حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الخميس، 22 سبتمبر 2022

ج15.وج16. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 

ج15.وج16. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب: أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 


ج15. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وهو كلام مُشْكِلٌ في نفسه ، ومعنى قوله على الشرط ، أي : العلة ، سمَّى العلةَ شرطاً؛ لأن المشروطَ متوقفٌ عليه كتوقف المعلول على علتع ، فهو علة ، إلا أنه خلاف اصطلاح النحويين .
ثم اعترض الواحدي على هذا التخريج بأنه لو كان كذلك لم يَحْسُن إعادة اسم « الله » ، ولكان التركيب : إن الدين عنده الإسلام؛ لأن الاسم قد سَبَق ، فالوجه الكناية .
ثم أجاب بأن العربَ رُبَّما أعادت الاسم موضعَ الكناية ، وأنشد : [ الخفيف ]
1372- لاَ أرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيءٌ ... نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالفقِيرَا
يعني أنه من باب إيقاع الظاهر موقع المضمر ، ويزيده - هنا - حُسْناً أنه في موضع تعظيم وتفخيم .
الخامس : أن تكون على حذف حرف الجر معمولة للفظ « الْحَكِيم » ، كأنه قيل : الحكيم بأن ، أي : الحاكم بأن ف « حَكِيم » مثال مبالغة ، مُحَوَّل من فاعل ، فهو كالعليم والخبير والبصير ، أي : المبالغ في هذه الأوصاف ، وإنما عَدَل عن لفظ « حاكم » إلى « حكيم » - مع زيادة المبالغة-؛ لموافقة « الْعَزِيز » ، ومعنى المبالغة : تكرار حكمهِ - بالنسبة إلى الشرائع - أن الدينَ عند الله الإسلام؛ إذْ حَكَم في كلّ شريعة بذلك ، قاله أبو حيّان ، ثم قال : فإن قلتَ : لم حَمَلْتَ « الْحَكِيم » على أنه مُحوَّل من « فاعل » إلى فعيل؛ للمبالغة ، وهَلاَّ جعلته « فَعِيلا » ، بمعنى « مُفْعِل » فيكون معناه « الْمُحكِم » كما قالوا في « أليم » : إنه بمعنى « مُؤْلِم » وفي « سميع » من قول الشاعر : [ الوافر ]
1373- أمِنْ رَيْحَانَة الدَّاعي السَّمِيع .. .
أي : المُسْمِع؟
فالجوابُ : أنا لا نسلم أن « فَعِيلا » يأتي بمعنى « مفعل » ، وقد يؤول « أليم » و « سميع » على غير « مفعل » ، ولئن سلمنا ذلك ، فهو من الندور والشذوذ ، بحيث لا يَنْقاس ، [ وأما ] « فعيل » محوَّل من « فاعل » ؛ للمبالغة فهو منقاس؛ كثير جداً ، خارج عن الحصر ، كعليم ، وسميع ، وقدير ، وخبير ، وحفيظ إلى ألفاظ لا تُحْصَى كَثْرَةً ، وأيضاً فإن العربيَّ الْقُحَّ ، الباقي على سجيته لم يفهم من « حكيم » إلا أنه محوَّل من « فاعل » ؛ للمبالغة ، ألا ترى أنه لما سمع قارئاً يقرأ { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله } [ المائدة : 38 ] والله غفور رحيم أنكر أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، فقيل له : التلاوة : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ، فقال : هكذا يكون ، عَزَّ فَحَكَم فقط ، ففَهِم من « حكيم » أنه محوَّل - للمبالغة - من « حاكم » ، وفَهْم هذا العربيِّ حُجَّةٌ قاطعةٌ بما قلناه ، وهذا تخريج سَهْل ، سائغ جداً ، يزيل تلك التكلفات والتركيبات التي يُنزّه كتابُ الله عنها ، وأما على قراءة ابن عباس فكذلك نقول ، ولا نجعل { إِنَّ الدِّينَ } معمولاً لِ « شَهِدَ » - كما فهموا - وأن { أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } اعتراض - يعني بين الحال وصاحبها ، وبين معموله - بل نقول : معمول « شَهِدَ » هو « إنَّهُ » - بالكسر - على تخريج من خرج أن « شَهِدَ » - لما كان بمعنى القول - كسر ما بعده؛ إجراءً له مُجْرَى القول .
أو نقول : إنه معموله ، وعلقت ، ولم تدخل اللام في الخبر؛ لأنه منفي ، بخلاف ما لو كان مثبتاً فإنك تقول : شهدت إنَّ زيداً لَمُنْطَلِقٌ ، فتعلق ب « إنَّ » مع وجود اللام؛ لأنه لو لم تكن اللام لفتحت « إنَّ » ، فقلت : شهدت أنَّ زَيْداً منطلقٌ ، فمن قرأ بفتح « أنَّه » ، فإنه لم يَنْو التعليقَ ، ومن كسر فإنه نوى التعليق ، ولم تدخل اللام في الخبر؛ لأنه منفي كما ذكرنا .
قال شهاب الدينِ : وكان الشيخ - لما ذكر الفصل والاعتراض بين كلمات هذه الآية - قال ما نصه : « وأما قراءة ابن عباس فتخرج على أن { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } هو معمول » شَهِدَ « ويكون في الكلام اعتراضان :
أحدهما : بين المعطوف عليه والمعطوف وهو { لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وإذا أعربنا { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } خبرَ مبتدأ محذوفٍ كان ذلك ثلاثة اعتراضات ، انظر هذه التعوجيهات البعيدة ، التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظيرٍ من كلام العربِ ، وإنما حمل على ذلك العُجْمَةُ ، وعدمُ الإمعان في تراكيب كلام العربِ ، وحِفْظِ أشعارِها » .
قال شهاب الدينِ : « ونسبة كلامِ أعلام الأئمة إلى العجمة ، وعدم معرفتهم بكلام العرب ، وحملهم كلام الله على ما لا يجوز ، وأن هذا - الذي ذكره - هو تخريج سهل واضح ، غير مقبول ولا مُسَلَّم ، بل المتبادر إلى الذهن ما نقله الناسُ ، وتلك الاعتراضات بين أثناء تلك الآيةِ الكريمةِ موجودٌ نظيرُها في كلامِ العربِ ، وكيف يجهل الفارسي والزمخشريُّ والفراءُ وأضرابهم ذلك؟ وكيف يَتَبَجَّجُ باطِّلاعه على ما لم يَطلع عليه مثلُ هؤلاء؟ وكيف يظن بالزمخشري أنه لا يعرفُ مواقعَ النظم ، وهو المسلَّم له في علم المعاني والبيان والبديع ، ولا يَشُك أحد أنه لا بد لمن يتعرض إلى علم التفسير أن يعرفَ جملةً صالحةً من هذه العلوم » .
قوله : { عِنْدَ الله } ظرف ، العامل فيه لفظ « الدِّين » ؛ ملا تضمنه من معنى الفعل .
قال أبو البقاء : « ولا يكون حالاً؛ لأن » إنَّ « لا تعمل في الحال » .
قال شهاب الدين : قد جوز في « ليت » وفي « كأن » أن تعمل في الحال « .
قال شهاب الدين : قد جوز في « ليت » وفي « كأن » أن تعمل في الحال .
قالوا : لما تضمنته هذه الأحرف من معنى التمني والتشبيه ، ف « إن » للتأكيد ، فلْتَعْمَل في الحال - أيضاً - فليست تتباعد عن « الهاء » التي للتنبيه .
قيل : هي أولى منها ، وذلك أنها عاملة ، و « هاء » ليست بعاملة ، فهي أقرب لشبه الفعل من هاء .
فصل
الدين - في أصل اللغة - عبارة عن الانقياد والطاعة والتسليم والمتابعة ، قال تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً } [ النساء : 94 ] ، أي : لمن صار منقاداً لكم ، ومتابعاً ، والإسلام هو الدخول في السلم ، يقال : أسلم ، أي : دخل في السلم ، كقولهم : أشتى ، وأقحط ، وأصل السِّلم : السلامة ، وقال ابن الأنباري : « المُسْلِم » معناه المخلص لله عبادته ، من قولهم : سَلِم الشيء لفلان ، أي : خَلصَ ، فالإسلام معناه : إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى « .
وأما في عرف الشرع فالإسلام هو الإيمان؛ لوجهين :
أحدهما : هذه الآية؛ لأن قوله : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } يقتضي أن الدين المقبول عند الله ليس إلا الإسلام ، فلو كان الإيمانُ غيرَ الإسلام وجب أن لا يكون الإيمان ديناً مقبولاً عند الله - وهو باطل- .
الثاني : قوله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] فلو كان الإيمانُ غيرَ الإسلام لوجب أن لا يكون مقبولاً عند الله تعالى .
قال القرطبيُّ : الإسلام هو الإيمان ، بمعنى التداخل ، وهو أن يُطْلَق أحدهما ويُراد به مسماه في الأصل ومُسمَّى الآخر ، كما في هذه الآية؛ إذ قد دخل فيهما التصديق والأعمال ، ومنه قوله - عليه السلام- : » الإيمانَ مَعْرِفةٌ بالْقَلْبِ ، وقَوْلٌ باللِّسَان ، وعَمَلٌ بالأرْكَانِ « أخرجه ابن ماجه .
فإن قيل : قوله تعالى : { قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] صريح في أن الإسلام غير الإيمان .
فالجواب : أن الإسلام عبارة عن انقياد - كما بينَّا في أصل اللغة - والمنافقون انقادوا في الظاهر من خوف السيف - فلا جرم - كان الإسلام حاصلاً في الظاهر ، والإيمان - أيضاً - كان حاصلاً في حكم الظاهر؛ لأنه - تعالى - قال : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 ] والإيمان الذي يُبيح النكاحَ في الحكم - هو الإقرار الظاهر ، فعلى هذا ، الإسلام والإيمان تارةً يُعتبران في الظاهر دون الباطن ، وتارة في الباطن والظاهر ، فالأول هو النفاق ، وهو المراد بقوله : » قَالَتِ الأعْرَابُ « ؛ لأن باطن المنافق غير منقاد لدين الله تعالى ، فكان تقدير الآية : لم تسلموا في القلب والباطن ، ولكن قولوا : أسلمْنا في الظاهر .
فصل
قال قتادة - في قوله تعالى- : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } ، شهادة ألا إله إلا الله ، والإقرار بما جاء من عند الله ، وهو دين الله الذي شرع لنفسه ، وبعث به رُسُلَه وَدَلَّ عليه أولياءه ، لا يقبلُ غيرَه ، ولا يَجْزِي إلا به .
روى غالب القطان ، قال : أتيتُ الكوفةَ في تجارة ، فنزلتُ قريباً من الأعمش ، فكنت أختلف إليه ، فلما كنت ذاتَ ليلةٍ ، أردت أن أنحدر إلى البصرة ، قام من الليل يتهجد ، فمرَّ بهذه الآيةِ : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } [ آل عمران : 18 ] قال الأعمش : وأنا أشهدُ بما شَهد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة ، وهي لي - عند الله - وديعة ، { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } - قالها مراراً .
قلت : لقد سمع فيها شيئاً ، فصليْت معه ، وودعته ، ثم قلت : إني سمعتُكَ تُرَدِّدُهَا ، فما بلغك؟ قال : واللهِ لا أحَدثُكَ بها إلى سنةٍ ، فكتَبْتُ على بابه ذلك اليومَ ، وأقمتُ سنةً ، فلمَّا مضت السنةُ ، قلتُ : يا أبا محمد ، قد مضت السنةُ ، فقال : حَدَّثني من حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يُجَاء بِصَاحِبهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَقُولُ اللهُ تعالى : إنَّ لِعَبْدِي هذا - عندي - عهداً ، وَأنا أحَقُّ مَنْ وَفَى بِالْعَهْدِ ، أدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ » .
قوله تعالى : { وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } .
قال الكلبي : نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام ، أي : وما اختلف الذين أوتوا الكتابَ في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم ، يعني بيان نعته في كتبهم .
وقال الربيع : إن موسى - عليه السلام - لما حضره الموتُ دعا سبعين رجلاً من أحبار بني إسرائيل ، فاستَوْدَعَهم التوراة ، واستخلف يُوشَعَ بن نون ، فلما مضى القرنُ السبعين - حتى أهرقوا بينهم الدماء ، ووقع الشَّرُّ والاختلافُ ، وذلك { مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم } يعني بيان ما في التوراة ، { بَغْيًا بَيْنَهُمْ } أي : طلباً للملك والرياسة ، فسلط الله عليهم الجبابرةَ .
قال محمدُ بنُ جفعر بن الزبير : نزلت في نصارى نجران ، معناها : { وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب } يعني الإنجيل في أمر عيسى ، وفرَّقوا القول فيه : { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم } بأن الله واحد ، وأن عيسى عبدُ اله ورسوله ، { بَغْيًا بَيْنَهُمْ } ، أي : المعاداة والمخالفة .
وقيل : المراد اليهود والنصارى ، واختلافهم هو قولُ اليهودِ : عُزَيْرٌ ابنُ الله ، وقول النصارى : المسيح ابنُ الله ، وأنكروا نبوة محمد ، قالوا : نحن أحق بالنبوة من قريش ، لأنهم أميُّونَ ، ونحن أهل الكتاب .
وقوله : { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم } أي : الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم؛ لأنا لو حملناهم على العلم لصاروا معاندين ، والعناد على الجمع العظيم لا يصح . [ وهذه الآية وردت في كل أهل الكتاب ، وهو جمع عظيم .
وقال الأخفش : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب؛ بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم .
وقال ابن عمر وغيره : أخبر - تعالى - عن ] اختلاف أهل الكتاب أنه كان على علم منهم بالحقائقِ ، وأنه كان بغياً وطلباً للدنيا .
وفي الكلام تقديم وتأخير ، فالمعنى : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم .
قوله : « بَغْياً » فيه أوجه :
أحدها : أنه مفعول من أجله ، العامل فيه « اخْتَلَفَ » والاستثناء مُفَرَّغ ، و التقدير : وما اختلفوا إلا للبغي لا لغيره ، قاله الأخفش ، ورجحه أبو علي .
الثاني : أنه مصدر في محل نصب على الحال من « الذين » كأنه قيل : ما اختلفوا إلا في هذه الحال ، والاستثناء مُفَرَّغ أيضاً .
الثالث : أنه منصوب على المصدر ، والعامل فيه مقدَّر ، كأنه لما قيل : { وَمَا اخْتَلَفَ } دل على معنى : وما بغى ، فهو مصدر ، قاله الزّجّاجُ ، ووقع بعد « إلا » مستثنيان ، وهما : « مِنْ بَعْدِ » و « بَغْياً » وقد تقدم تخريج ذلك .
قال الأخفش : قوله : « بَغْياً » من صلة قوله : « اخْتَلَفُوا » ، والمعنى : وما اختلفوا بغياً بينهم إنما اختلفوا للبغي .
قال القفّالُ : وهذا أجودُ من الأول؛ لأن الأولَ يُوهِمُ أنَّ اختلافَهم بسبب مجيء العلم ، والثاني يفيد أن اختلافهم لأجل الحَسَدِ والبغي .
قوله : { وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله } « مَنْ » مبتدأ ، وفي خبره الأقوال الثلاثة - أعني : فعل الشرط وحده ، أو الجواب وحده ، أو كلاهما - وعلى القول بكونه الجواب وحده لا بد من ضمير مقدَّر ، أي : سريع الحساب له .
فصل
وهذا تهديد ، وفيه وجهان :
الأول : المعنى : فإنه سيصير إلى الله تعالى سريعاً ، فيحاسبه ، أي : يُجازيه على كُفْره .
الثاني : أن الله تعالى سيُعْلِمه بأعماله معاصيه وأنواع كفره ، بإحصاء سريع ، مع كَثْرَةِ الأعمال .

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
{ فَإنْ حَآجُّوكَ } أي : خاصموك يا محمد في الدين بالأقاويل المزوَّرة ، المغالطات ، فأسْند أمرك إلى ما كُلِّفْتَ به من الإيمان والتبليغ ، وعلى الله نصرك وذلك أن اليهود والنصارى قالوا : لسنا على ما سميتنا به يا محمد ، إنما اليهودية والنصرانية نسب ، والدين هو الإسلام ، ونحن عليه ، فقال الله تعالى - { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ } أي : انقدت لله وحده ، وإنما خص الوجه؛ لأنه أكرم جوارح الإنسان .
وقال الفرّاءُ : معناه : أخلصت عملي لله .
وفي كيفية إيراد هذا الكلام وجوه :
أحدها : أنه - عليه السلام - كان قد أظهر لهم الحجةَ - على صدقه - قبل نزول هذه الآية - مراراً ، فإن هذه السورة مدنية ، وكان قد أظهر لهم المعجزاتِ بالقرآن ، ودعاء الشجرة ، وكلام الذئب ، وغيرها مما يدل على صحة دينه ، وذكر الحجة على فساد قول النصارى بقوله { الحي القيوم } ، وأجاب عن شبه القوم بأسرها ، ومشاهدة يوم بدر وأثبت التوحيد ، ونفى الضدَّ والندَّ والصاحبة والولد بقوله : { شَهِدَ الله لاا إله إِلاَّ هُوَ } [ آل عمران : 18 ] ، وبين - تعالى - أن إعراضهم عن الحق إنما كان بَغْياً وحَسَداً ، فلما لِمْ يَبْقَ حجة على فِرَق الكفار إلا أقامها ، قال بعده : { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ } وهذه عادة المُحِقِّ مع المُبْطِلِ ، إذا أورد عليه حُجَّة بَعْدَ حُجَّة ، ولم يرجع إليه ، فقد يقول - في آخر الأمر- : أما أنا فمنقادٌ للحق ، فإن وافقتم ، واتبعتم الحق الذي أنا عليه ، فقد اهتديتم ، وإن اعترضتم ، فالله بالمرصاد .
ثانيها : أن القوم كانوا مُقِرِّينَ بوجود الصانع ، وكونه مستحقاً للعبادة ، فكأنه - عليه السلام - قال لهم : هذا القدر متفق عليه بين الكُلِّ ، فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه ، وداعي الخلق إليه ، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك ، وأنتم المدعون فعليكم الإثبات ، ونظيره قوله : { قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ أل عمران : 64 ] .
وثالثها : قال أبو مسلم : هو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرِّين بتعظيم إبراهيم - عليه السلام - ، وبأنه كان مُحِقًّا صادقاً في دينه إلا في زيادات من الشرائع ، فأمر الله تعالى - محمداً - صلى الله عليه وسلم بأن يتبع ملته ، بقوله تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } [ النحل : 123 ] ، ثم أمخر محمداً صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم حيث قال : { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض } [ الأنعام : 79 ] فقل يا محمد : « أسْلَمْتُ وَجْهِيَ » كقول إبراهيم : « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ » ، أي : أعرضت عن كل معبود سوى الله - تعالى - وقصدته وأخصلت له ، كأنه قال : فإن نازعوك في هذه التفاصيل فقل : أنا متمسك بطريقة إبراهيم - عليه السلام - وأنتم مقرون بأن طريقته حق لا شبهة فيها ، فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات .
فصل
فَتَحَ الياءَ من « وَجْهِيَ » - هنا وفي الأنعام - نافع وابن عامر وجعفر وحفص وسكنها الباقون .
قوله : { وَمَنِ اتَّبَعَنِ } في محل « مَنْ » وجوه :
أحدها : الرفع؛ عطفاً على التاء في « أسْلَمْتُ » ، وجاز ذلك؛ لوجود الفصل بالمفعول؛ قاله الزمخشريُّ وابن عطية .
قال أبو حيان : « ولا يمكن حمله على ظاهره؛ لأنه إذا عطف الضمير في نحو : » أكلت رغيفاً وزيدٌ « لزم من ذلك أن يكونا شريكين في أكل الرغيف ، وهنا لا يسوغ ذلك؛ لأن المعنى ليس على أنهم أسلموا هم . وهو صلى الله عليه وسلم أسلم وجهه ، بل المعنى على أنه صلى الله عليه وسلم أسلم وجهه لله ، وأنهم أسلموا وجوههم لله؛ [ فالذي يقوى في الإعراب أنه معطوف على ضمير محذوف منه المفعول ، لا مشارك في مفعول » أسْلَمْتُ « والتقدير : ومن اتبعني وجهه ، أو أنه مبتدأ محذوف الخبر؛ لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : ومن اتبعني كذلك ، أي : أسلموا وجوههم لله ] ، كما تقول : قضى زيد نحبه وعمرو ، أي : عمرو كذلك ، أي : قضى نحبه » .
قال شهابُ الدينِ : « إنما صحت المشاركة في نحو : أكلتُ رغيفاً وزيدٌ؛ لإمكان ذلك ، وأما في الآية الكريمة فلا يُتَوَهَّمُ فيه المشاركة » .
الثاني : أنه مرفوع بالابتداء ، والخبر محذوف - كما تقدم .
الثالث : أنه منصوب على المعية ، والواو بمعنى « مع » أي : أسلمت وجهي لله مع من اتبعني؛ قاله الزمخشريُّ .
وقال أبو حيّان : « ومن الجهة التي امتنع عطف » مَنْ « على الضمير - إذا حُمِلَ الكلام على ظاهره دون تأويل - يمتنع كون » مَنْ « منصوباً على أنه مفعول معه؛ لأنك إذا قلتَ : أكلتُ رغيفاً وعمرو أي مع عمرو - دل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف ، وقد أجاز الزمخشريُّ هذا الوجهَ ، - وهو لا يجوز - لما ذكرنا - على كل حال؛ لأنه لا يجوز حذف المفعول مع كون الواوِ واوَ » مع « ألبتة » .
قال شهابُ الدينِ : « فهم المعنى ، وعدم الإلباس يسَوِّغ ما ذكره الزمخشريُّ ، وأي مانع من أن المعنى : فقل : أسلمت وجهي لله مصاحباً لمن أسلم وَجْهَهُ لله أيضاً ، وهذا معنى صحيح مع القول بالمعية » .
الرابع : أن محل « مَنْ » الخفض ، نسقاً على اسم « الله » ، وهذا الإعراب - وإن كان ظاهره مُشْكِلاً - قد يؤول على معنى : جعلت مقصدي لله بالإيمان به والطاعة له ، ولمن اتبعني بالحفظ له .
وقد أثبت الياءَ في « مَنِ اتَّبَعَنِي » نافع ، وحذفها أبو عمرو وخلاد - وقفاً - والباقون حذفُوهَا فيهما؛ موافقةً للرسم ، وحسن ذلك أيضاً كونها فاصلةً ورأس آية ، نحو { أَكْرَمَنِ } [ الفجر : 15 ] و { أَهَانَنِ } [ الفجر : 16 ] وعليه قول الأعشى : [ المتقارب ]
1374- وَهَلْ يَمْنَعَنِّي أرْتيادِي الْبِلاَ ... دَ مِنْ حَذَر الْمَوْتِ أنْ يَأتِيَنْ
وقول الأعشى - أيضاً - : [ المتقارب ]
1375- وَمَنْ شَانِىءٍ كَاسِفٍ بَالُهُ ... إذا مَا انْتَسَبْتُ لَهْ أنْكَرَنْ
قال بعضهم : حذف هذه الياء مع نون الوقاية - خاصّة - فإن لم تكن نونٌ فالكثير إثباتُها .
قوله : قال { وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب } يعني اليهود والنصارى ، والمراد بالأميِّيِّين : مشركو العرب ، ووصفهم بكونهم أميين؛ لأنهم لم يَدَّعوا كتاباً ، شبههم بمن لا يقرأ ولا يكتب ، وإما لكونهم ليسوا من أهل الكتابة والقراءة ، وإن كان فيهم من يكتب فهو نادر .
قوله : { أَأَسْلَمْتُمْ } صورته استفهام ، ومعناه الأمر ، أي : أسلموا ، كقوله تعالى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] .
قال الزمخشري : « يعني أنه قد أتاكم من البيِّنات ما يوجب الإسلام ، ويقتضي حصوله - لا محالة - فهل أسلمتم بعدُ أم أنتم على كفركم؟ ، وهذا كقولك - لمن لخَّصْتُ له المسألة ، ولم تُبْقِ من طُرُق البيان والكشف طريقاً إلاَّ سلكته- : هل فهمتها ، أم لا - لا أُمَّ لك - ومنه قوله - عز وجل - { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر ، وفي الاستفهام استقصار ، وتعبير بالمعاندة ، وقلة الإنصاف؛ لأن المُنْصِفَ - إذا تَجَلَّتْ لَهُ الحجَّةُ - لم يتوقف إذْعانه للحق » .
وقال الزّجّاج : « أأسْلَمْتُم » تهديد .
قال القرطبيُّ : « وهذا حَسَنٌ؛ لأن المعنى : أأسْلَمْتُمْ أمْ لاَ؟ » .
قوله : { فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا } دخلت « قد » على الماضي؛ مبالغة في تحقُّق وقوعِ الفعل ، وكأنه قد قَرُب من الوقوع .
رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ، فقال أهل الكتاب : أسْلَمْنَا ، فقال لليهود : أتَشَهدُونَ أنّ عِيسَى كَلِمَةُ اللهِ وَعَبْدُهُ ، وَرَسُولُهُ؟ فقالوا : معاذَ اللهِ ، وقال للنَّصَارَى : أتَشَهدُونَ أنّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ؟ فقالوا معاذَ الله أن يكون عيسى عبداً ، فقال الله عز وجل- : { وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } ، أي : تبليغ الرسالة ، وليس عليك الهداية .
والبلاغ : مصدر « بَلَغَ » - بتخفيف عين الفعل- .
قيل : إنها نُسِخَت بالجهاد . { والله بَصِيرٌ بالعباد } عالم بمن يؤمن ومن لا يؤمن ، وهذا يفيد الوعد والوعيد .

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
لما ذكر حال من يُعْرِض ويتولّى وصفهم في هذه الآيةِ بثلاثِ صفاتٍ :
الأولى قوله : { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ } لما ضمن هذا الموصول معنى الشرط دخلت الفاء في خبره وهو قوله : { فَبَشِّرْهُم } ، وهذا هو الصحيح ، أعني أنه إذا نُسِخَ المبتدأ ب « إنَّ » فجواز دخول الفاء باقٍ؛ لأن المعنى لم يتغير ، بل ازداد تأكيداً ، وخالف الأخفش ، فمنع دخولها من نسخه ب « إنَّ » والسماع حُجَّةٌ عليه كهذه الآية ، وكقوله : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق } الآية [ البروج : 10 ] ، وكذلك إذا نُسِخَ ب « لَكِنَّ » كقوله : [ الطويل ]
1376- فَوَاللهِ مَا فَارَقْتُكُمْ عَنْ مَلَلَةٍ وَلَكِنَّ مَا يُقْضَى فَسَوْفَ يَكُونُ
وكذلك إذا نُسِخ ب « أنَّ » - المفتوحة - كقوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } [ الأنفال : 41 ] أما إذا نُسِخ ب « لَيْتَ » ، و « لَعَلَّ » و « كَأنَّ » امتنعت الفاءُ عند الجميع؛ لتغيُّرِ المعنى .
فصل
المراد بهؤلاء الكفارِ اليهودُ و النصارى .
فإن قيل : ظاهر هذه الآيةِ يقتضي كونَهم كافرين بجميع آيات الله - تعالى- ، واليهود والنصارى ، كانوا مقرِّين بالصانع وعلمِه وقدرته والمعادِ .
الجواب : أن تُصْرَفَ الآياتُ إلى المعهود السابق - وهو القرآن ومحمد - أو نحمله على العموم ، ونقول : إن من كذب بنبوة محمد - عليه السلام - يلزمه أن يُكذب بجميع آيات الله تعالى .
الصفة الثانية : قوله : { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ } قرأ الحسن هذه والتي بعدها بالتشديد ومعناه : التكثير ، وجاء - هنا - { بِغَيْرِ حَقٍّ } منكَّراً ، وفي البقرة [ بِغَيْرِ الحَقِّ } معرَّفاً قيل : لأن الجملة - هنا - أخرجت مخرَجَ الشرط - وهو عام لا يتخصَّص - فلذلك ناسبَ أن تذكر في سياق النفي؛ لتعمَّ .
وأما في البقرة فجاءت الآية في ناسٍ معهودين ، مختصين بأعيانهم ، وكان الحق الذي يُقْتَل به الإنسان معروفاً عندهم ، فلم يقصد هذا العموم الذي هنان فجِيء في كل مكان بما يناسبه .
فصل
روى أبو عبيدة بنُ الجراح ، قال : قلت : يا رسولَ الله ، أيُّ الناسِ أشَدُّ عذاباً يَوْمَ القيامةِ؟ قال : رجل قتل نبيًّا ، أو رجلاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وقرأ هذه الآية ، ثم قال : يا أبا عبيدة ، قتلت بنو إسرائيل ثلاثةً وأربعين نبيًّا ، من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة رجل ، واثنا عشر رجلاً من عُبَّادِ بني إسرائيلَ ، فأمَرُوا قَتَلَتَهُمْ بالمعروفِ ، ونَهَوْهُمْ عن المنكر ، فقُتِلوا جميعاً من آخرِ النَّهَارِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ ، فَهُم الَّذينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تعالى .
وأيضاً القوم قتلوا يحيى بن زكريا ، وزعموا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم .
فإن قيل : قوله : { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله } في حكم المستقبل؛ لأنه كان وعيداً لمن كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقع منهم قتل الأنبياء ، ولا الآمرين بالقسط ، فكيف يَصِحُّ ذلكظ
فالجوابُ من وجهين :
أحدهما : أن هذه لما كانت طريقة أسلافِهم صحَّت الإضافة إليهم؛ إذْ كانوا مُصَوِّبِينَ لهم ، راضين بطريقتهم ، فإن صُنْعَ الأب قد يُضاف إلى الابن ، إذا كان راضياً به .
الثاني : أن القوم كانوا يريدون قَتلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلَ المؤمنين ، إلا أن الله - تعالى - عَصَمَه منهم ، فلما كانوا راغبين في ذلك صحَّ إطلاق هذا الاسم عليهم - على سبيل المجاز - كما يقال : النار مُحْرِقةٌ ، السَّمُّ قاتل .
فإن قيل : قَتْل الأنبياء لا يصح أن يكون إلا بغير حق ، فما فائدة قوله : { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ } ؟
فالجوابُ تقدم في البقرة ، وأيضاً يجوز أن يكون قصدوا بقتلهم أنها طريقة العدل عندهم .
فإن قيل : قوله : { وَيَقْتُلُونَ النبيين } ظاهره يُشْعِر بأنهم قتلوا كُلَّ النبيِّين ، ومعلوم أنهم ما قتلوا الكل ، ولا الأكثر ، ولا النصف .
فالجواب أن الألف واللام هنا للعَهْد ، لا للاستغراق .
الصفة الثالثة : قوله : { وَيَقْتُلُونَ الذين } قرأ حمزة « وَيُقَاتِلُونَ » - من المقاتلة - والباقون « وَيَقْتُلُونَ » - كالأول .
فأما قراءةُ حمزةَ فإنه غاير فيها بين الفعلين ، وهي موافقة لقراءة عبد الله « وَقَاتَلُوا » - من المقاتلة - إلا أنه أتى بصيغة الماضي ، وحمزة يحتمل أن يكون المضارع - في قراءته - لحكاية الحال ، ومعناه : المُضِيّ .
وأما الباقون فقيل - في قراءتهم- : إنما كرر الفعل؛ لاختلاف متعلَّقه ، أو كُرِّرَ؛ تأكيداً ، وقيل : المراد بأحد القتلَيْن إزهاق الروح ، وبالآخر الإهانة ، وإماتة الذكر ، فلذلك ذكر كل واحد على حدته ، ولولا ذلك لكان التركيبُ : ويقتلون النَّبِيِّينَ والذين يأمرون ، وبهذا التركيب قرأ أبَيّ .
قوله : { مِنَ النَّاسِ } إما بيان ، وإما للتبعيض ، وكلاهما معلوم أنهم من الناس ، فهو جَارٍ مَجْرَى التأكيد .
فصل
قال القرطبيُّ : « دلت هذه الآيةُ على أن الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجباً في الأمم المتقدمةِ ، وهو فائدة الرِّسالةِ وخلافة النبوة » .
قال الحسنُ : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « مَنْ أمَرَ بِالْمَعْرُوفِ ، أو نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ، فَهُوَ خَلِيفَةُ اللهِ في أرْضِهِ ، وَخَلِيفَةُ رَسُولِهِ ، وَخِلِيفَةُ كِتَابِهِ » .
وعن دُرَّةَ بِنْتِ أبِي لَهَب ، قالت : جاء رجل إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر - فقال : مَنْ خيرُ الناس يا رسول الله؟ قال : « آمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ، وأنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَأتْقَاهُمْ لله ، وَأوْصَلُهُمْ لِرَحِمِهِ » .
قد ورد في النزيل : { المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف } [ التوبة : 67 ] ، ثم قال : { والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } [ التوبة : 71 ] .
فجعل - تعالى - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقاً بين المؤمنين والمنافقين ، فدل ذلك على أن أخَصَّ أوصاف المُؤمِن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه ، ثم إن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لا يليق بكل أحد ، وإنما يقوم به السلطانُ؛ إذْ كانت إقامةُ الحدودِ إليه ، والتعزير إلى رأيه ، والحبس والإطلاق له ، والنفي والتغريب ، فينصب في كل بلدة رجلاً قويًّا ، عالماً ، اميناً ، ويأمره بذلك ، ويُمْضِي الحدودَ على وَجْهها من غير زيادةٍ ، كما قال تعالى :
{ الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر } [ الحج : 41 ] .
فصل
قال الحسنُ : هذه الآيةُ تدل على أن القائمَ بالأمْر بالمعروف والنهي عن المنكر - عند الخوف - تلي منزلته - في العِظَم - منزلةَ الأنبياء ، ورُوِيَ أنَّ رَجُلاً قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمِنًى - فقال : أيُّ الجهاد أفضلُ؟ فقال عليه السلام : « أفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَق عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائرٍ » .
