حياة ، أو موت ، أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن .
قال ابن الخطيب : واعلم أن الواحديَّ يجوز الكرامات ، وأن يلهم الله أولياءه وقوع بعد الوقائع في المستقبل ونسبة الآية في الصورتين واحدة فإن جعل الآية دالة على المنع من أحكام النجوم ، فينبغي أن يجعلها دالة على المنع من الكرامات على ما قاله الزمخشريُّ ، فإن جوَّز الكرامات لزمه تجويز علم النجوم وتفريقه بينهما تحكم محض .
قال ابن الخطيب : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه ، إذ لا صيغة عموم في عينه لأنه لفظ مفرد مضاف فيحمل على غيب واحد ، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله { أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } الآية .
فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذ؟ .
قلنا : لعله إذا قربت القيامةُ يظهر ، وكيف لا ، وقد قال : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] فتعلم الملائكة حنيئذ قيام القيامة ، أو هو استثناء منقطع أي : من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ، ومن خلفه حفظة يحفظونه بأمر الله من شر مردة الجنِّ والإنس ، ويدل على أنه ليس المراد منه ألا يطلع أحد على شيء من المغيبات أنه ثبت بما يقارب التواتر أن « شقّاً وسطيحاً » كانا كاهنين وقد عرفا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتَّى يرجع إليهما كسرى ، وربيعة بن مضر ، فثبت أن اللَّه تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات ، وأيضاً هل المللِ على أن معبر الرؤيا ، يخبر عن أمور مستقبلة ، ويكون صادقاً فيه ، وأيضاً : قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها فوقعت على وفق كلامها .
قال ابن الخطيب : وأخبرني أناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل فكانت على وفق خبرها .
وبالغ أبو البركات في كتاب « المعتبر » في شرح حالها وقالت : تفحصت عن حالها ثلاثين سنة ، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً ، وأيضاً فإنّا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة ، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً ، وقد ترى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف ، فإن قلنا : إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرناه .
فصل في معنى الآية
قال القرطبيُّ : المعنى { فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه ، لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات ، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات كما ورد في التنزيل في قوله : { وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } [ آل عمران : 49 ] .
وقال ابن جبير : { إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } هو جبريل - عليه السلام - وفيه بعد ، والأولى أن يكون المعنى لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى ، أي : اصطفاه للنبوة فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه ليكون ذلك دالاً على نبوته .
فصل في استئثار الله بعلم الغيب
ذكر القرطبيُّ أن العلماء قالوا : لما تمدح الله سبحانه وتعالى بعلم الغيب واستأثره دون خلقه ، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل ، فأعلمهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم ، وجعله معجزة لهم ، ودلالة صادقة على نبوتهم ، وليس المنجم ومن ضاهاه ومن يضرب بالحصى وينظر في الكواكب ويزجر بالطير من ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وبتخمينه وكذبه .
قال بعض العلماء : وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان مختلفو الأحوال والرتب فيهم الملك ، والسوقة ، والظالم ، والجاهل ، والعالم والغني ، والفقير ، والكبير مع اختلاف طوالعهم ، وتباين مواليدهم ، ودرجات نجومهم ، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة ، فإن قال : إنما أغرقهم الطالع الفلاني الذي ركبوا فيه ، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام هذه الطوالع كلِّها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم ، وما يقتضيه طالعه المخصوص به ، فلا فائدة إذ ذاك في عمل المواليد ، ولا دلالة فيها على شقي ، ولا سعيد ، ولم يبق إلا معاندة القرآن الكريم؛ ولقد أحسن القائل : [ الكامل ]
4917 - حَكَمَ المُنجِّمُ أنَّ طَالعَ مَولِدِي ... يَقْضِي عَليَّ بِمَيتَةِ الغَرقِ
قُلْ للمُنَجِّمِ صِبْحَةَ الطُّوفانِ هَلْ ... وُلِدَ الجَمِيعُ بكَوكَبِ الغَرقِ؟
وقيل لعلي - رضي الله عنه - لما أراد لقاء الخوارج : أتلقاهم والقمر لفي العقرب؟ فقال : فأين قمرهم؟ وكان ذلك في آخر الشهر . فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها ، وما فيها من البلاغة في الرد على من يقول بالتنجيم ، وقال له مسافر بن عوف : يا أمير المؤمنين ، لا تسرِ في هذه الساعة وسِرْ بعد ثلاث ساعاة يمضين من النهار ، فقال له علي - رضي الله عنه - : ولم؟ .
قال : إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك ، وأصاب أصحابك بلاءٌ ، وضر شديد ، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت ، وظهرت وأصبت ما طلبت ، فقال علي - رضي الله عنه - : ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه منجم ، ولا لنا من بعده . ثم قال : فمن صدقك في هذا القول لن آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله نداً ، وضداً ، اللَّهُمَّ لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ثم قال للمتكلم : نكذبك ، ونخالفك ، ونسير في الساعة التي تنهاها عنها ، ثم أقبل على الناس فقال : أيها الناس ، إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدوا به في ظلمات البر والبحر ، إنما المنجم كافر ، والكافر في النار ، والمنجم كالساحر ، والساحر في النار ، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم ، أو تعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيتُ ، ولأحرمنَّك العطاء ، ما كان لي سلطان ، ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها فلقي القوم فقتلهم ، وهو وقعة « النَّهروان » الثابتة في « صحيح مسلم » ، ثم قال : لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها ، وظفرنا ، وظهرنا لقال : إنَّما كان ذلك تنجيمي وما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ، ولا لنا من بعده ، وقد فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان ، ثم قال : يا أيها الناسُ ، توكلوا على الله وثقوا به ، فإنه يكفي ممن سواه .
قوله : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } ، يعني : ملائكة يحفظونه من أن يقرب منه شيطان ، فيحفظ الوحي من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة .
قال الضحاك : ما بعث الله نبياً إلى ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين ، أن يتشبهوا له بصورة الملك فإذا جاءه شيطان في صورة الملك ، قالوا : هذا شيطان فاحذره ، وإن جاء الملك قالوا : هذا رسول ربِّك .
وقال ابن عباس وابن زيد : « رَصَداً » ، أي : حفظةُ يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من أمامه ، وورائه من الجن ، والشياطين .
وقال قتادة وسعيد بن المسيِّب : هم أربعة من الملائكة حفظة يحفظون الوحي بما جاء من عند الله .
وقال الفرَّاءُ : فالمراد جبريل كان إذا نزل بالرسالة نزل معه ملائكة يحفظونه من أن يستمع الجن الوحي ، فيلقونه إلى كهنتهم ، فيسبقوا به الرسول .
وقال السديُّ : « رَصَداً » أي : حفظة يحفظون الوحي ، مما جاء من عند الله ، وما ألقاه الشيطان قالوا : إنه من الشيطان ، و « رَصَداً » نصب على المفعول .
قال الجوهريُّ : « والرَّصدُ : القوم يرصدون كالحرس ، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكور والمؤنث وربما قالوا : أرصاد ، والرّاصد للشيء : الراقب له ، يقال : رصده يرصده رصْداً ورصَداً ، والتَّرصُّد : الترقب ، والمرصد : موضع الرصد » .
قوله : { لِّيَعْلَمَ } . متعلق ب « يَسْلكُ » .
والعامة : على بنائه للفاعل ، وفيه خلاف . أي : ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة ، قاله مقاتل وقتادة .
قال القرطبيُّ : « وفيه حذف تتعلق به اللام ، أي : أخبرناه بحفظنا الوحي ، ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حاله من التبليغ بالحق والصدق » .
وقيل : ليعلم محمد أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه .
قاله ابن جبير ، قال : ولم ينزل الوحي إلا ومعه أربعة حفظة من الملائكة - عليهم السلام - .
وقيل : ليعلم الرسول أن الرسل سواه بلغوا .
وقيل : ليعلم الله ، [ أي : ليظهر علمه للناس أنّ الملائكة بلغوا رسالات ربهم .
وقيل : ليعلم الرسول ، أي رسولٍ كان أنَّ الرسل سواه بلغوا ] .
وقيل : ليعلم إبليس أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه واستراق أصحابه .
وقال ابن قتيبة : أي : ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل إليهم ، ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم .
وقال مجاهد : ليعلم من كذب الرسل أن المرسلين ، قد بلغوا رسالات ربهم .
وقيل : ليعلم الملائكة . وهذان ضعيفان ، لإفراد الضمير .
والضمير في « أبْلغُوا » عائد على « من » في قوله : « من ارْتضَى » راعى لفظها أولاً ، فأفرد في قوله { مِن بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } ، ومعناها ثانياً ، فجمع في قوله « أبْلَغُوا » إلى آخره .
وقرأ ابن عباس ومجاهد وزيد بن علي وحميد ويعقوب ليعلم مبنياً للمفعول أي ليعلم الناس أن الرسل قد بلغوا رسالاته .
وقرأ ابن أبي عبلة والزهري : لِيُعلم « - بضم الياء وكسر اللام - أي : ليعلم الله رسوله بذلك .
وقرأ أبو حيوة : » رِسَالة « بالإفراد ، والمراد الجمع .
وقرأ ابن أبي عبلة : » وأحيط ، وأحصي « مبنيين للمفعول ، » كل « رفع ب » أحصي « . قوله : » عَدَداً « ، يجوز أن يكون تمييزاً منقولاً من المفعول به ، والأصل : أحصى عدد كل شيء ، كقوله تعالى : { وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } [ القمر : 12 ] ، أي : عيون الأرض على خلاف سبق .
ويجوز أن يكون منصوباً على المصدر من المعنى ، لأن » أحْصَى « بمعنى » عَد « ، فكأنه قيل : وعد كل شيء عدداً .
أو يكون التقدير : وأحصى كلَّ شيء إحصاء ، فيرد المصدر إلى الفعل ، أو الفعل إلى المصدر .
ومنع مكي كونه مصدراً للإظهار ، فقال : » عَدَداً « نصب على البيان ، ولو كان مصدراً لأدغم .
يعني : أن قياسه أن يكون على » فَعْل « بسكون العين؛ لكنه غير لازم ، فجاء مصدره بفتح العين .
ولما كان « لِيعْلمَ » مضمناً معنى « قَد عَلِمَ ذلِكَ » جاز عطف « وأحَاطَ » على ذلك المقدر .
قال القرطبي : « عَدَداً » ، نصب على الحال ، أي : أحصى كل شيء .
فصل في معنى الإحاطة في الآية .
المعنى : أحاط علمه بما عند الرسل ، وما عند الملائكة .
وقال ابن جبيرٍ : المعنى ليعلم الرسل أن ربهم قد أحاط بما لديهم ، فيبلغوا رسالاته { وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } أي : علم كل شيء وعرفه فلم يخف عليه منه شيء ، وهذه الآية تدل على أنه تعالى عالم بالجزئيات ، وبجميع الموجودات .
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورَةَ الجِنِّ أُعْطِيَ بعَددٍ كُلِّ جنِّي وشيْطانٍ صدَّق بمُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وكذَّب بِهِ عِتْقُ رَقبةٍ » والله تعالى أعلم بالصواب .
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
قوله تعالى : { ياأيها المزمل } ، أصله « المُتزمِّلُ » فأدغمت التاء في الزاي ، يقال : تزمَّل يتزمل تزملاً ، فإذا أريد الإدغام : اجتلبت همزة الوصل ، وبهذا الأصل قرأ أبي بن كعب .
وقرأ عكرمة : « المُزمِّل » - بتخفيف الزاي وتشديد الميم - اسم فاعل ، وعلى هذا فيكون فيه وجهان :
أحدهما : أن أصله « المُزتمِل » بوزن « مفتعل » فأبدلت التاء ميماً وأدغمت ، قاله أبو البقاء ، وهو ضعيف .
والثاني : أنه اسم فاعل من « زمل » مشدداً ، وعلى هذا ، فيكون المفعول محذوفاً ، أي : المزمل جسمه . وقرىء كذلك إلا أنه بفتح الميم اسم مفعول منه أي : « المُلفَّفُ ، والتزمل : التلفف ، يقال : تزمل زيد بكساء ، أي : الفت به؛ وقال ذو الرُّمَّة : [ الطويل ]
4918 - وكَائِنْ تَخطَّت نَاقتِي مِنْ مفَازةٍ ... ومِنْ نَائِمٍ عَنْ ليْلِهَا مُتزمِّلِ
وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
4919 - كَأنَّ ثَبِيراً فِي أفَانينِ ودقِهِ ... كَبِيرُ أنَاسٍ في بجَادٍ مُزمَّلِ
وهو كقراءة بعضهم المتقدمة
فصل في بيان لمن الخطاب في الآية
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه ثلاثةُ أقوالٍ :
الأول : قال عكرمة : { ياأيها المزمل } بالنبوة المتزمل بالرسالة ، وعنه : يا أيها الذي زمل هذا الأمر ، أي : حمله ثم فتر ، وكان يقرأ : { ياأيها المزمل } - بتخفيف الزاي وفتح الميم وتشديدها ، على حذف المفعول ، وكذلك : » المدثر « ، والمعنى : المزمل نفسه والمدثر نفسه ، والذي زمله غيره .
الثاني : قال ابن عباس : يا أيها المزمل بالقرآن .
الثالث : قال قتادة : يا أيها المزمل بثيابه .
قال النخعيُّ : كان متزملاً بقطيفة عائشة رضي الله عنها بمرط طوله أربعة عشر ذراعاً نصفه عليّ ، وأنا نائمة ونصفه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، والله ما كان خزاً ولا قزاً ولا مرعزاء ولا إبريسم ولا صوفاً ، كان سداه شعراً ولحمته وبراً ، ذكره الثعلبي .
قال القرطبيُّ : » وهذا القول من عائشة يدل على أنَّ السورة مدنية ، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يبنِ بها إلاَّ بالمدينة ، والقول بأنها مكية لا يصح « .
وقال الضحاكُ : تزمل لمنامه .
وقيل : بلغه من المشركين سوء قول فيه ، فاشتد عليه فتزمل ، وتدثر ، فنزل : { ياأيها المزمل } { ياأيها المدثر } .
وقيل : كان هذا في ابتداء أمر ما أوحي إليه فإنه لما سمع صوت الملك ، ونظر إليه أخذته الرعدة ، فأتى أهله ، وقال : زمِّلوني ، دثِّرُونِي .
روي معناه عن ابن عباس ، قال : أول ما جاءه جبريل خافه ، وظن أن به مساً من الجنِّ ، فناداه ، فرجل من الجبل مرتعداً وقال : زمِّلُوني ، زمِّلُونِي .
وقال الكلبيُّ : إنما تزمل النبي بثيابه ليتهيأ للصلاة ، وهو اختيار الفراءِ .
وقيل : إنه - عليه الصلاة والسلام - كان نائماً بالليل متزملاً في قطيفة فنودي بما يهجر تلك الحالة ، فقيل له : { ياأيها المزمل } قم واشتغل بالعبودية .
وقيل : معناه يا من تحمل أمراً عظيماً ، والزمل : الحمل .
قال البغويُّ : قال الحكماء : كان هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في أول الوحي قبل تبليغ الرسالة ، ثم خوطب بعد بالنبي ، والرسول .
فصل في نفي كون « المزمل » اسماً للنبي صلى الله عليه وسلم
قال السهيليُّ : ليس المزمل باسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم كما ذهب إليه بعض الناس ، وعدوه في أسمائه صلى الله عليه وسلم وإنما « المُزمِّلُ » اسم مشتق من حالته التي كان عليها حين الخطاب ، وكذلك كان المُدثِّرُ .
وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان : إحداهما : الملاطفة ، فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة ، سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها « لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي - رضي الله عنه - حين غاضب فاطمة - رضي الله عنها - فأتاه وهو نائم وقد لصق جنبه بالتراب ، فقال له : » قُمْ أبَا تُرابٍ « ، إشعاراً له بأنه غير عاتب عليه ، وملاطفة له وإشعاراً بترك العتب ، [ وملاطفاً له وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة : قم يا نومان ملاطفة له ، وإشعاراً بترك العتب والتأنيب ] - وكان نائماً - فقول الله تعالى لمحمد - عليه الصلاة والسلام - : { ياأيها المزمل قُمِ } فيه تأنيس له ، وملاطفة ليستشعر أنه غير عاتب عليه .
والفائدة الثانية : التنبيه لكل متزمل راقد ليله ليتنبه إلى قيام الليل ، وذكر الله تعالى فيه لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل ، واتصف بتلك الصفة .
قوله : { قُمِ الليل } . العامة : على كسر الميم لالتقاء الساكنين .
وأبو السمال : بضمها ، إتباعاً لحركة القاف .
وقرىء : بفتحها طلباً للخفة .
قال أبو الفتح : الغرض : الهرب من التقاء الساكنين ، فبأيِّ حركة تحرك الأول حصل الغرض .
قال شهاب الدين : » إلا أن الأصل : الكسر ، لدليل ذكره النحويون ، و « الليل » ظرف للقيام وإن استغرقه الحدث الواقع فيه ، هذا قول البصريين ، وأما الكوفيون فيجعلون هذا النوع مفعولاً به « .
قال القرطبي : » وهو من الأفعال القاصرة الغير متعدية إلى مفعول ، فأما ظرف المكان والزمان فسائغ فيه ، إلا أن ظرف المكان لا يتعدى إليه إلا بواسطة ، لا تقول : « قمت الدار » حتى تقول : « قُمْتُ وسَط الدَّارِ ، وخارج الدارِ » ، وقد قيل هنا : إن « قم » معناه : صل ، عبر به هنا واستعير له حتى صار عرفاً بكثرة الاستعمال « .
فصل في حد الليل
الليل : حده من غروب الشمس إلى طلوع الفجر وقد تقدم بيانه في البقرة .
قال القرطبيُّ : » واختلف هل كان قيامه فرضاً أو نفلاً؟ والدلائل تقوي أن قيامه كان فرضاً لأن الندب لا يقع على بعض الليل دون بعض لأن قيامه ليس مخصوصاً بوقت دون وقتٍ « .
واختلف هل كان فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء ، أو عليه وعلى أمته ، ثلاثة أقوالٍ :
الأول : قول سعيد بن جبيرٍ لتوجه الخطاب إليه .
الثاني : قول ابن عباسٍ ، قال : كان قيامُ الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله .
الثالث : قول عائشة وابن عباس أيضاً وهو الصحيح أنه كان فرضاً عليه وعلى أمته ، لما روى « مسلم » : « أن سعد بن هشام بن عامر قال لعائشة رضي الله عنها : أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : ألست تقرأ : { ياأيها المزمل } قلت : بلى ، قالت : فإن الله - عز وجل - افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً ، وأمسك الله - عز وجل - خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء ، حتى أنزل الله - عز وجل - في آخر السورة التخفيف ، فصار قيام الليل تطوعاً بعد أن كان فريضة » .
وروى وكيع ، ويعلى ابن عباس قال : لما نزلت : { ياأيها المزمل } كانوا يقومون نحواً من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها ، وكان بين نزول أولها وآخرها نحو من سنة .
وقال سعيد بن جبير : مكث النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عشر سنين يقومون الليل ، فنزلت بعد عشر سنين { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ } [ المزمل : 20 ] فخفف الله عنهم .
وقيل : كان قيام الليل واجباً ، ثم نسخ بالصلوات الخمس .
وقيل : عسر عليهم تمييز القدر الواجب فقاموا الليل كلَّه فشق ذلك عليهم فنسخ بقوله في آخرها { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } [ المزمل : 20 ] وكان بين الوجوب ونسخه سنة .
وقيل : نسخ التقدير بمكة وبقي التهجد ، حتى نسخ بالمدينة .
وقيل : لم يجب التهجد قط لقوله { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] ، ولأنه لو وجب عليه صلى الله عليه وسلم لوجب على أمته لقوله تعالى { واتبعوه } [ الأعراف : 158 ] ، والنسخ على خلاف الأصل ، ولأنه فرض تعيين المقدار أي المكلف وذلك ينافي الوجوب .
قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً } . للناس في هذا كلام كثير ، واستدلال على جواز استثناء الأكثر ، والنصف ، واعتراضات وأجوبة .
قال شهاب الدين : وها أنا أكذر ذلك محرراً له بعون الله تعالى : اعلم أن في هذه الآية ثمانية أوجه :
أحدها : أن « نِصْفهُ » بدل من « اللَّيْلِ » بدل بعض من كل ، و « إلاَّ قَليْلاً » استثناء من النصف ، كأنه قيل : [ قُم أقل من نصف الليل ، والضمير في « مِنْهُ » و « عليه » عائد على النصف ، والمعنى : التخيير بين أمرين : بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت ] ، وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف ، والزيادة عليه ، قاله الزمخشريُّ .
وناقشه أبو حيَّان : « بأنه يلزم منه تكرار اللفظ ، ويصير التقدير : قم نصف الليل إلا قليلاً من نصف الليل ، قال : وهذا تركيب ينزه القرآن عنه » .
قال شهاب الدين : والوجه في إشكال ، لكن لا من هذه الحيثية ، فإن الأمر فيها سهل بل لمعنى آخر - سأذكره إن شاء الله تعالى قريباً - ، وجعل أبو البقاء هذا الوجه مرجوحاً فإنه قال : والثاني : هو بدل من « قليلاً » - يعني النصف - قال : وهو أشبه بظاهر الآية لأنه قال : « أو انقُصْ مِنْهُ » ، « أو زِدْ عليْهِ » ، والهاء فيهما للنصف ، فلو كان الاستثناء من النصف لصار التقدير : قم نصف الليل إلا قليلاً ، أو انقص منه قليلاً ، والقليل المستثنى غير مقدر فالنقصان منه لا يعقل .
قال شهاب الدين : « والجواب عنه : أن بعضهم قد عين هذا القليل ، فعن الكلبي ، ومقاتل : هو الثلث فلم يكن القليل غير مقدر ، ثم إن في قوله تناقضاً فإنه قال : » والقليل المستثنى غير مقدر فالنقصان منه لا يعقل « ، فأعاد الضمير على القليل ، وفي الأول أعاده على النصف ، ولقائل أن يقول : قد ينقدح هذا الوجه بإشكال قوي ، وهو أنه يلزم منه تكرار المعنى الواحد ، وذلك أن قوله : قُمْ نصف الليل إلا قليلاً ، بمعنى أنقص من نصف الليل ، لأن ذلك القليل ، هو بمعنى النقصان وأنت إذا قلت : » قم نصف الليل إلا القليل من النصف ، وقم نصف الليل ، أو انقص من النصف « وجدتهما بمعنى واحد ، وفيه دقة فتأمله ، ولم يذكر الحوفيُّ غير هذا الوجه المتقدم ، وقد عرف ما فيه ، وممن ذهب إليه أيضاً الزجاجُ فإنه قال : » نِصفَهُ « بدل من » الليل « و » إلاَّ قَلِيلاً « استثناء من النصف ، والضمير في » مِنْهُ « و » عَليْهِ « عائد للنصف ، والمعنى : قُم نصف الليل ، أو انقص من النصف قليلاً إلى الثلث ، أو زد عليه إلى الثلثين ، فكأنه قال : قم ثلثي الليل ، أو نصفه ، أو ثلثه » .
قال شهاب الدين : « والتقديرات التي يبرزونها ظاهرة حسنة إلا أن التركيب لا يساعد عليها لما عرفت من الإشكال المذكور آنفاً » .
الثاني : أن يكون « نِصفَهُ » بدلاً من « قَلِيْلاً » وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء ، وابن عطية .
قال الزمخشريُّ : « وإن شئت جعلت » نِصفَهُ « بدلاً من » قَلِيْلاً « وكان تخييراً بين ثلاث : بين قيام النصف بتمامه ، وبين قيام الناقص منه ، وبين قيام الزائد عليه ، وإنَّما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل » .
وهذا هو الذي جعله أبو البقاء أشبه من جعله بدلاً من « اللَّيْلِ » كما تقدم .
إلا أن أبا حيان اعترض هذا ، فقال : « وإذا كان » نِصفَهُ « بدلاً من » إلاَّ قليلاً « ، فالضميرُ في » نصفهُ « إما أن يعود على المبدل منه ، أو على المستثنى منه ، وهو » الليْل « لا جائزٍ أن يعود على المبدل منه؛ لأنه يصير استثناء مجهول من مجهول ، إذ التقدير : إلا قليلاً نصف القليل ، وهذا لا يصح له معنى ألبتَّة ، وإن عاد الضمير إلى » اللَّيْلِ « فلا فائدة في الاستثناء من » الليْلِ « ، إذ كان يكون أخصر ، وأفصح ، وأبعد عن الإلباس : قم الليل نصفه ، وقد أبطلنا قول من قال : » إلاَّ قَليلاً « استثناء من البدل ، وهو » نِصْفَهُ « وأنَّ التقدير : قم الليل نصفه إلا قليلاً منه ، أي من النصف ، وأيضاً ففي دعوى أن » نِصفَهُ « بدل من » إلاَّ قَلِيلاً « ، والضمير في » نِصْفَهُ « عائد على » الليْلِ « ، إطلاق القليل على النصف ، ويلزم أيضاً أن يصير التقدير : إلا نصفه فلا تقمه ، أو انقص من النصف الذي لا تقومه ، وهذا معنى لا يصلح ، وليس المراد من الآية قطعاً » .
قال شهاب الدين : يقول بجواز عوده على كل منهما ، ولا يلزم محذور ، أما ما ذكره من أنه يكون استثناء مجهول من مجهول فممنوع ، بل هو استثناء معلوم من معلوم ، لأنا بينا أن القليل قدر معين وهو الثلث ، والليل ليس بمجهول ، وأيضاً فاستثناء المبهم قد ورد ، قال الله تعالى : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] ، وقال تعالى : { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 249 ] ، وكان حقه أن يقول : لأنه بدل مجهول من مجهول ، وأما ما ذكره من أنه « أخصر منه ، وأوضح » كيت وكيت ، أما الأخصر ، فمسلم وأما أنه يلبس ، فممنوع ، وإنما عدل عن اللفظ الذي ذكره لأنه أبلغ ، وبهذا الوجه استدل من قال : يجوز استثناء النصفِ ، والأكثر ، [ ووجه الدلالة على الأول أنه جعل قليلاً مستثنى من الليل ثم فسَّر ذلك القليل بالنصف ، فكأنه قيل قم الليل إلا نصفه ] ووجه الدلالة على الثاني : أنه عطف « أوْ زِدْ عليْهِ » على « انْقُصْ مِنْهُ » ، فيكون قد استثنى الزائد على النصف ، لأن الضمير في « مِنْهُ » وفي « عَليْهِ » عائد على النصف وهو استدلال ضعيف لأن الكثرة إنَّما جاءت بالعطف ، وهو نظير أن يقول : له عندي عشرةٌ إلا خمسة درهماً درهماً ، فالزيادة على النصف بطريق العطف ، لا بطريق أن الاستثناء أخرج الأكبر بنفسه .
الثالث : إن « نِصفَهُ » بدل من « الليل » [ أيضاً كما تقدَّم في الوجه الأول ، إلا أن الضمير في « مِنْهُ » و « عَليْهِ » عائد على الأقل من النصف ، ] وإليه ذهب الزمشخريُّ ، فإنه قال : « وإن شئت قلت : لما كان معنى { قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ } إذا أبدلت النصف من الليل يكون المعنى : قم أقل من نصف الليل ، فيرجع الضمير في » مِنْهُ « و » عَليْهِ « ، إلى الأقل من النصف ، فكأنه قيل : قم أقل من نصف الليل ، أو قم أنقص من ذلك الأقل ، أو أزيد منه قليلاً ، فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث » .
الرابع : أن يكون « نِصفَهُ » بدلاً من « قَلِيْلاً » كما تقدم؛ إلا أنك تجعل القليل الثاني ربع الليلِ ، وقد أوضح الزمخشري هذا أيضاً ، فقال : « ويجوز إذا أبدلت » نِصْفَهُ « من » قَلِيْلاً « وفسرته به أن تجعل » قَلِيلاً « الثاني بمعنى نصف النصف بمعنى الربع ، كأنه قيل : أو انقص منه قليلاً نصفه ، وتجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع نصف الربع ، كأنه قيل : أو زد عليه قليلاً نصفه ، ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث ، فيكون تخييراً بين النصف ، والثلث ، والربع » انتهى .
واختار ابن الخطيب هذا الوجه مع الوجه الثاني : فقال : وقد أكثر الناس في هذه الآية ، وفيها وجهان ملخصان :
أحدهما : أن القليل في قوله : « إِلاَّ قَليْلاً » ، هو الثلث ، لأن قوله تعالى في آخر السورة : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ } ، يقتضي أن أكثر المقادير الواجبة هو الثلثان ، فيكون قيامُ الثلث جائزاً ، وهو قوله : { إلاَّ قَلِيلاً } فكأنه قيل : قم ثلثي الليل ، ثم قال : « نِصْفَهُ » فمعناه : أو قم نصفه ، من باب قولهم : « جالس الحسن ، أو ابن سيرين » على الإباحة ، فحذف العاطف ، فالتقدير : قم الثلثين ، أو قم النصف ، أو انقص من النصف ، أو زد عليه ، فعلى هذا يكون الثلثان أقصى الزيادة ، والثلث أقصى النقصان ، فيكون الواجب هو الثلث ، والزائد عليه مندوباً ، فإن قيل : فيلزم على قراءة الخفض في « نصفه » و « ثلثه » أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ترك من الواجب الأدنى ، لأنه تعالى قال : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } فيكون المعنى أنك تقوم أقل من الثلثين ، وأقل من النصف وأقل من الثلث ، فإذا كان الثلث واجباً كان النبي صلى الله عليه وسلم تاركاً للواجب؟
قلنا : المقدر للشيء قد ينقص منه لعدم انضباطه لأنه باجتهاد فربما أخطأ ، فهو كقوله تعالى : { عَلِمَ أَن لَّنْ تُحْصُوهُ } [ المزمل : 20 ] .
الثاني : أن « نِصْفَهُ » تفسير ل « قَلِيْلاً » لأن النصف قليل بالنسبة إلى الكل لأن المكلف بالنصف لا يخرج عن العهدة بيقين ، إلا بزيادة شيء قليل عليه فيصير في الحقيقة نصفاً وشيئاً ، فيكون الباقي بعد ذلك أقل من النصف ، فالمعنى : قم نصف الليل ، أو انقص منه نصفه ، وهو الربع ، أو زد عليه نصفه ، وهو الربع ، فيصير المجموع ثلاثة أرباع ، فيكون مخيراً بين أن يقوم تمام النصف ، أو ربع الليل ، أوثلاثة أرباعه ، وحينئذ يزول الإشكال بالكلية ، لأن الربع أقل من الثلث ، وذلك أن قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يقم ثلثي الليل ، ولا نصفه ولا ثلثه ، لأن الواجب لما كان هو الربع فقط ، لم يلزم ترك قيام الثلث .
الوجه الخامس : أن يكون { إِلاَّ قَلِيلاً } استثناء من القيام ، فيجعل « الليْل » اسم جنس ، ثم قال : { إِلاَّ قَلِيلاً } ، أي : إلا الليالي التي تُخِلّ فيها ، أي تترك في قيامها القدر البين ونحوه ، وهذا النظر يحسن مع القول بالندب ، قاله ابن عطية ، احتمالاً من عنده وهذا خلافُ الظاهرِ ، وهو تأويل بعيد .
السادس : قال الأخفش : الأصل قم الليل إلا قليلاً أو نصفه ، قال : كقولك : « أعطه درهماً درهمين ثلاثة » .
وهذا ضعيف جداً ، لأن فيه حذف حرف العطفِ ، وهو ممنوعٌ ، لم يردْ منه إلا شيء شاذ ممكن تأويله ، كقولهم : « أكَلتُ لحْماً سَمَكاً تَمْراً » .
وقول الآخر : [ الخفيف ]
4920 - كَيْفَ أصْبحْتَ كيْفَ أمْسيْتَ ممَّا ... يَنْزِعُ الوُدَّ في فُؤادِ الكَريمِ
أي : « لحماً وسمكاً وتمراً » ، وكذا : كيف أصبحت ، وكيف أمسيت ، وقد خرج الناس هذا على بدل النداء .
السابع : قال التبريزي : الأمر بالقيام ، والتخيير في الزيادة ، والنقصان وقع على الثلثين في آخر الليل ، لأن الثلث الأول وقت العتمة ، والاسثتناء وارد على المأمورية ، فكأنه قال : قم ثلثي الليل إلا قليلاً أي ما دون نصفه « أو زِدْ عليْهِ » ، أي على الثلثين ، فكان التخيير في الزيادة ، والنقصان واقعاً على الثلثين ، وهذا كلام غريب لا يظهر من هذا التركيب .
الثامن : أن « نِصْفَهُ » منصوب على إضمار فعل ، أي : قم نصفه ، حكاه مكي عن غيره ، فإنه قال : « نِصْفَهُ » بدل من « الليْلِ » .
وقيل : « انتصب على إضمار : قم نصفه » .
قال شهاب الدين : « وهذا في التحقيق ، وهو وجه البدل الذي ذكره أولاً ، لأن البدل على نية تكرار العامل » .
فصل في نسخ الأمر بقيام الليل
اختلفوا في الناسخ للأمر بقيام الليل ، فعن ابن عباس وعائشة : أن الناسخ قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل } إلى آخرها ، وقيل : قوله تعالى : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } وعن ابن عباس أيضاً : أنه منسوخ بقوله { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى } ، وعن عائشة أيضاً ، والشافعي وابن كيسان : هو منسوخ بالصلوات الخمس ، وقيل : الناسخ قوله تعالى : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } .
قال أبو عبد الرحمن السلمي : لما نزلت { ياأيها المزمل } قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ثم نزل قوله تعالى : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } .
قال بعض العلماء : وهو فرض نسخ به فرض كان على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لفضله كما قال تعالى : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } .
قال القرطبيُّ : « والقول الأول يعم جميع هذه الأقوال ، وقد قال تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } [ البقرة : 43 ] . فدخل فيها قول من قال : إن الناسخِ الصلوات الخمس ، وذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل كانت فريضة على كلِّ مسلمٍ ، ولو على قدر حلب شاة ، وعن الحسن أيضاً أنه قال في هذه الآية : الحمد لله تطوع بعد الفريضة ، وهو الصحيح - إن شاء الله تعالى - لما جاء في قيامه من الترغيب ، والفضل في القرآن ، والسنة » .
قالت عائشة رضي الله عنها : « كنت أجعل للنبي صلى الله عليه وسلم حصيراً يصلي عليه من الليل ، فتسامع الناس به فلما رأى جماعتهم كره ذلك ، وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل ، فدخل البيت كالمغضب ، فجعلوا يتحنحون ، ويتفلون ، فخرج إليهم فقال : » أيُّهَا النَّاسُ تكلَّفُوا مِن العمل ما تُطيقُونَ ، فإنَّ اللَّه لا يمَلُّ من الثواب حتَّى تَملُّوا من العملِ ، وإنَّ خَيْرَ العمَلِ أدومهُ ، وإنْ قَلَّ « ، فنزلت { ياأيها المزمل } ، فكتب عليهم ، وأنزل بمنزلة الفريضة حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل ، فيتعلق به ، فمكثوا ثمانية أشهرٍ ، فنزل قوله : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل } ، فردهم الله إلى الفريضة ، ووضع عنهم قيام الليل ، إلا ما تطوعوا به .
قال القرطبيُّ : ومعنى حديث عائشة رضي الله عنها ثابت في الصحيح ، إلى قوله : » وإنْ قَلَّ « وباقيه يدل على أن قوله تعالى { ياأيها المزمل } نزل بالمدينة ، وأنهم مكثوا ثمانية أشهرٍ يقومون ، وقد تقدم عنها في » صحيح مسلم « حولاً .
وحكى الماورديُّ عنها قولاً ثالثاً : وهو ستة عشر شهراً لم يذكر غيره عنها ، وذكر عن ابن عباس رضي الله عنه : أنه كان بين أول » المُزمِّل « وآخرها سنة ، قال : فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان فرضاً عليه ، وقيل في نسخه عنه قولان :
أحدهما : أنه كان فرضاً عليه إلى أن مات .
والثاني : أنه نسخ عنه كما نسخ عن أمته ، وفي مدة فرضه إلى أن نسخ قولان :
أحدهما : المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين ، يريد قول ابن عباس حولاً ، وقول عائشة ستة عشر شهراً .
الثاني : » أنها عشر سنين إلى أن خفف عنه بالنسخ « .
قوله : { وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً } ، أي : لا تعجل في قراءة القرآنِ بل اقرأه على مهل وهينة ، وبينه تبييناً مع تدبر المعاني .
قال المبرد : أصله من قولهم : « ثغر رتل ورتل » بفتح العين وكسرها إذا كان حسن التنضيد ، ورتلت الكلام ترتيلاً ، إذا جملت فيه ، ويقال : ثغر رتل إذا كان بين الثنايا افتراق قليل .
فقوله تعالى : { تَرْتِيلاً } تأكيد في إيجاب الأمر به ، وأنه مما لا بد منه للقارىء .
روى الحسن : « أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل يقرأ آية ويبكي ، فقال : » أَمْ تَسمعُوا إلى قولِ اللَّهِ تعالى : { وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً } ، هذا الترتيل « .
وروى » أبو داود « عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يُؤتَى بِقَارِىء القُرآنِ يَوْم القِيامةِ ، فيُوقَفُ فِي أول دَرجِ الجنَّةِ ، ويقال له : اقْرَأ وارْقَ ورتلْ كَمَا كُنْتَ تُرتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلتك عِنْدَ آخِرِ آية تقرؤها « .
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
قوله : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } ، الجملة من قوله : « إنَّا سَنُلقي » مستأنفة .
وقال الزمخشريُّ : « وهذه الآية اعتراض » ثم قال : « وأراد بهذا الاعتراض أن ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الثقيلة الصعبة التي ورد بها القرآن ، لأن الليل وقت السبات ، والراحة ، والهدوء فلا بد لمن أحياه من مضادة لطيفة ، ومجاهدة لنفسه » انتهى .
يعني بالاعتراض من حيثُ المعنى ، لا من حيث الصناعة ، وذلك أن قوله : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } مطابق لقوله : « قُمِ الليْل » ، فكأنه شابه الاعتراض من حيث دخوله بين هذين المناسبتين .
فصل في معنى الآية
المعنى : سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل « قَوْلاً ثَقيْلاً » يثقل حمله ، لأن الليل للمنام فمن أجر بقيام أكثره ، لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل مشقة شديدة على النفس ، ومجاهدة الشيطان فهو أمر يثقل على العبد .
وقيل : المعنى سنوحي إليك القرآن وهو ثقيل يثقل العمل بشرائعه قال قتادة : ثقيل - والله - فرائضه وحدوده . وقال مجاهد : حلاله وحرامه .
وقال الحسن : العمل به .
وقال أبو العالية : ثقيل بالوعد ، والوعيد ، والحلال والحرام .
وقال محمد بن كعب : « ثقيل على المنافقين لأنه يهتك أسرارهم ، ويبطل أديانهم » .
وقيل : على الكفار لما فيه من الاحتجاج عليهم ، والبيان لضلالتهم وسب آلهتهم .
وقال السديُّ : ثقيل بمعنى كريم ، مأخوذ من قولهم : فلان ثقيل عليَّ ، أي يكرم عليّ .
وقال الفراءُ : « ثَقِيْلاً » أي : رزيناً .
وقال الحسن بن الفضل : ثقيل لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ونفس مزينة بالتوحيد .
وقال ابن زيد : هو ثقيل مبارك في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة .
وقيل : ثقيل : أي ثابت كثبوت الثقيل في محله ، ومعناه أنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبداً .
[ وقيل : ثقيل : بمعنى أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده ، ومعانيه بالكلية ، فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته ، والفقهاء بحثوا في أحكامه ، وكذا أهل اللغة ، والنحو ، وأرباب المعاني ، ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه بفوائد ما وصل إليها المتقدمون فعلمنا أن الإنسان الواحد لا يقوى على الاشتغال بحمله ، فصار كالجبل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله ] .
وقيل : هو الوحي ، كما جاء في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته ، وضعت جرانها - يعني صدرها - على الأرض فما تستطيع أن تتحرك ، حتى يُسَرَّى عنه « .
وقال القشيري : القول الثقيل هنا : هو قول : » لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ « ، لأنه ورد في الخبر : » لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ خَفيفَةٌ على اللِّسانِ ثَقِيلةٌ في المِيزَانِ « .
قوله : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل } .
في الناشئة أوجه :
أحدها : أنها صفة لمحذوف ، أي : النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها للعبادة ، أي تنهض وترفع من « نشأت السحابة » إذا ارتفعت ، ونشأ من مكانه ونشر إذا نهض ، قال : [ الطويل ]
4921 - نَشَأنَا إلى خُوصِ بَرَى نيَّهَا السُّرَى ... وألصَقَ مِنْهَا مُشرِفَاتِ القَماحِدِ
الثاني : أنها مصدر بمعنى قيام الليلِ ، على أنها مصدر من « نشأ » إذا قام ونهض ، فيكون كالعافية والعاقبة ، قالهما الزمخشري .
الثالث : أنها بلغة الحبشةِ نشأ الرجل ، أي : قام من الليل .
قال أبو حيان : فعلى هذا هي جمع ناشىء ، أي : قائم ، يعني : أنها صفة لشيء يفهم الجمع ، أي : طائفة ، أو فرقة نائشة ، وإلا ف « فاعل » لا يجمع على « فاعلة » .
قال القرطبي : « قال ابن مسعود : » الحبشة « [ يقولون : نشأ ، أي قام . فلعله أراد أن الكلمة عربية ، ولكنها شائعة في كلام الحبشة ] غالبة عليهم ، وإلاَّ فليس في القرآن ما ليس من لغة العرب » .
الرابع : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل } : ساعاته ، وأوقاته؛ لأنها تنشأ شيئاً بعد شيء .
قال القرطبيُّ : « لأنها تنشأ أولاً فأولاً ، يقال : نشأ الشيء ينشأ إذا ابتدأ ، وأقبل شيئاً بعد شيء فهو ناشىء ، وأنشأه اللهُ فنشىء ، فالمعنى : ساعات الليل الناشئة ، فاكتفى بالوصف عن الاسم فالتأنيث للفظ الساعة ، لأن كل ساعة تحدث » .
وقيدها الحسن وابن عبَّاسٍ : بما كان بعد العشاء ، إن كان قبلها فليس بناشئة ، وخصصتها عائشة رضي الله عنها بأن تكون بعد النوم ، فلو لم يتقدَّمها نوم لم تكن ناشئة .
قوله : { هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } .
قرأ أبو عمرو وابن عامرٍ : بكسر الواو ، وفتح الطاء بعدها ألف ، والباقون : بفتح الواو وسكون الطاء .
وقرأ قتادة وشبل عن أهل مكة : « وِطْأً » ، بكسر الواو وسكون الطاء .
وظاهر كلام أبي البقاء أنه قرىء بفتح الواو مع المد ، فإنه قال : « وِطْأ » بكسر الواو بمعنى مواطأة « ، وبفتحها اسم للمصدر ، ووطأ على » فعل « وهو مصدر وطىء ، والوطاء : مصدره » وِطَاء « ك » قِتَال « مصدر » قَاتلَ « ، والمعنى : أنها أشد مُواطأة ، أي : يواطىء قلبها لسانها إن أردت النفس ، ويواطىء قلب النائم فيها لسانه إن أردت القيام ، أو العبادة ، أو الساعات ، أو أشد موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص .
والوطء - بالفتح والكسر - : على معنى أشد ثبات قدم ، وأبعد من الزلل وأثقل وأغلظ من صلاة النهار على المصلي من قوله - عليه الصلاة والسلام - : » اللَّهُمَّ اشدُدْ وطْأتكَ على مُضَر « وعلى كل تقدير : فانتصابه على التمييز .
قوله : { وَأَقْوَمُ قِيلاً } .
حكى الزمخشريُّ : أن أنساً قرأ : » وأصوب قِيْلاً « فقيل : له : يا أبا حمزة إنما هي » وأقْوَمُ « ، فقال : إن أقوم ، وأصوب وأهيأ ، واحد ، وأنَّ أبا السرار الغنوي كان يقرأ : { فَحَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ } [ الإسراء : 25 ] - بالحاء المهملة - فقيل له : هي بالجيم فقال : جَاسوا وحاسوا واحد .
قال شهاب الدين : « وغرضه من هاتين الحكايتين ، جواز قراءة القرآن بالمعنى ، وليس في هذا دليل؛ لأنه تفسيرُ معنى ، وأيضاً ، فالذي بين أيدينا قرآن متواتر ، وهذه الحكاية آحاد ، وقد تقدم أن أبا الدرداء كان يُقْرِىءُ رجلاً ، { إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم } [ الدخان : 43-44 ] ، فجعل الرجل يقول : طعام اليتيم ، فلما تبرم منه قال : طعام الفاجر يا هذا ، فاستدل به على ذلك من يرى جوازه ، وليس فيه دليل ، لأن مقصود أبي الدرداء بيان المعنى فجاء بلفط مبين » .
قال الأنباري : وذهب بعض الزائغين إلى أن من قال : إن من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القرآنِ ، فهو مصيب إذا لم يخالف ولم يأت بغير ما أراد الله ، واحتجوا بقول أنس هذا ، وهذا قول لا يعرج عليه ، ولا يلتفت إلى قائله ، لأنه لو قرىء بألفاظ القرآن إذا قاربت معانيها ، واشتملت على غايتها لجازأن يقرأ في موضع { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } الشكر للباري ملك المخلوقين ، ويتسع الأمر في هذا ، حتى يبطل لفظ جميع القرآن ، ويكون التالي له مفترياً على الله - تعالى - كاذباً على رسوله صلى الله عليه وسلم ولا حجة لهم في قول ابن مسعود : « نَزلَ القرآنُ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ ، إنما هو كقول أحدكم : تعلم ، وتعال ، وأقبل »؛ لأن هذا الحديث يوجب أن القراءات المنقولة بالأسانيد الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اختلفت ألفاظها ، واتفقت معانيها ، كان ذلك فيها بمنزلة الخلاف في « هَلُمَّ » ، وتعال ، وأقبل « ، فأما ما لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وتابعوهم ، فإن من أورد حرفاً منه في القرآن بهت ، ومال ، وخرج عن مذهب الصواب ، وحديثهم الذي جعلوه قاعدتهم في هذه الضلالة لا يصححه أهل العلم . انتهى .
فصل في فضل صلاة الليل
بيَّن تعالى في هذه الآية فضل صلاةِ الليل على صلاة النَّهار ، وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن أعظم للأجر ، وأجلب للثواب ، كان علي بن الحسين يصلي بين المغرب ، والعشاء ، ويقول : هذه ناشئة الليل .
وقال عطاء وعكرمة : هو بدوام الليل . قال في الصحاح : » ناشئة الليل « أول ساعاته .
وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : هي الليل كلهُ ، لأنه ينشأ بعد النهار ، وهو اختيار مالك .
قال ابن العربي : » وهو الذي يعطيه اللفظ ويقتضيه اللغة « .
وقالت عائشة رضي الله عنها وابن عباس - أيضاً - ومجاهد : إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم ، ومن قال قبل النوم فما قام ناشئة .
وقال يمان وابن كيسان : هو القيام من آخر الليل .
وأما قوله : { أَشَدُّ وَطْأً } ، أي : أثقل على المصلي من ساعات النهار ، لأن الليل وقت منام وراحة فإذا قام إلى صلاة الليل ، فقد تحمل المشقة العظيمة ، هذا على قراءة كسر الواو ، وفتح الطاء ، وأما على قراءة المد : فهو مصدر « واطَأتْ وِطاءً ومُواطَأةً » ، أي : وافقت على الأمر من الوفاق ، تقول : فلان مواطىء اسمه اسمي ، أي : موافقه ، فالمعنى أشد موافقة بين القلب ، والبصر ، والسمع واللسان لانقطاع الأصوات ، والحركات ، قاله مجاهد وابن مليكة وغيرهما ، قال تعالى : { ليواطؤوا عدَّةَ ما حرم الله } [ التوبة : 37 ] ، أي : ليوافقوا ، وقيل : أشدّ مهاداً للتصرف في التفكر والتدبر .
وقيل : أشد ثباتاً من النهار ، فإن الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله فيكون ذلك أثبت للعمل ، والوطء : الثبات ، تقول : وطئتُ الأرض بقدمي .
وقوله : { وَأَقْوَمُ قِيلاً } أي : القراءة بالليل أقوم منها بالنهار ، أي : أشد استقامة واستمراراً على الصواب ، لأن الأصوات هادئة ، والدنيا ساكنة ، فلا يضطرب على المصلي ما يقرأه .
وقال قتادة ومجاهد : أصوب للقراءة وأثبت للقول؛ لأنه زمان التفهم .
وقيل : أشد استقامة لفراغ البال بالليل .
وقيل : أعجل إجابة للدعاء ، حكاه ابن شجرة .
وقال عكرمة : عبادة الليل أتم نشاطاً وأتم إخلاصاً ، وأكثر بركة .
قوله : { إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً } .
قرأ العامة : بالحاء المهملة ، وهو مصدر « سَبح » ، وهو استعارة للتصرف في الحوائج من السباحة في الماء ، وهي البعد فيه .
وقال القرطبيُّ : السَّبْحُ « الجري ، والدوران ، ومنه السباحة في الماء لتقلبه بيديه ورجليه ، وفرس سابح » شديد الجري « . قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
4922 - مِسَحٍّ إذَا السَّابحَاتُ عَلى الوَنَى ... أثَرْنَ غُبَاراً بالكَديدِ المُركَّلِ
وقيل : السبح : الفراغ ، أي : إن لك فراغاً للحاجات بالنهار .
وعن ابن عباس وعطاء : » سَبْحاً طَويْلاً « يعني فراغاً طويلاً يعني لنومك ، وراحتك فاجعل ناشئة الليل لعبادتك . وقرأ يحيى بن يعمر ، وعكرمة وابن أبي عبلة : » سَبْخاً « بالخاء المعجمة .
واختلفوا في تفسيرها : فقال الزمخشريُّ : » استعارة من سبخ الصوف ، وهو نفشه ، ونشر أجزائه لانتشار الهمِّ ، وتفريق القلب بالشواغل « .
وقيل : التسبيخ ، التخفيف ، حكى الأصمعيُّ : » سبخ الله عنك الحمى ، أي : خففها عنك « .
قال الشاعر : [ الطويل ]
4923 - فَسَبِّخْ عليْكَ الهَمَّ واعْلَمْ بأنَّهُ ... إذَا قدَّر الرَّحمنُ شَيْئاً فكَائِنُ
أي : خفف ، ومنه » قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشةَ ، وقد دعت على سارق ردائها : « لا تُسبِّخِي بدُعَائكِ عليْهِ » ، أي : لا تخففي إثمه .
وقيل : التسبيخ : المد ، يقال : سبخي قُطنكِ ، أي : مديه ، والسبيخة : قطعة من القطن ، والجمع : سبائخ؛ قال الأخطل يصف صائداً وكلاباً : [ البسيط ]
4924- فَأرْسلُوهُنَّ يُذْرينَ التُّرابَ كمَا ... يُذْرِي سَبائِخَ قُطْنٍ نَدْفُ أوْتَارِ
وقال أبو الفضل الرازي : « قرأ ابن يعمر وعكرمة : » سَبْخاً « - بالخاء المعجمة - وقالا : معناه نوماً ، أي : ينام بالنهار؛ ليستعين به على قيام الليل ، وقد تحتمل هذه القراءة غير هذا المعنى ، لكنهما فسراها : فلا تجاوز عنه » .
قال شهاب الدين : « في هذا نظرٌ ، لأنهما غاية ما في الباب انهما نقلا هذه القراءة ، وظهر لهما تفسيرها بما ذكر ، ولا يلزم من ذلك أنه لا يجوز غير ما ذكر من تفسير اللفظة » .
وقال ثعلب : السَّبْخُ - بالخاء المعجمة - التردد والاضطراب ، والسبح : السكون « .
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : » الحُمَّى من فَيْحِ جَهنَّمَ فَسبِّحُوهَا بالمَاء « ، أي فسكِّنُوهَا بالمَاءِ .
وقال أبو عمرو : السَّبْخُ : النوم والفراغ ، فعلى هذا يكون من الأضداد ، ويكون بمعنى السبح بالحاء المهملة .
قوله : { واذكر اسم رَبِّكَ } ، أي : ادعه بأسمائه الحسنى ليحصل لك مع الصلاة محمود العاقبة .
وقيل : اقصد بعملك وجه ربِّك .
وقال سهل : اقرأ باسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتِك توصلك بركة قراءتها إلى ربك وتقطعك عما سواه .
وقيل : اذكر اسم ربِّك في وعده ، ووعيده؛ لتتوفّر على طاعته وتعدل عن معصيته .
وقال الكلبي : صلِّ لربِّك ، أي : بالنهار .
قال القرطبيُّ : وهذا حسن ، لأنه لما ذكر الليل ذكر النهار ، إذ هو قسيمه ، وقد قال تعالى : { وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } [ الفرقان : 62 ] .
قوله : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } ، هذا مصدر على غير المصدر ، وهو واقع موقع التبتل ، لأن مصدر » تفعَّل « » تفعُّل « نحو » تصرَّف تصرُّفاً ، وتكرَّم تكرُّماً « ، وأما » التفعيل « فمصدر » فعَّل « نحو » صرَّف تصريفاً؛ كقول الآخر : [ الرجز ]
4925 - وقَدْ تَطَوَّيْتَ انْطواءَ الحِضْبِ ... فأوقع « الانفعال » موقع « التفعل » .
قال الزمخشريُّ : لأنَّ معنى « تبتَّل » بتل نفسه ، فجيء به على معناه مراعاةً لحق الفواصل .
والبَتْلُ : الانقطاع ، ومنه امرأة بتول ، أي : انقطعت من النكاح ، وبتلت الحبل : قطعته .
قال الليثُ : التبتل : تمييز الشيء من الشيء ، وقالوا : طَلْقةٌ بَتْلةٌ ، يعنون انقطاعها عن صاحبها ، فالتبتُّل : ترك النكاح والزهد فيه ، ومنه سمي الراهب متبتلاً لانقطاعه عن النكاح؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
4926 - تُضِيءُ الظَّلامَ بِالعشَاءِ كأنَّها ... مَنارةُ مُمْسَى رَاهبٍ مُتبتِّلِ
ومنه الحديث : أنه نهى عن التبتل ، وقال : « يَا مَعْشَرَ الشَّبابِ ، من اسْتَطَاعَ مِنْكمُ البَاءَةَ فَليتَزوَّجْ » والمراد به في الآية الكريمة : الانقطاع إلى عبادة الله تعالى دون ترك النكاح .
والتبتل في الأصل : الانقطاع عن الناس ، والجماعات ، وقيل : إن أصله عند العرب التفرد . قاله ابن عرفة .
قال ابن العربي : « هذا فيما مضي ، وأما اليوم ، وقد مرجت عهود الناس ، وخفت أماناتهم ، واستولى الحرام على الحطام ، فالعزلة خير من الخلطة ، والعُزبة أفضل من التأهل ، ولكن معنى الآية : وانقطع عن الأوثان ، والأصنام ، وعن عبادة غير الله .
وكذلك قال مجاهد : معناه : أخلص له العبادة ، ولم يرد التبتل ، فصار التبتُّلُ مأموراً به في القرآن ، مَنْهِيّاً عنه في السنَّةِ ، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي فلا يتناقضان ، وإنما بعث ليبينَ للناس ما نزل إليهم ، والتبتل المأمور به : الانقطاع إلى الله بإخلاص كما قال تعالى :
{ وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } [ البينة : 5 ] ، والتبتل المنهي عنه : سلوك مسلك النصارى في ترك النكاحِ ، والترهب في الصوامع ، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلمِ غنماً يتبع بها شعف الجبال ، ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن « .
قوله : { رَّبُّ المشرق والمغرب } .
قرأ الأخوان وأبو بكر وابن عامرٍ : بجر » ربِّ « على النعت ل » ربِّك « ، أو البدل منه ، أو البيان له .
وقال الزمخشري : وعن ابن عباس : على القسم بإضمار حرف القسمِ ، كقولك : » والله لأفعلنَّ « وجوابه » لا إله إلاَّ هُو « ، كما تقول : » والله لا أحد في الدار سوى زيد « .
قال أبو حيَّان : لعل هذا التخريج لا يصح عن ابن عباس ، لأن فيه إضمار الجار ، ولا يجيزه البصريون إلاَّ مع لفظ الجلالةِ المعظمة خاصة ، ولأن الجملة المنفية في جواب القسم إذا كانت اسمية فإنما تنفى ب » مَا « ، وحدها ، فلا تنفى ب » لا « إلا الجملة المصدرة بمضارع كثيراً ، أو بماض في معناه قليلاً .
نحو قول الشاعر : [ البسيط ]
4927 - رِدُوا فَواللَّهِ لا زُرْنَاكُمُ أبَداً ... مَا دَامَ في مائنَا وِرْد لِوُرَّادِ
والزمخشري أورد ذلك على سبيل التجويزِ ، والتسليم ، والذي ذكره النحويون هو نفيها ب » مَا «؛ كقوله : [ الطويل ]
4928 - لَعمْرُكَ ما سَعْدٌ بخُلَّةِ آثمٍ ... ولا نَأنَإٍ يَوْمَ الحِفَاظِ ولا حَصِرْ
قال شهاب الدين : » قد أطلق ابن مالك أن الجملة المنفية سواء كانت اسمية ، أم فعليه تنفى ب « ما » ، أو « لا » ، أو « إن » بمعنى : « ما » ، وهذا هو الظاهر « .
وباقي السبعة : ترفعه ، على الابتداء وخبره الجملة من قوله » لا إله إلا الله « ، أو على خبر ابتداء مضمر ، أي : » هُو ربُّ « ، وهذا أحسن لارتباط الكلام بعضه ببعض .
وقرأ زيد بن علي : » ربَّ « بالنصب على المدح .
وقرأ العامة : » المشْرِق والمَغْرِب « موحدين .
وعبد الله وابن عباس : » المشَارِق والمغَارِب « .
ويجوز أن ينصب » ربَّ « في قراءة زيد من وجهين :
أحدهما : أنه بدل من » اسم ربِّك « ، أو بيان له ، أو نعت له ، قاله أبو البقاء ، وهذا يجيء على أن الاسم هو المسمى .
والثاني : أنه منصوب على الاشتغال بفعل مقدر ، أي : فاتخذ ربَّ المشرق فاتخذه ، وما بينهما اعتراض .
والمعنى : أن من علم أنه رب المشارق ، والمغارب انقطع بعمله إليه » واتَّخذهُ وَكِيْلاً « ، أي : قائماً وقيل : كفيلاً بما وعدك .
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
قوله : { واصبر على مَا يَقُولُونَ } ، أي : من الأذى ، والسب ، والاستهزاء ، ولا تجزع من قولهم ، ولا تمتنع من دعائهم ، وفوض الأمر إليّ ، فإني إذا كنت وكيلاً لك ، أقوم بإصلاح أمرك أحسن من قيامك بأمور نفسك { واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً } ، الهجر : ترك المخالطةِ ، أي : لا تتعرض لهم ، ولا تشتغل بمكافأتهم فإن ذلك ترك للدعاء إلى الله تعالى ، وكان هذا قبل الأمر بالقتال ، ثم أمر بعد ذلك بقتالهم .
قال قتادة وغيره ، نسختها آية القتال .
وقال أبو الدرداء : إنا لنكشر في وجوه [ أقوام ] ونضحك إليهم وإن قلوبنا لتلعنهم .
قال ابن الخطيب : وقيل وهو الأصح إنّها محكمة .
قوله : { وَذَرْنِي والمكذبين } . يجوز نصب « المُكذِّبِيْنَ » على المعية ، وهو الظاهر ، ويجوز على النسق وهو أوفق للصناعة .
والمعنى : ارض بي لعقابهم ، نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين .
وقال مقاتل : نزلت في المطعمين يوم بدر ، وهم عشرة تقدم ذكرهم في الأنفال .
وقال يحيى بن سلام : إنهم بنو المغيرة .
وقال سعيد بن جبير : أخبرت أنهم اثنا عشرة رجلاً ، « أولي النعمة » أي : أولي الغنى ، والترفه واللذة في الدنيا { وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً } يعني إلى مدة آجالهم ، قالت عائشة - رضي الله عنها - : لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيراً حتى وقعت وقعة بدر .
وقيل : « ومَهِّلهُمْ قَلِيلاً » مدة الدنيا .
قوله : « أوْلِي النَّعمَةِ » ، نعت للمكذبين . و « النعمة » - بالفتح - : التنعم ، وبالكسر ، الإنعام ، وبالضم : المسرَّةُ ، يقال : نِعْمة ونُعْمة عين .
وقوله : « قَلِيلاً » ، نعت لمصدر ، أي : تمهيلاً ، أو لظرف زمان محذوف ، أي : زماناً قليلاً .
قوله : { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً } ، جمع نكل ، وفيه قولان :
أشهرهما : أنه القيد .
وقيل : الغل؛ وقالت الخنساء : [ المتقارب ] .
4929 - دَعَاكَ فقطَّعْتَ أنْكالَهُ ... وقَدْ كُنَّ مِنْ قَبْلُ لا تُقطَعُ
قال الحسن ومجاهد وغيرهما : الأنكال : القيود ، واحدها : نكل ، وهو ما منع الإنسان من الحركة ، وقيل : سمي نكلاً ، لأنه ينكل به .
قال الشعبي : أترون أن الله جعل الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا - لا والله - ولكنهم إذا أراد أن يرتفعوا اشتعلت بهم .
وقال الكلبيُّ : الأنكال : الأغلال .
وقال مقاتل : الأنكال : أنواع العذاب الشديد .
وقال عليه الصلاة والسلام : « إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ النَّكلَ على النَّكلِ » - قال الجوهريُّ : بالتحريك - قيل : وما النكل؟ قال : « الرجل القوي المجرب على الفرس القوي المجرب » - ذكره الماورديُّ ، قال : ومن ذلك سمي القَيْدُ نِكلاً لقوته وكذلك الغُلّ وكل عذاب قوي .
قال ابن الأثير : « النَّكَلُ - بالتحريك - من التنكيل ، وهو المنع ، والتنحية عما يريد يقال : رجل نَكَلٌ ونِكْلٌ ، كشبه وشبهٌ ، أي : ينكل به أعداؤه ، وقد نكل الأمر ينكل ، ونكل ينكل : إذا امتنع ، ومنه النكول في اليمين وهو الامتناع منها وترك الإقدام عليها » .
والجحيم : النار المؤجَّجَةُ .
{ وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ } . « الغُصَّةُ » : الشجى ، وهو ما ينشب في الحلق فلا ينساغ ، ويقال : « غَصِصتُ » - بالكسر - فأتت غَاصٌّ وغصَّان ، قال : [ الرمل ]
4930 - لَو بِغيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ ... كُنْتُ كالغَصَّانِ بالمَاءِ اعتِصَارِي
والمعنى : طعاماً غير سائغ يأخذ بالحلق ، لا هو نازل ، ولا هو خارج وهو كالغسلين ، والزَّقُّوم والضريع . قاله ابن عباس . وعنه أيضاً : أنه شوك يدخل الحلق فلا ينزل ولا يخرج .
وقال الزجاجُ : أي : طعامهم الضريع ، وهو شوك كالعوسج .
وقال مجاهد : هو كالزقوم .
والغصة : الشجى ، وهو ما ينشب في الحلق من عظم ، أو غيره ، وجمعها : غُصَص ، والغَصَصُ - بالفتح - مصدر قولك « غَصِصْتَ » يا رجل تَغُصُّ ، فأنت غاصٌّ بالطعام وغصَّان وأغْصصتُهُ أنا ، والمنزل غاص بالقوم أي ممتلىء بهم « .
ومعنى الآية : أن لدينا في الآخرة ما يضادّ تنعمهم في الدنيا ، وهذه هي الأمور الأربعة : الأنكال ، والجحيم ، والطعام الذي يغص به ، والعذاب الأليم ، والمراد به : سائرُ أنواع العذابِ .
قوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال } . أي : تتحرك ، وفي نصب » يوم « أوجه :
أحدها : أنه منصوب ب » ذرني « ، وفيه بعد .
والثاني : أنه منصوب بنزع الخافض أي : هذه العقوبة في يوم ترجف .
الثالث : أنه منصوب بالاستقرار المتعلق به » لَديْنَا « .
والرابع : أنه صفة ل » عَذاباً « فيتعلق بمحذوف ، أي عذاباً واقعاً يوم ترجف .
الخامس : أنه منصوب ب » ألِيْم « .
والعامة : » تَرجُف « - بفتح التاء ، وضم الجيم - مبنياً للفاعل .
وزيد بن علي : مبنياً للمفعول ، من أرجفها : والرجفة : الزلزلة والزعزعة الشديدة .
قوله : { وَكَانَتِ الجبال } ، أي : وتكون الجبال { كَثِيباً مَّهِيلاً } ، الكثيب : الرمل المجتمع .
قال حسان : [ الوافر ]
4931 - عَرفْتُ دِيَارَ زَينَب بالكَثِيبِ ... كخَطِّ الوحْي في الورَقِ القَشِيبِ
والجمع في القلة : » أكْثِبَةٌ « ، وفي الكثرة : » كثبان « و » كُثُب « ك » رَغيف وأرغِفَة ، ورُغْفَان ورُغُف « .
قال ذو الرمة : [ الطويل ]
4932 - فَقلْتُ لهَا : لا إنَّ أهْلِي لَجيرةٌ ... لأكْثِبَةِ الدَّهْنَا جَمِيعاً ومَالِيَا
قال الزمخشري : من كثبت الشيء إذا جمعته ، ومنه الكثبة من اللبن؛ قالت الضائنة : أجَزُّ جُفالاً ، وأحلبُ كُثَباً عُجَالاً .
[ والمهيل : أصله » مهيول « ك » مضروب « استثقلت الضمة على الياء ] فنقلت إلى الساكن قبلها ، وهو الهاء فالتقى ساكنان ، فاختلف النحاة في العمل في ذلك : فسيبويه ، وأتباعه حذفوا الواو ، وكانت أولى بالحذف ، لأنها زائدة ، وإن كانت القاعدة إنما تحذف لالتقاء الساكنين الأول ، ثم كسروا الهاء لتصح الياء ، ووزنه حينئذ » مفعل « .
والكسائي والفراء والأخفش : حذفوا الياء ، لأن القاعدة في التقاء الساكنين : إذا احتيج إلى حذف أحدهما حذف الأول ، وكان ينبغي على قولهم أن يقال فيه : » مهول « إلا أنهم كسروا الهاء لأجل الياء التي كانت فقلبت الواو ياء ، ووزنه حينئذ » مفعول « على الأصل ، و » مفيل « بعد القلب .
قال مكي : « وقَدْ أجَازوا كلهم أن يأتي على أصله في الكلام ، فتقول : مهيول ومبيوع » ، وما أشبه ذلك من ذوات الياء ، فإن كان من ذوات الواو لم يجز أن يأتي على أصله عند البصريين ، وأجازه الكوفيون ، نحو : مقوول ، ومصووغ .
وأجازوا كلهم : مهول ومبوع ، على لغة من قال : بوع المتاع ، وقول القول ، ويكون الاختلاف في المحذوف منه على ما تقدم .
قال شهاب الدين : « التمام في » مبيوع ، ومهيول « وبابه ، لغة تميم ، والحذف لغة سائر العرب » .
ويقال : هلتُ التراب أهيله هيلاً ، فهو مهيل فيه .
وفيه لغة : أهلتُه - رباعيّاً - إهالةً فهو مُهال ، نحو أبعته إباعة فهو مباع . والمهيل من هال تحته القدم أي انصب أي هلت التراب أي طرحته .
وقال القرطبيُّ : والمَهِيلُ : الذي يمر تحت الأرجل ، قال الضحاك والكلبي : المهيل : الذي إذا وطئته بالقدم زل من تحتها ، فإذا أخذت أسفله انهال .
وقال ابن عباس : « مهيلاً » أي : رملاً سائلاً متناثراً .
قال القرطبيُّ : وأصله مَهْيُول ، وهو « مفعُول » من قولك : هلت التراب عليه أهيلة إهالة وهيلاً ، إذا صببته .
يقال : مَهِيل ومَهْيُول ، ومَكِيل ومكيول ، ومَدِين ومديُون ومَعِين ومَعْيُون .
قال الشاعر : [ الكامل ]
4933 - قَدْ كَانَ قَومُكَ يَحسبُونكَ سيِّداً ... وإخَالُ أنَّكَ سيِّدٌ مَعيُونُ
وقال - عليه الصلاة والسلام - حين شكوا إليه الجدوبة : « » أتكِيْلُون أمْ تَهِيْلُون «؟ قالوا : نهيل . قال : » كِيلُوا طَعامَكُم يُبارِكْ لَكُمُ الله فِيْهِ « » .
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
واعلم أنه تعالى لما خوف المكذبين أولي النَّعمةِ بأهوال يوم القيامة خوفهم بعد ذلك بأهوال الدنيا ، فقال :
{ إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً } يريد النبي صلى الله عليه وسلم أرسله إلى قريش { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً } وهو موسى - عليه الصلاة والسلام - وهذا تهديد لأهل مكة بالأخذ الوبيل .
قال مقاتل : وإنما ذكر موسى وفرعون دون سائر الرسل لأن أهل « مكة » ازدروا محمداً صلى الله عليه وسلم واستخفوا به؛ لأنه ولد فيهم كما أن فرعون ازدرى بموسى؛ لأنه ربَّاه ، ونشأ فيما بينهم كما قال تعالى : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا } [ الشعراء : 18 ] .
وذكر ابن الخطيب هذا السؤال والجواب وليس بالقوي لأن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ولد ، ونشأ فيما بين قوم نمرود ، وكان « آزَر » وزير نمرود على ما ذكره المفسرون ، وكذلك القول في نوح وهود وصالح ولوط ، لقوله تعالى في قصة كل واحد منهم لفظة « أخاهم » لأنه من القبيلة التي بعث إليها .
قوله : { فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } ، إنما عرفه لتقدم ذكره ، وهذه « أل » العهدية ، والعرب إذا قدمت اسماً ثم حكت عنه ثانياً ، أتوا به معرفاً ب « أل » ، أو أتوا بضميره لئلا يلتبس بغيره نحو « رأيت رجلاً فأكرمتُ الرجل ، أو فأكرمته » ، ولو قلت : « فأكرمت رجلاً » لتوهم أنه غير الأول وسيأتي تحقيق هذا عند قوله تعالى : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } [ الشرح : 6 ] وقوله - عليه الصلاة والسلام - : « لَنْ يغْلِبَ عسرٌ يُسرين » .
قال المهدوي هنا : ودخلت الألف واللام في « الرسول » لتقدم ذكره ، ولذلك اختير في أول الكتب « سَلامٌ عَليْكُم » ، وفي آخرها « السَّلام عليْكُم » .
قوله : { فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً } ، أي : شديداً ، وضرب وبيل ، وعذاب وبيل ، أي : شديد .
قاله ابن عباس ومجاهد ، ومنه : « مطر وابل » ، أي : شديد ، قاله الأخفش .
وقال الزَّجاجُ : أي : ثقيلاً غليظاً ، ومنه قيل للمطر وابل . وقيل : مهلكاً ، قال : [ الكامل ]
4934 - أكَلْتِ بَنِيكِ أكْل الضَّبِّ حتَّى ... وجَدْتِ مرارة الكَلأ الوَبيلِ
واستوبل فلان كذا : أي : لم يحمد عاقبته ، وماء وبيل ، أي : وخيم غير مريء وكلأ مستوبل ، وطعام وبيل ومستوبل إذا لم يُمرأ ولم يستمرأ؛ قال زهير : [ الطويل ]
4935 - فَقضَّوا مَنايَا بَينَهُمْ ثُمَّ أصْدَرُوا ... إلى كَلأٍ مُستوبَلٍ مُتوخمِ
وقالت الخنساء : [ الوافر ]
4936 - لَقَدْ أكَلتْ بجِيلةُ يَوْمَ لاقَتْ ... فَوارِسَ مالِكٍ أكْلاً وبِيلا
والوبيل أيضاً : العصا الضخمة؛ قال : [ الطويل ]
4937 - لَوْ أصْبَحَ فِي يُمْنَى يَديَّ رِقامُهَا ... وفِي كفِّيَ الأخْرَى وبِيلاً نُحَاذِرُهْ
وكذلك : « الوبل » بكسر الباء ، و « الوبل » أيضاً : الحزمة من الحطب وكذلك « الوبيل » .
قال طرفة : [ الطويل ]
4938 - . . ... عَقِيلةُ شَيْخٍ كالوَبِيلِ يَلنْدَدِ
فصل في الاستدلال بالآية على « القياس »
قال ابن الخطيب : هذه الآية يمكن الاستدلال بها على إثبات القياس ، لأن الكلام إنما ينتظم لو قسنا إحدى الصورتين على الأخرى .
فإن قيل هنا : هب أن القياس في هذه الصورة حجة ، فلم قلتم : إنه في سائر الصور حجة ، حينئذ يحتاج إلى سائر القياسات على هذا القياسِ ، فيكون ذلك إثباتاً للقياس بالقياس؟ .
قلنا : لا نثبت سائر القياسات بالقياس على هذه الصورة ، وإلا لزم المحذور الذي ذكرتم بل وجه التمسك أن نقول : لولا أنه تمهد عندهم أن الشيئين اللذين يشتركان في مناط الحكم ظنّاً يجب اشتراكهما في الحكم ، وإلا لما أورد هذا الكلام في هذه الصورة وذلك لأن احتمال الفرق المرجوح قائم هنا ، فإنَّ لقائلٍ أن يقول : لعلهم إنما استوجبوا الأخذ الوبيل بخصوصية حال العصيان في تلك الصورة وتلك الخصوصية غير موجودة - هاهنا - ، ثم إنه تعالى مع قيام هذا الاحتمال جزم بالتسوية في الحكم [ فهذا الجزم لا بد وأن يقال إنه كان مسبوقاً بتقدير أنه متى وقع اشتراك في المناط الظاهر وجزم الاشتراك في الحكم ] ، وإن الفرق المرجوح من أن ذلك المرجوح لخصوص تلك الواقعةِ لا عبرة به لم يكن لهذا الكلام كثير فائدة ، ولا معنى لقولنا القياس حجة إلا لهذا .
فصل في معنى شهادة الرسول عليهم
قال ابن الخطيب : ومعنى كون الرسول شاهداً عليهم من وجهين :
الأول : أنه شاهد عليهم يوم القيامة بكفرهم ، وتكذيبهم .
الثاني : أن المراد بكونه شاهداً كونه مبيناً للحق في الدنيا ومبيناً لبطلان ما هم عليه من الفكر ، لأن الشاهد بشهادته يبين الحق ، ولذلك وصفت بأنها بينة ، ولا يمتنع أن يوصف صلى الله عليه وسلم بذلك من حيث إنه يبين الحق .
قال ابن الخطيب : وهذا بعيد ، لأن الله تعالى قال : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] أي : عُدُولاً خياراً ، ويكون الرسول عليكم شهيداً ، فبين أنه شاهد عليهم في المستقبل لأن حمله الشهادة في الآخرة حقيقة ، وحمله على البيان مجاز ، والحقيقة أولى من المجاز .
قوله : { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً } .
« يوماً » إما منصوب ب « تَتَّقُونَ » على سبيل المفعول به تجوزاً .
وقال الزمخشري : « يوماً مفعول به ، أي : فكيف تتقون أنفسكم يوم القيامة وهَوْلَهُ إن بقيتم على الكفر » .
وناقشه أبو حيان فقال : « وتتقون مضارع » اتقى « و » اتقى « ليس بمعنى » وقى « حتى يفسره به و » اتقى « يتعدى إلى واحد و » وقى « يتعدى إلى اثنين ، قال تعالى : { وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } [ الطور : 18 ] ولذلك قدره الزمخشريُّ : تقون أنفسكم لكنه ليس » تتقون « بمعنى » تقون « ، فلا يعدى تعديته » انتهى .
ويجوز أن ينتصب على الظرف ، أي : فكيف لكم بالتقوى يوم القيامة ، إن كفرتم في الدنيا . قاله الزمخشري .
ويجوز أن ينتصب مفعولاً ب « كفرتم » إن جعل « كفَرْتُمْ » بمعنى « جَحدتُمْ » أي : فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة .
ولا يجوز أن ينتصب ظرفاً لأنهم لا يكفرون ذلك اليوم بل يؤمنون لا محالة .
ويجوز أن ينتصب على إسقاط الجار ، أي : كفرتم بيوم القيامة .
فصل في المراد بالآية
قال القرطبيُّ : وهذا تقريع وتوبيخ ، أي : كيف تتقون العذاب إن كفرتم ، وفيه تقديم وتأخير ، أي : كيف تتقون يوماً يجعل الولدان شيباً إن كفرتم ، وكذا قراءة عبد الله وعطية .
قال الحسن : بأي صلاة تتقون العذاب؟ بأي صوم تتقون العذاب؟ وفيه إضمار ، أي : كيف تتقون عذاب يوم القيامة .
وقال قتادة : والله ما يتقى من كفر ذلك اليوم بشيء ، و « يَوْماً » مفعول ب « تتقون » على هذه القراءة وليس بظرف ، وإن قدر الكفر بمعنى الجحود كان اليوم مفعول « كفرتم » ، وقال بعض المفسرين : وقف التمام على قوله « كَفرْتُمْ » والابتداء « يَوْماً » يذهب إلى أن « اليوم » مفعول « يَجْعَلُ » والفعل لله - عز وجل - كأنه قال : يجعل الله الولدان شيباً في يوم .
قال ابن الأنباري : وهذا لا يصح؛ لأن اليوم هو الذي يفعل هذا من شدة هوله .
وقال المهدوي : والضمير في « يَجْعلُ » يجوز أن يكون لله - عز وجل - ويجوز أن يكون لليوم ، وإذا كان لليوم ، صلح أن تكون صفة له ، ولا يصلح ذلك إذا كان الضمير لله - عز وجل - إلا مع تقدير حذف ، كأنه قيل : يوماً يجعل الله الولدان فيه شيباً « .
وقال ابن الأنباري : ومنهم من نصب » اليوم « ب » كَفرْتُمْ « ، وهذا قبيح؛ لأن اليوم إذا علق ب » كفرتم « احتاج إلى صفة ، أي : كفرتم بيوم ، فإن احتج محتج بأن الصفة قد تحذف ، وينصب ما بعدها ، احتججنا عليه بقراءة عبد الله : { فَكيْفَ تتَّقُونَ يَوْماً } .
قال القرطبيُّ : » هذه القراءة ليست بمتواترة ، وإنما جاءت على وجه التفسير ، وإذا كان الكفر بمعنى الجحود ف « يوم » مفعول صريح من غير صفة ، ولا حذفها ، أي : فكيف تتقون الله ، وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة ، والجزاء « .
والعامة : على تنوين » يَوْماً « ، وجعل الجملة بعده نعتاً له ، والعائد محذوف ، أي : جعل الولدان فيه . قاله أب البقاء ، ولم يتعرض للفاعل في » يَجْعلُ « ، وهو على هذا ضمير الباري تعالى ، أي : يوماً يجعل الله فيه ، وأحسن من هذا أن يجعل العائد مضمراً في » يَجْعَلُ « هو فاعله ، وتكون نسبة الجعل إلى اليوم من باب المبالغة ، أي : نفس اليوم يجعل الولدان شيباً .
وقرأ زيد بن علي : « يَوْمَ يَجْعَلُ » بإضافة الظرف للجملة ، والفاعل على هذا هو ضمير الباري - تعالى - والجعل - هنا - بمعنى التصيير ، ف « شيباً » مفعول ثان .
وقرأ أبو السمال : « فكيف تتَّقُون » بكسر النون على الإضافة .
والولدان : الصبيان .
وقال السديُّ : هم أولاد الزنا .
وقيل : أولاد المشركين ، والعموم أصح أي يوم يشيب فيه الصغير من غير كبر ، وذلك حين يقال لآدم : يا آدَمُ قَمْ فابْعَثْ بعثاً للنارِ . قال القشيريُّ : هم أهل الجنة ، يُغيِّرُ اللَّهُ أحوالهم ، وأوصافهم على ما يريد .
وقيل : هذا ضرب مثل لشدة ذلك اليوم ، وهو مجاز لأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان ، لكن معناه : أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان فيه هناك صبي لشاب رأسه من الهيبة ، ويقال : هذا وقت الفزع قبل أن ينفخ في الصور نفخة الصعقِ . والله أعلم .
و « شيباً » : جمع « أشْيَب » ، وأصل الشين الضم فكسرت لتصح الياء ، نحو : أحْمَر حُمْرٌ؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
4939 - مِنَّا الذِي هُوَ مَا إنْ طَرَّ شَارِبُهُ ... والعَانِسُونَ ومنَّا المُرْدُ والشِّيبُ
وقال آخر : [ الطويل ]
4940 - .. لَعِبْنَ بِنَا شِيباً ، وشَيَّبْنَنَا مُرْدَا
قال الزمخشريُّ : وفي بعض الكتب أن رجلاً أمسى فاحم الشعر كحنكِ الغراب ، فأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة ، فقال : رأيت القيامة والجنة والنار في المنام ، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار ، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون .
ويجوز أن يوصف اليوم بالطول فإن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب .
قال ابن الخطيب : إن الله تعالى ذكر من هول ذلك اليوم أمرين :
الأول : جعل الولدان شيباً وفيه وجهان :
الأول : أنه مثلٌ في الشدة ، يقال في اليوم الشديد : يوم يشيِّبُ نواصي الأطفال ، والأصل فيه أن الهموم ، والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان ، أسرع فيه الشيبُ لأن كثرة الهموم؛ توجب انكسار الروح إلى داخل القلب ، وذلك الانكسار يوجب انطفاء الحرارة الغريزية ، وضعفها يوجب بقاء الأجزاء الغذائية غير تامة النضج ، وذلك يوجب استيلاء البلغم على الأخلاط ، وذلك يوجب ابيضاض الشعر ، فلما رأوا أن حصول الشيب من لوازم كثرة الهموم جعلوا الشيب كناية عن الشدة والهموم ، وليس المراد أن هول ذلك اليوم يجعل الولدان شيباً حقيقة لأن إيصال الألم أو الخوف إلى الأطفال غير جائز يوم القيامة .
الثاني : ما تقدم من طول اليوم وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة ، والشيب .
قوله : { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } . صفة أخرى ، أي : متشققة بسبب هوله وشدته ، فتكون الباء سببية ، وجوز الزمخشريُّ أن تكون للاستعانة ، فإنه قال : والباء في « به » مثلها في قولك : « فطرت العود بالقدُومِ فانفَطرَ بِهِ » .
وقال القرطبيُّ : ومعنى « به » ، أي : فيه ، أي : في ذلك اليوم لهوله ، هذا أحسن ما قيل فيه ، ويقال : مثقلة به إثقالاً يؤدي إلى انفطارها لعظمته عليها ، وخشيته من وقوعها ، كقوله تعالى : { ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض } [ الأعراف : 187 ] ، وقيل : « به »؛ أي : له ، أي : لذلك اليوم ، يقال : فعلت كذا بحرمتك ، أو لحرمتك ، والباء واللام وفي متقاربه في مثل هذا الموضع ، قال الله تعالى : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة } [ الأنبياء : 47 ] ، أي : في يوم القيامة ، وقيل : « به » أي بالأمر ، أي : السماء منفطر بما يجعل الولدان شيباً .
وقيل : السَّماءُ منفطر بالله ، أي : بأمره . وإنما لم تؤنث الصفة لوجوه منها :
قال أبو عمرو بن العلاء : لأنها بمعنى السقفِ تقول : هذا سماء البيت ، قال تعالى : { وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً } [ الأنبياء : 32 ] .
ومنها : أنها على النسب ، أي : ذات انفطار ، نحو : امرأة مرضع وحائض ، أي : ذات إرضاع ، وذات حيض .
ومنها أنها تذكر ، وتؤنث؛ أنشد الفراء : [ الوافر ]
4941 - فَلوْ رَفَعَ السَماءُ إليْه قَوماً ... لخُضْنَا بالسَّماءِ وبالسَّحَابِ
ومنها : اسم الجنس ، يفرق بينه وبين واحده بالتاء ، فيقال : سماة ، وقد تقدم أن اسم الجنس يذكر ويؤنث .
ولهذا قال أبو علي الفارسي : هو كقوله : { جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } [ القمر : 7 ] و { الشجر الأخضر } [ يس : 80 ] و { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] يعني : فجاء على أحد الجائزين .
وقيل : لأن تأنيثها ليس بحقيقي ، وما كان كذلك جاز تذكيره وتأنيثه؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
4942 - . ... والعَيْنُ بالإثْمِدِ الحَارِيِّ مَكحُولُ
قوله : { كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } ، يجوز أن يكون الضميرُ لله تعالى ، وإن لم يجر له ذكر للعلم به ، فيكون المصدر مضافاً لفاعله ، ويجوز أن يكون لليوم ، فيكون مضافاً لمفعوله والفاعل وهو « اللَّهُ » مقدر .
فصل في المراد بالوعد
قال المفسرون : كان وعده بالقيامة والحساب والجزاء مفعولاً كائناً لا محالة ولا شك فيه ولا خلاف ، وقال مقاتل : كان وعده بأن يظهره دينه على الدين كله .
قوله : { إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ } ، أي : هذه السورة والآيات عظة ، وقيل : آيات القرآن إذ هو كالسورة الواحدة { فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } ؛ لأن هذه الآيات مشتملة على أنواع الهداية ، والإرشاد ، فمن شاء أن يؤمن ، ويتخذ بذلك إلى ربِّه سبيلاً ، أي : طريقاً إلى رضاه ، ورحمته فليرغب ، فقد أمكن له؛ لأنه أظهر له الحجج ، والدلائل .
قيل : نسخت بآية السيف ، وكذلك قوله تعالى : { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } .
قال الكلبيُّ : والأشبه أنه غير منسوخٍ .
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
قوله : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل } .
العامة : على ضم « اللام » من « ثلثي » وهو الأصل ، كالربع والسدس .
وقرأ هشام : بإسكانها تخفيفاً .
قوله : { وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } ، قرأ الكوفيون وابن كثير : بنصبهما ، والباقون ، بجرهما .
وفي الجر إشكال يأتي إن شاء الله تعالى .
فالنصبُ : نسق على « أدْنَى »؛ لأنه بمعنى وقت أدنى ، أي : أقرب ، استعير الدنو لقرب المسافة في الزمان ، وهذا مطابق لما في أول السورة من التقسيم ، وذلك أنه إذا قام أدنى من ثلثي الليل ، فقد صدق عليه أنه قام الليل إلا قليلاً ، لأن الزمان لم يقم فيه ، فيكون الثلث ، وشيئاً من الثلثين ، فيصدق عليه قوله : « إلاَّ قَلِيلاً » .
وأما قوله : « ونصفهُ » فهو مطابق لقوله : « ولا نِصْفهُ » ، وأما قوله : « وثُلثهُ » فإنَّ قوله : { أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً } قد ينتهى النقص في القليل إلى أن يكون الوقت ثلثي الليل ، وأما قوله : { أَو زِدْ عَلَيْهِ } فإنَّه إذا زاد على النصف قليلاً كان الوقت أقل من الثلثين . فيكون قد طابق أدنى من ثلثي الليل ، ويكون قوله تعالى : { نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً } شرطاً لمبهم ما دل عليه قوله : { قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً } ، وعلى قراءة النصب : فسر الحسن « تحصُوهُ » بمعنى تطيقوه ، وأما قراءة الجر : فمعناها أنه قيام مختلف مرة أدنى من الثلثين ، ومرة أدنى من الثلث وذلك لتعذر معرفة البشر بمقدار الزمان مع عذر النوم ، وقد أوضح هذا كله الزمخشري ، فقال : وقرىء : « نصفه وثلثه » بالنصب ، على أنك تقوم أقل من الثلثين ، وتقوم النصف والثلث ، وهو مطابق لما مر فيه أول السورة في التخيير بين قيام النصف بتمامه ، وبين قيام الناقص وهو الثلث ، وبين قيام الزائد عليه وهو الأدنى من الثلثين .
وقرىء بالجر أي تقوم أقل من الثلثين وأقل من النصف والثلث ، وهو مطابق للتخيير بين النصف ، وهو أدنى من الثلثين ، والثلث ، وهو أدنى من النصف ، والربع وهو أدنى من الثلث ، وهو الوجه الأخير ، انتهى .
يعني بالوجه الأخير ما قدمه أول السورة من التأويلات . وقال أبو عبد الله الفارسي : وفي قراءة النصب إشكال إلا أن يقدر نصفه تارة ، وثلثه تارة ، وأقل من النصف ، والثلث تارة ، فيصح المعنى .
فصل في بيان أن هذه الآية تفسير للقيام في أول السورة
قال القرطبي : هذه الآية تفسير لقوله تعالى : { إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً } أو زد عليه - كما تقدم - وهي الناسخة لفريضة قيام الليل كما تقدم ، ومعنى قوله تعالى : « تَقُومُ » أي : تصلي ، و « أدْنَى » ، أي : أقل .
وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة وهشام عن أهل الشام : « ثلثي » بإسكان اللام ، و « نصفه وثلثه » بالخفض : قراءة العامة - كما تقدم - ، عطفاً على « ثلثي » والمعنى : تقوم أدنى من ثلثي الليل ، ومن نصفه ، وثلثه ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، لقوله تعالى : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } فكيف تقيمون نصفه أو ثلثيه ، وهو لا تحصونه؟! وأما قراءة النصف عطفاً على « أدنى » ، والتقدير : تقوم أدنى من ثلثيه وتقوم نصفه وثلثه . قال الفراءُ : وهو أشبه بالصوابِ؛ لأنه قال : أقلّ من الثلثين ، ثم ذكر نفس القلة لا أقل من القلة .
قال القشيريُّ : وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف لخفة القيام عليهم بذلك القدر ، وكانوا يزيدون ، وفي الزيادة إصابة المقصود ، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه ، وينقصون منه ، ويحتمل أنهم أمروا بالقيام نصف الليل ، ورخص لهم في الزيادة والنقصان ، وكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين ، وفي النصف إلى قريب من الثلث ، ويحتمل أنَّهُم قدر لهم النصف وأنقص إلى الثلث ، والزيادة إلى الثلثين ، وكان فيهم من يفي بذلك ، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نسخ عنهم ، وقيل : إنَّما فرض عليهم الربع ، وكانوا ينقصون من الربع .
قال القرطبيُّ : « وهَذَا تَحكُّمٌ » .
قوله : { وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ } . رفع بالعطف على الضمير في « تقُومُ » ، وجوز ذلك الفصل بالظرف ، وما عطف عليه .
قوله : { والله يُقَدِّرُ الليل } .
قال الزمخشريُّ : « تقديم اسم الله - عز وجل - مبتدأ مبنياً عليه » يقدر « هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير » .
ونازعه أبو حيَّان في ذلك ، وقال : « لو قيل : زيدٌ يحفظ القرآن ، لم يدل ذلك على اختصاصه » .
وقيل : الاختصاص في الآية مفهوم من السياق ، والمعنى : ليعلم مقادير الليل ، والنهار على حقائقها ، وأنتم تعلمون بالتحري ، والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ .
قوله : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } ، « أنْ لَنْ » و « أنْ سَيكُون » كلاهما مخففة من الثقيلة والفاصل للنفي ، وحرف التنفيس .
والمعنى : علم أن لن تطيقُوا معرفة حقائق ذلك ، والقيام به ، أي : أن الله هو الذي يعلم مقادير الليل والنهار على حقيقته .
وقيل : المعنى : لن تطيقوا قيام الليل ، والأصح الأول ، لأن قيام الليل ما فرض كله قط .
قال مقاتل وغيره : لما نزل { قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } [ المزمل : 2-4 ] شق ذلك عليهم ، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل ، من ثلثه ، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطىء ، وانتفخت أقدامهم ، وانتقعت ألوانهم ، فخفف الله عليهم ، وقال : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } ، أي : علم أنكم إن زدتم ثقل عليكم ، واحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضاً ، وإن نقصتم شق معرفة ذلك عليكم .
قوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } ، أي : فعاد عليكم بالعفو ، وهذا يدل على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به .
وقيل : « فتَابَ علَيْكمْ » من فرض القيام أو عن عجزكم ، وأصل التوبة الرجوع - كما تقدم - فالمعنى : رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف ، ومن عسر إلى إيسار ، وإنما أمروا بحفظ الأوقات بالتحري ، فخفف عنهم ذلك التحري .
وقيل : معنى قوله : { والله يُقَدِّرُ الليل والنهار } ، أي : يخلقهما مقدرين ، كقوله تعالى : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [ الفرقان : 2 ] .
قال ابنُ العربي : تقدير الخلقة لا يتعلق به حكم وإنما يربط الله به ما يشاء من وظائف التكليف . قوله : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } .
قيل : المراد نفس القراءةِ ، أي : فاقرأوا فيما تصلون به بالليل ما خف عليكم .
قال السديُّ : مائة آية .
وقال الحسنُ : من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن .
وقال كعبٌ : من قرأ في ليلةٍ مائة آيةٍ كتب من القانتين .
وقال سعيد بن جبير : خمسون آية .
قال القرطبي : قول كعب أصح ، « لقوله - عليه الصلاة والسلام- : » مَنْ قَامَ بِعشْرِ آيَاتٍ لمْ يُكتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ ، ومَنْ قَامَ بِمائَةِ آيةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتيْنَ ، ومَنْ قَامَ بألفِ آيةٍ كُتِبَ من المُقنطرينَ « خرجه أبو داود الطيالسي .
وروى أنس بن مالك قال : » سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « مَنْ قَرَأ خَمْسينَ آيةً فِي يَومٍ أوْ فِي ليْلةٍ لَمْ يُكتَبْ مَنَ الغَافليْنَ ، ومَنْ قَرَأ مِائةَ آيةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتينَ ، ومَنْ قَرَأ مائَتَي آيةٍ لَمْ يُحَاجِّهِ القرآنُ إلى يَوْمِ القيامة ، ومن قرأ خَمْسمائةِ آيةٍ كُتِبَ لَهُ قِنطارٌ مِنَ الأجْرِ » .
فقوله : « مَنَ المقُنَطرِيْنَ » ، أي : أعطي قنطاراً من الأجر .
وجاء في الحديث : « أن القنطار : ألف ومائتا أوقية ، والأوقية خير مما بين السماء والأرض » .
وقال أبو عبيدة : القناطيرُ ، واحدها قنطار ، ولا تجد العرب تعرف وزنه ، ولا واحد للقنطار من لفظه .
وقال ثعلب : المعمول عليه عند العربِ أنه أربعة آلافِ دينارٍ ، فإذا قالوا : قناطير مقنطرة فهي اثنا عشر ألف دينار .
وقيل : إن القنطار : ملء جلد ثور ذهباً .
وقيل : ثمانون ألفاً .
وقيل : هي جملة كثيرة مجهولة من المال ، نقله ابن الأثير .
وقيل : المعنى : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } ، أي : فصلوا ما تيسر عليكم ، والصلاة تسمى قرآناً ، قال تعالى : { وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً } [ الإسراء : 78 ] ، أي : صلاة الفجر .
قال ابن العربي : « والأول أصح ، لأنه أخبر عن الصلاة وإليها يرجع القول » .
قال القرطبيُّ : « الأول أصح حملاً للخطاب على ظاهر اللفظ ، والقول الثاني مجاز لأنه من تسمية الشيءِ ببعض ما هو من أعماله » .
فصل في بيان أن الآية ناسخة
قال بعض العلماءِ : قوله تعالى { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } نسخ قيام الليل ونصفه ، والنقصان من النصف ، والزيادة عليه ، ثم يحتمل قول الله - عز وجل - { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } معنيين :
أحدهما : أن يكون فرضاً ثانياً لأنه أزيل به فرض غيره .
والآخر : أن يكون فرضاً منسوخاً أزيل بغيره كما أزيل به غيره ، وذلك بقول الله - تعالى - : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] ، فاحتمل قوله تعالى : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] أي : تتهجد بغير الذي فرض عليك مما تيسر منه .
قال الشافعيُّ : فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين فوجدنا سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس .
فصل في أن النسخ هنا خاص بالأمة
قال القشيريُّ : والمشهورُ أنَّ نسخ قيامِ الليل كان في حق الأمةِ ، وبقيت الفريضةُ في حق النبي صلى الله عليه وسلم .
وقيل : إنما النسخ : التقدير بمقدار ، وبقي أصل الوجوب كقوله تعالى : { فَمَا استيسر مِنَ الهدي } [ البقرة : 196 ] ، فالهدي لا بد منه ، كذلك لا بد من الصلاة في الليل ولكن فوض تقديره إلى اختيار المصلي ، وعلىهذا فقال قوم : فرض قيام الليل بالقليل باق ، وهو مذهب الحسنِ .
قال الشافعيُّ : بل نسخ بالكلية ، فلا تجب صلاة الليل أصلاً ، ولعل الفريضة التي بقيت في حق النبي صلى الله عليه وسلم هي هذه ، وهو قيامه ، ومقداره مفوض إلى خيرته ، وإذا ثبت أن القيام ليس فرضاً ، فقوله تعالى : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } ، معناه : اقرأوا إن تيسر عليكم ذلك وصلوا إن شئتم .
وقال قوم : إنَّ النسخ بالكلية تقرر في حق النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً ، فما كانت صلاة الليل واجبة عليه ، وقوله : { نَافِلَةً لَكَ } محمول على حقيقة النفل ، ومن قال : نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل لم ينسخ ، فهذا النسخ الثاني وقع ببيان مواقيت الصلاة كقوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل } [ الإسراء : 78 ] الآية ، وقوله تعالى : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ } [ الروم : 17 ] الآية ، ما في الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع .
وقيل : وقع النسخ بقوله تعالى : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة كما أن فرضية الصلاة ، وإن خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { ياأيها المزمل قُمِ الليل } [ المزمل : 1-2 ] فهي عامة له ولغيره .
وقد قيل : إن فريضة قيام الليل امتدت إلى ما بعد الهجرةِ ، ونسخت بالمدينة لقوله تعالى : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله } ، وإنما فرض القتال بالمدينة ، فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة ، فقيام الليل نسخ بقوله : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] .
وقال ابن عباس : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نسخ قول الله - عز وجل - : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ } ، وجوب قيام الليل
فصل في علة تخفيف قيام الليل
قوله : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى } بيَّن سبحانه علة تخفيف قيام الليل ، فإن الخلق منهم المريض ، ويشق عليه قيام الليل ، ويشق عليه أن تفوته الصلاة ، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل ، والمجاهد كذلك ، فخفَّف الله عن الكل لأجل هؤلاء .
وقال ابن الخطيب : لمَّا علم الله تعالى أعذار هؤلاء ، يعني المريض ، والمسافر ، والمجاهد ، فلو لم يناموا بالليل لتوالت عليهم أسباب المشقة ، وهذا السبب ما كان موجوداً في حق النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : { إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً } [ المزمل : 7 ] فلا جرم لم ينسخ وجوب التهجد في حقه عليه الصلاة والسلام .
و « أن » في قوله : « أنْ سيَكونُ » مخففة من الثقيلة ، أي : علم أنه سيكون .
قوله : « وآخَرُونَ » عطف على « مَرْضَى » ، أي : علم أن سيوجد منكم قوم مرضى ، وقوم آخرون مسافرون ، ف « يَضْربُونَ » نعت ل « آخَرُونَ » وكذلك « يَبْتَغُونَ » ، ويجوز أن يكون « يبتغون » حالاً من فاعل « يَضْرِبُونَ » ، و « آخَرُونَ » عطف على « آخَرُونَ » و « يُقَاتلُونَ » صفته .
فصل في بيان أن الكسب الحلال كالجهاد
سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين ، والملتمسين للمال الحلال للنفقة على نفسه ، وعياله ، والإحسان ، فكان هذا دليلاً على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ لأنّ جمعه من الجهاد في سبيل الله .
قال - عليه الصلاة والسلام - : « » مَا مِنْ جَالبٍ يَجلبُ طَعاماً مِنْ بَلدٍ إلى بَلدٍ ، فيَبيعُهُ بِسْعرٍ يَومِهِ إلاَّ كانتْ مَنزِلتُهُ عنْدَ اللَّهِ تعالى مَنْزلةَ الشُّهداءِ « ثُمَّ قَرَأ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله } » .
وقال ابن مسعود : أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً ، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء ، وقرأ : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله } .
وقال ابن عمر : ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إليَّ من الموت بين شعبتي رحْلي ، أبتغي من فضل الله ، ضارباً في الأرض .
وقال طاووس : الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله .
قوله : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } ، أي : صلُّوا ما أمكن فأوجب الله تعالى من صلاة الليل ، ما تيسَّر ، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم .
وقال عبد الله بن عمرو : « قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يَا عَبْدَ اللَّه ، لا تكُنْ مِثْلَ فُلانِ كَانَ يقُومُ اللَّيْلَ ، فتركَ قِيامَ اللَّيْلِ «
، ولو كان فرضاً ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه ، بل كان يذمه غاية الذم .
فصل في القدر الذي يقرأ به في صلاته
إذا ثبت أنَّ قيام الليل ليس بفرض ، وأن قوله { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } ، { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة ، فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة .
فقال مالك والشافعيُّ : فاتحة الكتاب لا يجوز العدول عنها ولا الاقتصار على بعضها ، وقدره أبو حنيفة بآية واحدة من أي القرآن كانت ، وعنه ثلاث آياتٍ لأنها أقل سورة ، وقيل المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة .
قال الماورديُّ : فعلى هذا القول يكون مطلق الأمر محمولاً على الوجوب ليقف بقراءته على إعجازه وما فيه من دلائل التوحيد ، وبعث الرسل ، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ، ودلائل التوحيد أن يحفظه؛ لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة والأكثرون على أنه للاستحباب ، لأنه لو وجب علينا قراءته لوجب حفظه . وفي قدر الواجب أقوال :
الأول : قال الضحاكُ : جميع القرآن ، لأن الله تعالى يسره على عباده .
الثاني : قال جويبر : ثلث القرآن .
الثالث : قال السديُّ : مائتا آية .
الرابع : قال ابن عباسٍ : مائة آية .
الخامس : قال أبو خالد الكناني : ثلاث آياتٍ كأقصر سورة .
قوله { وَأَقِيمُواْ الصلاة } ، يعني الخمس المفروضة ، وهي الخمس لوقتها ، { وَآتُواْ الزكاة } الواجبة في أموالكم .
قاله عكرمة وقتادة ، وقال الحارث العكلي : صدقة الفطر ، لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك ، وقيل : صدقة التطوع .
وقيل : كل فعل خير .
وقال ابن عباسٍ : طاعة الله الإخلاص .
قوله : { وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً } . القرض الحسن ما أريد به وجه الله تعالى خالصاً من المال الطيب وقال زيد بن أسلم : القرض الحسن ، النفقة على الأهل ، وقيل : صلةُ الرَّحمِ ، وقرى الضيف ، وقال عمر بن الخطاب : هو النفقة في سبيل الله .
قوله : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله } تقدم بيانه في سورة « البقرة » .
قوله : { هُوَ خَيْراً } ، العامة على نصب الخير مفعولاً ثانياً ، و « هُوَ » إما تأكيد للمفعول الأول ، أو فصل .
وجوَّز أبو البقاء : أن يكون بدلاً ، وهو غلط ، لأنه كان يلزم أن يطابق ما قبله في الإعراب فيقال : إياه .
وقرأ أبو السمال وابن السميقع : « خير » على أن يكون « هو » مبتدأ ، و « خير » خبره ، والجملة مفعول ثان ل « تَجِدُوه » .
قال أبو زيد : هي لغة تميم ، يرفعون ما بعد الفصل .
وأنشد سيبويه : [ الطويل ]
4943 - تَحِنُّ إلى لَيْلَى وأنْتَ تَرَكْتَها ... وكُنْتَ عَليْهَا بالمَلا أنْتَ أقْدَرُ
والقَوَافِي مرفوعةٌ ، ويروى : « أقدرا » بالنصب .
[ وقال الزمخشريُّ : وهو فصل ] ، وجاز ، وإن لم يقع بين معرفتين ، لأن « أفعل من » أشبه في امتناعه من حرف التعريف ، المعرفة .
قال شهاب الدين : « هذا هو المشهورُ ، وبعضهم يجوزه في غير أفعل من النكرات » .
وقال القرطبي : « ونصب » خيراً ، وأعظم « على المفعول الثاني : ل » تَجِدُوهُ « و » هُوَ « فصل عند البصريين ، وعماد عند الكوفيين ، لا محلَّ له من الإعراب ، و » أجْراً « تمييز » .
فصل في معنى الآية
المعنى : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله هُوَ خَيْراً } من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت . قاله ابن عباس .
وقال الزجاجُ : { خير لكم من متاع الدنيا } .
قوله : { وَأَعْظَمَ أَجْراً } ، قال أبو هريرة : يعني الجنَّة ، ويحتمل أن يكون « أعظم أجْراً » لإعطائه بالحسنة عشراً { واستغفروا الله } أي سلوه المغفرة لذنوبكم { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لما كان عل التوبة رحيم لكم بعدها ، قاله سعيد بن جبير وقيل : غفور لمن لم يصرّ على الذنوب .
وقال مقاتل : غفور لجميع الذنوب لأن قوله « غَفُورٌ » يتناول التائب والمصر ، بدليل أنه يصح استثناء كل واحد منهما وحده ، والاستثناء حكمه إخراج ما لولاه لدخل .
وأيضاً : غفران التائب واجب عند الخصم فلا يحصل المدح بأداء الواجبِ ، والغرض من الآية تقرير المدح فوجب حمله على الكل تحقيقاً للمدح .
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُوْرَةَ يا أيُّهَا المُزَّمِّل رُفِعَ عنهُ العُسْرُ في الدُّنيَا والآخِرَةِ » ، والله أعلم .
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
قوله تعالى : { ياأيها المدثر } ؛ يا أيها الذي قد دثر ثيابه ، أي : تغشى بها ونام .
وقرأ العامة : بتشديد الدال وكسر الثاء ، اسم فاعل من « تدثَّر » وأصله : المتدثر فأدغم ك « المزمّل » . وفي حرف أبي : « المتدثر » على الأصل المشار إليه .
وقرأ عكرمة : بتخفيف الدال ، اسم فاعل من « دثّر » - بالتشديد - ويكون المفعول محذوفاً أي : المدثر نفسه ، كما تقدم .
وعنه أيضاً : فتح الثاء .
ومعنى « تَدثَّر » لبس الدِّثَار ، وهو الثوب الذي فوق الشِّعار ، « والشِّعَار » : ما يلي الحسد ، وفي الحديث : « الأنْصَارُ شِعَارٌ والنَّاسُ دِثَارٌ » .
و « سيف دَاثِر » : بعيد العَهْد الصِّقال .
ومنه قيل للمنزل الدارس : داثر لذهاب أعلامه وفلان داثرُ المال ، أي : حسن القيام به .
قوله : « قُمْ » إما أن يكون من القيام المعهود ، فيكون المعنى : قم من مضجعك ، وإما من « قام » بمعنى الأخذ في القيام ، كقوله : [ الطويل ]
4944 - فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسيْفِهِ .. . .
وقوله : [ الوافر ]
4945 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمُ ..
في أحد القولين ، فيكون المعنى : قيام عزم وتصميم ، والقول الآخر : أن « قام » مزيدة ، وفي جعلها بمعنى الأخذ في القيام نظر؛ لأنه حينئذ يصير من أخوات « عَسَى » فلا بد له من خبر يكون فعلاً مضارعاً مجرداً .
قوله : { فَأَنذِرْ } ، مفعوله محذوف ، أي : أنذر قومك عذاب الله ، والأحسن أن لا يقدر له ، أي : أوقع الإنذار .
فصل في معنى الآية
المعنى : يا أيها الذي قد دُثِّر ثيابه ، أي : تغشى بها ونام .
وقيل : ليس المراد التدثر بالثوب ، فإن قلنا التدثر ، ففيه وجوه :
أحدها : أن هذا من أوائل ما نزل من القرآن .
روى جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كُنْتُ عَلى جَبلِ حِراءَ ، فنُودِيتُ يا مُحَمَّدُ ، إنَّكَ لرَسُولٌ ، فنَظرْتُ عَنْ يَمِينِي ، ويسَارِي ، فَلمْ أرَ أحَداً فنَظرْتُ فَوْقِي فَرأيتُ المَلكَ الذي جَاءَنِي بحِراءَ جَالِساً عَلى كُرسِي بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ ، فَخِفْتُ فَرجَعْتُ إلى خَدِيْجَةَ ، فقلتُ : دَثِّرُوني ، وصبُّوا عليَّ ماءاً بارداً » ، فأنزلَ اللَّهُ تعالى : { ياأيها المدثر } .
وثانيها : أن أبا جهل ، وأبا لهب ، وأبا سفيان ، والوليد بن المغيرة ، والنضر بن الحارث ، وأميَّة بن خلف ، والعاص بن وائل والمطعم بن عدي ، اجتمعوا وقالوا : إنَّ وفود العرب مجتمعون في أيام الحج ، وهم يسألون عن أمر محمدٍ صلى الله عليه وسلم وقد اختلفتم في الإخبار عنه ، فمن قائل هو مجنون . وقائل : كاهن . وقائل : ساحر ، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد ، فيستدلون باختلاف الأجوبة على أنها أجوبة باطلة ، فسمُّوا محمداً باسم واحد يجتمعون عليه ، وتسميه العرب به فقدم رجل منهم فقال : إنه شاعر ، فقال الوليد : سمعت كلام عبيدة بن الأبرص [ وكلام أمية بن أبي الصلت ، وكلامه ما يشبه كلامهما ، فقالوا : كاهن : فقال : ] الكاهن يصدق ويكذب ، وما كذب محمد صلى الله عليه وسلم قط ، فقال آخر : إنه مجنون ، فقال الوليد : الجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط ، ثم قام الوليد فانصرف إلى بيته ، فقال الناس : صبأ الوليد بن المغيرة ، فدخل عليه أبو جهل فقال : ما لك يا أبا عبد شمس ، هذه قريش تجمع لك شيئاً يعطونكه ، زعموا أنك قد احتجت وصبأت ، فقال الوليد : ما لي إليه حاجة ، ولكني فكرت في محمد ، فقلت : إنه ساحر لأن الساحر هو الذي يفرق بين الأب وابنه ، وبين الأخ وأخيه ، وبين المرأة وزوجها ، فشاع ذلك في الناس ، فصاحوا يقولون : محمد ساحر والناس مجتمعون ، فوقعت الصيحةُ في الناس فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك اشتد عليه ورجع إلى بيته محزوناً ، فتدثر بقطيفة فأنزل الله تعالى : { ياأيها المدثر } .
وثالثها : أنه صلى الله عليه وسلم كان نائماً ، متدثراً بثيابه ، فجاءه جبريل - عليه السلام - وأيقظه - عليه الصلاة والسلام - ، وقال : { ياأيها المدثر قُمْ فَأَنْذِرْ } كأنه قال : اترك التدثر بالثياب ، واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله تعالى له .
وإن قلنا : ليس المراد منه التدثر بالثياب ففيه وجوه :
الأول : قال عكرمة : يا أيها المدثر بالنبوة ، والرسالة انْقُلْها ، من قولهم : ألبسه اللَّهُ لباس التقوى وزيَّنَهُ برداء العلم .
قال ابن العربي : « وهذا مجاز بعيد ، لأنه لم يكن تنبأ بعد ، وإن قلنا : إنها أول القرآن لم يكن نبياً بعد إلا إن قلنا : إنها ثاني ما نزل » .
الثاني : أن المدثر بالثوب يكون كالمتخفي فيه ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان في جبل حراء كالمتخفي من النَّاس ، فكأنه قال : يا أيها المدثِّر بدثار الاختفاء قم بهذا الأبر واخرج من زاوية الخمول ، واشتغل بإنذار الخلق ، والدعوة إلى معرفة الحقِّ .
الثالث : أنه تعالى جعله رحمة للعالمين ، فكأنه قيل له : يا أيها المدثِّر بأثواب العلم العظيم ، والخلق الكريم ، والرحمة الكاملة : « قُمْ فأنْذِرْ » عذاب ربّك .
فصل في لطف الخطاب في الآية
قوله تعالى : { ياأيها المدثر } ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله وعبر عنه بصفته ، ولم يقل : يا محمدُ ، كما تقدم في المزمل .
فصل في معنى « فأنذر »
ومعنى قوله تعالى : { فَأَنذِرْ } ، أي : خوِّف أهل مكة ، وحذرهم العذاب إن لم يسلموا .
وقيل : الإنذار هنا : إعلامهم بنوته - عليه السلام - لأنها مقدمة الرسالة .
وقيل : هو دعاؤهم إلى التوحيد لأنه المقصود .
وقال الفراء : قم فصلِّ ومر بالصلاة .
قوله : { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } ، قدم المفعول ، وكذا ما بعد ، إيذاناً بالاختصاص عند من يرى ذلك ، أو للاهتمام به .
قال الزمخشري : « واختص ربَّك بالتكبير » .
ثم قال : « ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل : ومهما تكن فلا تدع تكبيره » وقد تقدم الكلام في مثل هذه الفاء في البقرة عند قوله تعالى : { وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة : 40 ] .
قال أبو حيان : « وهو قريب مما قدره النحاة في قولك : » زيداً فاضرب « ، قالوا : تقديره : » تنبَّهْ فاضرب زيداً « فالفاء هي جواب الأمر ، وهذا الأمر إما مضمن معنى الشرط ، وإما الشرط محذوف على الخلاف الذي فيه عند النحاة » .
قال أبو الفتح الموصلي : يقال : « زيداً اضرب ، وعمراً اشكر » وعنده أن الفاء زائدة .
وقال الزجاج : ودخلت الفاء لإفادة معنى الجزائية ، والمعنى : قم فكبِّر ربَّك ، وكذلك ما بعده .
فصل في معنى الآية
معنى قوله : { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } ، أي سيدك ومالكك ومصلح أمرك فعظمه ، وصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة ، أو ولد ، وفي الحديث : أنهم قالوا : بم تفتتح الصلاة؟ فنزلت : { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } . أي : صفه بأنه أكبر .
قال ابن العربي : وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة فإنه مراد به تكبيره بالتقديس ، والتنزيه بخلع الأنداد ، والأصنام دونه ، ولا تتخذ ولياً غيره ، ولا تعبد سواه ، وروي « أن أبا سفيان قال يوم أحد : » أعْلُ هُبَل « ، فقال : صلى الله عليه وسلم » قُولُواْ اللَّهُ أعْلَى وأجَلُّ « ، وقد صار هذا القول بعرف الشرع في تكثير العبادات كلها أذاناً ، وصلاة بقوله » اللَّهُ أكبرُ « وحمل عليه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم الوارد على الإطلاق في موارد منها قوله : » تَحْريمُهَا التَّكبيرُ ، وتحْلِيلُهَا التَّسلِيمُ « ، والشَّرعُ يقتضي معرفة ما يقتضي بعمومه ، ومن موارده أوقات الإهلال بالذبائح تخليصاً له من الشرك ، وإعلاناً باسمه بالنسك ، وإفراداً لما شرع من أمره بالسفك .
والمنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم في التكبير في الصلاة هو لفظ » اللَّهُ أكبَرُ « .
وقال المفسرون : لما نزل قوله تعالى : { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال : اللَّهُ أكبر ، فكبرت خديجة - رضي الله عنها - وعلمت أنه وحي من الله تعالى ذكره القشيري .
وقال الكلبيُّ : فعظم ربَّك عما يقوله عبدة الأوثان .
قال مقاتل : هو أن يقال : الله أكبر .
وقيل : المرادُ منه التكبير في الصلاة .
فإن قيل : هذه السورة نزلت في أول البعث ، ولم تكن الصلاة واجبة .
فالجواب : لا يبعد أنه كانت له - عليه الصلاة والسلام - صلوات تطوع فأمر أن يُكبِّر ربَّه فيها قال ابن الخطيب : وعندي أنه لما قيل له : { قُمْ فَأَنذِرْ } قيل بعد ذلك { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } عن اللغو والرفث .
قوله : { وَثَيَابَكَ فَطَهِّرْ } .
قيل : المراد الثياب الملبوسة ، فعلى الأول يكون المعنى : وعملك فأصلح ، قاله مجاهد وابن زيد والسديُّ ، وروى منصور عن أبي رزين ، قال : يقول : وعملك فأصلح .
وإذا كان الرجل خبيث العمل ، قالوا : إن فلاناً خبيث الثيابِ ، وإذ كان الرجل حسن العمل ، قالوا : إنَّ فلاناً طاهر الثياب ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « يَحْشرُ المَرءُ فِي ثَوبَيْهِ الَّذي مَاتَ فِيْهِمَا » ، يعني : عمله الصالح والطالح ، ذكره الماوردي .
ومن قال المراد به القلب ، قلبك فطهر ، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير رضي الله عنهما؛ ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
4946 - .. فَسُلِّي ثِيَابِي مِن ثِيابكِ تَنْسُلِ
أي : قلبي من قلبك .
قال الماورديُّ : ولهم في تأويل الآية وجهان :
أحدهما : المعنى : وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي قاله ابن عباس وقتادة .
الثاني : وقلبك فطهر من القذر ، أي : لا تقذر فتكون دنس الثياب وهو ما يروى عن ابن عباس أيضاً ، واستشهدوا بقوله غيلان بن سلمة الثقفي : [ الطويل ]
4947 - فَإنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لا ثَوْبَ غَادِرٍ ... لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرةٍ أتقنَّعُ
ومن قال : المراد به النفس ، قال : معناه ونفسك فطهر ، أي : من الذنوب ، والعرب تكني عن النفس بالثياب . قاله ابن عباس - رضي الله عنه -؛ ومنه قول عنترة : [ الكامل ]
4948 - فَشَكَكْتُ بالرُّمْحِ الطَّويلِ ثِيابَهُ ... لَيْسَ الكرِيمُ على القَنَا بِمُحَرَّمِ
وقول امرىء القيس المتقدم . ومن قال : بأنه الجسم قال : المعنى وجسمك فطهر من المعاصي الظاهرة ، ومنه قول ليلى تصف إبلاً : [ الطويل ]
4949 - رَموْهَا بأثْوابٍ خِفافٍ فلا تَرَى ... لَهَا شَبَهاً إلاَّ النَّعامَ المُنفَّرَا
أي : ركبوها فرموها بأنفسهم .
ومن قال : المراد به الأهل ، قال : معناه : وأهلك طهرهم من الخطايا بالموعظة والتأديب ، والعرب تسمي الأهل ثوباً وإزاراً ولباساً ، قال تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } [ البقرة : 187 ] .
قال الماورديُّ : ولهم في تأويل الآية وجهان :
الأول : معناه : ونساءك فطهر باختيار المؤمنات العفائف .
الثاني : الاستمتاع بهن في القبل دون الدبر في الطهر إلا في الحيض حكاه ابن بحر .
قال ابن الخطيب : « وحمل الآية على هذا التأويل يعسر لأنه على هذا الوجه لا يحسن اتصال الآية بما قبلها » .
ومن قال المراد به الخلق قال معناه : وخلقك فحسِّنْ قاله الحسن والقرظي؛ لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
4950 - فَلاَ أبَ وابْناً مِثْلَ مَرْوانَ وابْنِهِ ... إذَا هُوَ بالمَجْدِ ارتَدَى وتَأزَّرَا
والسبب في حسن هذه الكناية وجهان :
الأول : أن الثوب كالشيء الملازم للإنسان فلهذا جعلوا الأثواب كناية عن الإنسان ، فيقال : المجد في ثوبه والعفة في إزاره .
الثاني : أنه من طهر باطنه غالباً طهر ظاهره ، ومن قال : المراد به الدين فمعناه : ودينك فطهر .
جاء في الصحيح : أنه صلى الله عليه وسلم قال : « ورأيتُ النَّاس وعَلَيْهِمْ ثِيابٌ مِنْهَا ما يَبلغُ الثُّدِيَّ ، ومِنْهَا دونَ ذلِكَ ، ورَأيْتُ عُمر بن الخطَّاب ، وعليْهِ إزارٌ يُجُرُّهُ ، قالوا : يا رسُولَ اللَّهِ فَمَا أوَّلتَ ذلِكَ؟ قال : الدِّينُ » .
وروي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - في قوله تعالى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } قال : معناه لا تلبس ثيابك على عذرة؛ قال ابن أبي كبشة : [ الطويل ]
4951 - ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهارَى نَقيَّةٌ ... وأوْجُهُهمْ عِنْدَ المُشاهدِ غُرَّانُ
يعني بطهارة ثيابهم : سلامتهم عن الدناءات ويعني بعزة وجوههم : تنزيههم عن المحرمات ، أو جمالهم في الخلقة ، أو كليهما . قاله ابن العربي .
وقال سفيانُ بن عيينة : لا تلبس ثيابك على كذب ولا جور ولا غدر ولا إثم ، قاله عكرمة .
ومن قال : إن المراد به الثياب الملبوسة ، فلهم أربعة أوجهٍ :
الأول : وثيابك فأنق .
الثاني : وثيابك فشمِّر ، أي قصِّر ، فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة فإذا جُرَّت على الأرض لم يؤمن أن يصيبها نجاسة ، قاله الزجاج وطاووس .
الثالث : وثيابك فطهر من النجاسة بالماء ، قاله محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء .
الرابع : لا تلبس ثيابك إلا من كسبِ الحلال ليكون مطهرة من الحرام .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - لا يكون ثيابك التي تلبس من ملبس غير طاهر .
قال ابن العربي : وليس بممتنع أن تحمل الآية على عمومها ، من أن المراد بها الحقيقة ، والمجاز ، وإذا حملناها على الثياب الطاهرةِ المعلومة ، فهي تتناول معنيين :
أحدهما : تقصير الأذيال ، فإنها إذا أرسلت تدنست ، ولهذا قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لغلام من الأنصار ، وقد رأى ذيله مسترخياً : ارفع إزارك ، فإنه أتْقَى ، وأبْقَى ، وأنقى .
وقال صلى الله عليه وسلم : « إزْرَةُ المُؤمِن إلى أنْصَافِ سَاقيْهِ ، لا جُناحَ عليْهِ فِيْمَا بَينهُ وبيْنَ الكعْبَيْنِ ومَا كَانَ أسْفل مِنْ ذلِكَ ففِي النَّارِ » فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الغاية في لباس الإزار الكعب ، وتوعد ما تحته بالنار ، فما بال رجال يرسلون أيذالهم ، ويطيلون ثيابهم ، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم وهذه حالة الكبر ، وقال صلى الله عليه وسلم : « » لا يَنْظرُ اللَّهُ تعالى إلى مَنْ جَرَّ ثَوبَهُ خَيلاء « ، وفي رواية : » منْ جرَّ إزارهُ خُيَلاء لَمْ ينْظُرِ اللَّهُ إليْهِ يَوْمَ القِيامةِ « قال أبو بكر - رضي الله عنه - : يا رسول الله إني أجد شِقّ إزاري يسترخي إلا أني أتعاهد ذلك منه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لَسْتَ ممَّنْ يَصْنعهُ خيلاء « » .
والمعنى الثاني : غسلها بالماء من النجاسة ، وهو الظاهر .
قال المهدوي : واستدل به بعض العلماء على وجوب طهارة الثوب ، وليس ذلك يفرض عند مالك وأهل المدينة ، وكذلك طهارة البدن ، للإجماع على جواز الصلاة بالاستجمار غير غسل .
قال ابن الخطيب : إذا حملنا لفظ التطهير على حقيقته ، فنقول : المراد منه أنه صلى الله عليه وسلم أمر بتطهير ثيابه من الأنجاس والأقذار ، وعلى هذا التقدير ففي الآية ثلاثة احتمالاتٍ :
الأول : قال الشافعي - رضي الله عنه - : المقصود من الآية الإعلام بأن الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس .
وثانيها : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان المشركون لا يصونون ثيابهم عن النجاسات ، فأمره الله تعالى بأن يصون ثيابه عن النجاسات .
وثالثها : روي أنهم ألقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سَلَى شاةٍ ، فشق عليه فرجع إلى بيته حَزيناً وتدثر في ثيابه ، فقال : { ياأيها المدثر قُمْ فَأَنذِرْ } ولا تمنعك تلك السفاهة عن الإنذار { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } على أن لا ينتقم منهم { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } عن تلك النجاسات والقاذورات .
قوله : { والرجز } . قرأ حفص ومجاهد وعكرمة وابن محيصن : بضم الراء ، والباقون : بكسرها .
فقيل : لغتان بمعنى ، وعن أبي عبيدة : الضم أقيس اللغتين ، وأكثرهما .
وقال مجاهدٌ : هو بالضم اسم صنم ، ويعزى للحسن البصري أيضاً ، وبالكسر ويذكر : اسم للعذاب ، وعلى تقدير كونه العذاب ، فلا بد من حذف مضاف ، أي : اهجر أسباب العذاب المؤدية إليه ، أقام السبب مقام المسبب ، وهو مجاز شائع بليغ .
وقال السديُّ : « الرَّجْز » ، بنصب الراء : الوعيد .
وقال مجاهد وعكرمة : المراد بالرجز : الأوثان ، لقوله تعالى : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 10 ] ، وقال ابن عباس أيضاً : والمأثم فاهجر ، أي فاترك ، وكذلك روى مغيرة عن إبراهيم النخعي ، قال : الرجز : الإثم .
وقال قتادة : الرجز إساف ، ونائلة .
وأصل « الرُّجْز » : العذابُ ، قال تعالى : { لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ } [ الأعراف : 134 ] .
وقال تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السمآء } [ الأعراف : 163 ] .
قوله : { وَلاَ تَمْنُن } ، العامة : على فك الإدغام والحسن وأبو السمال والأشهب العقيلي : بالإدغام .
وقد تقدم أن المجزوم ، والموقوف من هذا النوع يجوز فيهما الوجهان ، وتقدم تحقيقه في « المائدة » ، عند قوله تعالى : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } [ المائدة : 54 ] .
والمشهور أنه من المنّ ، وهو الاعتداد على المعطى بما أعطاه ، وقيل : معناه « ولا تضعف » من قولهم : حبل متين ، أي : ضعيف .
قوله : { تَسْتَكْثِرُ } ، العامة على رفعه ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه في موضع الحال ، أي : لا تمنن مستكثراً ما أعطيت .
وقيل : معناه لا تأخذ أكثر مما أعطيت .
الثاني : على حذف « أن » يعني أن الأصل ولا تمنن أن تستكثر ، فلما حذفت « أن » ارتفع الفعل ، كقوله : [ الطويل ]
4952 - ألاَ أيُّهَذَا الزَّاجِري أحْضُرُ الوغَى ..
في إحدى الروايتين . قاله الزمخشريُّ .
ولم يبين ما محل « أن » وما في خبرها . وفيه وجهان :
أظهرهما - وهو الذي يريده - هو أنها إما في محل نصب ، أو جر على الخلاف فيها؛ حذف حرف الجر وهو هنا لام العلة ، تقديره : ولا تمنن لأن تستكثر .
والثاني : أنها في محل نصب فقط مفعولاً بها ، أي : لا تضعف أن تستكثر من الخير ، قاله مكي .
وقد تقدم أن « تَمْنُنْ » بمعنى تضعف ، وهو قول مجاهد .
إلا إنَّ أبا حيان قال - بعد كلام الزمخشريِّ - : « وهذا لا يجوز أن يحمل القرآن عليه لأنه لا يجوز ذلك إلا في الشعر ، ولنا مندوحة عنه مع صحته معنى » .
والكوفيون يجيزون ذلك ، وأيضاً : فقد قرأ الحسن والأعمش : « تَسْتكثِرَ » أيضاً على إضمار « أن » ، كقولهم : « مُرْهُ يحفرها » .
وأبلغ من ذلك التصريح بأن في قراء عبد الله : « ولا تمنن أن تستكثر » .
وقرأ الحسن - أيضاً - وابن أبي عبلة تستكثرْ جزماً ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون بدلاً من الفعل قبله . كقوله : { يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ } [ الفرقان : 68 - 69 ] ف « يُضَاعَفُ » بدلاً من « يَلْقَ »؛ وكقوله : [ الطويل ]
4953 - مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بنَا في دِيَارنَا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً ونَاراً تَأجَّجَا
ويكون من المنِّ الذي في قوله تعالى : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } [ البقرة : 264 ] .
الثاني : أن يشبه « ثرو » بعضد فيسكن تخفيفاً . قاله الزمخشري .
يعني : أنه يأخذ من مجموع « تستكثر » [ ومن الكلمة التي بعده وهو الواو ما يكون فيه شبهاً بعضد ، ألا ترى أنه قال : أن يشبه ثرو ، فأخذ بعض « تستكثر » ] وهو الثاء ، والراء وحرف العطف من قوله : { وَلِرَبِّكَ فاصبر } ؛ وهذا كما قالوا في قول امرىء القيس : [ السريع ]
4954 - فالْيَوْمَ أشْرَبْ غَيْرَ مُسْتحقِبٍ ... إثْماً من اللَّهِ ولا واغِلِ
بتسكين « أشْرَبْ » - أنهم أخذوا من الكلمتين رَبْغَ ك « عضد » ثم سكن .
وقد تقدم في سورة « يوسف » في قراءة قُنبل : « من يَتّقي » ، بثبوت الياء ، أن « مَنْ » موصولة ، فاعترض بجزم « يَصْبِر »؟ .
فأجيب بأنه شبه ب « رف » ، أخذوا الباء والراء من « يَصْبِر » والفاء من « فإنَّه » ، وهذه نظير تيك سواء .
الوجه الثالث : أن يعتبر حال الوقف ، ويجرى الوصل مجراه ، قاله الزمخشري ، أيضاً .
يعني أنه مرفوع ، وإنما سكن تخفيفاً ، أو أجري الوصل مُجْرَى الوقفِ .
قال أبو حيان : « وهذان لا يجوز أن يحمل عليهما مع وجود أرجح منهما ، وهو البدل معنى وصناعة » .
فصل في تعلق الآية بما قبلها
في اتصال هذه الآية بما قبلها أنه تعالى أمره قبل هذه الآية بأربعة أشياء : إنذار القوم ، وتكبير الرب ، وتطهير الثياب ، وهجر الرجز ، ثم قال - جلَّ ذكره - : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } ، أي : لا تمن على ربِّك بهذه الأعمال الشاقة كالمستكثر لما يفعله بل اصبر على ذلك كله لوجه ربِّك متقرباً بذلك إليه غير ممتن به عليه .
قال الحسن - رحمه الله - : بحسناتك ، فتستكثرها .
وقال ابن عباس وقتادة وعكرمةُ : ولا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها .
وقيل : لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين والوحي مستكثراً بذلك الإنعام ، فإنَّما فعلت ذلك بأمر الله تبارك وتعالى ، فلا منة لك عليهم ، ولهذا قال تعالى : { وَلِرَبِّكَ فاصبر } .
وقيل : لا تمنن عليهم بنبوتك ، أي : لتستكثر ، أي : لتأخذ منهم على ذلك أجراً تستكثر به مالك .
وقال مجاهدٌ : لا تضعف أن تستكثر من الخير ، من قولك : حبل منين ، إذا كان ضعيفاً ، ودليله قراءة ابن مسعود : ولا تمنن تستكثر من الخير وعن مجاهد أيضاً ، والربيع : لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير فإنه مما أنعم الله عليك .
وقال ابن كيسان : لا تستكثر عملك فتراه من نفسك ، إنما عملك منه من الله عليك ، إذ جعل الله لك سبيلاً إلى عبادته .
وقال زيد بن أسلم إذا أعطيت عطية فأعطها لربِّك ، لا تقل : دعوت فلم يستجب لي .
وقيل : لا تفعل الخير لترائي به الناس .
فإن قيل هذا النهي مختص بالرسول صلى الله عليه وسلم أو يتناول الأمة؟ .
فالجوابُ : أن ظاهر اللفظ قرينة الحال لا تفيد العموم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما نهي عن ذلك تنزيهاً لمنصب النبوة ، وهذا المعنى غير موجود في الأمة .
وقيل : المعنى في حقِّ الأمة هو الرياءُ ، واللَّهُ تعالى منع الكل من ذلك .
فإن قيل : هل هذا نهي تحريم أو تنزيه؟
فالجواب : أن ظاهر النهي التحريم .
فصل في المقصود من الآية
قال القفال : يحتمل أن يكون المقصود من الآية أن يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي أحداً شيئاً لطلب عوض سواء كان العوض زائداً أو ناقصاً ، أو مساوياً ، ويكون معنى قوله تعالى { تَسْتَكْثِرُ } ، أي : طالباً للكثرة كارهاً أن ينتقص المال بسبب العطاءِ ، فيكون الاستكثار - هاهنا - عبارة عن طلب العوض كيف كان ، وإنما حسنت هذه العبارةُ ، لأن الغالب أن الثواب زائد على العطاء ، فسمى طلب الثواب استكثاراً ، حملاً للشيء على أغلب أحواله ، كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج ، ولها ولد للحاجة إلى من يربي أغلب أن المرأة إنما تتزوج ، ولها ولد للحاجة إلى من يربي ولدها ، فسمي الولد ربيباً ، ثم اتسع الأمر ، وإن كان حين تتزوج أمه كبيراً ، ومن ذهب إلى هذا القول قال : السبب فيه أن يصير عطاء النبي صلى الله عليه وسلم خالياً عن انتظار العوض ، والتفات النفس إليه فيكون ذلك خالصاً مخلصاً لوجه الله تعالى .
قال القرطبي - رحمه الله - : « أظهر الأقوال قول ابن عباس » لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال « يقال : مننت فلاناً كذا ، أي : أعطيته ، ويقال للعطية : المنة فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله ، لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها ، لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يجمع للدنيا ، ولهذا قال :
« مَا لي ممَّا أفَاء اللَّهُ عليَّ إلا الخُمْسَ ، والخمس مَردُودٌ عَليْكُمْ » وكان ما يفضل عن نفقة عياله مصروفاً إلى مصالح المسلمين ، ولهذا لم يورث « .
قوله : { وَلِرَبِّكَ فاصبر } التقديم على ما تقدم . وحسنه كونه رأس فاصلة موافياً لما تقدم .
{ وَلِرَبِّكَ } يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون لام العلة ، أي : لوجه ربِّك فاصبر ، أي : على أذى الكفار وعلى عبادة ربك ، وعلى كل شيء مما لا يليق فترك المصبور عليه ، والمصبور عنه للعلم بهما .
والأحسن أن لا يقدر شيء خاص بل شيء عام .
والثاني : ان يضمن » صبر « معنى : » أذعن « ، أي : أذعن لربِّك ، وسلم له أمرك صابراً ، لقوله تعالى : { فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ } [ القلم : 48 ] .
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
قوله : { فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور } .
قال الزمخشري : « الفاء » في قوله : { فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور } لتسبيب ، كأنه قال : اصبر على أذاهم ، فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى فيه عاقبة صبرك عليه . والفاء في « فإذا » متعلقة ب « أنذر » ، أي : فأنذرهم إذا نقر في الناقور . قاله الحوفيُّ .
وفيه نظر من حيث أن الفاء تمنع من ذلك ، ولو أراد تفسير المعنى لكان سهلاً ، لكنه في معرض تفسير الإعراب لا تفسير المعنى .
الثاني : أن ينتصب بما دل عليه قوله تعالى : { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ } .
قال الزمخشري : فإن قلت : بم انتصب « إذا » ، وكيف صح أن يقع « يومئذ » ظرفاً ل « يوم عسير »؟ .
قلت : انتصب « إذا بما دل عليه الجزاء؛ لأن المعنى : فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين والذي أجاز وقوع » يومئذ « ظرفاً ل { يَوْمٌ عَسِيرٌ } ، إذ المعنى فذلك يوم النقر وقوع يوم عسير لأن يوم القيامة يقع ، ويأتي حين يُنقر في النَّاقُور ، انتهى .
ولا يجوز أن يعمل فيه نفس » عسير «؛ لأن الصفة لا تعمل فيما قبل موصوفها عند البصريين ، ولذلك رد على الزمخشري قوله : أن » في أنفسهم « متعلق ب » بَلِيغاً « في سورة » النساء « في قوله تعالى { وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } [ النساء : 63 ] والكوفيون يجوزون ذلك وتقدم تحريره .
الثالث : أن ينتصب بما دل عليه » فذلك «؛ لأنه إشارة إلى النقر ، قاله أبو البقاء ، ثم قال : » و « يومئذ » بدل من « إذا » ، و « ذلك » مبتدأ ، والخبر { يَوْمٌ عَسِيرٌ } ، أي : نقر يوم « .
الرابع : أن يكون » إذا « مبتدأ ، و » فذلك « خبره ، والفاء مزيدة فيه ، وهو رأي الأخفش .
وأما » يَومَئذٍ « ففيه أوجه :
أحدها : أن يكون بدلاً من » إذا « ، وقد تقدم ذلك في الوجه الثالث .
الثاني : أن يكون ظرفاً ل { يَوْمٌ عَسِيرٌ } كما تقدم في الوجه الثاني .
الثالث : أن يكون ظرفاً ل » ذلك « ، لأنه أشار به إلى النقر .
الرابع : أنه بدل من » فذلك « ولكنه مبنيّ لإضافته إلى غير متمكن .
الخامس : أن يكون » فذلك « مبتدأ ، و { يَوْمٌ عَسِيرٌ } خبره ، والجملة خبر » فَذلِكَ « .
قوله : » نُقِرَ « ، أي : صوت ، يقال : نقرت الرجل إذا صوت له بلسانك ، وذلك بأن تلصق لسانك بنقرة حنكك ، ونقرتُ الرجل : إذا خصصته بالدعوة كأنك نقرت له بلسانك مشيراً إليه ، وتلك الدعوة يقال لها : النقرى ، وهي ضد الدعوة الجفلى؛ قال الشاعر : [ الرمل ]
4955 - نَحْنُ فِي المشْتَاةِ نَدْعُو الجَفلَى ... لا تَرَى الآدِبَ فِينَا يَنْتَقِرْ
وقال امرؤ القيس : [ الرجز ]
4956 - أنَا ابْنُ مَاويَّةَ إذْ جَدَّ النَّقُرْ ... يريد : النقر ، أي الصوت ، والنقر في كلام العرب : الصوت؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
4957 - أخَفِّضُهُ بالنَّقْر لمَّا عَلوْتهُ ... ويَرْفعُ طَرْفاً غَيْرَ جَافٍ غَضِيضِ
والناقور : « فاعول » منه كالجاسوس من التجسس ، وهو الشيء المصوّت فيه .
قال مجاهد وغيره : وهو كهيئة البوق ، وهو الصور الذي ينفخ فيه الملك .
والنقير : فرع الشيء الصلب ، والمنقار : الحديدة التي ينقر بها ، ونقرت عينه : بحثت على أخباره استعارة من ذلك ، ونقرته : أعبته .
ومنه قول امرأة لزوجها : مر بي على بني نظر ، ولا تمر بي على بنات نقر ، أرادت : ببني نظر الرجال لأنهم ينظرون إليها ، وبينات نقر : النساء ، لأنهن يعبنها وينقرن عن أحوالها .
قوله : { عَلَى الكافرين } . فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن يتعلق ب « عسير » .
الثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه نعت ل « عَسِيرٌ » .
الثالث : أنه في موضع نصب على الحال من الضمير المستكنّ في « عَسِيرٌ » .
الرابع : أن يتعلق ب « يسير » ، أي : غير يسير على الكافرين قاله أبو البقاء .
إلا أن فيه تقديم معمول المضاف إليه على المضاف ، وهو ممنوع ، وقد جوزه بعضهم إذ كان المضاف « غير » بمعنى النفي ، كقوله : [ البسيط ]
4958 - إنَّ امْرَأ خَصَّنِي يَوْماً مودَّتهُ ... عَلى التَّنَائِي لعِنْدِي غَيْرُ مَكْفُورِ
وتقدم تحرير هذا آخر الفاتحة .
الخامس : أن يتعلق بما دل عليه « غَيرُ يَسيرٍ » ، أي : لا يسهل على الكافرين .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : فما فائدة قوله : « غير يسير » ، و « عسير » مغن عنه؟ .
قلت : لما قال - سبحانه وتعالى - : « على الكافرين » فقصر العسر عليهم ، قال : « غَيرُ يَسِيرٍ » ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيراً هيناً ، ليجمع بين وعيد الكافرين ، وزيادة غيظهم ، وتيسيراً للمؤمنين ، وتسليتهم ، ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيراً كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا .
فصل في تعلق الآية بما بعدها
لما ذكر ما يتعلق بإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بعده وعيد الأشقياء قيل : المراد بهذه الآية هو النفخة الثانية .
وقيل : الأولى ، قال الحليمي في كتاب « المنهاج » : إنه تعالى سمى الصور اسمين ، وإن كان هو الذي ينفخ فيه النفختان معاً ، فإن نفخة الإصعاق غير نفخة الإحياء ، وجاء في الأخبار أن في الصور ثقباً بعدد الأرواح كلِّها ، وأنها تجمع في ذلك الثقب في النفخة الثانية ، فيخرج عن النفخ من كل ثقبة روح إلى الجسد الذي نزع منه ، فيعود الجسد حياً بإذن الله تعالى .
قال ابن الخطيب : وهذا مردود ، لأن الناقور اسم لما ينقر فيه لا لما ينقر فيه ، ويحتمل أن يكون الصور محتوياً على ثقبين : ينقر في إحداهما ، وينفخ في الأخرى ، فإذا نفخ فيه للإصعاق جمع بين النقر ، والنفخ ، لتكون الصيحة أشد ، وأعظم ، وإذا نفخ فيه للإحياء ، لم ينقر فيه بل يقتصر على النفخ لأن المراد إرسال الأرواح من ثقب الصور إلى أجسادها بنقرها من أجسادها بالنفخة الأولى للنقير ، وهو نظير صوت الرعد؛ فإنه إذا اشتد فربما مات بسماعه ، والصيحة الشديدة التي يصيحها رجل بصبي فيفزع منه فيموت .
قال ابن الخطيب : وفيه إشكال ، وهو أن هذا يقتضي أن يكون النقر إنما يحصل عند صيحة الإصعاق وذلك اليوم غير شديد على الكافرين؛ لأنهم يموتون في تلك الساعة ، إنما اليوم الشديد على الكافرين صيحة الإحياء ، ولذلك يقول : { ياليتها كَانَتِ القاضية } [ الحاقة : 27 ] ، أي : يا ليتنا بقينا على الموتة الأولى .
وقوله : « فَذلِكَ » ، أي : فذلك اليوم يوم شديد على الكافرين « غير يَسيرٍ » أي : غير سهل ، ولا هين وذلك أن عقدهم لا تنحل ، إلا إلى عقد أشد منها ، فإنهم يناقشون الحساب ويعطون كتبهم بشمائلهم ، وتسودُّ وجوههم ، ويحشرون زرقاً ، وتتكلم جوارحهم ، ويفضحون على رؤوس الأشهاد بخلاف المؤمنين الموحدين المذنبين فإنها تنحل إلى ما هو أخف ، حتى يدخلوا الجنة برحمة الله تعالى فإنهم لا يناقشون الحساب ، ويحشرون بيض الوجوه ، ثِقال الموازين .
قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون عسيراً على المؤمنين ، والكافرين ، على ما روي أن الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - يفزعون يومئذ ، وأن الولدان يشيبون ، إلا أنه يكون على الكفار أشد فعلى الأول : لا يحسن الوقف على قوله { يَوْمٌ عَسِيرٌ } ، فإن المعنى : إنه على الكافرين عسير وغير يسير .
وعلى الثاني : يحسن الوقف ، لأنه في المعنى : أنه في نفسه عسير على الكل ثم الكافر فيه مخصوص بزيادة تخصه ، وهي أنه عليه عسير .
فصل في دليل الخطاب
قال ابن الخطيب : استدل بهذه الآية القائلون بدليل الخطاب ، قالوا : لولا أن دليل الخطاب حجة وإلا فما فهم ابن عباس من كونه غير يسير على الكافرين كونه يسيراً على المؤمنين .
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
قوله تعالى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } ، الواو في قوله : { وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } ، كقوله : « والمُكَذبين » في الوجهين المتقدمين في السورة قبلها .
وقوله تعالى : { وَحِيداً } فيه أوجه :
أحدها : أنه حال من الياء في « ذَرْنِي » ، أي : ذرني وحدي معه فأنا أكفيك في الانتقام منه .
الثاني : أنه حال من التاء في « خَلقْتُ » ، أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد فأنا أهلكه .
الثالث : أنه حال من « مَن » .
الرابع : أنه حال من عائده المحذوف ، أي خلقته وحيداً ، ف « وَحِيْداً » على هذا حال من ضمير المفعول المحذوف ، أي : خلقته وحده لا مال له ولا ولد ، ثم أعطيته بعد ذلك ما أعطيته؛ قاله مجاهد .
الخامس : أن ينتصب على الذَّمِّ ، لأنه يقال : إن وحيداً كان لقباً للوليد بن المغيرة ، ومعنى « وَحِيْداً » ذليلاً .
قيل : كان يزعم أنه وحيد في فضله ، وماله ، وليس في ذلك ما يقتضي صدق مقالته لأن هذا لقب له شهر به ، وقد يلقب الإنسان بما لا يتصف به ، وإذا كان لقباً تعين نصبه على الذم .
فصل في معنى « ذرني »
معنى « ذرني » أي : دعني ، وهي كلمة وعيد وتهديد ، « ومَنْ خَلقْتُ » هذه واو المعية ، أي : دعني والذي خلقته وحيداً .
قال المفسرون : هو الوليد بن المغيرة المخزومي ، وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه فإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة ، وأذى الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يسمى الوحيد في قومه .
قال ابن عباس : كان الوليد يقول : أنا الوحيد ابن الوحيد ، ليس لي في العرب نظير ، ولا لأبي المغيرة نظير ، فقال الله تعالى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ } بزعمه « وَحِيْداً » لأن الله تعالى صدقه ، بأنه وحيد .