قال ابن جريج : كان الوحي يأتي إلى أنبياء بني إسرائيل - ولم يكن يأتيهم كتابٌ - فيدكِّرُون قومَهم فيُقْتلون ، فيقوم رجال ممن تَبِعهم وصدَّقهم ، فيذكرون قومَهم ، فيُقْتَلون - أيضاً - فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس .
قوله : { أولئك الذين حَبِطَتْ } قرأ ابنُ عباس وأبو عبد الرحمن « حَبَطَتْ » بفتح الباء - وهي لغة معروفة ، أي : بطلت في الدنيا - بإبدال المدح بالذم ، والثناء باللعن ، وقَتْلِهم ، وسَبْيِهم وأخذ أموالهم ، واسترقاقِهم ، وغير ذلك من أنواع الذل - وفي الآخرة - بإزالة الثواب ، وحصول العقاب - { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } يَدْفَعُونَ عَنْهُم .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
لمَّا نَبَّهَ على عِنادِهم بقوله : { فَإنْ حَآجُّوكَ } [ آل عمران : 20 ] بَيَّنَ في هذه الآيةِ غايةَ عِنادِهم ، واعلم أن ظاهر الآية يتناول الكُلَّ؛ لأنه ذكره في معرض الذم ، إلا أنه قد دَلَّ دليل آخر على أنه ليس كل أهل الكتاب كذلك ، لقوله تعالى : { مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [ آل عمران : 113 ] والمراد بالكتاب غير القرآن؛ لأنه أضاف الكتاب إلى الكفار ، وهم اليهود والنصارى .
فصل
في سبب النزول وجوهٍ :
أحدها : رَوَى ابنُ عباس : أنَّ رجلاً وامرأةً - من اليهود - زَنَيَا وكانا ذَوَى شَرَفٍ ، وكان في كتابهم الرَّجْمُ ، فكرهوا رَجْمَهُمَا؛ لشرفهما ، فرجعوا في أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، رجَاءَ أن يكون عنده رخصةٌ في تَرْك الرجم ، فحكم الرسولُ - عليه السلام - بالرجم ، فأنكروا ذلك ، فقال - عليه السلام - « بيني وبينكم التوراةُ؛ فإن فيها الرَّجمَ ، فمَنْ أعْلَمُكم » ؟ قالوا : رجل أعور يسكن فَدك ، يقال له : ابن صوريا ، فأرسلوا إليه فقدِمَ المدينةَ ، وكان جبريلُ قد وصفه لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « أنت ابن صُوريا » ؟ قال : نَعَمْ ، قال : « أنت أعلمُ اليهودِ » ؟ قال : كذلك يَزْعُمُونَ ، قال : « فأحْضِروا التوراةَ » ، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها ، فقال ابنُ سَلاَم : قد جاوَزَ موضِعَها يا رسول الله ، وقام فرفع كَفَّه عنها فوجدوا آيةَ الرجم ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهما فرُجِمَا ، فغضبت اليهودُ لذلك غَضَباً شديداً ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وثانيها : روى سعيدُ بنُ جُبَيْر وعكرمةُ - عن ابنِ عباس - قال : دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيت المِدْرَاس على جماعة من اليهود ، فدعاهم إلى الله - عز وجل - فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن يزيد : على أي دين أنت يا محمد؟ فقال : على ملة إبراهيم ، قالا : إن إبراهيمَ كان يهوديًّا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فهلموا إلى التوراة؛ فهي بيننا وبينكم حَكَمْ فأتيَا عليه » ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وثالثها : أن علامة بعثة محمد صلى الله عليه وسلم مذكورةٌ في التوراةِ ، والدلائل على صحة نبوته موجودة فيها فلما دادلوه في النبوة والبعثة دعاهم إلى التحاكم إلى كتابهم ، فأبَوْا ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآيةَ ، ولذلك قال : { فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عمران : 93 ] وهذه الآية تدل على أن دلائلَ صحةِ نبوتهِ موجودةٌ في التوراة؛ إذْ لو علموا أنه ليس في التوراة ما يدل على صحة نبوته لسارعوا إليه ، ولَمَا ستروا ذلك .
رابعها : أن هذا الحكم عام في اليهود والنصارى؛ فإن دلائل صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كانت موجودة في التوراة والإنجيل .
وقوله : { نَصِيباً مِّنَ الكتاب } أي : من علم الكتاب؛ لأنا لو أجريناه على ظاهره ، فهم قد أوتوا كل الكتاب ، والمراد بذلك العلماء منهم ، وهم الذين يُدْعَوْن إلى الكتاب؛ لأن مَنْ لا علمَ له بذلك لا يدعى إليه .
قوله : « يُدْعَوْنَ » في محل نَصْب على الحال من { الذين أُوتُواْ الكتاب } .
قوله : « إلَى كِتَابِ اللهِ » قال أكثرُ المفسرين : هو التوراة؛ لوجوهٍ :
أحدها : ما ذكرنا في سبب النزول .
ثانيها : أن الآيةَ سِيقت للتعجُّب من تمرُّدِهم وإعْرَاضِهم ، والتعجُّب إنما يحصل إذا تَمَرَّدُوا على حكم الكتاب الذي يعتقدون صحته .
ثالثها : أن هذا هو المناسب لما قبل الآية؛ لأنه لما بَيَّن أنه ليس عليه إلا البلاغ وصبَّره على معاندتهم - مع ظهور الحُجَّة عليهم - بيَّن أنهم استعملوا طريقَ المكابرةِ في نفس كتابِهم الذي أقروا بصحته ، فستروا ما فيه من الدلائلِ الدالةِ على صحةِ نبوةِ محمدٍ - عليه السلام - فهذا يدل على أنهم في غاية التعصُّب والبُعْدِ عن قبول الحق .
قال ابنُ عباس والحسنُ وقتادةُ : هو القرآن .
روى الضّحاكُ عن ابن عباس - في هذه الآية - أن الله - تعالى - جعل القرآن حَكَماً فيما بينهم وبَيْنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنهم على غير الهُدَى ، فأعرضوا عنه ، وقال تعالى : { هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق } [ الجاثية : 29 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ } [ النور : 48 ] .
فإن قيل : كيف دُعُوا إلى حُكْم كتاب لا يؤمنون به؟
فالجواب : أنه مدعوا إليه بَعْدَ قِيَام الحُجَج الدالَّةِ على أنه كتابٌ من عند الله .
قوله : « ليحكم » متعلق ب « يدعون » . وإضافة الحكم إلى الكتاب مجاز مشهور .
وقرأ الحسن وأبو جعفر والجحدري « لِيُحْكَمَ » - مبنيًّا للمفعول - والقائم مقام الفاعل هو الظرف ، أي : ليقع الحكمُ بينهم .
قال الزمخشريُّ : قوله : { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } يقتضي أن يكون الاختلاف واقعاً فيما بينهم ، لا فيما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله : { ثُمَّ يتولى } عطف على « يُدْعَوْنَ » و « مِنْهُمُ » صفة ل « فَرِيقٌ » ، وقوله : { وَهُم مُّعْرِضُونَ } يجوز أن تكون صفةً معطوفة على الصفة قبلها - فتكون الواو عاطفة - وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستتر في « مِنْهُمْ » ؛ لوقوعه صفة - فتكون الواو واوَ الحال - ويجوز أن تكون صفةً معطوفة على الصفة قبلها - فتكون الواو عاطفة - وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستتر في « مِنْهُمْ » ؛ لوقوعه صفة - فتكون الواو واوَ الحال - ويجوز أن تكون حالاً من « فَرِيقٌ » ، وجاز ذلك - وإن كان نكرةً - لتخصيصه بالوصف قبله ، وإن كان حالاً فيجوز أن تكون مؤكِّدةً؛ لأن التولِّ ] والإعراض عما دعا إليه .
قال ابنُ الخطيبِ : « فكأن المتولِّيَ والمعرضَ هو ذلك الفريق ، والمعنى أنه مُتَوَلِّ عن استماع الحُجَّة في ذلك المقام ، ومُعْرِضٌ عن استماع سائر الحُجَج » .
ويحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، لا محل لها ، أخبر عنهم بذلك ، فيكون المتولِّي هم الرؤساء والعلماء ، والأتباع مُعرضون عن القبول؛ لأجل تَوَلِّي علمائِهم .

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
قوله : « ذَلِكَ » فيها وجهان :
أصحهما : أنها مبتدأ ، والجار بعده خبره ، اي : ذلك التوَلِّي بسبب هذه الأقوال الباطلةِ ، التي لا حقيقةَ لها .
والثاني : ان « ذَلِكَ » خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، اي : الأمر ذلك ، وهو قول الزَّجَّاج وعلى هذا قوله : « بأنَّهُمْ » متعلق بذلك المقدَّر - وهو الأمر ونحوه - .
وقال أبو البقاء : فعلى هذا يكون قوله « بأنَّهُمْ » في موضع نَصْب على الحال بما في « ذَا » من معنى الإشارة ، أي : ذلك الأمر مستحقاً بقولهم ، ثم قال : « وهذا ضعيفٌ » .
قلت : بل لا يجوز ألبتة .
وجاء - هنا - « مَعْدُودَاتٍ » ، بصيغة الجمع - وفي البقرة « مَعْدُودَةً » ، تفنُّناً في البلاغة ، وذلك أن جمع التكسير - غير العاقل - يجوز أن يعامَل معاملةَ الواحدةِ المؤنثة تارةً ، ومعاملةَ جمع الإناث أخْرَى ، فيقال : هذه جبال راسيةٌ - وإن شئت : راسياتٌ- ، وجمال ماشية ، وإن شئت : ماشيات .
وخص الجمع بهذا الموضع؛ لأنه مكان تشنيع عليهم بما فعلوا وقالوا : فأتى بلفظ الجمع مبالغةٌ في زجرهم ، وزجر من يعمل بعملهم .
فصل
قال الجبائيُّ : « هذه الآية فيها [ دلالة ] على بُطْلان قَوْل مَنْ يقول : إنَّ أهلَ النار يخرجون من النار ، قال : لأنه لو صَحَّ ذلك في هذه الآية لصح في سائر الأمم ، ولو ثبت ذلك في سائر الأمم لما كان المُخْبِر بذلك كاذباً ، ولما استحق الذمَّ ، فلما ذكر الله - تعالى - ذلك في معرض الذمِّ ، علمنا أن القول بخروج أهل النارِ من النار [ قول ] باطل » .
قال ابن الخطيبِ : « كان من حقه أن لا يذكر مثل هذا الكلام؛ لأن مذهبه أن العَفْوَ حَسَنٌ ، جائز من الله ، وإذا كان كذلك لم يلزم من حصول العفوِ في هذه الأمةِ حصولُه في سائر الأمم سلمنا أنه لا يلزم ذلك ، لكن لِمَ قلتم : إن القومَ إنما استحقوا الذمَّ على مجرَّد الإخبارِ بأن الفاسقَ يخرج من النار؟
بل ههُنَا وُجُوهٌ أخَر :
الأول : لعلهم استوجبوا الذم على أنهم قطعوا بأن مدة عذاب الفاسقِ قصيرة ، قليلة؛ فإنه روي أنهم كانوا يقولون : إنَّ مدة عذابنا سبعةُ أيام ، ومنهم من قال : لا ، بل أربعينَ ليلةً - على قدر مُدَّة عبادة العَجْل - .
الثاني : أنهم كانوا يتساهلون في أصول الدين ، ويقولون : بتقدير وقوع الخطأ منا ، فإنَّ عذابنا قليل ، وهذا خطأ؛ لأن عندنا المخطئ في التوهيد والنبوة والمعاد كافر ، والكافر عذابه دائم .
الثالث : أنهم لما قالوا : { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } استحقروا تكذيبَ محمد - عليه السلام - ، واعتقدوا أنه لا تأثيرَ له في تغليظ العقاب ، فكان ذلك تصريحاً بتكذيبه - عليه السلام - وذلك كُفر ، والكافر المُصِرُّ على كُفره لا شكَّ أن عذابَه مُخَلَّد ، فثبت أنَّ احتجاجَ الجبائي بهذه الآية ضعيف » .
قوله : { وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِمْ } الغُرور : الخِدَاع ، يقال منه : غَرًَّهُ ، يَغُرُّهُ ، غُرُوراً ، فهو غَارٌّ ، ومغرور .
والغَرُور : - بالفتح - مثال مبالغة كالضَّرُوب .
والغِرُّ : الصغير ، والغِرِّيرَة : الصغيرة؛ لأنهما يُخ
عان ، و الغِرَّة : مأخوذة من هذا ، قال : أخذه على غِرَّة ، أي : تغفُّل وخداعِ ، والغُرَّة : بياض في الوجه ، يقال منه : وَجْهٌ أغَرُّ ، ورجل أغَرّ وامرأة غَرَّاء .
والجمع القياسي : غُرٌّ ، و غير القياسي غُرَّانُ .
قال : [ الطويل ]
1377- ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ ... وَأوْجُهُهُمْ عِنْدَ الْمَشَاهِدِ غُرَّانُ
والغرة من كل شيء أنفسه ، وفي الحديث : « وَجَعَلَ فِي الْجَنِينِ غُرَّةً ، عَبْداً أوُ أمَةً » .
قيل : الغُرًَّة : الخِيار ، وقال أبو عمرو بن العلاء - في تفسير هذا الحديث - إنه لا يكون إلا الأبيض من الرقيق ، كأنه أخَذَه من الغُرَّة ، وهو البياض في الوَجْه .
قوله : { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } « ما » يجوز أن تكون مصدريةً ، أو بمعنى « الذي » ، والعائد محذوف أي : الذي كانوا يفترونه .
قيل هو قولهم : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] .
وقيل : هو قولهم : نحن على الحق وأنت على الباطل .
قوله : « فَكَيْفَ إذا » « كَيْفَ » منصوبة بفعل مُضْمَر ، تقديره : كيف يكون حالهم ، كذا قدَّره الحوفيّ وهذا يحتمل أن يكون الكون تاماً ، فيجيء في « كيف » الوجهان المتقدمان في قوله : « كَيْفَ تَكْفُرُونَ » من التشبيه بالحال ، أو الظرف ، وأن تكون الناقصة فتكون « كيف » خبرها .
وقدّر بعضهم الفعل ، فقال : كيف يصنعون؟ [ فإن أراد « كان » التامة كانت في موضع نصب على الحال ، وإن أراد الناقصة كانت في موضع نصب على خبر « كان » ] ، فكيف على ما تقدم من الوجهين .
ويجوز أن تكون « كيف » خبراً مقدماً والمبتدأ محذوف ، تقديره : فكيف حالُهم؟
قوله : { إِذَا جَمَعْنَاهُمْ } « إذا » ظرف محض من غير تضمين شرط ، والعامل فيه العامل مُضْمَر ، وهي منصوبة انتصاب الظروفِ كان العامل في « إذَا » الاستقرار العامل في « كَيْفَ » ؛ لأنها كالظرف ، وإن قلنا : إنها اسم غير ظرف ، بل لمجرد السؤال كان العامل فيها نفس المبتدأ - الذي قدرناه - أي : كيف حالهم في وقت جمعهم؟
ويُحْذَف الحال - كثيراً - مع « كيف » ، لدلالته عليها ، تقول : كنت أكرمه - ولم يزرني - فكيف لو زارني؟ أي : كيف حاله إذا زارني؟ وهذا الحذف يوجب مزيد البلاغة ، لما فيه من تحرُّك النفي على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة ، وكل نوع من أنواع العذاب - في هذه الآية - .
قوله : « لِيَوْمٍ » متعلق ب « جَمَعْنَاهُمْ » أي : لقضاء يوم ، أو لجزاء يوم .
فإن قيل : لِمَ قال : « لِيَوْمٍ » ولم يقل : في « يَوْمٍ » .
فالجوابُ : ما ذكرناه من أنّ المرادَ : لجزاء يوم ، أو لحساب يوم ، فحذف المضاف ، ودلت اللام عليه قال الفرّاءُ : اللام لفعل مضمر ، فإذا قلتَ : جُمِعُوا ليوم الخميس ، كان المعنى : جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس ، وإذا قلت : جُمِعُوا في يوم الخميس لم تُضْمِرْ فِعْلاً .
وأيضاً فمن المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدةَ فيه إلا المجازاة .
وقال الكسائيُّ : اللام بمعنى « في » .
« لا ريب فيه » صفة للظرف .
قوله : { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } إن حَمَلْتَ « مَا كَسَبَتْ » على عمل العبد ، جُعِلَ في الكلام حذفٌ ، والتقدير : ووفيت كلُّ نفسٍ جزاءَ ما كسبت من ثواب وعقاب ، وإن حملت « مَا كَسَبَتْ » على الثواب والعقاب استغنيت عن هذا الإضمار ، ثم قال : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } فلا يُنْقَص من ثواب حسناتهم ، ولا يُزاد على عقاب سيئاتهم .
فصل
استدلوا بهذه الآية على أن صاحب الكبيرة - من أصحاب الصلاة - لا يُخَلَّد في النار؛ لأنه مستحق للعقاب - بتلك الكبيرة - ومستحق ثواب الإيمانِ ، فلا بُدَّ وأن يُوَفَّى ذلك الثوابَ؛ لقوله تعالى : { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } فإما أن يُثاب في الجنة ثم يُنقَل إلى النار ، وذلك باطل بالإجماع . وإما أن يُعاقَبَ في النار ، ثم يُنْقَل إلى دار الثواب أبَداً مُخَلَّداً ، وهو المطلوب . وقد تقدم إبطال تمسك المعتزلة بالعمومات .
فإن قيل : لِمَ لا يجوز أن يُقال : إن ثوابَ إيمانهم يُحْبَط بعقاب معصيتهم؟
فالجوابُ : أن هذا باطل لما تقدم في البقرة من أن القول بالمحابطة محال؛ وأيضاً فإنا نعلم - بالضرورة - أن ثوابَ توحيدِ [ سبعين ] سنةً أزيد من عقاب شُرْبِ جَرْعَةٍ من الخمر والمنازع فيه مُكابِر ، وبتقدير القول بصحة المحابطة يمتنع سقوط ثوابِ كل الإيمانِ بعقاب شُربِ جَرعَةٍ من الخمر .
وكان يحيى بن معاذ - رحمه الله - يقول : ثواب إيمان لحظة يُسْقِط كُفْرَ ستين سنةً ، فثواب إيمان ستين سنةً كيف يُعْقَل أن لا يُحْبِطَ عِقَابَ ذَنْبِ لَحْظَة؟

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
لمَّا بيَّن دلائلَ التوحيدِ والنبوَّةِ ، وصحة دينِ الإسلام ، وذكر صفاتِ المخالفين ، وشدةَ عنادِهم وغُرُورِهم ، ثم ذكر وعيدَهم بجمعهم يوم القيامة ، أمر رسوله - عليه السلام - بدعاءٍ وتمجيدٍ يخالف طريقةَ هؤلاءِ المعاندين .
قوله : « اللَّهُمَّ » اختلف البصريون والكوفيون في هذه اللفظةِ .
قال البصريون : الأصل : يا الله ، فحُذِفَ حَرْفُ النداءِ ، وعُوِّضَ عنه هذه الميمُ المشددة ، وهذا خاصٌّ بهذا الاسم الشريف ، فلا يجوز تعويضُ الميم من حرف النداء في غيره ، واستدلوا على أنها عِوَضٌ من « يا » بأنهم لم يجمعوا بينهما إلا في ضرورة الشعر ، كقوله : [ الرجز ]
1378- وَمَا عَلَيْكِ أنْ تَقُولِي كُلَّمَا ... سَبَّحْتِ أوْ هَلَّلْتِ يَا اللَّهُمَّ مَا
أُرْدُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّمَا ... فَإنَّنَا مِنْ خَيْرِهِ لَنْ نُعْدَمَا
وقَوْلِ الآخر : [ الرجز ]
1379- إنِّي إذَا مَا حَدَث ألَمَّا ... أقُولُ : يَا اللَّهُمَّ ، يَا اللَّهُمَّا
وقال الكوفيون : الميم المشددة بَقِيَّةُ فِعْل محذوفٍ ، تقديره : أمَّنَا بخير ، أي : اقْصِدنا به ، من قولك : أمَمْتُ زيداً ، أي : قصدته ، ومنه : { ولاا آمِّينَ البيت الحرام } [ المائدة : 2 ] أي : قاصديه ، وعلى هذا فالجمع بين « يا » والميم ليس بضرورةٍ عندهم ، وليست عوضاً منها .
وقد رَدَّ عليهمُ البصريون هذا بأنه قد سُمِعَ : اللهمَّ أمَّنا بخير ، وقال تعالى : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً } [ الأنفالِ : 32 ] فقد صرَّح بالمدعُوِّ به ، فلو كانت الميمُ بقيةَ « أمَّنَا » لفسد المعنى ، فبان بُطْلانهُ .
وهذا من الأسماء التي لزمت النداءَ ، فلا يجوز أن يقع في غيره ، وقد وقع في ضرورة الشعر كونه فاعلاً ، أنشد الفرّاء : [ مخلّع البسيط ]
1380- كَحَلْقَةٍ مِنْ أبِي دِثَارٍ ... يَسْمضعُهَا اللَّهُمَ الْكُبَارُ
استعمله - هاهنا - فاعلاً بقوله : يسمعها .
ولا يجوز تخفيفُ الميم ، وجوَّزه الفراء ، وأنشد البيت : بتخفيف الميم؛ إذ لا يمكن استقامةُ الوزن إلا بذلك .
قال بعضهم : هذا خطأ فاحشٌ ، وذلك لأن الميم بقية « أمَّنَا » - على رأي الفراء - فكيف يجوزه الفراء؟ وأجاب عن البيت بأن الرواية ليست كذلك ، بل الرواية : [ مخلّع البسيط ]
1381- . . ... يَسْمَعُهَا لاَهُهُ الْكُبَارُ
قال شهابُ الدينِ : « وهذا لا يعارِض الرواية الأخرى؛ فإنه كما صحّت هذه صحت تلك » .
ورد الزّجّاج مذهب الفراء بأنه لو كان الأصل : يا الله آمَّنا للفْظِ به مُنَبِّهاً على الأصل ، كما قالوا - في وَيلمِّهِ - : وَيْلٌ لأمِّهِ .
وردوا مذهب الفراءِ - أيضاً - بأنه يلزم منه جواز أن تقول : يا اللهم ، ولما لم يَجُزْ ذلك علمنا فساد قولِ الفراءِ ، بل نقول : كان يجب أن يكون حرف النداء لازماً ، كما يقال : يا الله اغفر لي ، وأجاب الفراء عن قول الزَّجَّاجِ بأن أصله - عندنا - أن يقال : يا الله أمَّنا - ومن يُنْكِر جوازَ التكلم بذلك-؟ وأيضاً فلأن كثيراً من الألفاظ لا يجوز فيها إقامةُ الفرع مُقامَ الأصل ، ألا ترى أنَّ مذهب الخليل وسيبويه أن « ما أكرمه » معناه : شيء أكرمه ، ثم إنه - قط - لا يُسْتَعْمَل هذا الكلام - الذي زعموا أنه هو الأصل - في معرض التعجُّب ، فكذا هنا .
وأجاب عن الرد الثاني بقوله : مَن الذي يُسَلِّم لكم أنه لا يجوز ان يقال : يا اللهمَّ ، وأنشد قول الراجز المتقدم يا اللّهمّ ، وقول البصريين : هذا الشعر غير معروف ، فحاصله تكذيب النقل ، ولو فتحنا هذا البابَ لم يَبْقَ من اللغة والنحو شيءٌ سَلِيماً من الطعن .
وقولهم : كان يلزم ذكر حرف النداء ، فقد يُحْذَف حرف النداءِ ، كقوله : { يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق } [ يوسف : 46 ] فلا يبعد أن يُخَصَّ هذا الاسم بالتزام الحذف .
واحتج الفراء على فساد قول البصريين بوجوه :
أحدها : أنا لو جعلنا الميم قائماً مقام حرف النداء ، لكنا قد أجزنا تأخير حرف النداء عن ذكر المنادى فيقال : الله يا ، وهذا لا يجوز ألبتة .
ثانيها : لو كان هذا الحرف قائماً مقام النداء لجاز مثلُه في سائر الأسماءِ ، فيقال : زيدُمَّ ، وبكرُمَّ كما يجوز يا زيد ، يا بَكر .
ثالثها : لو كانت الميم بدلاً عن حرف النداء لما اجتمعا ، لكنهما اجتمعا في الشعر الذي رويناه .
ومن أحكام هذه اللفظة أنها كثر دورها ، حتى حذفت منها الألف واللام - في قولهم : لا هُمَّ - أي : اللهم .
قال الشاعرُ : [ الراجز ]
1382- لاهُمَّ إنَّ عَامِرَ بْنَ جَهْمِ ... أحْرَمَ حَجًّا فِي ثِيَابٍ دُسْمِ
وقال آخرُ : [ الرجز ]
1383- لاهُمَّ إنَّ جُرْهُماً عِبَادُكَا ... النَّاسُ طُرْقٌ وَهُمْ بِلادُكَا
قوله : { مَالِكَ الملك } فيه أوجه :
أحدها : أنه بدل من « اللَّهُمَّ » .
الثاني : أنه عطف بيان .
الثالث : أنه منادًى ثانٍ ، حُذِف منه حرف النداء ، أي : يا مالكَ الملك ، وهذا هو البدل في الحقيقة؛ إذ البدل على نية تكرار العامل؛ إلا أن الفرق أن هذا ليس بتابعٍ .
الرابع : أنه نعت ل « اللَّهُمَّ » على الموضع ، فلذلك نُصِبَ ، وهذا ليس مذهبَ سيبويه؛ لأنه لا يُجيز نعتَ هذه اللفظة؛ لوجود الميم في آخرها؛ لأنها أخرجتها عن نظائِرها من الأسماء ، وأجاز المبرّدُ ذلك ، واختارَه الزّجّاج ، قالا : لأن الميم بدل من « يا » والمنادى مع « يا » لا يمتنع وصفه ، فكذا مع ما هو عوضٌ منها ، وأيضاً فإن الاسمَ لم يتغير عن حكمه؛ ألا ترى إلى بقائه مبنيًّا على الضم كما كان مبنيًّا مع « يا » .
وانتصر الفارسيّ لسيبويه ، بأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد « اللَّهُمَّ » ، فإذا خالف ما عليه الأسماء الموصوفة ، ودخل في حيِّز ما لا يوصَف من الأصوات ، وجب أن لا يُوصف . والأسماء المناداة ، المفردة ، المعرفة ، القياس أن لا تُوصَف - كما ذهب إليه بعضُ الناسِ؛ لأنها واقعة موقع ما لا يوصف وكما أنه لما وقع موقع ما لا ذهب إليه بعضُ الناسِ؛ لأنها واقعة موضع ما لا يوصف وكما أنه لما موقع ما لا يعرب لم يعرب ، كذلك لما وقع موقع ما لا يوصف لم يوصف ، فأما قوله : [ الرجز ]
1384- يا حَكَمث الْوَارِثُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكْ ... [ وقوله ] : [ الرجز ]
1385- يَا حَكَمُ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودْ ... سُرَادِقُ الْمَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ
وقوله : [ الوافر ]
1386- فَمَا كَعْبُ بْنُ مَامَةَ وَابْنُ سُعْدَى ... بِأجْوَدَ مِنْكَ يَا عُمَرَ الجَوادَا
فإن الأول على أنت .
والثاني على نداء ثانٍ
والثالث : على إضمار أعني .
فلما كان هذا الاسم الأصل فيه أن لا يوصَف؛ لما ذكرنا ، كان « اللهم » أولى أن لا يوصَف ، لأنه قبل ضَمِّ الميم إليه واقعٌ موقع ما لا يوصف ، فلما ضُمَّت إليه الميم صِيغ معها صياغةً مخصوصةً فصال حكمه حكم الأصواب ، وحكم الأصوات أن لا توصف نحو غاقٍ ، وهذا - مع ما ضُمَّ إليه من الميم - بمنزلة صوت مضمومٍ إلى صوتٍ نحو حَيَّهَلْ ، فحقه أن لا يوصَف ، كما لا يوصَف حيَّهَلْ .
قال شهابُ الدينِ : « هذا ما انتصر به أبو علي لسيبويه ، وإن كان لا ينتهض مانعاً » .
قوله : تُؤتِي « هذه الجملة ، وما عُطِفَ عليها يجوز أن تكون مستأنفةً ، مبينة لقوله : { مَالِكَ الملك } ويجوز أن تكون حالاً من المنادى .
وي انتصاب الحال من المنادى خلاف ، الصحيح جوازه؛ لأنه مفعول به ، والحال - كما يكون لبيان هيئة الفاعل - يكون لبيان هيئةِ المفعول ، ولذلك أعرَبَ الْحُذَّاقُ قولَ النابغة : [ البسيط ]
138- يَا دَار مَيَّة بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ... أقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الأبدِ
» بالعلياء « حالاً من » دار مية « ، وكذلك » أقوت « .
والثالث من وجوه » تُؤتِي « : أن تكون خبرَ مُبتدأ مضمر ، أي : أنت تؤتي ، لتكون الجملة اسمية وحينئذ يجوز أن تكون مستأنفةً ، وأن تكون حالية .
قوله : » تشاء « أي : تشاء إيتاءَه ، وتشاء انتزاعه ، فحذف المفعول بعد المشيئة؛ للعلم به ، والنزع : الجذب ، يقال : نَزَعَه ، ينزعه ، نزعاً - إذا جذَبَهُ - ويُعَبَّر به عن المَيْل ، ومنه : نزعت نفسه إلى كذا كأن جاذباً جذبها ، ويعبر به عن الإزالة ، يقال نزع الله عنك الشر - أي : أزاله - ومنه قوله تعالى : { يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا } [ الأعراف : 27 ] ومثله هذه الآية ، فإن المعنى وتُزيل الملك .
فصل في بيان سبب النزول
في سبب النزول وجوهٍ :
أحدها : قال ابن عباس وأنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة - وعد أمته ملك فارس والروم ، فقال المنافقون واليهود : هيهاتَ ، هيهاتَ ، من أين لمحمد ملك فارس والروم - وهم أعزُّ وأمْنَعُ من ذلك-! ألم يكفِ محمداً مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم؟ فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .
وثانيها : روي أنه - عليه السلام - لما خَطَّ الخندق عام الأحزاب ، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً وأخذوا يحفرون ، خرج من وسط الخندق صخرة كالتل العظيم ، لم تعمل فيها المَعَاوِلُ .
فوجهوا سَلْمَان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ المعول من سلمان ، فلما ضربها صدعها وبرق منها بَرْقٌ أضاء ما بين لابتَيْها ، كأنه مصباح في جوف ليل مظلم ، فكبر ، وكبر المسلمون ، وقال عليه السلام : « أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلابِ ، ثم ضرب الثانية فقال : أضاءت لي منها قصور صنعاء ، ثم ضرب الثالثة فقال : أخبرني جبريل - عليه السلام - أن أمتي ظاهرة على كلها ، فأبشروا » ، فقال المنافقون : ألا تعجبوا من نبيكم ، يَعِدُكم الباطل ، يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ، ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم ، وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا ، فنزلت هذه الآية .
وثالثها : قال الحسنُ : إن الله - تعالى - أمر نبيه أن يَسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ، ويردَّ ذل العرب عليهما ، وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاءَ ، وهكذا منازل الأنبياء - إذا أمِرُوا بدعاء استُجِيب دعاؤهم .
وقيل : نزلت دامغةً لنصارى نجرانَ ، في قولهم : إن عيسى هو الله ، وذلك أن هذه الأوصافَ تبين - لكل صحيح الفطرة - أن عيسى ليس فيه شيءٌ منها .
قال ابن إسحاق : أعلم الله - تعالى - في هذه الآية - بعنادهم وكُفْرهم ، وأن عيسى - عليه السلام - وإن كان الله - تعالى - أعطاه آياتٍ تدل على نبوته ، من إحياءِ الموتى - وغير ذلك - فإن الله - عز وجل - هو المنفردُ بهذه الأشياءِ - من قوله : { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ } إلى قوله : { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
فصل
قوله : { مَالِكَ الملك } أي : مالك العباد وما ملكوا .
وقيل : مالك السموات والأرض قال الله تعالى - في بعض كتبه- : « أَنَا اللهُ ، مالك الملك وملك الملوك ، قُلُوبُ المُلُوكِ ونواصِيهم بِيَدِي ، فإِن العِبَادُ أطاعوني جَعَلْتُهُم عَلَيهم رحمةً ، وإن عصوني جعلتُهُم عليهم عقوبةً ، فلا تشغلوا أنفسَكم بسَبِّ الملوكِ ، ولكن توبوا إليَّ فأُعَطِّفَهُم عَلَيكُم » .
فصل
قال الزمخشريُّ : « مالك الملك ، أي : يملك جنس الملك ، فيتصرف فيه تصرُّفَ المُلاَّك فيما يملكون » .
قال مجاهدٌ وسعيدٌ بنُ جُبَيْر والسُّدِّي : « تُؤتِي الْمُلْكَ » يعني النبوَّة والرسالة ، كما قال تعالى : { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } [ النساء : 54 ] ، فالنبوة أعظم مراتب الملك؛ لأن العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلقِ ، والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق والأنبياء أمرهم نافذ ظاهراً وباطناً ، أما باطناً؛ فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتَهم ، وأن يعتقدَ أنه هو الحقُّ ، وأما ظاهراً؛ فلأنهم لو خالفوهم لاستوجبوا القتلَ .
فإن قيل : قوله : { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } يدل على أنه قد يَعْزِل عن النبوة مَنْ جعله نَبِيًّا ، وذلك لا يجوزُ .