قال ابن الخطيب : ورد هذا القول بعضهم بأنه تعالى لا يصدقه في دعواه بأنه وحيد لا نظير له ، ذكره الواحدي ، والزمخشري ، وهو ضعيف من وجوه :
الأول : لأنه قد يكون الوحيد علماً فيزول السؤال ، لأن اسم العلم لا يفيد في المسمى صفة ، بل هو قائم مقام الإرشاد .
الثاني : أن يكون ذلك بحسب ظنه ، واعتقاده ، كقوله - عز وجل - : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] .
الثالث : أنه وحيد في كفره ، وعناده وخبثه؛ لأن لفظ الوحيد ليس فيه أنه وحيد في العلو والشرف .
الرابع : أنه إشارة إلى وحدته عن نفسه .
قال أبو سعيد الضرير : الوحيد الذي لا أب له كما تقدم في « زَنِيْمٌ » .
قوله تعالى : { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } ، أي : خولته ، وأعطيته مالاً ممدوداً .
قال ابن عباس : هو ما كان للوليد بين مكة والطائف من الإبل والنعم والخيول والعبيد والجواري .
وقال مجاهد وسعيد بن جبير وابن عباس - أيضاً - : ألف دينار .
وقال قتادة : ستة آلاف دينار .
وقال سفيان الثوري : أربعة آلاف دينار .
وقال الثوري - أيضاً - : ألف ألف دينار .
وقال ابن الخطيب : المال الممدود : هو الذي يكون له مدد يأتي منه الجزء بعد الجزء دائماً ، ولذلك فسره عمر - رضي الله عنه - غلة شهر بشهر وقال النعمان : الممدود بالزيادة كالزرع والضرع ، وأنواع التجارات .
قال مقاتل : كان له بستان لا ينقطع شتاء ولا صيفاً ، كما في قوله - عز وجل - : { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } [ الواقعة : 30 ] ، أي : لا ينقطع والذي يظهر أنه المال الكثير ، والتقديرات تحكم .
قوله : { وَبَنِينَ شُهُوداً } ، أي : حضوراً لا يغيبون ، ولا يفارقونه - ألبتة - طَيِّبَ القلب بحضورهم .
وقيل : معنى كونهم شهوداً ، أي : يشهدون معه المجامعَ والمحافلَ .
وقيل : « شهوداً » أي : صاروا مثلهُ في شهود ما كان يشهدُ ، والقيام بما كان يباشره .
قال مجاهد وقتادة : كانوا عشرة .
وقال السديُّ والضحاكُ : كانوا اثني عشر رجلاً ، وعن الضحاك : سبعة ولدُوا بمكة ، وخمسة بالطائف .
وقال مقاتل : كانوا سبعة أسلم منهم ثلاثةٌ : خالد ، وهشام ، والوليد بن الوليد ، قال : فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك قال ابن الخطيب كانوا سبعة الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص ، وعبد القيس ، وعبد شمس أسلم منهم ثلاثة : خالد ، وعمارة ، وهشام .
قوله : { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } ، أي : بسطتُ له في العيش بسطاً في الجاه العريض والرياسة في قومه .
والتميهدُ عند العرب : التوطئة والتهيئة .
ومنه : مهدُ الصبيّ .
وقال ابن عباس : { ومَهَّدتُ لهُ تَمْهِيداً } أي : وسعَّتُ له ما بين « اليمن » إلى « الشام » ، وهو قول مجاهدٍ وعن مجاهد أيضاً : أنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش .
قوله تعالى : { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ } . لفظة « ثُمَّ » - هاهنا - معناها : التعجب كقولك لصاحبك : أنزلتك داري وأطعمتك وأسقيتك ثم أنت تشتمني ، ونظيره : قوله تعالى : { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] ، فمعنى « ثُمَّ - هاهنا - الإنكارُ والتعجبُ ، أي : ثم الوليد يطمعُ بعد هذا كله أن أزيدهُ في المالِ والولدِ ، وقد كفر بِي! قاله الكلبي ومقاتل ، ثم قال : » كَلاَّ « ليس يكون ذلك مع كفرهِ بالنعمِ .
قال الحسنُ وغيره : أي : ثُمَّ يطمعُ أن أدخلهُ الجنة ، وكان الوليد يقولُ : إنْ كَانَ محمدٌ صادقاً فما خلقتِ الجنة إلا لي ، فقال الله عزَّ وجلَّ رداً عليه وتكذيباً له : » كلاَّ « لستُ أزيدهُ ، فلمْ يزلْ في نقصانٍ بعد قوله : » كلاَّ « حتى افتقر ومات فقيراً .
وقيل : أي : ثم يطمع أن أنصره على كفره ، » كَلا « قطع للرجاء عما كان يطمع فيه من الزيادة ، فيكون متصلاً بالكلام الأول .
وقيل : « كَلاَّ » بمعنى « حقاً » ، ويبتدىء بقوله « إنَّهُ » يعني الوليد { كان لآيَاتِنَا عَنِيداً } ، أي : معانداً للنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به .
قال الزمخشريُّ : { إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا } استئناف جواب لسائل سأل : لم لا يزداد مالاً ، وما باله ردع عن طبعه؟ .
فأجيب بقوله : { إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً } ، انتهى .
فيكون كقوله صلى الله عليه وسلم في الهرة : « إنَّها ليْسَتْ بنجسٍ ، إنَّها مِنَ الطوَّافِيْنَ عَليْكُمْ » .
والعنيد : المعاند .
يقال : عاند فهو عنيد وعانِد ، والمعاند : البعير الذي يجور عن الطريق ويعدل عن القصد ، والجمع : عند مثل : « راكع وركع » ، قاله أبو عبيدة؛ وأنشد قول الحازميِّ : [ الرجز ]
4959 - إذَا رَكبتُ فاجْعَلانِي وَسَطا ... إنَّي كَبِيرٌ لا أطيقُ العُنَّدا
وقال أبو صالح : « عنيداً » معناه : مباعداً؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
4960 - أرَانَا على حَالٍ تُفَرِّقُ بَيْنَنا ... نَوّى غُرْبَةٌ إنَّ الفِراقَ عَنُودُ
وقال قتادة : جاحداً .
وقال مقاتل : معرضاً .
وقيل : إنه المجاهر بعداوته .
وعن مجاهد : أنه المجانب للحق .
قال الجوهري : ورجل عنود : إذا كان لا يخالط الناس ، والعنيد من التجبر ، وعرق عاند : إذا لم يرقأ دمه ، وجمع العنيد عُنُد مثل رغيف ورغف ، والعنود من الإبل : الذي لا يخالط الإبل إنما هو في ناحية ، والعنيد في معنى المعاند كالجليس والأكيل والعشير .
فصل في بيان فيما كانت المعاندة
في الآية إشارة إلى أنه كان يعاند في أمور كثيرة :
منها أنه كان يعاند في دلائل التوحيد ، والعدل ، والقدرة ، وصحة النبوة وصحة البعث .
ومنها : أن كفره كان عناداً لأنه كان يعرف هذه الأشياء بقلبه وينكرها بلسانه . وكفر المعاند أفحش أنواع الكفر .
ومنها : أن قوله « كان » يدل على أن هذه حرفته من قديم الزمان .
ومنها : أن هذه المعاندة ، كانت مختصة منه بآيات الله تعالى .
قوله : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } ، أي : سأكلفه ، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول : سألجئه ، والإرهاق في كلام العرب : أن يحمل الإنسان الشيء .
والصعود : جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفاً ، ثم يهوي به كذلك فيه أبداً . رواه الترمذي .
وفي رواية : صخرة في جهنم ، إذا وضعوا أيديهم عليها ذابت ، فإذا رفعوها عادت .
وقيل : هذا مثل لشدة العذاب الشاق الذي لا يطاق ، كقوله : عقبة صعود وكؤود ، أي : شاقة المصعدِ .
ثم إنه تعالى حكى كيفية عناده ، وهو قوله تعالى :
{ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } : يجوز أن يكون استئناف تعليل لقوله تعالى : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } ، ويجوز أن يكون بدلاً من { إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً } .
يقال : فكر في الأمر ، وتفكر إذا نظر فيه وتدبر ، ثم لما تفكر رتب في قلبه كلاماً وهيأه ، وهو المراد من قوله « وقَدَّرَ » .
والعرب تقول : قدرت الشيء إذا هيأته .
فصل في معنى الآية
معنى الآية : أن الوليد فكر في شأن النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن لما نزل :
{ حمتَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز العليم غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب ذِي الطول لاَ إله إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المصير } [ غافر : 1 - 3 ] ، سمعه الوليد يقرأها ، فقال : والله لقد سمعت منه كلاماً ما هو من كلام الإنس ، ولا من كلام الجنِّ ، وإنَّ له لحلاوة ، وإنَّ عليه لطلاوة ، وإنَّ أعلاه لمثمر ، وإنَّ أسفله لمغدق وإنه ليعلو ، وما يعلى عليه ، وما يقول هذا بشر ، فقالت قريش : صبأ الوليد لتصبونَّ قريش كلها ، وكان يقال للوليد : ريحانة قريش ، فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه فانطلق إليه حزيناً ، فقال له : ما لي أراك حزيناً ، فقال : وما لي لا أحزن ، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينوك بها ، ويزعمون أنك زينت كلام محمدٍ ، وتدخل على ابن أبي كبشة ، وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما ، فغضب الوليدُ - لعنهُ الله - وتكبَّر ، وقال : أنا أحتاجُ إلى كسرِ محمدٍ وصاحبه ، وأنتم تعلمون قدر مالي ، واللاتِ والعُزَّى ما بي حاجةٌ إلى ذلك وأنتم تزعمُون أن محمداً مجنون ، فهل رأيتموه قط يخنق؟ .
قالوا : لا والله ، قال : وتزعمون أنه كاهنٌ ، فهل رأيتموه تكهن قط؟ ولقد رأينا للكهنةِ أسجاعاً وتخالجاً ، فهل رأيتموهُ كذلك؟ .
قالوا : لا والله . وقال : تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه نطق بشعر قط؟ قالوا : لا والله .
قال : وتزعمون أنه كذَّاب ، فهل جريتمْ عليه كذباً قط؟ .
قالوا : لا والله . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُسمَّى الصادق والأمين من كثرة صدقه ، فقالت قريش للوليدِ : فما هو؟ ففكّر في نفسه ثم نظر ثم عبس ، فقال : ما هذا إلا سحرٌّ أما رأيتموه يفرق بين الرجل وولده فذلك قوله تعالى : { إِنَّهُ فَكَّرَ } أي في أمر محمدٍ والقرآن « وقدر » في نفسه ماذا يمكنهُ أن يقول فيهما .
قوله : { فَقُتِلَ } ، أي : لعنَ .
وقيل : قُهِرَ وغلبَ .
وقال الزهري : عذب ، وهو من باب الدعاء .
قال ابن الخطيب : وهذا إنما يذكرُ عند التعجب والاستعظام .
ومثله قولهم : قتلهُ اللَّهُ ما أشجعهُ ، وأخزاه الله ما أفجره ، ومعناهُ : أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسدهُ بذلك ، وإذا عرف ذلك ، فنقول : هنا يحتملُ وجهين :
الأول : أنه تعجب من قوة خاطره ، يعني أنه لا يمكن القدحُ في أمر محمدٍ صلى الله عليه وسلم بشبهةٍ أعظم ولا أقوى مما ذكرهُ هذا القائلُ .
الثاني : الثناءُ عليه على طريقةِ الاستهزاء ، يعني أن هذا الذي ذكره في غاية الركاكة والسقوط .
قوله : { كَيْفَ قَدَّرَ } ، أي : كيف فعل هذا ، كقوله تعالى : { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال } [ الإسراء : 48 ] ثم قيل : بضرب آخر من العقوبة . « كيف قدَّر » على أيّ حال قدَّر . « ثم نظر » بأي شيء يردّ الحق ويدفعهُ .
قال ابن الخطيب : والمعنى أنه أولاً فكّر .
وثانياً : قدَّر . وثالثاً : نظر في ذلك المقدرِ ، فالنظر السابق للاستخراج ، والنظر اللاحق لتمام الاحتياطِ ، فهذه المرات الثلاث متعلقة بأحوال ثلاث .
قوله تعالى : { ثُمَّ عَبَسَ } ، يقال : عبس يعبس عبساً ، وعبوساً : أي : قطب وجهه .
وقال الليث : عبس يعبس فهو عبس إذا قطب ما بين عينيه ، فإذا أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل : كلح ، فإن اهتم لذلك ، وفكر فيه قيل : بسر ، فإن غضب مع ذلك قيل بسل . واعلم أنه ذكر صفات جسمه بعد صفات قلبه ، وهذا يدل على عناده ، لأن من فكر في أمر حسن يظهر عليه الفرح لا العبوس ، والعبس أيضاً : ما يبس في أذناب الإبل من البعر ، والبول؛ قال أبو النجم : [ الرجز ]
4961 - كَأنَّ في أذْنابِهنَّ الشُّوَّلِ ... مِنْ عبسِ الصَّيفِ قُرونَ الأُيَّلِ
فصل في معنى الآية
معنى الآية : قطب وجهه في وجوه المؤمنين ، وذلك أنه لما قال لقريش محمداً ساحر مرَّ على جماعة من المسلمين ، فدعوه إلى الإسلام ، فعبس في وجوههم .
وقيل : عبس على النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه ، والعبس : مصدر « عبس » مخففاً « ، كما تقدم .
قوله : » وَبَسَرَ « ، يقال : بَسَر يَبسُرُ بسراً وبُسُوراً » إذا قبض ما بين عينيه كراهة للشيء واسود وجهه منه ، يقال : وجه باسر ، أي منقبض مسود كالح متغير اللون ، قاله قتادة والسدي؛ ومنه قول بشير بن الحارث : [ المتقارب ]
4962 - صَبَحْنَا تَمِيماً غَداةَ الجِفارِ ... بِشهْبَاءَ ملمُومةٍ بَاسِرَهْ
وأهل اليمن يقولون : بسر المركب بسراً ، أي : وقف لا يتقدم ، ولا يتأخر ، وقد أبسرنا : أي صرنا إلى البسور .
وقال الراغب : البسر استعجال الشيء قبل أوانه ، نحو : بسر الرجل حاجته طلبها في غير أوانها ، وماء بسر متناول من غديره قبل سكونه ، ومنه قيل للذي لم يدرك من التمر : بسر ، وقوله تعالى : { عَبَسَ وَبَسَرَ } ، أي : أظهر العبوس قبل أوانه ، وقبل وقته .
قال : فإن قيل : فقوله تعالى : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } [ القيامة : 24 ] ، ليس يفعلون ذلك قبل الموت ، وقد قلت : إن ذلك يكون فيما يقع قبل وقته .
قيل : أشير بذلك إلى حالهم قبل الانتهاء بهم إلى النار ، فخص لفظ البسر تنبيهاً على أن ذلك مع ما ينالهم من بعد ، يجري مجرى التكلف ، ومجرى ما يفعل قبل وقته ، ويدل على ذلك { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [ القيامة : 25 ] .
وقد عطف في هذه الجمل بحروف مختلفة ، ولكل منها مناسبة ، أما ما عطف ب « ثُمَّ » فلأن بين الأفعال مهلة ، وثانياً : لأن بين النظر ، والعبوس ، وبين العبوس ، والإدبار تراخياً .
قال الزمخشريُّ : و « ثمّ نظر » عطف على « فكَّر » و « قدَّر » ، والدعاء اعتراض بينهما ، يعني بالدعاء قوله : « فَقُتِل » ، ثم قال : فإن قلت : ما معنى « ثُمَّ » الداخلة على تكرير الدعاء؟ .
قلت : الدلالة على أن الكرة الثانية أبلغ من الأولى؛ ونحوه قوله : [ الطويل ]
4963 - ألاَ يَا اسْلمِي ثُمَّ اسْلمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي .. . .
فإن قلت : ما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها؟ .
قلت : للدلالة على أنه تأنَّى في التأمل ، والتمهل ، وكأن بين الأفعال المتناسقة تراخٍ ، وتباعد ، فإن قلت : فلم قال : « فَقالَ » - بالفاء - بعد عطف ما قبله ب « ثُمَّ »؟ .
قلت : لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث ، فإن قلت : فلم لم يتوسط حرف العطف بين الجملتين؟ .
قلت : لأن الأخرى جرت من الأولى مجرى التأكيد من المؤكد .
قوله تعالى : { ثُمَّ أَدْبَرَ } ، أي : ولى وأعرض ذاهباً عن سائر الناس إلى أهله .
{ واستكبر } حين دعي إلى الإيمان ، أي : تعظم .
{ إن هذا } أي : ما هذا الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم { إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } ، أي : تأثره عن غيره .
والسحر : الخديعة .
وقيل : السحر إظهار الباطل في صورة الحق .
والأثر : مصدر قولك : أثرت الحديث آثره ، إذا ذكرته عن غيرك؛ ومنه قيل : حديث مأثور ، أي : ينقله خلف عن سلف؛ قال الأعشى : [ السريع ]
4964 - إنَّ الَّذي فيه تَمَاريْتُمَا ... بُيِّنَ للسَّامِع والآثِرِ
قال ابن الخطيب : فيه وجهان :
الأول : أنه من قولهم : أثرت الحديث آثره ، أَثراً ، إذا حدثت به عن قوم في آثارهم ، أي : بعدما ماتوا ، هذا هو الأصل ، ثم صار بمعنى الرواية عما كان .
والثاني : يؤثر على جميع السحر ، وهذا يكون من الإيثارِ .
وقال أبو سعيد الضرير : يؤثر ، أي : يُورَثُ .
قوله تعالى : { إِنْ هاذآ إِلاَّ قَوْلُ البشر } ، أي : هذا إلا كلام المخلوقين تختدع به القلوب كما يخدع بالسحر .
قال ابن الخطيب : ولو كان الأمر كذلك لتمكنوا من معارضته إذا طريقتهم في معرفة اللغة متقاربة .
قال السديُّ : يعني أنه من قول سيَّار عبد لبني الحضرمي ، كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك .
وقيل : إنه أراد أنه تلقنه ممن ادعى النبوة قبله ، فنسج على منوالهم .
قال ابن الخطيب وهذا الكلام يدل على أن الوليد كان يقولُ هذا الكلام عناداً ، لما روي في الحديث المتقدم : « أنه لما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم » حم « ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لقد سمعتُ من محمدٍ كلاماً ، ليس من كلام الجنِّ ، ولا من كلام الإنس » الحديث ، فلمَّا أقر بذلك في أول الأمر علمنا أن قوله - هاهنا - : { إِنْ هاذآ إِلاَّ قَوْلُ البشر } ، إنَّما ذكره عناداً ، أو تمرداً لا اعتقاداً .
قوله تعالى : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } هذا بدل من قوله تعالى : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } . قاله الزمخشري .
فإن كان المراد بالصعود : المشقة ، فالبدل واضح ، وإن كان المراد : صخرة في جهنم - كما جاء في التفسير - فيعسر البدل ، ويكون فيه شبه من بدل الاشتمال ، لأن جهنم مشتملة على تلك الصخرة .
فصل في معنى الآية
المعنى : سأدخله سقر كي يصلى حرها ، وإنما سميت « سَقَرَ » من سقرته الشمس : إذا أذابته ولوحته ، وأحرقت جلدة وجهه ، ولا ينصرف للتعريف والتأنيث قال ابن عباس : « سقر » اسم للطبقة السادسة من « جهنم » .
{ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } . هذا مبالغة في وصفها ، أي : وما أعلمك أي شيء هي؟ . وهي كلمة تعظيم ، وتهويل ، ثم فسر حالها ، فقال - جل ذكره - : { لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ } أي : لا تترك لهم لحماً ، ولا عظماً ، ولا دماً إلا أحرقته .
قوله : { لاَ تُبْقِي } ، فيها وجهان :
أحدهما : أنها في محل نصب على الحال ، والعامل فيها معنى التعظيم ، قاله أبو البقاء .
يعني أن الاستفهام في قوله : « مَا سَقَرُ » للتعظيم ، والمعنى : استعظموا سقر في هذه الحال .
ومفعول « تُبْقِي » ، وتَذرُ « محذوف أي لا تبقي ما ألقي فيها ، ولا تذره ، بل تهلكه .
وقيل : تقديره لا تُبْقِي على من ألقي فيها ، ولا تذر غاية العذاب إلا وصلته إليه .
والثاني : أنها مستأنفة .
قال ابن الخطيب : واختلفوا في قوله : { لا تبقي ولا تذر } .
فقيل : هما لفظان مترادفان بمعنى واحد ، كرر للتأكيد والمبالغة ، كقولك صدَّ عني وأعرض عني ، بل بينهما فرق ، وفيه وجوه :
الأول : لا تبقي من اللحم ، والعظم ، والدم شيئاً ، ثم يعادون خالقاً جديداً ، » ولا تَذرُ « أن تعاود إحراقهم بأشد مما كانت ، وهكذا أبداً ، رواه عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وقال مجاهد : لا تبقي فيها حياً ولا تذره ميتاً بل تحرقهم كلما جُدِّدوا . وقال السديّ : لا تبقي لهم لحماً ولا تذر لهم عظماً . وقيل : لا تبقي من المعذبين ، ولا تذر من فوقها شيئاً ، إلا تستعمل تلك القوة في تعذيبهم .
قوله تعالى : { لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ } ، قرأ العامة : بالرفع ، خبر مبتدأ مضمر ، أي هي لواحة ، وهذه مقوية للاستئناف في » لا تُبقِي « .
وقرأ الحسن ، وابن أبي عبلة وزيد بن علي وعطية العوفي ونصر بن عاصم وعيسى بن عمر : بنصبهما على الحال ، وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها حال من » سَقرُ « ، والعامل معنى التعظيم كما تقدم .
والثاني : أنها حال من » لا تُبْقِي « .
والثالث : من » لا تَذرُ « .
وجعل الزمخشري : نصبها على الاختصاص للتهويل .
وجعلها أبو حيان حالاً مؤكدة .
قال : » لأن النار التي لا تبقي ولا تذر ، لا تكون إلاَّ مُغيرة للأبشار « .
و » لوَّاحةٌ « هنا مبالغة ، وفيها معنيان :
أحدهما : من لاح يلوح ، أي : ظهر ، أي : أنها تظهر للبشر ، [ وهم الناس ، وإليه ذهب الحسن وابن كيسان ، فقال : » لوَّاحةٌ « أي : تلوح للبشر ] من مسيرة خمسمائة عام ، وقال الحسن : تلوح لهم جهنم حتى يرونها عياناً ، ونظيره :
{ وَبُرِّزَتِ الجحيم لِمَن يرى } [ النازعات : 36 ] .
والثاني : وإليه ذهب جمهور الناس ، أنها من لوّحه أي : غيَّرهُ ، وسوَّدهُ .
قال الشاعر : [ الرجز ]
4965 - تقُولُ : ما لاحَكَ يا مُسَافِرُ ... يَا بْنَةَ عَمِّي لاحَنِي الهَواجِرُ
وقال رؤبة بن العجَّاج : [ الرجز ]
4966 - لُوِّحَ مِنْهُ بَعْدَ بُدْنٍ وسَنَقْ ... تَلْويحكَ الضَّامرَ يُطْوى للسَّبَقْ
وقال آخر : [ الطويل ]
4967 - وتَعْجَبُ هِنْدٌ إنْ رأتْنِي شَاحِباً ... تقُولُ لشَيءٍ لوَّحتهُ السَّمائمُ
ويقال : لاحَهُ يلُوحُه : إذا غير حليته .
قال أبو رزين : تلفح وجوههم لفحة تدعهم أشد سواداً من الليل ، قال تعالى : { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } [ المؤمنون : 104 ] .
وطعن القائلون بالأول في هذا القول ، فقالوا : لا يجوز أن يصفهم بتسويد الوجوهِ ، مع قوله : { لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ } .
وقيل : اللوح شدة العطش ، يقال : لاحه العطش ولوحه : أي غيره ، قال الأخفش : والمعنى أنها معطشة للبشر ، أي : لأهلها؛ وأنشد : [ الطويل ]
4968 - سَقَتْنِي على لَوْحِ من المَاءِ شَرْبةً ... سَقَاهَا بِه اللَّهُ الرِّهامَ الغَوادِيَا
يعني باللوح : شدة العطش . والرهام جمع رهمة - بالكسر - وهي المطرة الضعيفة وأرهمت السحابة : أتت بالرهام .
واللُّوح - بالضم - الهواء بين السماء والأرض ، والبشر : إما جمع بشرة ، أي : مغيرة للجلود . قاله مجاهد وقتادة ، وجمع البشر : أبشار ، وإما المراد به الإنس من أهل النار ، وهو قول الجمهور .
واللام في « البشر » : مقوية ، كهي في { لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] .
وقراءة النصب في « لوَّاحَةً » مقوية ، لكون « لا تُبْقِي » في محل الحال .
قوله تعالى : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } ، هذه الجملة فيها الوجهان :
أعني : الحالية ، والاستئناف وفي هذه الكلمة قراءات شاذة ، وتوجيهات مشكلة .
فقرأ أبو جعفر وطلحة : « تِسعَة عْشرَ » - بسكون العين من « عشر »؛ تخفيفاً؛ لتوالي خمس حركات من جنس واحد ، وهذه كقراءة { أَحَدَ عَشْرَ كَوْكباً } [ يوسف : 4 ] وقد تقدمت . وقرأ أنس وابن عباس رضي الله عنهما « تِسعَةُ عشَر » بضم التاء ، « عَشَر » بالفتح .
وهذه حركة بناء ، لا يجوز أن يتوهم كونها إعراباً ، إذ لو كانت للإعراب لجعلت في الاسم الأخير لتنزل الكلمتين منزلة الكلمة الواحدة ، وإنما عدل إلى التسكين كراهة توالي خمس حركات .
وعن المهدوي : « من قرأ : » تِسْعَةُ عَشَرْ « فكأنه من التداخل ، كأنه أراد العطف ، فترك التركيب ، ورفع هاء التأنيث ، ثم راجع البناء ، وأسكن » انتهى .
فجعل الحركة للإعراب ، ويعني بقوله : أسكن راء « عَشَرْ » فإنه في هذه القراءة كذلك .
وعن أنس - رضي الله عنه - أيضاً : « تِسْعَةُ أعْشُرٍ » بضم « تِسْعَة » و « أعْشُر » بهمزة مفتوحة ، ثم عين ساكنة ، ثم شين مضمومة ، وفيها وجهان :
قال أبو الفضل : يجوز أن يكون جمع « العشيرة » على « أعْشُر » ، ثم أجراه مجرى « تِسْعَة عشر » .
وقال الزمخشريُّ : جمع « عَشِير » مثل : يَمِين وأيْمُن .
وعن أنس - أيضاً - : « تِسْعَةُ وعْشُرْ » بضم التاء وسكون العين وضم الشين وواو مفتوحة بدل الهمزة .
وتخريجها كتخريج ما قبلها ، إلا أنه قلب الهمزة واواً مبالغة في التخفيف ، والضمة - كما تقدم - للبناء لا للإعراب .
ونقل المهدوي : أنه قرىء : « تِسْعَةٌ وعَشْرْ » ، قال : « فجاء به على الأصل قبل التركيب وعطف » عَشْر « على » تِسْعَة « ، وحذف التنوين ، لكثرة الاستعمال ، وسكون الراء من » عشر « على نية الوقف » .
وقرأ سليمان بن قتة : بضم التاء وهمزة مفتوحة ، وسكون العين ، وضم الشين وجر الراء من « أعْشُرٍ » .
والضمة على هذا ضمة إعراب ، لأنه أضاف الاسم لها بعده فأعربهما إعراب المتضايفين وهي لغة لبعض العرب يفكون تركيب الأعداد ، ويعربونها كالمتضايفين؛ كقوله : [ الرجز ]
4969 - كُلِّفَ مِنْ عَنائِهِ وشِقْوتِهْ ... بِنْتَ ثَمانِي عَشْرةٍ مِنْ حِجَّتِهْ
قال أبوالفضل : ويجيء على هذه القراءة ، وهي قراءة من قرأ : « أعشر » مبنياً ، أو معرباً من حيث هو جمع ، أن الملائكة الذي هم على « سَقَر » تسعون ملكاً .
فصل في معنى الآية
معنى الآية : أنه يلي أمر تلك النار تسعة عشر من الملائكة يلقون فيها أهلها .
قيل : هم خزنة النار ، مالك وثمانية عشر ملكاً .
وقيل : التسعة عشر نقيباً ، وقال أكثر المفسرين : تسعة عشر ملكاً بأعيانهم .
قال القرطبي : وذكر ابن المبارك عن رجل من بني تميم ، قال كنا عند أبي العوام .
فقرأ هذه الآية ، فقال : ما تسعة عشر تسعة عشر ألف ملك أو تسعة عشر ملكاً؟ قال : قلت : لا بل تسعة عشر ملكاً ، قال : وأنى تعلم ذلك؟
فقلت : لقول الله - عز وجل - : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ المدثر : 31 ]
قال : صدقت ، هم تسعة عشر ملكاً .
قال ابنُ جريج : نعت النبي صلى الله عليه وسلم خزنة جهنم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أعْينُهُمْ كالبَرْقِ ، وأنْيابُهمْ كالصَّيَاصي ، وأشْعارُهمْ تَمَسُّ أقْدامَهُمْ يَخرجُ لهَبُ النَّارِ مِنَ أفْواهِهِمْ » ، الحديث .
قال ابن الأثير : « الصَّياصِي : قرون البقر » .
وروى الترمذي عن عبد الله قال : « قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟
قالوا : لا ندري حتى نسأله فجاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد غلب أصحابك اليوم ، فقال : وبماذا غلبوا؟ .
قال : سألهم يهود ، هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟ .
قال : فماذا قالوا؟ قال : فقالوا : لا ندري حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم : أيغلب قومٌ سئلوا عما لا يعلمون ، فقالوا : لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم ؟ لكنهم قد سألوا نبيهم ، فقالوا : أرنا الله جهرة ، عليّ بأعداء الله ، إني سائلهم عن تربة الجنة ، وهي الدرمك ، فلما جاءوا ، قالوا : يا أبا القاسم ، كم عدد خزنة جهنم؟ .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هَكذَا ، وهَكذَا « ، في مرة عشرة ، وفي مرة تسعة ، قالوا : نعم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : » مَا تُربَةُ الجنَّةِ «؟ فسكتوا ، ثم قالوا : أخبرنا يا أبا القاسم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » الخُبْزُ مِنَ الدَّرْمكِ « .
قال ابن الأثير : الدرمك : هو الدقيق الحوارى .
قال القرطبيُّ : الصحيح - إن شاء الله - أن هؤلاء التسعة عشر ، هم الرؤساء ، والنقباء ، وأما جملتهم فكما قال تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] ، وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يُؤتَى بجَهنَّم يَومئِذٍ ، لها سبعُونَ ألفَ زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يَجُرُّونهَا » .
وقال ابن عباس وقتادة والضحاك : لما نزل قوله - عز وجل - { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ، أسمعُ ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم : « تسعة عشر » وأنتم الدهماء - أي العدد العظيم - والشجعان ، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم .
قال السدي : فقال أبو الأسود بن كلدة الجمحي : لا يهولنكم التسعة عشر ، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة وبمنكبي الأيسر التسعة ، ثم تمرون إلى الجنة ، يقولها مستهزءاً .
وفي رواية : أن الحارث بن كلدة قال : أنا أكفيكم سبعة عشر ، واكفوني أنتم اثنين ، فلما قال أبو الأسود ذلك ، قال المسلمون : ويحكم ، لا يقاس الملائكة بالحدادين ، فجرى هذا مثلاً في كل شيئين لا تساوي بينهما ، ومعناه : لا يقاس الملائكة بالسجّانين ، والحداد : السجان .
فصل في تقدير عدد الملائكة
ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوهاً :
منها ما قاله أرباب الحكمةِ : أنّ سبب فساد النفس الإنسانية في قوتها النظرية والعملية ، هو القوى الحيوانية والطبيعية ، فالقوى الحيوانية : فهي الخمسة الظاهرة ، والخمسة الباطنة ، والشَّهوة ، والغضب فهذه اثنا عشر ، وأما القوى الطبيعية : فهي الجاذبة ، والماسكة ، والهاضمة ، والدافعة والعادية ، والنافية ، والمولدة ، فالجموع تسعة عشر ، فلما كانت هذه منشآت الآفات لا جرم كان عدد الزبانية هكذا .
ومنها : أن أبو جهنم سبعة ، فستة منها للكفار وواحد للفسَّاق ، ثم إنَّ الكفَّار يدخلون النار لأمور ثلاثة : ترك الاعتقاد ، وترك الإقرار ، وترك العمل ، فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة ، فالمجموع : ثمانية عشر .
وأما باب الفساق : فليس هناك إلا ترك العمل ، فالمجموع : تسعة عشر مشغولة بغير العبادة ، فلا جرم صار عدد الزبانية تسعة عشر .
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)
قوله : { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً } .
روي أن أبا جهل لما نزل قول الله تعالى : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } [ المدثر : 30 ] قال : أيعجز كل مائة ان يبطشوا بواحدٍ منهم ثم يخرجون من النار؛ فنزل قوله عز وجل : { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً } أي : لم نجعلهم رجالاً فتغالبوهم .
وقيل : جعلهم ملائكة لأنهم خلاف المعذبين من الجن والإنس ، فلا تأخذهم مآخذ المجانس من الرقة والرأفة ، ولا يستريحون إليهم ، ولأنهم أشد الخلق بأساً ، وأقواهم بطشاً ، ولذلك جعل - تعالى - الرسول إلى البشر من جنسهم ليكون رأفة ورحمة بنا .
وقيل : لأنَّ قوتهم أعظم من قوة الإنس والجن .
فإن قيل : ثبت في الأخبار أنَّ الملائكة مخلوقون من النور ، والمخلوق من النور كيف يطيق المكث في النار؟ .
فالجواب : أن الله - تعالى - قادر على كل الممكنات ، فكما أنه لا استبعاد في [ إبقاء الحي في مثل ذلك العذاب أبد الآباد ولا يموت ، فكذا لا استبعاد ] في بقاء الملائكة هناك من غير ألم .
قوله { وَمَا جَعَلْنَآ عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } . أي : بليّة .
روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : المعنى : ضلالة للذين كفروا .
وقوله تعالى { فِتْنَةً } مفعول ثانٍ على حذف مضاف ، أي إلا سبب فتنة ، و « الذين » صفة ل « فتنة » ، وليست « فتنة » مفعولاً له .
فصل في علة ذكر العدد .
قال ابن الخطيب : هذا العدد إنَّما صار سبباً لفتنة الكفار من وجهين :
الأول : أن الكفار يستهزئون ويقولون : لم لم يكونوا عشرين ، وما المقتضي لتخصيص هذا العدد؟ .
والثاني : أن الكفار يقولون : هذا العدد القليل ، كيف يكونون وافين بتعذيب أكثر خلق العالم من الجن والإنس من أول ما خلقهم الله إلى قيام القيامة؟ .
والجواب عن الأول : أن هذا السؤال لازمٌ على كل عددٍ يفرض .
وعن الثاني : أنه لا يبعد أن الله يزرق ذلك العدد القليل قوة تفي بذلك ، فقد اقتلع جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - مدائن قوم لوطٍ على أحدِ جناحيه ، ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء صياح ديكتهم ، ثم قلبها وجعل عاليها سافلها .
وأيضاً : فأحوال القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا ، ولا للعقل فيها مجال .
فصل في أن الله تعالى يريد الفتنة .
دلت هذه الآية على أن الله - تعالى - يريد الفتنة .
وأجاب الجبائي : بأن المراد من الفتنة تشديدُ التعبد ليستدلوا على أنه - تعالى - قادرٌ على تقوية هؤلاء التسعة عشر على ما لا يقوى عليه مائةُ ألفِ ملكٍ أقوياء .
وأجاب الكعبي : بأن المراد من الفتنة الامتحانُ حتَّى يفوضَ المؤمنون حكمة التخصيص بالعدد المعين إلى علم الله تعالى ، وهذا من المتشابه الذي أمروا بالإيمان به ، أو يكون المراد من الفتنة ما وقعوا فيه من الكفر بسبب تكذيبهم بعدد الخزنة ، وحاصله ترك الألطاف .
والجواب : أن نقول : هل لا يزال لهذه المتشابهات أثرٌ في تقوية داعية الكفر أم لا؟ فإن لم يكن له أثرٌ في تقوية داعية الكفر لم يكن إنزال هذه المتشابهات فتنة للذين كفروا ألبتة وإن كان له أثرٌ في تقوية داعية الكفر ، فقد حصل المقصود؛ لأنه إذا ترجَّحت داعية الفعل صارت داعيةُ الترك مرجوحة ، والمرجوح يمتنع تأثيره ، فيكون الترك ممتنع الوقوع ، فيصير الفعل واجب الوقوع . والله أعلم .
قوله تعالى : { لِيَسْتَيْقِنَ الذين } . متعلق ب « جعلنا » لا ب « فتنة » .
وقيل : بفعل مضمر ، أي : فعلنا ذلك ليستيقن .
فصل في المراد بالآية
معنى الكلام : ليُوقنَ الذين أعطوا التوراة والإنجيل أن عدَّة خزنة جهنَّم مُوافقةٌ لما عندهم . قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم . ثم يحتمل أن يريد الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام ، ويحتمل أن يريد الكُلَّ ، { وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً } لتصديقهم بعدد خزنة النار .
قال ابن الخطيب : فإن قيل : حقيقة الإيمان عندكم لا تقبل الزيادة والنقصان ، فما قولكم في هذه الآية؟ .
فالجواب : نحملُه على ثمرات الإيمان ، وعلى آثاره ولوازمه .
قوله تعالى : { وَلاَ يَرْتَابَ } ، أي : ولا يشك { الذين أُوتُواْ } أي : أعطُوا { الكتاب والمؤمنون } أي : المُصدِّقُون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنَّ خزنة جهنَّم تسعة عشر .
فإن قيل : لما أثبت الاستيقان لأهل الكتاب ، وأثبت زيادة الإيمان للمؤمنين ، فما الفائدة في قوله تعالى بعد ذلك : { وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُوا الكتاب والمؤمنون } ؟ .
فالجواب : أن الإنسان إذا اجتهد في أمرٍ غامضٍ دقيقِ الحُجَّة كثير الشُّبه ، فحصل له اليقين ، فربَّما غفل عن مقدمةٍ من مقدِّمات ذلك الدليل الدقيق ، فيعود الشرك ، فإثبات اليقين في بعض الأحوال لا ينافي طريان الارتياب بعد ذلك ، ففائدة هذه الإعادة نفي ذلك الشكِّ ، وأنه حصل له يقينٌ جازمٌ ، لا يحصل عقيبه شكٌّ ألبتة .
قوله تعالى : { وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } ، أي : في صدورهم شكٌّ ونفاقٌ من منافقي أهل « المدينة » الذين يجيئون في مستقبل الزمان بعد الهجرة ، وهذا إخبار عما سيكون ، ففيه معجزة { والكافرون } أي : اليهود والنصارى { مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } يعني : بعدد خزنةِ جهنَّم ، وهذا قول أكثر المفسرين .
وقال الحسن بن الفضل : السورة مكيّة ، ولم يكن ب « مكة » نفاقٌ ، فالمرض في هذه الآية الخلاف ، والمراد بالكافرين : مشركو العرب ، ويجوز أن يُراد بالمرض الشكُّ والارتياب لأن أهل « مكة » كان أكثرهم مشركين ، وبعضهم قاطعين بالكذب ، وقوله تعالى إخباراً عنهم : { مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } ؟ أي : هذا العدد الذي ذكره حديثاً ، أي ما هذا من الحديث .
قال الليث رحمه الله : المثل الحديث ، ومنه :
{ مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } [ محمد : 15 ] ، أي حديثها والخبر عنها .
وقال ابن الخطيب : إنما سمَّوه مثلاً؛ لأنه لمَّا كان هذا العدد عدداً عجيباً ظن القوم أنه رُبَّما لم يكن مراداً لله منه ما أشعر به ظاهره بل جعله مثلاً لشيء آخر تنبيهاً على مقصود آخر - لا جَرمَ سمَّوه مثلاً - لأنهم لمَّا اسغربوه ظنُّوا أنه ضرب مثلاً لغيره ، و « مَثَلاً » تمييزٌ أو حالٌ ، وتسمية هذا مثلاً على سبيل الاستعارة لغرابته .
فصل في لام : « وليقول »
« اللام » في قوله تعالى : { وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } جار على أصول أهل السُّنة؛ لأن ذلك مراد ، وعند المعتزلة : هي لام العاقبة ، ونسبوه إلى الله - عز وجل - مع أنهم ينكرون ذلك ، إما على سبيل التَّهكُّم ، وإما على ما يقولونه .
قوله : { كَذَلِكَ } : نعتٌ لمصدر ، أو حالٌ منه على ما عرف ، وذلك إشارة إلى ما تقدم من الإضلال والهدي أي : مثل ذلك الإضلالِ والهدى { يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ } كإضلال الله أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم « يُضِلُّ » أي : يُعمي ويُخزي من يشاء ، ويهدي من يشاء أي ويرشد من يشاء كإرشاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه الآية تدل على مذهب أهل السنة؛ لأنه - تعالى - قال في أول هذه الآية : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } وقال - جل ذكره - في آخر الآية : { وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } ، ثم قال سبحانه : { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ } .
وأما المعتزلة فذكروا تأويلاتهم المشهورة ، وتقدم أجوبتها .
قوله : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } ، « جُنُود ربِّك » : مفعولٌ واجبُ التقديم لحصر فاعله ولعود الضمير على ما اتصل بالمفعول .
فصل في تفسير الآية
أي : وما يدري عدد ملائكة ربك الذين خلقهم لتعذيب أهل النار « إلاَّ هُوَ » أي : الله عز وجل ، وهذا جواب لأبي جهل حين قال : ما لإله محمد صلى الله عليه وسلم من الجنود إلاَّ تسْعةَ عشرَ إلاَّ أنَّ لكلِّ واحد منهم من الأعوان والجنود ما لا يعلم عددهم إلا هو ، ويحتمل أن يكون المعنى { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ } لفرط كثرتها { إِلاَّ هُوَ } فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين ، ولكن له في هذا العدد حكمة لا يعلمها الخلق ، وهو جل جلاله يعلمها .
ويكون المعنى : أنه لا حاجة بالله - سبحانه - في تعذيب الكفار والفساق إلى هؤلاء الخزنة ، بل هو الذي يعذِّبهم في الحقيقة ، وهو الذي يخلق الألم فيهم ، ولو أنه - تعالى - قلب شعرة في عين ابن آدم أو سلط الألم على عرق واحد من عروق بدنه لكفاه ذلك بلاء ومحنة ، فلا يلزم من تقليل عدد الخزنة قلَّةُ العذاب فجنود الله تعالى غير متناهية لأن مقدوراته غير متناهية
قال صلى الله عليه وسلم :
« أطَّتِ السَّماءُ وحَقَّ لَهَا أن تَئِطَّ ، مَا فيهَا مَوضع أرْبعِ أصَابعَ إلاَّ وفِيهَا مَلكٌ سَاجِدٌ » .
قوله جل ذكره : { وَمَا هِيَ } ، يجوز أن يعود الضمير على « سَقَر » أي : وما سقر إلاَّ تذكرةٌ أي عظةٌ للبشر ، وأن يعود على الآيات المذكورة فيها ، أو النار لتقدمها ، أو الجنود لأنه أقربُ مذكور ، أو نار الدنيا ، وإن لم يجرِ لها ذكر تذكرة لنا بالآخرة ، قاله الزجاج أو ما هذه العدة { إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ } أي ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله تعالى ، وأنه سبحانه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار .
والبشر : مفعول ب « ذكرى » و « اللام » فيه مزيدة .
كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
قوله : { كَلاَّ والقمر } .
قال الفراء : « كَلاَّ » أصله للقسم ، التقدير : أي : والقمر .
وقيل : المعنى حقّاً والقمر ، فلا يوقف على هذين التقديرين على « كلا » .
وأجاز الطبري الوقف عليها ، وجعلها ردّاً على الذين زعموا أنهم يقاومون خزنة جهنم أي : ليس الأمر كما يقول من زعم أنه يقاوم خزنة النار ، ثم أقسم على ذلك بالقمر ، وبما بعده .
وقيل : هذا إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن يكون لهم ذكرى؛ لأنهم لا يتذكرون .
وقيل : هو ردعٌ لمن ينكر أن يكون الكبر نذيراً .
وقيل : ردع عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة .
قوله تعالى : { والليل إِذْ أَدْبَرَ } .
قرأ نافع وحمزة وحفص : « إذ » ظرفاً لما مضى من الزمان « أدبر » بزنة « أكْرَمَ » .
والباقون : « إذا » ظرفاً لما يستقبل « دَبَرَ » بزنة « ضَرَبَ » .
والرَّسْمُ محتمل لكلتيهما ، فالصورة الخطية لا تختلف .
واختار أبو عبيد قراءة « إذا » ، قال : لأن بعده « إذَا أسْفرَ » ، قال : « وكذلك هي في حرف عبد الله » ، يعني : أنه مكتوب بألفين بعد الذال؛ أحدهما : ألف « إذا » والأخرى همزة « أدبر » .
قال : وليس في القرآن قسم يعقبه « إذ » ، وإنما يعقبه « إذا » .
واختار ابن عباس - رضي الله عنه - : « إذا » .
ويحكى عنه : أنه لما سمع « دَبَرَ » قال : « إنَّما يدبرُ ظهر البعير » .
واختلفوا : هل « دبر ، وأدبر » بمعنى أم لا؟ .
فقيل : هما بمعنى واحد ، يقال : دبر الليل والنهار وأدبر ، وقبل وأقبل؛ ومنه قولهم : « أمس الدابر » فهذا من « دَبَر » ، و « أمس المُدبِر »؛ قال صَخرُ بن عمرو بن الشَّريدِ السُّلمِيُّ : [ الكامل ]
4970 - ولقَدْ قَتلْتُكمْ ثُنَاءَ ومَوْحَداً ... وتَركْتُ مُرَّةَ مِثلَ أمْسِ الدّابرِ
ويروى : « المُدْبِر » ، وهذا قول الفرَّاء والأخفش والزجاج .
وأما : « أدبر الراكب » وأقبل فرباعي لا غير .
وقال يونس : « دبر » انقضى ، و « أدبر » تولى ، ففرق بينهما .
وقال الزمخشري : « ودبر : بمعنى أدبر » ك « قبل بمعنى أقبل » .
وقيل منه : صاروا كأمسِ الدابر .
وقيل : هو من دبر الليل بالنهار ، إذا خلفه .
وذكر القرطبي عن بعض أهل اللغة : « دبر الليل : إذا مضى ، وأدبر : أخذ في الإدبار » .
وقرأ محمد بن السميفع : « والليل إذا أدبر » بألفين ، وكذلك هي في مصحف عبد الله وأبيّ .
وقال قطرب : من قرأ « دبر » فيعني أقبل ، من قول العرب : دبر فلان ، إذا جاء من خلفي .
قال أبو عمرو : وهي لغة قريش .
قوله تعالى : { والصبح إِذَآ أَسْفَرَ } . أي أضاء ، وفي الحديث : « أسِفرُوا بالفَجْرِ » .
ومنه قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ } [ عبس : 38 ] .
وقرأ العامة : « أسْفَرَ » بالألف وعيسى بن الفضل وابن السميفع : « سَفَر » ثلاثياً .
والمعنى : طرح الظُّلمة عن وجهه على وجه الاستعارة ، وهما لغتان .
ويقال : سَفَرَ وجه فلان إذا أضاء ، وأسفر وجهه حسناً : أي أشرق ، وسفرت المرأة ، أي كشفت عن وجهها ، فهي سافرة .
قال القرطبي : ويجوز أن يكون سَفَرَ الظلام ، أي كنسه ، كما يسفر البيت أي : يُكنس ، ومنه السفير ، لما يسقط من ورق الشجر ويتحاتّ ، يقال : إنما سمي سفيراً لأن الريح تُسْفره ، أي : تكنسه ، والمُسفرة : المكنسة « .
قوله : { إِنَّهَا } . أي : إن النار .
وقيل : إن قيام الساعة كذا حكاه أبو حيان . وفيه شيئان : عوده على غير مذكور ، وكونُ المضاف اكتسب تأنيثاً .
وقيل : إنه النذارة ، وقيل : هي ضمير القصّة ، وهذا جواب القسم وتعليل ل » كَلاَّ « والقسم معترض للتوكيد . قاله الزمخشري .
قال شهاب الدين : » وحينئذ يحتاج إلى تقدير جوازه ، وفيه تكلف وخروج عن الظاهر « .
قوله : { لإِحْدَى الكبر } . قرأ العامَّةُ : » لإحْدَى الكُبَر « بهمزة ، وأصلها واو من الوحدة .
وقرأ نصر بن عاصم ، وابن محيصن ، ويروى عن ابن كثير : » لَحدى « بحذف الهمزة .
وهذا من الشُّذوذ بحيث لا يقاس عليه .
وتوجيهه : أن يكون أبدالها ألفاً ثُمَّ حذف الألف لالتقاء الساكنين ، وقياس تخفيف مثل هذه الهمزة أن تجعل بَيْنَ بَيْنَ .
قال الواحدي : ألف إحدى مقطوع لا تذهب في الوصل و » الكُبَر « : جمع » كُبْرَى « ك » الفُضَل « جمع » فُضْلَى « .
قال الزمخشري : » الكُبَر : جمع الكُبْرى « . جعلت ألف التأنيث كتاء التأنيث ، فكما جمعت » فُعْلة « على » فُعَل « جمعت » فُعْلى « عليها ، ونظير ذلك : » السَّوافِي « في جمع » السَّافِيَاء « وهو التراب التي تسفّه الريح ، و » القَواصع « في جمع » القَاصِعَاء « كأنها جمع » فاعلة « قاله ابن الخطيب
فصل في معنى الآية
معنى » إحْدَى الكُبَرِ « أي إحدى الدواهي ، قال : [ الرجز ]
4971 - يَا ابْنَ المُعلَّى نزَلتْ إحْدَى الكْبَرْ ... دَاهِيَةُ الدَّهْرِ وصَمَّاءُ الغِيَرْ
ومثله : هو أحد الرجال ، وهي إحدى النساء ، لمن يستعظمونه . والمراد من » الكبر « دركات جهنم ، وهي سبعة : جَهَنَّم ، ولَظَى ، والحطمة ، والسَّعير ، والجَحِيم ، والهَاوية ، وسَقَر . أعاذنا الله منها .
وفي تفسير مقاتل : » الكُبَر « اسم من أسماء النار .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما » إنها « أي إن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم » لإحْدَى الكُبَر « أي : الكبيرة من الكبائر .
قوله : { نَذِيراً } . فيه أوجه :
أحدها : أنه تمييز من » إحدى « لما ضمنت معنى التعظيم ، كأنه قيل : أعظم الكبر إنذاراً ، ف » نذير « بمعنى » الإنذار « كالنكير بمعنى الإنكار ، كأنه قيل : إنها لإحدى الدواهي إنذاراً ، ومثله : هي إحدى النساء عفافاً .
الثاني : أنه مصدر بمعنى الإنذار أيضاً ولكنه نصب بفعل مقدَّر ، قاله الفراء .
الثالث : أنه « فعيل » بمعنى « مُفْعِل » وهو حال من الضمير في « إنها » . قاله الزجاج ، وذُكِّرَ لأن معناه معنى العذاب أو أراد أنَّها « ذات إنذارٍ » على معنى النسب ، كقولهم : امرأة طالق وطاهر .
قال الحسن رضي الله عنه : والله ما أنذرَ الخلائق بشيءٍ أدهى منها .
الرابع : أنه حال من الضمير في « إحدى » لتأويلها بمعنى العظم .
الخامس : أنه حال من فاعل « قُمْ » أول السورة ، والمراد بالنذير : محمدٌ صلى الله عليه وسلم أي : قُمْ نذيراً للبشر ، أي : مخوفاً لهم . قاله أبو علي الفارسي .
وروي عن ابن عباس ، وأنكره الفراء .
قال ابن الأنباري : قال بعض المفسرين : معناه يا أيُّها المدثِّر ، قُم نذيراً للبشر ، وهذا قبيح لطول ما بينهما .
السادس : أنه مصدر منصوب ب « أنذِر » أول السورة ، كأنه قال : إنذاراً للبشر .
قال الفراء : يجوز أن يكون النذير بمعنى الإنذار ، أي : أنذر إنذاراً ، فهو كقوله تعالى : { كَيْفَ نَذِيرِ } [ الملك : 17 ] . أي : إنذاري ، فعلى هذا يكون راجعاً إلى أول السورة .
السابع : هو حالٌ من « الكُبَر » .
الثامن : حالٌ من ضمير « الكُبَرِ » .
التاسع : أنه منصوب بإضمار « أعني » .
العاشر : أنه حال من « لإحدى » . قاله ابن عطية .
الحادي عشر : أنَّه منصوب ب « ادع » مقدَّراً ، إذ المراد به الله تبارك وتعالى .
روى أبو معاوية الضرير : حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي رزين : « نذيراً للبشر » ، قال : يقول الله عز وجل : أنا لكم منها نذير فاتقوها .
و « نذيراً » على هذا نصب على الحال ، أي ب { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً } منذراً بذلك البشر .
الثاني عشر : أنَّه منصوب ب « نادى ، أو ببلِّغ » إذ المراد به الرسول صلى الله عليه وسلم .
الثالث عشر : أنَّه منصوب بما دلَّت عليه الجملة ، تقديره : عظُمتْ نذيراً .
الرابع عشر : هو حال من الضمير في « الكُبَرِ » .
الخامس عشر : أنَّها حال من « هو » في قوله { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } .
السادس عشر : أنَّها مفعول من أجله ، النَّاصب لها ما في « الكُبَرِ » من معنى الفعل .
قال أبو البقاء : « إنَّها لإحْدى الكبر لإنذار البشر » . فظاهرُ هذا أنه مفعول من أجله . واعلم أنَّ النصب : قراءةُ العامَّة .
وقرأ أبي بن كعب ، وابن أبي عبلة : بالرفع .
فإن كان المراد النار جاز فيه وجهان :
أن يكون خبراً بعد خبرٍ ، وأن يكون خبر مبتدإ مضمرٍ ، أي : هي نذير ، والتذكِر - لما تقدم - من معنى النَّسبِ . وإن كان الباري تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم كان على خبر مبتدإ مضمر ، أي : هو نذير .
و « للبشر » : إما صفة ، وإما مفعول ل « نذير » واللام مزيدة لتقوية العامل .
قوله : { لِمَن شَآءَ } ، فيه وجهان :
أحدهما : أنه بدل من البشر بإعادة العامل كقوله : { لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف : 33 ] ، و { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ } [ الأعراف : 75 ] ، وأن يتقدم مفعول « شاء » أي : نذيراً لمن شاء التقدم أو التأخر ، وفيه ذكر مفعول « شاء » وقد تقدم أنه لا يذكر إلا إذا كان فيه غرابة .
الثاني : وبه بدأ الزمخشري : أن يكون « لمن شاء » خبراً مقدماً ، و « أن يتقدم » مبتدأ مؤخر .
قال : كقولك : لمن توضّأ أن يصلي ، ومعناه : مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم ، أو يتأخر انتهى .
فقوله : « التقدم أو التأخر » وهو مفعول « شاء » المقدر .
قال أبو حيَّان رحمه الله : قوله : « أن يتقدم » هو المبتدأ معنى لا يتبادر إلى الذهن ، وفيه حذف .
قال القرطبي : اللام في « لمن شاء » متعلقة ب « النذير » ، أي : نذيراً لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الخير والطاعة أو يتأخر إلى الشر والمعصية ، نظيره : { ولقد علمنا المستقدمين منكم } ، أي : في الخير { وَلَقَدْ علمنالمستأخرين } [ الحجر : 24 ] عنه ، قال الحسن : هذا وعيد وتهديد وإن خرج مخرج الخبر ، كقوله تعالى : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 27 ] .
وقيل : المعنى لمن شاء الله أن يتقدم أو يتأخر ، فالمشيئة متصلة بالله - عز وجل - والتقديم بالإيمان والتأخير بالكفر .
وكان ابن عباس يقول : هذا تهديد وإعلام أنَّ من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً جوزي بثوابٍ لا ينقطع ، ومن تأخر عن الطاعة ، وكذب محمداً صلى الله عليه وسلم عوقب عقاباً لا ينقطع .
وقال السديُّ : « لمن شاء منكم أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها ، أو يتأخر عنها إلى الجنة » .
فصل فيمن استدل بالآية على كون العبد متمكناً من الفعل
احتج المعتزلة بهذه الآية على كون العبد متمكناً من الفعل غير مجبور عليه .
وجوابه : أنَّ هذه الآية دلَّت على أن فعل العبد معلق على مشيئته ، لكن مشيئة العبد معلقة على مشيئة الله - تعالى جل ذكره - كقوله تعالى : { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الإنسان : 30 ] .
وحينئذ تصير الآية حجة عليهم .
قال ابن الخطيب : وذكر الأصحاب جوابين آخرين :
الأول : معنى إضافة المشيئة إلى المخاطبين ، التهديد ، كقوله عز وجل : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } .
الثاني : أنَّ هذه المشيئة لله - تبارك وتعالى - على معنى : لمن شاء الله منكم أن يتقدم ، أو يتأخر .
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
قوله : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } . فيه أوجه :
أحدها : أنَّ « رَهِينَةٌ » بمعنى « رَهْنٍ » ك « الشَّتِيمة » بمعنى « الشَّتْم » .
قال الزمخشري : ليس كتأنيث « رهين » في قوله : { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } [ الطور : 21 ] لتأنيث النفس ، لأنه لو قصدت الصفة لقيل : رهين؛ لأن « فعيلاً » بمعنى « مفعول » يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وإنَّما هي اسم بمعنى « الرهن » كالشتيمة بمعنى « الشّتم » كأنه قيل : كل نفس بما كسبت رهن ، ومنه بيت الحماسة : [ الطويل ]
4972 - أبَعْدَ الذي بالنَّعْفِ نَعْفِ كُويكِبٍ ... رَهِينَةِ رَمْسٍ ذي تُرابٍ وجَنْدلِ
كأنَّه قال : « رَهْنِ رَمْسٍ » .
الثاني : أن الهاء للمبالغة .
الثالث : أنَّ التأنيث لأجل اللفظ .
واختار أبو حيان : أنها بمعنى « مفعول » وأنها كالنَّطيحة ، وقال : ويدل على ذلك أنَّه لما كان خبراً عن المذكر كان بغير هاء ، وقال تعالى : { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } فأنَّثَ حيث كان خبراً عن المذكر أتى بغير تاء ، وحيث كان خبراً عن مؤنث أتى بالتاء كما في هذه الآية فأمَّا التي في البيت فأنَّثَ على معنى النَّفْسِ .
فصل في معنى رهينة
ومعنى « رهينة » أي : مُرتهَنَة بكسبها ، مأخوذة بعملها ، إمَّا خلَّصهَا وإمَّا أوبقها .
قوله : { إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين } . فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه استثناء متصل إذا المراد بهم المسلمون الخالصون الصالحون ، فإنَّهم فكُّوا رقاب أنفسهم بأعمالهم الحسنة كما يخلِّص الراهن رهنه بإيفاءِ الحق .
والثاني : أنَّه منقطع ، إذا المراد به الأطفال والملائكة .
قال ابن عباس : المراد بهم الملائكة .
وقال عليُّ بن أبي طالب وابن عمر - رضي الله عنهما - هم أولاد المسلمين لم يكتسبوا فيُرْتهَنُوا .
وقال الضحاك : هم الذين سبقت لهم منا الحسنى ، ونحوه عن ابن جريج قال : كل نفس بعملها محاسبة إلا أصحاب اليمين ، وهم أهل الجنة فإنَّهم لا يحاسبون .
وكذا قال مقاتل والكلبي أيضاً : هم أصحاب الجنة الذين كانوا عن يمين آدم - عليه الصلاة والسلام - يوم الميثاق حين قال الله تعالى لهم : « هؤلاء في الجنة ولا أبالي » .
قال الحسن وابن كيسان : هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين ، لأنهم أدَّوا ما كان عليهم .
وعن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : هم المسلمون .
وقيل : إلا أصحاب الحق وأهل الإيمان .
وقيل : هم الذين يُعطون كتبهم بأيمانهم .
وقال أبو جعفر الباقرُ : نحن وشيعتنا أصحاب اليمين ، وكل من أبغضنا أهل البيت فهم المرتهنون .
قوله تعالى : { فِي جَنَّاتٍ } . يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمرٍ ، أي : هم في جنات ، وأن يكون حالاً من « أصحاب اليمين » ، وأن يكون حالاً من فاعل « يتساءلون » .
ذكرهما أبو البقاء . ويجوز أن يكون ظرفاً ل « يتساءلون » ، وهو أظهر من الحالية من فاعله .
و « يتساءلون » يجوز أن يكون على بابه ، أي : يسأل بعضهم بعضاً ، ويجوز أن يكون بمعنى « يسألون » أي يسألون غيرهم ، نحو « دَعوْتُه وتَداعَيْتُه » .
قوله : { عَنِ المجرمين } فيه وجهان :
الأول : أن تكون كلمة « عن » صلة زائدة ، والتقدير : يتساءلون المجرمين ، فيقولون لهم : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } ، فإنه يقال : سألته كذا ، وسألته عن كذا .
الثاني : أن يكون المعنى : أن أصحاب اليمين يسأل بعضهم بعضاً عن أحوال المجرمين .
فإن قيل : فعلى هذا يجب أن يقولوا : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } ؟ .
فأجاب الزمخشري عنه فقال : « المرادُ من هذا أن المشركين يلقون ما جرى بينهم وبين المؤمنين ، فيقولون : قلنا لهم : مَا سلَكَكُمْ في سَقَرَ » .
وفيه وجه آخر وهو : أنَّ المراد أن أصحاب اليمين كانوا يتساءلون عن المجرمين أين هم؟ فلما رأوهم ، قالوا لهم : ما سلككم في سقر؟ والإضمارات كثيرة في القرآن .
قوله : { مَا سَلَكَكُمْ } : يجوز أن يكون على إضمار القول ، وذلك في موضع الحال أي : يتساءلون عنهم قائلين لهم : ما سلككم؟ قال الزمخشري : فإن قلت : كيف طابق بعد قوله : « ما سلككم » وهو سؤال المجرمين ، قوله : { يَتَسَآءَلُونَ عَنِ المجرمين } ، وهو سؤال عنهم ، وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل : يتساءلون المجرمين : ما سلككم؟ .
قلت : قوله تعالى : { مَا سَلَكَكُمْ } ليس ببيانٍ للتساؤل عنهم وإنما هو حكاية قول المسئولين عنهم؛ لأن المشركين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين ، فيقولون : قلنا لهم : ما سلككم في سقر؟ أي : أدخلكم في سقر ، كما تقول : سَلكْتُ الخَيْط في كذا إذا أدخلته فيه ، والمقصود من هذا : زيادة التوبيخ والتخجيل ، والمعنى : ما أدخلكم في هذه الدركةِ من النار؟ فأجابوا : أن العذاب لأمور أربعة ، ثم ذكروها وهي قولهم : { لَمْ نَكُ مِنَ المصلين } .
قال الكلبيُّ رحمه الله : يسألُ الرجلُ من أهل الجنة الرجلَ من أهل النار باسمه فيقول له : يا فلانُ .
وفي قراءة عبد الله بن الزبير : يا فلان ، ما سلككم في سقر؟ وهي قراءة على التفسير؛ لا أنها قرآن كما زعم من طعن في القرآن . قاله ابن الأنباري .
وقيل : إن المؤمنين يسألون الملائكة عن أقربائهم ، فتسأل الملائكة المشركين ، فيقولون لهم : ما سلككم في سقر؟ .
قال الفراء : في هذا ما يقوي أن أصحاب اليمين هم الولدان؛ لأنهم لا يعرفون الذنوب .
قوله : { لَمْ نَكُ مِنَ المصلين } ، هذا هو الدالُّ على فاعل « سلكنا كذا » الواقع جواباً لقول المؤمنين لهم : « ما سلككم » [ والتقدير : سلكنا عَدمُ صلاتنا كذا وكذا .
قال أبو البقاء : هذه الجملة سدّت مسدّ الفاعل ، وهو جواب : ما سلككم ، وهو نظير « مناسككم » ، وقد تقدم في « البقرة » ]
فصل في تفسير الآية
قال القرطبي : معنى قولهم : { لَمْ نَكُ مِنَ المصلين } أي : المؤمنين الذين يصلون { وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين } أي : لم نكن نتصدق .
قال ابن الخطيب : « وهذان يجب أن يكونا محمولين على الصلاة الواجبة ، والزكاة؛ لأن ما ليس بواجب لا يجوز أن يعذَّبوا على تركه » .
{ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين } ، أي : في الأباطيل .
وقال ابن زيد : { نَخُوضُ مَعَ الخآئضين } في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وهو قولهم - لعنهم الله - : إنه ساحر ، كاهن ، مجنون ، شاعر كذبوا - والله - لم يكن فيه شيءٌ من ذلك صلى الله عليه وسلم .
وقال قتادة : كلما غوى غاوٍ غوينا معه .
وقيل : معناه : كنا أتباعاً ولم نكن متبوعين ، وقولهم : { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين } أي : نكذّب بيوم القيامة ، يوم الجزاء والحكم .
{ حتى أَتَانَا اليقين } أي : جائنا الموت ، قال الله تعالى : { حتى يَأْتِيَكَ اليقين } [ الحجر : 99 ] .
وهذه الآية تدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة .
فإن قيل : لم أخر التكذيب وهو أفحش تلك الخصال الأربع؟ .
فالجواب : أريد أنهم بعد اتصافهم بتلك الأمور الثلاثة كانوا مكذِّبين بيوم الدين ، والغرض تعظيم هذا الذنب كقوله تعالى : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ } [ البلد : 17 ] .
قوله : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين } ؛ كقوله : [ الطويل ]
4973 - عَلَى لاَحِبٍ لا يُهتَدَى بِمنَارِهِ .. .
في أحد وجهيه ، أي : لا شفاعة لهم فلا انتفاع بها ، وليس المراد أن ثمَّ شفاعةً غير نافعة كقوله تعالى : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] الآية .
وهذه الآية تدلُّ على صحة الشفاعة للمذنبين من هذه الأمة بمفهومها؛ لأن تخصيص هؤلاء بأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدلُّ على أن غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين .
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : يشفع نبيكم صلى الله عليه وسلم رابع أربعة : جبريل ، ثم إبراهيم ، ثم موسى ، أو عيسى ، ثم نبيكم صلى الله عليه وسلم ثم الملائكة ، ثم النبيون ، ثم الصديقون ، ثم الشهداء ، ويبقى قوم في جهنم ، فيقال لهم : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } ؟ قالوا : لم نك من المصلين ، إلى قوله : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين } .
قال عبد الله بن مسعود : فهؤلاء الذين في جهنم .
فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
قوله : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } عن القرآن ، أي : فما لأهل « مكة » قد أعرضوا وولَّوا .
قال مقاتل : معرضين عن القرآن من وجهين :
أحدهما : الجحود والإنكار .
والثاني : ترك العمل بما فيه .
وقيل : المراد بالتذكرة : العظة بالقرآن ، وغيره من المواعظ .
و « مُعرِضيْنَ » حال من الضمير في الجار الواقع خبراً عن « ما » الاستفهامية ، وقد تقدم أن مثل هذه الحال تسمى حالاً لازمة وقد تقدم بحث حسن .
و « عن التذكرة » متعلق به .
قال القرطبي : « وفي » اللام « معنى الفعل ، فانتصاب الحال على معنى الفعل » .
قال ابن الخطيب : « هو كقولك : ما لك قائماً » .
قوله : { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ } ، هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من الضمير في الجار ، وتكون بدلاً من « معرضين » . قاله أبو البقاء . يعني : أنها كالمشتملة عليها ، وأن تكون حالاً من الضمير في « معرضين » فيكون حالاً متداخلة .
وقرأ العامة : حُمُر - بضم الميم - ، والأعمش : بإسكانها .
وقرأ نافع وابن عامر : « مُسْتَنْفَرَةٌ » - بفتح الفاء - على أنه اسم مفعول ، أي : نفَّرها القنَّاص .
والباقون : بالكسر ، بمعنى نافرة .
يقال : استنفر ونفر بمعنى نحو عجب واستعجب ، وسخر واستسخر؛ قال الشاعر : [ الكامل ] .
4974 - إمْسِكْ حِماركَ إنَّهُ مُسْتنفِرٌ ... فِي إثرِ أحْمرةٍ عَمدْنَ لِغُرَّبِ
وقال الزمخشري : « وكأنها تطلب النِّفار في نفوسها ، في جمعها له وحملها عليه » .
فأبقى السِّين على بابها من الطلب ، وهو معنى حسنٌ .
قال أبو علي الفارسي : « الكسر في » مستنفرة « أولى لقوله : » فرَّت « للتناسب ، لأنه يدل على أنها استنفرت ، ويدل على صحة ذلك ماروى محمد بن سلام قال : سألت أبا سوار الغنوي - وكان عربياً فصيحاً - فقلت : كأنهم حمرٌ ماذا؟ فقال : مستنفرة طردها قسورة ، فقلت : إنما هي فرَّت من قسورة ، فقال : أفرت؟ قلت : نعم ، قال : فمستنفِرة إذاً » انتهى .
يعني : أنها مع قوله طرد ، تناسب الفتح ، لأنها اسم مفعول ، فلما أخبر بأن التلاوة « فرّت من قسورة » رجع إلى الكسر للتناسب إلا أنَّ بمثلِ هذه الحكاية لا تردُّ القراءة المتواترة .
والقَسْورة : قيل : الصَّائد ، أي : نفرت وهربت من قسورة ، أي : من الصائد .
وقيل : الرُّماة يرمُونها .
وقيل : هو اسم جمع لا واحد له .
وقال بعض أهل اللغة : إن « القَسْوَرة » : الرامي ، وجمعه : القساورة .
ولذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وابن كيسان : « القسورة » وهم الرماة والصيَّادون ، ورواه عطاء عن ابن عباس وأبو ظبيان عن أبي موسى الأشعري ، وأنشدوا للبيد بن ربيعة : [ الطويل ]
4975 - إذَا مَا هَتفْنَا هَتْفةً في نَديِّنَا ... أتَانَا الرِّجالُ العَائِدُون القَساوِرُ
وقيل : « القسورة » : الأسد . قاله أبو هريرة ، وابن عباس أيضاً رضي الله عنه .
قال ابن عرفة : من القسْرِ بمعنى القهْرِ ، أي : أنه يقهرُ السِّباع والحمر الوحشيَّة تهرب من السباع؛ ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
4876 - مُضمرٌ يَحْذَرُهُ الأبطَالُ ... كَأَنَّهُ القَسْوَرَةُ الرِّئبَالُ
أي : الأسد ، إلا أن ابن عباس أنكره ، وقال لا أعرف القسورة أسد في لغة أحد من العرب ، وإنما القسورة : عصبُ الرجال؛ وأنشد : [ الرجز ]
4977 - يَا بِنْتُ كُونِي خَيرةً لِخيِّرهْ ... أخْوالُهَا الجِنُّ وأهْلُ القَسْوره
وقيل : القَسْورةُ : ظُلمَة الليل ، قال ابن الأعرابي : وهو قول عكرمة .
وعن ابن عباس : ركز الناس؛ أي حسُّهم وأصواتهم .
وعنه أيضاً : { فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } أي : من حبال الصيادين ، وعنه أيضاً : القسورة بلسان « الحَبَشَةَ » الأسد ، وخالفه عكرمة فقال : الأسد بلسان « الحبشة » : عَنْبَسة ، وبلسان « الحبشة » : الرُّماة ، وبلسان « فارس » : شير ، وبلسان « النَّبْط » : أريا .
وقيل : هو أوَّل سواد الليل ، ولا يقال لآخر سواد الليل : قسورة .
فصل في المراد بالحمر المستنفرة
قال ابن عباس : كأن هؤلاء الكفار في فرارهم من محمد صلى الله عليه وسلم حمر مستنفرة ، قال ابن عباس : أراد الحمر الوحشية .
قال الزمخشري : وفي تشبيههم بالحمر شهادة عليهم بالبله ، ولا يرى مثلُ نفار حمر الوحش ، واطرادها في العدوِ إذا خافت من شيء .
قوله تعالى : { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } ، أي : يُعطى كُتُباً مفتوحةً ، وذلك أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا : يا محمد ، لا نُؤمِنُ بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه : « من رب العالمين » ، إلى فلان ابن فلان ، ونُؤمر فيه باتباعك ، ونظيره : { وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ } [ الإسراء : 93 ] .
وقال ابن عباس : كانوا يقولون : إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل واحدٍ منا صحيفةٌ فيها براءةٌ من النار .
وقال مطرٌ الوراق : أرادوا أن يعطوا بغير عمل .
وقال الكلبي : قال المشركون : بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوباً ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك .
قال ابن الخطيب : وهذا من الصُّحف المنشَّرة بمعزل .
وقيل المعنى : أن يذكر بذكرٍ جميلٍ ، فجعلت الصُّحفُ موضعَ الذِّكر مجازاً ، فقالوا : إذا كانت ذنوب الإنسان تُكتَب عليه فما بالنا لا نرى ذلك؟!
قوله : « مُنشَّرة » .
العامة : على التشديد ، من « نشَّرهُ » بالتضعيف .
وابن جبير : « مُنْشرَةٌ » بالتخفيف ، و « نشَّر ، وأنشر » بمنزلة « نزّل وأنزَل » : والعامة أيضاً على ضمِّ الحاء من « صحُف » .
وابن جبير : على تسكينها .
قال أبو حيان : « والمحفوظ في الصحيفة والثوب : » نشَر « مخففاً ثلاثياً ، وهذا مردود بالقرآن المتواتر » .
=====================
========================
========================
ج72... كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وقال أبو البقاء في قراءة ابن جبير : « من أنشرت ، إما بمعنى أمر بنشرها مثل ألحمت عرض فلان ، أو بمعنى منشورة ، مثل : أحمدت الرجل ، أو بمعنى : أنشر الله الميِّت أي : أحياه : فكأنه أحياها فيها بذكره » .
قوله : { كَلاَّ } ، أي : ليس يكون ذلك .
وقيل : حقّاً ، والأول أجود ، لأنه ردٌّ لقولهم . ثم قال : { بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرة } أي : لا أعطيهم ما يتمنُّون لأنهم لا يخافون الآخرة فلذلك أعرضوا عن التأمُّل اغتراراً بالدنيا؛ فإنه لمَّا حصلت المعجزات الكثيرة في الدلالة على صحَّة النبوةِ فطلبُ الزيادة يكون عبثاً .
قوله : { كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ } . أي : حقّاً أنَّ القرآن عظة .
وقيل : هذا ردع لهم عن إعراضهم عن التذكرة { إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ } بليغة { فمن شاء ذكره } أي : اتعظ به ، وجعله نصب عينه .
والضمير في « إنه ، وذكره » للتذكرة في قوله تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } وإنما ذُكِّرا؛ لأنهما في معنى الذِّكر والقرآن .
وقيل : الضمير في « إنه » للقرآن أو الوعيد .
قوله : { وَمَا يَذْكُرُونَ } .
قرأ نافع : بالخطاب ، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب والباقون : بالغيبة حملاً على ما تقدم من قوله : « كُل امرىءٍ » ولم يُؤثِرُوا الالتفات .
وقراءة الخطاب ، وهي اختيار أبي حاتم لأنه أعم .
وأما قراءة الغيبة فهي اختبار أبي عبيد لقوله تعالى : { كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ } واتفقواعلى تخفيفها .
قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } ، بمعنى إلاَّ وقت مشيئته ، لا أن ينوب عن الزمان ، بل على حذف مضاف .
قالت المعتزلة : بل معناه : إلا أن يقدرهم الله - تعالى - على الذِّكر ويُهمَّهم إليه .
وأجيبوا : بأنه تعالى أبقى الذكر مطلقاً ، واستثنى منه حال المشيئة المطلقة ، فيلزم أنه متى حصلت المشيئةُ أن يحصلَ الذِّكرُ مطلقاً ، فحيث لم يحصل الذكر علمنا أنه لم تحصُلِ المشيئة وتخصيص المشيئة بالمشيئة القهريَّة ترك للظاهر .
قوله تعالى : { هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة } ، أي : حقيقٌ بأن يتَّقيه عبادُه ويخَافُوا عِقابه فيُؤمِنوا ويُطِيعُوا ، وحقيقٌ بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا .
روى الترمذي وابن ماجة عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى : { هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة } قال : قال الله تعالى : « أنَّا أهْلُ أنْ أُتَّقَى فَمَن اتَّقَى فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِي إلهاً فَأنَا أهْل أنْ أغْفِرَ لَهُ » .
وقال بعض المفسرين : أهل المغفرة لمن تاب إليه من الذنوب الكبائر ، وأهل المغفرة أيضاً للذنوب الصغائر .
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ { ياأيها المدثر } أعْطِيَ من الأجْرِ عَشْرَ حَسناتٍ بعَددِ من صَدَّقَ بمُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وكذَّبه ب » مكة « » والله أعلم .
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)
قوله تعالى : { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة } .
العامَّة : على « لاَ » نافية ، واختلفوا حينئذ فيها على أوجه :
أحدها : أنَّها نافية لكلامٍ تقدم ، كأنَّ الكفَّار ذكروا شيئاً ، فقيل لهم : « لا » ثم ابتدأ الله قسماً .
قال القرطبي رحمه الله : « إنَّ القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار ، فجاء الإقسام بالردِّ عليهم كقوله : » والله لا أفعل « ف » لا « ردٌّ لكلام قد مضى ، وذلك كقولك : لا والله إن القيامة . لحق ، كأنك أكذبت قوماً أنكروه » .
والثاني : أنها مزيدة . قال الزمشخري : قالوا : إنها مزيدة ، مثلها في { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] ، وفي قوله - عز وجل - : { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] ؛ وقوله : [ الرجز ]
4978 - فِي بِئْرِ لا حُورٍ سَرَى وما شَعَرْ ... قال ابن الخطيب : وهذا القولُ عندي ضعيفٌ من وجوه :
أحدها : أنَّ تجويز هذا يفضي إلى الطعن في القرآن ، لأن على هذا التقدير يجوز جعل النفي إثباتاً ، والإثبات نفياً ، وذلك ينفي الاعتماد على الكلام نفياً وإثباتاً .
وثانيها : أن الحرف إنما يزاد في وسط الكلام ، فإن امرأ القيس زادها في مستهل قصيدته؛ وهي قوله : [ المتقارب ]
4979 - فَلاَ - وأبِيكِ - ابنَةَ العَامِرِيْ ... يِ لا يَدَّعِي القَوْمُ أنِّي أفِرْ
وأيضاً : هَبْ أنَّ هذا الحرف في أول الكلام إلا أنَّ القرآن كله كالسُّورة الواحدة لاتصال بعضه ببعض بدليل أنه قد يذكر الشيء في سورة ثم يجيء جوابه في سورة أخرى كقوله تعالى { وَقَالُواْ ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] ثم جاء جوابه في سورة أخرى وهو قوله { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } [ القلم : 2 ] ، وإذا كان كذلك ، كان أوّل هذه السورة جارياً مجرى وسط الكلام .
والجواب عن الأول : أنَّ قوله : لا وأبيك ، قسمٌ عن النفي ، وقوله : « لا أقْسِمُ » نفي للقسم ، لأنه على وزان قولنا : « لا أقبل ، لا أضرب ، لا أنصر » وذلك يفيد النفي ، بدليل أنه لو حلف لا يقسم كان البرُّ بترك القسم ، والحنث بفعل القسم ، فظهر أن البيت المذكور ليس من هذا الباب .
وعن الثاني : أن القرآن الكريم كالسُّورة الواحدة في عدم التناقض ، فإما أن يقرن في كل آية ما أقرن في الأخرى ، فذلك غير جائز؛ لأنه يلزم جوازه أن يقرن بكل إثبات حرف النفي الوارد في سائر الآيات ، وذلك يقتضي انقلاب كل إثبات نفياً وانقلاب كل نفي إثباتاً ، وأنه لا يجوز .
وثالثها : أن المراد من قولنا : « لا » صلة أنَّه لغو باطل يجب طرحه وإسقاطه حتى ينتظم الكلام ووصف كلام الله - تعالى - بذلك لا يجوز .
الوجه الثالث : قال الزمشخري : « إدخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم؛ قال امرؤ القيس : [ المتقارب ]
4980 - فَلاَ - وأبِيكِ - ابْنَةَ العَامِري ... البيت المتقدِّم .
وقال غويةُ بنُ سلمَى : [ الوافر ]
4981 - ألاَ نَادتْ أمَامةُ باحْتِمَالِ ... لتَحْزُننِي فلا بِكِ ما أبَالِي
وفائدتها : توكيد القسم في الردِّ « . ثمَّ قال بعد أن حكى وجه الزيادة والاعتراض والجواب كما تقدم : والوجه أن يقال : هي للنَّفي ، والمعنى في ذلك : أنَّه لا يقسم بالشيء إلاَّ إعظاماً له ، يدلُّك عليه قوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 75 - 76 ] فكأنه بإدخال حرف النَّفي يقول : إن إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام ، يعني أنه يستأهل فوق ذلك .
وقيل : إنَّ » لا « نفيٌ لكلامٍ ورد قبل ذلك انتهى .
قال ابن الخطيب : كأنَّهُم أنكروا البعث فقيل : » لا « ليس الأمر على ما ذكرتم ، ثم قيل : أقسم بيوم القيامة .
قال : وهذا فيه إشكال؛ لأن إعادة حرف النفي أحرى في قوله تعالى : { وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة } مع أن المراد ما ذكروه يقدح في فصاحة الكلام .
قال شهاب الدين رحمه الله : » فقول الزمخشري « : والوجه أن يقال إلى قوله : يعني أنه يستأهل فوق ذلك ، تقرير لقوله : إدخال » لا « النافية على فعل القسم مستفيض إلى آخره وحاصل الكلام يرجع إلى أنها نافية ، وأنَّ النَّفي متسلّط على فعل القسم بالمعنى الذي شرحه ، وليس فيه منع لفظاً ولا معنى » .
ثم قال : فإن قلت : قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ النساء : 65 ] والأبيات التي أنشدتها المقسم عليه فيها منفي ، فهلا زعمت أنَّ « لا » التي قبل القسم زيدت موطِّئة للنَّفي بعده ، ومؤكدة له ، وقدَّرت المقسم عليه المحذوف - هاهنا - منفياً كقولك : لا أقسم بيوم القيامة لا تتركُونَ سُدًى؟ .
قلت : لو قصَرُوا الأمر على النَّفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ ، ولكنه لم يقصر ، ألا ترى كيف نفى { لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد } [ البلد : 1 ] بقوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } [ البلد : 4 ] وكذلك قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم } [ الواقعة : 75 ] بقوله : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } [ الواقعة : 77 ] ، وهذا من محاسن كلامه تعالى .
وقرأ قنبل والبزِّي - بخلاف عنه - : « لأقسم » بلام بعدها همزة دون ألف ، وفيها أوجه :
أحدها : أنها جوابٌ لقسم مقدر ، تقديره : « والله لأقسم » والفعل للحالِ ، فلذلك لم تأت نونُ التوكيد ، وهذا مذهبُ الكوفيين .
وأمَّا البصريون : فلا يجيزون أن يقع فعل الحال جواباً للقسم فإن ورد ما ظاهره ذلك جعل الفعل خبراً لمبتدإ مضمر ، فيعود الجواب جملة اسمية قدر أحد جزأيها وهذا عند بعضهم ، من ذلك التقدير : والله لأنا أقسم .
الثاني : أنه فعل مستقبل ، وإنَّما لم يأتِ بنون التوكيدِ؛ لأنَّ أفعال الله - تعالى - حقٌّ وصدقٌ فهي غنيةٌ عن التأكيد بخلاف أفعال غيره ، على أن سيبويه حكى حذف النون ، إلا أنه قليل ، والكوفيون : يجيزون ذلك من غير قلَّة ، إذ من مذهبهم جواز تعاقب اللام والنون فمن حذف اللام قوله : [ الكامل ]
4982 - وقَتيلُ مُرَّة أثْأرنَّ فإنَّهُ ... فَرْغٌ وإنَّ أخَاكمُ لَمْ يَثْأرِ
أي لأثأرن ، ومن حذف النون وهو نظير الآية الكريمة قول الآخر : [ الطويل ]
4983 - لَئِن تَكُ قَدْ ضَاقتْ عليكَم بُيوتكُمْ ... ليَعلمُ ربِّي أنَّ بَيْتِيَ واسِعُ
الثالث : أنَّها لامُ الابتداء ، وليست بلام القسم .
قال أبو البقاء : كقوله : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ } [ النحل : 164 ] . والمعروف أنَّ لام الابتداء لا تدخل على المضارع إلاَّ في خبر « إنَّ » نحو : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ } [ النحل : 164 ] وهذه الآية نظير الآية التي في سورة يونس : { وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ } [ يونس : 16 ] فإنهما قرآها بغير الألف . والكلام فيها قد تقدم .
ولم يختلف في قوله : « ولاَ أقسم » أنه بالألف بعد « لا »؛ لأنه لم يرسم إلاَّ كذا بخلاف الأول ، فإنه رسم بدون ألفٍ بعد « لا » ، وكذلك في قوله تعالى { لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد } [ البلد : 1 ] لم يختلف فيه أنه بألف بعد « لا » ، وجواب القسم محذوف ، تقديره : لتبعثنّ ، دل عليه قوله { أَيَحْسَبُ الإنسان } [ القيامة : 3 ] .
وقيل : الجواب : « أيَحْسَبُ » .
وقيل : هو { بلى قَادِرِينَ } [ القيامة : 4 ] ، ويروى عن الحسن البصري .
وقيل : المعنى على نفي القسم ، والمعنى : إنِّي لا أقسم على شيء ، ولكن أسألك أيحسب الإنسان .
وهذه الأقوال شاذَّة منكرة ، ولا تصح عن قائلها لخروجها عن لسان العرب ، وإنما ذكرناها تنبيهاً على ضعفها .
فصل في معنى الآية
قال ابن عباس وابن جبير : معنى الكلام : أقسمُ بيوم القيامة ، وهو قول أبي عبيدة ، ومثله قوله : [ الطويل ]
4984 - تَذكَّرْتُ لَيْلَى فاعْترتْنِي صَبَابَةٌ ... فَكادَ صَمِيمُ القَلْبِ لا يَتقطَّعُ
قوله : { بِيَوْمِ القيامة } ، أي : بيوم يقوم الناس فيه لربِّهم ، والله - عز وجل - أن يقسم بما شاء ، { وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة } ، لا خلاف في هذا بين القراء ، وأنه سبحانه - جل ذكره - إنما أقسم بيوم القيامة تعظيماً لشأنه ، وعلى قراءة ابن كثير أقسَم بالأولى ولم يقسم بالثانية .
وقيل : { وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة } ردٌّ آخر وابتداء قسم بالنفس اللوامة .
قال الثعلبيُّ : والصحيح أنه أقسم بهما جميعاً ، ومعنى « بالنَّفْسِ اللَّوامَةِ » : أي : نفس المؤمن الذي لا تراه يلوم إلا نفسه ، يقول : [ ما أردت بكذا؟ ولا تراه إلا وهو يعاتب نفسه قاله ابن عبَّاس ومجاهد والحسن وغيرهم .
قال الحسن : هي والله نفس المؤمن ما يُرى المؤمن إلاّ يلوم نفسه ] ، ما أردت بكلامي هذا؟ ما أردت بأكلي ما أردت بحديثي؟ والفاجر لا يحاسب نفسه .
وقال مجاهد : هي التي تلوم على ما فات وتندم ، فتلوم نفسها على الشَّرِّ لم فعلته ، وعلى الخير لِمَ لَمْ تستكثر منه .
وقيل : تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها .
وقيل : المراد آدم - صلوات الله وسلامه عليه - لم يزل لائماً لنفسه على معصيته التي أخرج بها من الجنة .
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنها الملومة ، فتكون صفة ذمٍّ ، وهو قول من نفى أن يكون قسماً وعلى الأول : صفةُ مدحٍ فيكون القسم بها سائغاً .
وقال مقاتل : هي نفس الكافر يلوم نفسه ويتحسَّر في الآخرة على ما فرط في جنبِ الله تعالى .
قوله : { أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن } . هذه « أن » المخففة وتقدم حكمها في « المائدة » و « أن » وما في حيِّزها في موضع الجرِّ ، والفاصل هنا حرف النَّفي ، وهي وما في حيِّزها سادَّةٌ مسدّ مفعولي « حَسِب » أو مفعوله على الخلاف .
والعامَّة : على « نَجْمَعَ » بنون العظمة ، و « عِظامهُ » نصب مفعولاً به .
وقتادة : « تُجْمع » بتاءٍ من فوقُ مضومةٍ على ما لم يسم فاعله؛ « عظامه » رفع لقيامه مقام الفاعل .
فصل في جواب هذا القسم
قال الزجاج : أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة ليجمعنَّ العظام للبعث ، فهذا جواب [ القسم .
وقال النحاس : جواب ] القسم محذوف ، أي : لنبعثن .
والمراد بالإنسان : الكافر المكذب بالبعث .
قيل : « نزلت في عدي بن ربيعة قال للبني صلى الله عليه وسلم حَدِّثنِي عن يَومِ القِيامةِ مَتَى تكُونُ ، وكَيْفَ أمْرهَا وحَالُهَا؟ فأخْبرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : لَوْ عَايَنْتُ ذلكَ اليَوْمَ لَمْ أصَدِّقكَ يا مُحمَّدُ ولَمْ أومِنْ بِه ، أو يَجْمَعُ اللَّهُ العِظامَ؟ ولهذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول : » اللَّهُمَّ اكفِنِي جَارَي السُّوءِ عدَيَّ بن ربيعَة ، والأخنس بنَ شَريقٍ « .
وقيل : نزلت في عدو الله أبي جهل حين أنكر البعث بعد الموت ، وذكر العظام ، والمراد نفسه كلها؛ لأن العظام قالب الخلق .
وقيل : المراد بالإنسان : كل من أنكر البعث مطلقاً .
قوله : { بلى } إيجاب لما بعد النفي المنسحب عليه الاستفهام ، وهو وقف حسن ، ثم يبتدىء » قَادِرين « ، ف » قَادِرين « حال من الفاعل المضمر في الفعل المحذوف على ما ذكرنا من التقدير .
وقيل : المعنى بل نجمعها نقدر قادرين .
قال الفراء : » قادرين « نصب على الخروج من » نَجْمعَ « أي نقدر ونقوى » قادرين « على أكثر من ذلك .
وقال أيضاً : يَصْلُح نصبُه على التكرير ، أي : بلى فليحسبنا قادرين .
وقيل : المضمر » كنا « أي : كنا قادرين في الابتداء ، وقد اعترف به المشركون .
وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميفع : » قادرون « رفعاً على خبر ابتداء مضمر ، أي » بلى « نحن » قادرون « { على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } والبنانُ عند العرب : الأصابع ، واحدُها بنانةٌ؛ قال عنترة : [ الوافر ]
4985 - وأنَّ المَوْتَ طَوْعُ يَدِي إذَا مَا ... وصَلْتُ بَنانَهَا بالهِنْدُوَانِي
فنبه بالبنان على بقية الأعضاء .
وأيضاً : فإنها أضعف العظام فخصها الله - عز وجل - بالذكر لذلك .
قال القتبي والزجاج : وزعموا أن الله تعالى لا يبعث الموتى ، ولا يقدرعلى جمع العظام ، فقال الله تعالى : بلى قادرين على أن نعيد السُّلاميات على صغرها ، ونُؤلِّف بينها حتى تستوي ، ومن قدر على هذا فهو على جميع الكبار أقدرُ .
وقال ابن عباس وعامة المفسرين : { على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخُفِّ البعير ، أو كحافر الحمار ، أو كظلفِ الخنزيرِ ، ولا يمكنه أن يعمل به شيئاً ولكنا فرقنا أصابعه حتى يفعل بها ما يشاء .
وقيل : نقدر أن نُعيد الإنسان في هيئة البهائم ، فكيف في صورته التي كان عليها ، وهو كقوله تعالى : { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الواقعة : 60 ، 61 ] .
والقول الأول أشبه بمساق الآية .
فصل في الكلام على الآية
قال ابن الخطيب رحمه الله : وفي الآية إشكالات :
أحدها : ما المناسبة بين القيامة والنَّفس اللوامة حتى جمع الله بينهما في القسم؟ .
وثانيها : على وقوع القيامة
وثالثها : قال جل ذكره : أقسم بيوم القيامة ولم يقل : والقيامة ، كما قال - عز وجل - في سائر السور : { والطور } [ الطور : 1 ] { والذاريات } [ الذاريات : 1 ] ، { والضحى } [ الضحى : 1 ] .
والجواب عن الأول من وجوه :
أحدها : أنَّ أحوال القيامة عجيبة جدّاً ، ثُمَّ المقصود من إقامة القيامة إظهار أحوال النُّفوس على ما قال صلى الله عليه وسلم : « مَنْ عَرفَ نَفْسَهُ عرَفَ رَبَّهُ » ومن أحوالها العجيبة قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان } [ الأحزاب : 72 ] .
وقيل : القسم وقع بالنَّفس اللوامة على معنى التعظيم من حيث إنها أبداً يستحقرُ فعلها وجدُّها واجتهادها في طاعة الله تعالى .
وقيل : إنه - تعالى - أقسم بيوم القيامة ، ولم يقسم بالنفس اللوامة تحقيراً لها؛ لأن النفس اللوامة إمَّا أن تكون كافرة بالقيامة مع عظم أمرها ، وإمَّا أن تكون فاسقة مقصرة في العمل ، وعلى التقديرين فإنها تكون مستحقرة .
والجواب عن الثاني : أن المحقِّقين قالوا : القسم بهذه الأشياء قسم بربِّها وخالقها في الحقيقة ، فكأنه قيل : أقسم برب القيامة على وقوع القيامة .
والجواب عن الثالث : أنه حيث أقسم ، قال جل ذكره : « والذَّارياتِ » ، وأما هنا فإنه سبحانه نفى كونه مقسماً بهذه الأشياء ، فزال السؤال .
قوله تعالى : { بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } . فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون « بل » لمجرد الإضراب والانتقال من غير عطف ، أضرب عن الكلام الأول وأخذ في آخر .
الثاني : أنها عاطفة . قال الزمخشري : « بل يريد » عطف على « أيحسب » ، فيجوز أن يكون مثله استفهاماً ، وأن يكون إيجاباً على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر ، أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب .
قال أبو حيان بعد ما حكى عن الزمخشري ما تقدَّم : « وهذه التقادير الثلاثة متكلَّفة لا تظهر » .
وقال شهاب الدين : « وليس هنا إلا تقديران ، ومفعول » يُرِيد « محذوف يدل عليه التعليل في قوله تعالى : { لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } والتقدير : يريد شهواته ومعاصيه فيمضي فيها دائماً أبداً و » أمامه « منصوب على الظَّرفِ ، وأصله مكانٌ فاستعير هنا للزمان » .
والضمير في « أمَامَه » الظاهرُ عوده على الإنسان .
وقال ابن عباس : يعود على يوم القيامة بمعنى أنه يريد شهواته ليفجر في تكذيبه بالبعث بين يدي يوم القيامة .
فصل في تفسير الآية
قال مجاهد والحسن وعكرمة والسدي وسعيد بن جبير رضي الله عنهم : يقول : سوف أتوب حتى يأتيه الموت على أسوأ أحواله .
وعن ابن عباس : { بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } ، قال : يعجل المعصية ويسوفُ بالتوبة وجاء في الحديث : « قال يقولُ : سوف أتُوبُ ، ولا يتوبُ ، فهُو قَدْ أخْلفَ فكذبَ » .
وقال عبد الرحمن بن زيد : { بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } من البعث والحساب ودليله : يسأل أيان يوم القيامة أي يسأل متى يكون؟ على وجه الإنكار والتكذيب .
وقال الضحاك : هو الأمل ، يقول : سوف أعيش وأصيب من الدنيا ، ولا يذكر الموت .
وقيل : يعزم على المعصية أبداً وإن كان لا يعيش إلا مدة قليلة ، فالهاء على هذه الأقوال الثلاثة للإنسان .
وإذا قلنا : بأن الهاء ليوم القيامة ، فالمعنى : بل يريد الإنسان ليكفر بالحق بين يدي القيامة . والفجورُ : أصله الميل عن الحق .
قوله : { يَسْأَلُ أَيَّانَ } هذه جملة مستأنفة .
وقال أبو البقاء رحمه الله : تفسير ل « يفجر » فيحتمل أن يكون مستأنفاً مفسّراً ، وأن يكون بدلاً من الجملة قبلها؛ لأن التفسير يكون بالاستئناف وبالبدل إلا أنَّ الثاني منه رفع الفعل ، ولو كان بدلاً لنصب ، وقد يقال : إنه أبدلَ الجملة من الجملة لا خصوصيَّة الفعلِ من الفعل وحده ، وفيه بحث قد تقدم نظيره في « الذاريات » وغيره . والمعنى : يسأل متى يوم القيامة .
فصل فيمن أنكروا البعث
قال ابن الخطيب : اعلم أنَّ إنكار البعث يتولد تارة من الشُّبهة ، وأخرى من الشَّهوة ، فأما تولده من الشبهة فهو ما حكاه الله - عز وجل - بقوله : { أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } ، وتقديره : أنَّ الإنسان هو هذا البدن ، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه ، واختلطت بأجزاء التراب ، وتفرَّقت بالرِّياح في مشارق الأرض ومغاربها ، فيكون تمييزها بعد ذلك محالاً .
وهذه الشبهة ساقطة من وجهين :
الأول : لا نُسلِّمُ أن الإنسان هو هذا البدن ، بل هو شيء مدبرٌ لهذا البدن ، فإذا فسد هذا البدن بقي هو حيّاً كما كان ، وحينئذ يعيد الله - تبارك وتعالى - أي بدن أراد ، فيسقط السؤال وفي الآية إشارة إلى هذا ، لأنه سبحانه أقسم بالنفس اللوامة ، ثم قال تعالى جل ذكره : { أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } ، وهو تصريح بالفرق بين النفس والبدن .
الثاني : سلَّمنا أنَّ الإنسان هو هذا البدن ، لكنه سبحانه عالم بالجزئيات ، فيكونُ عالماً بالجزء الذي هو بدن زيدٍ ، وبالجزء الذي هو بدن عمرو ، وهو - تعالى - قادر على كلِّ الممكنات ، فيلزم أن يكون قادراً على تركيبها ثانياً ، فزال الإشكال وأما إنكار البعث بناءً على الشَّهوةِ فهو قوله تعالى : { بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } .
ومعناه أن الإنسان الذي يميل طبعه للشَّهوات واللَّذات والفكرةُ في البعث تنغصها عليه فلا جرم ينكره .
فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
قوله تعالى : { فَإِذَا بَرِقَ البصر } . قرأ نافع وأبان عن عاصم : بَرَق بفتح الراء .
والباقون : بالكسر .
فقيل : لغتان في التحيُّر والدهشة ، ومعناه لمع بصره من شدَّة شخوصه ، فتراه لا يطرف .
وقيل : بَرِق - بالكسر - تحيَّر فزعاً .
قال الزمخشري : « وأصله من بَرِق الرجل إذا نظر إلى البرقِ فدُهِش بصرهُ » .
قال غيره : كما يقال : أسد وبقر ، إذا رأى أسداً وبقراً كثيراً فتحيّر من ذلك .
قال ذو الرمة : [ الطويل ]
4986 - وكُنْتُ أرَى في وجْهِ ميَّةَ لمْحعةً ... فأبْرَقُ مَغْشِياً عَليَّ مَكانِيَا
وأنشد الفراء رحمه الله : [ المتقارب ]
4987 - فَنفْسَكَ فَانْعَ ولا تَنْعَنِي ... ودَاوِ الكُلُومَ ولا تَبْرقِ
أي : لا تفزع من كثرة الكلوم التي بك .
و « بَرَق » بالفتح : من البريق ، أي : لمع من شدَّة شُخُوصه .
وقال مجاهد وغيره : وهذا عند الموت .
وقال الحسن : يوم القيامة ، قال : وفيه معنى الجواب عما سأل عنه الإنسان ، كأنه قال : يوم القيامة إذا برق البصر ، وخسف القمر .
وقيل : عند رؤية جهنم .
قال الفراء والخليل : « برِق » - بالكسر - : فَزِع وبُهِت وتحيّر ، والعرب تقول للإنسان المتحيِّر المبهوت : قد برِق فهو برِقٌ .
وقيل : « بَرِق ، يَبْرَقُ » بالفتح : شق عينيه وفتحهما . قاله أبو عبيدة ، وأنشد قول الكلابيِّ : [ الرجز ]
4988 - لمَّا أتَانِي ابنُ عُمَيْر راغِباً ... أعْطيتُه عِيساً صِهَاباً فَبرِقْ
أي : فتح عينيه . قرأ أبو السمال : « بَلِق » باللام .
قال أهل اللغة إلا الفرّاء : معناه « فُتِح » ، يقال : بَلقْت الباب وأبلقتُه : أي : فتحتُه وفرَّجتُه .
وقال الفراء : هو بمعنى أغلقته .
قال ثعلب : أخطأ الفراء في ذلك .
ثم يجوز أن يكون مادة « بَلَقَ » غير مادة « بَرَقَ » ، ويجوز أن تكون مادةً واحدة بُدِّل فيها حرف من آخر ، وقد جاء إبدال « اللام » من الراء في أحرف ، قالوا : « نثر كنانته ونثلها » وقالوا : « وجل ووجر » فيمكن أن يكون هذا منه ، ويؤيده أن « برق » قد أتى بمعنى شق عينيه وفتحهما ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد [ الرجز ]
4989 - لمَّا أتَانِي ابن عُمَيْرٍ ... البيت المتقدم .
أي : ففتح عينيه فهذا مناسب ل « بلق » .
قوله : { وَخَسَفَ القمر } .
العامةُ : على بنائه للفاعل .
وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، ويزيد بن قطيب قال القرطبي : وابن أبي إسحاق وعيسى : « خُسِف » مبنياً للمفعول .
وهذا لأن « خسف » يستعمل لازماً ومتعدياً ، يقال : خُسِفَ القمر ، وخسف الله القمر .
وقد اشتهر أن الخسوف للقمر والكسوف للشمس .
وقال بعضهم : يكونان فيهما ، يقال : خُسِفت الشمس وكسفت ، وخسف القمر وكسف ، وتأيد بعضهم بقوله صلى الله عليه وسلم : « إنَّ الشَّمسَ والقَمَرَ آيَتَانِ من آيَاتِ اللَّهِ لا يخسفانِ لمَوْتِ أحدٍ »
، فاستعمل الخسوف فيهما ، وفي هذا نظرٌ لاحتمال التغليب ، وهل هما بمعنى واحد أم لا؟ فقال أبو عبيد وجماعة : هما بمعنى واحد .
وقال ابن أبي أويس : الخسوف ذهاب كل ضوئهما والكسوف ذهاب بعضه .
قال القرطبي : الخسوف في الدنيا إلى انجلاء ، بخلاف الآخرة فإنه لا يعود ضوؤه ، ويحتمل أن يكون بمعنى « غاب » ، ومنه قوله تعالى : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض } [ القصص : 81 ] .
قوله تعالى : { وَجُمِعَ الشمس والقمر } لم تلحقه علامة تأنيث؛ لأن التأنيث مجازي .
وقيل : لتغليب التذكير . وفيه نظر ، لو قلت : « قام هند وزيد » لم يجز عند الجمهور من العرب .
وقال الكسائي : « جمع » حمل على معنى جرح النيران .
وقال الفراء والزجاج : جمع بينهما في ذهاب ضوئيهما فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه .
وقال ابن عباس وابن مسعود : جمع بينهما ، أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكوَّرين مظلمين مقرَّنين كأنهما ثوران عقيران .
وقال عطاء بن يسار : يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى .
وقال عليّ وابن عباس رضي الله عنهما : يجعلان في الحُجُب وقد يجمعان في نار جنهم لأنهما قد عُبِدا من دون الله ولا تكون النار عذاباً لهما لأنهما جماد وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكفار وحسرتهم .
وقيل : هذا الجمع إنما يجمعان ويقرَّبان من الناس فيلحقهم العرق لشدَّة الحر فيكون المعنى : يجمع حرهما عليهم .
وقيل : يجمع الشمس والقمر ، فلا يكون ثم تعاقبُ ليلٍ ولا نهارٍ .
قال ابن الخطيب : وقيل : جمع بينهما في حكم ذهاب الضوء كما يقال : يجمع بين كذا وكذا في حكم كذا ، أي : كل منهما يذهب ضوؤه .
فصل في الرد على من طعن في الآية
قال ابن الخطيب : طعنت الملاحدة في الآية فقالوا : خسوف القمر لا يحصل حال اجتماع الشمس والقمر .
والجواب : أن الله - تعالى - قادر على أن يخسف القمر سواء كانت الأرض متوسطة بينه وبين الشمس ، أو لم تكن؛ لأن الله - تعالى - قادر على كل الممكنات فيقدر على إزالة الضوء عن القمر في جميع الأحوال .
قوله : { يَقُولُ الإنسان } . جواب « إذا » من قوله : « فإذا برق » ، و « أيْنَ المفَرُّ » منصوب المحل بالقول ، و « المَفَرّ » مصدر بمعنى « الفرار » وهذه هي القراءة المشهورة .
وقرأ الحسنان ابنا علي وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة : بفتح الميم وكسر الفاء ، وهو اسم مكان الفرار ، أي أين مكان الفرار .
وجوز الزمخشري أن يكون مصدراً ، قال : « كالمرجع » وقرأ الحسن عكس هكذا : أي بكسر الميم وفتح الفاء ، وهو الرجل الكثير الفرار؛ كقول امرىء القيس يصف جواده : [ الطويل ]
4990 - مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدبِرٍ مَعاً ... كجُلْمُودِ صَخْرٍ حطَّهُ السَّيلُ من عَلِ
وأكثر استعمال هذا الوزن في الآلات .
فصل في بيان ما يقوله الإنسان يوم القيامة
يقول الإنسان يومئذ : أين المفر ، أي : يقول ابن آدم ، وقيل : أبو جهل : أين المفر ، أين المهرب؟ .
قال الماوردي : ويحتمل وجهين :
أحدهما : أين المفر من الله استحياءً منه .
والثاني : أين المفر من جهنم حذراً منها . ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين :
أحدهما : أن يكون من الكافر خاصة في عرصة القيامة دون المؤمن لثقة المؤمن ببشرى ربه .
والثاني : أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها .
قوله : { كَلاَّ لاَ وَزَرَ } . تقدم الكلام ي « كلاَّ » ، وخبر « لا » محذوف ، أي لا وزر له .
أي لا ملجأ من النار .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : لا حِصْن .
وقال ابن عباس : لا ملجأ وقال الحسن : لا جبل .
وقال ابن جبير : لا مَحِيصَ .
وهل هذه الجملة محكيّة بقول الإنسان ، فتكون منصوبة المحل ، أو هي مستأنفة من الله - تعالى - بذلك .
و « الوزر » : الملجَأ من حصنٍ أو جبلٍ أو سلاح؛ قال الشاعر : [ المتقارب ]
4991 - لَعمْرُكَ ما لِلْفَتَى من وَزَرْ ... مِنَ المَوْتِ يُدرِكهُ والكِبَرَ
قال السديُّ : كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصَّنوا في الجبال ، فقال الله لهم : لا وزر يعصمكم يومئذٍ منِّي .
قوله تعالى : { إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر } . أي : المنتهى . [ قاله قتادة ، نظيره : « وأن إلى ربك المنتهى » ] .
وقال ابن مسعود : إلى ربك المصير والمرجع ، أي : المستقر في الآخرة حيث يقره الله .
و « المُسْتقَرُّ » مبتدأ ، خبره الجار قبله ، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الاستقرار ، وأن يكون مكان الاستقرار ، و « يَوْمئذٍ » منصوب بفعل مقدر ، ولا ينصب ب « مستقر » لأنه إن كان مصدراً فلتقدمه عليه ، وإن كان مكاناً فلا عمل له ألبتة .
قوله : { يُنَبَّأُ الإنسان } . أي : يُخبَّر ابن آدم برّاً كان أو فاجراً يوم القيامة { بِمَا قَدَّمَ وَأخَّرَ } أي : بما أسلف من عمل خيراً أو شرّاً ، أو أخَّر من سيِّئة أو صالحة يعمل بها بعده قاله ابن عباس وابن مسعود .
وقال ابن عباس أيضاً : بما قدَّم من المعصية ، وأخَّر من الطاعة ، وهو قول قتادة .
وقال ابن زيد : « بِما قدَّمَ » مرة من أمواله لنفسه « وأخَّرَ » خلَّف للورثة .
وقال الضحاك : « بِما قدَّم » من فرض « وأخَّرَ » من فرض .
وقال مجاهد والنخعيُّ : يُنَبَّأ بأوَّلِ عملٍ وآخره .
قال القشيري : وهذا الإيتاء يكون في القيامة عند وزن الأعمال ، ويجوز أن يكون عند الموت .
قوله : { بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } . يجوز في « بَصِيرة » أوجه :
أحدها : أنها خبر عن الإنسان ، و « على نفسه » متعلق ب « بصيرة » ، والمعنى : بل الإنسان بصيرة على نفسه .
وعلى هذا فلأيّ شيء أنَّث الخبر .
وقد اختلف النحويون في ذلك ، فقال بعضهم : الهاء فيه للمبالغة .
وقال الأخفش : هو كقولك : « فلان عِبْرة وحُجَّة » .
وقيل : المراد بالإنسان الجوارح ، فكأنه قال : بل جوارحه بصيرة ، أي شاهدة .
والثاني : أنَّها مبتدأ ، و « على نفسه » خبرها ، والجملة خبر عن الإنسان .
وعلى هذا ففيها تأويلان :
أحدهما : أن تكون « بصيرة » صفة لمحذوف ، أي عين بصيرة . قاله الفراء؛ وأنشد : [ الطويل ]
4992 - كَأنَّ عَلَى ذِي العَقْلِ عَيْناً بَصِيرَةً ... بِمقْعدِهِ أو مَنْظَرٍ هُو نَاظِرُهْ
يُحَاذِرُ حتَّى يَحْسبَ النَّاسُ كُلُّهُم ... مِنَ الخَوْفِ لا تَخْفَى عليْهِمْ سَرائِرُهْ
الثاني : أن المعنى جوارحُ بصيرة .
الثالث : أنَّ المعنى ملائكة بصيرة ، وهم الكاتبون ، والتاء على هذا للتَّأنيث .
وقال الزمخشري : « بصيرة » : حُجَّة « بينة وصفت بالبصارة على المجاز كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله تعالى : { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } [ النمل : 13 ] .
قال شهاب الدين : » هذا إذا لم تجعل الحُجَّة عبارة عن الإنسان ، أو تجعل دخول التاء للمبالغة أمَّا إذا كانت للمبالغة فنسبة الإبصار إليها حقيقة « .
الوجه الثالث : يكون الخبر الجار والمجرور و » بصيرة « فاعل به ، وهو أرجح مما قبله؛ لأن الأصل في الأخبار الإفراد .
فصل في تفسير الآية
قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما : » بصيرة « : أي : شاهد ، وهو شهود جوارحه عليه : يداه بما يبطش بهما ، ورجلاه بما يمشي عليهما ، وعيناه بما أبصر بهما والبصيرة : الشاهد ، كما أنشد الفراء ، ويدل عليه قوله تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] .
قال الواحدي : هذا يكون من صفات الكفار ، فإنهم ينكرون ما عملوا ، فيُختم على أفواههم ، وتنطق جوارحهم .
قوله : { وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَه } . هذه الجملة حالية ، وقد تقدم نظيرها مراراً .
والمعاذير : جمع معذرة على غير قياس ك » ملاقيح ومذاكير « جمع لقحة وذكر .
وللنحويين في مثل هذا قولان :
أحدهما : أنه جمع لملفوظ به وهو لقحة وذكر .
والثاني : أنه جمع لغير ملفوظ به بل لمقدَّر ، أي ملقحة ومذكار .
وقال الزمخشري : » فإن قلت : أليس قياس « المَعْذِرة » أن تجمع على معاذر لا معاذير؟ .
قلت : « المعاذير » ليست جمع « معذرة » بل اسم جمع لها ، ونحوه : « المناكير » في المُنْكَر « .
قال أبو حيان : » وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع ، وإنما هو من أبنية جموع التكسير « انتهى .
وقيل : » مَعاذِير « جمع مِعْذار ، وهو السِّتر ، والمعنى : ولو أرخى ستوره ، والمعاذير : الستور بلغة » اليمن « ، قاله الضحاك والسديُّ ، وأنشد : [ الطويل ]
4993 - ولكِنَّهَا ضَنَّتْ بمَنْزلِ سَاعةٍ ... عَليْنَا وأطَّتْ فوْقهَا بالمعَاذِرِ
قال الزجاج : المعاذير : الستور ، والواحد : معذار .
أي وإن أرخى ستوره يريد أن يخفى عمله فنفسه شاهدة عليه ، وقد حذف الياء من « المعاذر » ضرورة .
وقال الزمخشري : « فإن صح - يعني أن المعاذير : الستور - فلأنه يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب » . وهذا القول منه يحتمل أن يكون بياناً للمعنى الجامع بين كون المعاذير : الستور والاعتذارات ، وأن يكون بياناً للعلاقة المسوِّغة في التجويز .
فصل في معنى الآية
قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد وأبو العالية وعطاء والفراء والسديُّ : المعنى : ولو اعتذر وقال : لم أفعل شيئاً لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه ، فهو وإن اعتذر وجادل عن نفسه فعليه شاهد يكذِّب عذرهُ « .
وقال مقاتل : ولو أدلى بعُذرٍ أو حجة لم ينفعه ذلك ، نظيره قوله تعالى : { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 36 ] فالمعاذير على هذا مأخوذة من العُذْر .
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
قوله : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } .
قال بعض الرافضة : عدم مناسبتها لما قبلها يدل على تغيير القرآن .
قال ابن الخطيب : وفي مناسبتها وجوه :
الأول : لعل استعجال الرسول إنما كان عند نزول هذه الآيات .
الثاني : أنه تقدم أن الإنسان يستعجل بقوله : { لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } ثم بين أن العجلة مذمومة في أمر الدين ، فقال تعالى : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } ، وقال تعالى بعدها : { بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة } [ القيامة : 20 ] .
الثالث : أنه قدم { بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } وكان صلى الله عليه وسلم إنما يستعجل خشية النسيان ، فقيل له صلى الله عليه وسلم إن الأمور لا تحصل إلا بتوفيق الله - تعالى - وإعانته ، فاعتمد على الله - تعالى - واترك التعجيل .
الرابع : كأنه قيل : غرضك من هذا التعجيل أن تحفظه ، وتبلغه إليهم ليظهر صدقك ، وقبح عنادهم ، لكنهم يعلمون ذلك بقلوبهم ، فلا فائدة في هذا التعجيل .
الخامس : أن الكافر لما قال : « أين المَفر »؟ كأنه يطلب الفرار من الله تعالى ، فكن أنت يا محمد على مضادة الكافر ، وفر من غير الله إلى الله .
السادس : قال القفالُ : الخطاب مع الإنسان المذكور في قوله { يُنَبَّأُ الإنسان } فإذا قيل له : اقرأ كتابك تلجلج لسانه ، فيقال له : لا تعجل ، فإنه يجب علينا بحكم الوعد ، أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك ونقرأها عليك ، فإذا قرآناه فاتَّبعْ قرآنه بالإقرار { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } ، وهذا فيه وعيد شديد وتهويل .
روى الترمذي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يحرك لسانه يريد أن يحفظه ، فأنزل الله تعالى : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } .
قال : وكان يحرك شفتيه ، فقال لي ابن عباس : أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما ، فحرك شفتيه ، فأنزل الله تعالى : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } قال : جمعه في صدرك ثم نقرؤه { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ } فاستمع وأنصت ، ثم علينا أن نقرأه ، فيقال : « فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل - عليه السلام - استمع ، وإذا نطق جبريل - عليه السلام - قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما أقرأه » خرجه البخاري أيضاً .
ونظير هذه الآية : { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [ طه : 114 ] . وقد تقدم .
وقال عامر الشعبي : إنما كان يُعجِّل بذكره صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي من حبّه له وحلاوته في لسانه مع الوحي مخافة أن ينساه صلى الله عليه وسلم فنزلت : { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن } الآية .
ونزل : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] ، ونزل : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ } . قاله ابن عباس : و « قرآنه » أي وقراءته عليك ، والقراءة والقرآن في قول الفراء : مصدران .
وقال قتادة : « فاتَّبع قرآنه » فاتَّبع شرائعه وأحكامه .
قوله : { وَقُرْآنَهُ } ، أي : قراءته ، فهو مصدر مضاف للمفعول ، وأما الفاعل فمحذوف ، والأصل : وقراءتك إياه ، والقرآن : مصدر بمعنى القراءة .
وقال حسان رضي الله عنه : [ البسيط ]
4994 - ضَحَّوْا بأشْمَطَ عُنوانُ السُّجُودِ بِهِ ... يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحاً وقُرْآنا
وقال ابن عطية : قرأ أبو العالية : « إنَّ عَليْنَا جَمعهُ وقَرَتَهُ ، فإذَا قَرَأنَاهُ فاتَّبع قَرَتهُ » . بفتح القاف والراء والتاء من غير همز ولا ألف . ولم يذكر توجيهها .
فأما توجيه قوله : « جَمعَهُ وقُرآنهُ » وقوله : « فاتَّبعْ قُرآنهُ » فواضح - كما تقدم - في قراءة ابن كثير في « البقرة » ، وأنه هل هو نقل أو من مادة « قرن » ، وتحقيق القولين مذكور ثمَّة فليلتفت إليه .
وأما قوله : بفتح القاف والراء والتاء ، فيعني في قوله : « فإذا قَرَتَه » يشير إلى أنه قُرىء شاذّاً هكذا .
وتوجيهها : أن الأصل : « قَرَأتَهُ » فعلاً ماضياً مسنداً لضمير المخاطب ، أي : فإذا أردت قراءته ، ثم أبدل الهمزة ألفاً لسكونها بعد فتحة ، ثم حذف الألف تخفيفاً ، كقولهم : ولو ترى ما لصبيان ، و « ما » مزيدة ، فصار اللفظ « قَرَتَهُ » .
فصل في لفظ الآية
قوله : { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } أي بمقتضى الوعد عند أهل السنة ، وبمقتضى الحكمة عند المعتزلة . « جمعه » في صدرك « وقرآنه » أي : يعيده جبريل عليك حتى تحفظه وتقرأه بحيث لا تنساه ، فعلى الأول : القارىء جبريل عليك ، وعلى الثاني محمد صلى الله عليه وسلم والمراد بقراءته : جمعه كقوله : [ الوافر ]
4995 - . . .. لَمْ تَقْرَأ جَنِينَا
فيحمل الجمع على جمعه في الخارج ، والقرآن على جمعه في ذهنه وحفظه لئلا يلزم التكرار ، وأسند القراءة لله لأنها بأمره .
وقوله : « فاتبع قرآنه » قيل : حلاله وحرامه أو لا تقارئه بل اسكت حتَّى يسكت جبريل فاقرأ أنت ، وهو أظهر؛ لأن الآية تدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ مع جبريل ، وكان يسأله في أثناء قراءته عن المشكلات فنهي عن الأول بقوله « فاتبع قرآنه » ، وعن الثاني بقوله : { ثم إن علينا بيانه } .
قوله : { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أي : تفسير ما فيه من الحدود والحلال ، والحرام . قاله قتادة . وقيل : { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } ما فيه من الوعد والوعيد .
وقيل : إنَّ علينا أن نبينه بلسانك . والضمائر تعود على القرآن ، وإن لم يجر له ذكر .
وقوله : { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } يدل على أنَّ بيان المجمل واجب على الله - تعالى - أما عند أهل السُّنة فبالوعد والتفضل ، وإما عند المعتزلة فبالحكمة . والله أعلم .
فصل في الرد على من جوّز تأخير البيان عن وقت الخطاب
احتج من جوز تأخير البيان عن وقت الخطاب بهذه الآية .
وأجاب أبو الحسين عند بوجهين :
الأول : أن ظاهر الآية يقتضي وجوب تأخير البيان عن وقت الخطاب ، وأنتم لا تقولون به .
الثاني : أن عندنا الواجب أن يقرن باللفظ إشعاراً بأنه ليس المراد في اللفظ ما يقتضيه ظاهره . فأما البيان التفصيلي فيجوز تأخيره فتحمل الآية على تأخير البيان التفصيلي .
وذكر القفال وجها ثالثاً ، وهو قوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } ثم إنا نخبرك بأن علينا بيانه فيحمل على الترتيب ، ونظيره قوله تعالى : { فَكُّ رَقَبَةٍ } [ البلد : 13 ] إلى قوله { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ } [ البلد : 17 ] .
قال ابن الخطيب : والجواب عن الأول : أن اللفظ لا يقتضي وجوب تأخير البيان ، بل يقتضي تأخير وجوب البيان ، فيكون الجواب بالمنع لأن وجوب البيان لا يتحقق إلا عند الحاجة ، وعن الثاني : أنَّ كلمة « ثُمَّ » دخلت على مطلق البيان المجمل والمفصل ، فالتخصيص بأحدهما تحكم بغير دليل .
وجواب القفال : بأنه ترك للظاهر بغير دليل .
فصل فيمن جوز الذنوب على الأنبياء
أورد من جوّز الذنوب على الأنبياء ، بأن هذا الاستعجال إن كان بإذن ، فكيف نهي عنه وإن كان بغير إذن فهو ذنب .
قال ابن الخطيب : والجواب : لعله كان مأذوناً فيه إلى وقت النهي .
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
قوله : { كَلاَّ } . قال الزمخشري : « كلاَّ » ردع للنبي صلى الله عليه وسلم عن عادة العجلة وحثّ على الأناة .
وقال جماعة من المفسرين : « كلاَّ » معناه « حقّاً » أي : حقّاً تحبّون العاجلة ، وهو اختيار أبي حاتم؛ لأن الإنسان بمعنى الناس .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : « كلاَّ » أي : أنَّ أبا جهل لا يؤمن بتفسير القرآن وبيانه .
وقيل : « كلاَّ » لا يصلُّون ولا يزكُّون ، يريد كفار « مكّة » .
« بَلْ تُحِبُّونَ » . قرأ ابن كثير وأبو عمرو : « يُحِبُّون ، ويَذَرُونَ » بيان الغيبة حملاً على لفظة الإنسان المذكور أولاً لأن المراد به الجنس ، وهو اختيار أبي حاتم؛ لأن « الإنسان » بمعنى الناس والباقون : بالخطاب فيهما ، إما خطاباً لكفار قريش أي : بل تحبون يا كفار قريش العاجلة ، أي : الدار الدنيا والحياة فيها { وَتَذَرُونَ الآخرة } أي تدعون الآخرة والعمل لها ، وإما التفاتاً عن الإخبار عن الجنس المتقدم والإقبال عليه بالخطاب .
واختار الخطاب أبو عبيد ، قال : ولولا الكراهة لخلاف هؤلاء القراء لقرأتها بالياء ، لذكر الإنسان قبل ذلك .
قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } فيه أوجه :
أحدها : أن يكون « وجوهٌ » مبتدأ ، و « نَاضِرةٌ » نعتٌ له ، و « يَومئذٍ » منصوب ب « نَاضِرَةٌ » و « ناظِرَةٌ » خبره ، و « إلى ربِّها » متعلق بالخبر . والمعنى : أن الوجوه الحسنة يوم القيامة ناظرة إلى الله تعالى ، وهذا معنى صحيح ، والنَّاضرة : من النُّضرة وهي التنعم ، ومنه غصن ناضر .
الثاني : أن تكون « وُجوهٌ » مبتدأ أيضاً ، و « نَاضِرةٌ » خبره ، و « يَوْمئذٍ » منصوب الخبر - كما تقدم - وسوَّغ الابتداء هنا بالنكرة كون الموضع موضع تفصيل ، كقوله : [ المتقارب ]
4996 - . . ... فَثَوْبٌ لَبِسْتُ وثَوْبٌ أجُرْ
وتكون « نَاضِرةٌ » نعتاً ل « وُجوهٌ » أو خبراً ثانياً او خبراً لمبتدأ محذوف ، و « إلى ربِّها » متعلق ب « ناظرة » كما تقدم .
وقال ابن عطية : وابتدأ بالنكرة؛ لأنها تخصصت بقوله : « يوْمَئذٍ » .
وقال أبو البقاء : وجاز الابتداء هنا بالنَّكرة لحصول الفائدة .
وفي كلا قوليهما نظر أما قول ابن عطية : فلأن قوله « تخصصت » بقوله : « يَوْمئذٍ » هو التخصيص إما لكونها عاملة فيه ، وهو محال؛ لأنها جامدة ، وإما لأنها موصوفة به ، وهو محال أيضاً؛ لأن الجثة لا توصف بالزمان كما لا يخبر به عنها .
وأما قول أبي البقاء : فإن أراد بحصول الفائدة ما تقدم من التفصيل فصحيح ، وإن عنى ما عناه ابن عطية فليس بصحيح لما تقدم .
الثالث : أن يكون « وُجوهٌ » مبتدأ ، و « يُوْمئذٍ » خبره .
قاله أبو البقاءِ .
وهذا غلطٌ من حيث المعنى ومن حيث الصناعة .
أما المعنى : فلا فائدة في الإخبار عنها بذلك ، وأما الصناعة : فلأنه لا يخبر بالزمان عن الجثة ، فإن ورد ما ظاهره ذلك يؤول نحو « الليلة الهلالُ » .
الرابع : أن يكون « وُجوهٌ » مبتدأ و « نَاضِرةٌ » خبره ، و { إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } جملة مستأنفة في موضع خبر ثانٍ ، قاله ابن عطية .
وفيه نظر؛ لأنه لا ينعقد منهما كلام؛ إذ الظاهر تعلُّق « إلى » ب « نَاظِرةٌ » اللهمّ إلا أن يعني أن « ناظرة » خبر لمبتدأ مضمر ، أي : هي ناظرة إلى ربها ، وهذه الجملة خبر ثان وفيه تعسف .
الخامس : أن يكون الخبر ل « وُجوهٌ » مقدَّراً ، أي : وجوه يومئذ ثمَّ ، و « نَاضِرةٌ » صفة وكذلك « ناظرة » .
قاله أبو البقاء : وهو بعيد لعدم الحاجة إلى ذلك .
والوجه : الأولى لخلوصه من هذه التعسّفات . وكون « إلى » حرف جر ، و « ربها » مجروراً بها هو المتبادر إلى الذهن ، وقد خرجه بعض المعتزلة على أن يكون « إلى » اسماً مفرداً بمعنى النعمة مضافاً إلى « الرب » ويجمع على « آلاء » نحو { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا } [ الرحمن : 13 ] - وقد تقدم أن فيها لغات أربعاً - و « ربِّهَا » خفض بالإضافة والمفعول مقدم ناصبه « ناظرة » بمعنى منتظرة والتقدير : وجوه منتظرة نعمة ربها .
وهذا فرار من إثبات النظر لله - تعالى - على معتقدهم .
وتَمحَّل الزمخشري لمذهب المعتزلة بطريق أخرى من جهة الصناعة ، فقال - بعد أن جعل التقديم في « إلى ربها » مؤذناً بالاختصاص - : والذي يصح معه أن يكون من قول الناس : إنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي ، يريد معنى التوقّع والرجاء؛ ومنه قول القائل : [ الكامل ]
4997 - وإذَا نَظرْتُ إليْكَ مِنْ ملِكٍ ... والبَحْرُ دُونكَ زِدْتَنِي نِعَمَا
وسمعت سُرِّيَّة مستجدية ب « مكة » وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ، ويأوون إلى مقايلهم تقول : « عُيَيْنتي نويظرة » إلى الله وإليكم ، والمعنى : أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم .
قال شهاب الدين : وهذا كالحوم على من يقول إن « نَاظِرةٌ » بمعنى منتظرة ، إلا أن مكيّاً قد رد هذا القول ، فقال : ودخول « إلى » مع النظر يدل على أنه نظر العين ، وليس من الانتظار ولو كان من الانتظار لم تدخل معه « إلى »؛ ألا ترى أنك لا تقول : انتظرت إلى زيد ، وتقول : نظرت إلى زيد تعني نظر العين ، ف « إلى » تصحب نظر العين ، ولا تصحب نظر الانتظار ، فمن قال : إن « ناظرة » بمعنى « منتظرة » فقد أخطأ في المعنى وفي الإعراب ووضع الكلام في غير موضعه .
وقال القرطبي : « إن العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا : نظرته ، كما قال تعالى { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة } [ الزخرف : 66 ] ، { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } [ الأعراف : 53 ] ، { مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } [ يس : 49 ] ، وإذا أرادت به التفكر والتدبر قالوا : نظرت فيه ، فأما إذا كان النظر مقروناً بذكر » إلى « وذكر الوجه فلا يكون إلا بمعنى الرؤية والعيان » .
وقال الأزهري : « إن قول مجاهد : تنتظر ثواب ربها خطأ؛ لأنه لا يقال : نظر إلى كذا بمعنى الانتظار ، وإن قول القائل : نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين ، كذا تقوله العرب؛ لأنهم يقولون : نظرت إليه إذا أرادوا نظر العين ، فإذا أرادوا الانتظار قالوا : نظرته »؛ قال : [ الطويل ]
4998 - فإنَّكُمَا إنْ تنْظُرَا لي سَاعةً ... مِنَ الدَّهرِ تَنْفعْنِي لدى أمِّ جُندُبِ
لما أرادوا الانتظار قال : تنظراني ، وإذا أرادوا نظر العين قالوا : نظرت إليه .
قال الشاعر : [ الطويل ]
4999 - نَظرْتُ إليْهَا والنُّجُومُ كأنَّها ... مَصابِيحُ رُهبَانٍ تُشَبُّ لِقفَّالِ
وقال آخر : [ الطويل ]
5000 - نَظَرْتُ إليْهَا بالمُحَصَّبِ من مِنى .. . .
والنّضْرة : طرواة البشرة وجمالها ، وذلك من أثر النعمة ، يقال : نضر وجهه فهو ناضر .
وقال بعضهم : نسلم أنه من نظر العين إلا أن ذلك على حذف مضاف ، أي ثواب ربها ونحوه .
قال مكي : « لو جاء هذا لجاز : نظرت إلى زيد ، بمعنى : نظرت إلى عطاء زيد ، وفي هذا نقض لكلام العرب وتخليط في المعاني » .
ونضَره الله ونضَّره ، مخففاً ومثقلاً ، أي : حسنه ونعمه .
قال صلى الله عليه وسلم : « نَضَّر اللَّهُ أمْرأً سَمِعَ مَقالَتِي فوَعَاهَا ، فأدَّاهَا كما سَمِعهَا » يروى بالوجهين .
ويقال للذهب : نُضَار من ذلك ، ويقال له : النضر أيضاً .
ويقال : أخضر ناضر كأسود حالك ، وقدح نضار : يروى بالإتباع والإضافة .
والعامة : « ناضرة » بألف ، وقرأ زيد بن علي : « نضرة » بدونها ، ك « فرح » فهو فرح .
فصل في الرؤية .
روى مسلم في قوله تعالى { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى } [ يونس : 26 ] كان ابن عمر يقول : أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ، ثم تلى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } .
وقال عكرمة : تنظر إلى ربها نظراً ، وحكى الماوردي عن ابن عمر وعكرمة ومجاهد : تنظر أمر ربها ، وليس معروفاً إلا عن مجاهد وحده .
وجمهور أهل السُّنَّة تمسك بهذه الآية لإثبات أن المؤمنين يرون الله - سبحانه وتعالى - يوم القيامة وأما المعتزلة فاحتجوا بقوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } [ الأنعام : 103 ] ، ويقولون : النظر المقرون ب « إلى » ليس اسماً للرؤية ، بل لمقدمة الرؤية ، وهي تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته ، ونظر العين بالنسبة إلى الرؤية كنظر القلب بالنسبة إلى المعرفة ، وكالإصغاء بالنسبة إلى السمع ويدل على ذلك قوله تعالى : { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }
[ الأعراف : 198 ] فأثبت النظر حال عدم الرؤية ، ويقال : نظر إليه شزراً ، ونظر إليه غضبان ونظر راضياً ، ولا يقال ذلك في الرؤية ، ويقال : وجوه متناظرة ، أي : متقابلة ويقال : انظر إليه حتى تراه ، فتكون الرؤية غاية للنظر ، وأن النظر يحصل والرؤية غير حاصلة وقال : [ الوافر ]
5001 - وجُوهٌ نَاظرَاتٌ يَوْمَ بَدْرٍ ... إلى الرَّحْمنٍ تَنتظِرُ الخَلاصَا
ولا رؤية مع النظر المقرون ب « إلى » ، وقال تعالى : { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة } [ آل عمران : 77 ] ومن قال : لا يراهم ، كفر ، قالوا : ويمكن أن يكون معنى قوله تعالى : { نَاظِرةٌ } أي : منتظرة كقولك : أنا أنظر إليك في حاجتي ، أو يكون « إلى » مفرد « آلاء » وهي النعم - كما تقدم - والمراد : إلى ثواب ربها؛ لأن الأدلة العقلية والسمعية لما منعت الرؤية وجب التأويل ، أو يكون المعنى أنها لا تسأل ، ولا ترغب إلا إلى الله عز وجل ، كقوله : « اعْبُد الله كأنَّك تَرَاهُ » .
قال ابن الخطيب : والجواب : لنا مقامان :
أحدهما : أن نقول : النظر هو الرؤية كقول موسى عليه الصلاة والسلام : { رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] ، فلو كان المراد تقليب الحدقة نحو المرئي لاقتضت الآية إثبات الجهة والمكان ، ولأنه أخر النظر عن الإرادة فلا يكون تقليب .
المقام الثاني : سلمنا ما ذكرتموه من أن النظر تقليب الحدقة للرؤية ، لكن يقدر حمله على الحقيقة ، فيجب الحمل على الرؤية إطلاقاً لاسم السبب على المسبب ، وهو أولى من حمله على الانتظار لعدم الملازمة؛ لأن تقليب الحدقة كالسبب للرؤية ، ولا تعلق بينه وبين الانتظار .
وأم قولهم : نحمله على الانتظار قلنا : الذي هو بمعنى الانتظار ، وفي القرآن غير مقرون ، كقوله تعالى : { انظرونا نَقْتَبِسْ } [ الحديد : 13 ] ، { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } [ الأعراف : 53 ] ، والذي ندّعيه أن النظر المقرون ب « إلى » ليس بمعنى الرؤية؛ لأن وروده بمعنى الرؤية ، أو بالمعنى الذي يستعقب الرؤية ظاهر ، فلا يكون بمعنى الانتظار دفعاً للاشتراك وقوله : « وجوه ناظرات يوم بدر » . شعر موضوع ، والرواية الصحيحة : [ الوافر ]
5002 - وجُوهٌ نَاظِراتٌ يَوْمَ بَكْرٍ ... إلى الرَّحمنِ تَنتظِرُ الخَلاصَا
والمراد من هذا الرحمن : مسيلمة الكذاب؛ لأنهم كانوا يسمُّونه رحمن اليمامة ، وأصحابه كانوا ينظرون إليه ويتوقعون منه الخلاص من الأعداء .
وقولهم : هو مفرد « آلاء » أي : نعمة ربها .
قلنا : فيصدق على أيِّ نعمة كانت .
وإن قلنا : لأنه إنما كان للماهية التي يصدق عليها أنها نعمة ، فعلى هذا يكفي في تحقيق مسمّى هذه اللفظة أي جزء فرض من أجزاء النعمة ، وإن كانت غاية في القلة والحقارة ، وكيف يمكن أن تكون من حاله الثواب يومئذ في النعم العظيمة ، فكيف ينتظرون نعمة قليلة ، وكيف يمكن أن يكون من حاله كذلك أن يبشر بأنه يتوقع الشيء الذي يطلق عليه اسم النعمة ، ومثال هذا : أن يبشر سلطان الأرض بأنه سيصير حاله في العظمة والقوة بعد سنة بحيث يكون متوقعاً لحصول نعمة واحدة فكما أن ذلك فاسد ، فكذا هاهنا سلمنا أن النظر المتعدي ب « إلى » المقرون بالوجوه جاء في اللغة بمعنى الانتظار ، ولكن لا يمكن حمل هذه الآية عليه؛ لأن لذة الانتظار مع تعين الوقوع كانت حاصلة في الدنيا ، فلا بد وأن تحصل في الآخرة زيادة حتى يحصل الترغيب في الآخرة ، ولا يجوز أن يكون ذلك هو قرب الحصول .
قال القشيري : وهذا باطل؛ لأن واحد « الآلاء » يكتب بالألف لا بالياء .
وقرب الحصول معلوم بالعقل فبطل التأويل .
وأما قولهم : المراد ثواب ربها ، فهو خلاف الظاهر ، هذا ما ذكره ابن الخطيب .
وروى القرطبي في « تفسيره » قال : خرج « مسلم » عن جرير بن عبد الله قال : « كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر ، فقال صلى الله عليه وسلم : » إنَّكُمْ سَتَروْنَ ربَّكمْ عياناً كمَا تَرونَ القَمَرَ لا تُضَامُونَ فِي رُؤيتِهِ ، فإن اسْتَطَعْتُم ألاَّ تُغْلبُوا عَلى صلاةٍ قَبْلَ طُلوعِ الشَّمْسِ وصلاةٍ قَبْلَ غُروبِهَا فافْعَلُوا « ثُمَّ قَرَأ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب } [ ق : 39 ] » متفق عليه .
وفي كتاب « النسائي » عن صهيب - رضي الله عنه - قال : « فيُكشَفُ الحِجابُ فيَنظُرونَ إليْهِ ، فواللَّهِ ما أعْطَاهُمْ شَيْئاً أحبَّ إليْهِمْ من النَّظرِ ، ولا أقَرَّ لأعْيُنِهِمْ » .
وروى أبو إسحاق الثعلبيُّ عن الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يتَجَلَّى ربُّنَا - سُبْحانَهُ وتَعَالَى - حتَّى يُنْظَرَ إلى وَجْههِ فيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّداً ، فيقُولُ اللَّه تعالى : ارفَعُوا رُءُوسكمْ فَليْسَ هذا بِيومِ عِبَادةٍ » .
وقال القرطبي : وقيل : أضاف النظر إلى العين؛ لأن العين في الوجه فهو كقوله تعالى : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ البقرة : 25 ] والماء يجري في النهر لا النهر ثم قد يكون الوجه بمعنى العين ، قال تعالى : { فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً } [ يوسف : 93 ] ، أي على عينيه ، ثم لا يبعد قلب العادة غداً حتى يخلق النظر في الوجه وهو كقوله تعالى { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ } [ الملك : 22 ] .
« فقيل : يا رسُول اللَّهِ ، كيف يَمشُونَ في النَّار علَى وُجوهِهم؟ قال : » الَّذي أمْشاهُمْ عَلى أقدامهِم قَادِرٌ على أنْ يُمشِيهمْ على وُجوُهِهِم « .
قوله : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } ، أي : وجوه الكفار يوم القيامة شديدة كالحة .
والبَاسِر : الشديد العبوس ، والباسل : أشد منه ولكنه غلب في الشجاع إذا اشتد كلوحة .
وفي » الصِّحاح « : وبسر الفحل الناقة وابتسرها : إذا ضربها ، وبسر الرجل وجهه بسوراً أي : كلح ، يقال : » عَبسَ وبَسَرَ « .
وقال السديُّ : » بَاسِرةٌ « متغيّرة ، والمعنى : أنها عابسة كالحة قد أظلمت ألوانها .
قوله تعالى : { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } .
أي : توقن وتعلم .
قال ابن الخطيب : هكذا قاله المفسرون ، وعندي أن الظن هنا إنما ذكر على سبيل التهكم ، كأنه قيل لما شاهدوا تلك الأحوال حصل فيهم ظن أن القيامة حق .
والفاقرة هي الداهية العظيمة ، قاله أبو عبيدة .
سميت بذلك لأنها تكسر فقار الظهر .
قال النابغة : [ الطويل ]
5003 - أبَى لِيَ قَبْرٌ لا يَزالُ مُقَابلِي ... وضَرْبَةُ فَأسٍ فَوقَ رَأسِي فَاقِرَهْ
أي : داهية مؤثِّرة ، يقال : فقرته الفاقرة ، أي : كسرت فقار ظهره . قال معناه مجاهد وغيره ، ومنه سمي الفقير لانكسار فقاره من القلّ وقد تقدم في البقرة .
وقال قتادة : « الفاقرة » : الشر ، وقال السديُّ : الهلاك .
وقال ابن عباس وزيد : دخول النار ، وأصلها الوسم على أنفس البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم . قاله الأصمعي .
يقال : فقرت أنف البعير : إذا حززته بحديدة ، ثم جعلت على موضع الحزّ الجرير وعليه وتر مَلْويّ لتذلله وتروضه .
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)
قوله تعالى : { كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي } « كَلاَّ » ردْعَ وزَجْر ، أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة ، ثم استأنف فقال : { إِذَا بَلَغَتِ التراقي } أي : بلغت النفس والروح التراقي فأخبر بما لم يجر له ذكر لعلم المخاطب به كقوله تعالى : { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] وقوله : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم } [ الواقعة : 83 ] .
وقيل : « كَلاّ » معناه « حقّاً » إن المساق إلى الله تعالى إذا بلغت التراقي ، أي إذا ارتفعت النفس إلى التراقي .
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول : إذا بلغت نفس الكافر التراقي . و « التراقي » : مفعول « بلغت » والفاعل مضمر ، أي : النفس وإن لم يجرِ لها ذكر ، كقول حاتم : [ الطويل ]
5004 - أمَاوِيَّ ما يُغنِي الثَّراءُ عن الفَتَى ... إذَا حَشْرجتْ يَوْماً وضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
أي : حشرجت النفس .
وقيل : في البيت : إن الدال على النفس ذكر جملة ما اشتمل عليها وهو الفتى فكذلك هنا ذكر الإنسان دال على النفس ، والعامل في « إذَا بَلغت » معنى قوله تعالى : { إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق } [ القيامة : 30 ] ، أي : إذ بلغت الحلقوم رفعت إلى الله تعالى ، ويكون قوله : { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } [ القيامة : 27 ] معطوف على « بلغت » .
و « التراقي » : جمع « ترقوة » ، أصلها : « تراقو » قلبت واوها ياء لانكسار ما قبلها .
والترقوة : أحد عظام الصدر . قاله أبو حيان ، والمعروف غير ذلك .
قال الزمخشري : ولكل إنسان ترقوتان ، فعلى هذا يكون من باب : غليظ الحواجب وعريض المناكب .
وقال القرطبي : « هي العظام المكتنفة لنُقْرة النحر ، وهو مقدم الدّلق من أعلى الصدر ، وهو موضع الحَشْرجة » .
قال دريدُ بن الصمَّةِ : [ الوافر ]
5005 - ورُبَّ عَظِيمةٍ دَافعْتُ عَنْهَا ... وقَدْ بَلغَتْ نُفوسُهُمُ التَّراقِي
وقال الراغب : « التَّرْقُوة » : عظم وصل ما بين نُقرة النحر والعاتق انتهى .
وقال الزمخشري : العظام المكتنفة لنقرة النحر عن يمين وشمال . ووزنها : « فَعْلُوة » فالتاء أصل والواو زائدة ، يدل عليه إدخال أهل اللغة إياها في مادة « ترق » .
وقال أبو البقاء والفراء : جمع تَرْقُوَة ، وهي « فَعْلُوة » ، وليست ب « تَفْعلَة » ، إذ ليس في الكلام « رقو » .
وقرىء : « التراقي » بسكون ، وهي كقراءة زيد : { تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [ المائدة : 89 ] وقد تقدم توجيهها .
وقد يكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت والمقصود تذكيرهم شدة الحال عند نزول الموت .
فصل في الرد على من طعن في الآية
قال ابن الخطيب : قال بعض الطَّاعنين : إن النفس إنما تصل إلى التراقي بعد مفارقتها للقلب ومتى فارقت النفس القلب حصل الموت لا محالة ، والآية تدل على أن عند بلوغها التراقي تبقى الحياة حتى يقال فيه : من راق وحتى تلتف الساق بالساق ، والجواب : أن المراد من قوله : { حتَّى إذَا بَلَغَت التَّرَاقِي } ، أي : إذا حصل بالقرب من تلك الحالة .
قوله : { مَن رَاقٍ } مبتدأ وخبر ، وهذه الجملة هي القائمة مقام الفاعل ، وأصول البصريين تقتضي ألا يكون؛ لأن الفاعل عندهم لا يكون جملة ، بل القائم مقامه ضمير المصدر وقد تقدم تحقيق هذا في البقرة .
وهذا الاستفهام يجوز أن يكون على بابه ، وأن يكون استبعاداً وإنكاراً .
فالأولى مروي عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما ، قالوا : هو من الرقية .
وروى سماك عن عكرمة قال : « من راق » يرقي ويشفي .
والثاني رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس أيضاً : هل من طبيب يشفيه ، وهو قول أبي قلابة وقتادة . وقال الشاعر : [ البسيط ]
5006 - هَلْ لِلفَتَى مِنْ بنَاتِ الدَّهْرِ من وَاقِ؟ ... أمْ هَلْ لَهُ مِن حَمامِ المَوتِ مِنْ رَاقِ؟
وكان هذا على وجه الاستبعاد واليأس ، أي من يقدر أن يرقي من الموت .
وعن ابن عباس أيضاً وأبي الجوزاء : أنه من رقي يرقى : إذا صعد .
والمعنى : من يرقى بروحه إلى السماء؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟
وقيل : إن ملك الموت يقول : « مَن راقٍ » أي : من يرقى بهذه النفس .