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أن الله تعالى - إذا جعل النبوة في نسل رجلٍ ، فإذا أخرجها الله تعالى من نسله ، وشرَّف بها إنساناً آخرَ - من غير ذلك النسل - صح أن يقال : إنه - تعالى - نَزَعَهَا منهم ، واليهود كانوا معتقدين أن النبوةَ لا تكون إلا في بني إسرائيل ، فلما شرَّف الله بها محمَّداً صلى الله عليه وسلم صَحّ أن يُقَالَ : إنه نزع مُلْكَ النبوةِ من بني إسرائيلَ إلى العرب .
الثاني : أن يكون المراد من قوله : { وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } ، أي : تحرمهم ، ولا تعطيهم هذا الملك ، لا على معنى أنه يسلب ذلك بعد إعطائه ، ونظيره قوله تعالى : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } [ البقرة : 257 ] مع أن هذا الكلام يتناول مَن لم يكن في ظلمة الكفرِ قطّ .
وحكي عن الكفار قولهم - للأنبياء عليهم السلام - : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } [ الأعراف : 88 ] وقول الأنبياء : { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا } [ الأعراف : 89 ] مع أنهم لم يكونوا فيها - قط- .
وعلى هذا القول تكون الآية رَدًّا على أربع فِرَقٍ :
إحداها : الذين استبعدوا أن يجعل الله بَشَراً رسولاً .
الثانية : الذين جوَّزوا أن يكون الرسول من البشر ، إلا أنهم قالوا : إن محمداً فقير { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .
الثالثة : اليهود الذين قالوا : إن النبوة في أسلافِنَا ، وإن قريشاً ليست أهلاً للكتاب والنبوة .
الرابعة : المنافقون ، فإنهم ك انوا يحسدونه على النبوة - على ما حكى عنهم في قوله : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 54 ] .
وقيل : المراد ما يُسَمَّى مُلْكاً في العُرْف ، وهو عبارة عن أشياء :
أحدها : كثرة المال والجاه .
الثاني : أن يكون بحيث يجب على غيره طاعتُه ، ويكون تحت أمرِه ونهيِه .
الثالث : أن يكونَ بحيث لو نازعه في مُلْكه أحدٌ قَدَرَ على قهر ذلك المنازع .
أما كثرةُ المالِ فقد نرى الرجل اللبيب لا يحصل له - مع العناء العظيم ، والمعرفة الكثيرة - إلا قليل من المال ، ونرى الأبْلَهَ الغافلَ قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميتها .
وأما الجاه ، فالأمر فيه أظهر ، أما القسم الثاني - وهو وجوب طاعة الغير له - فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله .
وأما القسم الثالث - وهو حصول النصرة والظفر - فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى؛ فكم شاهدنا من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله تعالى .
فصل
قال الكعبيُّ : قوله : { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ } ، أي : بالاستحقاق ، فتؤتيه من يقوم به ، وتنزعه من الفاسقِ؛ لقوله تعالى :
{ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] وقوله - في العبد الصالح - : { إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم } [ البقرة : 247 ] فجعله سبباً للملك .
وقال الجبائيُّ : هذا الملك مختص بملوك العَدْل ، فأما ملوك الظلم ، فلا يجوز أن يكون ملكُهم بإيتاء الله - تعالى - وكيف يصح أن يكون بايتاء الله - تعالى - وقد ألزمهم أن لا يمتلكوه ، ومنعهم من ذلك ، فقد صح - بما ذكرناه - أن الملوك العادلين هم المخصوصون بأن الله - تعالى - آتاهم ذلك الملكَ : وأما الظالمون فلا ، قالوا : ونظيرُ هذا ما قلنا في الرزق أنه لا يكون من الحرام الذي زَجَرَ الله - تعالى - عنه ، وأمره بأن يرده على مالكه ، فكذا ههنا .
قالوا : وأما النزعُ ، فإنه بخلاف ذلك؛ لأنه - كما ينزع الملكَ من الملوك العادلين؛ لمصلحة تقتضي ذلك - قد ينزع الملكَ عن الملوك الظالمين ، ونزع الملك يكون بوجوه :
منها : بالموت ، وإزالة العقل ، وإزالة القوى ، والقدرة ، والحواسّ .
ومنها : بورود الهلاكِ ، والتلف على الأموال .
ومنها : أن يأمر الله - تعالى - المُحِقَّ بأن يسلبَ الملكَ الذي في يد المتغلب المُبْطِل ، ويؤتيه القُوة ، والنُّصرة عليه ، فيقهره ، ويسلب ملكه ، فيجوز أن يُضاف هذا السلب ، و النزع إلى الله - تعالى - لأنه واقع عن أمره ، كما نزع الله - تعالى - مُلْكَ فارسِ ، على يد الرسول - عليه السلام .
فالجوابُ : أن تقول : حصولُ المُلْكِ للظالِم إما أن يكون حصل لا عَنْ فاعل ، وذلك يقتضي نفي الصانع ، وإما أن يكون حصل بفعل المتغلِّب ، وذلك باطل؛ لأن كل أحد يريد تحصيل الملك والدولة لنفسه ، ولا يتيسر له ألبتة ، فلم يبق إلا أن يقال : بأن ملك الظالمين إنما حصل بإيتاء الله تعالى - وهذا أمرٌ ظاهر؛ فإن الرجلَ قد يكون مُهَاباً ، والقلوب تميل إليه ، والنصر قريب له ، والظفر جليس معه ، وأينما توجه حصل مقصوده ، وقد يكون على الضد من ذلك ، ومن تأمل في كيفية أحوالِ الملوكِ اضطر إلى العلم بأن ذلك ليس إلا بتقدير الله .
ولذلك قال بعض الشعراءِ : [ الكامل ]
1388- لَوْ كَانَ بِالْحِيَلِ الْغِنَى لَوَجَدتنِي ... بِأجَلِّ أسْبَابِ السَّمَاءِ تَعَلُّقِي
لَكِنَّ مَنْ رُزِقَ الْحِجَا حُرِمَ الغِنَى ... ضِدَّانِ مُفْتَرقَانِ أيَّ تَفَرُّقِ
وَمِنَ الدَّلِيل عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ ... بُؤسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الأحْمَقِ
وقيل : قوله تعالى : { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ } محمول على جميع أنواع الملكِ ، فيدخل فيه ملك النبوةِ ، وملكُ العلمِ ، وملكُ العقلِ والأخلاقِ الحسنةِ ، وملكُ البقاءِ والقدرةِ ، وملك محبة القلوبِ ، وملك الأموال؛ لأن اللفظ عام ، فلا يجوز التخصيص من غير دليل .
وقال الكلبيُّ : { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ } العرب ، { وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } أبا جهل وصناديد قريش .
وقيل : { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ } آدم وولده ، { وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } من إبليس وجنده .
قوله : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } .
قال عطاء : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } المهاجرين والأنصار ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } فارس والروم .
وقيل : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } محمداً وأصحابه ، حين دخلوا مكة في عشرة آلاف ظاهرين عليها ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } أبا جهل وأصحابه ، حين حُزَّت رؤوسُهم ، وألْقُوا في القليب .
وقيل : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } بالإيمان والهداية ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } بالكفر والضلالة .
وقيل : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } بالطاعة ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } بالمعصيةِ .
وقيل : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } بالنصر ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } بالقهرِ .
{ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } بالغنى ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } بالفقرِ .
{ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } بالقناعة والرِّضا ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } بالحرص والطمع .
قوله : { بِيَدِكَ الخير } في الكلام حذف معطوف ، تقديرُهُ : والشَّرُّ ، كقَوْلِهِ تَعَالى { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] ، أي : وَالبَرْدَ .
وكَقَوْلِهِ : [ الطويل ]
1389- كأنَّ الْحَصَى مِنْ خَلْفِهَا وَأمامِهَا ... إذَا أنْجَلَتْهُ رِجْلُهَا خَذْفُ أعْسَرَا
أي ويدها .
قال الزمَخْشَريُّ : « فَإن قُلْتَ : كَيْفَ قَالَ : » بِيَدِكَ الْخَيْرُ « دُونَ الشَّرِّ؟
قلت : لأنَّ الكَلامَ إنَّما وَقَعَ في الْخَيْرِ الَّذِي يَسُوْقُهُ اللهُ إلى الْمُؤمِنين ، - وَهُوَ الَّذِي أنْكَرتهُ الْكَفَرةُ .
فقال : { بِيَدِكَ الخير } تؤتِيْه أوْلِياءَكَ عَلى رَغْم مِنْ أعْدائِكَ » .
وقيل : خَصَّ الخيرَ؛ لأنَّه فِي مَوْضِعِ دُعَاءٍ ، وَرَغْبَةٍ فِي فَضْلِهِ .
وقيل : هَذَا مِنْ آدابِ الْقُرآنِ؛ حَيْثُ لَمْ يُصَرِّح إلاَّ بِمَا هُوَ مَحْبُوبٌ لِخَلْقِه ، وَمِثْلُه : « والشر ليس إليك » ، وَقَوْلُهُ تَعَالى : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 80 ] .
فصل
الألف وَاللامُ فِي « الْخَيْرِ » يُوجِبَانِ العُمُوم ، وَالْمَعْنَى : [ أنَّ الْخَيْرَاتِ تَحْصُلُ ] بقدرتك ، فَقولُهُ : « بِيَدِكَ » لاَ بِيَدِ غَيْركَ ، كَقَوْلِهِ : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ الكافرون : 6 ] ، أي : لَكُم دِيْنُكُمْ لا لغيركم ، وذَلِكَ الحَصْرُ منَافٍ لِحُصُولِ الْخَيْرِ بِيَدِ غَيْرِه فثبت دلالةُ الآيةِ عَلَى أنَّ الْجَمِيع مِنهُ بِخَلْقِه وتكوينه ، وَإيْجَادِهِ وَفَضْلِهِ ، وَأفضلُ الخيرات هو الإيمان بالله ، فوجب أن يكون الخير من تخليق الله لا مِنْ تَخْلِيق الْعَبْدِ ، وَهَذا استدلالٌ ظَاهرٌ .
وزاد بَعْضُهُم فَقَالَ : كُلُّ فَاعِلَيْنِ فِعْلُ أحدِهمَا أفْضَلُ مِنْ فِعْلِ الآخَرِ ، كَانَ ذَلِكَ الفَاعِلُ أشْرَفَ وَأكْملَ من الآخرِ ، وَلاَ شَكَّ أنَّ الإيمانَ أفْضَلُ مِنْ الْخَيْرِ ، ومِنْ كُلِّ مَا سِوى الإيْمانِ ، فَلَوْ كَانَ الإيمانُ بِخَلْقِ العبد - لا بِخَلْقِ اللهِ تعالى - لوجَبَ كَوْنُ العبْدِ زَائِداً في الخَيْرِية على اللهِ - تَعَالى - وَذَلِكَ كفر قبيح ، فدلت الآية - من هذين الوجهين - على أنَّ الإيْمَانَ بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى .
فإن قيل : هَذِه الآيةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ مِنْ وَجهٍ آخر؛ لأنه لما قال : { بِيَدِكَ الخير } كان معناه : ليس بيدك إلا الخير ، وهذا يقتضي أن لا يكونَ الكفرُ والمعصيةُ بيده .
فالجوابُ : أن قوله : { بِيَدِكَ الخير } يُفيد أن بيدك الخير - لا بيد غيرك - فهذا ينافي أن يكون الخير بيد غيره ، لكن لا ينافي أن يكون بيده الخير ، وبيده ما سوى الخيرِ ، إلا أنه خَصّ الخير بالذكر؛ لأنه الأمر المنتفَع به ، فوقع التنصيص عليه لهذا المعنى .
قال القاضي : « كل خير حصل من جهة العباد فلولا أنه - تعالى - أقدرهم عليه ، وهداهم إليه ، لما تمكنوا منه ، فلهذا السبب كان مضافاً إلى الله تعالى » .
قال ابن الخطيبِ : « وهذا ضعيفٌ؛ لأن بعضَ الخير يصير مضافاً إلى الله - تعالى - ويصير أشرف الخيرات مضافاً إلى العبد ، وهذا خلافُ النص » .
وقوله : { إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } كالتأكيد لما تقدم من كونه مالكاً لإيتاء الملك ونَزْعه ، والإعزار ، و الإذلال .
قوله : { تُولِجُ الليل فِي النهار } يقال : وَلَجَ ، يَلِجُ ، وُلُوجاً ، وَلِجَةً - كعِدَة - ووَلْجاً - ك « وَعْدًا » ، واتَّلَجَ ، يتَّلِجُ ، اتِّلاجاً ، والأصل : اوْتَلج ، يَوْتَلِجُ ، اوتِلاَجاً ، فقُلبت الواوُ تاءً قبل تاء الافتعال ، نحو : اتَّعَدَ يتَّعِد اتِّعاداً .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1390- فَإنَّ القَوَافِي يَتَّلِجْنَ مَوَالِجاً ... تَضَايَقَ عَنْهَا أنْ تَوَلَّجَهَا الإبَرْ
الولوج : الدخول ، والإيلاج : الإدخالُ - ومعنى الآية على ذلك .
وقول من قال : معناه النقص فإنما أراد اللازم؛ لأنه - تبارك وتعالى - إذا أدخل من هذا في هذا فقد نقص المأخوذ منه المُدْخَل في ذلك الآخر . وزعم بعضهم أن تولج بمعنى ترفع ، وأن « في » بمعنى « على » وليس بشيءٍ .
وقيل : المعنى : أنه - تعالى - يأتي بالليل عقيب النهار - ، فيُلْبس الدنيا ظُلْمَتَه - بعد أن كان فيها ضوءُ النهارِ - ثم يأتي بالنهار عقيب الليل ، فيُلْبس الدنيا ضَوْءَه ، فكأن المراد من إيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر .
قال ابن الخطيب : « والقول بأن معناه النقص أقرب إلى اللفظ؛ لأنه إذا كان النهار طويلاً ، فجعل ما نقص منه زيادةٍ في الليل ، كان ما نقص منه زيادة في الآخر » .
قوله : { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } اختلف القراء في لفظة « الْمَيِّتِ » فقرأ ابنُ كثير وأبو عَمْرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم لفظ « الْمَيْتِ » من غير تاء تأنيث - مُخَفَّفاً ، في جميع القرآن ، سواء وصف به الحيوان نحو : { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } [ آل عمران : 27 ] أو الجماد نحو : { فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ } [ فاطر : 9 ] - مُنَكَّراً أو معرفاً كما تقدم ذكره - إلا قوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] ، وقوله : { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [ إبراهيم : 17 ] - في إبراهيم - مما لم يمت بعد ، فإن الكل ثقلوه ، وكذلك لفظ « الميتة » في قوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة } [ يس : 33 ] دون الميتة المذكورة مع الدم - فإن تلك لم يشدِّدْها إلا بعضُ قُرَّاء الشواذ - وكذلك قوله : { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً }
[ الأنعام : 139 ] ، وقوله : { فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } [ الزخرف : 11 ] ، وقوله : { إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَة } [ الأنعام : 145 ] فإنها مخَفَّفاتٌ عند الجميع ، وثَقّل نافعٌ جميعَ ذلك ، والأخوان وحفص - عن نافع - وافقوا ابن كثير ومن معه في الأنعام في قوله : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاه } [ الأنعام : 122 ] ، وفي الحجرات : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتا } [ الحجرات : 12 ] ، وفي يس : { الأرض الميتة } [ يس : 33 ] ، ووافقوا نافعاً فيما عدا ذلك ، فجمعوا بين اللغتين؛ إيذاناً بأن كلاًّ من القراءتين صحيح ، وهما بمعنًى؛ لأن « فَيْعِل » يجوز تخفيفه في المعتل بحَذْف إحْدى ياءَيْه ، فيقال : هَيْن وهيِّن ، لَيْن وليِّن ، ميْت وميِّت ، وقد جمع الشاعر بين اللغتين في قوله : [ الخفيف ]
1391- لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ ... إنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ
إنَّمَا الْمَيْتُ مَنْ يَعِيشُ كَئِيباً ... كَاسِفاً بِالُهُ قَليلَ الرَّجَاءِ
وزعم بعضهم أن « ميتاً » بالتخفيف - لمن وقع به الموت ، وأن المشدّد يُستعمَل فيمن مات ومن لم يَمُتْ ، كقولهً - تعالى - : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] .
وقسم لا خلاف في تخفيفه - وهو ما تقدم في قوله : { الميتة والدم } { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } [ الأنعام : 139 ] { إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَة } ، وقوله : { فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } [ الزخرف : 11 ] .
وقسم فيه الخلاف - وهو ما عدا ذلك - وتقدم تفصيله وقد تقدم أيضاً أن أصل « ميِّت » مَيْوِت ، فأدغم ، وفي وزنه خلاف ، هل وزنه « فَيْعِل » - وهو مذهب البصريين - أو « فَعْيِل » - وهو مذهب الكوفيين - وأصله مَوْيِتٌ ، قالوا : لأن فَيْعِلاً مفقود في الصحيح؛ فالمعتل أولى أن لا يوجد فيه ، وأجاب البصريون عن قولهم : لا نظير له في الصحيح بأن قُضَاة - في جميع قاضٍ - لا نظير له في الصحيح ، ويدل على عَدم التلازم « قُضاة » جمع قاضٍ وفي « قضاة » خلاف طويل ليس هذا موضعه .
واعترض عليهم البصريون بأنه لو كان وزنه « فَعْيِلاً » لوجب أن يصح ، كما صحت نظائره من ذوات الواو نحو : طويل ، وعويل ، وقويم ، فحيث اعتل بالقلب والإدغام امتنع أن يُدَّعى أن أصله « فَعْيِل » لمخالفة نظائره ، وهو ردٌّ حسنٌ .
فصل
قال ابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة : يُخْرِجُ الحيوانَ من النطفة - وهي ميتة - والطير من البيضة ، وبالعكس .
وقال الحسنُ وعطاء : يُخْرِج المؤمن من الكافر - كإبراهيم من آزر - والكافر من المؤمن - مثل كنعان من نوح .
وقال الزَّجَّاج : يُخْرِج النبات الغضَّ الطريَّ من الحب اليابس ، ويخرج الحب اليابس من النبات ، قال القفّال : « والكلمة محتملة للكل .
أما الحيوان والنطفة فقال تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] .
والكافر والمؤمن فقال تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [ الأنعام : 122 ] ، أي : كافراً فهديناه » .
قال القرطبيُّ : روى معمر عن الزهريِّ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على نسائه ، فإذا بامرأة حسنة النعمة ، قال : مَنْ هذه؟ قلن : إحدى خالاتك ، قال : ومَنْ هِي؟ قلن : خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« سبحان الذي يخرج الحي من الميت » .
وكانت امرأة صالحة ، وكان أبوها كافراً .
وأما النبات والحب فقال تعالى : { فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } [ فاطر : 9 ] .
قوله : { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يجوز أن تكون الباء للحال من الفاعل ، أي : ترزقه وأنت لم تحاسبه ، أي : لم تُضَيِّقْ عليه ، أو من المفعول ، أي : غير مُضَيِّقٍ عليه وقد تقدم الكلام على مثل هذا مشبعاً في قوله تعالى في البقرة : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
واشتملت هذه الآيةُ على أنواع من البديع :
منها : التجنيس المماثل في قوله تعالى : { مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك } .
ومنها : الطباق ، وهو الجمع بين متضادين أو شبههما - في قوله : « تُؤتي » و تَنْزعُ « وتعزُّ وتُذِلُّ وفي قوله : { بِيَدِكَ الخير } أي : والشَّرُّ - عند بعضهم - ، وفي قوله : » اللَّيْل « و » النَّهَار « و » الحيّ « و » الميّت « .
ومنها رَدُّ الأعجازِ على الصدورِ ، والصدورِ على الأعجاز في قوله : { تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل } ، وفي قوله : { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } ونحوه عادات الشاذات شاذات العاداتِ .
وتضمنت من المعاني التوكيد بإيقاع الظاهر موقع المُضْمَر في قوله : { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ } وفي تجوُّزه بإيقاع الحرف مكان ما هو بمعناه ، والحذف لفهم المعنى .
فصل
قال أبو العبَّاس المقرئ : ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجهٍ :
الأول : بمعنى التعبِ ، قال تعالى : { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
الثاني : بمعنى العدد ، كقوله : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] أي : بغير عَددٍ .
الثالث : بمعنى المطالبة ، قال تعالى : { فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 39 ] [ أي : بغير مطالبة .
فصل
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إنَّ فاتحةَ الكتابِ ، وآية الكرسي ، وآيتين من آل عمرانَ - وهما { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } [ آل عمران : 18-19 ] ، { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } مُعلَّقاتٌ ، ما بينهُنَّ وبَيْنَ اللهِ حجابٌ ، قُلْنَ : يا ربِّ ، تُهْبِطُنا إلى أرْضك ، وإلى مَنْ يَعْصِيك؟ قال الله - عز وجل- : إنِّي حَلَفْتُ لا يقرؤكُنَّ أحدٌ من عبادي دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ إلا جَعَلْتُ الجنةَ مثواهُ - على ما كان منه - ولأسْكَنْتُه حَظيرةَ القدس ، ولنظرتُ إليه بعين مكنونة كلَّ يَوْم سَبْعِينَ مرةً ، ولقضيتُ له كلَّ يومٍ سبعين حاجةً أدناها المغفرة - ولأعذته من كلِّ عدوٍّ وحاسدٍ ، ونصرتُه منهم « .

لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
العامة على قراءة « لا يَتَّخِذْ » نَهْياً ، وقرأ الضَّبِّيُّ « لا يَتَّخِذُ » برفع الذال - نفياً - بمعنى لا ينبغي ، أو هو خبر بمعنى النهي نحو { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ } [ البقرة : 233 ] و { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ } [ البقرة : 282 ] - فيمن رفع الراء .
قال أبو البقاء وغيره : « وأجاز الكسائيُّ فيه [ رفع الراء ] على الخبر ، والمعنى : لا ينبغي » .
وهذا موافق لما قاله الفرَّاء ، فإنه قال : « ولو رَفَع على الخبر - كقراءة مَنْ قرأ : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ } جاز » .
قال أبو إسحاق : ويكون المعنى - على الرفع - أنه مَنْ كان مؤمناً ، فلا ينبغي أن يتخذ الكافرَ ولياً؛ [ لأن ولي الكافر راضٍ بكُفْره ، فهو كافر ] .
كأنهما لم يَطَّلِعَا على قراءة الضبي ، أو لم تثبت عندهما .
و « يتخذ » يجوز أن يكون متعدياً لواحد ، فيكون « أوْلِيَاءَ » حالاً ، وأن يكون متعدياً لاثنين ، وأولياء هو الثاني .
قوله : { مِن دُونِ المؤمنين } فيه وجهان :
أظهرهما : أن « مِن » لابتداء الغايةِ ، وهي متعلقة بفعل الاتخاذ .
قال علي بن عيسى : « أي : لا تجعلوا ابتداءَ الولايةِ من مكانٍ دون مكان المؤمنين » .
وقد تقدم تحقيقُ هذا ، عند قوله تعالى : { وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله } في البقرة [ الآية 23 ] .
والثاني - أجاز أبو البقاء - أن يكون في موضع نصب ، صفة لِ « أوْلِيَاءَ » فعلى هذا يتعلق بمحذوف .
قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } أدغم الكسائيُّ اللام في الذال هنا ، وفي مواضع أخَر تقدم التنبيه عليها في البقرة .
قوله : { مِنَ الله } الظاهر أنه في محل نصب على الحال من « شَيءٍ » ؛ لأنه لو تأخر لكان صفةً له .
« فِي شَيءٍ » هو خبر « لَيْسَ » ؛ لأن به تستقل فائدةُ الإسنادِ ، والتقدير : فليس في شيء كائن من الله ، ولا بد من حذف مضافٍ ، أي : فليس من ولاية الله .
وقيل : من دين الله ، ونظَّر بعضُهم الآيةَ الكريمةَ ببيت النابغةِ : [ الوافر ]
1392- إذَا حَاوَلْتَ مِنْ أسَدٍ فُجُوراً ... فَإنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِني
قال ابو حيّان : « والتنظير ليس بجيِّدٍ؛ لأن » منك « و » مني « خبر » لَيْسَ « وتستقل به الفائدةُ ، وفي الآية الخبر قوله : » فِي شَيءٍ « فليس البيتُ كالآيةِ » .
وقد نحا ابن عطية هذا المنحى المذكورَ عن بعضهم ، فقال : فليس من الله في شيء مَرْضِيِّ على الكمالِ والصوابِ ، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم « مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا » وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ ، تقديره : فليس من التقرب إلى الله و الثواب ، وقوله : « فِي شَيءٍ » هو في موضع نصبٍ على الحالِ من الضمير الذي في قوله : { فَلَيْسَ مِنَ الله } .
قال أبو حيّان : « وهو كلام مضطرب؛ لأن تقديره : » فليس من التقرُّب إلى الله « يقتضي أن لا يكون » مِنَ اللهِ « خبراً لِ » لَيْسَ « ؛ إذْ لا يستقل ، وقوله : » فِي شَيءٍ « هو في موضع نصبٍ على الحال يقتضي أن لا يكون خبراً ، فيبقى » ليس « - على قوله - ليس لها خبر ، وذلك لا يجوز ، وتشبيهه الآية الكريمة بقوله صلى الله عليه وسلم : » من غشنا فليس منا « ليس بجيِّد؛ لما بينَّا من الفرق بين بيت النابغة ، وبين الآية الكريمةِ » .
قال شهاب الدين : « وقد يجاب عن قوله : إن » مِنَ اللهِ « لا يكون خبراً؛ لعدم الاستقلال بأن في الكلام حذفَ مضافٍ ، تقديره : فليس من أولياء اللهِ » لا يكون خبراً؛ لعدم الاستقلال بأن في الكلام حذفَ مضافٍ ، تقديره : فليس من أولياء اللهِ؛ لأن اتخاذَ الكفار أولياء ينافي ولاية الله - تعالى - ، وكذا قول ابن عطية : فليس من التقرُّب ، أي : من أهل التقرب ، وحينئذٍ يكون التنظير بين الآية ، والحديث ، وبيت النابغة مستقيماً بالنسبة إلى ما ذكر ، ونظير تقديرِ المضافِ هنا - قوله : { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } [ إبراهيم : 36 ] ، أي : من أشياعي وأتباعي ، وكذا قوله : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني } [ البقرة : 249 ] أي : من أشياعي وقول العرب : أنت مني فرسخين ، أي : من أشياعي ما سرنا فرسخين ، ويجوز أن يكون « مِنَ اللهِ » هو خبر « ليس » و « فِي شيءٍ » يكون حالاً منالضمير في « لَيْسَ » - كما ذهب إليه ابن عطية تصريحاً ، وغيره إيماءً ، وتقدم الاعتراض عليهما والجواب « .
قوله : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ } هذا استثناء مُفَرَّغ من المفعول من أجله ، والعامل فيه » لا يَتَّخِذْ « أي : لا يتخذ المؤمنُ الكافرَ وليًّا لشيء من الأشياء إلا للتقيةِ ظاهراً ، أي : يكون مواليه في الظاهر ، ومعاديه في الباطن ، وعلى هذا فقوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } وجوابه معترضٌ بين العلةِ ومعلولِها وفي قوله : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ } التفات من غيبةٍ إلى خطابٍ ، ولو جرى على سنن الكلامِ الأول لجاء الكلام غيبة ، وذكروا للالتفات - هنا - معنى حسناً ، وذلك أن موالاةَ الكفارِ لما كانت مستقبحةً لم يواجه الله - تعالى - عباده بخطاب النهي ، بل جاء به في كلام أسْندَ الفعل المنهي عنه لغيب ، ولما كانت المجاملة - في الظاهر - والمحاسنة جائزة لعذرٍ - وهو اتقاء شرهم - حَسُنَ الإقبال إليهم ، وخطابهم برفع الحرج عنهم في ذلك .
قوله : { تُقَاةً } في نصبها ثلاثة أوجهٍ ، وذلك مَبْنِيٌّ على تفسير » تُقَاةً « ما هي؟
أحدها : أنها منصوبةٌ على المصدرِ ، والتقدير : تتقوا منهم اتِّقَاءً ، ف » تُقَاة « واقعة موقع الاتقاء ، والعرب تأتي بالمصادر نائبة عن بعضها ، والأصل : أن تتقوا اتقاءً - نحو تقتدر اقتداراً - ولكنهم أتوا بالمصدر على حذف الزوائدِ ، كقوله :
{ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] والأصل إنباتاً .
ومثله قول الشاعر : [ الوافر ]
1393- . . ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمَائَةَ الرِّتَاعَا
أي : اعطائك ، ومن ذلك - أيضاً - قوله : [ الوافر ]
1394- . . ... وَلَيْس بِأنْ تَتَبَّعَُ اتِّبَاعَا
وقول الآخر : [ الوافر ]
1395- وَلاَحَ بِجَانِبِ الْجَبَلَيْنِ مِنْهُ ... رُكَامٌ يَحْفِرُ الأرْضَ احْتِفَارَا
وهذا عكس الآية؛ إذ جاء المصدرُ مُزَاداً فيه ، والفعل الناصب له مُجَرَّد من تلك الزوائدِ ، ومن مجيء المصدر على غير المصدر قوله تعالى : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ] .
وقول الآخر : [ الرجز أو السريع ]
1396- وَقَدْ تَطَوَّيْتُ انْطِوَاءَ الْحِضْبِ ... والأصل : تَطَوِّيَّا ، والأصل في « تُقَاةً » وقية مصدر على فُعَل من الوقاية . وقد تقدم تفسير هذه المادة ، ثم أبدلت الواوُ تاءً مثل تخمة وتكأة وتجاه ، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها ، فقُلِبَتْ ألفاً ، فصار اللفظ « تقاة » كما ترى بوزن « فعلة » ومجيء المصدر على « فُعَل » و « فُعَلَة » قليل ، نحو : التخمة ، والتؤدة ، والتهمة والتكأة ، وانضم إلى ذلك كونها جاءت على غير المصدر ، والكثير مجيء المصادرِ جارية على أفعالها .
قيل : وحسَّن مجيءَ هذا المصدر ثلاثياً كونُ فعله قد حُذِفت زوائده في كثيرٍ من كلامهم ، نحو : تقى يتقى .
ومنه قوله : [ الطويل ]
1397- . . ... تَقِ اللهَ فِينَا وَالْكِتَابَ الَّذِي تَتْلُو
وقد تقدم تحقيق ذلك أول البقرة .
الثاني : أنها منصوبة على المفعول به ، وذلك على أن « تَتَّقُوا » بمعنى تخافوا ، وتكون « تُقَاةً » مصدراً واقعاً موقعَ المفعول به ، وهو ظاهر قول الزمخشريِّ ، فإنه قال : « إلا أن تَخَافُوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه » .
وقُرِئَ « تَقِيَّةً » وقيل - للمتقى- : تُقَاة ، وتقية ، كقولهم : ضَرْب الأمير - لمضروبه فصار تقديرُ الكلامِ : إلا أن تخافوا منهم أمْراً مُتَّقًى .
الثالث : أنها منصوبةٌ على الحال ، وصاحب الحال فاعل « تَتَّقُوا » وعلى هذا تكون حالاً مؤكدةً لأن معناه مفهوم من عاملها ، كقوله : { وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 33 ] ، وقوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } [ البقرة : 60 ] وهو - على هذا - جمع فاعل ، - وإن لم يُلْفَظْ ب « فاعل » من هذه المادة - فيكون فاعلاً وفُعَلَة ، نحو : رَامٍ ورُمَاة ، وغَازٍ وغُزَاة ، لأن « فُعَلَة » يطَّرد جمعاً لِ « فاعل » الوصف ، المعتل اللام .
وقيل : بل لعله جمع ل « فَعِيل » أجاز ذلك كلَّه أبو علي الفارسي .
قال شهاب الدينِ : « جمع فعيل على » فُعَلَة « لا يجوز ، فإن » فَعِيلاً « الوصف المعتل اللام يجمع على » أفعلاء « نحو : غَنِيّ وأغنياء ، وتَقِيّ وأتقياء ، وصَفِيّ وأصفياء .
فإن قيل : قد جاء » فعيل « الوصف مجموعاً على » فَُلَة « قالوا : كَمِيّ وكُمَاة .
فالجواب : أنه من النادر ، بحيثُ لا يُقاس عليه « .
وقرأ ابنُ عباس ومجاهدٌ ، وأبو رجاء وقتادةُ وأبو حَيْوةَ ويعقوبُ وسهلٌ وعاصمٌ - في رواية المعتل عينه - تتقوا منهم تقيَّة - بوزن مَطِيَّة - وهي مصدر - أيضاً - بمعنى تقاة ، يقال : اتَّقَى يتقي اتقاءً وتَقْوًى وتُقَاةً وتَقِيَّة وتُقًى ، فيجيء مصدر » افْتَعَل « من هذه المادة على الافتعال ، وعلى ما ذكر معه من هذه الأوزانِ ، ويقال - أيضاً- : تقيت أتقي - ثلاثياً - تَقِيَّةً وتقوًى وتُقَاةً وتُقًى ، والياء في جميع هذه الألفاظ بدل من الواو لما عرفته من الاشتقاق .
وأمال الأخوانِ » تُقَاةً « هنا؛ لأن ألفَها منقلبةٌ عن ياءٍ ، ولم يؤثِّرْ حرفُ الاستعلاء في منع الإمالة؛ لأن السبب غيرُ ظاهر ، ألا ترى أن سبب الياء الإمالة المقدرة - بخلاف غالب ، وطالب ، وقادم فإن حرف الاستعلاء - هنا - مؤثِّر؛ لكن سبب الإمالة ظاهر ، وهو الكسرة ، وعلى هذا يقال : كيف يؤثر مع السبب الظاهر ، ولم يؤثر مع المقدَّر وكان العكس أولى .
والجوابُ : أن الكسرة سببٌ منفصلٌ عن الحرف المُمَال - ليس موجوداً فيه - بخلاف الألف المنقلبة عن ياء ، فإنها - نفسها - مقتضية للإمالة ، فلذلك لم يقاوِمها حرفُ الاستعلاء .
وأمال الكسائي - وحده - { حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] فخرج حمزة عن أصله ، وكأن الفرق أن » تُقَاةً « - هذه - رُسِمَتْ بالياء ، فلذلك وافق حمزةُ الكسائيَّ عليه ، ولذلك قال بعضهم : » تَقِيَّة « - بوزن مطيّة - كما تقدم؛ لظاهر الرسم ، بخلاف » تُقَاتِهِ « .
قال شهاب الدين : [ وإنما أمعنت في سبب الإمالة هنا؛ لأن بعضهم زعم أن إمالة هذا شاذٌّ؛ لأجل حرف الاستعلاء ، وأن سيبويه حكى عن قوم أنَّهم يُميلُون شَيْئاً لا تجوز إمالَُه ، نحو : رَأيْتُ عِرْقَى بالإمالة ، وليس هذا من ذلك؛ لما تقدم لك من أن سبب الإمالة في كسْرِهِ ظاهرٌ .
وقوله : » مِنْهُمْ « متعلق ب » تَتَّقُوا « أو بمحذوف على أنه حال من » تُقَاةً « ؛ لأنه - في الأصل - يجوز أن يكون صفةً لها ، فلما قُدِّم نُصِبَ حالاً ، هذا إذا لم نجعل » تُقَاةً « حالاً ، فأما إذا جعلناها حالاً تعيَّن أن يَتَعلَّق » مِنْهُمْ « بالفعل قبله ، ولا يجوز أن يكون حالاً من » تُقَاةً « لفساد المعنى؛ لأن المخاطبين ليسوا من الكافرين .
فصل في كيفية النظم
في كيفية النظمِ وجهان :
أحدهما : أنه - تعالى - لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه في تعظيم اللهِ - تعالى - ذكر بعده ما يجب أن يكون المؤمن عليه في المعاملة مع الناس ، فقال : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين } .
والثاني : أنه لما بَيَّن أنه - تعالى - مالك الدنيا والآخرة ، بيَّن أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه - دون أعدائه - .
فصل
في سبب النزول وجوه :
أحدها : قال ابن عبّاسٍ : كان الحجاج بن عمرو وابنُ أبي الحُقَيْقِ وقيسُ بنُ زيد [ قد بطنوا ] بنفر من الأنصار؛ ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة بن عبد المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر من المسلمين : اجتنبوا هؤلاءِ اليهودَ ، واحذروا أن يفتنوكم عن دينكم ، فأبى أولئك النفر إلاّ مباطَنَتَهُمْ ، فنزلت هذه الآية .
وثانيها : قال مقاتلٌ : نزلت في حاطب بن أبي بلتعةَ ، وغيره؛ حيث كانوا يُظْهرون المودةَ لكفار مكة فنهاهم عنها .
ثالثها : قال الكلبيُّ - عن أبي صالح عن ابن عبّاس- : نزلت في المنافقين - عبد الله بن أبيِّ وأصحابه - ك انوا يتولَّون اليهودَ والمشركين ، ويأتونهم بالأخبار ، يرجون لهم الظفر والنصر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية .
ورابعها : أنها نزلت في عُبَادةَ بن الصامتِ - وكان له حلفاء من اليهود - في يوم الأحزاب قال : يا رسول الله ، معي خمسمائة من اليهود ، وقد رأيت أن يخرجوا معي ، فنزلت هذه الآية في تحريم موالاة الكافرين .
وقد نزلت آيات أخَرُ في هذا المعنى ، منها قوله تعالى : { لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } [ آل عمران : 118 ] ، وقوله : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ } [ المجادلة : 22 ] وقوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ } [ المائدة : 51 ] وقوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } [ الممتحنة : 1 ] ، وقوله : { والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ التوبة : 71 ] .
فصل
موالاة الكافر تنقسم ثلاثة أقسامٍ .
الأول : أن يَرْضَى بكفره ، ويُصَوِّبَه ، ويواليَه لأجْلِه ، فهذا كافر؛ لأنه راضٍ بالكفر ومُصَوِّبٌ له .
الثاني : المعاشرةُ الجميلةُ بحَسَب الظاهر ، وذلك غير ممنوع منه .
الثالث : الموالاة ، بمعنى الركون إليهم ، والمعونة ، والنُّصْرة ، إما بسبب القرابة ، وإما بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينَه باطل - فهذا منهيٌّ عنه ، ولا يوجب الكفر؛ لأنه - بهذا المعنى - قد يجره إلى استحسان طريقِه ، والرِّضَى بدينه ، وذلك يخرجه عن الإسلام ، ولذلك هدد الله بهذه الآية - فقال : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ } .
فإن قيل : لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من الآية النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء - بمعنى أن يتولوهم دون المؤمنين - فأما إذا تولَّوْهم ، وتولَّوُا المؤمنين معهم ، فليس ذلك بمنهيٍّ عنه ، وأيضاً فقوله : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ } فيه زيادة مَزِيَّةٍ؛ لأن الرجلَ قد يوالي غيره ، ولا يتخذه موالياً له ، فالنهيُّ عن اتخاذه موالياً لا يوجب النهي عن أصل موالاته؟
فالجوابُ : أن هذين الاحتمالين - وإن قاما في الآية - إلا أن سائر الآيات الدالةِ على أنه لا يجوز موالاتُهم دلت على سقوطِ هذينِ الاحتمالينِ .
فصل
معنى قوله : { مِن دُونِ المؤمنين } أي : من غير المؤمنين ، كقوله : { وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله } [ البقرة : 23 ] ، أي : من غير الله؛ لأن لفظة « دون » تختص بالمكان ، تقول : زيد جلس دون عمرو ، أي : في مكان أسفلَ منه ، ثم إن مَن كان مُبَايِناً لغيره في المكان ، فهو مغاير له ، فجعل لفظ « دون » مستعملاً في معنى « غير » ، ثم قال : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ } يقع عليه اسم الولاية أي : فليس من ولاية الله في شيءٍ ، يعني أنه مُنْسَلِخ من ولاية الله - تعالى - رأساً ، وهذا أمر معقول؛ فإن موالاةَ الوليّ وموالاةَ عدوِّه ضدان .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1398- تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمَّ تَزْعُمُ أنَّنِي ... صَدِيقُكَ ، لَيْسَ النَّوْكُ عَنْكَ بِعَازِبِ
وكتب الشَّعبيُّ إلى صديق له كتاباً ، من جملته : وَمَنْ وَالَى عَدُوَّكَ فَقَدْ عَادَاكَ ، وَمَنْ عَادَى عَدُوَّكَ فَقَدْ وَالاَكَ . وقد تقدم القول بأن المعنى فليس من دون اله في شيء .
ثم قال : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } أي : إلا أن تخافوا منهم مخافة ، قال الحسنُ : أخذ مُسَيْلمةَ الكذابُ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لأحدهما : تشهد أن محمَّداً رسولُ الله؟ قال : نعم ، قال : أفتشهد أني رسول الله؟ قال : نعم - وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حَنِيفَةَ ، ومحمد رسول قُرَيْش - فتركه ، ودعا الآخر قال : أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال : نعم نعم نعم ، فقال : أتشهد أني رسول الله؟ قال : إني أصم ، ثلاثاً - فقدمه ، فقتله ، فبلغ ذلك رسولَ الله ، فقال : أما هذا المقتولُ فمضى على يقينه وصدقه ، فهنيئاً له ، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } [ النحل : 106 ] .
فصل
التَّقِيَّة لها أحكامٌ :
منها : أنها تجوز إذا كان الرجلُ في قومٍ كفارٍ ، ويخاف منهم على نفسه ، وماله ، فيداريهم باللسان ، بأن لا يُظْهِرَ العداوةَ باللسان ، بل يجوز له أن يُظْهِر الكلامَ الموهمَ للمحبة والموالاة ، بشرط أن يضمر خلافَه ، وأن يُعَرِّضَ في كُلِّ ما يقول؛ فإن التقية تأثيرُها في الظاهر ، لا في أحوال القلوبِ ، ولو أفصح بالإيمان - حيث يجوز له التقية - كان أفضل؛ لقصةِ مسيلمةَ .
ومنها : أنها إنما تجوز فيما يتعلق بدفع الضرر عن نفسه ، أما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتلِ ، والزنا ، وغصب الأموالِ ، والشهادة بالزور ، وقذف المحصنات ، وإطلاع الكفارِ على عورات المسلمين ، فلا تجوز البتة .
ومنها : أنها تحل مع الكفار الغالبين ، وقال بعض العلماء : إنها تحل مع المسلمين - إذا شاكلت حالُهم حال المشركين؛ محاماةً على النفس ، وهل هي جائزة لصَوْن المال؟ يُحْتَمل أن يُحْكَم فيها بالجواز؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِم كَحُرْمَةِ دَمهِ » ، وقوله صلى الله عليه وسلم :
« مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ » ، ولأن الحاجة إلى المال شديدة ، والماء إذا بِيعَ بالغبن سقط فرضُ الوضوء ، وجاز الاقتصار على التيمم؛ دفعاً لذلك القدر من نقصان المال ، فهاهنا أوْلَى .
فصل
قال معاذُ بن جبل ومجاهدٌ : كانت التَّقِيَّةُ في أول الإسلام - قبل استحكام الدين ، وقوة المسلمين - أما اليوم فلا؛ لأن الله أعَزَّ الإسلامَ ، فلا ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم ، وروي عن الحسنِ أنه قال : التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامةِ .
قال ابن الخطيبِ : « وهذا القول أوْلَى؛ لأن دَفْعَ الضررِ عن النفس واجبٌ بقدر الإمكان » .
وقال يحيى البِكَالِيّ : قلت لسعيد بن جُبَيرٍ - في أيام الحجاجِ- : إن الحسنَ كان يقول : لكم التقية باللسان ، والقلب مطمئن ، فقال سعيد بن جبيرٍ : ليس في الإسلام تَقِيَّة ، إنما التَّقِيَّة لأهل الحرب .
قوله : { وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ } ، « نَفْسَهُ » مفعول ثان ل « يُحَذِّرُ » ؛ لأنه في الأصل مُتَعَدِّ لواحد ، فازداد بالتضعيف آخر ، وقدَّر بعضهم حذفَ مضاف - أي : عقاب نفسه - وصرح بعضهم بعدم الاحتياجِ إليه ، كذا نقله أبو البقاء عنهم .
قال الزّجّاج : « أي : ويحذركم الله إياه ، ثم استغنَوْا عن ذلك بذا ، وصار المستعملَ ، قال تعالى : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } [ المائدة : 116 ] فمعناه : تعلم ما عندي ، وما في حقيقتي ، ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك » .
قال شهابُ الدينِ : « وليس بشيءٍ؛ إذْ لا بد من تقدير هذا المضافِ ، ألا ترى إلى غير ما نحن فيه - في نحو قولك : حذرتك نفسَ زيد - أنه لا بد من شيءٍ تحذر منه - كالعقاب والسطوة؛ لأن الذواتِ لا يُتَصَوَّرُ الحذرُ منها نفسها ، إنما يتصور من أفعالِها وما يَصْدُرُ عنها » .
قال أبو مسلم : « والمعنى { وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ } أن تعصوه ، فتستحقوا عقابه » .
وَعَبَّر - هنا - بالنفس عن الذات؛ جَرْياً على عادةِ العرب ، كما قال الأعشى : [ الكامل ]
1399- يَوْماً بِأجْوَدَ نَائِلاً مِنْهُ إذَا ... نَفْسُ الْجَبَانِ تَجَهَّمْتَ سُؤَّالَهَا
قال بعضهم : « الهاء في » نَفْسَهُ « تعود على المصدر المفهوم من قوله : » لاَ يَتَّخِذ « ، أي : ويحذركم الله نفس الاتخاذ ، والنفس : عبارة عن وجود الشيء وذاته » .
قال أبو العباس المُقْرِئُ : ورد لفظ « النفس » في القرآن على أربعة أضربٍ :
الأول : بمعنى العلم بالشيء ، والشهادة ، كقوله : { وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ } ، يعني علمه فيكم ، وشهادته عليكم .
الثاني : بمعنى البدن ، قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت } [ آل عمران : 185 ] .
الثالث : بمعنى الهَوَى ، كقوله : { إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء } [ يوسف : 53 ] يعني الهَوَى .
الرابع : بمعنى الروحِ ، قال تعالى : { أخرجوا أَنْفُسَكُمُ } [ الأنعام : 93 ] ، أي : أرواحكم .
فصل
المعنى : يخوفكم الله عقوبته على موالاةِ الكُفَّار ، وارتكاب المناهي ومخالفة المأمور .
والفائدة في ذكر النفس : أنه لو قال : ويحذركم الله ، فهذا لا يُفِيد أن الذي أرِيدَ التحذيرُ منه هو عقاب يصدر من الله - تعالى - أو من غيره ، فلما ذَكَر النفسَ زالت هذه الأشياءُ ، ومعلوم أن العقابَ الصادرَ عنه ، يكون أعظمَ أنواع العقابِ؛ لكونه قادراً على ما لا نهايةَ له ، وأنه لا قُدْرَةَ لأحد على دَفْعِهِ وَمَنْعِه مما أراد ، ثم قال : { وإلى الله المصير } ، أي : يحذركم اللهُ عقابه عند مصيركم إليه .

قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
لما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء - واستثنى عنه التَّقِيَّة في الظاهر - أتبعه بالوعيد على أن يصير الباطنُ موافقاً للظاهر - في وقت التقية -؛ لئلا يجرَّه ذلك الظاهرُ إلى الموالاةِ في الباطن ، فبيَّن - تعالى - أن علمه بالظاهر كعِلْمِه بالباطن .
فإن قيل : قوله : { إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ } شرط ، وقوله : { يَعْلَمْهُ الله } جزاء ، ولا شك أن الجزاء مترتِّب على الشرط ، متأخِّرٌ عنه ، فهذا يقتضي حدوثَ علمِ اللهِ تعالى .
فالجوابُ : أن تعلق علم الله بأنه حصل الآن لا يحصل إلا عند حصوله الآن ، وهذا التجدُّد إنما يعرض في النِّسَب ، والإضافات ، والتعلُّقات ، لا في حقيقة العلم .
فإن قيل : إن محل البواعثِ والضمائر هو القلب ، فلم قال : { إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ } ولم يَقُلْ : { مَا فِي قلُوبِكُمْ } ؟
فالجوابُ : لأن القلبَ في الصدر ، فجاز إقامة الصدر مقام القلب ، كما قال : { يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ } [ الناس : 5 ] .
فصل
قوله : { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ } قلوبكم ، من مودة الكفار وموالاتهم { أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله } .
وقال الكلبيُّ : إن تُسرُّوا ما في قلوبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من التكذيب ، أو تُظْهِرُوه ، لحَرْبِهِ وقتاله يعلْمه الله ، ويجازكم عليه .
قوله : « وَيَعْلَمُ » مستأنف ، وليس منسوقاً على جواب الشرطِ؛ لأن علمه بما في السموات وما في الأرض غير متوقِّف على شرط ، فلذلك جِيء مستأنفاً ، وقوله : { وَيَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } من باب ذكر العام بعد الخاص . { مَا فِى صُدُورِكُمْ } ، وقدَّم - هنا - الإخْفَاءَ على الإبداء وجعل محلهما الصدور ، بخلاف آية البقرةِ - فإنه قدَّم فيها الإبداء على الإخفاء ، وجعل محلهما النفس ، وجعل جواب الشرطِ المحاسبة؛ تفنُّناً في البلاغة ، وذكر ذلك للتحذير؛ لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيء فكيف يَخْفَى عليه الضميرُ؟
قوله : { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وهو تمام التحذير؛ لأنه إذا كان قادراً على جميع المقدورات كان - لا محالة - قادراً على إيصال حق كل أحد إليه ، فيكون هذا تمام الوعدِ ، والوعيد ، والترغيب ، والترهيب .

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
أحدها : أنه منصوب ب « قَدِيرٌ » ، أي : قدير في ذلك اليوم العظيم ، لا يقال : يلزم من ذلك تقييد قدرته بزمان؛ لأنه إذا قدر في ذلك اليوم الذي يُسْلَب فيه كلُّ أحدٍ قدرته ، فلأنْ يقدرَ في غيره بطريق الأولى . وإلى هذا ذهب ابو بكر ابن الأنباري .
الثاني : أنه منصوب ب « يُحَذِّرُكُمْ » ، أي : يخوفكم عقابه في ذلك اليوم ، وإلى هذا نحا أبو إسحاق ، ورجحه .
ولا يجوز أن ينتصب ب « يُحَذِّرُكُمْ » المتأخرة .
قال ابن الأنباري : لا يجوز أن يكون اليوم منصوباً ب « يُحَذِّرُكُمْ » المذكور في هذه الآية؛ لأن واو النسق لا يعمل ما بعدها فيما قبلها « .
وعلى ما ذكره أبو إسحاق يكون ما بين الظرفِ وناصبه معترضاً ، وهو كلامٌ طويلٌ ، والفصل بمثله مستبعد ، هذا من جهة الصناعة ، وأما من جهة المعنى ، فلا يصح؛ لأن التخويف لم يقع في ذلك اليوم؛ لأنه ليس زمانَ تكليف؛ لأن التخويف موجود ، واليوم موعود ، فكيف يتلاقيان؟
قال : أن يكون منصوباً بالمصير ، والتقدير : وإلى الله المصير يومَ تَجِدُ ، وإليه نحا الزّجّاجُ - أيضاً - وابن الأنباري ومكيٌّ ، وغيرُهم ، وهذا ضعيف على قواعد البصريين؛ للزوم الفصل بين المصدر ومعموله بكلامٍ طويلٍ .
وقد يقال : إن جُمَل الاعتراضِ لا يُبَالَى بها في الفصل ، وهذا من ذاك .
الرابع : أن يكون منصوباً ب » اذكر « مقدراً ، فيكون مفعولاً به لا ظرفاً ، وقدر الطبريُّ الناصب له » اتَّقُوا « ، وفي التقدير ما فيه من كونه على خلاف الأصلِ ، مع الاستغناء عنه .
الخامس : أن العامل فيه ذلك المضاف المقدر قبل » نفسه « ، أي : يحذركم اللهُ عقاب نفسه يوم تجد ، فالعامل فيه » عقاب « لا » يحذركم « قاله أبو البقاء ، وفي قوله : » لا يُحَذِّرُكُمْ « فرار عما أورد على أبي إسحاقَ كما تقدم .
السادس : أنه منصوب ب » تَوَدُّ « .
قال الزمخشريُّ : » يَوْمَ تَجِدُ « منصوب ب » تَوَدُّ « والضمير في » بينه « لليوم ، أي : يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها تتمنى لو أن بينها ، وبين ذلك اليوم ، وهَوْله أمداً بعيداً » .
وهذا ظاهر حسنٌ ، ولكن في هذه المسألة خلافٌ ضعيف؛ جمهور البصريين والكوفيين على جوازها ، وذهب الأخفشُ الفرّاءُ إلى مَنْعِهَا .
وضابط هذه المسألة أنه إذا كان الفاعلُ ضميراً عائداً إلى شيء مُتَّصِلٍ بمعمولِ الفعلِ نحو : ثَوْبَيْ أخَوْيك يلبسان ، فالفاعل هو الألف ، وهو ضمير عائد على « أخويك » المتصلين بمفعول « يلبسان » ومثله : غلام هندٍ ضربَتْ ، ففاعل « ضربت » ضمير عائد على « هند » المتصلة ب « غلام » المنصوب ب « ضربت » والآية من هذا القبيل؛ فإن فاعل « تَوَدُّ » ضميرٌ عائدٌ على « نَفْس » المتصلة ب « يَوْمَ » لأنها في جملة أضِيفَ الظرفُ إلى تلك الجملةِ ، والظرف منصوب ب طتَوَدُّ « ، والتقدير : يوم وُجدان كل نفس خيرها وشرها مُحْضَرَيْنِ تَوَدُّ كذا .
احتج الجمهور على الجواز بالسماع .
وهو قول الشاعر : [ الخفيف ]
1400- أجَلَ الْمَرْءِ يَسْتَحِثُّ وَلاَ يَدْ ... ري إذَا يَبْتَغِي حًصُولَ الأمَانِي
ففاعل « يستحثَ » ضمير عائد على « المرء » المتصل ب « أجل » المنصوب ب « يستحث » .
واحتج المانعون بأن المعمول فضلة ، يجوز الاستغناء عنه ، وعَوْد الضمير عليه في هذه المسائل يقتضي لزوم ذكره ، فيتنافى هذان السببان ، ولذلك أجمع على منع زيداً ضرب ، وزيداً ظن قائماً ، أي : ضرب نفسه ، وظنها ، وهو دليلٌ واضح للمانع لولا ما يرده من السماع كالبيت المتقدم وفي الفرق عُسْر بين : غلامَ زَيدٍ ضَرَبَ ، وبين : زيداً ضَرَبَ ، حيث جاز الأول ، وامتنع الثاني ، بمقتضى العلة المذكورة .
قوله : « تجد » يجوز أن تكون [ المتعدية لواحد بمعنى « تصيب » ، ويكون « محضراً » على هذا منصوباً على الحال ، وهذا هو الظاهر ، ويجوز أن تكون علمية ] ، فتتعدى لاثنين ، أولهما « مَا عَمِلَتْ » ، والثاني « مُحْضَراً » وليس بالقويّ في المعنى ، و « ما » يجوز فيها وجهان :
أظهرهما : أنها بمعنى « الذي » فالعائد - على هذا - مقدَّر ، أي : ما عملته ، وقوله : { مِنْ خَيْرٍ } حال ، إما من الموصول ، وإما من عائده ، ويجوز أن تكون « مِنْ » لبيان الجنسِ .
ويجوز أن تكون « ما » مصدرية ، ويكون المصدر - حينئذ - واقعاً موقع مفعول ، تقديره : يوم تجد كلُّ نفس عملها - أي : معمولها - فلا عائد حينئذ [ عند الجمهور ] .
قوله : { وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ } يجوز في « ما » هذه أن تكون منسوقة على « ما » التي قبلها بالاعتبارين المذكورَيْن فيها - أي : وتجد الذي عملته ، أو وتجد عملها - أي : معمولها - من سوء . فإن جعلنا « تَجِدُ » متعدياً لاثنين ، فالثاني محذوف ، أي : وتجد الذي عملته من سوء محضراً ، أو وتجد عملها مُحْضَراً ، نحو علمت زيداً ذاهباً وبكراً - أي : وبكراً ذاهباً - فحذفت مفعوله الثاني؛ للدلالة عليه بذكره مع الأول . وإن جعلناها متعدية لواحد ، فالحال من الموصول أيضاً - محذوفة ، أي : تجده محضراً - اي : في هذه الحال - وهذا كقولك : أكرمت زيداً ضاحكاً وعمراً - أي : وعمراً ضاحكاً - حذفت حال الثاني؛ لدلالة حال الأول عليه- ، وعلى هذا فيكون في الجملة من قوله : « تَوَدُّ » وجهان :
أحدهما : أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل « عَمِلَتْ » ، أي : وما عملته حال كونها وَادَّةً ، اي : متمنِّيًَ البعد من السوءِ .
والثاني : أن تكون مستأنفةً ، أخبر الله تعالى عنها بذلك ، وعلى هذا لا تكونُ الآية دليلاً على القطع بوعيد المذنبين .
ووضع الكرم ، واللطف هذا؛ لأنه نَصَّ في جانب الثوابِ على كونه مُحْضَراً ، وأما في جانب العقاب فلم ينصّ على الحضورِ ، بل ذكر أنهم يودون الفرار منه ، والبعد عنه ، وذلك بَيِّنٌ على أن جانب الوعد أولى بالوقوع من جانب الوعيدِ .
ويجوز أن تكون « ما » مرفوعة بالابتداء ، والخبر الجملة في قوله : « تَوَدُّ » ، أي : والذي عملته وعملها تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً .
والضمير في « بَيْنَهُ » فيه وجهان :
أحدهما - وهو الظاهر - عوده على « مَا عَمِلَتْ » ، وأعاده الزمخشري على « الْيَوْم » .
قال أبو حيّان : « وأبعد الزمخشري في عوده على » اليوم « ؛ لأن أحد القسمين اللذين أحْضِروا له في ذلك اليوم هو الخير الذي عمله ، ولا يطلب تباعد وقت إحضار الخير ، إلا بتجوُّز إذا كان يشتمل على الخير والشر ، فتود تباعده؛ لتسلم من الشرِّ ، ودعه لا يحصل له الخير . والأولى عوده على { وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء } ؛ لأنه أقربُ مذكورٍ؛ ولأن المعنى أن السوء تَتَمَنَّى في ذلك اليوم التباعُدَ منه » .
فإن قيل : هل يجوز أن تكون « ما » هذه شرطية؟
فالجواب : أن الزمخشريَّ ، وابن عطية مَنَعَا من ذلك ، وَجَعَلا علة المنع عدم جزم الفعل الواقع جواباً ، وهو « تَوَدُّ » .
قال شهاب الدينِ : « وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنهم نَصُّوا على أنه إذا وقع فعلُ الشرطِ ماضياً ، والجزاء مضارعاً جاز في ذلك المضارع وجهان - الجزم والرفع - وقد سُمِعَا من لسان العرب ، ومنه بيت زُهَيْر : [ البسيط ]
1401- وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ ... يَقُولُ : لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرمُ
ومن الجزم قوله تعالى { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ } [ هود : 15 ] ، وقوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ } [ الشورى : 20 ] ، وقوله : { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ الشورى : 20 ] فدل ذلك على أن المانع من شرطيتها ليس هو رَفْعَ تَودُّ » .
وأجاب ابو حيّان بأنها ليست شرطية - لا لما ذكر الزمخشريُّ وابن عطيّة - بل لعلَّةٍ أخرى ، قال : كنت سُئِلت عن قول الزمخشريِّ : فذكره ثم قال : ولنذكر هاهنا ما تمس إليه الحاجة بعد أن تقدم ما ينبغي تقديمه ، فنقول : إذا كان فعل الشرط ماضياً ، وبعده مضارع تتم به جملة الشرط والجزاء جاز في ذلك المضارع ، الجَزْمُ ، وجاز فيه الرفعُ ، مثال ذلك : إن قام زيد يَقُمْ - ويقوم عمرو ، فأما الجزم فعلى جواب الشرط ولا نعلم في جواز ذلك خلافاً ، وأنه فصيح ، إلا ما ذكره صاحب كتاب « الإعراب » عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الكلام الفصيح ، وإنما يجيء مع « كان » كقوله تعالى :
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ } [ هود : 15 ] ، لأنها أصل الأفعال ، ولا يجوز ذلك مع غيرها ، وظاهر كلام سيبويه ، وكلام الجماعة ، أنه لا يختص ذلك ب « كان » بل سائر الأفعال في ذلك مثل « كان » .
وأنشد سيبويه للفرزدق : [ البسيط ]
1402- دَسَّتْ رَسُولاً بِأنَّ الْقَوْمَ إنْ قَدَرُوا ... عَلَيْكَ يَشْفُوا صُدُوراً ذَاتَ تَوغِيرِ
وقال أيضاً : [ الطويل ]
1403- تَعَالَ فَإنْ عَاهَدتنِي لا تَخُونُنِي ... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَجِبَانِ
وأما الرفع فإنه مسموع من لسان العرب كثيراً .
قال بعض أصحابنا : هو أحسن من الجزم ، ومنه بيت زهير السابق . ومثله - أيضاً - قوله : [ الطويل ]
1404- وَإنْ شُلَّ رَيْعَانُ الْجَمِيع مَخَافَةً ... نَقُولُ - جِهَاراً - وَيْلَكُمْ لا تُنَفِّرُوا
وقال أبو صخر : [ الطويل ]
1405- وَلاَ بِالَّذِي إنْ بَانَ عَنْهُ حَبِيبُهُ ... يَقُول - وَيُخْفِي - الصَّبْرَ - إنِّي لَجَازعُ
وقال الآخر : [ الطويل ]
1406- وَإنْ بَعُدُوا لا يَأمَنُونَ اقْتِرَابَهُ ... تَشَوُّفَ أهْلِ الْغَائِبِ الْمُتَنَظَّرِ
وقال الآخر : [ الطويل ]
1407- فَإنْ كَانَ لا يُرْضِيكَ حَتَّى تَرُدَّنِي ... إلَى قَطَرِيٍّ لا إخَالُكَ رَاضِيا
وقال الآخر : [ البسيط ]
1408- إنْ يُسْألُوا الْخَيْرَ يُعْطُوهُ وَإنْ خُبِرُوا ... فِي الجَهْدِ أدْرَكَ مِنْهُمْ طيبُ أخْبَارِ
قال شهاب الدين : « هكذا ساق هذا البيتَ في جملة الأبيات الدالة على رفع المضارع ، ويدل على ذلك أنه قال - بعد إنشاده هذه الأبيات كلَّها- : فهذا الرفع - كما رأيت - كثير » .
وهذا البيتُ ليس من ذلك؛ لأن المضارع فيه مجزوم - وهو يُعْطُوه - وعلامة جزمهِ سقوط النون فكان ينبغي أن ينشده حين أنشد : دَسَّتْ رَسُولاً ، وقوله : « تعال فإن عاهدتني » .
وقال : فهذا الرفع كثير - كما رأيت - ونصوص الأئمة على جوازه في الكلام - وإن اختلفت تأويلاتُهم كما سنذكره - وقال صاحبنا أبو جعفر أحمد بن عبد النور بن رشيد المالقي - وهو مصنف كتاب رصف المباني - رحمه الله- : لا أعلم منه شيئاً جاء في الكلام ، وإذا جاء فقياسه الجزم؛ لأنه أصل العمل في المضارع - تقدم الماضي أو تأخَّر - وتأوَّل هذا المسموعَ على إضْمَار الفاء ، وجملة مثل قول الشاعر : [ الرجز ]
1409- .. إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ
على مذهب من جعل الفاءَ منه محذوفة .
وأما المتقدمون فاختلفوا في تخريج الرَّفعِ .
فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم ، وأنَّ جوابَ الشرط ليس مذكوراً عِنْدَه ، وذهب المبردُ والكوفيون إلى أنه هو الجواب ، وإنما حُذِفَ منه الفاءُ ، والفاء يُرْفَع ما بعدها ، كقوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] فأعْطِيَتْ - في الإضمار - حكمَها في الإظهار .
وذهب غيرهما إلى أن المضارعَ هو الجوابُ بنفسه - أيضاً - كالقول قبله ، إلا أنه ليس معه فاء مقدرة قالوا : لكن لما كان فعلُ الشرط ماضياً ، لا يظهر لأداة الشرط فيه عملٌ ظاهِرٌ استضعفوا أداةَ الشرط ، فلم يُعْمِلُوها في الجواب؛ لضَعْفِها ، فالمضارع المرفوع - عند هذا القائل - جواب بنفسه من غير نية تقديم ، ولا على إضمار الفاء ، وإنما لم يُجْزَم لما ذُكِر ، وهذا المذهب والذي قبله ضعيفان .
وتلخص من هذا الذي قلناه - أن رَفْعَ المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطاً ، لكن امتنع أن يكون « وما عملت » شرطاً لعلة أخرى - لا لكون « تَوَدُّ » مرفوعاً ، وذلك على ما تقرَّر من مذهب سيبويه أن النية بالمرفوع التقديم ، وأنه - إذ ذاك - دليل على الجواب لا نفس الجواب ، فنقول : لما كان « تَوَدُّ » مَنوياً به التقديم أدَّى إلَى تقديم المُضْمَ رعلى ظاهرهِ في غير الأبوابِ المستثناة في العربية ، ألا ترى أن الضمير في قوله : « وَبَيْنَه » عائد على اسم الشرط - الذي هو « ما » - فيصير التقدير : تَوَدُّ كلُّ نفسٍ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ما عملت من سوء ، فلزم هذا التقدير تقديم المضمر على الظاهر ، وذلك لا يجوز .
فإن قلت : لم لا يجوز ذلك والضمير قد تأخَّر عن اسم الشرط وإن كانت نيتُه التقديمَ فقد حصل عَوْدُ الضمير على الاسم الظاهر قَبْلَه ، وذلك نظير : ضرب زيداً غلامُه ، فالفاعل رُتْبته التقديمُ ، ووجب تأخيره لصحة عود الضمير؟
فالجواب : أن اشتمال الدليل على ضمير اسم الشرط يوجب تأخيره عنه؛ لعود الضمير ، فيلزم من ذلك اقتضاء جملة الشرط لجملة الدليل ، وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء - لا دليله - ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل؟ بل إنها تعمل في جملة الجزاء ، وجملة الدليل لا موضع لها من الإعراب ، وإذا كان كذلك تدافَع الأمر؛ لأنها من حيث هي جملة دليل لا يقتضيها فعل شرط ، ومن حيث عَوْد الضمير على اسم الشرط اقتضاها ، فتدافَعَا ، وهذا بخلاف : ضرب زيد أخاه؛ فإنها جملة واحدة ، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معاً ، فكل واحد منهما يقتضي صاحبه ، ومن ذلك جاز - عند بعضهم - ضرب غلامُها هنداً ، لاشتراك الفاعل - المضاف إلى الضمير - والمفعول الذي عاد عليه الضمير - في العامل ، وامتنع ضرب غلامُها جازَ عنده؛ لعدم الاشتراك في العامل ، ففرق ما بين المسألتين ، ولا يُحْفَظ من لسان العربِ : أوَدُّ لو أني أكْرمه أبا ضربتُ هِندٍ؛ لأنه يلزم منه تقديم المُضْمَر على مفسِّره - في غير المواضع التي ذكرها النحويون - فلذلك لا يجوز تأخيره « انتهى .