قال شهاب الدين : و « راقٍ » اسم فاعل إما من « رقى يرقي » من الرقية ، وهو كلام معد للاستشفاء يرقى به المريض ليشفى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ومَا أدْراكَ أنَّها رُقْيَة » يعني الفاتحة ، وهو اسم من أسمائها ، وإما من « رَقِيَ يرقَى » من الرَّقْي وهو الصعود أي أن الملائكة لكراهتها في روحه تقول : من يصعد بهذه الروح يقال : « رَقَى - بالفتح - من الرُّقية ، وبالكسر من الرَّقْي » ، ووقف حفص على نون « من » سكتة لطيفة ، وقد تقدم تحقيق هذا في أول الكهف .
وذكر سيبويه أن النون تدغم في الراء وجوباً بغنة وبغيرها نحو « من راشد » .
قال الواحدي : إن إظهار النون عند حروف الفم لحن فلا يجوز إظهار نون « من » في قوله : « من راق » .
وروى حفص عن عاصم : إظهار النون واللام في قوله : « من راق » و « بل ران » . قال أبو علي الفارسي : « ولا أعرف وجه ذلك » .
قال الواحدي : والوجه أن يقال : قصدوا الوقف على « من » و « بل » ، فأظهروهما ثم ابتدأوا بما بعدهما ، وهذا غير مرضي من القراءة .
قوله : { وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق } ، أي : أيقن الإنسان أنه الفراق ، أي : فراق الدنيا ، والأهل والمال والولد ، وذلك حين يعاين الملائكة ، وسمي اليقين هنا بالظن؛ لأن الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه فإنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة ، ولا ينقطع رجاؤه عنها ، فلا يحصل له يقين الموت ، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة ، أو لعله سماه بالظن الغالب تهكماً .
قال ابن الخطيب : وهذه الآية تدل على أن الروح جوهر قائم بنفسه باقٍ بعد موت البدنِ؛ لأن الله - تعالى - سمى الموت فراقاً ، والفراق إنما يكون إذا كانت الروح باقية ، فإن الفراق والوصال صفة ، والصفة تستدعي وجود الموصوف .
قوله تعالى : { والتفت الساق بالساق } . الالتفاف هو الاجتماع ، قال تعالى : { جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } [ الإسراء : 104 ] ومعنى الكلام : اتصلت الشدة بالشدة ، شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة . قاله ابن عباس والحسن وغيرهما .
وقال الشعبي وغيره : التفت ساقا الإنسان عند الموت من شدة الكربِ .
قال قتادة : أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب برجله على الأخرى .
وقال سعيد بن المسيب والحسن أيضاً : هما ساقا الإنسان إذا التفتا في الكفنِ .
وقال زيد بن أسلم : التفت ساق الكفن بساق الميت .
قال النحاس : القول الأول أحسنها ، لقول ابن عباس : هو آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحم الله ، والعرب لا تذكر الساق إلا في الشدائد والمحنِ العظام ، ومنه قولهم : قامت الحرب على ساقٍ .
قال أهل المعاني : إن الإنسان إذا دهمته شدة شمَّر لها عن ساقيه ، فقيل للأمر الشديد : ساق ، قال الجعديُّ : [ الطويل ]
5007 - أخُو الحَرْبِ إنْ عَضَّتْ بِهِ الحَرْبُ عَضَّهَا ... وإنْ شَمَّرتْ عَنْ سَاقهَا الحَرْبُ شَمَّرَا
قوله تعالى : { إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق } . أي : إلى خالقك يومئذ ، أي : يوم الساق ، أي : المرجع ، و « المساق » « مفعل » من السوق وهو اسم مصدر .
قال القرطبي : « المساق » : مصدر ساق يسوق ، كالمقال من قال يقول .
قوله : { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى } « لا » هنا دخلت على الماضي ، وهو مستفيض في كلامهم بمعنى : لم يصدق ولم يصل .
قال : [ الرجز ]
5008 - إنْ تَغْفِر اللَّهُمَّ تَغفِرْ جَمَّا ... وأيُّ عَبْدٍ لَكَ لا ألمَّا
وقال آخر : [ الطويل ]
5009 - وأيُّ خَمِيسٍ ، لا أتَانَا نِهَابُهُ ... وأسْيَافُنَا مِنْ كَبْشِهِ تَقطرُ الدِّمَا
وقال مكيٌّ : « لا » الثانية نفي ، وليست بعاطفة ، ومعناه : فلم يصدق ولم يصل . قال شهاب الدين : « وكيف يتوهم العطف حتى ينفيه » .
وجعل الزمخشري { فلا صدق وصلى } عطفاً على الجملة من قوله : { يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة } قال : وهو معطوف على قوله : « يسأل أيان » أي لا يؤمن بالبعث فلا صدق بالرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم .
واستبعده أبو حيان .
وقال الكسائي : « لا » بمعنى « لم » ولكنه يقرن بغيره ، تقول العرب : لا عبد الله خارج ولا فلان ، ولا تقول : مررت برجل لا محسن حتى يقال ولا مجمل ، وقوله :
{ فَلاَ اقتحم العقبة } [ البلد : 11 ] ليس من هذا القبيل؛ لأن معناه : فهلا اقتحم ، بحذف حرف الاستفهام .
وقال الأخفش : « فلا صدّق » أي : لم يصدق ، كقوله تعالى : « فَلا اقْتَحَمَ » أي : لم يقتحم ، ولم يشترط أن يعقبه بشيء آخر ، والعرب تقول : لا ذهب ، أي : لم يذهب ، فحرف النفي ينفي الماضي كما ينفي المستقبل ، ومنه قول زهير : [ الطويل ]
5010 - .. فَلاَ هُوَ أبْداهَا ولمْ يتقدَّمِ
فصل في معنى الآية
قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه لم يصدق بالرسالة ، « ولا صلى » أي : دعا لربه - عز وجل - وصلى على رسوله عليه الصلاة والسلام .
وقال قتادة : « فلا صدق » بكتاب الله « ولا صلى » لله تعالى .
[ وقيل : لا صدق بمالٍ ذخراً له عند الله تعالى « ولا صلى » الصلوات التي أمر الله بها .
وقيل : فلا آمن بقلبه ] ولا عمل ببدنه .
قيل : المراد أبو جهل .
وقيل : الإنسان المذكور في قوله : { أَيَحْسَبُ الإنسان } [ القيامة : 3 ] .
قوله : { ولكن كَذَّبَ وتولى } الاستدراك هنا واضح؛ لأنه لا يلزم من نفي التصدق والصلاة ، التكذيب والتولي لأن كثيراً من المسلمين كذلك فاستدرك ذلك بأن سببه التكذيب والتولي ، ولهذا يضعف أن يحمل نفي التصديق على نفي تصديق الرسول - عليه الصلاة والسلام - لئلا يلزم التكرار فتقع « لكن » بين متوافقين ، وهو لا يجوز .
قال القرطبي : ومعناه كذب بالقرآن ، وتولى عن الإيمان .
قوله تعالى : { ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى } . أي : يتبختر افتخاراً بذلك . قاله مجاهد وغيره .
« يتَمطَّى » جملة حالية من فاعل « ذهب » ، ويجوز أن يكون بمعنى شرع في التمطِّي ، كقوله : [ الطويل ]
5011 - فَقامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسْيفهِ ... وتمطى - هنا - فيه قولان :
أحدهما : أنه من « المَطَا » وهو الظهر ، ومعناه : يَتبختَرُ أي يمد مطاه ويلويه تبختراً في مشيته .
الثاني : أن أصله « يتمطّط » أي يتمدّد ، ومعناه : أنه يتمدد في مشيته تبختراً ، ومن لازم التبختر ذلك فهو يقرب من معنى الأول ، ويفارقه في مادته ، إذ مادة « المطا » : « م ط و » ، ومادة الثاني : « م ط ط » ، وإنما أبدلت الطاء الثانية ياء كراهية اجتماع الأمثال نحو : تطيبت ، وقصيت أظفاري ، وقوله : [ الراجز ]
5012 - تَقَضِّيَ البَازِي إذا البَازِي كَسَرْ ... والمطيطاء : التبختر ومد اليدين في المشي ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « المُطَيْطَاءِ وخدَمتهُمْ من فَارِس والرَّومِ كان بَأسهُمْ بَيْنَهُمْ » .
و « المطيط » : الماء الخاثر أسفل الحوض؛ لأنه يتمطّط ، أي : يمتدّ فيه .
وقال القرطبي : التمطط : هو التمدد من التكسُّل ، والتثاقل فهو متثاقل عن الداعي إلى الحق ، والتمطي يدل على قلة الاكتراث .
قوله : { أولى لَكَ فأولى } تقدم الكلام عليه في أول سورة القتال ، وإنما كررها هنا مبالغة في التهديد والوعيد ، فهو تهديد بعد تهديد ووعيد بعد وعيد؛ قالت الخنساء : [ المتقارب ]
5013 - هَمَمْتُ بنَفْسِيَ كُلَّ الهُمومِ ... فأولَى لِنفْسِيَ أوْلَى لَهَا
وقال أبو البقاء هنا : « وزن » أولى فيه قولان :
أحدهما : « فَعْلَى » والألف فيه للإلحاق لا للتأنيث .
والثاني : هو « أفعل » ، وهو على القولين هنا « علمٌ » ، ولذلك لم ينون ، ويدل عليه ما حكى أبو زيد في « النوادر » : هو أولاة - بالتاء - غير مصروف ، لأنه صار علماً للوعيد ، فصار كرجل اسمه أحمد ، فعلى هذا يكون أولى مبتدأ ، و « لك » الخبر .
والثاني : أن يكون اسماً للفعل مبنياً ، ومعناه : وليك شر بعد شر ، و « لك » تبيين .
فصل في نزول الآية
قال قتادة ومقاتل والكلبي : « خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنَ المَسْجدِ ذَاتَ لَيْلةٍ فاسْتقَبلهُ أبُو جَهْل على بَابِ المَسْجدِ ممَّا يلي باب بني مَخْزُوم ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، فهزه مرة أو مرتين ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أوْلَى لَكَ فأوْلَى ، ثُمَّ أوْلَى لَكَ فأوْلَى « فقال أبو جهلٍ : أتُهدِّدنِي؟ فواللَّهِ إنِّي لأعزُّ أهل هذا الوَادِي وأكْرمهُ ، ولا تَسْتطِيعُ أنْتَ ولا ربُّكَ أن تَفْعَلا بِي شَيْئاً ثُمَّ انسَلَّ ذَاهِباً » ، فأنزل الله - تعالى - كما قال الرسول الله عليه الصلاة والسلام .
ومعنى أوْلَى لَكَ يعني ويل لك؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
5014 - فأوْلَى ثُمَّ أوْلَى ثُمَّ أوْلَى ... وهَلْ لِلدَّرِّ يُحْلَبُ مِنْ مَرَدِّ؟
وقيل : هو من المقلوب ، كأنه قيل : « ويل » ثم أخر الحرف المعتل ، والمعنى : الويل لك يوم تدخل النار؛ وهذا التكرير كقوله : [ الطويل ]
5015 - ... لَكَ الوَيْلاتُ إنَّكَ مُرْجِلِي
أي لك الويل ثم الويل .
وقيل : معناه الذم لك أولى من تركه .
وقيل : المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب .
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى : قال الأصمعي « أولى » في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك كما تقول : قد وليت الهلاك ، أي دانيت الهلاك ، وأصله من « الولي » وهو القرب ، قال تعالى : { قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ } [ التوبة : 123 ] أي : يقربون منكم .
قال القرطبي : « وقيل : التكرير فيه على معنى من ألزم لك على عملك السيّىء الأول ثم الثاني والثالث والرابع » .
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
قوله : { أَيَحْسَبُ الإنسان } ، أي : أيظن ابن آدم « أن يترك سُدى » أي : أن يخلى مهملاً ، فلا يؤمر ولا ينهى . قاله ابن زيد ومجاهد .
وقيل : أن يترك في قبره أبداً كذلك لا يبعث ، و « سدى » حال من فاعل « يترك » ومعناه : مهملاً ، يقال : إبل سدى ، أي : مهملة .
وقال الشاعر : [ المتقارب ]
5016 - وأقْسِمُ باللَّهِ جَهْدَ اليَمِي ... نِ ما خلقَ اللَّهُ شَيْئاً سُدَى
أي : مهملاً ، وأسديت حاجتي ، أو ضيعتها ، ومعنى أسدى إليه معروفاً ، أي : جعله بمنزلة الضائع عند المسدى إليه لا يذكره ولا يمن به عليه .
قوله : { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةٌ } . العامة : على الياء من تحت في « يك » رجوعاً إلى الإنسان .
والحسن : بتاء الخطاب ، على الالتفات إليه توبيخاً له .
وقوله : { مِّن مَّنِيٍّ يمنى } . قرأ حفص : « يُمْنَى » بالياء من تحت .
وفيه وجهان :
أحدهما : أن الضمير عائد على المني - أي يصب - فتكون الجملة في محل جر .
والثاني : أنه يعود للنطفة ، لأن تأنيثها مجازيّ؛ ولأنها في معنى الماء . قاله أبو البقاء .
وهذا إنما يتمشى على قول ابن كيسان .
وأما النحاة فيجعلونه ضرورة؛ كقوله : [ المتقارب ]
5017 - . ... ولا أرْضَ أبْقلَ إبْقَالهَا
وقرأ الباقون : « تُمْنَى » بالتاء من فوق على أن الضمير للنطفة ، فعلى هذه القراءة وعلى الوجه المذكور قبلها تكون الجملة في محل نصب؛ لأنها صفة المنصوب .
فصل في معنى الآية
والمعنى من قطرة ما تمنى في الرحم ، أي تراق فيه ، ولذلك سميت « منى » لإراقة الدماء ، والنُّطفة : الماء القليل ، ويقال : نطف الماء ، أي : قطر ، أي ألم يك ماء قليلاً في صلب الرجل وترائب المرأة ، فنبه تعالى بهذا على خسة قدره . ثم قال تعالى : { فَخَلَقَ فسوى } أي : فسواه تسوية ، وعدله تعديلاً بجعل الروح فيه .
وقيل : فخلق فقد فسوى فعدل .
وقيل : « فخلق » أي : نفخ فيه « فسوى » فكمل أعضاءه . قاله ابن عباس ومقاتل .
{ فَجَعَلَ مِنْهُ } أي : من الإنسان .
وقيل : من المني « الزوجين ، الذكر والأنثى » أي : الرجل والمرأة .
فقوله تعالى { الذكر والأنثى } يجوز أن يكونا بدلين من الزوجين على لغة من يرى إجراء المثنى إجراء المقصور ، وقد تقدم تحقيقه في « طه » ومن ينسب إليه هذه اللغة والاستشهاد على ذلك [ طه : 63 ] .
فصل فيمن احتج بالآية على إسقاط الخنثى
قال القرطبي : وقد احتج بهذه الآية من رأى إسقاط الخنثى وقد مضى في سورة « الشورى » أن هذه الآية وقرينتها إنما خرجت مخرج الغالب .
فإن قيل : ما فائدة قوله : « يمنى » في قوله تعالى { من منيّ يمنى } ؟ فالجواب فيه إشارة إلى حقارة حاله ، كأنه قيل : إنه مخلوق من المني الذي يجري مجرى النَّجاسة ، فلا يليق بمثل هذا أن يتمرد عن طاعة الله - تعالى - إلا أنه عبر عن هذا المعنى على سبيل الرمز ، كما في قوله تعالى في « عيسى ومريم » - عليهما الصلاة والسلام -
{ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام } [ المائدة : 75 ] والمراد منه قضاء الحاجةِ .
قوله تعالى : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بَقَادِرٍ } أي : أليس الذي قدر على خلق هذه النسمة من قطرة ماء .
وقوله : « بقَادرٍ » اسم فاعل مجرور ب « باء » زائدة في خبر « ليس » وهذه قراءة العامة .
وقرأ زيد بن علي : « يقدر » فعلاً مضارعاً .
والعامة : على نصب « يحيى » ب « أن » لأن الفتحة خفيفة على حرف العلة .
وقرأ طلحة بن سليمان والفياض بن غزوان : بسكونها ، فإما أن يكون خفف حرف العلة بحذف حرف الإعراب . وإما أن يكون أجرى الوصل مجرى الوقف ، وجمهور النَّاس على وجوب فك الإدغام .
قال أبو البقاء : لئلا يجمع بين ساكنين لفظاً وتقديراً .
يعني أن الحاء ساكنة ، فلو أدغمنا لسكنا الياء الأولى أيضاً للإدغام ، فيلتقي ساكنان لفظاً ، وهو متعذر النطق ، فهذان ساكنان لفظاً .
وأما قوله : تقديراً؛ فإن بعض الناس جوز الإدغام في ذلك ، وقراءته أن يُحْيِّ ، وذلك أنه لما أراد الإدغام نقل حركة الياء الأولى إلى الحاء فأدغمها فالتقى ساكنان ، الحاء لأنها ساكنة في الأصل قبل النقل إليها والياء؛ لأن حركتها نقلت من عليها إلى الحاء؛ واستشهد الفراء لهذه القراءة بقول الشاعر : [ الكامل ]
5018 - تَمْشِي بِسُدَّة بَيْتهَا فَتُعيّ ... وأما أهل « البصرة » فلا يدغمونه ألبتة قالوا : لأن حركة الياء عارضة إذ هي للإعراب .
وقال مكي : وقد أجمعوا على عدم الإدغام في حال الرفع ، وأما في حال النصب فقد أجازه الفرَّاء لأجل تحرك الياء الثانية ، وهو لا يجوز عند البصريين ، لأن الحركة عارضة .
قال شهاب الدين : ادعاؤه الإجماع مردود بالبيت الذي تقدم إنشاده عن الفراء ، وهو قوله : « فتعيّ » فهذا مرفوع وقد أدغم ، ولا يبعد ذلك لأنه لما أدغم ظهرت تلك الحركة لسكون ما قبل الياء بالإدغام « .
فصل في معنى الآية
المعنى الذي قدر على خلق هذه النسمة من قطرة ماء قادر على أن يحيي الموتى أي : أن يعيد هذه الأجسام كهيئتها للبعث بعد البِلَى .
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم » أنَّه كَانَ إذَا قَرأهَا ، قال : « سُبحَانَكَ اللَّهُمَّ وبَلَى » « .
وقال ابن عباس : من قرأ { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى } إماماً كان أو غيره فليقل : » سُبْحَانَ ربِّيّ الأعْلَى « ومن قرأ : { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة } [ القيامة : 1 ] إلى آخرها فليقل : سبحانك اللهم بلى ، إماماً كان أو غير .
روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » مَنَ قَرَأ سُورةَ القِيامةِ شَهِدتُ أنَا وجِبْريلُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أنه كَانَ مُؤمِناً بِيوم القِيامَةِ وجَاءَ وَوجْههُ يُسْفِرُ عَن وُجُوهِ الخَلائقِ يَوْمَ القِيامَةِ « والله أعلم وأحكم .
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
قوله تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان } في « هل » هذه وجهان :
أحدهما : أنها على بابها من الاستفهام المحض ، أي : هو ممن يسال لغرابته أأتى عليه حين من الدهر لم يكن كذا فإنه يكون الجواب : أتى عليه ذلك وهو بالحال المذكورة . كذا قاله أبو حيان .
وقال مكي في تقرير كونها على بابها من الاستفهام : والأحسن أن تكون على بابها للاستفهام الذي معناه التقرير وإنما هو تقرير لمن أنكر البعث فلا بد أن يقول : نعم قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه ، فيقال له : من أحدثه بعد أن لم يكن وكونه بعد عدمه ، كيف يمتنع عليه بعثه ، وإحياؤه بعد موته ، وهو معنى قوله : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } [ الواقعة : 62 ] أي : فهلا تذكرون ، فتعلمون أن من أنشأ شيئاً بعد أن لم يكن قادراً على إعادته بعد موته وعدمه انتهى .
فقد جعلها لاستفهام التقرير لا للاستفهام المحض ، وهذا هو الذي يجب أن يكون؛ لأن الاستفهام لا يرد من الباري - تعالى - على هذا النحو وما أشبهه .
والثاني : قال الكسائي والفراء وأبو عبيدة وحكي أيضاً عن سيبويه : أنها بمعنى « قد » قال الفرَّاء : « هل » تكون جحداً وتكون خبراً ، فهذا من الخبر؛ لأنك تقول : هل أعطيتك؟ تقرره : بأنك أعطيته ، والجحد أن تقول : هل يقدر أحد على مثل هذا؟ .
وقال الزمخشري : « هل » بمعنى « قد » في الاستفهام خاصة ، والأصل : « أهل »؛ بدليل قوله : [ البسيط ]
5019- سَائِلْ فَوَارِسَ يَرْبُوعٍ لِشدَّتِنَا ... أهَلْ رَأوْنَا بوَادِي القِفِّ ذِي الأكَمِ؟
فالمعنى : أقد أتى ، على التقرير والتقريب جميعاً ، أي أتى على الإنسان قبل زمان قريب « حين من الدهر لم يكن » فيه { شَيْئاً مَّذْكُوراً } أي : شيئاً منسيّاً غير مذكور انتهى .
فقوله « على التقرير » يعني المفهوم من الاستفهام ، وهو الذي فهمه مكي من نفس « هل » لا تكون بمعنى « قد » إلا ومعها استفهام لفظاً كالبيت المتقدم ، أو تقريراً كالآية الكريمة .
فلو قلت : هل جاء زيد ، يعني : قد قام ، من غير استفهام لم يجز . وغيره قد جعلها بمعنى « قد » من غير هذا القَيْدِ .
وبعضهم لا يجيز ذلك ألبتة ويتأول البيت المتقدم على أنه مما جمع فيه بين حرفي معنى للتأكيد ، وحسن ذلك اختلاف لفظهما؛ كقوله : [ الطويل ]
5020- فأصْبَحْنَ لا يَسْألنَنِي عَنْ بِمَا بِهِ ... فالباء بمعنى « عن » وهي مؤكدة لها ، وإذا كانوا قد أكدوا مع اتفاق اللفظ؛ كقوله : [ الوافر ]
5021- فَلاَ - واللَّهِ - لا يُلْفَى لِمَا بِي ... ولا لِلمَا بِهِمْ أبَداً دَوَاءُ
فلأن يؤكد مع اختلافه أحرى ، ولم يذكر الزمخشري غير كونها بمعنى « قد » ، وبقي على الزمخشري قيد آخر ، وهو أن يقول : في الجمل الفعلية ، لأنه متى دخلت « هل » على جملة اسمية استحال كونها بمعنى « قد » لأن « قد » مختصة بالأفعال .
قال شهاب الدين : وعندي أن هذا لا يرد لأنه تقرر أن « قد » لا تباشر الأسماء .
فصل في المراد بالإنسان المذكور في الآية
قال قتادة والثوري وعكرمة والشعبي : إن المراد بالإنسان هنا آدم - عليه الصلاة والسلام - وهو مروي عن ابن عباس .
وقيل : المراد بالإنسان : بنو آدم لقوله تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ } .
فالإنسان في الموضعين واحد وعلى هذا فيكون نظم الآية أحسن .
وقوله : { حِينٌ مِّنَ الدهر }
قال ابن عباس في رواية الضحاك أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ، ثم من حمإ مسنون أربعين سنة ، ثم من صلصال أربعين سنة ، فتم خلقه في مائة وعشرين سنة ، ثم نفخ فيه الروح .
وحكى الماوردي عن ابن عباس - رضي الله عنه - : أن الحين المذكور هاهنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره .
وقال الحسن : خلق الله تبارك وتعالى كل الأشياء ما يرى وما لا يرى من دوابّ البر والبحر في الأيام الست التي خلق الله - تعالى - فيها السماوات والأرض ، وآخر ما خلق آدم - عليه الصلاة والسلام - فهو كقوله تعالى : { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } .
فإن قيل : إن الطين والصلصال والحمأ المسنون قبل نفخ الروح فيه ما كان إنساناً ، والآية تقتضي أنه مضى على الإنسان حال كونه إنساناً { حينٌ من الدَّهْرِ } مع أنه في ذلك الحين ما كان شيئاً مذكوراً .
فالجواب : أن الطين والصلصال إذا كان مصوراً بصورة الإنسان ، ويكون محكوماً عليه بأنه سينفخ فيه الروح ، ويصير إنساناً صح تسميته بأنه إنسان ، ومن قال : إن الإنسان هوالنَّفس الناطقة ، وأنها موجودة قبل وجود الأبدان فالإشكال عنهم زائل ، واعلم أنَّ الغرض من هذا التنبيه على أن الإنسان محدث ، وإذا كان كذلك فلا بد من محدث قادر .
قوله : « لم يكن » في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها في موضع نصب على الحال من الإنسان أي هل أتى عليه حين في هذه الحال .
والثاني : أنها في موضع رفع نعتاً ل « حين » بعد نعت ، وعلى هذا فالعائد محذوف ، تقديره : حين لم يكن فيه شيئاً مذكوراً . والأول أظهر لفظاً ومعنى .
فصل في تفسير الآية
روى الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى : { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } : لا في السماء ولا في الأرض .
وقيل : كان جسداً مصوراً تراباً وطيناً لا يعرف ولا يذكر ، ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به ثم نفخ فيه الروح فصار مذكوراً . قاله الفراء وقطرب وثعلب .
وقال يحيى بن سلام : { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ، ولم يخلق حيواناً بعده ، ومن قال : إنَّ المراد من الإنسان الجنس من ذرية آدم - عليه الصلاة والسلام - فالمراد بالحين تسعة أشهر مدة الحمل في بطن أمه { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } إذ كان مضغة وعلقة؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له .
وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لما قرأ هذه الآية : ليتها تمَّت فلا نبتلى ، أي ليت المدة التي أتت على آدم لم يكن شيئاً مذكوراً تمت على ذلك فلا يلد ولا يبتلى ، أولاده ، وسمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلاً يقرأ : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } فقال : ليتها تمّت .
قوله : { إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان } . يعني ابن آدم من غير خلاف « من نُطْفَة » أي : من ماء يقطر وهو المنيّ ، وكل ماء قليل في وعاء ، فهو نطفة؛ كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه : [ الرجز ]
5022- مَا لِي أرَاكِ تَكْرَهِينَ الجَنَّهْ ... هَلْ أنْتِ إلاَّ نُطفةٌ فِي شَنِّه؟
وجمعها : نطف ونطاف .
قوله : « أمْشَاجٍ » : نعت ل « نُطْفَةٍ » ووقع الجمع نعتاً لمفرد؛ لأنه في معنى الجمع كقوله تعالى : { رَفْرَفٍ خُضْرٍ } [ الرحمن : 76 ] أو جعل جزء من النطفة نطفة ، فاعتبر ذلك فوصفت بالجمع .
وقال الزمخشري : « نُطْفةٍ أمشاج » كبُرمةٍ أعشارٍ وبُرٍّ أكباش وثوب أخلاق وأرضٍ يباب وهي الفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد ، ويقال : نطفة مشج؛ قال الشماخ : [ الوافر ]
5023- طَوتْ أحْشَاءَ مُرْتِجَةٍ لوقتٍ ... عَلى مَشجٍ سُلالتُهُ مَهِينُ
ولا يصح في « أمْشَاجٍ » أن يكون تكسيراً له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما .
فقد منع أن يكون « أمشاج » جمع « مشج » بالكسر .
قال أبو حيان : وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن « أفعالاً » لا يكون مفرداً .
قال سيبويه : وليس في الكلام « أفْعَال » إلا أن يكسر عيله اسماً للجميع ، وما ورد من وصف المفرد ب « أفعال » تأولوه انتهى .
قال شهاب الدين : هو لم يجعل « أفعالاً » مفرداً ، إنما قال : يوصف به المفرد ، يعني التأويل ذكرته من أنهم جعلوا كل قطعة من البُرْمة بُرْمة ، وكل قطعة من البرد برداً ، فوصفوهما بالجمع .
وقال أبو حيان : « الأمشاج » : الأخلاط ، وأحدها « مَشَج » بفتحتين أو مشج كعدل وأعدال ، أو مشيج كشريف وأشراف . قاله ابن العربي؛ وقال رؤبة [ الرجز ]
5024- يَطْرَحْنَ كُلَّ مُعجلٍ مشَّاجِ ... لم يُكْسَ جِلْداً مِنْ دمٍ أمْشَاجِ
وقال الهذليُّ يصف السهم لهم بأنه قد نفذ في الرمية فالتطخ ريشه وفوقاه بدم يسير : [ الوافر ]
5025- كَأنَّ الرِّيشَ والفُوقيْنِ مِنْهُ ... خِلافُ النَّصْلِ سيطَ بِهِ مشيجُ
ويقال : مَشَج يمشُج مشجاً إذا خلط ، فمشيج ك « خليط » ، وممشوج ك « مخلوط » انتهى .
فجوز أن يكون جمعاً ل « مشيج » كعدل ، وقد تقدم أن الزمخشري منع من ذلك .
وقال الزمخشري : « ومشجه ومزجه بمعنى ، من نطفة قد امتزج فيها الماءَانِ » .
وقال القرطبي : ويقال : مشجت هذا بهذا أي : خلطته ، فهو ممشوج ومشيج ، مثل مخلواط وخليط ، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم ، وهو دم الحيض ، وذلك أنَّ المرأة إذا بلغت ماء الرجل وحبلت أمسك حيضها ، فاختلطت النُّطفة بالدم .
وقال الفراء : أمشاج : اختلاط ماء الرجل وماء المرأة ، والدم والعلقة .
روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : الأمشاج في الحمرة ، والبياض في الحمرة ، وعنه أيضاً قال : يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق ، فيخلق الولد فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل ، وما كان من لحم وشعر فهو من ماء المرأة .
قال القرطبي : « وقد روي هذا مرفوعاً؛ ذكره البزار » .
وعن ابن مسعود : أمشاجها عروق المضغة .
وقال مجاهد : نطفة الرجل بيضاء وحمراء ، ونطفة المرأة خضراء وصفراء .
وقال ابن عباس : خلق من ألوان ، خلق من تراب ثم من ماء الفرج والرحم وهي نطفة ثم علقة ، ثم مضغة ثم عظم ثم لحم ، ونحوه .
قال قتادة : هي أطوار الخلق : طوراً نطفة ، وطوراً علقة ، وطوراً مضغة ، وطوراً عظاماً ، ثم يكسو العظام لحماً .
قال ابن الخطيب : وقيل : إن الله - تعالى - جعل في النطفة أخلاطاً من الطَّبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، والتقدير : من نطفة ذات أمشاج ، فحذف المضاف وتم الكلام .
قوله : « نبتليه » . يجوز في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها حال من فاعل خلقنا ، أي : خلقناه حال كوننا مبتلين له .
والثاني : أنها حال من الإنسان ، وصح ذلك لأن في الجملة ضميرين كل منهما يعود على ذي الحال ، ثم هذه الحال أن تكون مقارنة إن كان معنى « نبتليه » نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة كما قال ابن عباس وأن تكون مقدرة إن كان المعنى نبتليه نختبره بالتكليف؛ لأنه وقت خلقه غير مكلف .
وقال الزمخشري : « ويجوز أن يكون ناقلين له من حال إلى حال ، فسمي بذلك ابتلاء على طريق الاستعارة » .
قال شهاب الدين : « وهذا معنى قول ابن عباس المتقدم » .
وقال بعضهم : في الكلام تقديم وتأخير ، والأصل : إننا جعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه ، أي : جعلنا له ذلك للابتلاء ، وهذا لا حاجة إليه .
فصل في تفسير قوله تعالى نبتليه
قوله : « نبتليه » : لنبتليه ، كقولك : « جئتك أقضي حقك ، أي لأقضي حقك وآتيك أستمنحك كذا » ونظيره قوله تعالى : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ }
[ المدثر : 6 ] أي : لتستكثر .
ومعنى : « نبتليه » نختبره ، وقيل : نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار ، وفيما يختبر به وجهان :
أحدهما : قال الكلبي : نختبره بالخير والشر .
والثاني : قال الحسن : نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء .
وقيل : « نَبْتَلِيه » نكلّفه بالعمل بعد الخلق . قاله مقاتل رحمه الله . وقيل : نكلفه؛ ليكون مأموراً بالطاعة ، ومنهياً عن المعاصي .
وقوله : { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } .
والمعنى : إنا خلقناه في هذه الأمشاج لا للعبث بل للابتلاء والامتحان ، ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر ، وهما كنايتان عن الفهم والتمييز ، لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة ، والمعنى : جعلنا له سمعاً يسمع به الهدى وبصراً يبصر به الهدى كما قال تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } [ مريم : 42 ] وقد يراد بالسميع المطيع ، كقوله : « سَمْعاً وطَاعَة » ، وبالبصير : العالم ، يقال : لفلان بصر في هذا الأمر .
وقيل : المراد بالسمع والبصر : الحاسَّتان المعروفتان ، والله - تعالى - خصهما بالذكر؛ لأنهما أعظم الحواس وأشرفهما .
قوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل } أي : بيَّنا له وعرفناه بطريق الهدى والضلال والخير والشر ببعث الرسل فآمن أو كفر .
وقال مجاهد : السبيل هنا خروجه من الرحم .
وقيل : منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله .
فصل في ان العقل متأخر عن الحواس
قال ابن الخطيب : أخبر الله - تعالى - أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى والضلال ، قال : والآية تدل على أن العقل متأخر عن الحواس ، وهو كذلك ثم ينشأ عنها عقائد صادقة أولية كعلمنا بان النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان ، وأن الكل أعظم من الجزء وهذه العلوم الأولية هي العقل .
قال الفراء : هذا يتعدى بنفسه وباللام .
قوله : { إِمَّا شَاكِراً } . نصب على الحال ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه حال من مفعول « هَدَيْنَاهُ » أي : هديناه مبيناً له كلتا حالتيه .
قال أبو البقاء : وقيل : وهي حال مقدرة .
قال شهاب الدين : لأنه حمل الهداية على أول البيان له وفي ذلك الوقت غير متصف بإحدى الصفتين .
والثاني : أنه حال من « السبيل » على المجاز .
قال الزمخشري : « ويجوز أن يكونا حالين من السبيل أي عرفناه السبيل ، إما سبيلاً شاكراً ، وإما سبيلاً كفوراً ، كقوله تعالى : { وَهَدَيْنَاهُ النجدين } [ البلد : 10 ] ، فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً » .
والعامة على كسر همزة « إما » وهي المرادفة ل « أو » وقد تقدم خلاف النحويين فيها .
ونقل مكي عن الكوفيين أن هاهنا : « إن » الشرطية زيدت بعدها « ما » ثم قال : « وهذا لا يجيزه البصريون؛ لأن » إن « الشرطية لا تدخل على الأسماء إلاَّ أن يضمر فعل نحو : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين } [ التوبة : 6 ] ، ولا يصح إضمار الفعل ، ويمكن أن يضمر فعل ينصب » شاكر « ، وأيضاً لا دليل على الفعل » انتهى .
قال شهاب الدين : لا نسلم أنه يلزم رفع « شاكراً » مع إضمار الفعل ، ويمكن أن يضمر فعل ينصب « شاكراً » تقديره : إنا خلقناه شاكراً فشكوراً ، وإنا حلقناه كافراً فكفوراً .
وقرأ أبو السمال ، وأبو العجاج : بفتحها ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنها العاطفة وأنها لغة ، وبعضهم فتح الهمزة؛ وأنشدوا على ذلك : [ الطويل ]
5026- تُنفِّخُهَا أمَّا شِمالٌ عَرِيَّةٌ ... وأمَّا صَبَا جُنحِ العَشِيِّ هَبُوبُ
بفتح الهمزة .
ويجوز مع فتح الهمزة إبدال ميمها الأولى ياء؛ قال [ البسيط ]
5027- أيْمَا إلَى جَنَّةٍ أيْمَا إلى نَارِ ... وحذف الواو بينهما .
والثاني : أنها « إما » التفصيلية وجوابها مقدر .
قال الزمخشري : وهي قراءة حسنة ، والمعنى : إما شاكراً فبتوفيقنا ، وإما كفوراً فبسوء اختياره انتهى ، ولم يذكر غيره .
فصل في الكلام على الآية
قال ابن الخطيب بعد حكايته أن « شاكراً وكفوراً » حالان : إنّ المعنى : كلما يتعلق بهداية الله تعالى وإرشاده فقد تم حالتي الكفر والإيمان .
وقيل : وانتصب « شاكراً وكفوراً » بإضمار « كان » والتقدير : سواء كان شاكراً أو كان كفوراً .
وقيل : معناه إن هديناه السبيل ليكون إما شاكراً وإما كفوراً ، أي يتميز شكره من كفره ، وطاعته من معصيته كقوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الملك : 2 ] قال القفال : ومجاز هذه الكلمة على هذا التأويل كقولك : « قد نصحت لك إن شئت فاقبل ، وإن شئت قاترك » فتحذف الفاء ، وقد يحتمل أن يكون ذلك على جهة الوعيد ، أي : إنا هديناه السبيل ، فإن شاء فليشكر ، وإن شاء فليكفر فإنا قد أعتدنا للكافرين كذا قوله { وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] .
وقيل : حالان من السبيل ، فإن شاء فليشكر ، وإن شاء فليكفر .
وقيل : حالان من السبيل ، أي عرفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً ، ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز .
قال ابن الخطيب : وهذه الأقوال لائقةٌ بمذهب المعتزلة .
وقيل قول الخامس مطابق لمذهب أهل السنة واختاره الفراء وهو أن تكون « إما » في هذه الآية كما في قوله تعالى : { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 106 ] والتقدير : إنا هديناه السبيل ، ثم جعلناه تارة شاكراً ، وتارة كفوراً ويؤيده قراءة أبي السمال المتقدمة ، قالت المعتزلة : هذا التأويل باطل لتهديده الكفار بعد هذه الآية بقوله تعالى { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً } [ الإنسان : 4 ] ولو كان كفر الكافر من الله وبخلقه لما جاز منه أن يهدده عليه ، ولما بطل هذا التأويل الأول ، وهو أنه - تعالى - هدى جميع المكلفين ، سواء آمن أو كفر ، وبهذا بطل قول المجبرة .
وأجيب : بأنه - تعالى - لما علم من الكافر أنه لا يؤمن ، ثم كلفه بأن يؤمن فقد كلفه بالجمع بين العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان ، وهذا تكليف بالجمع بين متنافيين ، فإن لم يصر هذا عذراً في سقوط التهديد والوعيد جاز ايضاً أن يخلق الكفر فيه ، ولا يصير ذلك عذراً في سقوط التهديد والوعيد ، فإذا ثبت هذا ظهر أن هنا التأويل هوالحق ، وبطل تأويل المعتزلة .
فصل في جمعه تعالى بين الشاكر والكفور
قال القرطبي : « جمع بين الشاكر والكفور ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى المبالغة نفياً للمبالغة في الشكر ، وإثباتاً لها في الكفر؛ لأن شكر الله - تعالى - لا يؤدّى فانتفت عنه المبالغة ، ولم ينتف عن الكفر المبالغة فقلَّ شكره لكثرة النعم عليه وكثرة كفره وإن قلّ مع الإحسان إليه ، حكاه الماوردي » .
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
قوله تعالى : { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ } .
قرأ نافع والكسائي ، وهاشم وأبو بكر ، « سَلاسِلاً » والباقون : بغير تنوين .
ووقف هؤلاء ، وحمزة ، وقنبل عليه بالألف بلا خلاف .
وابن ذكوان والبزي وحفص : بالألف وبدونها - يعني بلا ألف - والباقون : وقفوا بالألف بلا خلاف .
فقد تحصّل من هذا أن القراء على أربع مراتب ، منهم من ينون وصلاً ويقف بالألف وقفاً بلا خلاف وهما حمزة وقنبل ، ومنهم من لم ينون ويقف بالألف بلا خلاف ، وهو أبو عمرو وحده ، ومنهم من لم ينون ويقف بالألف تارة وبدونها أخرى ، وهم ابن ذكوان وحفص والبزي ، فهذا ضبط ذلك .
فأما التنوين في « سَلاسِل » فذكروا له أوجهاً :
منها : أنه قصد بذلك التناسب؛ لأن ما قبله وما بعده منون منصوب .
ومنها : أن الكسائي وغيره من أهل « الكوفة » حكوا عن بعض العرب أنهم يصرفون جميع ما لا ينصرف إلا « أفعل منك » .
قال الأخفش : سمعنا من العرب من يصرف كل ما لا ينصرف؛ لأن الأصل في الأسماء الصرف ، وترك الصرف لعارض فيها ، وأن هذا الجمع قد جمع وإن كان قليلاً قالوا : « صواحب وصواحبات » ، وفي الحديث : « إنَّكُنَّ لصَواحِباتُ يُوسُف » ؛ وقال : [ الرجز ]
5028- قَدْ جَرتِ الطَّيْرُ أيَامِنينَا ... فجمع « أيامن » جمع تصحيح المذكر .
وأنشدوا : [ الكامل ]
5029- وإذَا الرِّجالُ رَأوا يَزيدَ رَأيْتهُمْ ... خُضعَ الرِّقابِ نَواكِس الأبْصَارِ
بكسر السين من « نواكس » وبعدها ياء تظهر خطًّا لا لفظاً لالتقاء الساكنين ، وهذا على رواية كسر السين ، والأشهر فيها نصب السين ، فلما جمع شابه المفردات فانصرف .
ومنها : أنه مرسوم في إمام « الحِجَاز » و « الكوفة » بالألف ، رواه أبو عبيد ، ورواه قالون عن نافع ، وروى بعضهم ذلك عن مصاحف « البصرة » أيضاً .
وقال الزمخشري : فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون هذه النون بدلاً من حرف الإطلاق ، ويجري الوصل مجرى الوقف .
والثاني : أن يكون صاحب هذه القراءة ممن ضري برواية الشعر ومرن لسانه على صرف ما لا ينصرف .
قال شهاب الدين : « وفي هذه العبارة فظاظة وغلظة ، لا سيما على مشيخة الإسلام ، وأئمة العلماء الأعلام ، ووقف هؤلاء بالألف ظاهر » .
وأما لمن لم ينونه فظاهر ، لأنه على صيغة منتهى الجموع .
وقولهم : قد جمع نحو « صواحبات ، وأيامنين » لا يقدح؛ لأن المحذور جمع التكسير ، وهذا جمع تصحيح ، وعدم وقوفهم بالألف واضح أيضاً . وأما من لم ينون ووقف بالألف فاتباعاً للرسم الكريم كما تقدم .
وأيضاً : فإن الروم في المفتوح لا يجوزه القراء ، والقارئ قد يبين الحركة في وقفه فأتوا بالألف ليبين منها الفتحة .
وروي عن بعضهم أنه يقول : « رَأيْتُ عُمَراً » بالألف ، يعني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - والسلاسل : جمع سلسلة وهي القيود في جهنم ، وقد تقدم الكلام عنها في سورة « الحاقة » .
فصل
اعلم أنه بيّن -هاهنا- حال الفريقين ، وأنه تعبد العقلاء ، وكلّفهم ومكّنهم مما أمرهم فمن كفر فله العقاب ، ومن وحد وشكر فله الثَّواب ، والاعتداد هو اعتداد الشَّيء حتى يكون عتيداً حاضراً متى احتيج إليه ، كقوله تعالى : { هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } [ ق : 23 ] ، والأغلال : جمع غل ، تغلّ بها أيديهم إلى أعناقهم . وقد تقدم الكلام في السعير أيضاً .
قوله تعالى : { إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ } الآية . لما ذكر ما أعد للكافرين ذكر ما أعد للشاكرين ، والأبرار أهل الصدق ، واحدهم : برّ ، وهو من امتثل أمر الله تعالى .
وقيل : البر : الموحد ، والأبرار : جمع « بار » مثل : « شاهد وأشهاد » .
وقيل : هو جمع « بر » مثل : « نهر وأنهار » .
وفي « الصحاح » : وجمع البر : الأبرار ، وجمع البار : البررة ، وفلان يبرُّ خالقه ويتبرره أي يطيعه ، والأم برة بولدها .
وروى ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّما سمَّاهُم اللهُ - تَعالَى - الأبْرَارَ؛ لأنَّهُمْ بَرُّوا الآبَاءَ والأبناءَ ، كما أنَّ لِوالديكَ عَلَيْكَ حقًّا ، كذَلكَ لَوَلدكَ عَليْكَ حقًّاً » .
وقال الحسن : البر الذي لا يؤذي الذَّرَّ .
وقال قتادة : الأبرار الذين يؤدّون حق الله ، ويوفون بالنذر ، وفي الحديث : « الأبْرَارُ الَّذينَ لا يُؤذُوَن أحَداً » .
{ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ } . أي : من إناء فيه الشراب .
قال ابن عباس : يريد الخمر .
والكأس في اللغة : الإناء فيه الشراب ، وإذا لم يسمَّ كأساً .
قوله تعالى : { كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } المزاج : ما يمزج به أي : يخلط ، يقال : مزجه يمزجه مزجاً أي : خلطه يخلطه خلطاً .
قال حسان : [ الوافر ]
5030- كَأنَّ سَبيَئةً من بَيْتِ رَأسٍ ... يَكونُ مَزَاجهَا عَسلٌ ومَاءُ
فالمزاج كالقِوام اسم لما يقاوم به الشيء ، ومنه مزاج البدن : وهو ما يمازجه من الصفراء والسوداء والحرارة والبرودة .
و « الكافور » : طيب معروف ، وكأن اشتقاقه من الكفر ، وهو الستر لأنه يغطي الأشياء برائحته ، والكافور أيضاً : كمائم الشجر الذي يغطّي ثمرتها .
قال بعضهم : الكافُور : « فاعول » من الكفر كالنّاقور من النَّقر ، والغامُوس من الغمس ، تقول : غامسته في الماء أي : غمسته ، والكفر : القرية والجبل العظيم؛ قال : [ الطويل ]
5031- .. تُطَلَّعُ ريَّاهُ من الكفَرَاتِ
والكافور : البحر ، والكَافِر : الليل ، والكَافِر : الساتر لنعم الله تعالى ، والكَافِر : الزارع لتوريته الحب في الأرض؛ قال الشاعر : [ السريع ]
5032- وكَافرٍ مَاتَ على كُُفْرِهِ ... وجَنَّةُ الفِرْدَوسِ للكَافِرِ
والكفَّارة : تغطية الإثم في اليمين الفاجرة والنذور الكاذبة بالمغفرة ، والكافور : ماء جوف شجر مكنون ، فيغرزونه بالحديد ، فيخرج إلى ظاهر الشجر ، فيضربه الهواء فيجمد وينعقد كالصمغ الجامد على الأشجار .
ويقال : كفر الرجل يكفر إذا وضع يده على صدره .
فصل في الآية
قال ابن الخطيب : مزج الكافور بالمشروب لا يكون لذيذاً ، فما السبب في ذكره؟ .
والجواب من وجوه :
أحدها : قال ابن عباس : اسم عين ماء في الجنة يقال له : عين الكافور أي : يمازجه ماء هذا العين التي تسمى كافوراً في بياض الكافور ورائحته وبرده ولكن لا يكون فيه طعمه ولا مضرته .
وثانيها : أن رائحة الكافور عرض ، والعرض لا يكون إلا في جسم ، فخلق الله تلك الرائحة في جرم ذلك التراب فسمي ذلك الجسم كافوراً وإن كان طعمه طيباً فيكون ريحها لا طعمها .
وثالثها : أن الله تبارك وتعالى يخلق الكافور في الجنة مع طعم لذيذ ويسلب عنه ما فيه من المضرّة ، ثم إنه - تعالى - يمزجه بذلك الشراب كما أنه تعالى يسلب عن جميع المأكولات والمشروبات ما معها من المضرات في الدنيا .
قال سعيد عن قتادة : يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك .
وقيل : أراد بالكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده ، لأن الكافور لا يشرب ، كقوله تعالى : { حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً } [ الكهف : 96 ] ، أي : كَنَارٍ .
وقيل : كان في علم الله تعالى ، و « كان » زائدة ، أي : من كأس مزاجها .
قال القرطبي : ويقال : « كافور وقافور » وهي قراءة عبد الله بالقاف بدل الكاف ، وهذا من التعاقب بين الحرفين كقولهم : « عربي فجّ وكجّ » .
ومفعول « يشربون » إما محذوف ، أي : يشربون ماء أو خمراً من كأس ، وإما مذكور وهو « عيناً » ، وإما « من كأس » و « من » مزيدة فيه ، وهذا يتمشّى عند الكوفيين والأخفش .
وقال الزمخشري : « فإن قلت : لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أولاً ، وبحرف الإلصاق آخراً؟ قلت : لأن الكأس مبدأ شربهم ، وأول غايته ، وأما العين فبها يمزجون شرابهم ، فكأن المعنى : يشرب عباد الله بها الخمر كما تقول : شربت الماء بالعسل » .
قوله : { عَيْناً } . في نصبها أوجه :
أحدها : بدل من « كافوراً »؛ لأن ماءها في بياض الكافور وفي رائحته وفي برده .
الثاني : أنها بدل من محل « من كأس » . قاله مكي . ولم يقدر حذف مضاف .
وقدر الزمخشري على هذا الوجه حذف مضاف ، قال : كأنه قيل : يشربون خمراً ، خمر عين . وأما أبو البقاء فجعل المضاف مقدراً على وجه البدل من « كافور » .
قال : « والثاني : بدل من كافور ، أي : من ماء عين ، أو خمر عين » . وهو معنى حسن .
والثالث : أنها مفعول ب « يشربون » يفسره ما بعده ، أي يشربون عيناً من كأس .
الرابع : أن ينتصب على الاختصاص .
الخامس : بإضمار « يشربون » يفسره ما بعده ، قاله أبو البقاء . وفيه نظر؛ لأن الظاهر أنه صفة ل « عين » فلا يصح أن يفسر .
السادس : بإضمار « يعطون » .
السابع : على الحال من الضمير في « مزاجها » . قاله مكي .
وقال القرطبي : « نصب بإضمار أعني » .
قوله : « يشرب بها » . في الباء أوجه :
أحدها : أنها مزيدة ، أي : يشربها ، ويدل له قراءة ابن أبي عبلة : يشربها معدى إلى الضمير بنفسه .
الثاني : أنها بمعنى « من » .
الثالث : أنها حالية ، أي : يشرب ممزوجة بها .
الرابع : أنها متعلقة ب « يشرب » والضمير يعود على الكأس ، أي : يشربون العين بذلك الكأس ، والباء للإلصاق كما تقدم في قول الزمخشري .
الخامس : أنه على تضمين « يشربون » معنى يلتذّون بها شاربين .
السادس : على تضمينه معنى يروى ، أي : يروى بها عباد الله ، وكهذه الآية الكريمة في بعض الأوجه قول الهذلي : [ الطويل ]
5033- شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ تَرفَّعَتْ ... مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ
فهذه يحتمل الزيادة ويحتمل أن تكون بمعنى « من » .
وقال الفراء : « يشربها ويشرب بها سواء في المعنى ، وكأن يشرب بها : يروى بها وينفع بها ، وأما يشربونها فبيِّن ، وأنشد قول الهذلي ، قال : ومثله : يتكلم بكلام حسن ، ويتكلم كلاماً حسناً » .
والجملة من قوله « يشرب بها » في محل نصب صفة ل « عيناً » إن جعلنا الضمير في « بها » عائداً على « عيناً » ولم نجعله مفسراً لناصب كما قاله أبو البقاء ، و « يفجرونها » في موضع الحال .
فصل في المراد بعباد الله هاهنا
قال ابن الخطيب : قوله : { يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله } يفيد أن كل عباد الله يشربون منها ، والكفار بالاتفاق لا يشربون على أن لفظ عباد الله مختص بأهل الإيمان ، وإذا ثبت هذا فقوله تعالى : { وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر } [ الزمر : 7 ] لا يتناول الكفار ، بل يختص بالمؤمنين ، فيصير تقدير الآية : لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر ، ولا تدل الآية على أنه - تعالى - لا يريد الكفر للكفار .
قوله : { يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } . أي : يشققونها شقًّا كما يفجر الرجل النَّهر هاهنا وهاهنا إلى حيث شاءوا ، ويتبعهم حيث مالوا مالت معهم .
روى القرطبي عن الحسن - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أرْبع عُيونٍ في الجَنَّةِ اثْنان يَجْرِيَانِ مِنْ تَحْتِ العَرْشِ؛ إحداهما الَّتِي ذَكَرَ اللهُ تعالى يُفجِّرونها تفجيراً وعينان يجريان من فَوْقِ العرشِ نضَّاختان : إحداهُما الَّتي ذكر اللهُ تعالى سبيلاً ، والأُخرى : التَّسْنِيمُ » ذكره الحكيم الترمذي في « نوادر الأصول » .
وقال : فالتَّسْنيم للمقربين خاصة ، شراباً لهم ، والكافور للأبرار شراباً لهم ، يمزج للأبرار من التسنيم شرابهم ، وأما الزَّنجبيل والسَّلسبيل فللأبرار [ منها مزاج هكذا ذكره في التنزيل وسكت عن ذكر ذلك لمن هي شرب فما كان للأبرار مزاج ] للمقربين صرف ، وما كان للأبرار صرف فهو لسائر أهل الجنة مزاج ، والأبرار هم الصادقون والمقربون : هم الصديقون .
قوله تعالى : { يُوفُونَ بالنذر } يجوز أن يكون مستأنفاً لا محلَّ له ألبتة ، ويجوز أن يكون خبراً ل « كان » مضمرة .
قال الفراء : التقدير « كانوا يوفون بالنَّذر في الدنيا ، وكانوا يخافُون » انتهى . وهذا لا حاجة إليه .
الثالث : جواب لمن قال : ما لهم يرزقون ذلك؟ .
قال الزمخشري : « يوفون » جواب من عيسى يقول : ما لهم يرزقون ذلك؟ .
قال أبو حيان : « واستعمل » عسى « صلة ل » من « وهو لا يجوز ، وأتى بالمضارع بعد » عسى « غير مقرون ب » أن « وهو قليل أو في الشعر » .
فصل في معنى الآية
معناه : لا يخلفون إذا نذروا ، وقال معمر عن قتادة : يأتون بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وغيره من الواجبات .
وقال مجاهد وعكرمة : يوفون إذا نذروا في حق الله تعالى .
وقال الفراء والجرجاني : وفي الكلام إضمار ، أي : كانوا يوفون بالنذر في الدنيا والعرب قد تزيد مرة « كان » وتحذف أخرى .
وقال الكلبي : « يُوفُونَ بالنَّذرِ » أي : يتممون العهود لقوله تعالى { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله } [ النحل : 91 ] و { أَوْفُواْ بالعقود } [ المادة : 1 ] أمرٌ بالوفاء بها؛ لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان .
قال القرطبي : « والنذر : حقيقته ما أوجبه المكلف على نفسه [ من شيء يفعله ، وإن شئت قلت في حد النذر هو إيجاب المكلف على نفسه ] من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه » .
وقال ابن الخطيب : الإيفاءُ بالشيء هو الإتيان به وافياً .
وقال أبو مسلم : النذر كالوعد ، إلا أنه إذا كان من العباد فهو نذر ، وإن كان من الله فهو وعد ، واختص هذا اللفظ في عرف الشرع بأن تقول : لله عليَّ كذا وكذا من الصدقة ، أو يسلم بأمر يلتمسه من الله - تعالى - مثل أن تقول : إن شفى الله مريضي ، أو ردَّ غائبي فعليَّ كذا وكذا ، واختلفوا فيما إذا علق ذلك بما ليس من وجوه البر كقوله : إن أتى فلان الدَّار فعلى هذا ، فمنهم من جعله كاليمين ، ومنهم من جعله من باب النذور .
فصل في المراد بالإيفاء بالنذر
قال القشيري : روى أشهب عن مالك - رضي الله عنه - أنه قال « يُوفُونَ بالنَّذْرِ » هو نذر العتق ، والصيام والصلاة .
وروى عنه أبو بكر بن عبد العزيز قال : قال مالك : « يُوفُونَ بالنَّذرِ » قال : النذر هو اليمين .
قال ابن الخطيب : هذه الآية تدلّ على وجوب الوفاء بالنذر؛ لأنه تعالى قال عقيبه : « ويخَافُونَ يَوْماً » وهذا يقتضي أنهم إنما وفَّوا بالنذر خوفاً من شر ذلك اليوم ، والخوف من شر ذلك اليوم لا يتحقق إلا إذا كان الوفاء به واجباً ويؤكده قوله تعالى :
{ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } [ النحل : 91 ] وقوله تعالى : { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } [ الحج : 29 ] وهذا محتمل ليوفوا أعمال نسكهمُ التي ألزموها أنفسهم .
فصل في زيادة كان
قال الفراء وجماعة من أهل المعاني : « كان » في قوله تعالى : { كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } زائدة وأما هاهنا فكان محذوفة ، والتقدير : كانوا يوفون بالنذر .
قال ابن الخطيب : ولقائل أن يقول : إنا بينا أن « كان » في قوله تعالى : { كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } ليست بزائدة ، وأما في هذه الآية فلا حاجة إلى إضمارها؛ لأنه - تعالى - ذكر في الدنيا أن الأبرار يشربون أي : سيشربون ، فإن لفظ المضارع مشترك ين الحال والاستقبال ، ثم قال السبب في ذلك الثواب الذي سيجدونه أنه الآن يوفون بالنذر .
قوله : { وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } ، أي : يخافون يوم القيامة ، و « كَانَ شَرُّهُ » في موضع نصب صفة ل « يَوْم » .
و « المُسْتطِيرُ » : المنتشر ، يقال : اسْتَطَار يَسْتطِيرُ اسْتيطَاراً ، فهو مستطير ، وهو « استفعل » من الطيران .
قال الأعشى : [ المتقارب ]
5034- فَبَانَتْ وقَدْ أسْأرَتْ في الفُؤا ... دِ صَدعاً على نَأيِهَا مُسْتَطيرَا
والعرب تقول : استطار الصدع في القارورة والزجاجة ، أو استطال إذا امتدّ ، ويقال : استطار الحريق إذا انتشر .
وقال الفرَّاء : المستطير : المستطيل ، كأنه يريد أن مثله في المعنى ، لأنه أبدل من اللام راء ، والفجر : فجران ، مستطيل كذنبِ السَّرحان وهو الكاذب ، ومستطير ، وهو الصادق لانتشاره في الأفق .
قال قتادة : استطار والله شرُّ ذلك اليوم حتى ملأ السماوات والأرض .
وقال مقاتل : كان شره فاشياً في السموات ، فانشقت وتناثرت بالكواكبِ وفزعت الملائكة في الأرض ، ونسفت الجبال وغارت المياه .
فإن قيل : أحوال القيامة وأهوالها كلها فعل الله تعالى ، وكل ما كان فعلاً لله ، فهو حكمه وصواب ، وما كان كذلك لا يكون شرًّا ، فكيف وصفها الله بأنها شرّ؟ .
والجواب : إنما سميت شرًّا لكونها مضرة بمن تنزل عليه ، وصعبة عليه كما سميت الأمراض ، وسائر الأمور المكروهة شروراً .
قال ابن الخطيب : وقيل : المستطير هو الذي يكون سريع الوصول إلى أهله ، وكأن هذا القائل ذهب إلى أن الطيران إسراع .
فإن قيل : لم قال : كان شره ، ولم يفل : سيكون شره مستطيراً؟ .
فالجواب : أن اللفظ وإن كان للماضي إلا أن معناه كان شره في علم الله وحكمته .
قوله : { وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ } وهذا الجار والمجرور حال إما من « الطعام » أي : كائنين على حبهم الطعام كقوله تعالى : { وَآتَى المال على حُبِّهِ } [ البقرة : 177 ] .
قال ابن عباس ومجاهد : على قلة حبهم إياه وشهوتهم له ، وإما من الفاعل .
والضمير في « حبه » لله تعالى ، أي : على حب الله ، وعلى التقدير : فهو مصدر مضاف للمفعول .
قال الفضيل بن عياض : على حب إطعام الطَّعام .
قوله « مسكيناً » . أي : ذا مسكنة ، « ويَتيماً » أي : من يتامى المسلمين « وأسِيراً » أي : الذي يؤسر فيحبس ، وذلك أن المسكين عاجز عن الاكتساب بنفسه ، واليتيم : هو الذي مات من يكتسب له ، وبقي عاجزاً عن الكسبِ لصغره ، والأسير : هو المأخوذ من قومه المملوك رقبة ، الذي لا يملك لنفسه نصراً ولا حيلةً .
قال ابن عباس والحسن وقتادة : الأسير من أهل الشرك يكون في أيديهم .
فإن قيل : لمَّا وجب قتله ، فكيف يجب إطعامه؟ .
فالجواب : أن القتل في حال لا يمنع من الإطعام في حال أخرى ، ولا يجب إذا عوقب بوجهٍ أن يعاقب بوجه آخر ، وكذلك لا يحسن فيمن عليه قصاص أن يفعل به ما هو دون القتل ، ويجب على الإمام أن يطعمه فإن لم يفعله الإمام وجب على المسلمين .
وقال مجاهد وسعيد بن جبير : الأسير : المحبوس .
وقال السديُّ : الأسير : المملوك ، وقيل : الأسير : الغريم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أسِيرُكَ غَريمُكَ » وقال عطاء : الأسير من أهل القبلةِ وغيرهم .
قال القرطبي : « هذا يعم جميع الأقوال ، ويكون إطعام الأسير المشرك قربة إلى الله تعالى ، غير أنه من صدقة التطوع ، فأما المفروضة فلا » .
وقيل : الأسير : الزوجة ، قال صلى الله عليه وسلم : « اتَّقُوا اللهَ فِي النِّساءِ ، فإنَّهُنَّ عوانٍ عِنْدكُمْ » .
قال القفال : واللفظ يحتمل كل ذلك؛ لأن أصل الأسر هو الشك بالقدر ، وكان الأسير يفعل به ذلك حبساً له .
فصل في الكلام على الآية
قال القرطبي : قيل نسخ آية المسكين آية الصدقات ، وإطعام الأسير بالسيف قاله سعيد بن جبير .
وقال غيره : بل هو ثابت الحكم ، وإطعام اليتيم والمسكين على التطوع ، وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلى أن يتخير فيه الإمام .
وقال الماورديُّ : ويحتمل أن يريد بالأسير الناقص العقل؛ لأنه في أسر خبله وجنونه ، وأسر المشرك انتقام يقف على رأي الإمام ، وهذا برٌّ وإحسان .
قوله { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله } على إضمار القول ، أي : يقولون بألسنتهم لليتيم والمسكين والأسير إنما نطعمكم في الله - جل ثناؤه - فزعاً من عذابه وطمعاً في ثوابه { لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } أي : ولا تثنوا علينا بذلك .
قال ابن عباس : كذلك كانت نيَّاتهم في الدنيا حين أطعموا .
وعن مجاهد : أما إنهم ما تكلموا به ، ولكن علمه الله منهم ، فأثنى به عليهم ليرغب في ذلك راغب .
قيل : هذه الآيات نزلت في مطعم بن ورقاء الأنصاري نذر نذراً فوفى به .
وقيل : نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر ، وهم سبعة من المهاجرين : أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعيد ، وأبو عبيدة - رضي الله عنهم - ذكره الماوردي .
وقال مقاتل : نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكيناً ، ويتيماً ، وأسيراً .
وقيل : نزلت في علي وفاطمة - رضي الله عنهما - وجارية لهما اسمها فضة .
قال القرطبي : نزلت في جميع الأبرار ، ومن فعل فعلاً حسناً ، فهي عامة ، وما ذكر عن عليٍّ ، وفاطمة لا يصح .
وروى جابر الجعفي في قوله تعالى : { يُوفُونَ بالنذر } ، عن قنبر مولى علي - رضي الله عنه - قال : مرض الحسن والحسين حتى عادهما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : يا أبا الحسن لو نذرت عن ولديك نذراً ، فقال عليٌّ - رضي الله عنه - إن برأ ولدي صمت ثلاثة أيام شكراً .
وقالت فاطمة - رضي الله عنها - مثل ذلك ، وقال الحسن والحسين مثل ذلك وذكر الحديث . قال أهل الحديث : جابر الجعفي كذاب .
فصل في الإحسان إلى الغير
قال ابن الخطيب : اعلم أن الإحسان إلى الغير تارة يكون لأجل الله ، وتارة يكون لغير الله ، إما طلباً لمكافأة أو طلباً لحمدٍ وثناء ، وتارة يكون لهما ، وهذا هو الشرك ، والأول هو المقبول عند الله ، وأما القسمان الباقيان فمردودان ، قال تعالى : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس } [ البقرة : 264 ] .
وقال تعالى : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون } [ الروم : 39 ] ، ولا شك أن التماس الشكر من جنس المنّ والأذى ، إذا عرفت ذلك فنقول : القوم لما قالوا : « إنَّما نُطعِمكُمْ لوجْهِ اللهِ » بقي فيه احتمال ، أنه أطعمه لوجه الله ولسائر الأغراض على سبيل التشريك ، فلا جرم نفى هذا الاحتمال بقوله تعالى : { لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } .
فصل في الشكر والكفور
الشُّكور والكُفور : مصدران ك « الشكر والكفر » وهو على وزن « الدُّخول والخُروج » هذا قول جمهور أهل اللغة .
وقال الأخفش : إن شئت جعلت الشكور ، جماعة الشكر ، وجعلت الكفور في قوله تعالى : { فأبى الظالمون إَلاَّ كُفُوراً } مثل « برد وبرود » وإن شئت جعلته مصدراً واحداً في معنى جمع مثل : قعد قعوداً ، وخرج خروجاً .
قوله : { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا } يحتمل وجهين :
أحدهما : إن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لإرادة مكافأتهم .
والثاني : لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالى علَّل المكافأة بخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة .
فإن قيل : إنه - تعالى - لما حكى عنهم الإيفاء بالنذر ، علَّل ذلك بخوف القيامة فقط ، ولما حكى عنهم الإطعام علل ذلك بأمرين : بطلب رضا الله تعالى ، وبالخوف ، فما الحكمة في ذلك؟ .
فالجواب : أن النذر هو الذي أوجبه على نفسه لأجل الله ، فلما كان كذلك ، لا جرم علله بخوف القيامة فقط ، وإما الإطعام فالله - تعالى - هو الذي شرعه ، فلا جرم ضم إليه خوف القيامة .
قوله : { يَوْمَاً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } . القَمْطَرِيرُ : الشديد ، وأصله كما قال الزجاج : « مشتق من اقمطرّت الناقة إذا رفعت ذنبها ، وجمعت قطريها وزمت بأنفها » .
قال الزمخشري : اشتقاقه من القطر ، وجعلت الميم زائدة؛ قال أسد بن ناعصة : [ الخفيف ]
5035- واصْطَليْتَ الحُروبَ فِي كُلِّ يومٍ ... بَاسلَ الشَّرِّ قَمْطَريرَ الصَّباحِ
قال أبو حيان : واختلف النحاة في هذا الوزن ، والأكثر على أنه لا يثبت « افْمَعَلَّ » في أوزان الأفعال ويقال : اقمطرَّ يقمطرُّ فهو مقمطرّ؛ قال الشاعر : [ الرجز ]
5036- قَدْ جَعلَتْ شَبْوَةُ تَزبَئِرُّ ... تَكْسُو استهَا لَحْماً وتقْمَطِرُّ
ويوم قَمْطَرير وقُمَاطر : بمعنى شديد؛ قال الشَّاعرُ : [ الطويل ]
5037- فَفِرُّوا إذَا مَا الحَرْبُ ثَار غُبَارُهَا ... ولَجَّ بِها اليَوْمَ العَبُوسُ القُمَاطِرُ
وقال الزجاج : القَمْطَرير : الذي يعبسُ حتى يجتمع ما بين عينيه . انتهى .
فعلى هذا استعماله في اليوم مجاز ، وفي بعض كلام الزمخشري ، أنه جعله من « القمط » فعلى هذا تكون الرَّاءان فيه مزيدتين .
وقال القرطبي : « القمطرير : الطَّويل »؛ قال الشاعر :
5038- شَدِيداً عَبُوساً قَمْطَريراً ... تقول العرب : يوم قمطرير ، وقُماطر ، وعصيب بمعنى؛ وأنشد الفراء : [ الطويل ]
5039- بَنِي عَمَِّنَا هل تَذْكُرونَ بَلاءنَا ... عَليْكُمْ إذا مَا كَانَ يومٌ قُماطِرُ
بضم القاف ، واقمطرّ : إذا اشتد ، وقال الأخفش : القمطرير : أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء؛ وأنشد : [ الطويل ]
5040- فَفِرُّوا إذَا ما الحَرْبُ ... البيت المتقدم .
وقال الكسائي : يقال : اقمطرَّ اليوم وازمهرَّ اقمطراراً وازمهراراً ، وهو القمطريرُ والزمهريرُ ، ويوم مقمطرٌّ ، إذا كان صعباً شديداً؛ قال الهذليُّ : [ الطويل ]
5041- بَنُو الحَرْبِ ارضْعنَا لَهُم مُقمطرَّةً ... ومَنْ يُلقَ مِنَّا ذلِكَ اليَوْمَ يهْربِ
و « العبوس » أيضاً صفة ل « اليوم » ، « يوماً » تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته ، والمعنى : نخاف يوماً ذا عبوس .
وقال ابن عباس : يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل منه عرقٌ كالقطران .
وقال مجاهد : إن العبوس بالشَّفتين ، والقَمْطرير بالجبهةِ والحاجبينِ فجعلهما من صفات الوجه المتغيّر من شدائد ذلك اليوم .
قوله : { فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم } . أي : دفع عنهم بأس ذلك اليوم وشدته وعذابه .
وقرأ أبو جعفر : « فوقَّاهم الله » بتشديد القاف على المبالغة .
واعلم أنه - تعالى - لما حكى عنهم أنهم أتوا بالطاعات لغرضين : لأجل رضا الله تعالى والخوف من القيامة ، بيّن هنا أنه أعطاهم هذين الغرضين وهو أنه حفظهم من أهوال القيامة ، وهو قوله جل ثنائه { فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم } وأما طلبهم رضا الله فاعطاهم الله بسببه « نُضْرةً » في الوجه ، أي : حسناً ، حين رأوه ، « وسروراً » في القلب قال الضحاك : النضرة : البياض والنقاء .
وقال ابن جبير : الحسن والبهاء .
وقال ابن زيد : أثر النعمة .
قوله تعالى : { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ } . « ما » مصدرية ، و « جنَّة » مفعول ثانٍ ، أي : جزاهم جنة بصبرهم وقدر مكي مضافاً ، فقال : تقديره دخول الجنة ، ولبس حرير ، والمعنى : وجزاهم بصبرهم على الفقر .
وقال القرظي : على الصوم .
وقال عطاء : على الجوع ثلاثة أيام ، وهي أيام نذر .
وقيل : بصبرهم على طاعة الله ، وصبرهم عن معصية الله ومحارمه ، وهذا يدل على أن الآيات نزلت في جميع الأبرار ، ومن فعل فعلاً حسناً .
وروى ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عن الصبر ، فقال : « الصَّبْرُ عند الصَّدمةِ الأولَى ، والصَّبرُ على أداءِ الفَرائضِ ، والصَّبرُ على اجتنابِ محارم اللهِ تعالى ، والصَّبرُ على المَصائبِ » .
قوله تعالى : { جَنَّةً وَحَرِيراً } . أي : أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير .
قوله : { مُّتَّكِئِينَ } . حال من مفعول « جزاهم » والعامل فيها « جزى » ولا يعمل فيها « صبروا »؛ لأن الصبر إنما كان في الدنيا والاتِّكاء في الآخرة .
وقرأ علي - رضي الله عنه - « وجازاهم » .
وجوَّز أبو البقاء : أن يكون صفة ل « جَنَّةً » .
وهذا لا يجوز عند البصريين؛ لأنه كان يلزم بروز الضمير ، فيقال : « مُتَّكِئِينَ هُمْ فِيهَا » لجريان الصفة على غير من هي له .
وقد منع مكي أن يكون « متكئين » صفة ل « جنة » لما ذكرنا من عدم بروز الضمير .
وممن ذهب إلى كون « متكئين » صفة ل « جنة » ، الزمخشري ، فإنه قال : « ويجوز أن يكون مُتَّكينَ ، ولا يَروْنَ ، ودَانيةً ، كلها صفات الجنة » . وهو مردود بما تقدم .
ولا يجوز أن يكون « متكئين » حالاً من فاعل « صبروا »؛ لأن الصبر كان في الدنيا ، واتكاؤهم إنما هو في الآخرة . قال معناه مكي .
ولقائل أن يقول : إن لم يكن المانع إلا هذا فاجعلها حالاً مقدرة ، لا ما لهم بسبب صبرهم إلى هذه الحالة ، وله نظائر .
قال ابن الخطيب : وقال الأخفش : وقد ينصب على المدح والضمير في « فيها » أي في الجنة وقال الفراء : وإن شئت جعلت « متكئين » تابعاً ، كأنه قال : جزاؤهم جنة متكئين فيها .
والأرائك : السُّرُر في الحجال ، وجاءت عن العرب أسماء تحتوي على صفات : إحداها الأريكة لا تكون إلاَّ حجلة على سرير . وثانيها : السَّجل ، وهو الدلو الممتلئ ماء ، فإذا صفرت لم تسم سجلاً ، وكذلك الذنُوب لا تسمى ذَنوباً حتى تملأ ، قاله القرطبي .