وقد جوَّز ابو البقاء كونَها شرطية ، ولم يلتفت لما مَنَعُوا به ذلك ، فقال : » والثاني - أنها شرط وارتفع « تَوَدُّ » على إرادة الفاء ، أي : فهو تود « .
ويجوز أن يرتفع من غير تقدير حذف؛ لأن الشرط - هنا - ماضٍ ، وإذا لم يظهر في الشرط لفظ الجزم جاز في الجزاء الوجهان : الجزم والرفع .
[ وقد تقدم تحقيق القول في ذلك ، فالظاهر موافقته للقول الثالث من تخريج الرفع في المضارع كما تقدم تحقيقه وقرأ . . . ] عبد الله وابن أبي عبلة : « ودت » - بلفظ الماضي - وعلى هذه القراءة يجوز في « ما » وجهان :
أحدهما : أن تكون شرطية ، وفي محلها - حينئذ - احتمالان .
الأول : النصب بالفعل بعدها ، والتقدير : أيَّ شيء عملت من سوء ودت ، ف « وَدَّتْ » جواب الشرط .
الثاني : الرفع على الابتداء ، والعائد على المبتدأ محذوف ، تقديره : وما عملته ، وهذا جائز في اسم الشرط خاصة عند افرّاء في فصيح الكلام ، أعني حذف عائد المبتدأ إذا كان منصوباً بفعل نحو : « أيُّهُمْ ضرب أكرمه » - برفع « أيُّهم » وإذا كان المبتدأ غير ذلك ضَعُفَ نحو : زيدٌ ضربت ، [ وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان في قراءة من قرأ : « أفحكمُ الجاهلية يبغون » ، وفي قوله : « وكل وعد الله الحسنى » في الحديد ] .
الوجه الثاني من وجهي « ما » : أن تكون موصولة ، بمعنى : الذي عملته من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمدا بعيداً ، ومحلها - على هذا - رفع بالابتداءِ ، و « وَدَّتْ » الخبر ، وهو اختيار الزمخشريِّ؛ لأنه قال : « لكن الحمل على الابتداء والخبر أوْقَعُ في المعنى : لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم ، وأثبت؛ لموافقة قراءة العامة » انتهى .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يمتنع أن تكون « ما » شرطية على هذه القراءة ، كما امتنع ذلك فيها على قراءة العامة؟
فالجواب : أن العلة إن كانت رفعَ الفعل ، وعدم جَزْمه - كما قال به الزمخشريّ وابن عطية - فهي مفقودة في هذه القراءة؛ لأن الماضيَ مبني اللفظ ، لا يظهر فيه لأداة الشرط عملٌ وإن كانت العلة أن النية به التقديم ، فيلزم عَوْدُ الضميرِ على متأخِّرٍ لفظاً ورُتْبةًن فهي أيضاً مفقودة فيها؛ إذ لا دَاعِيَ يدعو إلى ذلك .
قوله - هنا - على بابها ، من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوعِ غيره ، وعلى هذا ففي الكلام حذفان :
أحدهما : حذف مفعول « تَوَدُّ » .
والثاني : حذف جواب « لَوْ » ، والتقدير فيها : تود تباعُدَ ما بينها وبينه لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً لسُرَّت بذلك ، أو لفرحت ونحوه . والخلاف في « لو » بعد فعل الودادة وما بمعناه أنها تكون مصدرية كما تقدم تحريره في البقرة ، يبعد مجيئه هنا؛ لأن بعدها حرفاً مصدرياً وهو « أن » .
قال أبو حيان : ولا يباشر حرف مصدري حرفاً مصدرياً إلا قليلاً كقوله تعالى : { إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 23 ] ، قال شهاب الدين : إلا قليلاً يشعر بجوازه ، وهو لا يجوز ألبتة ، وأما الآية التي أوردها فقد مضى النحاة على أن ما زائدة .
وقد تقدم الكلام في « أنَّ » الواقعة بعد « لَوْ » هذه ، هل محلها الرفع على الابتداء ، والخبر محذوفٌ - كما ذهب إليه سيبويه - أو أنها في محل رفع بالفاعلية بفعل مقدَّر ، أي : لو ثبت أن بينها وما قال الناس في ذلك وقد زعم بعضهم أن « لو » - هنا - مصدرية ، هي وما في حيزها من معنى المفعول لِ « تَوَدُّ » ، أي تود تباعد ما بينها وبينه ، وفي ذلك إشكال ، وهو دخول حرف مصدري على مثله ، لكن المعنى على تسلط الوداد على « لو » وما في حيِّزها لولا المانع الصناعي . والأمد : غاية الشيء ومنتهاه ، وجمعه آماد - نجو أجل وآجال - فأبدِلَت الهمزةُ ألِفاً ، لوقوعها ساكنةً بعد همزةِ « أفعال » .
قال الراغب : « الأمَد والأبد متقاربان ، لكن الأبد عبارة عن مدة الزمانِ التي ليس لها حَدٌّ محدود ، وَلا يتقيد فلا يقال : أبَدَ كذا والأمد مدة لها حَدٌّ مجهول إذا أطلق ، وقد ينحصر إذا قيل : أمَد كذا ، كما يقال : زمان كذا ، والفرق بين الأمد والزمان ، أن الأمد يقال لاعتبار الغايةِ ، والزمان عام في المبدأ والغاية ولذلك قال بعضهم : المدى والأمد يتقاربان » .
فصل
المعنى : { تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ } يعني : لو أن بين النفس وبين السوء أمداً بعيداً .
قال السُّدِّيُّ : مكاناً بعيداً .
وقال مقاتلٌ : كما بين المَشرق والمَغْرِب؛ لقوله تعالى : { ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين } [ الزخرف : 38 ] .
قال الحسنُ : يسر أحدهم أن لا يلقى عمله أبداً .
اعلم أن المقصود تَمَني بُعْدِه ، سواء حملنا لفظ الأمَد على الزمان ، أو على المكان .
ثم قال : { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } وهو تأكيد للوعيد ، ثم قال : { والله رَؤُوفُ بالعباد } وفيه وجوه :
الأول : أنه رؤوفٌ بهم ، حَيْثُ حذَّرهم من نفسه ، وعرفهم كمالَ علمِه وقدرتهِ ، وأنه يُمْهِل ولا يُهْمِل ، ورغبهم في استيجاب رحمته ، وحذَّرهم من استحقاق غضبه .
قال الحسنُ : « ومن رأفته بهم أن حذَّرَهُم نفسه » .
الثاني : أنه رؤوف بالعباد ، حيث أمْهَلَهُمْ للتوبة والتدارك والتَّلاَفِي .
الثالث : أنه لما قال : { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } - وهو للوعيد - أتبعه بالوعد ، وهو قوله : { والله رَؤُوفُ بالعباد } ، ليعلم العبد أن وَعْدَ رحمته غالب على وعيده .
الرابع : أن لفظ « العباد » في القرآن مختص بالمؤمنين ، قال تعالى : { وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً } [ الفرقان : 63 ] ، وقال : { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله } [ الإنسان : 6 ] ، فعلى هذا لما ذكر وعيد الكفار والفساق ذكر وعد أهل الطاعة ، فقال : { والله رَؤُوفُ بالعباد } ، أي : كما هو منتقم من الكفار والفساق فهو رؤوف بالعباد المطيعين .

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
قرأ العامة « تُحِبُّونَ » - بضم حرف المضارعة ، من « أحَبَّ » وكذلك { يُحْبِبْكُمُ الله } .
وقرأ ابو رجاء العُطَارِديّ « تَحِبُّون ، يَحْبِبْكم » بفتح حرف المضارعة - من حَبَّ - وهما لغتان ، يقال حَبَّه يَحُبُّه - بضم الحاء وكسرها في المضارع - وأحَبَّهُ يُحبُّهُ .
وحكى أبو زيد : حَبَبْتُهُ ، أحِبُّه .
وأنشد :
1410- فَوَاللهِ لَوْلاَ ثُمْرُهُ مَا حَبَبْتُهُ ... وَلاَ كَانَ أدْنَى مِنْ عُوَيفٍ وَمُشرِقِ
ونقل الزمخشريُّ : قراءة يحبكم - بفتح الياء والإدغام - وهو ظاهر ، لأنه متى سكن المثلين جَزْماً ، أو وقْفاً جاز فيه لغتان : الفك والإدغام . وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله في المائدة .
والحُبّ : الخَابِيَة - فارسيّ مُعَرَّب - والجمع : حِباب وحِبَبَة ، حكاه الجوهريُّ .
وقرأ الجمهور « فَاتَّبِعُونِي » بتخفيف النون ، وهي للوقاية .
وقرأ الزُّهري بتشديدها ، وخُرِّجَتُ على أنه ألحق الفعل نون التأكيد ، وأدغمها في نون الوقاية وكان ينبغي له أن يحذف واوَ الضمير؛ لالتقاء الساكنين ، إلا أنه شبَّه ذلك بقوله : { أتحاجواني } وهو توجيه ضعيف ولكن هو يصلح لتخريج هذا الشذوذ .
وطعن الزجاجُ على من روى عن أبي عمرو إدغام الراء من « يغفر » في لام « لكم » .
وقال : هو خطأ وغلط على أبي عمرو . وقد تقدم تحقيقه ، وأنه لا خطأ ولا غلط ، بل هو لغة للعرب ، نقلها الناس ، وإن كان البصريون لا يُجِيزون ذلك كما يقول الزجاج .
فصل
اعلم أنه - تعالى - لما دعاهم إلى الإيمان به وبرسولِه على سبيل التهديدِ والوعيد دعاهم إلى ذلك بطريق آخرَ ، وهو أن اليهود كانوا يقولون : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] فنزلت هذه الآية .
وروي الضحاك - عن ابن عباس - أن النبي وقف على قريش - وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام وقد علقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها السيوف .
- فقال : يا معشر قريش ، والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم ، فقالت قريش : إنما نعبدها حباً لله : { لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] ، فقال الله - تعالى- : « قل » يا محمد { إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله } فتعبدون الأصنام لتقربكم إليه { فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله } فأنا رسولُه إليكم ، وحجتُه عليكم أي اتبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله .
وقال القرطبي : « نزلت في وفد نجرانَ؛ إذْ زعموا أنّ ما ادَّعَوْه في عيسى حُبٌّ لله عز وجل » .
وروي أن المسلمين قالوا : يا رسول الله ، والله إنا لنحب رَبَّنا ، فأنزل الله - عز وجل - { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني } [ آل عمران : 31 ] .
قال ابن عرفة : المحبة - عند العرب - إرادة الشيء على قَصْدٍ له .
وقال الأزهري : محبة العبد لله ورسوله طاعته لهما ، واتباعه أمرهما ، قال تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني } [ آل عمران : 31 ] [ ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران ، قال الله تعالى : { فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } [ آل عمران : 32 ] ، أي : لا يغفر لهم ] .
قال سهل بن عبد الله : علامة حُبُّ الله حُبَّ القرآن ، وعلامة حب القرآن حبُّ النبي ، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة ، وعلامة حب السنة ، حب الآخرة ، وعلامة حب الآخرة ، أن لا يحب نفسه ، وعلامة أن لا يحب نفسه أن يبغض الدنيا ، وعلامة بغض الدنيا أن لا يأخذ منها إلا الزاد والبُلْغَة .
قوله : { قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول } الآية قيل : إنه لما نزلت هذه الآية ، قال عبد الله بن أبي لأصحابه : إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله ، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارَى عيسى - عليه السلام - فنزل قوله : { قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ } أعرَضوا عنها { فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } لا يَرْضَى فعلَهم ولا يغفر لهم .
والمعنى : إنما أوجب الله عليكم طاعتي ، ومتابعتي - لا كما تقول النصارى في عيسى ، [ بل لكوني رسولاً من عند الله ] .
قوله : { فإِن تَوَلَّوْاْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مضارعاً ، والأصل « تَتَوَلُّوْا » فحذف إحدى التاءين كما تقدم ، وعلى هذا ، فالكلام جارٍ على نسق واحدٍ ، وهو الخطاب .
والثاني : أن يكون فعلاً ماضياص مسنداً لضمير غيب ، فيجوز أن يكون من باب الالتفاتِ ، ويكون المراد بالغُيَّبِ المخاطبين في المعنى ، ونظيره قوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] .
فصل
روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « كُلُّ أمتي يدخلونَ الجنة إلا مَنْ أبَى » قالوا : ومن يَأبَى؟ قال : « مَنْ أطَاعَني دَخَلَ الْجَنَّةَ ، ومَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى » .
قال جابر بن عبد الله : « جاء الملائكة إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم - وهو نائم - فقال بعضهم : إنه نائم ، وقال بعضهم : إن العين نائمة ، والقلب يقظان ، فقالوا : إن لصاحبكم هذا مَثَلاً ، فاضربوا له مَثَلاً ، فقالوا : مثله كمثل رجل بنى داراً ، وجعل فيها مأدُبَةً ، وبعث داعياً ، فمن أجاب الداعي دَخل الدارَ ، وأكل من المأدبةِ ، ومن لم يجب الداعيَ لم يدخل الدارَ ، ولم يأكُلْ من المأدُبَةِ ، فقالوا : أوِّلُوها له بفقهها ، فقال بعضهم : إنه نائم ، وقال بعضهم : إن العينَ نائمة والقلب يقظانُ ، قالوا : فالدار الجنة ، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم من أطاع محمداً فقد أطاع الله ، ومن عَصَى محمداً فقد عصى الله ، ومحمد صلى الله عليه وسلم فَرَقَ بين الناس » .
روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من أراد أن يحبه اللهُ عليه بصدقِ الحديثِ ، وأداء الأمانة وأن لا يؤذِي جاره » وروى مسلم - عن أبي هريرة - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
« إنَّ الله إذا أحبَّ عبداً دعا جبريلَ فقال : إنِّي أحِبُّ فلاناً ، فأحبه ، قال : فيحبه جبريلُ ، ثم ينادي في السماء ، فيقول : إن الله يُحب فلاناً فأحبوه ، فيحبه أهلُ السّماءِ ، قال : ثم يُوضَع له القبولُ في الأرض ، وإذا أبغض عبداً دعا جبريلَ فيقول : إني أبْغِضُ فلاناً فأبْغِضْهُ ، قال : فيبغضه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يبغض فلاناً فأبْغِضُوه ، قال فيبغضونه ، ثم تُوضَع له البَغْضَاءُ في الأرض » .
وقال : { فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } ولم يَقُلْ : فإنه لا يحب؛ لأن العرب إذا عظَّمت الشيءَ أعادت ذِكْرهَ ، أنشد سيبويه [ قول الشاعر ] : [ الخفيف ]
1411- لا أرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ ... نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرا
ويحتمل أن يكون لأجل أنه تقدم ذِكْرُ الله والرسول ، فذكره للتمييز؛ لَئِلاّ يعودَ الضمير على الأقْرَبِ .

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
لما بين - تعالى - أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسول بين علو درجات الرُّسُل فقال : « إنَّ اللهَ اصطفى آدم ونوحاً » « نوح » اسم أعجمي ، لا اشتقاق له عند محققي النحويين ، وزعم بعضهم أنه مشتق من النُّواح . وهذا كما تقدم لهم في آدم وإسحاق ويعقوب ، وهو منصرف وإن كان فيه عِلَّتان فَرعيَّتان : العلمية والعجمة الشخصية - لخفّة بنائه؛ لكونه ثلاثياً ساكن الوسط ، وقد جوَّز بعضهم منعَه؛ قياساً على « هند » وبابها لا سماعاً؛ إذْ لم يُسمَع إلا مصروفاً وادعى الفرّاء أن في الكلام حذفَ مضاف ، تقديره : إن الله اصطَفى دينَ آدمَ .
قال التبريزي : « وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنه لو كان الأمر على ذلك لقيل : ونوحٍ - بالجر - إذ الأصل دين آدم ودين نوح » .
وهذه سقطة من التبريزيُّ؛ إذْ لا يلزم أنه إذا حُذِفَ المضاف ، بقي المضاف إليه [ على جره ] - حتى يرد على الفراء بذلك ، بل المشهور - الذي لا يعرف الفصحاء غيره - إعراب المضاف إليه بإعراب المضاف حين حذفه ، ولا يجوز بقاؤه على جرِّه إلا في قليل من الكلام ، بشَرْطٍ مذكورٍ في النحو يأتي في الأنفال إن شاء الله تعالى .
وكان ينبغي - على رأي التبريزيّ : أن يكون قوله تعالى : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] بجر « القرية » ؛ لأن الكُلَّ هو وغيره - يقولون : هذا على حَذْف مضاف ، تقديره : أهل القرية .
قال القرطبيُّ : « وهو - نوح - شيخُ المرسلين ، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض - بعد آدم - عليه الصلاة والسلام - بتحريم البنات ، والأخوات ، والعمات ، والخالات ، وسائر القرابات المحرمة ، ومن قال - من المؤرخين - إن إدريس كان قبلَه فقد وهم » على ما يأتي بيانه في الأعراف - إن شاء الله تعالى .
وعمران اسم أعجميٌّ .
وقيل : عربيّ ، مشتق من العَمْر ، وعلى كلا القولين فهو ممنوع من الصرف؛ للعلمية ، و العُجْمة الشخصية ، وإما للعلمية ، وزيادة الألِف والنون .
قوله : { عَلَى العالمين } متعلق ب « اصْطَفَى » .
قوله : « اصْطَفَى » يتعدى ب « مِنْ » نحو اصطفيتك مِن الناس .
فالجواب : أنه ضُمِّنَ معنى « فَضَّل » ، أي : فضَّلَهُم بالاصطفاء .
فصل
اعلم أن المخلوقات على قسمين : مكلَّف ، وغير مكلَّف ، واتفقوا على أن المكلَّف أفضل . وأصناف المكلفين أربعة : الملائكة ، والإنس ، والجن ، والشياطين .
أما الملائكة فقد روي أنهم خُلِقوا من الريح ، ولهذا قدروا على الطيران ، وعلى حمل العرش ، وسُمُّوا روحانيين
وروي أنهم خُلِقوا من النور ، ولهذا صَفَتْ وأخلصت لله - تعالى - ويُمْكن الجمع بين الروايتين بأن نقول : أبدانهم من الريح ، وأرواحهم من النور وهؤلاء سكان عالم السموات .
أما الشياطين فهم كفرة ، أما إبليس فكُفْره ظاهر؛ لقوله تعالى : { وَكَانَ مِنَ الكافرين } [ البقرة : 34 ] . وأما سائر الشياطين فكفرة؛ لقوله تعالى : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 121 ] .
ومن خواص الشياطين أنهم أعداء للبشر ، قال تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } [ الكهف : 50 ] وقال : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] .
وهم مخلوقون من النار؛ لقوله تعالى - حكاية عن إبليس- : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } [ الأعراف : 12 ] .
وأما الجن فمنهم كافر ، ومنهم مؤمن ، قال تعالى : { وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون } [ الجن : 14 ] .
وأما الإنس فوالدهم الأول آدم؛ لقوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] وقوله : { الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] .
واتفق العقلاءُ على أن البشر أفضل من الجنِّ والشياطين ، واختلفوا هل البشر أفضل أم الْمَلَك؟ كما قدمناه في البقرة ، واستدل القائلون بأن البشر أفضل بهذه الآية؛ لأن الاصطفاء يدل على مزيد الكرامة ، وعُلُوِّ الدرجة ، فكما بيّن - تعالى - أنه اصطفى آدم وأولادَه من الأنبياء على كل العالمين ، وجب أن يكونوا أفضل من الملائكة؛ لأنهم من العالمين .
فإن قيل : إن حملنا هذه الآية على تفضيل المذكورين فيها على كل العالمين أدى إلى التناقض؛ لأن الجمع الكثير إذا وُصفُوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين ، يلزم كون كل واحد منهم أفضل من الآخر وذلك محالٌ ، ولو حملناه على كونه أفضل المعنى ، دفعاً للتناقض وأيضاً قال تعالى - في صفة بني إسرائيل - { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } [ البقرة : 47 ] ولا يلزم كونهم أفضل من محمَّد صلى الله عليه وسلم بل قلنا : المراد به عالمو زمان كل واحد منهم ، فكذا هنا .
فالجواب أن ظاهر قوله : اصْطَفَى آدم على العالمين ، يتناول كل مَنْ يَصِحُّ إطلاق لفظ « العالم » عليه فيندرج فيه الملك ، غاية ما في الباب أنه تُرِكَ العملُ بعمومه - في بعض الصور - لدليل قام عليه فلا يجوز أن يتركه في سائر الصور من غير دليل .
فصل
الاصطفاء - في اللغة - الاختيار فمعنى اصْطَفاهُم : أي : جعلهم صفوةَ خلقه تمثيلاً بما يُشَاهَد من الشيء الذي يُصَفَّى من الكدورة ، ويقال : صفَّاهم صَفْوَةً ، وصِفْوَةً ، وصُفْوَةً .
ونظير هذه الآية قوله - لموسى- : { إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس } [ الأعراف : 144 ] .
وقال في إبراهيم وإسحاق ويعقوب : { وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار } [ ص : 47 ] وفي الآية قولان :
أحدهما : المعنى أ ، الله اصطفى دين آدمَ ودين نوح - على حذف مضاف - كما تقدم .
الثاني : أن الله اصطفاهم؛ أي : صفَّاهم من الصفاتِ الذميمة ، وزينهم بالصفات الحميدة ، وهذا أولى لعدم الاحتياج إلى الإضمار ، ولموافقة قوله : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] .
فصل
قيل : اختار الله آدم بخمسة أشياءٍ :
أولها : أنه خلقه بيده في أحسن صورة بقدرته .
الثاني : أنه علَّمه الأسماء كلَّها .
الثالث : أنه أمر الملائكة أن يسجدوا له .
الرابع : أنه أسكنه الجنة .
الخامس : أنه جعله أبا البشر .
واختار نوحاً بخمسة أشياءٍ :
أولها : أنه جعله أبا البشر - بعد آدم-؛ لأن الناس كلَّهم غرقوا ، وصار ذريته هم الباقين .
الثاني : أنه أطال عمره ، ويقال : « طوبى لمن طال عمره وحسن عمله » .
الثالث : أنه استجاب دعاءه على الكافرين والمؤمنين .
الرابع : أنه حمله على السفينة .
الخامس : أنه كان أول من نسخ الشرائع ، وكان قبل ذلك لم يُحَرَّم تزويج الخالات والعمات .
واختار إبراهيم بخمسة أشياءٍ :
أولها : أنه خرج منها جراً إلى ربه ليَهْدِيه .
الثاني : أنه اتخذه خليلاً .
الثالث : أنه أنجاه من النار .
الرابع : أنه جعله للناس إماماً .
الخامس : أنه ابتلاه بالكلمات فوفقه حتى أتمهن .
وأما آل عمران فإن كان عمران أبا موسى وهارون فإنهم اختارهما على العالمين؛ حيث أنزل على قومهما المن والسلْوى ، وذلك لم يكن لأحد من الأنبياء في العالم وإن كان عمران أبا مريم فإنه اصطفى مريم بولادة عيسى من غير أب ، ولك لم يكن لأحد من العالمين والله أعلم .
فصل
ذكر الحليمي في كتابه - المنهاج للأنبياء - قال : لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القُوَى الجسمانية ، والقوى الروحانية ، أما القوى الجسمانية ، فهي إما مُدْرِكة ، وإمَّا محرِّكة؛ أما المدركة فهي إما الحواس الظاهرة ، وإما الحواس الباطنة ، أما الحواس الظاهرة فهي خمسة :
أحدها : القوة الباصرة ، فكان صلى الله عليه وسلم مخصوصاً بكمال هذه الصفة ، لقوله : « زويت لي الأرض ، فأريت مشارقها ومغاربها » وقوله : « أقيموا صفوفكم وتراصوا؛ فإني أراكم من وراء ظهري » ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم - عليه السلام - قال تعالى : { وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض } [ الأنعام : 75 ] وذكر في تفسيرها أنه - تعالى قَوَّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت من الأعلى والأسفل .
قال الحليمي : وهذا غير مُسْتبعَد؛ لأن البُصراء يتفاوتون ، فيُرْوَى أن زرقاء اليمامةِ كانت تُبْصِر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام ، فلا يبعد أن يكون بَصَرُ النبي صلى الله عليه وسلم أقْوَى من بصرها .
وثانيها : القوة السامعة ، فكان - عليه السلام - أقوى الناسِ في هذه القوة؛ لقوله : « أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد لله تعالى » .
وسمع أطيط السماء وسمع دوياً فذكر أنه هويّ صخرة قذفت في جهنم ، فلم تبلغ مقرها إلى الآن .
قال الحليمي : ولا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا؛ فإنهم زعموا أن فيثاغورث راضَ نفسه حتى سمع حفيف الفلك . ونظير هذه القوة لسليمان - عليه السلام - في قصة النملة حيث قالت : { ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ }
[ النمل : 18 ] فالله - تعالى - أسمع سليمان كلامَ النملة ، وأوقفه على معناه وحصل ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم حين تكلم مع الذئب والبعير والضَّبِّ .
وثالثها : تقوية قوة الشَّمِّ ، كما في حق يعقوب - حين قال : { إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ } [ يوسف : 94 ] فأحسّ بها من مسيرة ثلاثة أيامٍ .
ورابعها : تقوية قوة الذوقِ ، كما في حق نبيِّنَا صلى الله عليه وسلم حين قال : « إن هذا الذراع يخبرني بأنه مسموم » .
خامسها : تقوية قوة اللمس ، كما في حق الخليل - عليه السلام - حيث جُعِلَتْ له النارُ بَرْداً وسلاماً وكيف يستبعد هذا ويُشَاهَد مثلُه في السَّمَنْدَل ، والنعامة .
وأما الحواس الباطنة فمنها : قوة الحفظ ، قال تعالى : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] ، ومنها : قوة الذكاء : قال عليٌّ - رضي الله عنه - : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف باب من العلم ، واستنبط من كلّ باب ألف باب . فإذا كان حال الولي هكذا فكيف حال النبي صلى الله عليه وسلم ؟
أما القوى المحرِّكة ، فمثل عروج الرسول إلى المعراج ، وعروج عيسى حيًّا إلى السماء ، ورَفْع إدريس وإلياس - على ما وردت به الأخبار - قال تعالى : { قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } [ النمل : 40 ] .
وأما القوة الروحانية العقلية ، فلا بد أن تكون في غاية الكمال ، ونهاية الصفاء ، إذا عرفت هذا فقوله : { إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحاً } معناه أن الله اصطفى آدم ، إمَّا من سكان العالم السفلي - على قول من يقول : الملك أفضل من البشر - أو من سكان العالم العلويّ والسفليّ - على قول من يقول : البشر أفضل المخلوقات - ثم وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة ، من أولاد آدم ، وهم شيث وأولاده ، إلى إدريس ، ثم إلى نوح ، ثم إلى إبراهيم ، ثم حصل من إبراهيم شعبتان : إسماعيل وإسحاق فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وجعل إسحاق مبدأ لشعبتين يعقوب وعيصو ، فوضع النبوة في نسل يعقوب ووضع الملك في نسل عيصو ، واستمرَّ ذلك غلى زمان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلما ظهر محمد نُقِل نور النبوة ، ونور الملك إليه ، وبقيا - أعني الدين والملك لا تباعد بينهما إلى قيام الساعة .
فصل
من الناس من قال : المرادُ بآل إبراهيم : المؤمنون ، لقوله تعالى : { أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } [ غافر : 46 ] والصحيح أن المراد بهم الأولاد : إسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم .
وقيل : المراد بآل إبراهيم وآل عمران إبراهيم وعمران نفسهما؛ لقوله : { وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ } [ البقرة : 248 ] ، وقوله : صلى الله عليه وسلم « لَقَد أعُطيَ مِزْمَاراً مِنْ مَزِامِيرِ آله دَاوُد » .
وقال الشاعر : [ الطويل ]
1412- وَلاَ تَنْسَ مَيْتاً بَعْدَ مَيْتٍ أجَنَّهُ ... عَلِيٌّ وعَبَّاسٌ وَآلُ أبِي بَكْرِ
وقال الآخر : [ الوافر ]
1413- يُلاَقِي مِنْ تَذَكر آل لَيْلَى ... كَمَا يَلْقَى السَّليمُ مِنَ العِدَادِ
وقيل : المراد من آل عمران عيسى - عليه السلام - لأن أمه ابنة عمران .
وأما عمران فقيل : والد موسى ، وهارون ، وأتباعهما من الأنبياء .
وقال الحسن ووهب : المراد عمران بن ماثان ، أبو مريم ، وقيل اسمه عمران بن أشهم بن أمون ، من ولد سليمان وكانوا من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم الصلاة والسلام - قالوا : وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة واحتج من قال بأنه والد مريم بذكر قصة مريم عقيبه .
قوله : { ذُرِّيَّةَ } في نَصْبها وجهان :
أحدهما : أنها منصوبة على البدل مما قبلها ، وفي المُبْدَل منه - على هذا - ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بدل من « آدَمَ » وما عُطِفَ عليه وهذا إنَّمَا يتأتَّى على قول من يُطْلِق « الذُّرِّيَّة » على الآباء وعلى الأبناء وإليه ذَهَب جماعةٌ .
قال الجرجاني : « الآية توجب أن تكون الآباء ذرية للأبناء والأبناء ذرية للآباء . وجاز ذلك؛ لأنه من ذرأ الخلق ، فالأب ذُرِئ منه الولد ، والولد ذرئ من الأب » .
قال الراغبُ : « الذرية يقال للواحد والجمع والأصل والنسل ، لقوله تعالى : { حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } [ يس : 40 ] أي : آباءهم ، ويقال للنساء : الذراريّ » . فعلى هذين القولين صَحَّ جَعْل « ذُرِّيَّةٌ » بدَلاً من « آدم » بما عطف عليه .
قال أبو البقاء : « ولا يجوز أن يكون بدلاً من » آدم « ؛ لأنه ليس بذريته » ، وهذا ظاهر إن أراد آدَمَ وحده دون مَنْ عُطِف عليه ، وإن أراد « آدم » ومَنْ ذُكِرَ معه فيكون المانع عنده عدم جواز إطلاق الذُّرِّيَّة على الآباء .
الثاني - من وجهي البدل - أنها بدل من « نُوح » ومَنْ عطف عليه ، وإليه نحا أبو البقاء .
الثالث : أنها بدل من الآلين - أعني آل إبراهيمَ وآل عمرانَ - وإليه نحا الزمخشريُّ . يريد أن الأولين ذرية واحدة .
الوجه الثاني - من وجهي نصب « ذُرِّيَّةً » - النصب على الحال ، تقديره : اصطفاهم حال كونهم بعضهم من بعض ، فالعامل فيها اصطفى . وقد تقدم القول في اشتقاق هذه اللفظة .
قوله : { بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } هذه الجملة في موضع نصب ، نعتاً لِ « ذُرِّيَّةً » .
فصل
قيل : { بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } أي : بعضها من وَلَد بعض .
وقال الحسن وقتادة : { بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } في الضلالة .
وقيل : في الاجتباء والاصطفاء والنبوة .
وقيل : بعضها من بعض في التناصُر .
وقيل : بعضها على دين بعض - أي : في التوحيد ، والإخلاص ، والطاعة كقوله { المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } [ التوبة : 67 ] ، أي : بسبب اشتراكهم في النفاق .
قوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } قال القفَّال : والله سميع لأقوال العباد ، عليم بضمائرهم ، وأفعالهم ، يصطفي من يعلم استقامته قولاً وفعلاً ، ونظيره قوله : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] .
وقيل : إن اليهود كانوا يقولون : نحن من ولد إبراهيم ، وآل عمران ، فنحن أبناء الله ، والنصارى كانوا يقولون المسيح ابن الله ، وكان بعضهم عالماً بأن هذا الكلامَ باطل ، إلا أنه بقي مصراً عليه ، ليُطَيِّب قلوبَ العوامِّ ، فكأنه - تعالى - يقول : والله { سَمِيعٌ } لهذه الأقوالِ الباطلةِ منكم ، « عليم » بأغراضكم الفاسدةِ من هذه الأقولال ، فيجازيكم عليها ، فكان أول الآية بياناً لشرف الأنبياءِ والرسل وتهديداً لهؤلاء الكاذبين الذين يزعمون أنهم مستقرون على أديانهم .

إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
في الناصب لِ « إذْ » أوجه :
أحدها : أنه « اذكر » مقدَّراً ، فيكون مفعولاً به لا ظرفاً ، أي : اذكر لهم وقت قول امرأة عمران كيت وكيت وإليه ذهب ابو الحسن وأبو العباس .
الثاني : أن الناصب له معنى الاصطفاء ، أي : « اصْطَفَى » مقدَّراً مدلولاً عليه ب « اصْطَفَى » الأوَّل والتقدير : واصطفى آل عمران - إذ قالت امرأة عمران . وعلى هذا يكون قوله : { وَآلَ عِمْرَانَ } [ آل عمران : 33 ] من باب عطف الجمل لا من باب عطف المفردات؛ إذ لو جُعِل من عطف المفردات لزم أن يكون وقتُ اصطفاءِ آدمَ وقول امرأةِ عمران كيت وكيت ، وليس كذلك؛ لتغاير الزمانَيْن ، فلذلك اضطررنا إلى تقدير عامل غير هذا الملفوظِ به ، وإلى هذا ذَهَبَ الزَّجَّاجُ وغيره .
الثالث : أنه منصوب ب « سميع » وبه صرح ابن جرير الطبري ، وإليه نحا الزمخشري؛ فإنه قال : سميع عليم لقول امرأة عمران ونِيَّتها ، و « إذْ » منصوب به .
قال أبو حيّان : ولا يَصِحُّ ذَلِكَ؛ لأن قوله : { عَلِيمٌ } إمّا أن يكون خبراً بعد خبر ، أو وصفاً لقوله : « سميع » فإن كان خبراً فلا يجوز الفصل به بين العامل والمعمول؛ لأنه أجنبيٌّ عنهما ، وإن كان وَصْفاً فلا يجوز أن يَعْمَل { سَمِيعٌ } في الظرف؛ لأنه قَدْ وُصِفَ ، واسم الفاعل وما جرى مجراه إذا وُصِفَ قَبْلَ معموله لا يجوز له - إذ ذاك - أن يعمل ، على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك؛ لأن اتصافه تعالى ب { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } لا يتقيد بذلك الوقت .
قال شهابُ الدين : « وهذا القدر غيرُ مانع؛ لأنه يُتَّسَع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسَع في غيره ، ولذلك تقدم على ما في خبر » أل « الموصولة وما في خبر » أن « المصدرية » .
وأما كونه - تعالى - سميعاً عليماً لا يتقيد بذلك الوقت ، فإن سَمْعَه لذلك الكلام مقيَّد بوجود ذلك الكلام ، وعلمه - تعالى - بأنها تذكر مقيَّد بذكرها لذلك ، والتغيُّر في السمع والعلم ، إنما هو في النسبِ والتعلُّقات .
الرابع : أن تكون « إذْ » زائدةً ، وهو قول أبي عُبَيْدَةَ ، والتقدير : قالت امرأة عمرانَ ، وهذا غلط من النحويين ، قال الزّجّاج لم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئاً؛ لأن إلغاء حرفٍ من كتاب الله تعالى - من غير ضرورةٍ لا يجوز ، وكان أبو عبيدة يُضَعَّفُ في النحو .
الخامس : قال الأخفش والمُبَرِّد : التقدير : « ألم تر إذْ قالت امرأة عمران ، ومثله في كتاب الله كثير » .
فصل
امرأة عمران هي حَنَّة بنت فاقوذا أم مريم ، وهي حنة - بالحاء المهملة والنون - وجدة عيسى - عليه السلام - وليس باسم عربي .
قال القرطبيُّ : « ولا يُعْرَف في العربية » حنة « : اسم امرأة - وفي العرب أبو حنة البدريّ ، ويقال فيه أبو حبة - بالباء الموحَّدة - وهو أصح ، واسمه عامر ، ودير حنة بالشام ، ودير آخر أيضاً يقال له كذلك .
قال أبو نواس :
1414- يَا ديرَ حَنَّةَ مِنْ ذَاتِ الأكَيْرَاحِ ... مَنْ يَصْحُ عَنْكِ فَإنِّي لَسْتُ بِالصَّاحِي
وفي العرب كثير ، منهم أبو حبة الأنصاريّ وأبو السنابل بن بعْكك - المذكور في حديث سبيعة الأسلمية ، ولا يعرف » خَنَّة « - بالخاء المعجمة - إلا بنت يحيى بن أكثم ، وهي أم محمد بن نصر ، ولا يُعْرَف » جَنَّة « - بالجيم - إلاَّ أبو جنة وهو خال ذي الرمة الشاعر ، نقل هذا كله ابنُ ماكولا » .
وعمران بن ماثان ، وليس بعمران أبي موسى ، وبينهما ألف وثمانمائة سنة ، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم .
وقيل : عمران بن أشهم ، وكان زكريا قد تزوَّج إيشاع بنت فاقوذ ، وهي أخت حنة أم مريم ، فكان يحيى بن زكريا ومريم عليهما السلام ولدي خالة ، وفي كيفية هذا النذر روايات .
قال عكرمةُ : إنها كانت عاقراً لا تلد ، وتغبط النساء بالأولاد ، فقالت : اللهم إن لك علي نذراً إن رزقتني ولداً ن أتصدَّقَ به على بيتك المقدَّس ، فيكونَ من سَدَنَتِهِ .
الثانية : قال محمد بن إسحاق : إن أم مريم ما كان يحصل لها ولد ، فلما شاخت جلست يوماً في ظل شجرة فرأت ظائراً يُطْعِم فِراخًاً له فتحركت نفسها للولد ، فدعت رَبَّها أن يَهَبَ لها وَلَداً ، فحملت مريم وهلك عمران - فلما عرفت جعلته لله محرراً - أي : خادماً للمسجد .
قال الحسن البصري : إنما فعلت ذلك بإلهام من الله - تعالى - ولولاه لما فعلت ، كما رأى إبراهيم - عليه السلام - ذبحَ ابنه في المنام فعلم أن ذلك أمر الله تعالى - وإن لم يكن عن وحي ، وكما ألهم الله أمَّ موسى بقَذْفه في اليم وليس بوحي ، فلما حررت ما في بطنها - ولم تعلم ما هو ، قال لها زوجها : ويحكِ : ما صنعتِ؟ أرأيت إن كان ما في بطنك أنثَى لا يصح لذلك؟ فوقعوا جميعاً في هَمٍّ من ذلك ، فهلك عمران وحنة حامل بمريم { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى } .
قوله : « مُحَرَّراً » في نَصبه أوجه :
أحدها : أنها حال من الموصول - وهو { مَا فِي بَطْنِي } - فالعامل فيها « نذرت » .
الثاني : أنه حال من الضمير المرفوع بالجار؛ لوقوعه صلة « ما » وهو قريب من الأول ، فالعامل الاستقرار الذي تضمنه الجار والمجرور .
الثالث : أن ينتصب على المصدر؛ لأن المصدرَ يأتي على زِنَةِ اسم المفعول من الفعل الزَّائد على ثلاثة أحرف ، وعلى هذا ، فيجوز أن يكون في الكلام حذفُ مضاف ، تقديره : نذرتُ لك ما في بطني نَذْرَ تحرير ، ويجوز أن يكون « ما » انتصب على المعنى؛ لأن معنى { نَذَرْتُ لَكَ } : حرَّرتُ لك ما في بطني تحريراً ، ومن مجيء المصدر بزنة المفعول مما زاد على الثلاثي قوله :
{ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] وقوله : { وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } [ الحج : 18 ] - في قراءة من فتح الراء - أي : كلَّ تمزيق ، فما له من إكرام .
ومثله قول : [ الوافر ]
1415- ألَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ الْقَوَافِي ... فَلاَ عِيًّا بِهِنَّ وَلاَ اجْتِلاَبَا
أي تسريحي القوافي .
الرابع : أن يكون نعتاً لمفعولٍ محذوفٍ ، تقديره : غلاماً مُحَرَّراً ، قاله مكيُّ بن أبي طالب - وجعل ابنُ عطية ، في هذا القول نظراً .
قال شهاب الدين : « وجه النظر فيه أن » نذر « قد أخذ مفعوله - وهو قوله : { مَا فِي بَطْنِي } فلم يتعد إلى مفعول آخرَ ، وهو نظر صحيح » .
وعلى القول بأنها حال يجوز أن تكون حالاً مقارنة إن أريد بالتحرير معنى العِتْق ومقدرة معنى خدمة الكنيسة - كما جاء في التفسير ، ووقف أبو عمرو والكسائي على « امرأة » بالهاء - دون التاء - وقد كتبوا « امرأة » بالتاء وقياسها الهاء هاهنا وفي يوسف « امرأة العزيز » موضعين - وامرأة نوح ، وامرأة لوط ، وامرأة فرعون ، وأهل المدينة يقفون بالتاء؛ إتباعاً لرسم المصحف ، وهي لغة للعرب يقولون في حمزة : حمزت .
وأنشدوا :
1416- وَاللهُ نَجَّاكَ بِكَفَّيْ مَسْلَمَتْ ... مِنْ بَعْدِمَا وَبعْدِمَا وَبَعْدِمَتْ
فصل
والنذر ما يوجبه الإنسان على نفسه وهذا النوع من النَّذْر كان في بني إسرائيل ، ولم يوجَد في شرعنا .
قال ابن العربي : « لا خلاف أن امرأة عمران لا يتطرق إلى حَمْلِها نذرٌ؛ لكونها حُرَّةٌ ، فلو كانت امرأته أَمَة فلا خلاف أن المرء لا يصح له نذر في ولده . وكيفما تصرفت حاله فإنه إن كان الناذرُ عبداً فلم يتقرر وله في ذلك ، وإن كان حُرًّا ، فلا يصح أن يكون ، مملوكاً له ، وكذلك المرأة مثله ، فأي وجه للنذر فيه؟ وإنما معناه - والله أعلم - أن المرء إنما يريدُ ولَده للأنس به والتسلّي ، والاستنصارِ ، فطلبت هذه المرأة أنساً به ، وسُكوناً إليه ، فلمَّا مَنَّ الله - تعالى - عليها به نذرَتْ أن حظها من الأنس متروك فيه ، وهو على خدمة الله - تعالى - موقوفٌ ، وهذا نَذْر الأحرار من الأبرار ، وأرادت به مُحَرَّراً من جهتي رق الدنيا وأشغالها .
قوله : { مَا فِي بَطْنِي } أتى ب » ما « التي لغير العاقلِ؛ لأن ما في بطنها مُبْهَمٌ أمرُه ، والمُبْهَم أمره يجوز أن يُعَبَّر عنه ب » ما « .
ومثاله أن تقول إذا رأيتَ شبحاً من بعيد لا تدري إنسان هو أم غيره : ما هذا؟ ولو عرفته إنساناً وجهلت كونه ذكراً أو أنثى ، قلت : ما هو أيضاً؟ والآية من هذا القبيل ، هذا عند مَنْ يرى أن » ما « مخصوصة بغير العاقل ، وأما من يرى وقوعها على العقلاء ، فلا يتأوَّل شيئاً .
وقيل : إنه لما كان ما في البطن لا تمييز له ولا عقل عبر عنه ب « ما » التي لغير العُقَلاء .
المحرر : الذي يُجْعَل حُرًّا خالصاً ، يقال : حرَّرت العبدَ - إذا أخلصته من الرق - وحرَّرْت الكتاب ، أي : أصلحته وخلصته من وجوه الغلط ، ورجل حُرّ : إذا كان خالصاً لنفسه ، وليس لأحد عليه تعلُّق .
والطين الحر : الخالص من الرمل والحمأة والعيوب ، فمعنى « مُحَرَّراً » ، أي : مُخْلصاً للعبادة ، قاله الشعبيُّ .
وقيل : خادماً للبيعة .
وقيل : عتيقاً من أمر الدنيا لطاعة الله .
وقيل : خادماً لمن يدرس الكتاب ، ويُعَلِّم في البيع .
والمعنى أنها نذرت أن تجعلَ الولدَ وَقْفاً على طاعة الله تعالى .
قيل : لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا شيء ، فكان تحريرهم جعلَهم أولادَهم على الصفة التي ذكرنا؛ وذلك؛ لأنه كان الأمر في دينهم أن الولد إذا صَارَ بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين ، فكانوا - بالنذر - يتركون ذلك النوعَ من الانتفاع ، ويجعلونهم محرَّرين لخدمة المسجد وطاعة الله تعالى .
وقيل : كان المحرر يجعل في الكنيسة - يقوم بخدمتها - حتى يبلغَ الحلم ، ثم يُخَيَّر بين المُقام والذهاب فإن أبي المقام ، وأراد أن يذهب ذهب ، وإن اختار المقام فليس له بعدَ ذلك خيار ، ولم يكن نبيّ إلا ومن نسله محرَّر في بيت المقدس .
وهذا التحرير لم يكن جائزاً إلا في الغلمان ، أما الجارية فكانت لا تصلح لذلك؛ لِمَا يُصِيبها من الحيض ، والأذى ، وحنَّةُ نذرت مطلقاً ، إما لأنها بنت الأمر على التقدير ، أو لأنها جعلت ذلك النذر وسيلةً إلى طلب الذكر ومعنى : نذرت لك أي لعبادتك ، وتقدم الكلام على النذر ، ثم قال تعالى - حاكياً عنها- : { فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } ، والتقبُّل : أخذ الشيء على الرضا ، قال الواحديُّ : « وأصله من المقابلة؛ لأنه يقابَل بالجزاءِ ، وهذا كلام مَن لم يرد بفعله إلا رضا الله - تعالى - والإخلاصَ في عبادته ومعنى { السميع } أي : لتضرعي ودعائي وندائي { العليم } بما في ضميري ونيَّتي .
قوله : { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } الضمير في » وضعتها « يعود على » ما « - من حيث المعنى-؛ لأن الذي في بطنها أنْثَى - في علم الله - فعاد الضمير على معناها دون لفظها .
وقيل : إنما أنث؛ حَمْلاً على مضيّ النسمة أو الْجِبلَّة أو النفس ، قاله الزمخشريُّ .
وقال ابنُ عطية : حملاً على الموجودة ، ورفعاً للفظ » ما « في قوله { مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } .
قوله : { أنثى } فيه وجهان :
أحدهما : أنها منصوبة على الحال ، وهي حال مؤكِّدَة؛ لأن التأنيث مفهوم من تأنيث الضمير ، فجاءت » أنثى « مؤكدة .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : كيف جاز انتصاب » أنثى « حالاً من الضمير في » وَضَعْتُهَا « وهو كذلك كقولك : وضعت الأنثى أنثى؟
قلت : الأصل وضعته أنثى ، وإنما أنث لتأنيث الحال؛ لأن الحالَ وذا الحال لشيء واحد ، كما أنث الاسم في من كانت أمك؛ لتأنيث الخبر ، ونظيره قوله تعالى : { فَإِن كَانَتَا اثنتين } [ النساء : 176 ] .
وأما على تأويل النسمة والجبلة فهو ظاهرٌ ، كأنه قيل : إني وَضَعْتُ النسمةَ أنثى » .
يعني أن الحال على الجواب الثاني - تكون مبيِّنة لا مؤكِّدة؛ وذلك لأن النسمة والجبلة تصدق على الذكر وعلى الأنثى ، فلما حصل الاشتراكُ جاءت الحال مبيِّنةً لها ، إلا أن أبا حيّان ناقشة في الجواب الأول ، فقال : وآل قوله - يعني الزمخشري - إلى أن « أنثى » تكون حالاً مؤكِّدة ، ولا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال عن أن يكون حالاً مؤكِّدة ، وأما تشبيهه ذلك بقوله : من كانت أمّك - حيث عاد الضمير على معنى « ما » - فليس ذلك نظير { وَضَعْتُهَآ أنثى } ؛ لأن ذلك حَمْلٌ على معنى « ما » إذ المعنى : اية امرأة كانت أمك ، أي كانت هي أي أمُّك ، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبرِ ، وإنما هو من باب الحملِ على معنى « ما » ولو فرضنا أنه من تأنيث الاسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير { وَضَعْتُهَآ أنثى } ؛ لأن الخبر تخصَّصَ بالإضافة غلى الضمير فاستفيد من الخبر ما لا يُستفاد من الاسم ، بخلاف « أنْثَى » فإنه لمجرَّد التأكيد ، وأما تنظيره بقوله : { فَإِن كَانَتَا اثنتين } . فيعني أنه ثَنَّى الاسمَ؛ لتثنية الخبر . والكلام يأتي عليه في مكانه إن شاء الله تعالى فإنها من المشكلات ، فالأحسن أن يُجعل الضمير - في { وَضَعْتُهَآ أنثى } - عائداً على النسمة أو النفس ، فتكون الحال مبيِّنة مؤكِّدة .
قال شهاب الدين : قوله : « ليس نظيرها؛ لأن من كانت أمك » حُمل فيه على معنى من ، وهذا أنث لتأنيث الخبر « ليس كما قال ، بل هو نظيره ، وذلك أنه في الآية الكريمة حُمل على معنى » ما « كما حمل هناك على معنى » من « ، وقول الزمخشري : » لتأنيث الخبر « أي لأن المرادَ ب » من « : التأنيث ، بدليل تأنيث الخبر ، فتأنيث الخبر بَيَّنَ لنا أن المراد ب » من « المؤنث كذلك تأنيث الحال وهو أنثى ، بيّن لنا أن المراد ب » ما « في قوله : { مَا فِي بَطْنِي } أنه شيءٌ مؤنث ، وهذا واضح لا يحتاج إلى فكر ، وأما قوله : » فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف { وَضَعْتُهَآ أنثى } ، فإنه لمجرد التوكيد « ليس بظاهر أيضاً؛ وذلك لأن الزمخشري إنما أراد بكونه نظيره من حيث إن التأكيد في كلّ من المثالين مفهوم قبل مجيء الحال في الآية وقَبْل مجيء الخبر في النظير المأما كونه يفارقه في شيء آخر لعارض ، فلا يضر ذلك في التنظير ، ولا يخرجه عن كونه يشبهه من هذه الجهة ، وقد تحصل لك في هذه الحالة وجهان :
أحدهما : أنها مؤكِّدة إن قلنا : إن الضمير في { وَضَعَتْهَا } عائد على معنى » ما « .
الثاني : أنها مبيِّنة إن قلنا : إن الضمير عائد على الجبلة والنسمة أو النفس أو الجِبلَّة لصدق كل من هذه الألفاظِ الثلاثةِ على الذكر والأنثى .
الوجه الثاني من وجهي « أنثى » : أنها بدل من « ها » في { وَضَعَتْهَا } بدل كل من كل - قاله أبو البقاء .
ويكون في هذا البدلِ بيان ما المراد بهذا الضميرِ ، وهذا من المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعدَه لفظاً ورتبة ، فإن كان الضمير مرفوعاً نحو : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُوا } [ الأنبياء : 3 ] - على أحد الأوجهِ - فالكل يجيزون فيه البدلَ ، وإن كان غير مرفوعٍ نحو ضربته زيداً ومررت به زيدٍ فاختلِفَ فيه ، والصحيح جوازه كقول الشاعر : [ الطويل ]
1417- عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي الْقَوْمِ حَاتِماً ... عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ
بجر حاتم الأخير بدلاً من الهاء في « جُودِهِ » .
فصل
والفائدةُ في قولها : { رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى } أنه تقدم منها النذر في تحرير ما في بطنها ، وكان الغالبُ على ظَنِّها أنه ذَكَر ، فلم تشترط ذلك في كلامِها ، وكانت عادتُهم تحريرَ الذكر ، لأنه هو الذي يُفَرَّغ لخدمة المسجد دون الأنثى ، فقالت : { رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى } خائفة أن نذرها لم يقع الموقع الذي يُعتَد به ، ومعتذرةً من إطلاقها النذر المتقدم ، فذكرت ذلك على سبيل الاعتذار ، لا على سبيل الإعلام؛ تعالى الله عن [ أن يحتاج إلى إعلامها ] .
قوله : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } قرأ ابن عامر وأبو بكر « وَضَعْتُ » بتاء المتكلم - وهو من كلام أمِّ مَرْيَمَ خاطبت بذلك نفسَها؛ تَسَلِّياً لها واعتذاراً للهِ تعالى؛ حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته من سدانة بيت المقدس .
قال الزمخشريُّ - وقد ذكر هذه القراءة- : « تعني ولعل الله - تعالى - فيه سِرًّا وحكمةً ، ولعل هذه الأنثى خير من الذكر؛ تَسلِيَةً لنفسها » .
وقيل : قالت ذلك؛ خوفاً أن يُظَنَّ بها أنها تُخْبِر الله - تعالى - فأزالت الشبهةَ بقولها هذا وبينت أنها إنما قالتْ ذلك للاعتذارِ لا للإعلام - وفي قولها : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } التفات من الخطاب إلى الغيبة؛ إذ لو جَرَتْ على مقتضَى قولها : « رَبِّ » لقالت : وأنت أعلم .
وقرأ الباقون : « وَضَعَتْ » بتاء التأنيث الساكنةِ - على إسناد الفعل لضمير أم مريم ، وهو من كلام الباري تعالى ، وفيه تنبيه على عِظَم قَدْر هذا المولود ، وأنَّ له شأناً لم تعرفيه ، ولم تعرفي إلا كونه أنثى لا غير ، دون ما يئول إليه من أمور عِظَامٍ ، وآيات واضحةٍ .
قال الزمخشريُّ : « ولتكلُّمها بذلك على وجه التحسُّر والتحزُّن قال الله - تعالى - : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } تعظيماً لموضوعها ، وتجهيلاً لها بقدر ما وُهِبَ لها منه ، ومعناه : والله أعلم بالشيء الذي وضعت ، وما علق به من عظائم الأمور ، وأن يجعله وولده آيةً للعالمين ، وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تحسرت » .
وقد رجح بعضهم القراءة الثانية على الأولى بقوله : { والله أَعْلَمُ } قال : « ولو كان من كلامِ مريم لكان التركيب : وأنت أعلم » . وقد تقدم جوابُه بأنه التفات .
وقرأ ابن عباس « والله أعلم بِمَا وَضَعَتِ » - بكسر التاء - خاطبها الله - تعالى - بذلك ، بمعنى : أنك لا تعلمين قدرَ هذه المولودة ، ولا قدر ما علم الله فيها من عظائمِ الأمورِ .
قوله : { وَلَيْسَ الذكر كالأنثى } ؛ هذه الجملة - يحتمل أن تكون معترضةً ، وأن يكون لها محل ، وذلك بحسب القراءات المذكورة في « وَضَعَتْ » - كما يأتي تفصيله - والألف واللام في « الذكَر » يحتمل أن تكون للعهدِ ، والمعنى : ليس الذكر الذي طلبَتْ كالأنثى التي وَهِبَتْ لها .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلتَ : فما معنى قولها : { وَلَيْسَ الذكر كالأنثى } ؟
قلت : هو بيان لما في قوله : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } من التعظيم للموضوع ، والرفع منه ، ومعناه : ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وُهِبَتْ لها ، والألف واللام فيهما يحتمل أن تكون للعهد وأن تكون للجنس ، على أن المراد : أن الذكر ليس كالأنثى في الفضل والمزية؛ إذ هو صالح لخدمة المتعبدات والتحرير ولمخالطة الأجانب ، بخلاف الأنثى؛ لِما يعتريها من الحيض ، وعوارض النسوان .
وكان سياقُ الكلام - على هذا - يقتضي أن يدخل النفي على ما استقر ، وحصل عندَها ، وانتفت عنه صفاتُ الكمال للغرض المقصود منه ، فكان التركيبُ : وليس الأنثى كالذكر ، وإنما عدل عن ذلك؛ لأنها بدأت بالأهم لما كانت تريده ، وهو المُتَلَجلِج في صدرها ، والحائل في نفسها ، فلم يَجْرِ لسانُها في ابتداء النطق إلا به ، فصار التقديرُ : وليس جنسُ الذكرِ مثل جنس الأنثى ، لما بينهما من التفاوتِ فيما ذكر ، ولولا هذه المعاني التي استنبطها العلماء ، وفهموها عن الله - تعالى - لم يكن لمجرد الإخبار بالجملة الليسية معنًى؛ إذ كلُّ أحدٍ يعلَمُ أن الذكر لَيْسَ كالأنثى .
وقوله : { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } هذه الجملة معطوفة على قوله { إِنِّي وَضَعْتُهَآ } على قراءة مَنْ ضَمَّ التاء في قوله وضعت فتكون هي وما قبلها في محل نصب بالقول ، والتقدير : قالت : إني وضعتُها ، وقالت : والله أعلم بما وَضَعْتُ ، وقالت : وليس الذكر كالأنثى ، وقالت : إنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَم .
وأما على قراءة من سكن التاء أو كسرها فتكون { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا } أيضاً معطوفاً على { إِنِّي وَضَعْتُهَآ } ويكون قد فصل بين المتعاطفَيْن بجملتي اعتراض ، كقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 76 ] قاله الزمخشريُّ .
قال أبو حيّان : « ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتان معترضتان؛ لأنه يحتمل أن يكون : { وَلَيْسَ الذكر كالأنثى } من كلامها في هذه القراءة » ويكون المعترض جملة واحدة - كما كان من كلامها في قراءة من قرأ « وَضَعْتُ » بضم التاء - بل ينبغي أن يكون هذا المتعيِّن؛ لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة ، ولأن في اعتراضِ جملتين خلافاً لمذهب أبي علي الفارسي من أنه لا يعترض جملتان .
وأيضاً تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما - على زعمه - بين المعطوف والمعطوفِ عليه ، بقوله : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 76 ] ليس تشبيهاً مطابقاً للآية؛ لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب ، بل اعترض بين القسم - الذي هو { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم } [ الواقعة : 75 ] - وبين جوابه - الذي هو { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } [ الواقعة : 77 ] - بجملة واحدة - وهي قوله : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } - لكنه جاء في جملة الاعتراض - بين بعض أجزائها ، وبعض اعتراض بجملة - وهي قوله : { لَّوْ تَعْلَمُونَ } اعتراضٌ بها بين المنعوتِ الذي هو « لَقَسَمٌ » - وبين نعته - الذي هو « عَظِيمٌ » - فهذا اعتراضٌ ، فليس فصلاً بجملتي اعتراض كقوله : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذكر كالأنثى } .
قال شهابُ الدين : والمشاحَّة بمثل هذه الأشياء ليست طائلة ، وقوله : « ليس فصلاً بجملتي اعتراض » ممنوع ، بل هو فَصْلٌ بجملتي اعتراض ، وكونه جاء اعتراضاً في اعتراض لا يضر ولا يقدَح في قوله : فصل بجملتين « ف » سمى « يتعدى لاثنين ، أحدهما بنفسه ، وإلى الآخر بحرف الجر ، ويجوز حذفه ، تقول : سميت زيداً ، و الأصل : بزيدٍ ، وجمع الشاعرُ بين الأصل والفرع في قوله : [ المتقارب ]
1418- وَسُنِّيْتَ كَعباً بِشَرِّ الْعِظَامِ ... وَكَانَ أبُوكَ يُسَمَّى الْجَعَل
أي يسمى بالجُعَل - وقد تقدم الكلامَ في مريمَ واشتقاقها ومعناها .
فصل
ظاهر هذا الكلام يدل على أن عمران كان قد مات قبل وَضْعِ حَنَّة مَرْيمَ ، فلذلك تولَّت الأم تسميتها؛ لأن العادة أن التسمية يتولاّها الآباء ، وأرادت بهذه التسمية أن تطلب من الله أن يعصمها من آفاتِ الدين والدنيا؛ لأن مريم - في لغتهم - العابدة ، ويؤكد ذلك قوله : بعد ذلك : { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم } . وقولها : { سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } جَعَلت هذا اللفظَ اسماً لها وهذا يدل على أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متغايرة ، وعلى أن تسمية الولد يكون يوم الوضع .
قوله : { وِإِنِّي أُعِيذُهَا } عطف على { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا } وأتى - هنا - بخبر » إنَّ « فعلاً مضارعاً؛ دلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها ، بخلاف قوله : { وَضَعْتُها } و { سَمَّيْتُهَا } حيث أتى بالخبرين ماضيَيْن؛ لانقطاعهما ، وقدم المُعَاذَ به على المعطوف؛ اهتماماً به .
وفتح نافع ياءَ المتكلم قبل هذه الهمزة المضمومة ، وكذلك ياء وقع بعدها همزة مضمومة إلا في موضعين فإن الكُلَّ اتفقوا على سكونها فيهما- : { بعهدي أُوف } [ البقرة : 40 ] و { آتوني أُفْرِغ } [ الكهف : 96 ] والباقي عشرة مواضع ، هذا الذي في هذه السورة أحدها .
فصل
لما فاتها ما كانت تريد من أن يكون رجلاً خادماً للمسجد ، تضرعت إلى الله تعالى أن يحفظها من الشيطان ، وأن يجعلها من الصالحات القانتات .
قال القرطبي : « معنى قوله : { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } يعني خادم الرب - بلغتهم - { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ } مريمَ . { وَذُرِّيَّتَهَا } عيسى . وهذا يدل على أن الذرية قد تقع على الولد خاصّة » .
قوله : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا } الجمهور على { فَتَقَبَّلَهَا } فعلاً ماضياً على « تَفَعَّل » بتشديد العينِ - و { رَبُّهَا } فاعل به ، وتفعل يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون بمعنى المجرَّد - أي فقبلها - بمعنى رَضِيها مكان الذَّكر المنذورِ ، ولم يقبل أنثى منذورة - قبل مريم - كذا ورد في التفسير ، و - « تَفَعَّل » يأتي بمعنى « فَعَل » مُجَرَّداً ، نحو تعجب وعَجب من كذا ، وتَبَرَّأ وبَرِئَ منه .
والثاني : أن « تفعل » بمعنى : استفعل ، أي : فاستقبلها ربُّها ، يقال : استقبلت الشيءَ أي : أخذته أول مرة .
والمعنى : أن اللهَ تولاَّها من أول أمرها وحين ولادتها .
ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
1419- وَخَيْرُ الأمْرِ مَا اسْتَقْبَلْتَ مِنْهُ ... وَلَيْسَ بِأنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعا
ومنه المثل : خذ الأمر بقوابله . و « تَفَعَّل » بمعنى « استفعل » كثير ، نحو : تعظم ، واستعظم ، وتكبر ، واستكبر ، وتعجَّل واستعجل .
قال بعضُ العلماء : « إن ما كان من باب التفعُّل ، فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل ، كالتصبُّر والتجلُّد ، ونحوهما ، فإنهما يُفيد أن الجِدَّ في غظهار الصَبْرِ والجَلَدِ ، فكذا هنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبولِ » .
فإن قيل : فلِمَ لَمْ يَقُلْ : فتقبلها ربُّها بتَقَبُّلٍ حَسَنٍ ، حتى تكمُلَ المبالغةُ؟
فالجوابُ : أنَّ لفظَ التَّقَبُّل - وإن أفاد ما ذكرنا - يُفِيدُ نوعَ تكلُّفِ خلاف الطبعِ ، فذكر التقبلَ ، ليفيد الجد والمبالغة ، ثم ذكر القبولَ ، ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبعِ ، بل على وفق الطبعِ ، وهذه الوجوه - وإن كانت ممتنعةً في حق اللهِ تعالى - تدل من حيثُ الاستعارةُ - على حصول العنايةِ العظيمةِ في تربيتها ، وهو وجه مناسبٌ .
والباء - في قوله : « بِقَبُولٍ » - فيها وجهانِ :
أحدهما : أنها زائدة ، أي : قبولاً ، وعلى هذا فينتصب « قبولاً » على المصدر الذي جاء على حذف الزوائد؛ إذْ لو جاء على « تَقَبُّل » لقيل : تَقَبُّلاً ، نحو تَكَبَّرَ تَكَبُّراً .
وَقَبُول : من المصادر التي جاءت على « فَعُول » - بفتح الفاء - قال سيبويه : خمسة مصادر جاءت على « فَعُول » قَبُول ، وطَهُور ، ووَقُود ، ووَضُوء ، وولُوع ، إلا أن الأكثر في الوقود - إذا كان مصدراً - الضَّمّ ، يقال : قَبلتُ الشيءَ قَبُولاً ، وأجاز الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ ضم القافِ من قَبُول وهو القياس ، كالدخولِ والخروجِ ، وحكاها ابنُ الأعرابي عن الأعراب : قبلت قَبُولاً - بفتح القافِ وضمها - سماعاً ، وعلى وجهه قُبُول - لا غير - يعني لم يُقَل هنا إلا بالضم ، وأنشدوا : [ السريع ]
1420- قَدْ يُحْمَدث الْمَرْءُ وَإنْ لَمْ يُبَلْ ... بالشّرِّ وَالْوَجْهُ عَلَيْهِ الْقُبُولْ
بضم القاف - كذا حكاه بعضهم .
قال الزَّجَّاجُ : إن « قَبُولاً » هذا ليس منصوباً بهذا الْفِعْلِ حتى يكونَ مصدراً على غير المصدر ، بل هو منصوب بفعل موافقٍ له ، - أي : مجرداً - قال : والتقدير : فتقبلها بتقبُّلٍ حَسَنٍ ، وقَبِلَها قبولاً حَسَناً ، أي : رضيها ، وفيه بُعَدٌ .
والوجه الثاني : أن الياء ليست بزائدة ، بل هي على حالها ، ويكون المرادُ بالقبول - هنا - اسماً لما يقبل به الشيءُ ، نحو اللدود ، لما يُلَدُّ به . والمعنى بذلك اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكرِ في النذر .
فصل
في تفسير ذلك القبولِ الْحَسَنِ وجوهٌ :
أحدها : أنه - تعالى - استجاب دعاءَ أمِّ مريمَ ، وعصمها ، وعصم ولدَهَا عيسى - عليه السلام - من الشيطان .
روى أبو هريرةَ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : « مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلاَّ والشَّيْطَانُ يَمَسه - حِيْنَ يُولَدُ - فَيَسْتَهِلُّ صَارِخاً مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إلاَّ مَرْيَمَ وَابنها » ، ثم قال أبو هريرة : اقرَأُوا - إنْ شِئْتُمْ - { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم } ، طعن القاضي في هذا الخبر ، وقال : إنه خبر واحد على خلاف الدَّليلِ؛ وإنما قلنا : إنه على خلاف الدليل لوجوهٍ :
الأول : أن الشيطان إنما يدعو إلى الشَّرِّ مَنْ يَعْرف الخير والشر ، والطفل المولود ليس كذلك .
الثاني : أن الشيطان لو تمكَّن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك - من إهلاك الصالحين ، وإفساد أحوَالهم .
الثالث : لِمَ خَصَّ - بهذا الاستثناء - مريم وعيسى - عليهما السلام - دون سائر الأنبياء؟
الرابع : أن ذلك المس لو وُجِدَ بَقِيَ أثَرهُ ، ولو بقي أثره لدام الصُّرَاخُ والبُكاءُ ، فلمَّا لم يكن كذلك علمنا بُطْلانَهُ .
الوجه الثاني - في معنى القبول الحسن- : ما رُوِيَ أن حَنَّةَ - حين ولدت مريمَ - لفَّتْها في خِرْقَةٍ وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون - وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة - وقالت : خذوا هذه النذيرةَ ، فتنافسوا فيها؛ لأنها كانت بنت إمامهم ، فقال لهم زكريَّا : أنا أحق بها؛ عندي خالتها ، فقالوا : لا ، حتى نقترع عليها ، فانطلقوا - وكانوا سبعةً وعشرين - إلى نهرٍ جارٍ .