وهذا فيه نظر ، لأنه قد ورد في شعر العرب يصف البازي؛ قال : [ الكامل ]
5042- ... يَغْشَى المُهَجْهِجْ كالذَّنُوبِ المُرسَلِ
يعني الدَّلو إذا ألقي في البئر ، وهو لا يلقى في البئر إلا إذا كان فارغاً .
قال : والكأس لا تسمى كأساً حتى تُترعَ من الخمر ، قال : وكذلك الطبق الذي تهدى فيه الهدية إذا كانت فيه يسمى مِهْدًى ، فإذا كان فارغاً يُسمَّى طبقاً أو خواناً .
قال ابن الأعرابي : مِهْدى - بكسر الميم - ، ولا يسمى الطبق مهدى إلا وفيه ما يهدى ، والمهداء - بالمد - الذي من عادته أن يهدى .
وقيل : الأرائك : الفرش على السرر؛ قال ذو الرمة : [ الطويل ]
5043- خُدودٌ جَفتْ في السَّيْرِ حتَّى كأنَّمَا ... يُبَاشِرْنَ بالمَعْزَاءِ مسَّ الأرَائِكِ
أي : الفرش على السرر .
قوله : { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً } . فيها أوجه :
أحدها : أنها حال ثانية من مفعول « جزاءهم » .
الثاني : أنها حال من الضمير المرفوع المستكن في « متَّكئينَ » فتكون حالاً متداخلة .
الثالث : أن تكون صفة ل « جنة » ك « متكئين » عند من يرى ذلك - كما تقدم - عن الزمخشري .
والزمهرير : أشد البرد ، وهذا هو المعروف؛ وقيل : هو القمرُ بلغة طيّيء ، وأنشد : [ الرجز ]
5044- فِي لَيْلةٍ ظلامُهَا قد اعْتكَرْ ... قطَّعتُهَا والزَّمهرِيرُ مَا نَهَرْ
ويروى : ما ظهر ، أي : لم يطلع القمر ، والمعنى : لا يرون فيها شمساً كشمس الدنيا ، ولا قمراً كقمر الدنيا ، أي : أنهم في ضياء مستديم ، لا ليل فيه ولا نهار لأن ضوء النهار بالشمس ، وضوء الليل بالقمر ، والمعنى : أن الجنة لا يحتاج فيها إلى شمس ولا إلى قمر ، ووزنه « فعلليل » ، وقيل : المعنى : لا يرون في الجنَّة شدة حر كحرِّ الشمس ، ولا زمهريراً ، أي : ولا برداً مفرطاً .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « اشْتَكَتِ النَّارُ إلى ربِّهَا سُبحانَهُ ، قالتْ : يَا ربِّ ، أكَلَ بَعْضِي بعْضاً ، فجعلَ لَهَا نفسينِ : نفساً في الشِّتاء ، ونفساً في الصَّيْف فشِدَّةُ ما تَجِدُونَ من البَرْدِ من زَمْهَرِيرِهَا ، وشدَّةِ ما تَجِدُونَ من الحرَِّ في الصَّيْفِ من سَمُومِهَا » .
قال مرة الهمداني : الزمهرير : البرد القاطع .
وقال مقاتل بن حيان : هو شيء مثل رؤوس الإبر ينزل من السماء في غاية البرد .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : هو لونٌ من العذاب ، وهو البرد الشديد ، حتى إن أهل النار أذا ألقوا فيه سألوا الله أن يعذبهم في النار ألف سنة أهون عليهم من عذاب الزمهرير يوماً واحد .
قوله : { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ } العامة على نصبها ، وفيها أوجه :
أحدها : أنها عطف على محل « لا يرون » .
الثاني : أنها معطوفة على « مُتَّكِئينَ » فيكون فيها ما فيها .
قال الزمخشري : « فإن قلت : » ودانية عليها ظلالها « علام عطفت؟ .
قلت : على الجملة التي قبلها؛ لأنها في موضع الحال من المجزيين ، وهذه حال مثلها عنهم لرجوع الضمير منها إليهم في » عليهم « ، إلاَّ أنها اسم مفرد ، وتلك جماعة في حكم مفرد ، تقديره : غير رائين فيها شمساً ، ولا زمهريراً ودانية عليهم ظلالها ، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم ، كأنه قيل : وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والقمر ودنو الظلال عليهم » .
الثالث : أنها صفة لمحذوف ، أي : وجنة دانية .
قال أبو البقاء : كأنه قيل : « وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً » أي : أخرى دانية عليهم ظلالها ، لأنهم قد وعدوا جنتين ، لأنهم خافوا مقام ربهم بقولهم : « إنَّا نخَافُ مِن ربِّنا يَوماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً » .
الرابع : أنها صفة ل « جنة » الملفوظ بها . قاله الزجاج .
وقال الفراء : نصب على المدحِ ، أي : دانية عليهم ، لقوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] .
وقرأ أبو حيوة : « ودانية » بالرفع ، وفيها وجهان :
أظهرهما : أن يكون « ظلالها » مبتدأ ، و « دانية » خبر مقدم ، والجملة في موضع الحال .
قال الزمخشري : « والمعنى : لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً ، والحال أن ظلالها دانية » .
والثاني : أن ترتفع « دانية » بالابتداء ، و « ظلالها » فاعل به ، وبها استدل الأخفش على جواز إعمال اسم الفاعل ، وإن لم يعتمد ، نحو « قائم الزيدون » ، فإن « دانية » لم تعتمد على شيء مما ذكره النحويون ، ومع ذلك فقد رفعت « ظلالها » .
وهذا لا حجة فيه لجواز أن يكون مبتدأ وخبراً مقدماً كما تقدم .
وقال أبو البقاء : وحكي بالجر ، أي : في جنة دانية ، وهو ضعيف ، لأنه عطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار . يعني أنه قرئ شاذاً : « وَدانِيةٍ » بالجر على أنها صفة لمحذوف ، ويكون حينئذٍ نسقاً على الضمير المجرور من قوله تعالى : { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا } أي : ولا في جنة دانية ، وهو رأي الكوفيين حيث يجوزون العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار ، ولذلك ضعفه ، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة .
وأما رفع « ظلالها » فيجوز أن يكون مبتدأ ، و « عليهم » خبر مقدم ، ولا يرتفع ب « دانية » ، لأن « دنا » يتعدى ب « إلى » لا ب « على » ، ويجوز أن ير فع ب « دانية » على أن يضمن معنى مشرفة؛ لأن « دنا » و « أشرف » متقاربان ، قال معناه أبو البقاء ، وهذان الوجهان جاريان في قراءة من نصب « دانية » .
وقرأ الأعمش : « ودانياً » بالتذكير للفصل بين الوصف وبين مرفوعه ب « عليهم » أو لأن الجمع مذكر .
وقرأ أبيّ : « ودَانٍ عَليْهِمْ » بالتذكير مرفوعاً ، وهي شاذة . فمذهب الأخفش حيث يرفع باسم الفاعل وإن لم يعتمد ، ولا جائز أن يعربا مبتدأ وخبراً لعدم المطابقة .
وقال مكي : « وقرئ » ودانياً « بالتذكير » ثم قال : « ويجوز : » ودانية « بالرفع ، ويجوز » دانٍ « بالرفع والتذكير » ، فلم يصرح بأنهما قرئا ، وقد تقدم أنهما مقروء بهما ، فكأنه لم يطلع على ذلك .
فصل في معنى الآية
قال المفسرون : معناه : أن ظل الأشجار في الجنة قريب من الأبرار فهي مظلة عليهم زيادة على نعيمهم .
قال ابن الخطيب : فإن قيل : الظل إنما يوجد حيث توجد الشمس ، وهناك لا شمس في الجنة ، فكيف يحصل الظل؟ .
فالجواب : أن أشجار الجنَّة تكون بحيث لو كان هناك شمس لكانت الأشجار مظلة منها وإن كان لا شمس ولا قمر كما أن أمشاطهم الذهب والفضة ، وإن كان لا وسخ ولا شعث . ثم قوله : { وَذُلِّلَتْ } يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال عطفاً على دانية فيمن نصبها ، أي : ومذللةا ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في « عليهم » سواء نصبت « دانية » أو رفعتها ، أو جررتها ، ويجوز أن تكون مستأنفة .
وأما على قراءة رفع « ودانية » فتكون جملة فعلية عطفت على اسمية ، ويجوز أن تكون حالاً كما تقدم .
فصل في تذليل قطوف الجنة
والمعنى : وسخرت لهم قطوفها ، أي : ثمارها « تذليلاً » أي : تسخيراً ، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك .
قال ابن قتيبة : « ذللت » أدنيت منهم ، من قولهم : حائط ذليل إذا كان قصير السمك .
وقيل : « ذُلِّلَتْ » أي : جعلت منقادة لا تمتنع على قطافها كيف شاءوا .
قال البراءُ بن عازب رضي الله عنه : ذلّلت لهم ، فهم يتناولون منها كيف شاءوا ، فمن أكل قائماً لم يؤذه ، ومن أكل جالساً لم يؤذه ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه .
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : إذا همَّ يتناول من ثمارها تدلّت إليه حتى يتناول منها ما يريد .
وتذليل القطوف : تسهيل التناول ، والقُطُوف : الثمار ، الواحد : قِطْف - بكسر القاف - سمي به؛ لأنه يقطف ، كما سمي الجَنَى لأنه يُجْنَى .
قوله : { تَذْلِيلاً } تأكيد لما وصف به من الذل ، كقوله تعالى : { وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } [ الإسراء : 106 ] { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } [ النساء : 164 ] .
قال الماوردي : ويحتمل أن تكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها ، وتخلص لهم من نواها وقال النحاس : ويقال : المذلل الذي قد ذلله الماء ، أي : أرواه .
ويقال : المذلل : الذي يفيئه أدنى ريح لنعمته ، ويقال : المسوى؛ لأن أهل الحجاز يقولون : ذَلَّلْ نخلك ، أي : سوِّه .
قوله : { وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ } لما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم وصف شرابهم ، وقد وصف الأواني التي يشرب بها ، ومعنى « يطاف » أي : يدور على هؤلاء الأبرار والخدم إذا أرادوا الشراب بآنية من فضة .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء ، أي : الذي في الجنة أشرف وأعلا ، ثم لم تنف الأواني الذهبية بل المعنى : يُسقوْنَ في أواني الفضة ، وقد يسقون في أواني الذهب ، كما قال تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] ، أي والبرد ، فنبه بذكر أحدهما على الأخرى . قوله : « بآنية » هذا هو القائم مقام الفاعل؛ لأنه هو المفعول به في المعنى ، ويجوز أن يكون « عليهم » .
و « آنية » جمع إناء ، والأصل : « أأنية » بهمزتين ، الأولى مزيدة للجمع ، والثانية فاء الكلمة ، فقلبت الثانية ألفاً وجوباً ، وهذا نظير : كساء وأكسية ، وغطاه وأغطية ونظيره في صحيح اللام : حمار وأحمرة .
وقوله : { مِّن فِضَّةٍ } نعت ل « آنية » .
قوله : { وَأَكْوابٍ } . الأكواب هي الكيزان العظام التي لا آذان لها ولا عرى ، الواحد منها كوب؛ وقال عدي : [ السريع ]
5045- مُتَّكِئاً تُقْرَعُ أبْوابهُ ... يَسْعَى عليْه العَبْدُ بالكُوبِ
قوله : { كَانَتْ قَوَارِيرَاْ } . اختلف القراءُ في هذين الحرفين بالنسبة إلى التنوين وعدمه ، وفي الوقوف بالألف وعدمها ، كما تقدم خلافهم في « سلاسل » .
واعلم أن القراء فيهما على خمس مراتب :
إحداها : تنوينهما معاً والوقف عليهما بالألف لنافع والكسائي وأبي بكر .
الثانية : مقابلة هذه ، وهي عدم تنوينهما ، وعدم الوقف عليهما بالأف ، لحمزة وحده .
الثالثة : عدم تنوينهما والوقف عليهما بالألف وعلى الثاني بدونها لهشام وحده .
والرابعة : تنوين الأول دون الثاني ، والوقف على الأول بالألف ، وعلى الثاني بدونها لابن كثير وحده .
الخامسة : عدم تنوينهما معاً ، والوقف على الأول بالألف ، وعلى الثاني بدونها ، لأبي عمرو ، وابن ذكوان ، وحفص .
فأما من نونهما فكما مرّ في تنوين « سلاسل »؛ لأنها صيغة منتهى الجموع ، ذاك على « مفاعل » وذا على « مفاعيل » ، والوقف بالألف التي هي بدل من التنوين ، وفيه موافقة للمصاحف المرسومة ، فإنهما مرسومان فيهما بالألف على ما نقل أبو عبيد .
وأما عدم تنوينهما وعدم الوقف بالألف عليهما فظاهر جدًّا .
وأما من نون الأول دون الثاني ، فإنه ناسب بين الأول وبين رءوس الآي ولم يناسب بين الثاني والأول والوجه في وقفه على الأول بالألف وعلى الثاني بغير ألف ظاهر .
وقد روى أبو عبيد أنه كذلك في مصاحف أهل « البصرة » .
وأما من لم ينونهما ، ووقف على الأول بالألف وعلى الثاني بدونها فلأن الأول رأس آية فناسب بينه وبين رءوس الآي في الوقف بالألف وفرق بينه وبين الثاني؛ لأنه ليس برأس آية .
وأما من لم ينونهما ، ووقف عليهما بالألف ، فلأنه ناسب بين الأول وبين رءوس الآي ، وناسب بين الثاني وبين الأول .
وحصل مما تقدم في « سَلاسِلا » وفي هذين الحرفين ، أن القراء منهم من وافق مصحفه ، ومنهم من خالفه لاتباع الأثر . وتقدم الكلام على « قوارير » في سورة « النمل » ولله الحمد .
وقال الزمخشري : « وهذا التنوين بدل من حرف الإطلاق لأنه فاصلة ، وفي الثاني لإتباعه الأول » . يعني أنهم يأتون بالتنوين بدلاً من حرف الإطلاق الذي للترنم؛ كقوله : [ الرجز ]
5046- يَا صَاحِ ، مَا هَاجَ الدُّمُوعَ الذُّرَّفَنْ ... وفي انتصاب « قوارير » وجهان :
أظهرهما : أنه خبر « كان » .
والثاني : أنها حال و « كان » تامة ، أي كونت فكانت .
قال أبو البقاء : « وحسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلها ، ولو كان التكرير لم يحسن أن يكون الأول رأس آية لشدة اتصال الصفة بالموصوف » .
وقرأ الأعمش : « قَوَارِيرُ » بالرفع ، على إضمار مبتدأ ، أي : هي قوارير ، و « مَنْ فضَّةٍ » صفة ل « قوارير » ، والمعنى : في صفاء القوارير ، وبياض الفضة ، فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة .
فصل في وصف تربة الجنة
رُوي أن أرض الجنة من فضة ، والأواني تتخذ من تربة الأرض التي منها ، ذكره ابن عباس رضي الله عنهما ، وقال : ليس في الجنة شيء إلا وقد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة .
قال ابن الخطيب : ومعنى « كانت » هو من يكون ، من قوله : { فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] أي : فتكونت قوارير بتكوين الله - تعالى - تفخيماً لتلك الخلقةِ العظيمة العجيبة الشأن ، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين ، ثم قال : فإن قيل : كيف تكون هذه الأكوابُ من فضة ومن قوارير؟ .
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن أصل القوارير في الدنيا الرَّمل ، وأصل قوارير الجنة هو فضة الجنة ، فكما أن الله - تعالى - قادر على أن يقلب الرمل الكثيف زجاجة صافية ، فكذلك قادر على أن يقلب فضة الجنة قارورة لطيفة ، فالغرض من ذكر هذه الآية التنبيه على أن نسبة قارورة الجنة إلى قارورة الدنيا كنسبة الفضة إلى الرمل فكما أنه لا نسبة بين هذين الأصلين فكذا بين القارورتين .
وثانيها : ما تقدم من قول ابن عباس - رضي الله عنهما- أنه ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء ، أي : أنها جامعة بين صفاء الزجاج وشفافيته وبين نقاء الفضة وشرفها .
وثالثها : أنه ليس المراد بالقوارير الزجاج ، بل العرب تسمي ما استدار من الأواني التي تجعل فيها الأشربة مما رق وصفا قارورة ، فالمعنى : وأكواب من فضة مستديرة صافية .
قوله : { تَقْدِيراً } صفة ل « قوارير » ، والواو في « قَدَّرُوها » فيها وجهان :
أحدهما : أنها عطف عليهم ، ومعنى تقديرهم إياها أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم ، فجاءت كما قدروا .
والثاني : أن الواو للطائفين للدلالة عليهم في قوله تعالى : « ويُطَافُ » ، والمعنى : أنهم قدروا شرابها على قدر ريِّ الشارب ، وهذا ألذ الشراب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنها ، ولا يعجز . قاله الزمخشري .
وجوز أبو البقاء : أن تكون الجملة مستأنفة .
قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : أتوا بها على قدر ريِّهم بغير زيادة ولا نقصان ، قال الكلبي : وذلك ألذّ وأشهى ، والمعنى : قدرتها الملائكة التي تطوف عليهم ، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قدروها على ملء الكف لا يزيد ولا ينقص حتى لا تؤذيهم بثقل ، أو بإفراط صغر .
وقرأ علي ، وابن عباس ، والسلمي ، والشعبي ، وزيد بن علي ، وعبيد بن عمير ، وأبو عمرو في رواية الأصمعي : « قُدِّروها » بضم القاف وكسر الدال مبنياً للمفعول أي : جعلت لهم على قدر إرادتهم .
وجعله الفارسي من باب المقلوب ، قال : كان اللفظُ قدروها عليها ، وفي المعنى قلب؛ لأن حقيقة المعنى أن يقال : قدرت عليهم ، فهي مثل قوله تعالى : { لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة } [ القصص : 76 ] ، ومثل قول العرب : إذا طلعت الجوزاء ، ألقى العود على الحرباء .
قال الزمخشري : ووجهه أن يكون من قدر منقولاً ، تقول : قدرت الشيء وقَدّرَنِيهِ فلان : إذات جعلك قادراً له ، ومعناه : جعلوا قادرين لها كما شاءوا وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا .
وقال أبو حاتم : قدرت الأواني على قدر ريهم ما لم يسمَّ فاعله فحذف الري فصارت الواو مكان الهاء والميم لما حذف المضاف مما قبلها ، وصارت الواو مفعول ما لم يسم فاعله ، واتصل ضمير المفعول الثاني في تقدير النصب بالفعل بعد الواو التي تحولت من الهاء والميم حتى أقيمت مقام الفاعل .
وفي هذا التخريج تكلف مع عجرفة ألفاظه .
وقال أبو حيان : والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يكون الأصل : قدر ريهم منها تقديراً ، فحذف المضاف وهو الري ، وأقيم الضمير بنفسه ، فصار قدروها ، فلم يكن فيه إلا حذف مضاف ، واتساع في الفعل .
قال شهاب الدين : وهذا منتزع من تفسير كلام أبي حاتم .
وقال القرطبي : وقال المهدوي : من قرأها « قدروها » فهو راجع إلى معنى القراءة الأخرى ، وكأن الأصل : قدروا عليها ، فحذف حرف الجر ، والمعنى : قدرت عليهم؛ وأنشد سيبويه البيت [ البسيط ]
5047- آلَيْتُ حَبَّ العِرَاقِ الدَّهْرَ آكُلُهُ ... والحَبُّ يأكُلهُ في القَرْيَةِ السُّوسُ
وذهب إلى أن المعنى : على حبّ العراق ، وقيل : هذا التقدير : هو أن الأقداح تطير فتغرف بمقدار شهوة الشَّارب ، وذلك قوله تعالى : { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } .
أي : لا يفضل عن الري ولا ينقص منه ، فقد ألهمت الأقداح معرفة مقدار ري المشتهي حتى تغترف بذلك المقدار . ذكر الحكيم الترمذي في « نوادر الأصول » .
قوله : { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً } . وهي الخمر في الإناء { كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً } ، « كان » صلة ، أي : مزاجها زنجبيل ، أو كان في حكم الله زنجبيلاً ، وكانت العرب يستلذُّون من الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته؛ لأنه يحذو اللسان ، ويهضم المأكول ، ويحدث في المشروب ضرباً من اللّذع ، فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب .
والزنجبيل : نبث معروف؛ وسميت الكأس بذلك؛ لوجود طعم الزنجبيل فيها؛ وأنشد الزمخشري للأعشى : [ المتقارب ]
5048- كَأنَّ القَرنْفُلَ والزَّنْجَبِي ... لَ بَاتَا بِفيهَا وأريْاً مَشُورا
وأنشد للمسيب بن علس يصف ثغر امرأة : [ الكامل ]
5049أ- وكَأنَّ طَعْمَ الزَّنْجبيلَِ بِهِ ... إذْ ذُقْتُهُ وسُلافَة الخَمْرِ
ويروى : وسلافَةُ الكَرْمِ .
وقال مجاهد : « الزنجبيل » اسم للعين التي منها مزاج شراب الأبرار ، وكذا قال قتادة : وقيل : هي عين في الجنة يوجد فيها طعم الزنجبيل .
والمعنى : كأن فيها ، وتكون قد عطفت « رأيت » الثاني على الأول ، ويكون فعل الجواب محذوفاً ، ويكون فعل الجواب المحذوف هو الناصب لقوله تعالى : { نَعِيماً } والتقدير : إذا صدر منك رؤية؛ ثم صدر منك رؤية أخرى رأيت نعيماً وملكاً فرأيت هذا هو الجواب .
فصل في بيان الخطاب لمن؟!
هذا الخطاب قيل : للنبي صلى الله عليه وسلم .
وقيل : عامّ ، والنعيم : ما يتنعم به .
والملك الكبير : قال سفيان الثوري : بلغنا أن الملك الكبير ، تسليم الملائكة عليهم .
وقيل : كون التيجان على رءوسهم كما يكون على رءوس الملوك .
وقال السديُّ ومقاتل : هو استئذان الملائكة عليهم .
وقال الحكيم والترمذي : هو ملك التكوين إذا أراد شيئاً قال له : كن .
وفي الخبر : أن الملك الكبير هو أن أدناهم منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام ، يرى أقصاه كما يرى أدناه ، وأن أفضلهم منزلة من ينظر في وجه ربِّه - تعالى - كل يوم مرتين .
و « عيناً » فيها من الوجوه ما تقدم ، قوله « سلسبيلاً » السلسبيل : ما سهل انحداره في الحلق ، قال الزجاج : هو في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة ، وقال الزمخشري : يقال : شراب سلسل وسلسال وسلسبيل ، وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية ، ودلت على غاية السلاسة .
قال أبو حيان : فإن كان عنى أنه زيدت حقيقة فليس بجيد؛ لأن الباء ليست من حروف الزيادة المعهودة في علم النحو ، وإن عنى أنها حرف جاء في سنخ الكلمة ، وليس في سلسل ولا سلسال؛ فيصح ، ويكون مما اتفق معناه وكان مختلفاً في المادة .
وقال ابن الأعرابي : لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن .
وقال مكي : هو اسم أعجمي نكرة فلذلك صرف . ووزن سلسبيل فعلليل مثل دردبيس .
وقيل : فعفليل؛ لأن الفاء مكررة .
وقرأ طلحة سلسبيل دون تنوين ومنعت من الصرف للعلمية والتأنيث؛ لأنها اسم لعين بعينها ، وعلى هذا فكيف صرف في قراءة العامة؟ فيجاب أنها سميت بذلك لا على جهة العلمية بل على جهة الإطلاق المجرد ، أو يكون من باب تنوين « سلاسل » و « قوارير » وقد تقدم .
وأغرب ما قيل في هذا الحرف : أنه مركب من كلمتين من فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول ، والتقدير سل أنت سبيلاً إليها .
قال الزمخشري : وقد عزوا إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن معناه سل سبيلاً إليها ، قال : وهذا غير مستقيم على ظاهره إلا أن يراد أن جملة قول القائل : سل سبيلاً جعلت علماً للعين؛ كما قيل : تأبط شراً ، وذرى حبًّا ، وسميت بذلك؛ لأنه لا يشرب منها إلاَّ من سأل سبيلاً إليها بالعمل الصالح ، وهو مع استقامته في العربية تكلف وابتداع وعزوه إلى مثل علي أبدع وفي شعر بعض المحدثين
5049ب- سَلْ سَبيلاً فِيهَا إلى رَاحةِ النَّفْ ... سِ كأنَّهَا سَلسبيلُ
قال أبو حيان بعد تعجبه من هذا القول : وأعجب من ذلك توجيه الزمخشري له واشتغاله بحكايته .
قال شهاب الدين : ولو تأمل ما قاله الزمخشري لم يلمه ولم يتعجب مه؛ لأن الزمخشري هو الذي شنع على هذا القول غاية التشنيع .
وقال أبو البقاء : والسلسبيل كلمة واحدة . وفي قوله كلمة واحدة تلويح وإيماء إلى هذا الوجه المذكور .
قوله : « ثمَّ » هذا ظرف مكان ، وهو مختص بالبعد ، وفي انتصابه وجهان :
أظهرهما : أنه منصوب على الظرف ومفعول الرؤية غير مذكور؛ لأنّ القَصْد : وإذا صدرت منك رؤية في ذلك المكان رأيت كيت وكيت ، ف « رأيت » الثاني جواب ل « إذا » .
وقال الفراء : « ثَمَّ » مفعولة به ل « رأيت » ، والمعنى : وإذا رأيت ما ثم ، وصلح إضمار « ما » ، كما قال { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] ، يريد : ما بينكم .
قال الزجاج : لا يجوز إضمار « ما » .
وقال الفراء : « وإذَا رَأيْتَ » تقديره : ما ثمَّ ، ف « ما » مفعول ، وحذفت « ما » ، وقامت « ثمَّ » مقام « ما » .
وقال الزمخشري تابعاً لأبي إسحاق : ومن قال : معناه : ما ثمَّ ، فقد أخطأ؛ لأن « ثمَّ » صلة ل « ما » ولا يجوز إسقاط الموصول ، وترك الصِّلة .
وفي هذا نظر؛ لأن الكوفيين يجوزون مثل هذا ، واستدلوا عليه بأبيات وآيات تقدم الكلام عليها مستوفى في أوائل هذا الموضوع .
وقال ابن عطية : و « ثم » ظرف والعامل فيه « رأيت » أو معناه ، والتقدير : رأيت ما ثم فحذفت ما .
قال أبو حيان : وهذا فاسد؛ لأنه من حيث جعله معمولاً ل « رأيت » لا يكون صلة ل « ما »؛ لأن العامل فبه إذا ذاك محذوف : أي ما استقر ثم .
قال شهاب الدِّين : ويمكن أن يجاب عنه ، بأن قوله أو معناه هو القول بأنه صلة لموصول فيكونان وجهين لا وجهاً واحداً حتى يلزمه الفساد ، ولولا ذلك لكان قوله أو معناه لا معنى له ، ويعني بمعناه أي معنى الفعل من حيث الجملة ، وهو الاستقرار المقدر .
والعامة على فتح الثاء من « ثمَّ » كما تقدم .
وقرأ حميد الأعرج بضمها ، على أنها العاطفة ، وتكون قد عطفت « رأيت » الثاني على الأول ويكون فعل الجواب محذوفاً ، ويكون فعل الجواب المحذوف هو الناصب لقوله « نعيماً » والتقدير : وإذا صدرت منك رؤية ثم صدرت رؤية أخرى رأيت نعيماً وملكاً؛ فرأيت هذا هو الجواب .
فصل
واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك من يكون خادماً في تلك المجالس .
فقال { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } وقد تقدم تفسير هذين الوصفين في سورة الوقعة والأقرب أن المراد به دوام حياتهم وحسنهم ومواظبتهم على الخدمة الحسنة الموافقة ، قال الفراء يقال مخلدون مسورون ويقال مقرطون وروى نفطويه عن ابن الأعرابي مخلدون محلون .
والصفة الثالثة : قوله تعالى { إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } وفي كيفية التشبيه وجوه :
أحدها : شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في مجالسهم ومنازلهم عند اشتغالهم بأنواع الخدمة باللؤلؤ المنثور ولو كان صفاً لشبهوا باللؤلؤ المنظوم؛ ألا ترى أنه تعالى قال { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ } فإذا كانوا يطوفون كانوا متناثرين .
وثانيها : أنهم شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا انتثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء .
وثالثها : قال القاضي هذا من التشبيه العجيب لأن اللؤلؤ إذا كان متفرقاً يكون أحسن في المنظر لوقوع شعاع بعضه على البعض فيكون مخالفاً للمجتمع منه .
واعلم أنه تعالى لما ذكر تفصيل أحوال أهل الجنة ، أتبعه بما يدل على أن هناك أموراً أعلى وأعظم من هذا القدر المذكور فقال { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } .
فصل
اعلم أن اللذات الدنيوية محصورة في أمور ثلاثة : قضاء الشهوة ، وإمضاء الغضب ، واللذة الخيالية التي يعبر عنها بحب المال والجاه ، وكل ذلك مستحقر فإن الحيوانات الخسيسة قد تشارك الإنسان في واحد منها ، فالملك الكبير الذي ذكره الله ههنا لا بد وأن يكون مغايراً لتلك اللذات الحقيرة ، وما هو إلا أن تصير نفسه منتقشة بقدس الملكوت متحلية بجلال حضرة اللاهوت ، وأما ما هو على أصول المتكلمين ، فالوجه فيه أيضاً أنه الثواب والمنفعة المقرونة بالتعظيم فبين الله تعالى في الآيات المتقدمة تفصيل تلك المنافع وبين في هذه الآية حصول التعظيم وهو أن كل واحد منهم يكون كالملك العظيم ، وأما المفسرون فمنهم من حمل هذا الملك الكبير على أن هناك منافع أزيد مما تقدم ذكره ، قال ابن عباس لا يقدر واصف يصف حسنه ولا طيبه . ويقال إن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام ويرى أقصاه كما يرى أدناه وقيل لا زوال له وقيل إذ أرادوا شيئاً حصل ، ومنهم من حمله على التعظيم ، فقال الكلبي هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله فيستأذن عليه ، ولا يدخل عليه رسول رب العزة من الملائكة المقربين المطهرين إلا بعد الاستئذان .
فصل
قال بعضهم قوله { وَإِذَا رَأَيْتَ } خطاب لمحمد خاصة ، والدليل عليه أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت إن دخلت الجنة أترى عيناي ما ترى عيناك؟ فقال نعم ، فبكى حتى مات ، وقال آخرون بل هو خطاب لكل أحد .
قوله : { عَالِيَهُمْ } . قرأ نافع وحمزة : بسكون الياء وكسر الهاء ، والباقون : بفتح الياء وضم الهاء ، لما سكنت الياء كسر الهاء ، ولما تحركت ضمت على ما تقدم في أول الكتاب .
فأما قراءة نافع وحمزة ، ففيها أوجه :
أظهرها : أن يكون خبراً مقدماً ، و « ثياب » مبتدأ مؤخر .
والثاني : أن « عاليهم » مبتدأ ، و « ثياب » مرفوع على جهة الفاعلية ، وإن لم يعتمد الوصف ، وهذا قول الأخفش .
والثالث : أن « عاليهم » منصوب ، وإنما سكن تخفيفاً . قاله أبو البقاء .
وإذا كان منصوباً فسيأتي فيه أوجه ، وهي واردة هنا ، إلا أن تقدير الفتحة من المنقوص لا يجوز إلا في ضرورة أو شذوذ ، وهذه القراءة متواترة ، فلا ينبغي أن يقال به فيها ، وأما قراءة من نصب ، ففيه أوجه :
أحدها : أنه ظرف خبر مقدم ، و « ثياب » مبتدأ مؤخر ، كأنه قيل : فوقهم ثياب .
قال أبو البقاء : لأن عاليهم بمعنى فوقهم .
قال ابن عطية : يجوز في النصب أن يكون على الظرف؛ لأنه بمعنى فوقهم .
قال أبو حيان : وعالٍ وعالية اسم فاعل فيحتاج في إثبات كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولاً من كلام العرب : « عاليك أو عاليتك ثوب » .
قال شهاب الدين : قد وردت ألفاظه من صيغة أسماء الفاعلين ظروفاً ، نحو خارج الدار ، وداخلها وظاهرها ، وباطنها ، تقول : جلست خارج الدَّار ، وكذلك البواقي ، فكذلك هنا .
الثاني : أنه حال من الضمير في « عَلَيْهِم » .
الثالث : أنه حال من مفعول « حَسِبْتَهُمْ » .
الرابع : أنه حال من مضاف مقدر ، أي : رأيت أهل نعيم وملكٍ كبير عاليهم ، ف « عَاليهم » حال من « أهل » المقدر ، ذكر هذه الأوجه الثلاثة : الزمخشري ، فإنه قال : « وعاليهم » بالنصب على أنه حال من الضمير في « يطوف عليهم » أو في « حسبتهم » أي : يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب ، أو حسبتهم لؤلؤاً عالياً لهم ثياب ، ويجوز أن يراد : رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب .
قال أبو حيان : أما أن يكون حالاً من الضمير في « حَسِبْتَهُمْ » ، فإنه لا يعني إلا ضمير المفعول ، وهو لا يعود إلا على « ولدان » ، وهذا لا يصح؛ لأن الضمائر الآتية بعد ذلك تدل على أنها للمعطوف عليهم من قوله تعالى { وحلوا } ، { وَسَقَاهُمْ } و { إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً } وفك الضمائر يجعل كذا وذلك كذا مع عدم الاحتياج إلى ذلك ، والاضطرار إلى ذلك لا يجوز ، وأما جعله حالاً من محذوف ، وتقديره : أهل نعيم ، فلا حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة الكلام وبراعته دون تقدير ذلك المحذوف .
قال شهاب الدين : جعل أحد الضمائر لشيء ، والآخر لشيء آخر لا يمنع صحة ذلك مع ما يميز عود كل واحد إلى ما يليق به ، وكذلك تقدير المحذوف غير ممنوع أيضاً وإن كان الأحسن أن تتفق الضمائر وألاَّ يقدر محذوف ، والزمخشري إنما ذكر ذلك على سبيل التجويز لا على سبيل أنه مساوٍ أو أولى ، فيرد عليه ما ذكره .
الخامس : أنه حال من مفعول « لقَّاهم » .
السادس : أنه حال من مفعول « جزاهم » . ذكرهما مكي .
وعلى هذه الأوجه : التي انتصب فيها على الحال يرتفع به « ثياب » على الفاعلية ، ولا يضر إضافته إلى معرفة في وقوعه حالاً؛ لأن الإضافة لفظية كقوله تعالى : { عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] فأنّث « عارضاً » ولم يؤنث عالياً لأن مرفوعه غير حقيقي التأنيث .
السابع : أن ينتصب « عاليهم » على الظرف ، ويرتفع « ثياب » به على جهة الفاعلية ، وهذا ماشٍ على قول الأخفش والكوفيين حيث يعملون الظرف وعديله ، وإن لم يعتمد كما تقدم ذلك في الصفّ .
وإذا رفع « عاليهم » بالابتداء ، و « ثياب » على أنه فاعل به ، كان مفرداً على بابه لوقوعه موقع الفعل ، وإذا جعل خبراً مقدماً كان مفرداً لا يراد به الجمع ، فيكون كقوله تعالى : { فَقُطِعَ دَابِرُ القوم } [ الأنعام : 45 ] أي أدبار . قاله مكي .
وقرأ ابن مسعود وزيدُ بن علي : « عاليتهم » مؤنثاً بالتاء مرفوعاً .
والأعمش وأبان عن عاصم كذلك ، إلا أنه منصوب .
وقد عرف الرفع والنصب مما تقدم .
وقرأت عائشة - رضي الله عنها - « عَليَتْهُم » فعلاً ماضياً متصلاً بتاء التأنيث الساكنة ، و « ثياب » فاعل به ، وهي مقوية للأوجه المذكورة في رفع « ثياب » بالصفة في قراءة الباقين كما تقدم تفصيله .
وقرأ ابن سيرين ومجاهد ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة وخلائق : جاراً ومجروراً .
وإعرابه كإعراب « عاليهم » ظرفاً في جواز كونه خبراً مقدماً ، أو حالاً مما تقدم وارتفاع « ثياب » به على التفصيل المذكور .
فصل في الضمير في عاليهم
قال ابن الخطيب : والضمير في « عاليهم » إما للولدان أو للأبرار .
فكأنهم يلبسُون عدة من الثياب ، فيكون الذي يعلوها أفضلها ، ولهذا قال تعالى « عاليهم » أي فوق حجالهم المضروبة عليهم ثيابُ سندسٍ ، والمعنى : أن حجالهم من الحرير والديباج .
قوله تعالى : { ثِيَابُ سُندُسٍ } . قرأ العامة : بإضافة الثياب لما بعدها .
وأبو حيوة وابن أبي عبلة : « ثِيَابٌ » منونة ، { سُندُسٌ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } برفع الجميع ف « سُنْدُسٌ » نعت ل « ثِيَابٌ »؛ لأن « السندس » نوع ، و « خُضْرٌ » نعت ل « سُنْدُسٌ » يكون أخضر وغير أخضر ، كما أن الثياب تكون سندساً وغيره ، و « إسْتَبْرَقٌ » نسق على ما قبله ، أي : وثياب إستبرق .
واعلم أن القراءة السبعة في « خُضْرٌ » ، و « إسْتَبْرَقٌ » على أربع مراتب .
الأولى : رفعهما ، لنافع وحفص فقط .
الثانية : خفضهما ، الأخوين فقط .
الثالثة : رفع الأول ، وخفض الثاني ، لأبي عمرو وابن عامر فقط .
الرابعة : عكسه ، لابن كثير وأبي بكر فقط .
فأما القراءة الأولى : فإن رفع « خضرٌ » على النعت ل « ثياب » ورفع « إستبرق » نسق على « الثياب » ولكن على حذف مضاف أي : وثيابٌ إستبرق ومثله : على زيد ثوبُ خزٍّ وكتانٍ أي : وثوبُ كتَّانٍ .
وأما القراءة الثانية : فيكون جر « خضر » على النعت ل « سندس » .
ثم استشكل على هذا وصف المفرد بالجمع ، فقال مكي : هو اسم جمع .
وقيل : هو جمع « سندسة » ك « تمر وتمرة » ووصف اسم الجنس بالجمع يصح ، قال تعالى { وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال } [ الرعد : 12 ] ، و { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] ، و { مِّنَ الشجر الأخضر } [ يس : 80 ] وإذا كانوا قد وصفوا المحل لكونه مراداً به الجنس بالجمع في قولهم : « أهلك الناسَ الدينارُ الحمرُ والدِّرهمُ البيضُ » ، وفي التنزيل : { أَوِ الطفل الذين } [ النور : 31 ] فلأن يوجد ذلك في أسماء الجموع أو أسماء الأجناس الفارق بينها وبين واحدها تاء التأنيث بطريق الأولى ، وجر « إستبرق » نسقاً على « سندس » ، لأن المعنى ثياب من سندس ، وثياب من إستبرق .
وما القراءة الثالثة : فرفع « خضر » نعتاً ل « ثياب » وجر « إستبرق » نسقاً على سندس أي : ثياب خضر من سندس ، ومن إستبرق ، فعلى هذا يكون الإستبرق أيضاً أخضر .
وأما القراءة الرابعة : فجر « خضر » على أنه نعت ل « سندس » ورفع « إستبرق » على النسق على « ثياب » بحذف مضاف ، أي : وثياب استبرق . وتقدم الكلام على مادة السندس والإستبرق في سورة الكهف .
وقرأ ابن محيصن : « وإستبرق » بفتح القاف ، ثم اضطرب النقل عنه في الهمزة ، فبعضهم ينقل عنه أنه قطعها ، وبعضهم ينقل أنه وصلها .
قال الزمخشري : « وقرئ : » وإستبرق « نصباً في موضع الجر على منع الصرف ، لأنه أعجمي ، وهو غلط؛ لأنه نكرة يدخله حرف التعريف ، تقول الإستبرق ، إلا أنه يزعم ابن محيصن أنه قد جعل علماً لهذا الضرب من الثياب ، وقرأ : » واستبرقَ « بوصل الهمزة والفتح على أنه مسمى ب » استفعل « من البريق ، وهو ليس بصحيح - أيضاً - لأنه معرب مشهور تعريبه وأصله استبره » .
وقال أبو حيان : ودل قوله : إلا أن يزعم ابن محيصن ، وقوله بعد : وقرئ « واستبرق » بوصل الألف والفتح ، أنّ قراءة ابن محيصن هي بقطع الهمزة مع فتح القاف والمنقول عنه في كتب القراءات : أنه قرأ بوصل الألف وفتح القاف .
قال شهاب الدين : قد سبق الزمخشري إلى هذا مكي ، فإنه قال : وقد قرأ ابن محيصن بغير صرف وهو وهم إن جعله اسماً؛ لأنه نكرة منصرفة .
وقيل : بل جعله فعلاً ماضياً من « برق » فهو جائز في اللفظ بعيد في المعنى .
وقيل : إنه في الأصل فعل ماض على « استفعل » من « برق » ، فهو عربي من البريق ، فلما سمِّي به قطعت ألفه؛ لأنه ليس من أصل الأسماء أن يدخلها ألف الوصل ، وإنما دخلت معتلة مغيرة عن أصلها ، معدودة ، لا يقاس عليها؛ انتهى ، فدل قوله « قطعت ألفه » إلى آخره ، أنه قرأ بقطع الهمزة وفتح القاف ، ودل قوله أولاً : وقيل : بل جعله فعلاً ماضياً من « برق » ، أنه قرأ بوصل الألف ، لأنه لا يتصور أن يحكم عليه بالفعلية غير منقول إلى الأسماء ، ويترك ألفه ألف قطعٍ ألبتة ، وهذا جهل باللغة ، فيكون قد رُوِيَ عنه قراءتا قطع الألف ووصلها ، فظهر أن الزمخشري لم ينفرد بالنقل عن ابن محيصن بقطع الهمزة .
وقال أبو حاتم في قراءة ابن محيصن : لا يجوز ، والصواب : أنه اسم جنس لا ينبغي أن يحمل ضميراً ويؤيد ذلك دخول لام المعرفة عليه ، والصواب قطع الألف وإجراؤه على قراءة الجماعةِ .
قال أبو حيان : نقول : إن ابن محيصن قارئٌ جليلٌ مشهورٌ بمعرفة العربية ، وقد أخذ عن أكابر العلماء ، فيتطلب لقراءته وجه ، وذلك أنه يجعل « استفعل » من البريق تقول : برق واستبرق ، ك « عجب واسْتعجَبَ » ، ولما كان قوله : « خضر » يدل على الخضرة ، وهي لون ذلك السُّنْدس ، وكانت الخضرة مما يكون فيها لشدتها دُهمة وغبش ، أخبر أن في ذلك بريقاً وحسناً يزيل غبشيته ، ف « استبرق » فعل ماض ، والضمير فيه عائد على السُّندس ، أو على الأخضر الدالّ عليه خضر ، وهذا التخريج أولى من تلحين من يعرف بالعربية ، وتوهيم ضابط ثقة . وهذا هو الذي ذكره مكي . وهذه القراءة قد تقدمت في سورة الكهف .
قوله تعالى : { وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } عطف على « ويَطُوفُ » عطف ماضياً لفظاً مستقبلاً معنى ، وأبرزه بلفظ الماضي لتحققه .
وقال الزمخشري بعد سؤال وجواب من حيث المعنى : وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران : سِوَار من ذهب وسوار من فضة .
وناقشه أبو حيان في قوله : « بالمِعْصَم » ، فقال : قوله : « بالمعصم » إما أن يكون مفعول « أحسن » وإما أن يكون بدلاً منه ، وقد فصل بينهما بالجار والمجرورن فإن كان الأول فلا يجوز؛ لأنه لم يعهد زيادة الباء في مفعول « أفعل » التعجب ، لا تقول : ما أحسن بزيد ، تريد : ما أحسن زيداً ، وإن كان الثاني ففي هذا الفصل خلافٌ ، والمنقول عن بعضهم أنه لا يجوز ، والمولد منا إذا تكلم ينبغي أن يتحرز في كلامه فيما فيه خلافٌ .
قال شهاب الدين : وأي غرض له في تتبع كلام هذا الرجل حتى في الشيء اليسير على أن الصحيح جوازه ، وهو المسموع من العرب نثراً ، قال عمرو بن معديكرب : لله درُّ بني مجاشع ما أكثر في الهيجاء لقاءها ، وأثبت في المكرمات بقاءها ، وأحسن في اللَّزْباتِ عطاءها ، والتشاغل بغير هذا أولى .
فصل في المراد بالأساور
قال هنا : « أساور من فضة » وفي سورة « فاطر » : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } [ فاطر : 33 ] ، وفي سورة « الحج » : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً } [ الحج : 23 ] فقيل : حليُّ الرجل الفضة .
وقيل : يجمع في يد أحدهم سواران من ذهب ، وسواران من فضة ، وسواران من لؤلؤ ، ليجتمع محاسن أهل الجنة . قاله سعيد بن المسيب رضي الله عنه .
وقيل : يعطى كل أحد ما يرغب فيه وتميل نفسه إليه .
وقيل : أسورةُ الفضة إنما تكون للولدان وأسورة الذهب للنساء .
وقيل : هذا للنساء والصبيان .
وقيل : هذا بحسب الأوقات .
قوله تعالى : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [ قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } ] ، قال : إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مرُّوا بشجرة تخرج من تحت ساقها عينان ، فيشربون من إحداها ، فيجري عليهم بنضرة النعيم ، فلا تتغير أبشارهم ، ولا تشعّث أشعارهم أبداً ، ثم يشربون من الأخرى ، فيخرج ما في بطونهم من الأذى ، ثم تستقبلهم خزنةُ الجنة ، فيقولون لهم : { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] .
وقال النخعي وأبو قلابة ، هو إذا شربوه بعد أكلهم طهرهم ، وصار ما أكلوه وما شربوه رشح مسكٍ وضمرت بطونهم .
وقال مقاتل : هو من عين ماء على باب الجنة ينبع من ساق شجرة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غشٍّ وغلٍّ وحسدٍ ، وما كان في جوفه من أذى ، وعلى هذا فيكون « فعولاً » للمبالغة ، ولا يكون فيه حجة للحنفي أنه بمعنى الطاهر . قاله القرطبي .
قال ابن الخطيب : قوله تعالى : { طَهُوراً } فيه قولان :
الأول : المبالغة في كونه طاهراً ثم على التفسير احتمالان :
أحدهما : ألاَّ يكون نجساً كخمر الدنيا .
وثانيهما : المبالغة في البعد عن الأمور المستقذرة ، يعني ما مسته الأيدي الوضيعة والأرجل الدنسة .
وثانيهما : أنه لا يؤول إلى النجاسة ، لأنها ترشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسكِ ، وعلى هذين الوجهين يكون الطهور مطهراً؛ لأنه يطهِّرُ باطنهم عن الأخلاق الذميمة والأشياء المؤذية .
فإن قيل : قوله تعالى : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } هو نوع ما ذكره قبل ذلك من أنهم يشربون من عين الكافور والزنجبيل والسلسبيل ، أو هذا نوع آخر؟ .
قلنا : بل هذا نوع آخر ، لوجوه :
أحدها : التِّكرار .
والثاني « أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه تبارك وتعالى ، بقوله تعالى : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } ، وذلك يدل على فضل هذا على غيره .
والثالث : ما روي من أنه يقدِّم إليهم الأطعمة والأشربة ، فإذا فرغوا منها أتُوا بالشراب الطهور فيشربون فيطهر ذلك بطونهم ويفيض عرقاً من جلودهم مثل ريح المسكِ ، وهذا يدل على أن الشراب مغاير لتلك الأشربة ، ولأن هذا الشراب يهضم سائر الأشربة ثم له مع هذا الهضم تأثير عجيب وهو أنه يجعل سار الأطعمة والأشربة عرقاً يفوح منه كريح المسك وكل ذلك يدل على المغايرة .
قوله تعالى : { إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً } ، أي : يقال لهم : إن هذا كان حزاؤكم ، أي : ثواب أعمالكم ، فيزداد بذلك القول فرحهم وسرورهم ، كما أن المعاقب يزداد غمّه ، إذا قيل له : هذا جزاء عملك الرديء « وكَانَ سَعيُكُمْ » أي : عملكم « مَشْكوراً » أي : من قبل الله وشكره للعبد قبُول طاعته وثناؤه عليه وإثابته .
وقال قتادةُ : غفر لهم الذنب وشكر لهم الحسنى .
وقيل : هذا إخبار من الله - تعالى - لعباده في الدنيا كأنه - تعالى - شرح لهم ثواب أهل الجنة ، أي أنَّ هذا كان في علمي وحكمي جزاء لكم يا معاشر عبيدي لكم خلقتها ولأجلكم أعددتها .
فصل في الكلام على الآية
قال ابن الخطيب : وفي الآية سؤالان :
الأول : إذا كان فعل العبد خلقاً لله - تعالى - فكيف يعقل أن يكون فعل الله - تعالى - جزاء على فعل الله؟ .
والجواب : أن الجزاء هو الكافي وذلك لا ينافي كونه فعلاً لله .
السؤال الثاني : كون سعي العبد مشكوراً يقتضي كون الله شاكراً له؟ .
والجواب : كون الله - تعالى - شاكراً للعبد محال إلى على وجه المجاز ، وهو من ثلاثة أوجه :
الأول : قال القاضي : إن الثواب مقابل لعملهم كما أن الشكر مقابل للنعم .
والثاني : قال القفال : إنه مشهور في كلام الناس أن يقولوا للراضي بالقليل والمثنى به أنه مشكور ، فيحتمل أن يكون شكر الله لعباده ، وهو رضاه عنهم بالقليل من الطاعات وإعطائه إياهم عليهم ثواباً كبيراً .
الثالث : أن منتهى درجة العبد راضياً من ربه مرضيًّا لربه ، كما قال تعالى : { ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [ الفجر : 27- 28 ] ، وكونها راضية من ربه أقلُّ درجة من كونها مرضية لربه ، فقوله تعالى : { إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً } إشارة إلى الأمر الذي تصير به النفس راضية مرضية ، وقوله : { وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } إشارة إلى كونها مرضية لربها لما كانت الحالة أعلى المقامات وآخر الدرجات لا جرم وقع الختم عليها في ذكر مراتب أحوال الأبرار والصديقين .
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)
قوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا } . يجوز أن يكون توكيداً لاسم « إن » وأن يكون فصلاً و « نَزَّلْنَا » على هذين الوجهين هو خبر « إن » ، ويجوز أن يكون « نحن » مبتدأ ، و « نَزَّلْنَا » خبره والجملة خبر « إنَّ » .
وقال مكي : « نَحْنُ » في موضع نصب على الصِّفة لاسم « إن » لأن الضمير يوصف بالمضمر؛ إذ هو بمعنى التأكيد لا بمعنى الغلبةِ ، ولا يوصف بالمظهر؛ لأنه بمعنى التَّحلية والمضمر مستغن عن التحلية ، لأنه لم يضمرْ إلا بعد أن عرف تحليته وعينه ، وهو محتاج إلى التأكيد لتأكيد الخبر عنه .
قال شهاب الدين : وهذه عبارة غريبة جدًّا ، كيف يجعل المضمر موصوفاً بمثله ، ولا نعلم خلافاً في عدم جواز وصف المضمر إلا ما نقل عن الكسائي أنه جوّز وصف ضمير الغائب بضمير آخر ، فلا خرف في عدم جوازه ، ثم كلامه يؤول إلى التأكيد فلا حاجة إلى العدول عنه .
فصل في مناسبة اتصال الآية بما قبلها
وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه تعالى لما ذكر الوعد والوعيد بين أن هذا الكتاب يتضمن ما بالناس حاجةً إليه ، فليس بسحرٍ ولا كهانةٍ ولا شعرٍ وأنه حقٌّ .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - أنزل القرآن متفرقاً آية بعد آية ، ولم ينزل جملة واحدة فلذلك قال : « نَزَّلْنَا » .
قال ابن الخطيب : المقصود من هذه الآية تثبيت الرسول وشرح صدره فيما نسبوه إليه من كهانة وسحر ، فذكر تعالى أن ذلك وحي من الله تعالى ولا جرم بالغ في تكرار الضمير بعد إيقاعه تأكيداً على تأكيد فكأنه تعالى يقول : إن كان هؤلاء الكفار يقولون : إن ذلك كهانة فأنا الله الملك الحق ، أقول على سبيل التأكيد : إن ذلك وحيٌ حقٌّ وتنزيلُ صدقٍ من عندي ، وفي ذلك فائدتان :
إحداهما : إزالة الوحشة الحاصلة بسبب طعن الكفار؛ لأن الله - تعالى - عظّمهُ وصدقه .
والثانية : تقويته على تحمُّل مشاق التكليف ، فكأنه - تعالى - يقول : إني ما نزلت عليك القرآن متفرقاً إلا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين ، وقد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال .
{ فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ } أي : لقضاء ربك .
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : اصبر على أذى المشركين ، ثم نسخ بآية القتال .
وقيل : اصبرْ لما حكم به عليك من الطَّاعات ، أو انتظر حكم الله إذ وعدك بالنصر عليهم ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة ، { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً } أي : ذا إثمٍ { أَوْ كَفُوراً } أي : لا تطع الكفار .
روى معمر عن قتادة ، قال : قال أبو جهل : إن رأيتُ محمداً لأطأنَّ على عنقه ، فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } .
وقيل : نزلت في عتبة بن أبي ربيعة والوليد بن المغيرة ، وكانا أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضان عليه الأموال والتزويج على أن يترك ذكر النبوة ففيهما نزلت ، وعرض عليه عتبة ابنته وكانت من أجمل النساء ، وعرض عليه الوليد أن يعطيه من الأموال حتى يرضى ، ويترك ما هو عليه ، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات من أول « حم » السجدة ، إلى قوله : { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } [ فصلت : 1-13 ] ، فانصرنا عنه وقال أحدهما : ظننت أنَّ الكعبة ستقع عليَّ .
قوله : { أَوْ كَفُوراً } . في « أوْ » هذه أوجه :
أحدها : أنها على بابها ، وهو قول سيبويه .
قال أبو البقاء : وتفيد في النهي عن الجميع ، لأنك إذا قلت في الإباحة : جالس الحسن أو ابن سيرين كان التقدير : جالس أحدهما ، فأيهما كلمه كان أحدهما فيكون ممنوعاً منه ، فكذلك في الآية ، ويؤول المعنى إلى تقدير : ولا تطع منهما آثماً ولا كفوراً .
قال الزمخشري رحمه الله : فإن قلت : معنى « أو » ولا تطع أحدهما ، فهلا جيء بالواو لتكون نهياً عن طاعتهما جميعاً؟ .
قلت : لو قال : لا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما ، وإذا قيل : لا تطع أحدهما علم أن الناهي عن طاعة أحدهما هو عن طاعتهما جميعاً أنهى ، كما إذا نهي أن يقول لأبويه : « أفٍّ » علم أنه منهي عن ضربهما على طريق الأولى .
الثاني : أنها بمعنى « لا » أي : لا تطع من أثم ولا من كفر .
قال مكي : « وهو قول الفراء ، وهو بمعنى الإباحة التي ذكرنا » .
الثالث : أنها بمعنى الواو ، وقد تقدم أن ذلك قول الكوفيين .
والكفور وإن كان يستلزم الإثم إلا أنه عطف لأحد أمرين :
إما أن يكونا شخصين بعينهما كما تقدم فالآثم عتبة ، والكفور الوليد .
وإما لما قاله الزمخشري : « فإن قلت : كانوا كلهم كفرةً ، فما معنى القسمة في قوله » آثماً او كفوراً «؟ .
قلت : معنا لا تطع منهم راكباً لما هو إثم داعياً إليه أو فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه ، لأنهم إمَّا أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر ، أو غير إثم ولا كفر ، فنهي أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث » .
فصل
قال ابن الخطيب : قوله تعالى : { فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ } يدخل فيه ألاَّ تطع فيه آثماً أو كفوراً ، فكأن ذكره بعد ذلك تكرار؟ .
والجواب أن الأول أمر بالمأمورات ، والثاني : نهي عن المنهيات ، ودلالة أحدهما على الآخر بالالتزام لا بالتصريح ، فيكون التصريح ، فيكون التصريح منه مفيداً .
فإن قيل : إنه صلى الله عليه وسلم ما كان يطيع أحداً منهم ، فما فائدة هذا النهي؟ .
فالجواب : أن المقصود بيان أن الناس محتاجون إلى مواصلة التنبيه والإرشاد لأجل ما تركب فيهم من الشهوة الداعية إلى الفساد ، وأن أحداً لو استغنى عن توفيق الله - تعالى - وإرشاده لكان أحق الناس به هو الرسول المعصوم - عليه الصلاة والسلام - ومتى ظهر ذلك عرف كل مسلم أنه لا بدَّ من الرغبة إلى الله - تعالى - والتضرع إليه أن يصونه عن الشُّبهات والشَّهوات .
فإن قيل : ما الفرقُ بين الآثم والكفور؟ .
فالجواب : أن الآثم هو الآتي بالمعاصي أيِّ معصيةٍ كانت ، والكفُور : هو الجاحد للنعمة ، فكل كفور آثم ، وليس كل آثم كفوراً ، لأن الإثم عام في المعاصي كلها ، قال الله تعالى : { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً } [ النساء : 48 ] .
فسمى الشرك آثماً ، وقال تعالى : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] وقال تعالى : { وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ } [ الأنعام : 120 ] ، وقال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } [ البقرة : 219 ] . قد نزلت هذه الآيات على أن الإثم جميع المعاصي .
قوله تعالى : { واذكر اسم رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } . أي : صلِّ لربِّك أول النَّهار وآخره ففي أوله صلاة الصُّبح والظهر والعصر ، وهو الأصيل ، { وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ } يعني صلاة المغرب والعشاء الآخرة ، { وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } يعني التَّطوع فيه . قاله ابن حبيب .
وقال ابن عباس وسفيان : كل تسبيح في القرآن فهو صلاة .
وقيل : هو الذِّكْر المطلق ، سواءٌ كان في الصَّلاة أو في غيرها .
وقال ابن زيد وغيره : إنَّ قوله تعالى : { وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } منسوخ بالصلوات الخمس .
وقيل : هو ندب .
وقيل : هو مخصوص بالنبي عليه الصلاة والسلام .
وجمع الأصيل : الأصائل ، والأصل ، كقولك : سفائن وسفن ، والأصائل : جمع الجمع ، ودخلت « من » على الظرف للتبغيض ، كما دخلت على المفعول في قوله تعالى : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } [ الأحقاف : 31 ] .
قوله : { وَسَبِّحْهُ } فيه دليل على عدم صحة قول بعض أهل المعاني والبيان ، أن الجمع بين الحاء والهاء - مثلاً - يخرج الكلمَ عن فصاحتها ، وجعلوا من ذلك قوله : [ الطويل ] .
5050- كريمٌ مَتَى أَمْدحْهُ والوَرَى ... مَعِي وإذَا ما لُمْتُهُ لُمْتُهُ وَحْدِي
البيت لأبي تمام ، ويمكن أن يفرق بين ما أنشدوه وبين الآية بأن التكرار في البيت هو المخرج عن الفصاحة بخلاف الآية فإنه لا تكرار فيها .
إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
قوله تعالى : { إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة } . توبيخ وتقريع والمراد أهل « مكة » ، والعاجلة ، الدنيا .
واعلم أنه تعالى لما خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بالتعظيم والأمر والنهي ، عدل إلى شرح أحوال الكفار والمتمردين ، فقال تعالى : { إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة } ، ومعناه : إن الذي حمل هؤلاء على الكفر والإعراض عما ينفعهم في الآخرة ، هو محبتهم اللذات العاجلة والراحات الدنيوية البدنية .
قوله : { وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ } ، أي : بين أيديهم ، وقال : « وَرَاءَهُم » ولم يقل : قُدَّامهم لأمور :
أحدها : أنهم لما أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه فكأنهم جعلوه وراء ظهورهم .
وثانيها : المراد : يذرون وراءهم مصالح يوم ثقيل ، أي عسير ، فأسقط المضاف .
وثالثها : أن « وراء » يستعمل بمعنى « قُدّام » ، كقوله تعالى : { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } [ إبراهيم : 16 ] { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ } [ الكهف : 79 ] .
وقال مكي : سمّي « وراء » لتواريه عنك ، فظاهر هذا أنه حقيقة ، والصحيح أنه استعير ل « قُدّام » .
قوله : « يَوْماً » . مفعول ب « يَذَرُونَ » لا ظرف ، وصفه بالثقل على المجاز؛ لأنه من صفات الأعيان لا المعاني .
وقيل : معناه يتركون الإيمان بيوم القيامة .
وقيل : نزلت في اليهود فيما كتموه من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته ، وحبُّهم العاجلة : أخذهم الرّشا ما كتموه ، وقيل : أراد المنافقين لاستبطانهم الكفر وطلب الدنيا ، والآية تعُمّ ، واليوم الثقيل : يوم القيامة ، وسمي ثقيلاً لشدائده وأهواله وقيل : للقضاء فيه بين العباد .
قوله تعالى : { نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ } أي من طين ، { وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ } أي : خلقهم . قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم ، والأسر : الخلق .
قال أبو عبيد : يقال : فرس شديد الأسر ، أي : الخلق ، ويقال : أسره الله ، إذا شدد خلقه؛ قال لبيدٌ [ الرمل ]
5051- سَاهِمُ الوجْهِ شَدِيدٌ أسْرهُ ... مُشْرِفُ الحَارِكِ مَحْبُوكُ الكَتِدْ
وقال الأخطل : [ الكامل ]
5052- مِنْ كُلِّ مُجْتَنِبٍ شَديدٍ أسْرهُ ... سَلِسُ القِيَادِ تخَالهُ مُخْتَالاً
وقال أبو هريرة والحسن والربيع رضي الله عنهم : شَددْنَا مفَاصِلهُمْ .
قال أهل اللغة : الأسر : الرَّبْط ، ومنه : أسِرَ الرجُل ، إذا أوثق بالقيد ، وفرس مأسورة الخلق وفرس مأسورة بالعقب ، والإسار : هو القيد الذي يشد به الأقتاب ، تقول : أسرت القتب أسراً ، أي : شددته وربطته .
فصل في معنى الأسر
قال ابن زيد : الأسر القوة ، والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية ، أي : سويت خلقك وأحكمته بالقوى ثم أنت تكفر بي .
قال ابن لخطيب : وهذا الكلام يوجب عليهم طاعة الله تعالى من حيث الترغيب والترهيب؛ أما الترغيب فلأنه هو الذي خلقهم وأعطاهم الأعضاء السليمة التي بها يمكن الانتفاع باللذات العاجلة ، وخلق لهم جميع ما يمكن الانتفاع به ، فإذا أحبوا اللذات العاجلة ، وتلك اللذات لا تحصل إلا بالمنتفع والمنتفع به ، وهما لا يحصلان إلا بتكوين الله وإيجاده ، وهذا مما يوجب عليهم الانقياد لله - تعالى - وترك التمرُّد .
وأما الترهيب فإنه قادرٌ على أن يميتهم وأن يسلُب النعم عنهم ، وأن يلقي بهم في كل محنة وبلية ، فلأجل الخوف من فوت هذه اللذات العاجلة يجب عليهم الانقياد لله - تعالى - وترك التمرّد ، فكأنه قيل : هبْ أن حبكم لهذه اللذات العاجلة طريقة حسنة إلا أن ذلك يوجب عليكم الإيمان بالله - تعالى - والانقياد له ، فلم توسلتم به إلى الكفر بالله - تعالى - والإعراض عن حكمه .
قوله تعالى : { وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً } .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لو نشاء لأهلكناهم وجئنا بأطْوَعَ لله منهم .
وقال ابن الخطيب : معناه : إذا شئنا أهلكناهم ، وأتينا بأشباههم ، فجعلناهم بدلاً منهم كقوله تعالى : { على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ } [ الواقعة : 61 ] ، والغرض منه : بيان الاستغناء التام عنهم ، كأنه قيل : لا حاجة بنا إلى أحد من المخلوقين ألبتة ، وبتقدير إن ثبتت الحاجة ، فلا حاجة بنا إلى هؤلاء الأقوام؛ فإنا قادرون على إبدالهم وإيجاد أمثالهم ، ونظيره قوله تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } [ إبراهيم : 19 ] ، { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } [ النساء : 133 ] . وروى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهم - معناه : لغيرنا محاسنهم إلى أقبح الصور .
وقيل : أمثالهم في الكفر .
فصل في نظم الآية
قال الزمخشري في قوله تعالى : { وَإِذَا شِئْنَا } : وحقه أن يجيء ب « إن » لا ب « إذا » ، كقوله تعالى : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } [ محمد : 38 ] ، { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } يعني : أنَّ « إذا » للمحقَّق ، و « إن » للمحتمل ، وهو تعالى لم يشأ ذلك ، وجوابه أن « إذا » قد تقع موقع « إن » كالعكس .
قال ابن الخطيب : فكأنه طعن في لفظ القرآن وهو ضعيف ، لأن كل واحد من « إن » و « إذا » حرف شرط ، إلا أن حرف « إن » لا يستعمل فيما هو معلوم الوقوع ، فلا يقال : إن طلعت الشمس أكرمتك .
أما حرف « إذا » فإنه يستعمل فيما يكون معلوم الوقوع تقول ابتداء : إذا طلعت الشمس - فهاهنا - لما كان الله تعالى عالماً أنه سيجيء وقت يبدل الله تعالى فيه أولئك الكفرة بأمقالهم في الخلقة وأضدادهم في الطاعة لا جرم حسن استعمال حرف « إذا » .
قوله تعالى : { إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ } . أي : هذه السورة موعظة ، { فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } أي : طريقاً موصِّلاً إلى طاعته .
وقيل : « سبيلاً » أي وسيلة .
وقيل : وجهة وطريقة إلى الخير والمعنى : أنّ هذه السورة لما فيها من الترتيب العجيب ، والوعد الوعيد ، والترغيب والترهيب تذكرة للمتأملين وتبصرة للمتبصرين .
فصل في قول الجبرية
قال ابن الخطيب : متى ضمت هذه الآية إلى الآية بعدها خرج منهما صريح مذهب الجبر ، لأن قوله تعالى : { فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } الآية يقتضي أن مشيئة العبد متى كانت خالصة ، فإنها تكون مستلزمة للفعل ، وقوله تعالى بعد ذلك : { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } يقتضي كون مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد ، ومستلزم المستلزم مستلزم ، فإن مشيئة الله - تعالى - مستلزمة لفعل العبد ، وذلك هو الجبر ، وكذا الاستدلال على الجبر بقوله تعالى :
{ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] ، لأن هذه الآية أيضاً تقتضي كون المشيئة مستلزمة للفعل ، ثم التقدير ما تقدم .
قال القاضي : المذكور هاهنا اتخاذ السبيل إلى الله - تعالى - وهو أمر قد شاءه؛ لأنه أمر به فلا بد وأن يكون قد شاءه ، وهذا لا يقضي أن يقال : العبد لا يشاء إلاَّ ما قد شاء الله على الإطلاق إذ المراد بذلك الأمر المخصوص الذي قد ثبت أن الله تعالى أراده وشاءه . وهذا الكلام لا تعلق له بالاستدلال الذي ذكرناه ، فحاصل ما ذكره القاضي تخصيص العام بالصُّور المتقدمة ، وذلك ضعيف لأن خصوص ما قبل الآية لا يقتضي تخصيص هذا العام لاحتمال أن يكون الحكم في هذه الآية وارداً بحيث تعمّ تلك الصورة وغيرها .
قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } فيه وجهان :
أحدهما : أنه حال ، أي إلاَّ في حال مشيئة الله تعالى . قاله أبو البقاء .
وفيه نظر : لأن هذا مقدر بالمعرفة إى أن يريد تفسير المعنى .
والثاني : أنه ظرف .
قال الزمخشري : « فإن قلت : ما محل أن يشاء الله؟ .
قلت : النصب على الظرف ، وأصله : إلا وقت مشيئة الله تعالى ، وكذلك قرأ ابن مسعود : إلا ما يشاء الله ، لأن » ما « مع الفعل ك » إن « معه » .
وردّ أبو حيان : بأنه لا يقوم مقام الظرف إلاَّ المصدر الصريح ، لو قلت : أجيئك أن يصيح الديك ، أو ما يصيح ، لم يجز . قال شهاب الدين : قد تقدم الكلام في ذلك مراراً .
وقرأ نافع والكوفيون : « تشاءون » خطاباً لسائر الخلق ، أو على الالفتات من الغيبة في قوله تعالى : { نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ } ، والباقون : بالغيبة جرياً على قوله : « خلقناهم » وما بعده .
قوله : { وَمَا تَشَآءُونَ } أي الطاعة والاستقامة ، واتخاذ السبيل إلى الله { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } فأخبر أن الأمر إليه سبحانه ، وليس لهم ، وأنه لا ينفذ مشيئة أحد ، ولا تقدّم إلا تقدّم مشيئة الله تعالى ، قيل : إن الآية الأولى منسوخة بالثانية .
قال القرطبي : والأشبه أنه ليس بنسخ ، بل هو تبيين أن ذلك لا يكون إلا بمشيئته .
قال الفراء : « ومَا تَشَاءُونَ إلاَّ أن يَشاءَ اللهُ » جواب لقوله تعالى : { فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } ثم أخبرهم أن الأمر ليس إليهم ، فقال : « ومَا تَشَاءُونَ » ذلك السبيل « إلاَّ أن يشَاءَ اللهُ » لكم ، { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً } بأعمالكم « حَكِيماً » في أمره ونهيه لكم .
قوله تعالى : { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } . أي : يدخله الجنة راحماً له .
قال ابن الخطيب : إن فسرنا الرحمة بالإيمان فالآية صريحة في أن الإيمان من الله تعالى وإن فسرناها بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئته بسبب مشيئة الله تعالى وفضله ، وإحسانه لا بسبب الاستحقاق؛ لأنه لو ثبت الاستحقاق لكان تركه يفضي إلى الجَهْل أو الحاجة ، وهما محالان على الله تعالى ، والمفضي إلى المحال محال ، فتركه محال ، فوجوده واجبٌ عقلاً ، وعدمه ممتنعٌ عقلاً ، وما كان كذلك لا يكون معلقاً على المشيئة ألبتة .
قوله : { والظالمين } ، أي : ويعذّب الظالمين ، وهو منصوب على الاشتغال بفعل يفسره « أعَدَّ لَهُمْ » من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، تقديره : وعذب الظالمين ، ونحوه : « زيداً مررت به » أي : جاوزت ولابست . وكان النصب هنا مختاراً لعطف جملة الاشتغال على جملة فعلية قبلها ، وهو قوله « يُدْخِلُ » .
قال الزجاج : نصب « الظَّالمينَ » لأن قبله منصوباً ، أي : يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين ، أي : المشركين ، ويكون « أعَدَّ لَهُمْ » تفسيراً لهذا المضمر؛ قال الشاعر : [ المنسرح ]
5053- أصْبَحتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولا ... أمْلِكُ رَأسَ البَعيرِ إنْ نَفَرَا
والذِّئْب أخْشَاهُ إنْ مَررْتُ بِهِ ... وحْدِي وأخْشَى الرِّيَاحَ والمَطَرَا
أي : أخشى الذئب أخشاه .
قال الزجاج : والاختيار النصب . وإن جاز الرفع .
وقوله تعالى في « حَم عَسق » : { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ والظالمون } [ الشورى : 8 ] ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فنصب في المعنى ، فلم يجز العطف على المنصوب قبله فارتفع بالابتداء ، وهاهنا قوله : { أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً } يدل على « ويُعَذِّبُ » فجاز النصب .
وقرأ الزبير ، وأبان بن عثمان ، وابن أبي عبلة : « والظَّالمُونَ » رفعاً على الابتداء ، وما بعده الخبر ، وهو أمر مرجوح لعدم المناسبة .
وقرأ ابن مسعود : « ولِلظَّالِمينَ » بلام الجر ، وفيه وجهان :
أظهرهما : أن يكون « للظَّالمين » متعلقاً ب « أعَدَّ » بعده ، ويكون « لَهُمْ » تأكيداً .
والثاني : وهو ضعيف ، أن يكون من باب الاشتغال ، على أن يقدر فعلاً مثل الظاهر ، ويجر الاسم بحرف الجر ، فتقول : « بزيد مررت به » أي : مررت بزيد مررت به ، والمعروف في لغة العرب مذهب الجمهور ، وهو إضمار فعل ناصب موافق لفعل الظاهر في المعنى ، فإن ورد نحو « بزيد مررت به » عُدَّ من التوكيد لا من الاشتغال . والأليم : المؤلم .
روى الثَّعلبيّ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورَة { هَلْ أتى عَلَى الإنسان } كَانَ جَزَاؤهُ عَلى اللهِ تَعَالى جَنَّةً وحَرِيراً » .