قال السُّدِّيُّ : هو نهر الأردُن - فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون الوحي بها ، على أن كل من يرتفع قلمه ، فهو الراجحُ ، ثم ألقوا أقلامَهم ثلاثَ مراتٍ ، وفي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا فوق الماءِ ، وترسب أقلامهم ، فأخذها زكريَّا .
قاله محمد بن إسحاق وجماعة ، وقيل : جرى قلم زكريا مُصْعِداً إلى أعلى الْمَاءِ ، وجرت أقلامهم بجري الماء .
وقال السُّدِّيُّ وجماعة : ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين ، وجرت أقلامُهم ، فذهب بها الماء ، فسَهَمَهُم زكريا - وكان رأس الأحبار ونبيهم - فأخذها .
الوجه الثالث : رَوَى القفّالُ عن الحسنِ أنه قال : إن مريم تكلمت في صباها - كما تكلم المسيحُ - ولم تلتقم ثدياً قط ، وإن رزقها كان يأتيها من الْجَنَّةِ .
الوجه الرابع : أن عادتَهم في شريعتهم أن التحريرَ لا يجوز إلا في حق الغلام ، وحتى يصير عاقلاً قادراً على خدمة المسجد ، وهنا قبل الله تلك الْجَارِيَةَ على صغرهَا ، وعدم قدرتها على خدمة المسجد .
وقيل : معنى التَّقَبُّل : التكفُّل في التربية ، والقيام بشأنها .
وقال الحسنُ : معنى التقبل أنه ما عاذ بها قط ساعة من ليل ونهار .
وقوله : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } نبات : مصدر على غير المصدر؛ إذ القايس إنبات ، وقيل : بل هو منصوب بمُضْمَرٍ موافق له أيضاً ، تقديره : فتنبت نباتاً حسناً ، قاله ابنُ الأنباريّ .
وقيل : كانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام .
وقيل : تنبت في الصلاح والعِفَّةِ والطاعةِ .
وقال القرطبي : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } أي : سَوَّى خَلْقَها من غير زيادةٍ ولا نُقْصَانٍ .
قوله : { وَكَفَّلَهَا } قرأ الكوفيون { وَكَفَّلَهَا } - بتشديد الْعَيْنِ - « زَكَرِيَّا » - بالقصر - إلا أبا بكر ، فإنه قرأه بالمد كالباقين ، ولكنه ينصبه ، والباقون يرفعونه .
وقرأ مجاهدٌ « فَتَقَبَّلَهَا » بسكون اللام « رَبَّهَا » منصوباً ، « وأنْبَتَهَا » - بكسر الباء وسكون التاء - وكَفِّلْها - بكسر الفاء [ وسكون اللام ] والتخفيف وقرأ أبي : « وأكْفَلَهَا » - كأكْرَمَهَا - فعلا ماضياً .
وقرأ عبد الله المزني « وَكَفِلَهَا » - بكسر الفاء والتَّخْفِيفِ - .
فأما قراءة الكوفيين فإنهم عَدَّوُا الفعل بالتضعيف إلى مفعولين ، ثانيهما زكريا ، فمن قصره ، كالأخَوَيْن وحفص - كان عنده مُقَدَّر النصب ، ومن مَدَّ كأبي بكر عن عاصم أظهر فيه الفتحة وهكذا أقرأ به ، وأما قراءة بقية السبعة ف « كَفِلَ » مخفف عندهم ، متعد لواحد - وهو ضمير مريم - وفاعله زكريا .
قال أبو عبيدة : ضمن القيام بها ، ولا مخالفة بين القراءتين؛ لأن الله لما كفَّلَها إياه كَفِلَها ، وهو في قراءتهم ممدود ، مرفوع بالفاعلية .
وأما قراءة : « أكْفَلهَا » فإنه عدَّاه بالهمزة كما عدَّاه غيرُه بالتضعيف نحو خرَّجْته وأخْرَجته ، وكرَّمته وأكرمته وهذه قراءة الكوفيين في المعنى والإعْرَابِ؛ فإن الفاعل هو الله تعالى ، والمفعول الأول هو : ضمير مَرْيَمَ والثاني : هو زكريا .
أما قراءة « وَكفِلها » - بكسر الفاءِ - فإنها لغة في « كَفَل » يقال : كَفَلَ يَكْفُل - كقَتَل يقْتُل - وهي الفاشية ، وكَفِلَ يَكْفَلُ - كعَلِمَ يَعْلَمُ - وعليها هذه الْقِرَاءةُ ، وإعرابها كإعراب قراءة الجماعة في كون « زكريا » فاعلاً .
وأما قراءة مجاهدٍ فإنها « كَفِّلْهَا » على لفظ الدعاء من أم مريم لله - تعالى - بأن يفعل لها ما سألته ربَّهَا منصوب على النداء ، أي : فَتَقَبَّلْهَا يَا رَبَّهَا ، وأنبِتْهَا وكَفِّلْهَا يَا رَبَّهَا ، وزكريا في هذه القراءة مفعول ثان أيضاً كقراءة الكوفيين . وقرأ حفص والأخوانِ « زكريا » - بالقصر - حيث ورد في القرآن ، وباقي السبعة بالْمَدِّ و المدُّ والقَصْرُ في هذا الاسم لغتان فاشيتان عن أهل الحجاز . وهو اسم أعجمي فكان من حقه أن يقولوا فيه : مُنِع من الصرف للعلمية ، والعُجْمَة - كنظاشره - وإنَّما قالوا منع من الصرف لوجود ألفِ التَّأنِيثِ فيه : إما الممدودة كَحَمْرَاءَ ، وإما المقصورة كحُبْلَى ، وكأن الذي اضطرهم إلى ذلك أنهم رأوْه ممنوعاً - معرفةً ونكرة - قالوا : فلو كان منعه للعلمية والعُجمَةِ لانصرف نكرة لزوال أحد سببي المنع ، لكن العرب منعته نكرةً ، فعلمنا أن المانع غير ذلك ، وليس معناه - هنا - يصلح مانعاً من صَرْفهِ إلا ألف التأنيث - يَعْنُون للشبه بألف التأنيث - وإلا فهذا اسم أعجمي لا يُعْرفَ له اشتقاقٌ ، حتى يُدَّعَى فيه أنَّ الألف فيه للتأنيث .
على أن أبا حاتم قد ذهب إلى صَرْفه نكرةً ، وكأنه لحظ المانعَ فيه ما تقدمَ من العلميَّة والعُجْمَةِ ، لكنهم غلطوه وخطئوه في ذلك ، وأشبع الفارسيُّ القولَ فيه فقال : « لا يخلو من أن تكون الهمزة فيه للتأنيث ، أو للإلحاق أو منقلبة ، ولا يجوز أن تكون منقلبةٌ؛ لأن الانقلاب لا يخلو من أن يكون من حرفٍ أصلي ، أو من حرف الإلحاق؛ لأنه ليس في الأصول شيء يكون هذا مُلْحَقاً به ، وإذا ثَبَتَ ذلكَ ثبت أنها للتأنيث وكذلك القول في الألف المقصورة » .
قال شِهَابُ الدِّينِ : « وهذا - الذي قاله أبو علي - صحيح ، لو كان فيما يُعْرَفُ له اشتقاق ويدخله تصريف ، ولكنهم يُجرون الأسماء الأعجميّة مُجْرَى العربية بمعنى أنَّ هذا لَوْ وَرَدَ في لسان العرب كيف يكون حكمه » .
وفيه - بَعْدَ ذلك - لغتانِ أخْرَيَانِ :
إحداهما : زكريّ - بياء مشددة في آخره فقط دون ألف - وهو في هذه اللغة منصرف ، ووجَّهَ أبو علي ذلك فقال : « القول فيه أنَّهُ حُذِفَ منه الياءان اللتان كانتا فيه - ممدوداً ومقصوراً - وما بعدها ، وألحق بياء النَّسَب ، ويدل على ذلك صرفُ الاسم ، ولو كانت اياءان هما اللتان كانتا فيه لوجب أن لا ينصرفَ؛ للعجمة والتعريف ، وهذه لُغَةُ أهل نجد ومَنْ والاهم » .
الثانية : زَكْر - بوزن عَمْرو - حكاه الأخفشُ .
والكفالة أي : الضمان - في الأصل - ثم يُستعار للضَّمِّ والأخذ ، يقال منه : كَفَل يَكْفُل ، وكَفِلَ يَكْفَلُ ، كعلم يعلم - كفالةً وكَفْلاً ، فهو كافِل وكفيل ، والكافل : هو الذي ينفق على إنسان ويهتم بإصلاح حاله ، وفي الحديث : « أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة » وقال تعالى : { أَكْفِلْنِيهَا } [ ص : 23 ] .
واختلفوا في كَفَالةِ زكريا - عليه الصلاة والسلام - إياها ، فقال الأكثرون : كان ذلك حال طفولتها ، وبه جاءت الروايات .
وقال بعضهم : بل إنما كفلها بعد أن طمثت ، واحتجوا بوجهين :
أحدهما : قوله تعالى : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } ثم قال : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } وهذا يوهم أن تكل الكفالة بعد ذلك النباتِ الحسنِ .
الثاني : أنه - تعالى - قال : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله } وهذا يدل على أنها كانت قد فارقت الرضاع في وقت تلك الكفالة .
وأجيبوا عن الأول بأن الواو لا توجب الترتيب ، فلعل الإنباتَ الحسنَ وكفالة زكريا حَصَلا معاً . وعن الثاني بأن دخول زكريا عليها ، وسؤالَه لها هذا السؤالَ لعله وقع في آخرِ زمانِ الكفالةِ .
قوله : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب } « المحراب » فيه وجهان :
أحدهما : وهو مذهب سيبويه أنه منصوب على الظرف ، وشذ عن سائر أخواته بعد « دَخَلَ » خاصَّةً ، يعني أن كل ظرف مكان مختص لا يصل إليه الفعل إلا بواسطة « في » نحو صليت في المحراب - ولا تقول : صليت المحرابَ - ونِمْتُ في السوقِ - ولا تقول : السوقَ - إلا مع دخل خاصة ، نحو دخلت السوق والبيت . . . الخ . وإلا ألفاظاً أخر مذكورة في كتب النحو .
والثاني مذهب الأخفش وهو نَصب ما بعد « دَخَلَ » على المفعول به لا على الظرف فقولك : دخلت البيت ، كقولك : هدمت البيت ، في نصب كل منهما على المفعول به - وهو قول مرجوح؛ بدليل أن « دَخَلَ » لو سُلِّطَ على غير الظَّرْفِ المختص وجب وصوله بواسطة « في » تقول : دخلتُ في الأمر - ولا تقول : دخلت الأمر - فدل ذلك على عدم تَعَدِّيه للمفعول به بنفسه .
والجواب : قال ابو عبيدة : هو سَيِّدُ المجالس ومقدَّمها وأشرفها ، وكذلك هو من المسجد .
وقال أبو عمرو بن العلاء : هو القصر؛ لعُلُوِّه وشَرَفِهِ .
وقال الأصمعيُّ : هو الغُرْفَة .
وأنشد لامرئِ القيس : [ الطويل ]
1421- وَمَاذَا عَلَيْهِ أنّ ذَكَرْتَ أو أنِسَا ... كَغِزْلاَنِ رَمْلٍ فِي مَحَارِيبِ أقْيَالِ
قالوا معناه : في غرف أقيال . وأنشد غيره - لعُمَرَ بن أبي ربيعة : [ السريع ]
1422- رَبَّةُ مِحْرَابٍ إذَا ما جِئْتُهَا ... لَمْ أدْنُ حَتَّى أرْتَقِي سُلَّما
وقيل : هو المحراب من المسجد المعهود ، وهو الأليق بالآية .
وقد ذكرناه عمن تقدم فإنما يَعْنُونَ به : المحراب من حيث هو ، وأما في هذه الآية فلا يظهر بينهم خلاف في أنه المحراب المتعارف عليه . واستدل الأصمعيّ على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى : { إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب } [ ص : 21 ] فوجه الإمالة تقدم الكسرة ، ووجه التَّفْخِيم أنه الأصل .
قوله : { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } « وجد » هذه بمعنى أصاب ولَقِيَ وصَادَفَ ، فيتعدى لِواحِدٍ وهو « رِزْقاً » و « عندها » الظاهر أنه ظرف للوجدان .
وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من « رِزْقاً » ؛ لأنه يصلح أن يكون صفة له في الأصل ، وعلى هذا فيتعلق بمحذوف ، ف « وجد » هو الناصب لِ « كُلَّمَا » لأنها ظرفية ، وأبو البقاء سمَّاه جوابها؛ لأنها عنده الشرط كما سيأتي .
قوله : { قَالَ يامريم } فيه وجهان :
أحدهما : أنه مستأنف ، قال ابو البقاء : « ولا يجوز أن يكون بدلاً من » وَجَدَ « ؛ لأنه ليس بمعناه » .
الثاني : أنه معطوف بالفاء ، فحذف العاطف ، قال أبو البقاء : « كما حذفت في جواب الشرط في قوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 121 ] ، وكذلك قول الشاعر : [ البسيط ]
1423- مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا .. . . .
وهذا الموضع يشبه جوابَ الشرط ، لأن » كُلَّمَا « تشبه الشرط في اقتضائها الجواب .
قال شهاب الدين : وهذا - الذي قاله - فيه نظر من حيث إنه تخيَّل أن قوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } أن جوابَ الشرط هو نفس { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } حُذِفَتْ منه الفاء ، وليس كذلك ، بل جواب الشرط محذوف ، و - { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } جواب قسم مقدر قبل الشرط وقد تقدم تحقيق هذه المسألة ، وليس هذا مما حُذِفَتْ منه فاء الجزاء ألبتة ، وكيف يَدَّعِي ذلك ، ويُشَبِّهه بالبيت المذكور ، وهو لا يجوز إلا في ضرورة؟
ثم الذي يظهر أن الجملةَ من قوله : » وَجَدَ « في محل نصب على الحال من فاعل » دَخَلَ « ويكون جواب » كُلَّمَا « هو نفس » قَالَ « والتقدير : كلما دخل عليها زكريا المحراب واجداً عندَها الرزق .
قال : وهذا بَيِّن .
ونكر » رِزْقاً « تعظيماً ، أو ليدل به على نوع » ما « .
قوله : { أنى لَكِ هذا } » أنى « خبر مقدم ، و » هَذَا « مبتدأ مؤخر ومعنى أنى هذا : من أين؟ كذا فسَّره أبو عبيدة .
قيل : ويجوز أن يكون سؤالاً عن الكيفية ، أي : كيف تَهَيأ لكِ هذا؟
قال الكميت : [ المنسرح ]
1425- أنَّى وَمِنْ أيْنَ هَزَّكَ الطَّرَبُ ... مِنْ حَيْثُ لاَ صَبْوةٌ وَلاَ رِيَبُ
وجوَّز أبو البقاء في » أنَّى « أن ينتصب على الظرف بالاستقرار الذي في » ذلك « . و » لك « رافع ل » هذا « يعني بالفاعلية .
ولا حاجة إلى ذلك ، وتقدم الكلام على « أنى » في « البقرة » .
فصل
قال الرَّبيع بن أنس : إن زكريا كان إذا خرج من عندها غلق عليها سبعةَ أبوابٍ ، فإذا دخل عليها غُرفتها وجد عندها رزقاً - أي : فاكهة في غير حينها - فاكهة الصَّيْفِ في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، فيقول يا مريمُ ، أنى لك هذا؟
قال ابو عبيدة : معناه من أين لك هذا ، وأنكر بعضهم عليه وقال : معناه من أي جهة لك هذا؛ لأن أنّى للسؤال عن الجهة ، وأين للسؤال عن المكان .
فصل
احتجوا على صحة القول بكرامات الأولياء بهذه الآية؛ فإنَّ حصول الرزق عندها إمَّا أن يكون خارقاً للعادة أو لا يكون ، فإن كان غيرَ خارقٍ للعادة ، فذلك باطلٌ من خمسة أوْجُهٍ :
الأول : أنه على هذا التقدير لا يكون ذلك الرزقُ عند مريم دليلاً على عُلُوِّ شأنِهَا ، وامتيازها عن سائر الناس بتلك الخاصِّيَّةِ ، وهو المعنى المراد من الآية .
الثاني : قوله { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } [ آل عمران : 38 ] والقرآن دلَّ على أنه كان آيساص من الولد؛ بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته ، فلما رأى خَرْقَ العادة في حق مريمَ طمع في حصول الولد ، فيستقيم قوله { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } . ولو كان الذي شاهده في حق مريم غيرَ خارق لم تكن مشاهدةُ ذلك سبباص لطمعه في انخراق العادة له بحصول الولد من المرأة الشيخة العاقر .
الثالث : تنكير الرزق في قوله : « رِزْقاً » فإنه يدل على تعظيم حال ذلك الرزق كأنه قيل : رزق وإنه رزق عديب فلولا أنه خارق للعادة لم يفد الغرض اللائق بسياق الآية .
الرابع : أنه - تعالى - قال : { وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 91 ] ولولا أنه ظهر عليها الخوارق وإلا لم يصح ذلك .
الخامس : تواتُر الروايات على أن زكريا - عليه السلام - كان يجد عندها فاكهةَ الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها الصلاة والسلام كان خارقاً للعادة ، وإذا ثبت ذلك فنقول : إمّا أنه كان معجزةً لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك ، والأول باطل؛ لأن النبيَّ الموجودَ في ذلكَ الزمانِ زكريا - عليه السلام - ولو كان ذلك معجزةً له لكان عالماً بحاله ، ولم يَشْتبه أمْرُه عليه ، ولم يَقُلْ ل « مريم » أنَّى لَكِ هَذَا؟ وأيضاً فقوله { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } مُشْعِرٌ بأنه لما سألها ذكرت له أن ذلك من عند الله ، فهنالك طمع في انخراق العادةِ في حصول الولد من المرأة الشيخة العقيم العاقر وذلك يدل على أنه ما وقف على تلك الأحوال إلا من إخبار مريم ، وإذا كان كذلك ، وإذا ثبت أن تلك الخوارق ما كانت معجزةً لزكريا - عليه السلام - فلم يَبْقَ إلاَّ أنها كانت لمريم عليها السلام إما بسبب ابنها أو لعيسى عليه الصلاة والسلام كرامة لمريم ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل .
قال أبو علي الجبائي : لم لا يجوز أن يقال تلك الخوارق كانت معجزات زكريا - عليه السلام - لوجهين :
الأول : أن زكريا دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقها ، وأنه كان غافلاً عما يأتيها من الأرزاق من عند الله ، فإذا رأى شيئاً بعينه في وقت معيَّن قال لها : أنَّى لكِ هذا؟ فقالت هو من عند الله ، فعند ذلك يعلم أن الله أظهر بدعائه تلك المعجزةَ .
الثاني : يحتمل أن يكون زكريا شاهد عند مريم رزقاً معتاداً ، إلا أنه كان يأتيها من السماء ، وكان زكريا يسألها عن ذلك ، حَذَراً من أن يكون يأتيها من عند إنسان يبعثه إليها ، فقالت : هو من عند الله لا من عند غيره .
وأيضاً لا نسلم أنه كان قد ظهر على مريم شيء من الخوارق ، بل معنى الآية أن الله - تعالى - كان قد سبب لها رزقاً على أيدي المؤمنين الذين كانوا يرغبون في الانفاق على الزاهداتِ العابداتِ ، فكأن زكريا عليه الصلاة والسلام لمّا رأى شيئاً من ذلك خاف أنه رُبَّما أتاها ذلك الرزق من جهةٍ لا ينبغي ، فكان يسألها عن كيفية الحال .
والجواب عن الأول والثاني : أنه لو كان معجزاً لزكريا لكان زكريا مأذوناً له من عند الله في طلب ذلك ، ومتى كان مأذوناً له في ذلك الطلب كان عالماً - قطعاً - بأنه يحصل ، وإذا علم ذلك امتنع أن يطلب منها كيفية الحال ، ولم يكن لقول : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } فائدة .
والجواب عن الثالث : أنه - على هذا التقدير - لا يبقى لاختصاص مريم بمثل هذه الواقعة وجه .
أيضاً فإن كان في قلبه احتمال أنه ربما أتاها هذا الرزق من الوجه الذي لا يليق ، فبمجرد إخبارها كيف يعقل زوال تلك التهمة؟ فسقطت هذه الأسئلة .
واحتج المعتزلة على امتناع الكرامات بأنها دلالات صدق الأنبياء ، ودليل النَّبِيِّ لا يوجد مع غير النبي ، كما أن الفعل المُحْكَم - لما كان دليلاً على العلم لا جرم - لا يوجد في حَقِّ غَيْرِ العالمِ .
والجواب من وجوه :
الأول : أن ظهور الفعل الخارق للعادة دليل على صدق المدَّعِي ، فإن ادَّعَى صاحبهُ النبوةَ ، فذلك الفعل الخارق للعادة يدل على كونه نبيًّا ، وإن ادَّعَى الولايةَ ، فذلك يدل على كونه وليًّا .
والثاني : قال بعضهم : « الأنبياء مأمورون بإظهارها ، والأولياء مأمورون بإخفائها » .
والثالث : أن النبي يدَّعي المعجزة ويقطع به ، والولي لا يمكنه القطع به .
الرابع : أن المعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة ، والكرامة لا يجب انفكاكها عن المعارضة .
قوله : { إنًّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يُحْتَمَل أن يكون من جملة كلام مريم - عليها السلام - فيكون منصوباً .
ويحتمل أن يكون مستأنفاً ، من كلام الله تعالى ، وتقدم الكلامُ على نظيره .

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
« هنا » هو الاسم ، واللام للبعد ، والكاف حرف خطاب ، وهو منصوب على الظرف المكاني ب « دَعَا » وزان « ذلك » ، وهو منصوب على الظرف المكاني ، ب « دعا » أي : في ذلك المكان الذي راى فيه ما رأى من أمر مريمَ ، وهو ظرف لا يتصرف بل يلزم النصبَ على الظرفية ب « مِنْ » وَ « إلَى » .
قال الشاعر : [ الرجز ]
1426- قَدْ وَرَدَتْ مِنْ أمكِنَهْ ... مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هُنَهْ
وحكمه حكم « ذَا » من كونه يُجَرَّد من حرف التنبيه ، ومن الكاف واللام ، نحو « هُنَا » وقد يَصْحَبه « ها » التنبيه ، نحو هاهنا ، ومع الكاف قليلاً ، نحو ها هناك ، ويمتنع الجمع بينها وبين اللام . وأخوات « هنا » بتشديد النون مع فتح الهاء وكسرها - و « ثَمَّ » بفتح الثاء - وقد يقال : « هَنَّت » . ولا يشار ب « هُنَالِكَ » وما ذُكِرَ مَعَهُ إلا للأمكنة ، كقوله : { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ } [ الأعراف : 119 ] وقوله : { هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق } [ الكهف : 44 ] وقوله : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ] .
وقد زعم بعضهم أن « هُنا » و « هناك » و « هنالك » للزمان ، فمن ورود « هنالك » بمعنى الزمان عند بعضهم - هذه الآية أي : في ذلك الزمان دعا زكريا ربه ، ومثله : { هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون } [ الأحزاب : 11 ] ، وقوله : { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ } ومنه قول زهير : [ الطويل ]
1427- هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا .. . .
ومن « هنَّا » قوله : [ الكامل ]
1428- حَنَّتْ نُوَارُ وَلاَتَ هَنَّا حَنَّتِ ... وَبَدَا الَّذِي كَانَتْ نَوَارُ أجَنَّتِ
لأن « لات » لا تعمل إلا في الأحيان .
وفي عبارة السجاوندي أن « هناك » في المكان ، و « هنالك » في الزمان ، وهو سهو؛ لأنها للمكان سواء تجردت ، أو اتصلت بالكاف واللام معاً ، أم بالكاف من دون اللام .
فصل
ذكر المفسّرون أن زكريا - عليه السلام - لما رأى خَوَارِقَ العادة عند مريم طمع في خرق العادةِ في حقه ، فرزقه الله الولد من الشيخة العاقر .
فإن قيل : لِمَ قلتم : إنَّ زكريا - عليه السلام - ما كان عالماً بأن الله قادر على خَرْق العادة إلا عند مشاهدة تلك الكرامات عند مريم ، وهذه النسبة شَكٌّ في قدرة الله - تعالى - من زكريا ، وإن قلتم بأنه كان عالماً بقدرة الله تعالى على ذلك لم تكن المشاهدة سبباً لزيادة علمه بقدرة الله - تعالى - فلم يكن لمشاهدته لتلك الكرامات أَثرٌ في السببية؟
فالجواب : أنه كان عالماً قبل ذلك بالخوارق ، أما أنّه هل تقع أم لا؟ فلم يكن عالماً به ، فلما شاهد وعلم أنه إذا وقع كرامة لوَلِيّ فبأن يجوز وقوع معجزة لنبيّ كان أولى ، فلا جرم قوي طمعه عند ذلك .
قوله : { مِن لَّدُنْكَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه يتعلق ب « هَبْ » وتكون « مِنْ » لابتداء الغاية مجازاً ، أي : يا رب هَبْ لي من عندك . ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه في الأصل صفة لِ « ذُرِّيَّة » فلما قُدِّم عليها انتَصَبَ حالاً .
وتقدم الكلام على « لَدُنْ » وأحكامها .
قال ابن الخطيب : « وقول زكريا : { هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً } لما لم تكن أسباب الولادة في حقه موجودة ، قال : { مِن لَّدُنْكَ } أي بمحض قدرتك ، من غير شيء من هذه الأسباب » .
فصل
الذرية : النسل ، وهو يقع على الواحدِ والجمعِ والذكرِ والأنثى ، والمراد - هنا - ولد واحد ، وهو مثل قوله : « فهب لي من لدنك وليًّا » .
قوله : { طَيِّبَةً } إن أريد ب « ذُرِّيَّة » الجنس ، فيكون التأنيث في « طيِّبة » باعتبار تأنيث الجماعة ، وإن أريد به ذَكر واحد فالتأنيث باعتبارِ اللفظِ .
قال الفراء : وأنّث « طَيِّبَةً » لتأنيث لفظ « الذرية » كما قال القائل في ذلك البيت : [ الوافر ]
1429- أبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أخْرَى ... وَأنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ
الشخص ، فإذا كان مذكَّراً لم يجز فيه إلا التذكيرُ ، وقد جمع الشاعر بين التذكير والتانيث في قوله : [ الطويل ]
1430- فَمَا تَزْدَرِي مِنْ حَيَّةٍ جبَلِيَّةٍ ... سُكَاتٍ إذَا مَا عَضَّ لَيْسَ بِأدْرَدَا
قوله { سَمِيعٌ الدعآء } مثال مبالغة ، مُحَوَّل من سامع ، وليس بمعنى مُسْمِع؛ لفساد المعنى؛ لأن معناه إنك سامعه ، وقيل : مُجِيبه ، كقوله : { إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون } [ يس : 25 ] أي : فأجيبوني ، وكقول المصلي : سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، يريد قبل اللهُ حَمْدَ مَنْ حَمِدَهُ من المؤمنين .
فصل
قال القرطبيُّ : دَلَّتْ هذه الآيةُ على طلب الولد ، وهي سُنَّةُ المرسلين والصِّدِّيقينَ .
قال تعالى - حكاية عن إبراهيم - : { واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين } [ الشعراء : 84 ] .
وقال تعالى : { والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } [ الفرقان : 74 ] ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لأنس فقال : « اللهُمَّ أكثر مالَه وولَده ، وبَارِك لَهُ فِيمَا أعْطَيْتَه » وقال صلى الله عليه وسلم : « تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الوَدُودَ؛ فَإنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأمَمَ يَوْمَ الْقِيَامةِ » فدلَّ على أن طلب الولَد مندوبٌ إليه؛ لِما يُرْجَى من نفعه في الدنيا والآخرة ، وقال صلى الله عليه وسلم : « إذَا مَاتَ أحَدُكُم انْقَطَع عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ » فذكر « أو ولَدٌ صَالح يَدْعُو لَهُ » .
فصل
ويجب على الإنسان أن يتضرَّع إلى الله - تعالى - في هداية زوجته وولده بالتوفيق ، والهداية ، والصَّلاح ، والعَفَاف ، وأن يكونا معينَيْنِ له على دينه ودُنياه ، حتى تَعْظُم منفعتُهما قال زكريا :
{ واجعله رَبِّ رَضِيّاً } [ مريم : 6 ] ، وقال : { ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } وقال تعالى : { هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } [ الفرقان : 74 ] .
قوله : { فَنَادَتْهُ الملاائكة } قرأ الأخوان « فَنَادَاهُ المَلاَئِكَةُ » - من غير تأنيث - والباقون « فَنَادَتْهُ » بتاء التأنيث - باعتبار الجمع المُكَسَّر ، فيجوز في الفعل المسند إليه التذكير باعتبار الجمع ، والتأنيث باعتبار الجماعة ، ولتأنيث لفظ « الملائكة » مع أن المذكور إذا تقدَّم فعلُهم - وهم جماعة - كان التأنيث فيه أحسن؛ كقوله تعالى : { قَالَتِ الأعراب } [ الحجرات : 14 ] . ومثل هذا { إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملاائكة } [ الأنفال : 50 ] تُقْرأ بالتاء والياء ، وكذا قوله : { تَعْرُجُ الملائكة } [ المعارج : 4 ] .
قال الزجاج : يلحقها التأنيث للفظ الجماعة ، ويجوز أن يُعَبَّر عنها بلفظ التذكير؛ لأنه - تعالى جمع الملائكة ، وهكذا قوله : { وَقَالَ نِسْوَةٌ } [ يوسف : 30 ] .
وإنما حَسُنَ الحذفُ - هنا - للفصل بين الفعل وفاعله .
وقد تجرأ بعضُهم على قراءة العامة ، فقال : « أكره التأنيثَ؛ لما فيه من موافقة دَعْوَى الجاهلية؛ لأن الجاهلية زعمت أن الملائكة إناث » .
روى إبراهيم قال : كان عبد الله بن مسعود يُذَكِّر الملائكةَ في كُلِّ القرآنِ .
قال أبو عُبَيْد : « نراه اختار ذلك؛ خلافاً على المشركين؛ لأنهم قالوا : الملائكة بناتُ اللهِ » .
وروى الشعبيُّ أن ابن مسعود قال : « إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياءً » .
وتجرأ أبو البقاء على قراءة الأخوين ، فقال : وكره قوم قراءة التأنيث لموافقة الجاهلية ، ولذلك قرأ « فناداه » بغير تاء - والقراءة غير جيِّدة؛ لأن الملائكة جمع ، وما اعتلوا ليس بشيءٍ؛ لأن الإجماع على إثبات التاء في قوله : { وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم } [ آل عمران : 42 ] .
وهذان القولان - الصادران من أبي البقاء وغيره - ليسا بجيِّدَيْن؛ لأنهما قراءتان متواترتان ، فلا ينبغي أن ترد إحداهما ألبتة .
والأخوان على أصلهما من غمالة « فَنَادَاهُ » . والرسم يحتمل القراءتين معاً - أعني : التذكير والتأنيث والجمهور على أن الملائكة المراد بهم واحد - وهو جبريل .
قال الزَّجَّاج : أتاه النداء من هذا الجنس الذين هم الملائكة ، كقولك : فلان يركب السُّفُنَ - أي : هذا الجنس كقوله تعالى : { يُنَزِّلُ الملاائكة } [ النحل : 2 ] يعني جبريل « بِالرُّوحِ » يعني الوحي . ومثله قوله : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } [ آل عمران : 173 ] وهو نعيم بن مسعود ، وقوله : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [ آل عمران : 173 ] يعني أبا سفيان . ولما كان جبريل - عليه السلام - رئيسَ الملائكة أخبر عنه إخبار الجماعة؛ تعظيماً له .
قيل : الرئيس لا بدَّ له من أتباع ، فلذلك أخبر عنه وعنهم ، وإن كان النداء قد صدر منه - قاله الفضل بن سلمة - ويؤيد كون المنادي جبريل وحده قراءةُ عبد الله - وكذا في مصحفه - فناداه جبريل .
والعطف بالفاء - في قوله « فَنَادَتْهُ » - مُؤذِنٌ بأن الدعاء مُتَعقب بالتبشير .
والنداء : رفع الصوت ، يقال : نادَى ندَاء - بضم النون وكسرها - والأكثر في الأصوات مجيئها على الضم ، نحو البُكَاء ، والصُّراخ ، والدُّعاء ، والرُّغاء .
وقيل : المكسور مصدر ، والمصموم اسم . ولو عُكِسَ هذا لكان أبْيَنَ؛ لموافقته نظائره من المصادر .
قال يعقوب بن السكيت : إن ضمّيت نونه قصرته ، وإن كسرتها مددته .
وأصل المادة يدل على الرفع ، ومنه المنْتَدَى والنادي؛ لاجتماع القوم فيهما وارتفاع أصواتهم . وقالت قريش : دار الندوة ، لارتفاع أصواتهم عند المشاورة والمحاورة فيها ، وفلان أنْدَى صَوْتاً من فلان - أي : أرفع - هذا أصله في اللغة ، وفي العرف : صار ذلك لأحسنها نَغَماً وصوتاً ، والنَّدَى : المَطَر ، ومنه : نَدِيَ ، يَنْدَى ، ويُعَبَّر به عن الجود ، كما يُعَبَّر بالمطر والغيث عنه استعارةً .
قوله : { وَهُوَ قَائِمٌ } جملة حالية من مفعول النداء ، و « يُصَلِّي » يحتمل أوجهاً :
أحدها : أن يكون خبراً ثانياً - عند مَنْ يرى تَعَدُّدَه مطلقاً - نحو : زيدٌ شاعرٌ فقيهٌ .
الثاني : أنه حال من مفعول النداء ، وذلك - أيضاً - عند مَنْ يجوِّز تعدُّدَ الحال .