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)
قوله : { والمرسلات عُرْفاً } في « عرفاً » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مفعول من أجله ، أي : لأجل العرف ، وهو ضد النُّكْر ، فإن الملائكة إن كانوا بعثُوا للرحمة ، فالمعنى فيه ظاهر ، وإن كانوا بعثوا للعذاب فذلك العذاب وإن لم يكن معروفاً للكفار فإنه معروف للأنبياء والمؤمنين ، والمراد بالمرسلات ، إما الملائكة ، وإما الأنبياء ، وإما الرياح ، أي : والملائكة المرسلات ، أو والأنبياء المرسلات ، أو والرياح المرسلات . و « العرف » المعروف ، والإحسان ، قال : [ البسيط ]
5054- مَنْ يَفْعَلِ الخَيْرَ لا يَعْدمْ جَوازِيَهُ ... لا يَذهبُ العُرْفُ بيْنَ اللهِ والنَّاسِ
وقد يقال : كيف جمع صفة المذكر العاقل بالألف والتاء ، وحقه أن يجمع بالواو والنون نقول : الأنبياء المرسلون ولا نقول : المرسلات؟ .
والجواب : أن المرسلات جمع مرسلة ومرسلة : صفة لجماعة من الأنبياء ، والمرسلات : جمع مرسلة الواقعة صفة لجماعة ، لا جمع مرسل مفرد .
والثاني : أن ينتصب على الحال بمعنى متتابعة ، من قولهم : جاءوا كعرف الفرس ، وهم على فلان كعرف الضبع ، إذا تألبُّوا عليه .
قال ابن الخطيب : يكون مصدراً ، كأنه قيل : والمرسلات إرسالاً ، أي متتابعة .
الثالث : أن ينتصب على إسقاط الخافض ، أي : المرسلات بالعرف ، وفيه ضعف ، وقد تقدم الكلام على العرف في الأعراف .
والعامة : على تسكين رائه ، وعيسى : بضمها ، وهو على تثقيل المخفف ، نحو : « بكّر » في « بكَر » ، ويحتمل أن يكون هو الأصل ، والمشهور مخففة منه ، ويحتمل أن يكونا وزنين مستقلين .
فصل في المراد بالمرسلات
جمهور المفسرين على أن « المرسلات » هي الرياح .
وروى مسروق عن عبد الله قال : هي الملائكة أرسلت بالعرف من أمر الله ونهيه والخبر والوحي ، وهو قول أبي هريرة ومقاتل وأبي صالح والكلبي .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هم الأنبياء أرسلوا بلا إله إلا الله .
وقال أبو صالحٍ : الرسل ترسل بما يعرفون به من المعجزات .
وعن ابن عباس وابن مسعود : أنها الرياح ، كما قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرياح } [ الحجر : 22 ] ، وقال تعالى : { وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح } [ الأعراف : 57 ] ، ومعنى « عُرْفاً » أي : يتبع بعضها بعضاً كعرف الفرس ، وقيل : يحتمل أن يكون المراد بالمرسلات : السحاب لما فيها من نعمة ونقمة عارفة بما أرسلت إليه ومن أرسلت إليه .
وقيل : إنها الزَّواجر والمواعظ ، و « عُرْفاً » على هذا التأويل : متتابعات كعرف الفرس ، قاله ابن عبَّاس .
وقيل : جاريات ، قاله الحسن ، يعني في القلوب .
وقيل : معروفات في العقول .
قوله تعالى : { فالعاصفات عَصْفاً } . هذا المصدر مؤكد لاسم الفاعل .
والمراد بالعَاصفاتِ : الرياح . قاله المهدوي .
وقال ابن عباسٍ : هي الرياح العواصف تأتي بالعصف ، وهو ورق الزرع وحطامه .
وقال : العاصفات الملائكة شبهت بسرعة جريها في أمر الله - تعالى - بالرياح ، وكذلك « نَشْراً ، وفَرْقاً » انتصابهما على المصدر .
وقيل : الملائكة تعصف برُوح الكَافرِ ، يقال : عصف بالشيء إذا أباده وأهلكه ، وناقة عصوف ، أي تعصف براكبها فتمضي كأنها ريحٌ في السرعة ، وعصفت الحرب بالقوم ، أي : ذهبت بهم .
وقيل : يحتمل أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخوف .
قوله تعالى : { والناشرات نَشْراً } . هي الملائكة المُوكَّلُون بالسحاب ينشرونها .
وقال ابن مسعود ومجاهد : هي الرياح يرسلها الله تعالى نشراً بين يدي رحمته ينشر السحاب للغيث ، وهو مروي عن أبي صالح .
وعنه أيضاً : هي الأمطار لأنها تنشر النبات ، فالنَّشر بمعنى الإحياء ، يقال : نشر الله الميت وأنشره ، بمعنى أحياهُ ، قال تعالى : { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [ عبس : 22 ] .
وروي عن السديِّ : أنها الملائكة تنشر كتب الله تعالى ، وروى الضحاك عن ابن عباس قال : يريد ما ينشر من الكتب ، وأعمال بني آدم ، وروى الضحاك : أنها الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد .
وقال الربيع : إنه البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح .
وقال تعالى : { والناشرات } - بالواو - لأنه استئنافُ قسم آخر .
قوله : { فالفارقات فَرْقاً } : هي الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل . قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وأبو صالح .
وروى الضحاك عن ابن عباس ، قال : ما تفرق الملائكة من الأقوات والأرزاق والآجال ، وروى أنس عن مجاهد قال : « الفارقات » الرياح تفرق بين السحاب وتبدده .
وروى سعيد عن قتادة قال : { فالفارقات فَرْقاً } ، الفرقان فرق الله بين الحق والباطل والحلال والحرام ، وهو قول الحسن وابن كيسان .
وقيل : هم الرسل فرقوا بين ما أمر الله - تعالى - به ، ونهى عنه؛ أي بينوا ذلك .
وقيل : السحابات الماطرة تشبيهاً بالنَّاقة الفارقة ، وهي الحامل التي تخرج وتندّ في الأرض حين تضع ، ونوق فوارق وفُرَّق .
قوله تعالى : { فالملقيات ذِكْراً } . هي الملائكة ، أي : تلقي كتب الله إلى الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - قاله المهدوي .
وقيل : هو جبريل - عليه الصلاة والسلام - وسمي باسم الجمع تعظيماً لأنه كان ينزل بها وقيل : المراد الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل عليهم . قاله قطرب .
وقوله تعالى : { ذِكْراً } مفعول به ناصبه « المُلْقِيَاتِ » .
وقرأ العامة : « فالملقيات » - بسكون اللام وتخفيف القاف - اسم فاعل .
وقرأ ابن عباس : بفتح اللام وتشديد القاف ، اسم مفعول من التلقية ، وهي إيصال الكلام إلى المخاطب . وروى عنه المهدوي أيضاً : فتح القاف ، أي : يلقيه من قِبَل الله تعالى ، كقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن } [ النمل : 6 ] .
قوله : { عُذْراً أَوْ نُذْراً } . فيهما أوجه :
أحدها : أنهما بدلان من « ذِكْراً » .
الثاني : أنهما منصوبان به على المفعولية ، وإعمال المصدر المنون جائز ، ومنه { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ، 15 ] .
الثالث : أنهما مفعولان من أجلهما ، والعامل فيهما ، إما « المُلقيَات » ، وإما « ذِكراً »؛ لأن كُلاًّ منهما يصلح أن يكون معلولاً بأحدهما .
وحينئذ يجوز في « عُذْراً » ، ونذراً « وجهان :
أحدهما : أن يكونا مصدرين - بسكون العين - كالشُّكْر والكُفْر .
والثاني : أن يكونا جمع عذير ، ونذير ، المراد بهما المصدر ، بمعنى الإعذار والإنذار ، كالنكير بمعنى الإنكار .
الثالث : أنهما منصوبان على الحال من « الملقيات » أو من الضمير فيها ، وحينئذ يجوز أن يكونا مصدرين واقعين موقع الحال ، بالتأويل المعروف في أمثاله ، وأن يكونا جمع « عذير ونذير » مراداً بهما المصدر ، أو مراداً بهما اسم الفاعل بمعنى المعذر والمنذر ، أي : معذرين ، أو منذرين .
وقرأ العامة : بسكون الذَّال من { عُذْراً أَوْ نُذْراً } .
وقرأ زيد بن ثابت ، وابن خارجة ، وطلح : بضمها .
والحرميَّان ، وابن عامر ، وأبو بكر ، بسكونها في « عُذْراًَ » وضمها في « نُذْراً » ، والسكون والضم - كما تقدم - في أنه يجوز أن يكون كل منهما أصلاً للآخر ، وأن يكونا أصلين ، ويجوز في كل من المثقّل والمخفّف أن يكون مصدراً ، وأن يكون جمعاً سكنت عينه تخفيفاً .
وقرأ إبراهيم التيمي : « عُذْراً ونُذْراً » بواو العطف موضع « أو » ، وهي تدل على أن « أو » بمعنى الواو .
فصل في معنى الآية
والمعنى : يلقي الوحي إعذاراً من الله تعالى وإنذاراً إلى خلقه من عذابه . قاله الفراء .
وروي عن أبي صالحٍ قال : يعني الرسل يعذرون وينذرون .
وروى سعيد عن قتادة : « عُذْراً » قال : عذراً لله - تعالى - إلى خلقه ، ونذراً للمؤمنين ينتفعون به ويأخذون به ، وروى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : « عُذْراً » أي : ما يقبله الله - تعالى - من معاذير أوليائه ، وهي التوبة « أو نُذْراً » ينذر أعداءه .
فصل في المراد بهذه الكلمات الخمس
قال ابن الخطيب : اعلم أن هذه الكلمات الخمس ، إما أن يكون المراد منها جنساً واحداً ، أو أجناساً مختلفة ، فالأول فيه وجوه :
أحدها : أن المراد بها الملائكة والمرسلات هي الملائكة الذين أرسلهم الله - تعالى - إما لإيصال النِّعمة إلى قوم أو لإيصال النقمة إلى آخرين ، وقوله تعالى : « عُرْفاً » إما أن يكون العُرْف هو الذي ضد النُّكر ، فإن كانوا الملائكة المبعوثين للرحمة ، فالمعنى فيهم ظاهر وإن بعثوا للعذاب فذلك العذاب وإن لم يكن معروفاً للكفَّار فإنه معروف للأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - والمؤمنين ، أو يكون العرف التَّتابع ، وقوله تعالى : { فالعاصفات عَصْفاً } فمعناه أن الملائكة عصفوا في طيرانهم كعصف الرياح ، أو يعصفون بروح الكافرِ ، يقال : عصف بالشيء إذا أباده ، وقوله تعالى : { والناشرات نَشْراً } أي : أنهم نشروا أجنحتهم عند انحطاطهم إلى الأرض ، أو نشروا الرحمة والعذاب ، أو المراد الملائكة الذي ينشرون الكتب التي فيها أعمال بني آدم يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً ، وقوله تعالى : { فالفارقات فَرْقاً } أي : أنهم يفرقون بين الحق والباطل ، وقوله : { فالملقيات ذِكْراً } أي أنهم يلقون الذِّكرَ إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
والمراد بالذكر إما العلم والحكمة أو القرآن ، لقوله تعالى : { أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } [ القمر : 25 ] ، وهذا المُلْقي وإن كان جبريل وحده إلا أنه سمِّي باسم الجمع تعظيماً له .
واعلم أن الملائكة أقسام : قسمٌ يرسل لإنزال الوحي على الأنبياء ، وقسمٌ يرسل لكتابة اعمل بني آدم ، وقسم يرسل لقبض الأرواح ، وقسم يرسل بالوحي من سماءٍ إلى سماءٍ .
الوجه الثاني : أن المراد بهذه الكلمات الخمس : الرياح ، أقسم الله - تعالى - بالرياح عند إرسالها عُرْفاً ، أي : متتابعة ، كشعر العرف ، ثم إنها تشتدّ حتى تصير عواصف ورياح رحمة تنشر السحاب في الجو ، قال الله تعالى : { يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ الأعراف : 57 ] ، وهو المراد بقوله تعالى : { والناشرات نَشْراً } أي : أنها تنشر السحاب ، أو أنها تلقح الأشجار والنبات ، فتكون ناشرة ، وقوله تعالى : { فالفارقات فَرْقاً } أي : أنها تفرق بين أجزاء السحاب ، أو أنها تخرب بعض القرى ، وذلك يصير سبباً لظهور الفرق بين أولياء الله وأعدائه ، أو أنها عند هبوبها تفرّق الخلق فمن مقرّ خاضع ، ومن منكر جاحد .
وقوله تعالى : { فالملقيات ذِكْراً } أي : أن العاقل إذا شاهد هبوب تلك الرياح التي تقلع القِلاَع وتهدم الصخور والجبال ، وترفع أمواج البحار تمسَّك بذكر الله - تعالى - والتجأ إلى إعانة الله - تعالى - فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذِّكر والإيمان والعبودية في القلب .
الوجه الثالث : قال ابن الخطيب : من الناس من حمل بعض هذه الكلمات الخمس على القرآن ، وعندي أنه يمكن حمل جميعها على القرآن ، فقوله تعالى : { والمرسلات عُرْفاً } المراد منه الآيات المتتابعة المرسلة على لسان جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : { عُرْفاً } أي هذه الآيات نزلت بكل عرف وخير ، كيف لا وهي الهادية إلى سبيل النجاة الموصلة إلى مجامع الخيرات ، والمراد ب « العاصفات عصفاً » أن دولة الإسلام والقرآن إن كانت ضعيفةً في أولها ، ثم عظُمت وقهرت سائر الملل والأديان ، فكأن دولة القرآن عصفت سائر الدُّول والملل والأديان وقهرتها ، وجعلتها باطلة دائرة .
والمراد ب « النَّاشِرات نَشْراً » ، أن آيات القرآن نشرت الحِكَم والهداية في قلوب العالمين شرقاً وغرباً .
والمراد ب « الفارقات فرقاً » أن آيات القرآن نشرت الحِكَم والهداية في قلوب العالمين شرقاً وغرباً .
والمراد ب « الفارقات فرقاً » أن آيات القرآن فرَّقت بين الحقِّ والباطل ، ولذلك سمِّي القرآن فرقاناً ، والمراد ب « الملقيات ذكراً » أن القرآن ذكر ، قال تعالى : { ص والقرآن ذِي الذكر } [ ص : 1 ] { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } [ الأنبياء : 50 ] { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } [ الحاقة : 48 ] .
الوجه الرابع : قاله ابن الخطيب : ويمكن حملها أيضاً على بعثة الرُّسل ، فالمراد ب « المرسلات عرفاً » هم المُرسَلُون بالوَحْي المشتمل على كُلِّ خير ومعروف ، { فالعاصفات عَصْفاً } أن كل أمر لكل رسول يكون في أول أمره حقيراً ضعيفاً ، ثم يشتدّ ويعظم ويصير في القوة كعصف الرياح { والناشرات نَشْراً } انتشار دينهم ، { فالفارقات فَرْقاً } أنهم يفرقون بين الحق والباطل ، { فالملقيات ذِكْراً } أنهم يأمرونهم بالذكر ويحثُّونهم عليه .
الاحتمال الثاني : وهو ألاَّ يكون المراد من هذه الكلمات الخمس شيئاً واحداً ، وفيه وجوه :
أحدها : قال الزجاج ، واختاره القاضي : أن الثلاثة الأول هي الرياح ، فقوله تعالى : { والمرسلات عُرْفاً } هي الرياح التي تتصل على العرف المعتاد ، والعاصفات : ما اشتدّ عنها ، والنَّاشرات : ما ينشر السحاب ، وقوله تعالى : { فالفارقات فَرْقاً } هم الملائكة الذي يُفرِّقُون بين الحقِّ والباطل والحلال والحرام بما يتحمَّلونه من القرآن والوحي ، وكذا قوله : { فالملقيات ذِكْراً } أنها الملائكة المتحمِّلون للذِّكر الذي يلقونه إلى الرسل .
فإن قيل : ما المجانسة بين الريح وبين الملائكة حتى جمع بينهما في القسمِ؟ .
قلت : الملائكة روحانيّون فهم سبب طاقاتهم وسرعة حركاتهم كالرياح .
وثانيها : أن الآيتين الأوليين هما الرياح ، والثلاثة الباقية منهم الملائكة؛ لأنها تنشر الوحي والدين ، ثم لذلك الوحي أثران :
الأول : حصول الفرق بين المحق والمبطل .
والثاني : ظهر الله في القلوب والألسنة ، ويؤكد هذا أنه قال : { والمرسلات عُرْفاً فالعاصفات عَصْفاً } ، ثم عطف الثاني على الأول بحرف الواو ، فقال : « والنَّاشِرَاتِ » وعطف الاثنين الباقيين عليه بحرف الفاء ، وهذا يقتضي أن يكون الأولان ممتازين عن الثلاثة الأخيرة .
قال ابن الخطيب : ويمكن أن يكون المراد بالأولين الملائمكة ، فقوله تعالى : { والمرسلات عُرْفاً } ملائكة الرَّحمة ، وقوله تعالى : { فالعاصفات عَصْفاً } ملائكة العذاب ، والثلاثة الباقية آيات القرآن؛ لأنها تنشر الحق في القلوب والأرواح ، وتفرّق بين الحق والباطل ، وتلقي الذكر في القلوب والألسنة .
فصل في وجه دخول الفاء والواو في جواب القسم
قال القفالُ : الوجه في دخول الفاء في بعض ما وقع به القسم ، والواو في بعض مبنيّ على أصل ، وهو أن عند أهل اللغة أن الفاء تقتضي الوصل والتعلُّق ، فإذا قيل : قام زيد فذهب ، فالمعنى : أنه قام ليذهب ، فكان قيامه سبباً لذهابه ومتصلاً به ، فإذا قيل : قام وذهب ، فهما خبران ، وكل واحد منهما قائم بنفسه ، لا يتعلق بالآخر . ثم إن القفال رحمه الله لما مهد هذا الأصل ، فرع عليه الكلام في هذه الآية بوجوه .
قال ابن الخطيب : وتلك الوجوه لا يميل القلب إليها ، وأنا أنوع على هذا الأصل فأقول : أما من جعل الأولين صفة لشيءٍ ، والثلاثة الأخيرة صفاتٍ لشيء واحدٍ ، فنقول : إن حملناها على الملائكة فالملائكة إذا أرسلت طارت سريعاً ، وذلك الطيران هو العصف ، فالعصف مرتب على الإرسال ، فإن الملائكة أول ما يلقون الوحي إلا الرُّسل لا يصير في الحال ذلك الدين مشهوراً منتشراً ، بل الخلق يردون الأنبياء في أول الأمر فيكذبونهم وينسبونهم إلى السحر والجنون ، فلا جرم أن يذكر الفاء التي تفيد التعقيب ، بل ذكر الواو ، وإذا حصل النشر ترتب عليه حصول الفرق بين الحق والباطل وظهور ذلك الحق على الألسنة فلا جرم ذكر هذين الأمرين بحرف الفاء ، فكأنه - والله أعلم - قال : يا محمد ، أنا أرسلت إليك الملك بالوحي الذي هو عنوان كل سعادة وخير ، ولكن لا تطمع في أن ينتشر ذلك الأمر في الحال ، ولكن لا بد من الصَّبر وتحمل المشقة ، ثم إذا جاء وقت النصرة اجعل دينك ظاهراً منتشراً في شرق العالم وغربه ، وعند ذلك الانتشار يظهر الفرق ، فتصير الأديان باطلة ، ضعيفة ، ساقطة ، ودينك الحق ظاهراً عالياً ، وهنالك يظهر ذكر الله على الألسنة ، وفي المحاريب وعلى المنابر ، ومن عرف هذا الوجه أمكنه ذكر مناسبة سائر الوجوه .
قوله : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ } . هذا جوابُ القسم ، وقوله : « والمُرسَلاتِ » وما بعده معطوف عليه ، وليس قسماً مستقلاً ، لما تقدم في أول الكتاب ، لوقوع الفاء هنا عاطفة؛ لأنها لا تكون للقسم ، و « ما » موصولة بمعنى « الذي » هي اسم إن و « تُوعَدُون » صلتها ، والعائد محذوف ، أي إن الذي توعدونه ، و « لواقع » خبرها ، وكان من حق « إن » أن تكون منفصلة عن « ما » الموصولة ، ولكنهم كتبوها متصلة بها .
فصل في الموعود به
إنما توعدون من أمر القيامة لواقع بكم ونازل عليكم ثم لذكره علامات القيامة بعده .
وقال الكلبي : المراد أن كل ما توعدون به من الخير والشَّر لواقع بكم .
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
ثم بين وقت وقوعه فقال تعالى : { فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ } اي : ذهب ضوؤها ، ومُحِيَ نورها كطَمْسِ الكتاب ، يقال : طمس الشيء إذا درس ، وطمس فهو مطموس ، والريح تطمس الآثار ، فتكون الريح طامسة ، والأثر طامس بمعنى مطموس .
قال ابن الخطيب : ويحتمل ان تكون محقت ذواتها ، وهو موافق لقوله تعالى : { نُشرت } .
و « النُّجومُ » مرتفعة بفعل مضمر يفسره ما بعده عند البصريين غير الأخفش ، وبالابتداء عن الكوفيين والأخفش .
وفي جواب « إذا » قولان :
أحدهما : محذوف ، تقديره : فإذا طمست النجوم وقع ما توعدون ، لدلالة قوله إنما توعدون لواقع أو بان الأمر .
والثاني : أنه « لأيَِّ يَومٍ أجِّلتْ » على إضمار القول ، أي يقال : لأي يوم أجّلت ، فالفعل في الحقيقة هو الجواب .
وقيل : الجواب : « وَيْلٌ يَوْمَئذٍ » . نقله مكي ، وهو غلط؛ لأنه لو كان جواباً للزمته الفاء لكونه جملة اسمية .
قوله تعالى : { وَإِذَا السمآء فُرِجَتْ } . أي : فتحت وشقّت ، ومنه قوله تعالى : { وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً } [ النبأ : 19 ] ، والفَرْجُ : الشقُّ ، ونظيره : { إِذَا السمآء انشقت } [ الانشقاق : 1 ] { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام } [ الفرقان : 25 ] .
وروى الضحاك عن ابن عباس : - رضي الله عنهم - قال : فرجت للطي .
قوله تعالى : { وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ } أي : ذهب بها كلها بسرعة ، من أنسفت الشيء إذا اختطفته ، وقيل : تنشق كالحب المغلق إذا نسف بالمنسف ، ومنه قوله تعالى : { لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً } [ طه : 97 ] ، ونظيره : { وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً } [ الواقعة : 5 ] { وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً } [ المزمل : 14 ] { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] .
وقرئ : « طُمّست ، وفُرّجت ، ونُسّفت » مشددة .
وكان ابن عباس يقول : سويت بالأرض ، والعرب تقول : فرس نسوف ، إذا كان يؤخر الحزام بمرفقيه؛ قال بشرٌ : [ الوافر ]
5055- نَسُوفٌ لِلحزَامِ بِمرْفقيْهَا .. .
ونسفت الناقة الكلأ إذا رعتهُ .
قوله : { وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ } . قرأ أبو عمرو : « وقِّتَتْ » بالواو ، والباقون : بهمزة بدل الواو . قالوا : والواو هي الأصل؛ لأنه من الوقت ، والهمزة بدل منها لأنها مضمومة ضمة لازمة ، وكل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة تبدل على الاطراد همزة أولاً ، تقول : صلى القوم إحداناً ، تريد : وِحدَاناً ، وهذه أجوه حسان؛ لأن ضمة الواو ثقيلة وبعدها واو فالجمع بينهما يجري مجرى المثلين فيكون ثقيلاً ، ولم يجز البدل في قوله تعالى { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ } [ البقرة : 237 ] ؛ لأن الضمة غير لازمة ، قال الفراء . وقد تقدم ذكر ذلك أول الكتاب .
فصل في المراد بالتأقيت
قال مجاهد والزجاج : المراد بهذا التأقيت تبيين الوقت الذي تحضرون فيه للشهادة على أممكم ، أي : جمعت لوقتها ليوم القيامة ، والوقت : الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه ، فالمعنى : جعل لها وقت وأجل للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم ، كقوله تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل } [ المائدة : 109 ] .
وقيل : المراد بهذا التأقيت تحصيل الوقت وتكوينه ، وليس في اللفظ بيان أنه يحصل لوقت أي شيء ، ولم يبينه ليذهب الوهم إلى كل جانب ، فيكون التهويل فيه أشد ، فيحتمل أن يكون المراد تكوين وقت جمعهم للفوز بالثواب ، وأن يكون وقت سؤال الرسل عما أجيبوا به ، وسؤال الأمم عما أجابوا هم لقوله تعالى :
{ فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين } [ الأعراف : 6 ] ، وأن يكون وقت مشاهدة الجنة والنار وسائر أحوال القيامة ، وقيل : « أقِّتَتْ » أي : أرسلت لأوقات معلومة على ما علمه الله وأراده .
فصل في قراءات الآية
قرأ أبو جعفر وشيبة : بالواو وتخفيف القاف وهو « فعلت » من الوقت ، ومنه { كِتَاباً مَّوْقُوتاً } [ النساء : 103 ] .
وقرئ - أيضاً - : « وُوقتت » - بواوين - ، وهو « فوعلت » من الوقت أيضاً مثل : عُوهِدَت .
قال القرطبي : « ولو قلبت الواو في هاتين القراءتين ألفاً لجاز ، وقد قرأ يحيى وأيوب وخالد بن إلياس وسلام : » أقِتَتْ « بالهمز والتخفيف؛ لأنها مكتوبة في المصحف بالألف » .
قوله تعالى : { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ } . الجار متعلق ب « أجلت » وهذه الجملة معمولةٌ لقول مضمر ، أي : يقال وهذا القول المضمرُ يجوز أن يكون جواباً ل « إذا » - كما تقدَّم - وأن يكون حالاً من مرفوع « أقتت » أي : مقولاً فيها لأيِّ يوم أجّلت أي : أخّرت ، وهذا تعظيم لذلك اليوم ، فهو استفهام على التعظيم ، أي ليوم الفصل أجلت ، كأنه تعالى قال : يعجب العباد من تعظيم ذلك اليوم ، فيقال : لأي يوم أجلت الأمور المتعلقة بهذه الرسل ، وهي تعذيب من كذبهم وتعظيم من آمن بهم وظهور ما كانوا يدعون الخلق إلى الإيمان به من الأهوال والعرض والحساب ، ونشر الدواوين ووضع الموازين .
قوله : { لِيَوْمِ الفصل } بدل من « لأيِّ يومٍ » بإعادة العامل .
وقيل : بل يتعلق بفعل مقدر أي أجلت ليوم الفصل ، وقيل : اللام بمعنى « إلى » ذكرها مكي .
فصل في المراد بيوم الفصل
اعلم أنه تعالى بين ذلك اليوم فقال : { لِيَوْمِ الفصل } ، قال ابن عباس : يوم فصل الرحمن بين الخلائق ، لقوله تعالى : { إِنَّ يَوْمَ الفصل مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الدخان : 40 ] .
قوله : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل } . أتبع التعظيم تعظيماً ، أي : وما علمك بيوم الفصل وشدته ومهابته ، ثم أتبعه بتهويل ثالث ، وهو قوله : « ويْلٌ » مبتدأ ، سوغ بالابتداء به كونه دعاء .
قال الزمخشري : « فإن قلت : كيف وقعت النكرة مبتدأ في قوله تعالى { وَيْلٌ } ؟ قلت : هو في أصله مصدر منصوب سادّ مسدَّ فعله ، ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على إثبات معنى الهلاك ، ودوامه للمدعو عليهم ، ونحوه { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 24 ] ، ويجوز » قِيلاً « بالنصب ، ولكنه لم يقرأ به » .
قال شهاب الدين : « هذا الذي ذكره ليس من المسوّغات التي عدها النحويون وإنما المسوغ كونه دعاء وفائدة العدول إلى الرفع ما ذكره » .
و « يَوْمئذٍ » ظرف للويل .
وجوز أبو البقاء : أن يكون صفة للويلِ ، وللمكذبين خبره .
فصل في تفسير الآية
قال القرطبي : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أي : عذاب وخِزْي لمن كذب بالله تعالى وبرسله ، وعلى تقدير تكذيبهم؛ فإنَّ لكل مكذب بشيء سوى تكذيبه بشيء آخر ، وربّ شيء كذب به وهو أعظم جرماً من تكذيبه بغيره؛ لأنه أقبح في تكذيبه ، وأعظم في الرد على الله تعالى ، فإنما يقسم له من الويل على قدر ذلك ، وهو قوله : { جَزَآءً وِفَاقاً } [ النبأ : 26 ] .
وقيل : كرره لمعنى تكرار التخويف والوعيد .
وروي عن النعمان بن بشير قال : « ويْلٌ » واد في جهنم فيه ألوان العذاب ، قاله ابن عباس وغيره .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « عُرِضتْ عليَّ جَهنَّمُ فَلمْ أرَ فيهَا وَادِياً أعْظمَ منَ الوَيْلِ » .
وروي أيضاً أنه مجمع ما يسيل من قيحِ أهل النار وصديدهم ، وإنما يسيل الشيء فيما سفل من الأرض ، وقد علم العباد في الدنيا أن شرّ المواضع في الدنيا ما استنقع فيها مياه الأدناس والأقذار والغسلات من الجيف وماء الحمَّامات ، فذكر أن ذلك الوادي مستنقع صديد أهل النَّار والشرك ليعلم العاقل أنه لا شيء أقذرُ منه قذارةً ، ولا أنتنُ منه نتناً .
قوله تعالى : { أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين } . العامة : على ضم حرف المضارعة ، من « أهْلَكَ » رباعيًّا ، وقتادة : بفتحه .
قال الزمخشري : من هلكه بمعنى « أهلكه »؛ قال العجاج : [ الرجز ]
5056- ومَهْمَهٍ هَالكُ مَنْ تَعرَّجَا ... ف « من » معمول الهالك ، وهو من « هلك » ، إلاَّ أن بعض النَّاس جعل هذا دليلاً على إعمال الصِّفة المشبهة في الموصول ، وجعلها من اللازم؛ لأن شرط الصفة المشبهة أن تكون من فعل لازم ، فعلى هذا دليل فيه .
قوله : { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين } .
العامة : على رفع العين استئنافاً أي : ثم نحن نتبعهم ، كذا قدره أبو البقاء .
وقال : « وليس بمعطوف ، لأن العطف يوجب أن يكون المعنى : أهلكنا الأولين ، ثمَّ أتبعناهم الآخرين في الهلاك ، وليس كذلك؛ لأن هلاك الآخرين لم يقع بعد » .
قال شهاب الدين : ولا حاجة في وجه الاستئناف إلى تقدير مبتدأ قبل الفعل ، بل يجعل الفعل معطوفاً على مجموع الجملة من قوله : « ألَمْ نُهْلكِ » ، ويدل على هذا الاستئناف قراءة عبد الله : « ثم سَنُتْبِعهُم الآخرين » بسين التنفيس ، وقرأ الأعرج والعباس عن أبي عمرو : بتسكينها ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنه تسكين للمرفوع ، فهو مستأنف كالمرفوع لفظاً .
والثاني : أنه معطوف على مجزوم ، والمعني بالآخرين حينئذ قوم شعيب ولوط وموسى ، وبالأولين قوم نوح وعاد وثمود .
قال ابن الخطيب : وهذا القول ضعيف؛ لأن قوله تعالى : { نُتْبِعُهُمُ } مضارع ، وهو للحال والاستقبال ، ولا يتناول الماضي ، وإنما المراد بالأولين : جميع الكفار الذين كانوا في عهد محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين } على الاستئناف ، أي : سنفعل ذلك ، ونتبع الأول الآخر ، ويدل على الاستئناف قراءة عبد الله في نتبعهم تدل على الاشتراك ، وحينئذ يكون المراد به الماضي لا المستقبل .
قلنا : لو كان المراد هو الماضي لوقع التنافي بين القراءتين ، وهو غير جائز ، فعلمنا أن تسكين العين ليس للجزم ، بل للتخفيف .
قوله : { كَذَلِكَ نَفْعَلُ } أي : مثل ذلك الفعل الشَّنيع نفعل بكل من أجرم .
فصل في المراد بالآية
المقصوُد من هذه الآية تخويف الكفار وتحذيرهم من الكفر ، أخبر عن إهلاك الكفار من الأمم الماضين من لدُن آدم -عليه الصلاة والسلام - إلى محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - { ثُمَّ نُتْبِعهُمُ الآخرين } أي : نُلحق الآخرين بالأولين ، { كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين } أي : مثل ما فعلنا بمن تقدم بمشركي قريش إما بالسيف وإما بالهلاك ، ثم قال تعالى : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } كأنه تعالى يقول : أما الدنيا : فحاصلهم الهلاك ، وأما الآخرة فالعذاب الشديد ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { خَسِرَ الدنيا والأخرة ذلك هُوَ الخسران المبين } [ الحج : 11 ] فإن قيل : المراد من قوله : { أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين } وهو مطلق الإماتة ، والإماتة بالعذاب فإن كان مطلق الإماتة لم يكن ذلك تخويفاً للكفار؛ لأن ذلك معلوم حاصل للمؤمن والكافر ، فلا يكون تخويفاً للكفار ، وإن كانت الإماتة بالعذاب فقوله تعالى : { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين } { كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين } يقتضي أن يكون فعل بكفَّار قريش مثل هذا ، ومعلوم أن ذلك لم يوجد ، وأيضاً فقد قال تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] .
فالجواب : قال ابن الخطيب : لم لا يجوز أن يكون المراد من الإهلاك معنى ثالث ، وهو الإماتة للذمِّ واللَّعن ، فكأنه قيل : أولئك المتقدمون لحرصهم على الدنيا عادوا الأنبياء وخاصموهم ، ثم ماتوا ففاتتهم الدنيا ، وبقي اللَّعْن عليهم في الدنيا والعقوبة في الاخرة دائماً سرمداً ، فهكذا يكون حال الكفار الموجودين ، وهذا من أعظم وجوه الزجر .
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
قوله : { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } . أي : ضعيف حقير وهو النُّطفة ، وهذا نوع آخر من تخويف الكفار ، وهو من وجهين :
الأول : أنه - تعالى - ذكرهم عظيم إنعامه عليهم ، وكلما كانت نعمه عليهم أكثر كانت جنايتهم في حقه أقبح وأفحش ، فيكون العقاب أعظم ، فلهذا قال جل ذكره عقيب هذه الأنعام : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } .
والثاني : أنه تعالى ذكرهم كونه تعالى قادراً على الابتداء ، والظاهر في العقل أن القادر على الابتداء قادر على الإعادة ، فلما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة ، لا جرم قال في حقهم : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ، وهذه الآية نظير قوله تعالى : { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [ السجدة : 8 ] .
{ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } ، أي : مكان حريز وهو الرَّحم .
{ إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ } ، قال مجاهد : إلى أن نصوره ، وقيل : إلى وقت الولادة ، كقوله تعالى : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } [ لقمان : 34 ] إلى قوله : { وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام } [ لقمان : 34 ] .
قوله تعالى : { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون } ، قرأ نافع والكسائي : بالتشديد من التقدير ، وهو موافق لقوله تعالى : { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } [ عبس : 19 ] .
والباقون : بالتخفيف ، من القدرة ، ويدل عليه { فَنِعْمَ القادرون } .
ويجوزُ أن يكون المعنى على القراءة الأولى : فنعم القادرون على تقديره : وإن جعلت « القادرون » بمعنى « المقدرون » كان جمعاً بين اللَّفظين ، ومعناهما واحد ، ومنه قوله تعالى : { فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [ الطارق : 17 ] ؛ وقول الأعشى : [ البسيط ]
5057- وأنْكرَتْنِي وقَدْ كَانَ الَّذِي نَكرَتْ ... مِنَ الحَوادثِ إلاَّ الشَّيْبَ والصَّلْعَا
وقال الكسائي والفراء : هما لغتان بمعنى .
قال القتيبي : « قَدَرْنَا » بمعنى « قَدَّرْنَا » مشددة ، كما تقول : قدرت كذا وقدرته ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الهلال : « إذَا غُمَّ عَليْكُمْ فاقْدُرُوا لَهُ » أي : قدروا له المسير والمنازل .
وقال محمد بن الجهم عن الفرَّاء : أنه ذكر تشديدها عن علي - رضي الله عنه - وتخفيفها .
قال : ولا يبعُد أن يكون المعنى في التشديد والتخفيف واحداً ، لأن العرب تقول : قدر عليه الموت وقدر ، قال تعالى : { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت } [ الواقعة : 60 ] قرئ بالتخفيف والتشديد ، وقدر عليه رزقه وقدر ، واحتج الذين خففوا فقالوا : لو كانت كذلك لكانت « فنِعْمَ المُقدِّرُونَ » .
قال الفراء : والعرب تجمع بين اللُّغتين ، واستدل بقوله : { فَمَهِّلِ الكافرين } الآية ، [ الطارق : 17 ] وذكر بيت الأعشى المتقدم .
وقيل : المعنى قدَّرنا قصيراً وطويلاً ، ونحوه عن ابن عبَّاس : قدرنا ملكنا .
قال المهدوي : وهذا التفسير أشبه بقراءة التخفيف .
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
قوله تعالى : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً } هذا هو النوع الرَّابع من تخويف الكُفَّار؛ لأنه - تعالى - ذكرهم في الآية المتقدمة بالنعم التي في الأنفس لأنها كالأصل للنعم التي في الآفاق ، ثم قال في آخرها : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ؛ لأن النعم كلها كانت أكثر كانت الخيانة أقبح وكان استحقاق الذم أشد ، وذكر في هذه الآية النعم التي في الأنفس ، لأنها كالأصل للنعم التي في الآفاق ، قالوا : فإنه لولا الحياة والسمع والبصر والأعضاء السليمة لما كان الانتفاع بشي من المخلوقات ممكناً - والله أعلم - ، وإنما قدم الأرض لأنها أقرب الأشياء إلينا من الأمور الخارجة .
والكِفَات : اسم للوعاء الذي يكفت فيه أي يجمع . قاله أبو عبيدٍ ، يقال : كفته يكفته أي جمعه وضمه .
وفي الحديث : « أكْفِتُوا صبيانكُم » ، قال الصمصمامة بن الطرمَّاح : [ الوافر ]
5058- وأنْتَ غَداً اليَوْمَ فَوْقَ الأرْضِ حَيًّا ... وأنْتَ غَداً تَضُمَّكَ فِي كِفاتِ
وقيل : الكِفَات : اسم لما يكفت ك « الضِّمام والجماع » ، يقال : هذا الباب جماع الأبواب ، والمعنى : نجعل الأرض ضامَّة تضم الأحياء على ظهرها ، والأموات في بطنها ، والكفت : الضم والجمع؛ وأنشد سيبويه : [ الوافر ]
5059- كِرَامٌ حِينَ تَنْكفِتُ الأفَاعِي ... إلَى أحْجارِهنَّ مِنَ الصَّقيعِ
وروي عن ربيعة في النباش ، قال : تقطع يده ، فقيل له : لم قلتَ ذلك؟ فقال : إن الله - تعالى - يقول : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً أَحْيَآءً وَأَمْواتاً } فالأرض حِرز ، وكانوا يسمون بقيع الغرقد كفته ، لأنه مقبرة تضم الموتى ، فالأرض تضم الأحياء إلى منازلهم ، والأموات في قبورهم ، وأيضاً استقرار النَّاس على وجه الأرض ، ثم اضطجاعهم عليها ، انضمام منهم إليها .
وقال الأخفش وأبو عبيدة ومجاهد في أحد قوليه : الأحياء والأموات ترجع إلى الأرض ، والأرض منقسمة إلى حيٍّ وهو الذي ينبت ، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت .
وفي انتصاب : « كَفَاتاً ، أحياء وأمواتاً » وجهان :
أحدهما : أنه مفعول ثانٍ ل « نجعل »؛ لأنها للتصيير .
والثاني : أنه منصوب على الحال من « الأرض » ، والمفعول الثاني : « أحياءً وأمواتاً » بمعنى : ألم نصيِّرها أحياء بالنبات ، وأمواتاً بغير نبات ، أي : بعضها كذا ، وبعضها كذا .
وقيل : « كِفَاتاً » جمع كافت ك « صيام ، وقيام » جمع « صائم ، وقائم » .
وقيل : بل هو مصدر كالكتاب والحساب .
وقال الخليل : التكفيت : تقليب الشَّيء ظهراً لبطن وبطناً لظهر ، ويقال : انكفت القوم إلى منازلهم ، أي : انقلبوا ، فمعنى الكفات : أنهم يتصرفون على ظهرها ، وينقلبون إليها فيدفنون فيها .
قوله : { أَحْيَآءً } . فيه أوجه :
أحدها أنه منصوب ب « كفات » قاله مكي ، والزمخشري؛ وبدأ به بعد أن جعل « كِفَاتاً » اسم ما يكفت ، كقولهم : الضِّمام والجماع .
وهذا يمنع أن يكون « كِفَاتاً » ناصباً ل « أحياءً »؛ لأنه ليس من الأسماء العاملة ، وكذلك إذا جعلناه بمعنى الوعاء على قول أبي عبيدة ، فإنه لا يعمل أيضاً ، وقد نصّ النحاة على أن أسماء الأمكنة والأزمنة والآلات وإن كانت مشتقة جارية على الأفعال لا تعمل ، نحو : مَرْمَى ، ومَنْجَل .
وفي اسم المصدر خلاف مشهور ، ولكن إنما يتمشّى نصبهما ب « كفات » على قول أبي البقاء ، فإنه يجوز فيه إلا أن يكون جمعاً لاسم فاعل أو مصدراً وكلاهما من الأسماء العاملة .
الوجه الثاني : أن ينتصب بفعل مقدر يدل عليه « كفاتاً » أي : يكفتهم أحياءً عى ظهرها ، وأمواتاً في بطنها ، وبه ثنى الزمخشري .
الثالث : أن ينتصب على الحالِ من محذوف ، أي : يكفتكم أحياءً وأمواتاً ، لأنه قد علم أنها كفات للإنس قاله الزمخشري ، وإليه نحا مكي ، إلا أنه قدر غائباً اي تجمعهم الأرض في هاتين الحالتين .
الرابع : أن ينتصب مفعولاً ثانياً ل « نجعل » و « كفاتاً » حال ، كما تقدم تقريره .
وتنكير « أحياء وأمواتاً » إما للتفخيم ، أي يجمع أحياء لا يقدرون وأمواتاً لا يحصون ، وإما للتبعيض؛ لأن أحياء الإنس وأمواتهم ليسوا بجميع الأحياء ولا الأموات ، وكذلك التنكير في « ماءً فراتاً » يحتمل المعنيين أيضاً ، أما التفخيم فواضحٌ لعظم المنّة عليهم وأما التبعيض ، فلقوله تعالى : { وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } [ النور : 43 ] فهذا مفهم للتبعيض والقرآن يفسِّر بعضه بعضاً .
وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ } . أي جعلنا في الأرض « رواسي » وهي الثوابت « شامخات » ، وهي الجبال الطُّوال ، جمع شامخ ، وهي المرتفعة جدًّا ، ومنه شمخ بأنفه إذا تكبّر ، جعل كناية عن ذلك كثني العطف ، وصعر الخد وإن لم يحصل شيء من ذلك .
قوله تعالى : { وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً } ، أي : وجعلنا لكم سُقْياً ، والفرات : الماء العذب يُشْرَب ويُسْقَى به الزرع ، أي : خلقنا الجبال ، وأنزلنا الماء الفرات ، وهذه الأمور أعجبُ من البعث .
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - : في الأرض من الجنة الفرات والدجلة ونهر الأردن .
وفي مسلم : سيحان وجيحان ، والنيل ، والفرات ، كل من أنهار الجنة .
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)
قوله تعالى : { انطلقوا } . أي : يقال لهم ذلك .
والعامة : على « انطلقوا » الثاني كالأول بصيغة الأمر على التأكيد وروى رويس عن يعقوب : « انْطَلَقُو » - بفتح اللام - فعلاً ماضياً على الخبر ، أي : لمَّا أمروا امتثلوا ذلك وهذا موضع الفاء ، فكان ينبغي أن يكون التركيب فانطلقوا ، نحو قولك : قلت له : اذهب فذهب ، وعدم الفاء هنا ليس بواضح .
فصل في كيفية عذاب الكفار في الآخرة
هذا هو النَّوع الخامس من تخويف الكُفَّار ، وهو بيان كيفية عذابهم في الآخرة والمعنى : يقال لهم : انطلقوا إلى ما كذبتم به من العذاب ، يعني النار ، فقد شاهدتموها عياناً .
{ انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ } أي : دخان ذي ثلاث شعب ، يعني الدخان الذي يرتفع ، ثم يتشعب إلى ثلاث شعب ، وكذلك بيان دخان جهنم العظيم إذا ارتفع تشعب .
قال أبو مسلم : ويحتمل في ثلاث شعبٍ ما ذكره بعد ذلك ، وهو أنه غير ظليل ، وأنه لا يغنى من اللهب ، وبأنه يرمي بشرر ، ثم وصف الظليل ، فقال :
{ لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللهب } أي : لا يدفع من لهب جهنم شيئاً ، أي : ليس كالظلِّ الذي يقي حر الشمس ، وهذا تهكّم بهم ، وتعريض بأن ظلَّهم غير ظلَّ المؤمنين ، وأنه لا يمنع حرَّ الشمس .
واللهب ما يعلو على النار إذا اضطرمت من أحمر ، وأصفر ، وأخضر .
وقيل : إن الشعب الثلاث من الضَّريع ، والزَّقُّوم ، والغسلين؛ قاله الضحاك .
وقيل : اللهب ثم الشرر ثُمَّ الدخان ، لأنها ثلاثة أحوال هي غاية أوصاف النار إذا اضطرمت واشتدت .
وقيل : عنق يخرج من النار فيتشعب ثلاث شعب ، فأما النور فيقف على رءوس المؤمنين ، وأما الدخان فيقف على رءوس المنافقين ، وأما اللهب الصافي فيقف على رءوس الكفار .
وقيل : هو السرادق ، وهو لسان من النَّار يحيط بهم يتشعب منه ثلاث شعب ، فيظلهم حتى يفرغ من حسابهم ، لقوله تعالى : { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } [ الكهف : 29 ] .
وتَسْمِيَةُ النَّار بالظِّل مجاز من حيث إنها محيطةٌ بهم من كل جانب ، لقوله تعالى : { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [ الزمر : 16 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } [ العنكبوت : 55 ]
وقيل : هو الظل من يحموم لقوله تعالى : { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } [ الواقعة : 43 ، 44 ] .
وفي الحديث : « إنَّ الشَّمسَ تَدنُو مِنْ رُءوسِ الخَلائقِ ، وليْسَ عَلَيْهِم ولا لَهُمْ أكْفانٌ ، فتَلْحَقُهمُ الشَّمْسُ وتَأخذُ بأنْفَاسِهمْ ، ثُمَّ يُنَجِّي اللهُ بِرحْمَتهِ مَنْ يَشَاءُ إلى ظلِّ من ظلِّه ، فهُناكَ يقُولُونَ : { فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم } [ الطور : 27 ] ويقال للمذكبين : انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون من عذاب الله وعقابه » .
قوله : { لاَّ ظَلِيلٍ } صفة ل « ظلّ » ، و « لا » متوسّطة بين الصفة والموصوف لإفادة النَّفي ، وجيء بالصِّفة الأولى اسماً ، وبالثانية فعلاً دلالة على نفي ثبوت هذه الصِّفةِ واستقرارها للظل ، ونفي التجدد والحدوث للإغناء عن اللَّهب ، يقال : أغني عني وجهك ، أي أبعد؛ لأن الغنيَّ عن الشيء يباعده كما أن المحتاج إليه يقاربه .
فال الزمخشري : « ولا يغني » في محل الجر ، أي وغير مُغْنٍ عنهم من حر اللهب شيئاً .
{ إِنَّهَا } أي إن جهنم ، لأن السياق كله لأجلها .
وقرأ العامة : « بِشَررٍ » بفتح الشين وألف بين الراءين .
وورش يرقّق الراء الأولى لكسر التي بعدها .
وقرأ ابن عباس وابن مقسم : بكسر الشين وألف بين الراءين .
وعيسى كذلك ، إلا أنه يفتح الشين .
فقراءة ابن عباس : يجوز أن تكون جمعاً ل « شَرَرة » ، و « فَعَلة » تجمع على « فِعَال » نحو « رَقَبة ورِقَاب ، ورحبة ورِحَاب » .
وأن يكون جمعاً ل « شر » لا يراد به « أفعل » التفضيل : يقال : رجل شر ، ورجال أشرار ورجل خير ورجال أخيار ، ويؤنثان ، فيقال : امرأة شرة وامرأة خيرة ، فإن أريد بهما التفضيل امتنع ذلك فيهما ، واختصّا بأحكام مذكورة في كتب النحو ، أي : ترمي بشرار من العذاب ، أو بشرار من الخلق .
وأما قراءة عيسى : فهو جمع شرارة بالألف ، وهي لغة تميم ، والشررة والشرارة : ما تطاير من النار منصرفاً .
قال القرطبي : « الشرر : واحدته شررة ، والشرار : واحدته شرارة ، وهو ما تطاير من النار في كل جهة ، وأصله من شررت الثوب إذا بسطته للشمس ليجفَّ .
والقَصْر : البناء العالي » .
قوله : { كالقصر } العامة على فتح القاف وسكون الصاد وهو من القصر المعروف شبِّهت به في كبره وعظمه .
وابن عباس وتلميذه ابن جبير والحسن : بفتح القاف والصَّاد ، وهي جمع قصرة - بالفتح - والقصرة : أعناق الإبل والنخل وأصول الشجر .
وقرأ ابن جبير والحسن أيضاً : بكسر القاف وفتح الصَّاد ، جمع قصرة بفتح القاف .
قال الزمخشري : « كحاجة وحوج » .
وقال أبو حيان : « كحلقة من الحديد وحلق » .
وقرئ : « كالقَصِر » بفتح القاف وكسر الصاد .
قال شهاب الدين : ولم أر لها توجيهاً ، ويظهر أن يكون ذلك من باب الإتباع والأصل : كالقصر - بسكون الصاد - ثم أتبع الصاد حركة الراء فكسرها ، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في المشغول بحركة نحو « كَتِف ، وكَبِد » فلأن يفعلوه في الخالي منها أولى ، ويجوز أن يكون ذلك للنقل ، بمعنى أنه وقف على الكلمة ، فنقل كسرة الراء إلى الساكن قبلها ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، وهو باب شائع عند القراء والنحاة .
وقرأ عبد الله : قُصُر وفيها وجهان :
أحدهما : أنه جمع قصر ، ك « رَهْن ورُهُن » . قاله الزمخشري .
والثاني : أنه مقصور من قصور؛ كقوله : [ الرجز ]
5060- فِيهَا عَيَايِيلُ أسُودٌ ونُمُرْ ...
يريد : نمور ، فقصر ، وكقوله : { والنجم } [ النجم : 1 ] يريد : النجوم .
وتخريج الزمخشري أولى ، لأن محل الثاني إما الضرورة ، وإما الندور .
قوله : « جِمَالات » قرأ الأخوان وحفص : « جِمَالَة » ، والباقون : « جِمَالاَت » .
ف « الجِمَالة » نحو « ذكر ، وذِكارة ، وحجر ، وحِجَارة » .
والثاني : أنه جمع ك « الذِّكَارة ، والحِجَارة » . قاله أبو البقاء .
والأول : قول النحاة .
وأما « جمالات » ، فيجوز أن يكون جمعاً ل « جمالة » ، وأن يكون جمعاً ل « جمال » ، فيكون جمع الجمع ، ويجوز أن يكون جمعاً ل « جميل » المفرد كقولهم : « رجالات قريش » كذا قالوه . وفيه نظر؛ لأنهم نصُّوا على أن الأسماء الجامدة ، وغير العاقلة لا تجمع بالألف والتاء ، إلا إذا لم تكسر ، فإن تكسرت لم تجمع ، وقالوا : ولذلك لحن المتنبي في قوله : [ الطويل ]
5061- إذَا كَانَ بَعْضُ النَّاس سَيْفاً لِدوْلَةٍ ... فَفِي النَِّاس بُوقاتٌ لَهُمْ وطُبُولُ
فجمع « بوقاً » على « بوقات » مع قولهم : « أبواق » ، فكذلك « جمالات » مع قولهم : « جمل ، وجمال » على أن بعضهم لا يجيز ذلك ، ويجعل نحو « حمامات ، وسجلات » شاذًّا ، وإن لم يكسر .
وقرأ ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة وأبو رجاء ، بخلاف عنهم كذلك ، إلا أنهم ضموا الجيم ، وهي حبال السفن .
وقيل : قلوص الجسور ، الواحد منها جملة ، لاشتمالها على طاقات الحبال ، وفيها وجهان :
أحدهما : أن يكون « جُمالات » - بالضم - جمع جمال ، ف « جمال » جمع « جملة » ، كذا قال أبو حيَّان ، ويحتاج في إثبات أن « جُمَالات » جمع « جملة » بالضم إلى نقل .
والثاني : أن « جمالات » جمع « جمالة » . قاله الزمخشري . وهو ظاهر .
وقرأ ابن عبَّاس والسلمي وأبو حيوة : « جُمَالة » بضم الجيم لما قاله الزمخشري آنفاً .
وروي عن علي - رضي الله عنه - أنها قطع النُّحاس .
قوله : { صُفْرٌ } . صفة ل « جمالات » أو ل « جمالة » لأنه إما جمع أو اسم جمع .
والعامة : على سكون الفاء جمع ، والحسن بضمها ، كأنه إتباع ، ووقع التشبيه بها في غاية الفصاحة .
قال الزمخشري : وقيل : « صُفْر » سود تضرب إلى الصفرة ، وفي شعر عمران بن حطَّان الخارجيِّ : [ الطويل ]
5062- دَعتْهُمْ بأعْلَى صَوْتهَا ورَمتهُمُ ... بِمِثْلِ الجمالِ الصُّفْرِ نزَّاعةُ الشَّوَى
وقال أبو العلاءِ : [ الكامل ]
5063- حَمْرَاءُ سَاطِعَةُ الذَّوائِبِ في الدُّجَى ... تَرْمِي بكُلِّ شَرارةٍ كطِرَافِ
فشبهها بالطِّراف ، وهو بيت الأدم في العظمِ والحمرة ، وكأنه قصد بخبثه أن يزيد على تشبيه القرآن ، ولتبجحه بما سوّل له من توهم الزيادة جاء في صدر بيته قوله : حمراء ، توطئة لها ومناداة عليها تنبيهاً للسَّامعين على مكانها ، ولقد عمي ، جمع الله له عمى الدارين عن قوله تعالى : { كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ } فإنه بمنزلة قوله : كبيت أحمر وعلى أن في التشبيه بالقصر ، وهو الحصن تشبيهاً من جهتين : من جهة العظم ، ومن جهة الطّول في الهواء .
انتهى .
وكان قد قال قبل ذلك بقليل : « شبهت بالقصور ، ثم بالجمال لبيان التشبيه؛ ألا ترى أنهم يشبهون الإبل بالأفدان والمجادل » .
والأفدان : القصور؛ كأنه يشير إلى قول عنترة : [ الكامل ]
5064- فَوقفْتُ فِيهَا نَاقَتِي وكَأنَّهَا ... فَدنٌ لأقْضِيَ حَاجةَ المُتلومِ
فصل في المراد بالقصر
قال القرطبي : القصر : البناء العالي .
وقيل : القصر : جمع قصرة - ساكنة الصاد - مثل جمرة وجمرة ، وتمر وتمرة ، والقصر : الواحدة من جزل الحطب الغليظ .
قال سعيد بن جبير ، والضحاك : هي أصول الشجر والنخل العظام إذا وقع وقطع .
وقيل : أعناقه : شبّه الشرر بالجمال الصفر ، وهي الإبل السود ، والعرب تسمي السود من الإبل صفراً .
قال الشاعر : [ الخفيف ]
5065- تِلْكَ خَيْلِي منهُ وتِلْكَ رِكَابِي ... هُنَّ صُفْرٌ أولادُهَا كالزَّبيبِ
أي : هنّ سود ، وإنما سميت السود من الإبل صفراً؛ لأنه يشوب سوادها شيء من صفرة .
قال الترمذي : وهذا القول ضعيف ، ومحال في اللغة أن يكون من يشوبه قليل فينسب كله إلى ذلك الشائب ، فالعجب ممن قال هذا ، وقد قال تعالى : { جِمَالَةٌ صُفْرٌ } فلا نعلم شيئاً من هذا في اللغة . والجمالات : الجمال .
وقال الفراء : يجوز أن تكون الجُمَالات - بالضم - من الشيء المجمل ، يقال : أجملت الحساب ، وجاء القوم جملة ، أي مجتمعين .
والمعنى : أن هذا الشرر يرتفع كأنه شيء مجموع غليظ أصفر .
قيل : شبهها بالجمالات لسرعة سيرها .
وقيل : لمتابعة بعضها بعضاً .
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)
قوله : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } العامة على رفع « يوم » خبراً ل « هذا » ، أي تقول الملائكة : هذا يوم لا ينطقون .
ويجوز أن يكون « انطَلِقُوا » من قول الملائكة ثم يقول الله لأوليائه : هذا يومُ لا ينطق الكافر ، ومعنى اليوم السَّاعة والوقت .
وزيد بن علي ، والأعرج ، والأعمش ، وأبو حيوة ، وعاصم في بعض طرقه : بالفتحِ ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن الفتحة فتحة بناء ، وهو خبر ل « هذا » كما تقدم .
والثاني : أنه منصوب على الظرف واقعاً خبراً ل « هذا » على أن يشار به لما تقدم من الوعيد ، كأنه قال : هذا العقاب المذكور كائن يوم لا ينطقون وقد تقدم آخر المائدة ما يشبه هذا في قوله تعالى : « هذا يَوْم يَنفَع » إلا أن النصب هناك متواتر .
قوله : { وَلاَ يُؤْذَنُ } العامة : على عدم تسمية الفاعل . وحكى الأهوازي عن زيد بن علي : « ولا يَأذَنُ » سمى الفاعل ، وهو الله تعالى .
وقوله : فيعتذرون « . في رفعه وجهان :
أحدهما : أنه مستأنف ، أي فهم يعتذرون .
قال أبو البقاء : ويكون المعنى : أنهم لا ينطقون نطقاً ينفعهم ، أو ينطقون نطقاً في بعض المواقف ولا ينطقون في بعضها .
والثاني : أنه معطوف على » يؤذن « فيكون منفياً ، ولو نصب لكان متسبباً عنه .
وقال ابن عطيَّة : » ولم ينصب في جواب النَّفْي لتشابه رءوس الآي ، والوجهان جائزان « .
فظهر من كلامه أنهما بمعنى واحد ، وليس كذلك بل المرفوع له معنى غير معنى المنصوب ، وإلى هذا ذهب الأعلم إلى أن الفعل قد يرتفع ويكون معناه النصب ، ورد عليه ابن عصفور .
قال الفرَّاء في قوله : » وَلاَ يُؤْذَنُ لهُمْ فيَعْتَذِرُونَ « : الفاء نسق ، أي عطف على » يؤذن « ، وأجيز ذلك ، لأن آخر الكلام بالنون ، ولو قال : فيعتذروا ، لم يوافق الآيات ، وقد قال : { لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ } [ فاطر : 36 ] ، بالنصب ، وكل صواب ، ومثله : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ } [ البقرة : 245 ] ، بالرفع والنصب .
فصل في تخويف الكفار
هذا نوع آخر من أنواع تخويف الكفار ، لأن الله - تعالى - بين أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما أتوا به من القبائح ، ولا لهم قدرة على رفع العذاب عن أنفسهم ، واعلم أن يوم القيامة له مواطن ومواقيت ، فهذا من المواقيت التي لا يتكلمون فيها ولا يعتذرون .
روى عكرمة : أن ابن عباس - رضي الله عنهما - سأله ابن الأزرق عن قوله تعالى : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } و { فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } [ طه : 108 ] ، وقد قال تعالى : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [ الطور : 25 ] . فقال له : إن الله - تعالى - يقول :
{ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [ الحج : 47 ] فإن لكل مقدار من هذه الأيام لوناً من هذه الألوان .
وقال الحسن : فيه إضمار ، أي هذا يوم لا ينطقون فيه بحجة نافعة ، ومن نطق بما لا ينفع ولا يفيد ، فكأنه ما نطق ، كما يقال لمن ذكر كلاماً غير مفيد : ما قلت شيئاً ، وقيل : إن هذا وقت جوابهم : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] .
قال الفراء : أراد بقوله : « لا ينطقون » تلك الساعة ، وذلك القدر من الوقت الذي لا ينطقون فيه ، كما تقول : آتيك يوم يقدم فلان ، والمعنى : ساعة يقدم ، وليس باليوم كله؛ لأن القدوم إنما يكون في وقت يسير ولا يمتد في كل اليوم .
وأجاب ابن الخطيب : بأن قوله تعالى { لاَ يَنطِقُونَ } لفظ مطلق ، والمطلق لا يفيد العموم لا في الأنواع ، ولا في الأوقات ، بدليل أنك تقول : فلان لا ينطق بالشر ولكنه ينطق بالخير ، وتارة تقول : فلان لا ينطق شيئاً ألبتة ، فهذا يدل على أن مفهوم « لا ينطق » مشترك بين الدائم والمؤقت ، وإذا كان كذلك فمفهوم « لا ينطق » يكفي في صدقه عدم النطق ببعض الأشياء ، وفي بعض الأوقات ، وذلك لا ينافي حصول النطق بشيء آخر في وقت آخر ، فيكتفى في صدق قوله : « لا يَنطقُونَ » أنهم لا ينطقون بعذر وعلة في وقت واحد ، وهو وقت السؤال .
فإن قيل : لو حلف لا ينطق في هذا اليوم حنث في قطعه في جزء منه . قلنا : ذلك لعرف الإيمان بحثنا في عرف اللفظ من حيث هو .
قال ابن الخطيب : فإن قيل : قوله : { ولا يُؤذنُ لهُم فيَعتَذِرُونَ } يوهم أن لهم عذراً ، وقد منعوا من ذكره ، فهم لا يؤذن لهم في ذكر ذلك العذر الفاسد .
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
قوله تعالى : { هذا يَوْمُ الفصل جَمَعْنَاكُمْ } . هذا نوع آخر من أنواع تهديد الكفار وتخويفهم ، أي : يقال لهم : هذا اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق ، فيتبين المحق من المبطل .
{ جَمَعْنَاكُمْ والأولين } .
قال ابن عباس : جمع الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم والذين كذبوا النبيين من قبله .
{ فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ } أي : حيلة في الخلاص من العذاب « فَكِيدُونِ » أي « فاحتالوا لأنفسكم وفاء ، ولن تجدوا ذلك .
وقيل : فإن كان لكم كيد أي إن قدرتم على حرب » فَكِيدُونِ « أي : حاربوني رواه الضحاك عن ابن عباس أيضاً ، قال : يريد كنتم في الدنيا تحاربون محمداً وتحاربوني ، فاليوم حاربوني .
وقيل : إنكم كنتم في الدنيا تعملون المعاصي ، وقد عجزتم الآن عنها ، وعن الدفع عن أنفسكم .
وقيل : إنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم فيكون كقول هود - عليه الصلاة والسلام - : { فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } [ هود : 55 ] .
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
قوله تعالى : { إِنَّ المتقين فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ } .
قال مقاتل والكلبي : المراد بالمتقين : الذين يتقون الشرك بالله تعالى؛ لأن السورة من أولها إلى آخرها في تقريع الكفار على كفرهم وتخويفهم .
قال ابن الخطيب : فيجب أن تكون هذه الآية مذكورة لهذا الغرضِ ، وإلا لتفككت السورة في نظمها وترتيبها ، وإنما يتم النظم بأن يكون الوعد للمؤمنين بسبب إيمانهم ، فأما من جعله بسبب الطاعة فلا يليق بالنظم ، وأيضاً فإن المتقي للشرك يصدق عليه أنه متَّقٍ؛ لأن غاية هذا أنه عام مخصوص ، فتبقى حُجَّة فيما عدا محل التخصيص ، وأيضاً فأن يحمل اللفظ على المعنى الكامل أولى وأكمل أنواع التقوى تقوى الشرك ، فالحمل عليه أولى .
وقال بعضهم : هذه الآية أيضاً من جملة التهديد ، فإن الكفار في الدنيا يكون الموت عليهم أسهل من أن يكون للمؤمنين دولة ، فإذا رأوا عاقبة الفريقين في الآخرة تضاعف خسرانهم وندمهم ، ولما أوعد الكفار بظل ذي ثلاث شعب ، وعد المؤمنين بظلال وعيون وفواكه .
قوله : { فِي ظِلاَلٍ } . هذه قراءة العامة .
والأعمش والزهري وطلحة والأعرج : « ظُلَل » جمع ظلة ، يعني في الجنة . وتقدم في « يونس » مثل لها .
قوله : { كُلُواْ } . معمولاً لقول ذلك المنصوب على الحال من الضمير المستكن في الظرف ، أي كائنين في ظلال مقولاً لهم : وكذلك كلوا وتمتعوا قليلاً ، فإن كان ذلك مقولاً لهم في الدنيا فواضح ، وإن كان مقولاً في الآخرة فيكون تذكيراً بحالهم ، أي حقاً بأن يقال لهم في دنياهم كذا؛ ومثله قوله : [ المديد ]
5066- إخوتِي لا تَبعَدُوا أبَداً ... وبَلَى ، واللَّهِ قَدْ بَعِدوا
أي هم أهل إن دعا لهم بذلك .
قوله { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين } . أي : نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأعمالهم في الدنيا .
فصل في الكلام على الآية
اختلفوا في قوله { كُلُواْ واشربوا } هل هو أمر أو إذن؟ .
فقال أبو هاشم : هو أمر ، وأراد الله تعالى منهم الأكل والشرب لأن سرورهم يعظم بذلك إذا علموا أن الله تعالى أراده منهم جزاء على عملهم ، فكما يريد إجلالهم وإعظامهم بذلك ، فكذلك يريد نفس الأكل والشرب منهم . وقال أبو علي : ليس بأمر وإنما يقوله على وجه الإكرام ، والأمر والنهي إنما يحصلان في زمان التكليف لا في الاخرة .
فصل فيمن قال : العمل يوجب الثواب
تمسّك من قال : العمل يوجب الثواب بالباء في قوله : { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف؛ لأن الباء للإلصاق ، ولمَّا جعل هذا العمل علامة لهذا الثواب كان الإتيان بذلك كالآلة والصلة إلى تحصيل ذلك الثواب ، وقوله تعالى : { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين } المقصود منه تذكير الكفار بما فاتهم من النعيم العظيم ليعلموا أنهم لو كانوا من المتقين المحسنين لفازوا بمثل تلك الخيرات ، فلما لم يفعلوا وقعوا فيما وقعوا فيه .
قوله تعالى : { كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ } هذا مردود إلى ما تقدم قبل المتقين وهو وعيد وتهديد ، وهو حال من المكذبين ، أي : الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم : { كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ } أي كافرون .
وقيل : مكتسبون فعلاً يضركم في الآخرة من الشرك ، فكأنه - تعالى - يقول للكافر : إنك في الدنيا عرضت نفسك لهذه الآفات التي وصفناها لمحبتك الدنيا ، ورغبتك في طيباتها ، إلا أن طيباتها قليلةٌ بالنسبة إلى تلك الآفات العظيمة ، فالمشتغل بتعظيمها يجري مجرى لُقْمةٍ واحدة من الحلوى ، وفيها السم المهلك ، فإنه يقال لآكلها تذكيراً له ونصحاً : كُلْ هذا ، وويلٌ لك منه بعدُ؛ فإنك من الهالكين بسببه ، فهذا وإن كان في اللفظ أمر إلا أنه في المعنى نهيٌ بليغ وزجر عظيم .
قوله تعالى : { وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ } نزلت في ثقيف ، حين امتنعوا من الصلاة فنزلت فيهم .
قال مقاتل : قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : أسْلِمُوا وأمرهم بالصلاة ، فقالوا : لا نَنْحَنِي ، فإنها مَسبَّة علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا خَيْرَ فِي دِينٍ ليس فيهِ رُكوعٌ ولا سجُودٌ » .
وقال ابن عباس : إنما يقال لهم هذا في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون .
وقال قتادة : هذا في الدنيا .
فصل في وجوب الركوع
قال ابن العربي : هذه الآية تدلّ على وجوب الركوع ، وكونه ركناً في الصلاة ، وقد انعقد الإجماع عليه .
وقال قوم : إن هذا يكون في الآخرة ، وليست بدار تكليف فيتوجه فيها أمر يكون عليه ويل وعقاب ، وإنما يدعون إلى السجود كشفاً لحال الناس في الدنيا ، فمن كان يسجد لله تمكن من السجود ، ومن كان يسجد رياء لغيره صار ظهره طبقاً واحداً .
وقيل : إذا قيل لهم : اخضعوا للحق لا يخضعون ، فهي عامّة في الصلاة وغيرها ، وإنما ذكره الصلاة لأنها أصل الشرائع بعد التوحيد ، والأمر بالصلاة أمر الإيمان لا يصح من غير إيمان .
فصل في المراد بالآية
حكى ابن الخطيب عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن المراد بقوله : { وإذا قيلَ لهم اركعُوا لا يَرْكعُونَ } هو الصلوات ، قال : وهذا ظاهر ، لأن الركوع من أركانها فبين أن هؤلاء الكفار من صفتهم أنهم إذا دعوا إلى الصلاة لا يصلون ، وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، وأنهم حال كفرهم يستحقُّون الذم والعقاب بترك الصلاة ، لأن الله - تعالى - ذمهم حال كفرهم على ترك الصلاة .
فصل في أن الأمر للوجوب
استدلوا بهذه الآية على أن الأمر للوجوب ، لأن الله - تعالى - ذمهم بمحمود ترك المأمور به ، وهذا يدل على أن مجرد الأمر للوجوب .
فإن قيل : إنما ذمهم لكفرهم .
فالجواب : أنه - تعالى - ذمهم على كفرهم من وجوه ، إلا أنه - تعالى - إنما ذمهم في هذه الآية لترك المأمور به؛ فدل على أن ترك المأمور به غير جائز .
قوله : { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ } . متعلق بقوله : { يُؤْمِنُونَ } .
والعامة : على الغيبة ، وقرأ ابن عامر في رواية ويعقوب : بالخطاب على الالتفات ، أو على الانفصال .
فصل في الكلام على الآية
قال ابن الخطيب : اعلم أنه تعالى لما بالغ في زجر الكفار من أول هذه السورة إلى آخرها في الوجوه العشرة المذكورة ، وحثَّ على التمسُّك بالنظر والاستدلال ، والانقياد للدين الحق ، ختم السورة بالتعجُّب من الكفار ، وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل العقلية بعد تجليتها ووضوحها ، { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } .
قال القاضي : هذه الآية تدلّ على أن القرآن محدث؛ لأن الله - تعالى - وصفه بأنه حديث ، والحديث ضد القديم ، والضدان لا يجتمعان ، فإذا كان حديثاً وجب ألاَّ يكون قديماً .
وأجيب : بأن المراد منه هذه الألفاظ ، ولا نزاع في أنها محدثة .
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعبٍ - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورةَ » المُرْسَلاتِ « كُتِبَ أنَّهُ لَيْسَ مِنَ المُشْرِكينَ » .
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)
قوله تعالى : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } قد تقدم أن البزي يدخل هاء السكت عوضاً من ألف « ما » الاستفهامية في الوقف .
ونقل عن ابن كثير أنه يقرأ « عمه » - بالهاء - وصلاً ، أجرى الوصل مجرى الوقف .
وقرأ عبد الله ، وأبي ، وعكرمة وعيسى : « عمّا » بإثبات الألف ، وقد تقدم أنه يجوز ضرورة وفي قليل من الكلام؛ ومنه قوله : [ الوافر ]
5067- عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمنِي لَئيمٌ ... كَخِنْزيرٍ تَمرَّغَ في رَمَادِ
وتقدم أن الزمخشري جعل منه { بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي } [ يس : 27 ] في « يس » ، و « عم » فيه قولان :
أظهرهما : أنه متعلق ب « يَتَساءَلون » .
قال أبو إسحاق : الكلام تام في قوله : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } ، ثم كان مقتضى القول أن يجيب مجيب ، فيقول : يتساءلون عن النبأ العظيم فاقتضى إيجاز القرآن ، وبلاغته أن يبادر المحتجّ بالجواب الذي يقتضيه الحال والمجاورة اقتضاءً بالحجة ، وإسراعاً إلى موضع قطعهم .
والثاني : أنه متعلق بفعل مقدر ، ويتعلق « عن النبأ العظيم » بهذا الفعل الظاهر .
قال الزمخشري : « وعن ابن كثير : أنه قرأ » عمّه « بهاء السكت ، ولا يخلو إما أن يجري الوصل مجرى الوقف ، وإما أن يقف ، ويبتدئ ب » يتساءلون عن النبأ العظيم « على أن يضمر » يتساءلون «؛ لأن ما بعده يفسره كشيء مبهم ثم يفسر » .
فصل في لفظ عم
قال ابن الخطيب : « عم » أصله : « عن ما »؛ لأنه حرف جر دخل على « ما » الاستفهامية .
قال حسان بن ثابت : [ الوافر ]
5068- عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ ... ... ... ... ... ... ... .... .
والاستعمال الكثير على الحذف ، وعلى الأصل قليل ، وذكروا في سبب الحذف وجوهاً :
أحدها : قال الزجاج : لأن الميم تشرك النون في الغُنَّة في الأنف فصارا كالحرفين المتماثلين . وثانيها : قال الجرجاني : أنهم إذا وضعوها في استفهام حذفوا ألفها تفرقةً بينها وبين أن يكون اسماً ، كقولهم : فيمَ ولِمَ وبِمَ وحتام .
وثالثها : قالوا : حذفت الألف لاتصال « ما » بحرف الجر حتى صارت كالجزء منه لينبئ عن شدة الاتصال .
ورابعها : حذف للتخفيف في الكلام ، فإنه لفظ كثير التَّرداد على اللسان .
فصل في أن السائل والمجيب هو الله تعالى
قال ابن الخطيب : قوله تعالى { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } سؤال ، وقوله : « عن النبأ العظيم » جواب ، والسائل والمجيب هو الله تعالى ، وذلك يدلّ على علمه بالغيب ، بل بجميع المعلومات ، وفائدة ذكره في معرض السؤال والجواب؛ لأنه أقرب إلى التفهيم والإيضاح ، ونظيره قوله تعالى : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] .
فصل في لفظ ما
« ما » لفظة وضعتْ لطلب ماهيَّات الأشياء ، وحقائقها ، تقول : ما الملك؟ وما الروح؟ وما الجن؟ والمراد طلب ماهياتها ، وشرح حقائقها ، وذلك يقتضي كون ذلك المطلوب مجهولاً ، ثم إنَّ الشيء العظيم الذي يكون لفظه مزيَّة يعجز العقل عن أن يحيط بكنهه كأنه مجهول ، فحصل بين الشيء المطلوب ، وبين الشيء العظيم مشابهة من هذا الوجه ، فلذلك سُئل عنه بما استعاره ، وكأنه مجهول ، ومنه
{ الحاقة مَا الحآقة } [ الحاقة : 1 ، 2 ] { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } [ المطففين : 8 ] ، و { مَا العقبة } [ البلد : 12 ] وشبهه .
فصل
قال الفراء : السؤال هو أن يسأل بعضهم بعضاً كالتقابل ، وقد يستعمل أيضاً في أن يتحدثوا به ، وإن لم يكن بينهم سؤال ، قال تعالى : { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ } [ الصافات : 50 ، 51 ] الآية ، وهذا يدل على التحدث .
فصل في نزول الآية
والضمير في { يَتَسَآءَلُونَ } ل « قريش » .
روى أبو صالح عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : كانت قريش تجلس لمَّا نزل القرآن ، فتتحدث فيما بينهم ، فمنهم المصدقُ ، ومنهم المكذبُ به ، فنزلت { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } .
وقيل : « عم » قسم ، فشدد المشركون أين يختصمون ، بدليل قوله تعالى : { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } [ النبأ : 4 ، 5 ] وهذا تهديد ، والتهديد لا يليق إلا بالكفار .
فإن قيل : فما تصنع بقوله : { الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } مع أنَّ الكفَّار كانوا متفقين في إنكار الحشر؟ فالجواب : لا نسلم اتفاقهم في إنكار الحشر؛ لأن منهم من كان يثبت المعاد الروحاني ، وهم جمهور النصارى ، وأما المعاد الجسماني ، فمنهم من كان شاكَّا فيه لقوله : { وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً } [ فصلت : 50 ] { وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] .
ومنهم من ينكرهُ ، ويقول : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } [ الأنعام : 29 ] .
ومنهم من يُقرُّ بهِ لكنه ينكر نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم فقد حصل اختلافهم .
وأيضاً فهبْ أنَّهم كانوا منكرين له ، لكن لعل اختلافهم في كيفية إنكاره ، فمنهم من أنكر؛ لإنكاره الصانع المختار ، ومنهم من ينكره؛ لاعتقاده أنَّ إعادة المعدوم ممتنعة لذاتها ، والقادر المختار إنما يكون قادراً على الممكن في نفسه .
وقيل : الضمير في « يتَساءَلُونَ » هم الكفَّار والمؤمنون كانوا جميعاً يتساءلون عنه ، فأما المسلمُ فيزداد يقيناً وبصيرةً في دينه ، وأمَّا الكافر فاستهزاءٌ وسخريةً ، وعلى سبيل إيراد الشكوك ، والشُّبهاتِ .
قال ابن الخطيب : ويحتملُ أنهم يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم ويقولون : ما هذا الذي تعدنا به من أمر الآخرة؟
قوله : { عَنِ النبإ } يجوز فيه ما جاء في قوله تعالى : { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ } [ المرسلات : 12 ] في البدليَّة ، والتعلُّق بفعلٍ مقدرٍ ، ويزيد عليه ها هنا أنَّه يتعلق بالفعل الظاهر ، ويتعلق ما قبله بمضمرٍ كما تقدم عن الزمخشري .
وقال ابن عطية : قال أكثر النحاة : « عن النَّبأ العظيم » يتعلق ب « يَتَسَاءَلُونَ » الظاهر كأنه قال : لم يتساءلون عن النبأ ، وقوله « عَمَّ » هو استفهام توبيخ وتعظيم .
وقال المهدوي : « هن » ليس تتعلق ب « يَتَسَاءَلُونَ » الذي في التلاوة؛ لأنه كان يلزمُ دخول حرف الاستفهام ، فيكون « أعن النبأ العظيم »؟ كقولك : كم مالك أثلاثون أم أربعون؟ فوجب لما ذكرنا امتناع تعلقه ب « يتساءلون » الذي في التلاوة ، وإنما يتعلق ب « يتساءلون » آخر مضمر ، وحسُن ذلك لتقدم « يَتَسَاءَلُونَ » .
قال القرطبي : « وذكر بعضهم أن الاستفهام في قوله : » عن « مكرر إلا أنَّه مضمر كأنه قال : » عمَّ يَتَساءَلُون أعنِ النَّبَأ العَظيمِ « ، فعلى هذا يكون متصلاً بالآية الأولى ، والنبأ العظيم ، أي : الخبر الكبير ، » الذي هم فيه مختلفون « أي : يخالف فيه بعضهم بعضاً فيصدقُ واحدٌ ويكذبُ آخر » .
قوله : { مُخْتَلِفُونَ } خبر « هم » والجار متعلق ب « هم » ، والموصول يحتمل الحركات الثلاث إتباعاً وقطعاً رفعاً ونصباً .
فصل في المراد بهذا النبأ
قال ابن عباس - رضي الله عنه - « النَّبَأُ » هو القرآن ، قال تعالى : { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } فالقرآن نبأ وخبر وقصص ، وهو نبأ عظيم ، وكانوا يختلفون فيه ، فجعله بعضهم سحراً ، وبعضهم شعراً ، وبعضهم قال : أساطيرُ الأولين .
وقال قتادة : هو البعث بعد الموت اختلفوا فمصدِّق ومكذِّب ، ويدل عليه قوله تعالى : { إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ مِيقَاتاً } [ النبأ : 17 ] .
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه أَمْرُ النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه لما بعث سأله اليهود عن أشياء كثيرة ، فأخبره الله باختلافهم ، وأيضاً فجعل الكفار يتساءلون فيما بينهم ، ما هذا الذي حدث؟ فأنزل الله - تعالى - « عَمَّ يتسَاءَلُون » وذلك أنَّهُم عجبُوا من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : { بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ } [ ق : 2 ] ، وعجبوا أن جاءهم بالتوحيد أيضاً كما قال تعالى : { أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ ص : 5 ] ، فحكى الله - تعالى - عن مسألة بعضهم بعضاً على سبيل التعجب بقوله : « عم يتساءلون » .
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
قوله : { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } ؛ التكرار للتوكيد .
وزعم ابن مالك : أنَّه من باب التوكيد اللفظي ، ولا يضر توسّط حرف العطف ، والنحويون يأبون هذا ، ولا يسمونه إلا عطفاً وإن أفاد التأكيد ، والعامة : على الغيبة في الفعلين .
والحسن ابن دينار وابن عامر بخلاف عنه بتاء الخطاب فيهما .
والضحاك : قرأ الأول كالحسن ، والثاني كالعامة . والغيبة والخطاب واضحان .
فصل في لفظ كلا
قال القفالُ : « كلا » لفظة وضعت للردع ، والمعنى : ليس الأمر كما يقوله هؤلاء في النبأ العظيم ، إنه باطل ، وإنه لا يكون .
وقيل : معناه : حقَّا ، ثم إنه - تعالى- كرر الردع والتهديد ، فقال سبحانه { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } وهو وعيدٌ بأنهم سوف يعلمون أنَّ ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لا دافع له ، وأما تكرير الردع ، فقيل : للتأكيد ، ومعنى « ثُمَّ » الإشعار بأن الوعيد الثاني أبلغ من الوعيد الأول وأشد .
وقيل : ليس بتكرير .
قال الضحاك : الأولى للكفار ، والثانية للمؤمنين أي : سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم ، وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم .
وقال القاضي : يحتمل أن يريد بالأول سيعلمون معنى العذاب إذا شاهدوه ، وبالثاني : سيعلمون العذاب .
وقيل : { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } ما الله فاعل بهم يوم القيامة { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } أنَّ الأمر ليس كما كانوا يتوهَّمون من أن الله غير باعث لهم .
قوله : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَاداً } لمَّا حكى الله - تعالى - عنهم إنكار البعث والحشر ، وأراد إقامة الدلائل على صحة الحشر قدم لذلك مقدمة في بيان كونه - تعالى - قادراً على جميع الممكنات عالماً بجميع المعلومات؛ لأنه إذا ثبت هذان الأصلان ثبت القول بصحة البعث ، فأثبت هذين الأصلين بأن عدَّد أنواعاً من مخلوقاته المتقنةِ المحكمة؛ فإنَّ هذه الأشياء من جهة حدوثها تدل على القدرة ، ومن جهة إحكامها وإتقانها تدل على العلم ، وإذا ثبت هذان الأصلان ، وثبت أن الأجسام متساوية في قبول الصفات والأعراض ثبت لا محالة كونه قادراً على تخريب الدنيا بسمواتها وكواكبها وأرضها ، وعلى إيجاد عالم الآخرة ، فهذا وجه النظم .
قوله : « مِهَاداً » . مفعول ثان؛ لأنَّ الجعل بمعنى التصيير ، ويجوز ان يكون بمعنى الخلق ، فتكون « مِهَاداً » حالاً مقدرة .
وقرأ العامة : « مهاداً » .
ومجاهد وعيسى وبعض الكوفيين « مهداً » ، وتقدمت هاتان القراءتان في سورة « طه » ، وأن الكوفيين قرأوا « مهداً » في « طه » و « الزخرف » فقط ، وتقدم الفرق بينهما ثمَّة .
قوله تعالى : { والجبال أَوْتَاداً } ، والكلام عليها كالكلام في « مِهَاداً » في المفعوليَّة والحاليَّة ، ولا بُدَّ من تأويلها بمشتق أيضاً ، أي مثبتات .
والمهاد : الوطاء ، وهو الفراش ، لقوله تعالى : { جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً } [ البقرة : 22 ] ، ومعنى « مَهْداً » أي : كمهدِ الصَّبي ، وهو ما يمهد للصبي فينوّم عليه ، و « أوتاداً » أي : لتسكن ولا تميل بأهلها .
قوله : { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً } . أي : أصنافاً ، ذكراً وأنثى .
وقيل : ألواناً .
وقيل : يدخل كل زوجٍ بهيج ، وقبيح ، وحسن ، وطويل وقصير ، لتختلف الأحوال ، فيقع الاعتبار .
قوله : { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } الظاهر أنَّه مفعول ثانٍ ، ومعناه : راحةً لأبدانكم ، ومنه السبتُ أي : يوم الراحة ، أي : قيل لبني إسرائيل : استريحوا في هذا اليوم ، ولا تعملوا فيه شيئاً .
وأنكر ابن الأنباري هذا ، وقال : لا يقال للراحة : سباتاً .
وقيل : أصله التمدُّد ، يقال : سبتت المرأة شعرها : إذا حلَّته وأرسلته ، فالسُّبات كالمد ، ورجل مسبوتُ الخلق ، أي ممدود ، وإذا أراد الرجل أن يستريح تمدد ، فسميت الراحة سبتاً .
ةقيل : أصله القطع ، يقال : سبت شعره سبتاً ، أي : حلقه ، وكأنه إذا نام انقطع عن الناس ، وعن الاشتغالِ ، فالسُّبات يشبه الموت ، إلا أنه لم تفارقه الروح ، ويقال : سيرٌ سبتٌ ، أي سهلٌ ليِّن .
قوله : { وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً } . فيه استعارة حسنة؛ وعليه قول المتنبي : [ الطويل ]
5069- وكَمْ لِظَلامِ اللَّيْلِ عِندكَ من يَدٍ ... تُخَبِّرُ أنَّ المانَويَّة تَكذِبُ
والمعنى : يُلبسُكُمْ ظُلْمتَهُ وتَغْشَاكُمْ . قاله الطبري قال القفال : أصل اللباس هو الشيء الذي يلبسه الإنسان ، ويتغطّى به ، فيكون ذلك مُغَطِّياً ، فلمَّا كان الليل يغشى الناس بظلمته جعل لباساً لهم ، فلهذا سمي الليل لباساً على وجه المجاز ، ووجه النعمة في ذلك هو أنَّ ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هرباً من عَدُو ، أو إخفاء ما لا يجب اطِّلاع غيره عليه .
وقال ابن جبير والسدي : أي : أسْكنَّاكُمْ .
قوله : { وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً } . فيه إضمار ، أي : وقت معاش ، فيكون مفعولاً ، وظرفاً للتبعيض ، أي : منصرفاً لطلب المعاش ، وهو كل ما يعاش به من المطعمِ ، والمشربِ مصدراً بمعنى العيش على تقدير حذف مضاف ، يقال : عاش عيشاً ومعاشاً ومعيشةً ، ومعنى كون النهار معيشة أن الخلق إنما يمكنهم التقلب في حوائجهم ومكاسبهم في النهار .
قوله تعالى : { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } . أي : سبع سماوات محكمات ، أي : محكمة الخلق وثيقة البنيان .
وشداداً : جمع شديدة ، أي : قوية لا يؤثِّر فيها مرور الأزمان لا فطور فيها ولا فروج ، ونظيره قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً } [ الأنبياء : 32 ] .
قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } . أي : وقَّاداً ، وهو الشمس ، و « جَعَلَ » هنا بمعنى « خلق »؛ لأنها تعدت لمفعول واحد ، والوهَّاج : المُضيء المتلألئ ، من قولهم : وهج الجوهر أي : تلألأ .
وقيل : الوهَّاج : الذي له وهج ، يقال : وَهَجَ يَوْهَجُ ، ك « وَحَلَ يَوحَلُ » ، « ووهَجَ يَهِجُ » ك « وَعَدَ يَعِدُ » وهجاً .
قال ابن عباس : وهَّاجاً : منيراً أي : مُتلألِئاً .
قوله : { وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات } . يجوز في « من » أن تكون على بابها من ابتداءِ الغاية ، وأن تكون للسببية ، وتدل على قراءة عبد الله بن زيد وعكرمة وقتادة : « بالمعصرات » بالباء بدل « من » ، وهذا على الخلاف في « المعصرات » ما المراد بها ، فعن ابن عباس : أنها السَّحاب ، وهو قول سفيان والربيع وأبي العالية والضحاك ، أي : السحاب التي تنعصر بالماء ، ولم تمطر بعد كالمرأة المُعْصِر التي قد دَنَا حيْضُهَا ولمْ تَحِضْ ، يقال : أعْصرتِ السَّحابُ ، أي : جاء وقت أن يعصرها الرياح فتمطر ، كقولك : أجز الزرع ، إذا جاز له أن يجز؛ وأنشد ابن قتيبة أبي النَّجْم : [ الرجز ]
5070- تَمْشِي الهُوَيْنَى مَائِلاً خِمارُهَا ... قَدْ أعْصَرتْ وقَدْ دَنَا إعْصَارُهَا
ولولا تأويل « أعْصرَتْ » بذلك لكان ينبغي أن تكون « المُعصَرات » - بفتح الصَّاد- اسم مفعول؛ لأن الرياح تعصرها .
وقال الزمخشري : وقرأ عكرمة : « بالمعصرات » .
وفيه وجهان :
أحدهما : أن تراد الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب ، وأن تراد السحائب؛ لأنه إذا كان الإنزال منها ، فهو بها كما تقول : أعطى من يده درهماً ، وأعطى بيده .
وعن ابن عباس ومجاهد : « المعصرات » الرياح ذوات الأعاصيرِ كأنها تعصر السحاب .
وعن الحسن وقتادة : هي السماوات وتأويله : أن الماء ينزل من السماء إلى السَّحاب ، وكأنَّ السماوات يعصرن ، أي : يحملن على العصر ، ويمكن منه .
فإن قلت : فما وجه من قرأ « من المعصراتِ » وفسرها بالرياح ذوات الأعاصير ، والمطرُ لا ينزل الرياح؟ .
قلت : الرياح هي التي تُنشِئُ السَّحاب ، وتدرُّ أخلافه ، فصحَّ أن تجعل مبدأ للإنزال ، وقد جاء : إنَّ الله تبارك وتعالى يَبعثُ الرِّياح فَتَحْمِلُ المَاءَ من السَّماءِ إلى السَّحابِ .
فإن صحَّ ذلك فالإنزال منها ظاهر .
فإن قلت : ذكر ابن كيسان أنه جعل « المعصرات » بمعنى المُغيثَات ، والعاصر المغيث لا المعصر ، يقال : عصره فاعتصر .
قلت : وجهه أن يريد اللاتي أعصرت ، أي : حان لها أن تعصر ، أي : تغيث .
يعني أن « عصر » بمعنى الإغاثة : ثلاثي ، فكيف قال هنا : « معصرات » بهذا المعنى وهو من الرباعي؟ .
فأجابه عنه بما تقدم : يعني : أن الهمزة بمعنى الدخول في الشيء .
قال القرطبي : « ويجوز أن تكون الأقوال واحدة ، ويكون المعنى : وأنزلنا من ذوات الرياح المعصرات { مَآءً ثَجَّاجاً } ، وأصح الأقوال أن المعصرات : السحاب ، كذا المعروف أن الغيث منها ، ولو كان » بالمعصرات « لكان الريح أولى » .
وفي « الصِّحاح » : والمعصرات : السحائب تعصر بالمطر ، وأعصر القوم أي : مطروا ، ومنه قراءة بعضهم : { وفيه تُعْصَرُون } [ يوسف : 49 ] ، والمعصر : الجارية التي قربتْ سنَّ البلوغ ، والمعصر : السحابة التي حان لها أن تمطر ، فقد أعصرت ، ومنه « العَصَرُ » - بالتحريك - للملجأ الذي يلجأ إليه ، والعصرُ - بالضم - أيضاً : الملجأ ، وأنشد أبو زيد : [ الخفيف ]
5071- صَادِياً يَسْتَغيثُ غَيْرَ مُغاثٍ ... ولقَدْ كَانَ عُصْرَةَ المَنْجُودِ
قوله : { مَآءً ثَجَّاجاً } : الثَّجُّ : الانصبابُ بكثرةٍ وبشدةٍ .
وفي الحديث : « أحَبُّ العملِ إلى اللهِ العَجُّ والثَّجُّ » .
فالعَجُّ : رفع الصوت بالتلبية .
والثَّجُّ : إراقة دماءِ حجج الهدي ، يقال : ثجَّ الماء بنفسه ، أي : انصبَّ ، وثَجَجْتُه أنا : أي : صَبَبْتُه ثجَّا وثُجُوجاً ، فيكون لازماً ومتعدياً؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
5072- إذَا رَجَفَتْ فِيهَا رَحا مُرْجَحِنَّةٌ ... تَبَعَّقَ ثَجَّاجاً غَزِيرَ الحَوافِلِ
وقرأ الأعمش : « ثَجَّاحاً » - بالحاء المهملة - أخيراً .
قال الزمخشري : « ومثاجح الماء : مصابُّه ، والماء يثجح في الوادي » .
وكان ابن عبَّاس مثجًّا ، يعني يثج الكلام ثجًّا في خُطبته .
قوله تعالى : { لِّنُخْرِجَ بِهِ } أي : بذلك الماء « حَبَّا » كالحِنْطَةِ والشعير وغير ذلك .
« ونَبَاتاً » من الإنبات ، وهو ما تأكله الدواب من الحشيش .
« وجَنَّاتٍ » أي : بساتين « ألْفَافاً » أي : مُلتفَّا بعضها ببعض كتشعيب أعضائها .
وفي الألفاف وجوه :
أحدها : أنه لا واحد له .
قال الزمخشري : « ألْفافاً » : مُلتفَّة ، ولا واحد له ك « الأوزاع » والأخْيَاف .
والثاني : أنَّه جمعُ « لِفٍّ » - بكسر اللام - فيكون نحو : « سِرّ وأسرار »؛ وأنشد أبو عليٍّ الطوسِيُّ : [ الرمل ]
5073- جَنَّةٌ لِفٌ وعَيْشٌ مُغْدِقٌ ... ونَدامَى كُلُّهمْ بِيضٌ زُهُرْ
وهذا قول أكثر أهل اللغة ، ذكره الكسائي .
الثالث : أنه جمع « لَفِيفٍ » . قاله الكسائي ، وأبو عبيدة ك « شريف » و « أشراف » ، و « شهيد » و « أشهاد »؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
5074- أحَابيشُ ألْفَافٍ تَبايَنَ فَرْعهُمْ ... وحَزْمُهُمْ عَنْ نِسْبَةِ المُتعَرفِ
الرابع : أنَّه جمعُ الجميع ، وذلك أنَّ الأصل : « لُفّ » في المذكر ، و « لَفَّاء » في المؤنث ك « أحْمَر وحَمْرَاء » ، ثُمَّ جمع « لُف » على « ألفَاف » إذ صار « لف » زنة « فعل » جمع جمعه قاله ابن قتيبة .
إلا أنَّ الزمخشري قال : وما أظنه واجداً له نظيراً من نحو : « خضر وأخضار ، وحمر وأحمار » .
قال شهاب الدين : كأنه يستبعد هذا القول من حيث إنَّ نظائرهُ لا تجمع على « أفْعَال » إذ لا يقال : « خضر ولا حمر » ، وإن كانا جمعين ل « أحمر وحمراء ، وأخضر وخضراء » ، وهذا غير لازم؛ لأن جمع الجمع لا ينقاس ، ويكفي أن يكون له نظير في المفردات ، كما رأيت من أن « لفَّاء » صار يضارع « فَعْلاء » ، ولهذا امتنعوا من تكسير « مفَاعِل ومفَاعِيْل » لعدم نظيره في المفردات يحملان عليه .
الخامس : قال الزمخشريُّ : « ولو قيل : هو جمع : » ملتفّة « بتقدير حذف الزوائد لكان قولاً وجيهاً » .
وهذا تكلُّف لا حاجة إليه .
وأيضاً : فغالب عبارات النحاة في حذف الزوائد إنما هو في التصغير ، يقولون : تصغير الترخيم بحذف الزوائد ، وفي المصادر يقولون : هذا المصدر على حذف الزوائد .
قال القرطبي : ويقال : شجرة لفَّاء ، وشجر لفٌّ ، وامرأة لفَّاء ، أي : غليظةُ السَّاقِ مجتمعة اللحم .
وقيل : التقدير : ونُخْرِجُ به جنَّاتٍ ألفافاً ، ثم حذف لدلالة الكلام عليه .
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)
قوله تعالى : { إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ مِيقَاتاً } . أي : وقتاً ومجمعاً وميعاداً للأولين والآخرين؛ لما وعد اللهُ الجزاء والثواب ، وسمِّي يوم الفصل؛ لأنَّ الله - تعالى - يفصل فيه بين خلقِه .
قوله : { يَوْمَ يُنفَخُ } . يجوز أن يكون بدلاً من « يَوْمِ الفَصْلِ » ، أو عطف بيان له ، أو منصوباً بإضمار « أعني » .
و « أفواجاً » حال من فاعل « تَأتُونَ » .
وقرأ أبو عياض : « في الصُّوَرِ » بفتح الواو وتقدم مثله .
فصل في النفخة الآخرة
هذا النفخ هو النفخة الأخيرة التي عندها يكون الحشر ، وهذا هو النفخ للأرواح .
وقيل : هو قَرْنٌ يُنْفَخُ فيه للبعث .
« فتأتون » أي : إلى موضع العرض .
« أفواجاً » أي : أمَماً كُل أمَّةٍ مع إمامهم .
روى معاذُ بن جبل - رضي الله عنه - « قلت : يا رسول الله ، أرأيت قول الله تعالى : { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يَا مُعَاذُ ، لَقَدْ سَألْتَنِي عَنْ أمْرٍ عَظِيمٍ « ، ثم أرسل عينيه باكياً - ثم قال عليه الصلاة والسلام : » يُحْشَرُ عَشَرَةُ أصْنَافٍ مِنْ أمَّتِي أشْتَاتاً قَدْ مَيَّزهمُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ جَمَاعَاتِ المُسْلِمِيْنَ وبَدَّلَ صُورَهُمْ ، فَمِنْهُمْ على صُورةِ القِرَدَةِ ، وبَعْضهُمْ عَلى صُورَةِ الخَنَازِيرِ ، وَبَعْضُهُمْ مُنَكَّسِيْنَ أرْجُلهُمْ أعلاهُمْ وَوُجُوهُم يُسْحَبُونَ عليْهَا ، وبَعضُهمْ عُمْياً ، وبَعْضهُم صُمًّا ، وبَعْضُهُمْ يَمْضُغُونَ ألْسنَتَهُمْ فَهِيَ مُدَلاَّة على صُدورِهِمْ ، يَسِيلُ القَيْحُ مِنْ أفْواهِهِم ، يَتقذَّرهمُ الجَمْعُ ، وبَعَْضهُمْ مُقطَّعَةٌ أيْدِيهِمْ وأرْجٌُلهمْ مُصلَّبين على جذُوع مِنْ نَارٍ ، وبَعضُهم أشَدُّ نَتْناً مِنَ الجِيفِ ، وبَعْضُهمْ مُلْبَسِينَ جَلابِيبَ لاصقةً بِجُلوْدهِمْ ، فأمَّا الذينَ على صُورةِ القِردَةِ : فالقَتَّاتُ مِنَ النَّاسِ - يَعْنِي : النَّمَّامَ - وأمَّا الَّذينَ عَلى صُورةِ الخَنَازِيرِ فأهْلُ السُّحْتِ والحَرامِ والمَكْسِ ، وأمَّا المُنكِسُونَ رُءوسَهُمْ وَوُجوهمْ فأكلَةُ الرِّبَا ، وأمَّا العُمْيُ : فالَّذيْنَ يَجُورُونَ في الحُكْمِ ، وأمَّا الصُمُّ البُكْمُ : فالمُعْجَبُونَ بأعْمالِهمْ ، وأمَّا الَّذِينَ يَمْضُغُونَ ألْسِنَتَهُمْ ، فالعُلمَاءُ الَّذينَ يُخَالفُ قَوْلهُم فِعلهُمْ ، وأمَّا الَّذينَ قُطِعَتْ أيْديهِمْ وأرْجُلهُمْ فالَّذينَ يُؤذُونَ الجِيرانَ ، وأمَّا المُصَلَّبُونَ فِي جُذوْعِ النَّارِ ، فالسَّعاة بالنَّاسِ إلى السُّلطانِ ، وأمَّا الَّذينَ أشَدُّ نَتْناً مِنَ الجِيَفِ ، فالَّذينَ يَتَّبعُنَ الشَّهواتِ واللَّذَّاتِ ، ويَمْنعُونَ حَقَّ اللهِ فِي أمْوالِهمْ ، وأمَّا الَّذِينَ يَلْبِسُونَ الجَلابِيْبَ فأهْلُ الكِبْرِ والفَخْرِ والخُيَلاء « .
قوله تعالى : { وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً } .
قرأ أبو عامر وحمزة والكسائي : » فُتِحَتْ « خفيفة ، والباقون بالتثقيل .
والمعنى : كُسرتْ أبوابها المفتَّحةُ لنزول الملائكة كقوله تعالى : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] .
وقيل : تقطَّعت ، فكانت قطعاً كالأبواب ، فانتصاب الأبواب على هذا بحذف الكاف .
وقيل : التقدير : كانت ذات أبواب؛ لأنها تصير كلها أبواباً .
وقيل : أبوابها : طرقها .
وقيل : إنَّ لكل عبد باباً في السماء لعمله ، وباباً لرزقه ، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب .
قال القاضي : هذا الفتح هو معنى قوله : { إِذَا السمآء انشقت } [ الانشقاق : 1 ] ، { إِذَا السمآء انفطرت } [ الانفطار : 1 ] إذ الفتح والتشقق تتقارب .
قال ابنُ الخطيب : وهذا ليس بقوي؛ لأن المفهوم من فتح الباب غير المفهوم من التَّشقُّق والتفطُّر ، فربما تفتح تلك الأبواب مع أنه لا يحصل في جرم السماء تشقق ولا تفطر ، بل الدلائل الصحيحة دلت على أن حصول فتح هذه الأبواب بحصول التفطُّر والتشقُّق بالكلِّية .
فإن قيل : قوله تعالى : { وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً } يفيد أنَّ السَّماء بكليتها تصير أبواباً بفعل ذلك .
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنَّ تلك الأبواب لمَّا كثرت جدًّا صارت كأنَّها ليست إلا أبواباً؛ كقوله تعالى : { وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } [ القمر : 12 ] أي : صارت كلها عيوناً تتفجَّر .
وثانيها : قال الواحديُّ : هذا من باب حذف المضاف ، أي : فكانت ذات أبواب .
وثالثها : أنَّ الضمير في قوله تعالى : { فَكَانَتْ أَبْوَاباً } يعود إلى السماء ، والتقدير : فكانت تلك المواضع المفتوحة أبواباً لنزول الملائكة .
قوله تعالى : { وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً } .
أي : لا شيء كما أن السراب كذلك يظنه الرائي ماء وليس بماء .
وقيل : نُسفَتْ من أصُولِهَا .
وقيل : أزيلتْ عن مواضعها .
قال ابن الخطيب : إن الله - تعالى - ذكر أحوال الجبال بوجوهٍ مختلفةٍ ، ويمكن الجمع بينها بوجوه ، بأن تقول :
أول أحوالها : الاندِكَاكُ ، وهو قول تعالى : { وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } [ الحاقة : 14 ] .
والحالة الثانية : أن تصير كالعهنِ المنفوش ، وهو قوله تعالى : { وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش } [ القارعة : 5 ] .
والحالة الثالثة : أن تصير كالهباء ، وهو قوله تعالى : { وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } [ الواقعة : 5 ، 6 ] .
والحالة الرابعة : أن تنسف؛ لأنها مع الأحوال المتقدمة تارة في مواضعها في الأرض ، فترسل الرياح ، فتنسفها عن وجه الأرض ، فتطيِّرها في الهواء كأنها مارة ، فمن نظر إليها يحسبها لتكاثفها أجساداً جامدة ، وهي في الحقيقة مارة ، إلا أن مرورها بسبب مرور الرياح بها مندكة منتسفة .
والحالة الخامسة : أن تصير سراباً ، أي : لأي شيء كما رؤي السراب من بعد .
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
قوله تعالى : { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } « مِفْعَالاً » من الرصد ، والرصد : كل شيء كان أمامك .
قرأ ابن يعمر وابن عمر والمنقري : « أنَّ جَهنَّمَ » بفتح « أن » .
قال الزمخشريُّ : على تعليل قيام الساعة ، بأن جهنم كانت مرصاداً للطَّاغين ، كأنَّه قيل : كان ذلك لإقامة الجزاء ، يعني : أنه علَّة لقوله تعالى : { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور } إلى آخره .
قال القفال : في المرصاد قولان :
أحدهما : أنَّ المرصاد اسم للمكان الذي يرصد فيه ، كالمضمارِ اسم للمكان الذي يضمر فيه الخيل ، والمِنْهَاج : اسم للمكان الذي ينهج فيه ، أي : جهنم معدَّة لهم فالمرصاد بمعنى المحل ، وعلى هذا فيه احتمالان :
الأول : أنَّ خزنة جهنم يرصدون الكفَّار .
والثاني : أن مجاز المؤمنين ، وممرهم على جهنم ، لقوله تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] ، فخزنة الجنة يَسْتقبلُونَ المؤمنين عند جهنم ، ويرصدونهم عندها .
القول الثاني : أنَّ « المِرصَاد » « مِفْعَال » من الرصد ، وهو « الترقب » بمعنى أنَّ ذلك يكثر منه ، و « المِفْعَالُ » من أبنية المبالغة ك « المِعطَاء ، والمِعْمَار ، والمِطْعَان » .
قيل : إنَّها ترصد أعداءَ اللهِ ، وتشتد عليهم لقوله تعالى : تكاد تميَّزُ من الغيظ .
وقيل : ترصدُ كُلَّ منافقٍ وكافرٍ .
فصل
دلت الآية على أنَّ جهنم كانت مخلوقة لقوله تعالى أن جهنم كانت مرصاداً وإذا كانت كذلك كانت الجنة لعدم الفارق .
قوله : { لِّلطَّاغِينَ } يجوز أن يكون صفة ل « مِرْصَاداً » ، وأن يكون حالاً من « مآباً » كان صفته فلما تقدَّم نصبَ على الحال ، وعلى هذين الوجهين يتعلق بمحذوف ، ويجوز أن يكون متعلقاً بنفس « مِرْصَاداً » ، أو بنفس « مآباً »؛ لإنه بمعنى مرجع .
قال ابن الخطيب : إن قيل بأن : « مِرصَاداً » للكافرين فقط ، كان قوله : « للطَّاغين » من تمام ما قبله ، والتقدير : كانت مرصاداً للطَّاغين ، ثم قوله : « مآباً » بدل قوله : « مرصاداً » ، وإن قيل : إنَّ مرصاداً مطلقاً للكفَّار والمؤمنين كان قوله تعالى : { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } كلاماً تاماً وقوله تعالى : { لِّلطَّاغِينَ مَآباً } كلاماً مبتدأ ، كأنه قيل : إنَّ جهنَّم كانت مرصاداً للكل ، و « مآباً » للطَّاغين خاصَّة ، فمن ذهب إلى القول الأول لم يقف على قوله : « مرصاداً » ومن ذهب إلى القول الثاني وقف عليه .
قال القرطبيُّ : « للطَّاغِينَ مآباً » بدلٌ من قوله : « مِرصَاداً » ، والمَآبُ « المرجع ، أي : مرجعاً يرجعون إليه ، يقال : آب يثوب أوْبَة : إذا رجع .
وقال قتادة : مأوى ومنزلاً ، والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر ودنياه بالظلم .
قوله : { لاَّبِثِينَ } . منصوب على الحال من الضمير المستتر في » للطاغين « ، وفي حال مقدرة .
وقرأ حمزة : « لبثين » دون ألف .
والباقون : « لابثين » بألف .
وضعف مكي قراءة حمزة ، قال : ومن قرأ : « لبثين » شبهه بما هو خلقة في الإنسان نحو حِذْر وفِرْق ، وهو بعيد؛ لأن اللبث ليس مما يكون خلقة في الإنسان وباب فعل إنما يكون لما هو خلقة في الإنسان . وليس اللبس بخلقة .
ورجَّح الزمخشري قراءة حمزة ، فقال : « قرأ : لابثين » ولبثين « واللبث أقوى؛ لأن اللاَّبث يقال لمن وجد منه اللبث ، ولا يقال : لبث إلا لمن شأنه اللبث ، كالذي يجثم بالمكان لا يكاد ينفكّ منه » .
وما قاله الزمخشري أصوب .
وأمَّا قولُ مكيٍّ : اللبث ليس بخلقة ، فمسلم لكنه بولغ في ذلك ، فجعلَ بمنزلة الأشياء المختلفة .
و « لابثين » اسم فاعل من « لبث » ، ويقويه أنَّ المصدر منه « اللّبث » - بالإسكان - ك « الشرب » . قوله : « أحْقَاباً » منصوب على الظرف ، وناصبه « لاَبِثيْنَ » ، هذا هو المشهور ، وقيل : منصوب بقوله : « لا يذوقون » ، وهذا عند من يرى تقدم معمول ما بعد « لا » عليها وهو أحد الأوجه ، وقد مر هذا مستوفًى في أواخر الفاتحة وجوَّز الزمخشري أن ينتصب على الحال . قال : « وفيه وجه آخر : وهو أن يكون من : حَقِبَ عامنا إذا قلَّ مطرهُ وخيرهُ ، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق ، فهو حقبٌ وجمعه : » أحْقَاب « ، فينتصب حالاً عنهم ، بمعنى : لابثين فيها بحقبين جحدين » . وتقدم الكلام على الحقب في سورة « الكهف » .
قال القرطبي : و « الحِقْبَةُ » - بالكسر- : السَّنة ، والجمع حِقَب؛ قال متممُ بنُ نويرةَ : [ الطويل ]
5075- وكُنَّا كَنَدْمَانَي جَذيمَةَ حِقْبَةً ... مِنَ الدَّهْرِ حتَّى قيلَ : لَنْ يتصدَّعا
والحُقْبُ - بالضم والسكون - : ثمانون سنة .
وقيل : أكثر من ذلك وأقل ، والجمع : « أحْقَاب » .
قال الفراءُ : أصل الحقبة من الترادُف والتتابُع ، يقال : « أحْقَبَ » : إذا أردف ، ومنه الحقبة ، ومنه كل من حمل وزراً فقد احتقب ، فعلى هذا معناه : لابثين فيها أحقاباً ، أي : دُهوْراً مُترادِفَةً يتبع بعضهم بعضاً .
فصل في تحرير معنى الآية
المعنى : ماكثين في النَّار ما دامت الأحقاب ، وهي لا تنقطع ، فكُلَّما مضى حُقبٌ جاء حُقبٌ ، و « الحُقُبُ » -بضمتين- : الدَّهْرُ : والأحقابُ ، الدهور ، والمعنى : لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها ، فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليها ، إذ في الكلام ذكر الآخرة ، كما يقال : أيَّامُ الآخرة ، أي : أيام بعد أيام إلى غير نهاية ، أي : لابثين فيها أزماناً ودهوراً ، كُلَّما مضى زمنٌ يعقبهُ زمنٌ ، ودهر يعقبه دهر ، هكذا أبداً من غير انقطاع ، فكأنه قال : أبداً ، وإنَّما كان يدل على التوقيت لو قال : خمسة أحقاب ، أو عشرة ونحوه ، وذكر الأحقاب؛ لأن الحقب كان أبعد شيء عندهم ، فذكر ما يفهمونه ، وهو كناية عن التأبيد ، أي : يمكثون فيها أبداً .
وقيل : ذكر الأحقاب دون الأيام؛ لأن الأحقاب أهول في القلوب ، وأدل على الخلود ، وهذا الخلود في حق المشركين ، ويمكن حمله على العصاة الذين يخرجونَ من النار بعد العذاب .
وقيل : الأحقاب وقت شربهم الحميم والغسَّاق ، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العذاب ، ولهذا قال تعالى : { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } أي : في الأرض لتقدم ذكرها ويكون { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً } جهنم .
قوله : { لاَّ يَذُوقُونَ } . فيه أوجه :
أحدها : أنه مستأنف ، أخبر عنهم بذلك .
الثاني : أنه حال من الضمير في « لابِثيْنَ » غير ذائقين ، فهي حال متداخلة .
الثالث : أنه صفة ل « أحْقَاب » .
قال مكي : واحتمل الضمير؛ لأنه فعل فلم يجب إظهاره كأن قد جرى صفة على غير من هو له ، وإنَّما جاز أن يكون نعتاً ل « أحْقَاب » لأجل الضمير العائد على « الأحقاب » في « فيها » ، ولو كان في موضع « يَذُوقُونَ » اسم فاعل لكان لا بُدَّ من إظهار الضمير إذا جعلته وصفاً ل « أحقاب » .
الرابع : أنه تفسير لقوله تعالى : { أَحْقَاباً } إذا جعلته منصوباً على الحال بالتأويل المتقدم عن الزمخشري ، فإنه قال : « وقوله تعالى : { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً } . تفسير له » .
الخامس : أنه حال أخرى من « للطاغين » ك « لابثين » .
فصل في معنى هذا البرد
قال أبو عبيدة : البَرْدُ : النومُ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
5076- فَلوْ شِئْتُ حَرَّمتُ النِّساءَ سِواكُمُ ... وإنْ شِئْتُ لَمْ أطْعَمْ نِعَاجاً ولا بَرْدَا
وهو قول مجاهد والسديِّ والكسائيِّ والفضل بن خالدٍ وأبي معاذٍ النحويِّ .
والعرب تقول : منع البَرْدُ البَرْدَ ، يعني : أذهب النوم .
وقال ابن عباس رضي الله عنه : البرد برد الشراب .
وعنه - أيضاً - البرد : النَِّوم ، والشراب : الماء .
قال الزجاج : لا يذوقُونَ فيها بَرْدَ ريحٍ ، ولا بَرْدَ نومٍ ولا بَرْدَ ظلٍّ . فجعل البرد كل شيء له رائحة .
وقال الحسن وعطاء وابن زيد : بَرداً : أي روحاً ورائحة .
قوله : { إِلاَّ حَمِيماً } . يجوز أن يكون استثناء متَّصلاً من قوله : « شراباً » ، ويجوز أن يكون مُنْقَطِعاً .
قال الزمخشري : « يعني لا يَذُوقُون فيها برداً ، ولا روحاً ينفس عنهم حر النَّار » ولا شراباً « يسكن من عطشهم ، ولكن يذوقون فيها حميماً وغسَّاقاً » .
قال شهاب الدين : « ومكي لمَّا جعله منقطعاً جعل البرد عبارة عن النوم ، قال : فإن جعلته النوم كان » إلا حميماً « استثناء ليس من الأول » .
وإنَّما الذي حمل الزمخشري على الانقطاع مع صدق الشراب على الحميم والغسَّاق ، وصفة له بقوله : « ولا شراباً يسكن من عطشهم » فبهذا القيد صار الحميمُ ليس من جنس هذا الشراب؛ وإطلاق البردِ على النوم لغة هذيل ، وأنشد البيت المتقدم .
وقول العرب : منع البرد ، قيل : وسمي بذلك لأنه يقطع سورة العطش ، والذوق على هذين القولين مجاز ، أعني : كونه روحاً ينفس عنهم الحر ، وكونه النوم مجاز ، وأمَّا على قوله من جعله اسماً للشراب الباردِ المستلذّ كما تقدَّم عن ابن عباس رضي الله عنهما وأنشد قول حسان رضي الله عنه : [ الكامل ]
5077- يَسْقُون مَنْ ورَدَ البَريصَ عَليْهِمُ ... بَرَدى تُصفِّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ
قال ابنُ الأثيرِ : البريص : الماء القليل ، والبرصُ : الشيء القليل؛ وقال الآخر : [ الطويل ]
5078- أمَانيَّ مِنْ سُعْدى حِسانٌ كأنَّما ... سَقتْكَ بِهَا سُعْدَى عَلى ظَمَإٍ بَرْدَا
والذوق حقيقة ، إلا أنه يصير فيه تكرار بقوله بعد ذلك « ولا شراباً » .
الثالث : أنَّه بدلٌ من قوله : « وَلا شَراباً » وهو الأحسنُ؛ لأن الكلام غير موجب .
قال أبو عبيدة : الحَمِيمُ : الماءُ الحارّ .
وقال ابن زيد : دموع أعينهم تجمع في حياض ، ثم يسقونه .
وقال النحاس : أصل الحميمِ الماءُ الحار ، ومنه اشتقَّ الحمَّام ، ومنه الحُمَّى ومنه ظل من يحموم ، إنَّما يراد به النهاية في الحر ، والغسَّاق : صديد أهل النار وقيحهم .
وقيل : الزَّمهرير ، وتقدم خلاف القرَّاء في « غسَّاقاً » والكلام عليه وعلى « حَمِيم » .
قال أبو معاذ : كنت أسمع مشايخنا يقولون : الغسَّاقُ : فارسية معربةٌ ، يقولون للشيء الذي يتقذرونه : خاشاك .
قوله : { جَزَآءً } منصوبٌ على المصدر ، وعامله إما قوله : « لا يذوقون » إلى آخره؛ لأنه من قوة جوزوا بذلك ، وإمَّا محذوف ، و « وَفَاقاً » نعت له على المبالغةِ ، أو على حذف مضاف ، أي : ذا مبالغة .
قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : معناه : موافقاً لأعمالهم ، فالوفاقُ بمعنى : « الموافقة » كالقتال من المقاتلة .
قال الفراء والأخفش : أي : جازيناهم جزاء وافق أعمالهم .
وقال الفراء أيضاً : هو جمع الوفقِ واللَّفقِ واحد .
وقال مقاتل : وافق العذاب الذنب ، فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أعظم من النار .
وقال الحسن وعكرمة : كانت أعمالهم سيئة فأتاهم الله بما يسوؤهم .
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة : بتشديد الفاء من « وفقه كذا » .
قوله تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً } . أي : لا يخافون حساباً ، أي : محاسبة على أعمالهم ، وقيل : لا يرجون ثواب حساب .
وقال الزجاج : إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ، فيرجون حسابهم ، فهو إشارة إلى أنَّهم لم يكونوا مؤمنين .
قوله تعالى : { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً } قرأ العامة : « كِذَّاباً » بتشديد الذال ، وكسر الكاف .
وكان من حق مصدر « فعَّل » أن يأتي على « التَّفعيل » نحو صرَّف تصريفاً .
قال الزمخشري : و « فعَّال » في باب « فعَّل » كله فاشٍ في كلام فصحاءٍ من العرب لا يقولون غيره ، وسمعني بعضهم أفسر آية ، فقال : لقد فسرتها فسَّاراً ما سمع بمثله .
قال غيره : وهي لغة بعض العرب يمانية؛ وأنشد : [ الطويل ]
5079- لَقدْ طَالَ ما ثَبَّطتَنِي عَنْ صَحابَتِي ... وعَنْ حَاجَةٍ قِضَّاؤها من شِفَائِيَا
يريد : تَقْضِيَتُهَا ، والأصل على « التفعيل » ، وإنَّما هو مثل « زكَّى تَزْكِيَةً » .
وسمع بعضهم يستفتي في حجه ، فقال : آلحلق أحبُّ إليك أم القصَّار؟ يريد التقصير .
قال الفراء : « هي لغة يمانية فصيحة ، يقولون : كذبت كذّاباً ، وخرَّقتُ القميص خِرَّاقاً ، وكل فعل وزن » فعَّل « فمصدره » فِعَّال « في لغتهم مشددة » .
وقرأ علي والأعمش وأبو رجاء وعيسى البصري : بالتخفيف .
وهو مصدر أيضاً ، إمَّا لهذا الفعل الظاهر على حذف الزوائد ، وإمَّا لفعل مقدر ك « أنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتاً » .
قال الزمخشري : « وهو مثل قوله تعالى : { والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] يعني وكذبوا بآياتنا ، فكذبوا كذاباً ، أو تنصبه ب » كذبوا «؛ لأنه يتضمن معنى » كذّبوا « ، لأن كل مكذب بالحق كاذب ، وإن جعلته بمعنى المكاذبة ، فمعناه : وكذبوا بآياتنا ، فكاذبوا مكاذبة ، أو كذبوا بها مكاذبين؛ لأنَّهم كانوا عند المسلمين مكاذبين ، وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة ، أو لأنَّهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب ، فعل من يغالب فيبلغ فيه أقصى جهده » .
وقال أبو الفضل : وذلك لغة « اليمن » ، وذلك بأن يجعل مصدر « كذب » مخففاً « كِذَباً » بالتخفيف مثل « كَتَبَ كِتَاباً » فصار المصدر هنا من معنى الفعل دون لفظه مثل : « أعطيته عطاءً » .
قال شهابُ الدِّينِ : أمَّا « كذب كذاباً » بالتخفيف ، فهو مشهور ، ومنه قول الأعشى [ مجزوء الكامل ]
5080- فَصدَقْتُهَا وكَذبْتُهَا ... والمَرْءُ يَنْفعهُ كِذَابُهْ
وقرأ عمر بن عبد العزيز والماجشون : « كُذاباً » بضم الكاف وتشديد الذال ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنه جمع كاذبِ ، نحو : ضراب « في » ضارب وعلى هذا ، فانتصابه على الحال المؤكدة ، أي : وكذبوا في حال كونهم كاذبين . قاله أبو البقاء .
والثاني : أنَّ « الكُذَّاب » بمعنى الواحد البليغ في الكذب ، يقال : رجل كذاب ، كقولك : حسان ، فيجعل وصفاً لمصدر كذبوا : أي تكذيباً كذباً مفرطاً كذبه . قاله الزمخشري .
قال القرطبي : وفي « الصِّحاح » : وقوله تعالى : { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً } وهو أحد مصار المشدد؛ لأن مصدره قد يجيء على « تَفْعِلَة » مثل « تَوصِيَة » ، وعلى « مُفَعَّل » مثل : { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] .
قوله تعالى : { وَكُلَّ شَيْءٍ } العامة على النصب على الاشتغال ، وهو الراجح ، لتقدم جملة فعلية .
وقرأ أبو السمال : برفع « كُل » على الابتداء ، وما بعده الخبر وهذه الجملة معترض بها بين السبب والمسبب ، لأنَّ الأصل : « وكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابَا » ف « ذوقوا » مُسَبَّبٌ عن تَكْذيبهم .
قوله : « أحْصَيْنَاهُ » . فيه أوجه :
أحدها : أنه مصدر من معنى أحصينا ، أي : إحصاءً ، فالتجوُّز في نفس المصدر .
الثاني : أنه مصدر ل « أحْصَيْنَا » لأنَّه في معنى : « كَتَبْنَا » فالتجوُّز في نفس الفعل .
قال الزمخشري : « لانتفاءِ الإحْصاءِ » ، والكتبة في معنى الضبط ، والتحصيل .
قال ابن الخطيب : وإنَّما عدل عن تلك اللفظة إلى هذه اللفظة؛ لأن الكتابة هي النهاية في قوة العلم ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « قَيِّدُوا العِلْمَ بالكِتَابَةِ » فكأنَّهُ تعالى قال : { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً } إحصاءً في القوة والثبات والتأكُّد ، كالمكتوب ، والمراد من قوله : « كِتَاباً » تأكيد ذلك الإحصاء والعلم ، وهذا التأكيد إنَّما ورد على حسب ما يليق بأفهام أهل الظاهر ، فإن المكتوب يقبل الزوال ، وعلمُ الله - تعالى - بالأشياءِ لا يقبل الزوال؛ لأنَّه واجبٌ لذاته .
الثالث : أن يكُون منصوباً على الحال ، بمعنى مكتوباً في اللوح المحفوظ ، لقوله تعالى : { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ } [ يس : 12 ] .
وقيل : أراد ما كتبته الملائكة الموكلون بالعباد ، بأمر الله - تعالى - إياهم بالكتابة ، لقوله تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ } [ الانفطار : 10 ، 11 ] .
فصل في المراد بالإحصاء
معنى { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ } أي : علمنا كُلَّ شيء علماً كما هو لا يزول ، ولا يتبدل ونظيره قوله تعالى : { أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ } [ المجادلة : 6 ] .
قال ابن الخطيب : وهذه الآية لا تقبل التأويل ، لأن الله - تبارك وتعالى - ذكر هذا تقديراً لما ادعاه من قوله تعالى : « جَزَاءً وفاقاً » ، كأنه تعالى قال : أنا عالم بجميع ما فعلوه ، وعالم بجهات تلك الأفعال ، وأحوالها؛ واعتباراتها التي لأجلها يحصل استحقاق الثواب والعقاب ، فلا جرم لا أوصل إليهم من العذاب إلاَّ قدر ما يكون وفاقاً لأعمالهم ، وهذا القدر إنما يتمُّ بثبوت كونه عالماً بالجُزئيَّاتِ ، وإذا ثبت هذا ظهر أن كل من أنكره كافر قطعاً .
قوله تعالى : { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً }
قال ابن الخطيب : هذه « الفاء » للجزاء ، فنبَّه على أنَّ الأمر بالذوق معلَّل بما تقدم شرحه من قبائح أفعالهم ، فهذه « الفاء » أفادت عين فائدة قوله : « جزاء وفاقاً » .
فإن قيل : أليْسَ أنه - تعالى - قال في صفة الكفار : { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله } [ البقرة : 174 ] .
فها هنا لمَّا قال تعالى لهم : « فذوقوا » ، فقد كلَّمهُمْ؟ .
فالجواب : قال أكثر المفسرين : ويقال لهم : « فَذُوقُوا » .
ولقائلٍ أن يقول : قوله : { فَلَن نَّزِيدَكُمْ } لا يليق إلا بالله ، والأقرب في الجواب أن يقال : قوله : { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ } [ آل عمران : 77 ] معناه : ولا يكلمهم بالكلام الطيب النافع ، فإن تخصيص العموم سائغ عند حصول القرينة ، فإن قوله : { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ } [ آل عمران : 77 ] إنما ذكره لبيان أنَّه - تعالى - لا يقيم لهم وزناً ، وذلك لا يحصل إلال من الكلام الطيب .
فإن قيل : إن كانت هذه الزيادة غير مستحقة كانت ظلماً ، وإن كانت مستحقة كان تركها في أول الأمر إحساناً ، والكريم لا يليق به الرجوع في إحسانه .
والجواب : أنَّها مستحقةٌ ، ودوامها زيادة لفعله بحسب الدوام ، وأيضاً : فترك المستحق في بعض الأوقات لا يوجب الإبراء والإسقاط .
فصل في الالتفات في هذه الآية
قال ابنُ الخطيبِ : قوله تعالى : { فَذُوقُواْ } يفيد معنى التعليل ، وهو التفات من الغيبةِ للخطابِ ، فهو دالٌّ على الغضبِ ، وفيه مبالغاتٌ : منها أنَّ « لن » للتأكيد ، ومنها الالتفات ، ومنها إعادة قوله : « فذوقوا » بعد ذكر العذاب ، قال أبو بزرة رضي الله عنه : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد آية في القرآن ، قال عليه الصلاة والسلام : قوله : { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } [ النبأ : 30 ] أي : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } [ النساء : 56 ] ، و { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [ الإسراء : 97 ] .
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)
قوله تعالى : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } . تقدم تفسير المتقين ، و « المفازُ » : يحتمل أن يكون مصدراً ، بمعنى : فَوْزاً وظفراً بالنعمة ، ويحتمل أن يكون المراد فوزاً بالنجاة من العذاب ، ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها : مفازة ، تفاؤلاً بالخلاص منها ، وأن يكون مجموع الأمرين .
وقال الضحاك : منتزهاً .
قوله : { حَدَآئِقَ } يجوز أن يكون بدلاً من « مفازاً » بدل اشتمالٍ أو بدل كُلٍّ من كل مبالغةً في أن جعل نفس هذه الأشياء مفازاً .
ويجوز أن يكون منصوباً بإضمارِ « أعْنِي » ، وإذا كان مفازاً بمعنى الفوز ، فيُقدَّر مضاف ، أي فوز حدائق ، وهي جمع حديقة ، وهي البستان المحوط عليه ، ويقال : أحْدقَ بِهِ أي أحَاطَ .
والأعْنَابُ : جمعُ عنب ، أي : كروم أعناب ، فحذف ، والتنكير في قوله تعالى : { وَأَعْنَاباً } يدل على تعظيم تلك الأعناب .
قوله تعالى : { وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً } . الكواعب : جمع كاعب ، وهي من كعب ثديها وتفلك ، أي يكون الثدي في النتوء كالكعب والفلكة ، وهي النَّاهد ، يقال : كَعَبَتِ الجارية تكعب كُعوباً ، وكعَّبَتْ تَكْعِيباً ، ونهَدتْ تَنْهَدُ نُهُوداً؛ قال : [ الطويل ]
5081- وكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَنْ كُنْتُ أتَّقِي ... ثلاثُ شُخوصٍ : كاعِبانِ ومُعْصِرُ
وقال قيس بن عاصم المسعريُّ : [ الطويل ]
5082- وَكَمْ مِنْ حَصَانٍ قَدْ حَوَيْنَا كَرِيمَةٍ ... وَمِنْ كَاعِبٍ لَمْ تَدْرِ مَا البُؤْسُ مُعْصِرِ
وقال الضحاك : الكواعب : العَذَارى ، والأتراب الأقران في السن ، وقد تقدم ذكرهن في « الواقعة » .
قوله تعالى : { وَكَأْساً دِهَاقاً } .
الدِّهَاقُ : الملأى المُترعَةُ .
قيل : هو مأخوذ من دهقهُ ، أي : ضغطه ، وشده بيده ، كأنه ملأ اليد فانضغط ، قال : [ الوافر ]
5083- لأنْتِ إلى الفُؤادِ أحَبُّ قُرْباً ... مِنَ الصَّادي إلى كَأسِ الدِّهاقِ
وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وأبي عبيدة ، والزجاج ، والكسائي .
وقال عكرمة : ورُبَّما سمعت ابن عبًّاسٍ يقول : اسقنا وادهق لنا ، ودعا ابن عباس غلاماً له فقال له : اسقنا دهاقاً ، فجاء الغلام بها ملأى ، فقال ابن عباس : هذا الدِّهاق .
وقيل : الدِّهاق : المتتابعة؛ قال رحمه الله : [ الوافر ]
5084- أتَانَا عَامِرٌ يَبْغِي قِرَانَا ... فأتْرعْنَا لَهُ كَأساً دِهاقَا
وهذا قول أبي هريرة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد .
قال الواحدي : وأصل هذا القول من قول العرب : أدهقت الحجارة إدهاقاً ، وهي شدة ترادفها ، ودخول بعضها في بعض . ذكره الليث .
والتَّتابعُ كالتَّداخُل .
وعن عكرمة وزيد بن أسلمَ : أنَّها الصَّافيةُ ، وهو جمع « دهق » ، وهو خشبتان يعصر بهما .
والمراد بالكأسِ : الخَمْرُ .
قال الضحاك : كل كأس في القرآن فهو خمر ، والتقدير : وخمر ذات دهاق ، أي عصرت وصفيت بالدهاق ، قاله القشيري .
وفي « الصحاح » وأدْهَقْتُ الماءَ ، أي : أفرغتُه إفراغاً شديداً ، قال أبو عمرو : والدَّهْقُ - بالتحريك - ضرب من العذاب ، وهو بالفارسية : « أشكَنْجَه » .
قال المبرد : والمَدهوقُ : المُعذَّبُ بجميع العذاب الذي لا فرجة فيه .
وقال ابن الأعرابي : دهقت الشيء : أي : كسرته وقطعته ، وكذلك : « دَهْدَقْتُهُ » و « دَهْمَقْتُهُ » بزيادة الميم المثلثة .
وقال الأصمعي : « الدَّهْمَقَة » : لين الطعام وطيبه ورقته ، وكذلك كل شيء لين ، ومنه حديث عمر - رضي الله عنه - : لو شئت أن يدهمق لي لفعلت ، ولكن الله عاب قوماً فقال تعالى : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا واستمتعتم بِهَا } [ الأحقاف : 20 ] .
قوله تعالى : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } أي : في الجنة ، وقيل : في الكأس . { لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً } .
اللَّغو : الباطلُ ، وهو ما يلغى من الكلام ويطرح ، ومنه الحديث : « إذا قُلتَ لِصاحبِكَ : أنْصِتْ ، فَقَدْ لغَوْتَ » وذلك أنَّ أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم ، ولم يتكلموا بلغو بخلاف الدنيا ، و « لا كِذَّاباً » أي : لا يتكاذبُون في الجنَّةِ .
وقيل : هما مصدران للتكذيب ، وإنَّما خففها؛ لأنَّها ليست مقيَّدة بفعل يصير مصدراً له ، وشدَّد قوله : { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } ؛ لأنَّ « كذَّبُوا » يفيد المصدر بالكذاب .
قال شهابُ الدين : « وإنَّما وافقَ الكسائيُّ الجماعة في الأول للتصريح بفعله المشدد المقتضي لعدم التخفيف في » كذَّبوا « ، وهذا كما تقدم في قوله : { فَتُفَجِّرَ الأنهار } [ الإسراء : 91 ] ، حيثُ لم يختلف فيه للتصريح معه بفعله بخلاف الأول » .
وفقال مكيٌّ : مَنْ شدد جعله مصدر « كَذَّب » ، زيدت فيه الألف ، كما زيدت في « إكْرَاماً » وقولهم : تَكْذِيباً ، جعلوا التاء عوضاً من تشديد العين ، والياء بدلاً منَ الألف غيَّروا أوَّله كما غيَّروا آخره ، وأصل مصدر الرباعي أن يأتي على عدد حروف الماضي بزيادة ألف مع تغيير الحركات ، وقالوا : « تَكَلُّماً » ، فأتي المصدر على عدد حروف الماضي بغير زيادة ألف ، وذلك لكثرة حروفه ، وضمت « اللام » ولم تكسر؛ لأنَّه ليس في الكلام اسم على « تفعَّل » ولم تفتح لئلا تشتبه بالماضي ، وقراءة الكسائي : « كِذَّاباً » - بالتخفيف - جعله مصدر كذب كذاباً .
وقيل : هو مصدر « كذب » كقولك : كتبتُ كِتَاباً .
قوله : { جَزَآءً } . مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } كأنَّه قيل : جازى المتقين بمفاز .
قوله : { عَطَآءً } بدلٌ من « جَزاءً » وهو اسم مصدر؛ قال : [ الوافر ]
5085- .. وبَعُدَ عَطائِكَ المِائةَ الرِّتاعَا
قال : وجعله الزمخشري : منصوباً ب « جزاءً » نصب المفعول به .
ورده أبو حيان بأنه جعل « جزاء » مصدراً مؤكداً لمضمون الجملة ، التي هي « إنَّ للمُتَّقِينَ » ، قال : « والمصدر المؤكد لا يعمل؛ لأنه لا ينحلُّ لحرف مصدري والفعل ، ولا نعلمُ في ذلك خلافاً » .
قوله : « حساباً » . صفة ل « عطاءً » ، والمعنى : كافياً ، فهو مصدر أقيم مقام الوصف أو بولغ فيه ، أو على حذف مضاف ، من قولهم : أحْسبَنِي الشيء أي : كفاني .
وقال قتادةٌ : « عَطاءً حِسَاباً » أي : كثيراً ، يقال : أحسبتُ فلاناً أي : أكثرت له العطايا حتى قال : حسبي .
وقال الكلبي : حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشر أمثالها ، وقد وعد قوماً جزاء لا نهاية له ، ولا مقدار ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] وقرأ أبو البرهسم ، وشريحُ بنُ يزيد الحمصي : بتشديد السين مع بقاء الحاء على كسرها .
وتخريجها : أنَّه مصدر : مثل : « كذّاب » أقيم مقام الوصف ، أي : عطاء محسباً ، أي : كافياً .
وابن قطيب : كذلك ، إلاَّ أنَّه فتح الحاءَ .
قال أبو الفتح : بناء « فعَّال » من « أفْعَل » ك « دَرَّاك » من « أدْرك » بمعنى أنه صفة مبالغة من « حَسَب » بمعنى : كافي كذا .
وابن عباس : « حَسَناً » بالنون من الحسن .
وسريج : « حَسْباً » بفتح الحاء وسكون السين والباء الموحدة ، أي : عطاء كافياً ، من قولك : حَسْبُك كذا ، أي : « كافيك » .
قوله تعالى : { رَّبِّ السماوات } .
قرأ نافعٌ ، وابن كثير ، وأبو عمرو : برفع « رب » و « الرحمن » .
وابن عامر ، وعاصم : بخفضهما .
والأخوان : يخفض الأول ، ورفع الثاني .
فأما رفعهما ، فيجوز من أوجه :
أحدها : أن يكون « ربُّ » خبر مبتدأ محذوف مضمر ، أي : « هو رب » ، و « الرحمن » كذلك ، أو مبتدأ ، خبره « لا يَمْلِكُون » .
الثاني : أن يجعل « ربُّ » مبتدأ ، و « الرحمن » خبره ، و « لا يملكون » خبر ثان ، أو مستأنف .
الثالث : أن يكون « ربُّ » مبتدأ ، و « الرحمن » مبتدأ ثان ، و « لا يملكون » خبره ، والجملة خبر الأول ، وحصل الرَّبطُ بتكرير المبتدأ بمعناه وهو رأي الأخفشِ ، ويجوز أن يكون « لا يَمْلِكُون » حالاً وتكون لازمة .
وأما جرهما : فعلى البدل ، أو البيان ، أوالنعت ، كلاهما للأول ، إلاَّ أنَّ تكرير البدل فيه نظر وتقدم التنبيه عليه في آخر الفاتحة .
وتجعل { رَّبِّ السماوات } تابعاً للأول ، و « الرَّحْمن » تابعاً للثاني على ما تقدم .
وأمَّا الأول ، فعلى التبعية للأول .
وأما رفع الثاني ، فعلى الابتداء ، والخبر : الجملة الفعلية ، أو على أنَّه خبر مبتدأ مضمر ، و « لا يَمْلِكُونَ » على ما تقدم من الاستئناف ، أو الخبر الثاني ، أو الحال اللازمة .
قوله : { لاَ يَمْلِكُونَ } .
نقل عطاء عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أن الضمير في « لا يملكون » راجع إلى المشركينَ ، أي : لا يخاطبهم الله .
وأما المؤمنون فيشفعون ، ويقبل الله - تعالى - منهم بعد إذنه لهم .
وقال القاضي : إنَّه راجع للمؤمنين ، والمعنى : أنَّ المؤمنين لا يملكون أن يخاطبُوا الله - تعالى - في أمرٍ من الأمورِ .
فصل في أنَّ الله عدل في عقابه
لما ثبت أنه - تعالى - عدل لا يجور ، وثبت أن العقاب الذي أوصله إلى الكفَّار عدل ، وثبت أنَّ الثَّواب الذي أوصله إلى المؤمنين عدل ، وأنَّه ما بخسهم حقَّهم ، فبأيِّ سبب يُخاطبونه .
وقيل : الضمير يعود لأهل السماواتِ والأرضِ ، وإنَّ أحداً من المخْلُوقِيْنَ لا يملك مخاطبة الله - تعالى - ومكالمته .
قال ابن الخطيب : وهذا هو الصواب .
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
قوله تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الروح } . منصوب على الظرف ، إمَّا ب « لا يَتكلَّمُونَ » بعده ، وإمَّا ب « لا يَمْلِكُونَ » و « صفًّاً » حال : أي : مُصطفِّيْنَ ، و « لاَ يَتَكلَّمُونَ » إمَّا حال أو مستأنف .
فصل في المراد بالروح
احتلفوا في الروح .
فقال ابن عباس : هو ملك ما خلق الله بعد العرش أعظم منه ، فإذا كان يوم القيامة قام وحده صفًّا ، وقام الملائكة كلهم صفًّا ، ونحوه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : الرُّوح ملك أعظم من السموات السبع والأرضين السبع والجبال .
وقيل : جبريل - عليه الصلاة والسلام - قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن جبير .
وروى عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الرُّوحُ في هَذِهِ الآيةِ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللهِ لَيْسُوا مَلائِكةً لَهُمْ رُءوسٌ وأيْدٍ وأرْجُلٌ يَأكُلونَ الطَّعام ، ثُمَّ قَرَأَ : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً } » ، وهذا قول أبي صالح ، ومجاهد ، وعلي - رضي الله عنهم - وعلى هذا هو خلقٌ على صورة بني آدم كالناس ، وليسوا بناس ، وما ينزل من السماء ملك إلاَّ ومعه واحد منهم ، نقله البغوي .
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - « هُمْ أرْواحُ النَّاسِ » .
وقال مقاتل بن حيان : هُمْ أشراف الملائكة .
وقال ابن أبي نجيحٍ : هم حفظة على الملائكة .
وقال الحسن وقتادة : هم بنو آدم ، والمعنى : ذو الروح .
وقال العوفي ، والقرظي : هذا ممَّا كان يكتمه ابن عباس .
وقيل : أرواح بني آدم تقومُ صفًّا ، فتقومُ الملائكةُ صفًّا ، وذلك بين النَّفختين قبل أن تردُّ إلى الأجسادِ . قاله عطية .
وقال زيد بن أسلم : هو القرآن .
وقرأ : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] ، و { صَفّاً } مصدر؛ أي : يقومون صفوفاً ، والمصدر يغني عن الواحد والجمع كالعدل ، والصوم ، ويقال ليوم العيد : يوم الصف .
وقال في موضع آخر سبحانه : { وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] ، وهذا يدل على الصفوف ، وهذا حين العرض والحساب ، قيل : هما صفان .
وقيل : يقوم الكلُّ صفًّا واحداً ، « لا يتَكلَّمُونَ » أي : لا يشفعون .
قوله : { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ } يجوز أن يكون بدلاً من « واو » يتكلَّمون ، وهو الأرجح ، لكونه غير موجب ، وأن يكون منصوباً على أصل الاستثناء .
والمعنى : لا يشفعون إلاَّ من أذن لهُ الرحمن في الشفاعة .
وقيل : لا يتكلمون إلا في حقِّ من أذنَ له الرحمنُ ، وقال صواباً .
والمعنى : لا يشفعون إلاَّ في حقِّ شخصٍ أذن الرحمن في شفاعته ، وذاك الشخص كان ممن قال صواباً ، والمعنى قال صواباً ، يعنى : « حقًّا » . قاله الضحاك ومجاهد .
وروى الضحاكُ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : لا يشفعون إلاَّ لمن قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وأصل الصَّواب : السداد من القول والفعل ، وهو من أصاب يصيب إصابة ، كالجواب من أجاب يجيبُ .
وقيل : « لا يتكلَّمون » يعني : الملائكة ، والروح الذين كانوا صفًّا لا يتكلمون هيبة وإجلالاً إلا من أذن له الرب تعالى في الشفاعة ، وهم الذين قالوا صواباً ، وأنهم يوحدون الله - تعالى - ويسبِّحونه .
قوله تعالى : { ذَلِكَ اليوم الحق } . « ذلك » إشارة إلى ما تقدَّم ذكره { فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ مَآباً } ، أي : موجباً بالعمل الصالح .
وقال قتادة : « مآباً » سبيلاً .
ثم إنه - تعالى - زاد في تخويف الكفَّار فقال تعالى :
{ إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } يعني العذاب في الآخرة ، وسماه قريباً؛ لأن كل ما هو آت قريب . كقوله تعالى : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ] .
وقال قتادة : عقوبة الدنيا؛ لأنه أقرب العذابين .
وقال مقاتل : هي قتل قريش ب « بدر » ، وهذا خطاب لكفَّار قريش ، ولمشركي العرب؛ لأنهم قالوا : لا نُبْعَثُ ، وإنَّما سمَّاهُ إنذاراً؛ لأنَّه - تعالى - قد خوَّف بهذا الوصف نهاية التخويف ، وهو معنى الإنذار .
قوله : { يَوْمَ يَنظُرُ المرء } . يجوز أن يكون بدلاً من « يوم » قبله ، وأن يكون منصوباً ب « عذاباً » أي : العذاب واقع في ذلك اليوم .
وجوّز أبو البقاء ان يكون نعتاً ل « قريباً » ولو جعله نعتاً ل « عَذاباً » كان أولى .
والعامَّة : بفتح ميم « المرء » وهي الغالبة ، وابن أبي إسحاق : بضمها ، وهي لغة يتبعُون اللام الفاء .
وخطَّأ أبو حاتم هذه القراءة ، وليس بصواب لثبوتها لغة .
فصل في المراد ب « المرء »
أراد بالمرء : المؤمن في قول الحسن ، أي : ليجد لنفسه عملاً ، فأمَّا الكافر فلا يجد لنفسه عملاً ، فيتمنى أن يكون تراباً ، قال : { وَيَقُولُ الكافر } فعلم أنه أراد بالمرء المؤمن ، وقيل : المراد هنا أبيُّ بنُ خلفٍ ، وعُقبَةُ بنُ أبِي معيط ، ويَقول الكافِرُ : أبو جهل .
وقيل : هو عام في كل أحد يرى في ذلك اليوم جزاء ما كسبَتْ .
قوله : { مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } . يجوز في « ما » أن تكون استفهامية معلقة ل « يَنْظُر » على أنَّه من النظر ، فتكون الجملة في موضع نصب على إسقاط الخافض ، وأن تكون موصولة مفعولة بها ، والنَّظر بمعنى الانتظارِ ، أي : ينتظر الذي قدمت يداه .
قوله تعالى : { وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً } .
العامة : لا يدغمون تاء « كنت تراباً » قالوا : لأنَّ الفاعل لا يحذف ، والإدغامُ يشبه الحذف ، وفي قوله تعالى : { وَيَقُولُ الكافر } وضع الظاهر موضع المضمر شهادة عليه بذلك .
فصل في نزول هذه الآية
قال مقاتل : نزل قوله تعالى : { يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } في أبِي سلمةَ بْنِ عَبْدِ الأسدِ المخزوميِّ .

قلت المدون التالي بمشيئة الله تعالي هو ج73.وج74.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...