الثالث : أنه حال من الضمير المستتر في « قَائِمٌ » فيكون حالاً من حال .
الرابع : أن يكون صفة لِ « قَائِمٌ » .
قوله : { فِي المحراب } متعلق ب « يُصَلِّي ، ويجوز أن يتعلق ب » قَائِمٌ « إذا جعلنا يُصَلِّي حالاً من الضمير في » قَائِمٌ « ؛ لأن العامل فيه - حينئذ - وفي الحال شيء واحد ، فلا يلزم فيه فَصْل ، أما إذا جعلناه خبراً ثانياً أو صفة لِ » قَائِمٌ « أو حالاً من المفعول لزم الفصلُ بين العاملِ ومعمولهِ بأجنبيٍّ . هذا معنى كلام أبي حيّان .
قال شِهَابُ الدِّيْنِ : والذي يظهر أنه يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع؛ فإن كُلاًّ من » قَائِمٌ « و » يصلِّي « يصح أن يتسلَّط على » فِي الْمِحْرَابِ « وذلك على أي وجهٍ تقدم من وجوه الإعراب .
والمحراب - هنا - : المسجد .
قوله : { إِنَّ الله } قرأ نافع وحمزة وابن عامر بكسر » إنَّ « والباقون بفتحها ، فالكسر عند الكوفيين؛ لإجراء النداء مُجْرَى القولِ ، فيُكْسر معه ، وند البصريين ، على إضْمار القول - أي : فنادته ، فقالت . والفتح والحذف - على حذف حرف الجر ، تقديره : فنادته بأن الله ، فلما حُذِفَ الخافض جَرَى الوجهان المشهوران في مَحَلِّها .
وفي قراءة عبد الله : » فنادته الملائكة يا زكريا « فقوله : » يا زكريا « هو مفعول النداء ، وعلى هذه القراءة يتعين كسر » إن « ولا يجوز فتحُها؛ لاستيفاء الفعلِ معموليه ، وهما الضمير وما نُودي به زكريا .
قوله : { يُبَشِّرُكَ } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم الخمسة في هذه السورة { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } - في موضعين - وفي سورة الإسراء :
{ وَيُبَشِّرُ المؤمنين } [ الإسراء : 9 ] وفي سورة الكهف : { وَيُبَشِّرُ المؤمنين } - بضم الياء ، وفتح الباء ، وكسر الشين مشددة - من بَشَّرَه ، يُبَشِّرُه .
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم - ثلاثتهم - كذلك في سورة الشورى ، وهو قوله : { ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين آمَنُواْ } [ الشورى : 23 ] .
وقرأ الجميع - دون حمزة - - كذلك في سورة براءة : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ } [ التوبة : 21 ] وفي الحجر - في قوله : { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [ الحجر : 53 ] - ولا خلاف في الثاني - وهو قوله : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] - أنه بالتثقيل .
وكذلك قرأ الجميع - دون حمزة - في سورة مريم - في موضعين { إِنَّا نُبَشِّرُكَ } [ مريم : 7 ] وقوله : { لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين } [ مريم : 97 ] . وكل من لم يذكر من قرأ بالتقييد المذكور فإنه يقرأ بفتح حرف المضارعة ، وسكون الياء وضم الشين .
وإذا أردت معرفة ضبط هذا الفَضل ، فاعلم أن المواضع التي وقع فيها الخلاف المذكور تسع كلماتٍ ، والقُرَّاء فيه على أربع مراتبٍ :
فنافع وابن عامر وعاصم ثَقَّلُوا الجميعَ .
وحمزة خفّف الجميع إلا قوله : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] .
وابن كثير وأبو عمرو ثقلا الجميعَ إلا التي في سورة الشورَى فإنهما وافقَا فيها حمزة . والكسائي خفَّف خمساً منها ، وثقَّل أربعاً ، فخفَّفَ كلمتي هذه السورةِ ، وكلمات الإسراء والكهفِ والشورَى . وقد تقدم أن في هذا الفعل ثلاث لغاتٍ : بشَّر - بالتشديد - وبَشَرَ - بالتخفيف - .
وعليه ما أنشده الفراء قوله : [ الطويل ]
1431- بَشَرْتَ عِيَالِي إذْ رَأيْتَ صَحِيفَةً ... أتَتْكَ مِنَ الْحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا
الثالثة : أبْشَرَ - رباعياً - وعليه قراءة بعضهم « يُبَشِّرُكَ » - بضم الياء .
ومن التبشير قول الآخر : [ الكامل ]
1432- يَا بِشْرُ حُقَّ لِوَجْهِكَ التَّبْشِيرُ ... هَلاَّ غَضِبْتَ لَنَا وَأنْتَ أمِيْرُ؟
وقد أجمع على مواضع من هذه اللغات نحو « فَبَشِّرْهُمْ » . { وَأَبْشِرُوا } [ فصلت : 30 ] ، { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ } [ هود : 71 ] . قالوا : { بَشَّرْنَاكَ بالحق } [ الحجر : 55 ] . فلم يرد الخلاف إلا في المضارع دونَ الماضي .
وقد تقدم معنى البشارة واشتقاقها في سورة البقرة .
قوله : { بيحيى } متعلق ب { يُبَشِّرُكَ } ولا بد من حذف مضاف ، أي : بولادة يحيى؛ لأن الذوات ليست متعلقة للبشارة ، ولا بد في الكلام من حذف معمول قاد إليه السياقُ ، تقديره : بولادة يحيى منك ومن امرأتك ، دلَّ على ذلك قرينةُ الحالِ وسياقُ الكلامِ .
و « يحيى » فيه قولان :
أحدهما- وهو المشهور عند المفسِّرين- : أنه منقول من الفعل المضارع وقد سَمُّوا بالأفعالِ كثيراً ، نحو يعيش ويعمر ويموت .
قال قتادة : « سُمِّي { بيحيى } لأن الله أحياه بالإيمان » .
وقال الزَّجَّاج : « حيي بالعلم » وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعلميَّة ووزن الفعل ، نحو يزيد ويشكر وتغلب .
والثاني : أنه أعجميّ لا اشتقاق له - وهو الظاهر - فامتناعه للعلمية والعُجْمَة الشخصية .
وعلى كلا القولين يُجْمَع على « يَحْيَوْنَ » بحَذْف الألف وبقاء الفتحةِ تدلّ عليها .
وقال الكوفيون : إن كان عربيَّا منقولاً من الفعل فالأمر كذلك ، وإن كان أعجمياً ضُمَّ ما قبل الواو ، وكسر ما قبل الياء؛ إجراءً له مُجْرَى المنقوص ، نحو جاء القاضُون ، ورأيت القاضِين ، نقل هذا أبو حيّان نهم . ونقل ابنُ مالك عنم أن الاسم إن كانت ألفه زائدةً ضُمَّ ما قبلَ الواو ، وكُسِرَ ما قبلَ الياءِ ، نحو : جاء حبلون ورأيت حُبلِين ، وإن كانت أصليةً نحو دُجَوْن وجب فتح ما قبل الحرفين .
قالوا : فإن كان أعجمياً جاز الوجهان؛ لاحتمال أن تكون ألفهُ أصليةً أو زائدة؛ إذْ لا يُعْرَف له اشتقاق . ويصغر يحيى على « يُحَيَّى » وأنشد للشيخ أبي عمرو بن الحاجب في ذلك : [ مجزوء الرمل ]
1433- أيُّها الْعَالِمُ بِالتَّصْرِ ... يفِ لا زِلْتَ تُحَيَّا
قَالَ قَوْمٌ : إنَّ يَحْيَى ... إنْ يُصَغَّرْ فَيُحَيَّا
وَأبَى قَوْمٌ فَقَالُوا ... لَيْسَ هَذَا الرَّأيُ حَيَّا
إنَّمَا كَانَ صَوَاباً ... لَوْ أجَابُوا بِيُحَيَّا
كَيْفَ قَدْ رَدُّوا يُحَيَّا ... أمْ تَرَى وَجْهاً يُحَيَّا؟
وهذا جارٍ مَجْرَى الألْغاز في تصغير هذه اللفظة ، وذلك يختلف بالتصريف والعمل ، وهو أنه لما اجتمع في آخر الاسم المصَغَّر ثلاثُ ياءاتٍ جرى فيه خلافٌ بين النحاة بالنسبةِ إلى الحَذْف والإثبات ، وأصل المسألة تصغير « أحْوَى » ويُنْسَب إلى « يَحْيَى » « يَحْيَى » - بحذف الألف ، تشبيهاً لها بالزائد - نحو حُبْلِيّ - في حُبْلَى - و « يَحْيَوِيّ » - بالقلب؛ لأنها أصل كألف مَلْهَوِيّ ، أو شبيهة بالأصل إن كان أعجمياً - و « يَحْيَاوِيّ » - بزيادة ألف قبل قَلْبِ ألفِهِ واواً .
وقرأ حمزة والكسائي « يَحْيَى » بالإمالة؛ لأجل الياء والباقون بالتفخيم .
قال ابن عباس : « سُمِّيَ » يَحْيَى؛ لأن اللهَ أحيا به عَقْرَ أمِّه .
وقال قتادة : لأن الله أحيا قلبه بالإيمان .
وقيل : لأن الله أحياه بالطاعة حتى إنه لم يَعْصِ اللهَ ، ولم يَهِمّ بمعصيةٍ .
قال القرطبي : « كان اسمه - في الكتاب الأول - حَيَا ، وكان اسم سارة - زوجة إبراهيم - يسارة ، وتفسيره بالعربية : لا تلد ، فلما بُشِّرَت بإسحاق قيل لها : سارة ، سمَّاها بذلك جبريل - عليه السلام - فقالت : يا إبراهيم ، لم نقص من اسمي حرف؟ فقال إبراهيم ذلك لجبريل - عليه السلام - فقال : إن ذلك حرف زيد في اسمِ ابنٍ لها من أفضل الأنبياء ، اسمه حيا ، فسُمِّي بيَحْيَى » .
قوله : { مُصَدِّقًا } حال من « يَحْيَى » وهذه حال مقدرة .
وقال ابن عطية : « هي حال مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام » . و « بِكلِمةٍ » متعلق ب « مُصَدِّقاً » .
وقرأ أبو السّمال « بِكِلْمَةٍ » - بكسر الكاف وسكون اللام - وهي لغة صحيحة؛ وذلك أنه أتبع الفاء للعين في حركتها ، فالتقى بذلك كسرتان ، فحذف الثانيةَ؛ لأجل الاستثقال .
فصل
قيل : المراد بها الجمع؛ إذ المقصود التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله تعالى المُنَزَّلة فعبَّر عن الجمع ببعضه ، ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : « أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ » حيثُ قال : [ الطويل ]
1434- ألا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِل .. . .
وذكر جابر - رضي الله عنه - الحُوَيْدِرَة فقال : لَعَنَ اللهُ كلمته - يعني قصيدته .
وقال الجمهور : الكلمة : هي عيسى عليه السلام .
قال السديُّ : لقيت أمُّ عيسى ، أمَّ يَحيى - وهذه حامل بعيسى ، وتلك حامل بيحيى - فقالت أم يحيى : أشعَرْتِ أني حُبْلَى؟ : فقالت : مريم : وأنا - أيضاً - حُبْلَى ، قالت امرأة زكريا : فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك ، فذلك قوله : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله } .
قال القرطبيُّ : « رُوِيَ أنها أحسَّت بجنينها يَخِرّ برأسه إلى ناحية بطن مريم » .
وقال ابن عبّاسٍ : إن يحيى كان أكبر سِنًّا من عيسى بستةِ أشهر .
وقيل : بثلاث سنين ، وكان يحيى أول من آمن به وصدق بأنه كلمة الله وروحه .
وسمي عيسى عليه السلام كلمة . قيل : لأنه خُلِقَ بكلمة من الله { كُنْ فَيَكُونُ } من غير واسطة أب فسمي لهذا كلمة - كما يسمى المخلوق خَلْقاً ، والمقدور قُدْرة ، والمرجُوُّ رجاءً ، والمشتَهَى شهوةً - وهو باب مشهور في اللغة .
وقيل : هو بشارة اللهِ مريم بعيسى - بكلامه على لسان جبريل عليه السَّلام .
وقيل : لأنه تكلم ف يالطفوليَّة ، وأتاه الكتاب في زَمَنِ الطفوليَّةِ ، فلهذا كان بالغاً مبلغاً عظيماً ، فسُمِّيَ كلمة كما يقال : فلان جود وإقبال - إذا كان كاملاً فيهما .
وقيل : لما وردت البشارةُ به في كتب الأنبياء قبله ، فلما جاء قيل : هذا هو تلك الكلمة - كما إذا أخبر عن حدوث أمر ، فإذا حَدَث ذلك الأمر ، قال : قد جاء قولي ، وجاء كلامي - أي : ما كنت أقول ، وأتكلم به - ونظيره قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين كفروا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار } [ غافر : 6 ] وقوله : { ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين } [ الزمر : 71 ] .
وقيل : لأن الإنسان قد يُسَمَّى ب « فضل الله » و « لطف الله » وكذلك عيسى كان اسمه كلمة الله وروح الله .
واعلم أن كلمة الله - تعالى - كلامه ، وكلامه - على قول أهل السنة - صفةٌ قديمةٌ قائمةٌ بذاته وفي قول المعتزلة : صفة يخلقها الله في جسم مخصوص ، دالة بالوضع على معاني مخصوصة .
وضروريّ حاصل بأن الصفة القديمة ، أو الأصوات التي هي أعراض غير باقية يستحيل أن يقال : إنها ذات عيسى ، ولما كان ذلك باطلاً في بداهة العقول ، لم يَبْقَ إلا التأويل .
قوله : { مِّنَ الله } في محل جر؛ صفة ل « كَلِمَةٍ » فيتعلق بمحذوف ، أي : بكلمة كائنة من الله { وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً } أحوال أيضاً - كمصَدِّقاً . والسيد : فَيْعِل ، والأصل سَيْود ، ففُعِلَ به ما فعل ب « ميت » ، كما تقدم ، واشتقاقه من سَادَ ، يَسُودُ ، سِيَادَةً ، وسُؤدُداً - أي فاق نظراءه في الشرف والسؤدد .
ومنه قوله : [ الرجز ]
1435- نَفْسٌ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَاما ... وَعَلَّمَتْهُ الْكَرَّ والإقْدَامَا
وَصَيَّرَتْهُ بطلاً هُمَامَا
وجمعه على « فَعَلَة » شاذ قياساً ، فصيح استعمالاً؛ قال تعالى : { إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا } [ الأحزاب : 67 ] .
وقال بعضهم : سُمي سيِّداً؛ لأنه يسود سَوَاد الناس أي : مُعْظَمهم وجُلَّهم . والأصل سَوَدَة ، و « فَعَلَة » لِ « فاعِل » نحو كافِر وكفرة ، وفاجِر وفَجَرَة ، وبارّ وبررة .
وقال ابن عباس : السَّيِّد : الحليم .
قال الجبائي : إنه كان سيداً للمؤمنين ، ورئيساً لهم في الدين - أعني : في العلم والحلم والعبادة و الورع .
قال مجاهدٌ : السَّيِّد : الكريم على الله تعالى .
وقال ابن المُسَيِّبِ : السيِّد : الفقيه العالم .
وقال عكرمة : السيد : الذي لا يغلبه الغضبُ .
وقيل : هو الرئيس الذي يتبع ، ويُنتَهَى إلى قولهِ .
وقال المفضل : السيد في الدين .
وقال الضحاك : الحسن الخلق .
وقال سعيد بن جبير : هو الذي يُطيع ربَّه .
ويقول عن الضَّحَّاكِ : السيد : التقِيّ .
وقال سفيان : الذي لا يحسد .
وقيل : هو الذي يفوق قومَه في جميع خصال الخيرِ .
وقيل : هو القانع بما قسم الله له .
وقيل : هو السَّخِيّ .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَنْ سَيدُكُمْ يَا بَنِي سَلمةَ » ؟ قالوا : جَد بن قَيْس على بُخْلِه ، فقال : « وأي دواء أدوى من البخل ، لكن سَيِّدَكم عمرو بن الجموح » وفي الآية بذلك دليل على جواز تسمية الإنسان سيداً كما تجوز تسميته عزيزاً وكريماً . وقال صلى الله عليه وسلم لبني قريظة : « قوموا إلى سيِّدكم » .
وقال - في الحسن - : « إن ابني هذا سَيِّدٌ ، فلعلَّ اللهَ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْن عَظِيْمَتين من المسلمين » .
قال الكسائي : السيّد من المَعْز : [ الْمُسِّن ] . وفي الحديث : « الثَّنِيُّ من الضَّأن خير من السَّيِّد مِن الْمَعْزِ الْمُسِنّ » .
وقال الشاعر : [ الطويل ]
1436- سَوَاءٌ عَلَيْهِ شَاةُ عَامٍ دَنَت لَهُ ... لِيَذْبَحَهَا للِضَّيْفِ أمْ شَاةُ سَيِّد
والحصور : فعول للمبالغة ، مُحَوَّل من حاصر ، كضروب .
وفي قوله : [ الطويل ]
1437- ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمَانِهَا ... إذَا عَدِمُوا زاداً فَإنَّكَ حَاصِرُ
وقيل : بل هو فَعُول بمعنى : مفعول ، أي : محصور ، ومثله ركوب بمعنى : مركوب ، وحلوب بمعنى : محلوب .
والحصور : الذي يكتم سره .
قال جرير : [ الكامل ]
1438- وَلَقَدْ تَسَقَّطَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا ... حَصِراً بِسِرِّكِ يَا أمَيْمَ ضَنِينَا
وهو البخيل - أيضاً - قال : [ البسيط ]
1439- . ... لاَ بِالْحَصُورِ وَلاَ فِيهَا بِسَئّارِ
وقد تقدم اشتقاق هذه المادة وهو مأخوذ من المنع؛ وذلك لأن الحصور هو الذي لا يأتي النساء - إما لطبعه على ذلك ، وإما لمغالبته نفسه - قال ابنُ مسعودٍ وابن عبَّاس وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء والحسن : الحصور : الذي لا يأتي النساء ولا يقربُهُنَّ ، وهو - على هذا - بمعنى فاعل ، يعني أنه يحصر نفسه عن الشهوات .
قال سعيد بن المُسيِّبِ هو العِنِّين الذي لا ماء له ، فيكون بمعنى « مفعول » كأنه ممنوع من النساء .
واختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد - مثل الشروب والظلوم والغشوم - والمنع إنما يحصل إذا كان المقتضي قائماً ، والدفع إنما يحصل عند قوة الداعية والرغبة والغِلْمَة . والكلام إنما خرج مخرج الثناء وأيضاً فإنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء - والصفة التي ذكروها صفة نقص ، وذكر صفة النقصان في معرِض المدحِ ، لا يجوز ، ولا يستحق به ثواباً ولا تعظيماً .
فصل
احتجَّ بعضُهم - بهذه الآية - على أن ترك النكاح أفضل؛ لأنه - تعالى - مدحه بترك النكاح ، فيكون تركه أفضل في تلك الشريعة ، فيجب أن يكون الأمر كذلك في شريعتنا؛ للنص والمعقول أما النص فقوله تعالى : { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ] .
وأمَّا المعقول فهو أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان ، والنسخ على خلاف الأصل .
وأجيبوا بأن هذا منسوخ بقوله - « تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا » وقوله : « لا رَهْبَانِيَّةَ فِي الإسلامِ » . وقوله عليه الصلاة والسلام : « النِّكَاحُ سُنَّتِي وَسُنَّةُ الأنبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي ، فَمَنْ رَغِبَ عَن سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي » .
وقولهم : النسخ على خلاف الأصل .
قلنا : مسلم إذا لم يُعْلَم الناسخُ ، وقد علمناه .
قوله : { وَنَبِيًّا } اعلم أن السيادةَ إشارة إلى أمرين :
أحدهما : القدرة على ضبط مصالح الخَلْق فيما يرجع إلى تعليمِ الدين .
والثاني : ضبط مصالحهم في تأديبهم ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .
والحصور إشارة إلى الزهد التام ، فلما اجتمعا حصلت النبوة؛ لأنه ليس بعدهما إلا النبوة .
قوله : { مِّنَ الصالحين } صفة لقوله : { وَنَبِيّاً } فهو في محل نصب ، وفي معناه ثلاثة أوجهٍ :
الأول : معناه من أولاد الصالحين .
الثاني : أنه خَيِّر - كما يقال للرجل الخَيِّر : إنه من الصالحين .
الثالث : أن صلاحه كان أتمَّ من صلاح سائر الأنبياء؛ لقوله - عليه السلام- : « مَا مِنْ نَبِيٍّ إلاَّ عَصَى وَهَمّ بِمَعْصِيَةٍ إلاَّ يحيَى بن زكريا ، فإنه لم يَعْصِ ولم يَهِمَّ بمعصيةٍ » .
فإن قيل : إن كان منصب النبوة أعلى من منصب الصلاح ، فما الفائدة في ذكر منصب الصلاح بعد ذكر النبوة؟
فالجواب : أن سليمان - بعد حصول النبوة - قال : { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين } [ النمل : 19 ] .
وتحقيقه أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة ، فذلك القدر - بالنسبة إليهم - يجري مجرى حفظ الواجبات - بالنسبة إلينا - وبعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتُهم في الزيادة على ذلك القدر ، فكلما كان أكثر نصيباً كان أعلى قَدْراً .
والله أعلم .
قوله : { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } يجوز أن تكون الناقصة ، وفي خبرها - حينئذ - وجهان :
أحدهما : « { أنى » لأنها بمعنى « كيف » أو بمعنى « مِنْ أيْنَ » ؟ ، و « لِي » - على هذا - تبيين .
والثاني : أن الخبر هو الجار والمجرور ، و « كيف » منصوب على الظرف . ويجوز أن تكون التامة ، فيكون الظرف والجار - كلاهما - متعلقين ب « يَكُونُ » ، أي : كيف يحدث لي غلام؟
ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من « غُلاَمٌ » ؛ لأنه لو تأخر لكان صفةً له .
قوله : { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر } جملة حالية .
قال أهل المعاني : « كل شيء صادفتَه وبلغتَه فقد صادفكَ وبلغكَ » .
فلهذا جاز أن نقول : بلغتُ الكِبَرَ ، وجاز أن تقول : بلغَنِي الكِبَرُ ، يدل عليه قولُ العربِ : تلقيت الحائط وتلقاني الحائط .
وقيل : لأن الحوادث تطلب الإنسان . وقيل : هو من المقلوب ، كقوله : [ البسيط ]
1440- مِثْلُ الْقَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ ... نَجْرَانَ أوْ بَلَغَتْ سَوْآتِهِمْ هَجرُ
فإن قيل : أيجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد؟
فالجواب : أنه لا يجوز ، والفرق بينهما أن الكِبَر كالشيء الطالب للإنسان ، فهو يأتيه بحدوثه فيه والإنسان أيضاً يأتيه - أيضاً - بمرور السنين عليه ، أما البلد فليس كالطالب للإنسان الذاهب ، فظهر الفرقُ .
فصل
قدم في هذه السورة حال نفسه ، وأخَّر حالَ امرأته ، وفي سورة مريم عكس .
فقيل : لأن ضَرْبَ الآيات - في مريم - مطابق لهذا التركيب؛ لأنه قدَّم وَهْنَ عَظْمِه ، واشتعالَ شيْبه ، وخوفه مواليه ممن ورائه ، وقال : « وَكَانَتِ امْرَأتِي عَاقِراً » فلما أعاد ذِكْرَهما في استفهامه أخر ذِكْر الكِبَر ، ليوافق رؤوس الآي - وهي باب مقصود في الفصاحة - والعطف بالواو لا يقتضي ترتيباً زمانيًّا فلذلك لم يبال بتقديم ولا تأخير .
فصل
الغلام : الفَتِيُّ السِّنِّ من الناس - وهو الذي بَقَلَ شَارِبُه - وإطلاقه على الطفل وعلى الكهل مجاز؛ أما الطفل فللتفاؤل بما يئول إليه ، وأما الكهل ، فباعتبار ما كان عليه .
قالت ليلى الأخيليّة : [ الطويل ]
1441- شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا ... غُلاَمٌ إذَا هَزَّ القَنَاةَ سَقَاهَا
وقال بعضهم : ما دام الولد في بطن أمِّه سُمِّي جَنِيناً ، قال تعالى : { وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النجم : 32 ] سمي بذلك لاجتنانه في الرحم ، فإذا وُلِدَ سُمِّي صَبِيًّا ، فإذا فُطِمَ سمي غُلاماً إلى سبع سنين ، ثم يُسَمَّى يافعاً إلى أن يبلغ عشر سنين ، ثم يُطْلَق عليه حَزَوَّر إلى خمس عشرة سنة ، ثم يصير قمراً إلى خمس وعشرين سنةً ، ثم عنطْنَطاً إلى ثلاثين .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1442- وَبِالْمَخْضِ حَتَّى صَارَ جَعْداً عَنَطْنَطاً ... إذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الْفَحْلِ غَارِبُهْ
ثم حَلْحَلاً إلى أربعين ، ثم كَهْلاً إلى خمسين - وقيل : إلى ستين - ثم شيخاً إلى ثمانين ، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى عند قوله : { فِي المهد وَكَهْلاً } [ آل عمران : 46 ] ثم هو راغم بعد ذلك .
واشتقاق « الغلام » من الغِلْمَة والاغتلام ، وهو طلب النكاح ، لما كان مسبباً عنه أخذ منه لفظه .
ويقال : اغتلم الفَحْلُ : أي : اشتدت شهوتُه إلى طلب النكاح ، واغتلم البحر ، أي : هاج وتلاطمت أمواجه ، مستعار منه .
وجمعه - في القلة - أغْلِمَةٌ ، وفي الكثرة : غِلْمان ، وقد جمع - شذوذاً - على غِلْمَة ، وهل هذه الصيغة جمع تكسير أو اسم جمع؟
قال الفراء : « يقال : غلام بيِّن الغلومة والغلومِيَّة والغُلامية ، قال : والعرب تجعل مصدر كل اسم ليس له فعل معروف على هذا المثال فيقولون : عبد بَيِّنُ العبودية والعُبَاديَّة - يعني لم تتكلم العرب من هذا بفعل- » .
قال القرطبي : والغَيْلم : ذكر السلحفاة ، والغَيْلم : موضع .
وهي مصدر كَبِر يَكْبَر كِبَراً أي : طعن في السِّنِّ ، قال : [ الطويل ]
1443- صَغِيرَيْنِ نَرْعَى الْبَهْمَ يَا لَيْتَ أنَّنَا ... إلَى الْيَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ وَلَمْ تَكْبَرِ البَهْمُ
فصل
قال الكلبيُّ : كان زكريا - يوم بُشِّر بالولد - ابن ثنتين وتسعين سنة .
وقيل : ابن ثنتين وسبعين سنة .
وروى الضحاك - عن ابن عباسٍ - قال : كان ابن عشرين ومائة سنة ، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنةً .
فإن قيل : قوله : { رَبِّ أنى يَكُونُ } خطاب مع الله ، أو مع الملائكة ، وليس جائزاً أن يكون مع الله تعالى؛ لأن الآية المقدمةَ دلَّت على أن الذين نادَوْه هم الملائكةُ ، وهذا الكلام ، لا بُدَّ أن يكون خطاباً مع ذلك المنادَى لا مع غيره ، وليس جائزاً أن يكون خطاباً مع الملك؛ لأنه لا يجوز أن يقول الإنسان للملك : يا رب ، فذكر المفسّرون فيه جوابَيْنِ :
أحدهما : أن الملائكة لما نادَوه وبَشَّروه تعجَّب زكريا ، ورجع في إزالة ذلك التعجُّب إلى الله - تعالى - .
الثاني : أنه خطاب مع الملائكة ، و الربُّ إشارة غلى المربِّي ، ويجوز وَصْف المخلوقِ به ، فإنه يقال : فلان يربيني ويُحْسِن إليَّ .
فإن قيل : لم قال زكريا - بعدما وعده الله وبشره بالولد - : « أنى يكون لي غلام » أكان ذلك عنده محال أو شَكًّا في وعد الله وقدرته؟
فالجواب : من وجوهٍ :
أحدها : إن قلنا : معناه من أين؟ هذا الكلام لم يكن لأجل أنه لو كان لا نُطْفَةَ إلا مِن خَلْق ، ولا خَلْقَ إلا من نطفة ، لزم التسلسل ، ولزم حدوث الحوادث في الأزل - وهو محال - فعلمنا أنه لا بد من الانتهاء إلى مخلوق خلقه الله - تعالى - لا من نطفة ، أو من نطفة خلقها اللهُ - تعالى - لاَ مِنْ إنسان .
[ ثانيها ] : يحتمل أن زكريَّا طلب ذلك من الله - تعالى - فلو كان ذلك محالاً ممتنعاً لَمَا طلبه من الله - تعالى- .
وإذا كان معنى « أنَّى » : كيف ، فحدوث الولد يحتمل وجهين :
أحدهما : أي منع شيخوخته ، وشيخوخة امرأته ، أو يجعله وامرأته شابين ، أو يرزقه الله ولداً من امرأة أخْرَى ، فقوله : { رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } معناه : كيف تعطيني الولد؟ فسأل عن الكيفية على القسم الأول ، أمّا على القسم الثاني فقال مستفهماً لا شاكاً . قاله الحسنُ والأصمّ .
وثانيهما : أن من كان آيساً من الشيء مستبعِداً لحصوله ووقوعه ، إذا اتفق أن حصل له ذلك المقصود ، فربما صار كالمدهوش من شدة الفرحِ ، ويقول : كيف حصل هذا؟ ومن أين وقع؟ كمن يرى إنساناً وَهَبَ أموالاً عظيمة ، يقول : كيف وَهَبَ هذه الأموالَ؟ ومن أين سَمَحَتْ نفسك بِهبَتِهَا . كذا هنا .
الثالث : أن الملائكة لما بشَّروه بيحيى ، لم يعلم أنه يُرزَق الولد من جهة أنثى ، أو من صُلْبه ، فذكر هذا الكلام ليزول ذلك الاحتمال .
الرابع : أن العبد إذا كان في غاية الاشتياقِ إلى شيء يطلب من السيد ، ثم إن السيد يَعِدُه بأنه سيعطيه ، فعند ذلك يلتذُّ السائلُ بسماعِ ذلك ، فربما أعاد السؤال؛ ليُعِيدَ ذلك الجواب ، فحينئذ يلتذ بسماع تلك الإجابة مرة أخرى ، فيحتمل أن يكون هذا هو السبب في إعادة هذا الكلام .
الخامس : نقل عن سفيان بن عيينة قال : كان دعاؤه قبل البشارة بستين سنة حتى كان نسي ذلك السؤال وقت البشارةِ ، فلما سمع البشارة - زمان الشيخوخة - استبعد ذلك - على مجرى العادة لا شكًّا في قدرة الله - تعالى - .
السادس : قال عكرمة والسُّدِّيُّ : إنَّ زكريا - عليه السلام - جاءه الشيطان عند سماع البشارة ، فقال يا زكريا إن هذا لصوت من الشيطان - وقد سخر منك - ولو كان من الله لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور ، فقال زكريا ذلك؛ دَفْعاً للوسوسة ، ومقصوده من هذا الكلام أن يُرِيَه الله آيةً تدل على ن ذلك الكلامَ من الوَحْيِ والملائكة لا من إلقاء الشيطانِ .
قال القرطبي : لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشياطينِ عند الأنبياء عليهم السلام؛ إذْ لَوْ جوَّزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع .
ويمكن أن يُجاب بأنه لمَّا قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين لا جرم حصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله بواسطة الملائكة ، ولا مَدْخَل للشيطان فيه ، أمّا ما يتعلق بمصالح الدنيا أو الولد ، فربما لا يتأكد ذلك بالمعجزات . فلا جرم [ بقي احتمال كون ذلك الكلام من الشيطان ] ، فرجع إلى الله - تعالى - في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال .
قوله : { وامرأتي عَاقِرٌ } جملة حالية ، إما من الياء في « لِي » فيتعدد الحال - عند مَنْ يراه - وإما من الياء في « بَلَغَنِي » ، والعاقر : مَنْ لا يولد له رجلاً كان أو امرأة ، مشتقاً من العَقْر ، وهو القتل ، كأنهم تخيلوا فيه قتل أولاده ، والفعل - بهذا المعنى - لازم ، وأما عَقَرْتُ - بمعنى « نَحَرْت » فمُتَعَدٍّ .
قال تعالى : { فَعَقَرُواْ الناقة } [ الأعراف : 77 ] .
وقال الشاعر : [ الطويل ]
1444- . . ... عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأ الْقَيْسِ فَانْزِلِ
وقيل : عاقر - على النسب - أي : ذات عقر ، وهي بمعنى مفعول ، أي : معقورة ، ولذلك لم تلحق تاء التأنيث ، والعَُقْر بفتح العين وضمها - أصل الشيء ، ومنه عقر الدار ، وعقر الحوض ، وفي الحديث : « ما غُزِيَ قَوْمٌ قَطٌّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إلاَّ ذَلُّوا » وعقرته ، أي : أصبت عقره ، أي : أصله - نحو رأسته ، أي أصبت رأسه ، والعقر - أيضاً - آخر الولد ، وكذلك بيضة العَقر ، والعقار : الخمر لأنها تعقر العقل - مجازاً - وفي كلامهم رفع فلان عقيرته ، أي : صوته ، وذلك أن رَجَلاً عُقِرَ رجله فرفع صوته ، فاستُعِير ذلك لكلّ من رفع صوته . وقال : وأنشد الفراء : [ الرجز ]
1445- أرْزَامُ بَابٍ عَقُرَتْ أعْوَامَا ... فَعَلَّقَتْ بُنَيَّهَا تَسْمَامَا
وقال بعضهم : يقال : عَقُرت المرأةُ تعقُر عَقْراً وعَقَاراً ويقال : عَقُر الرجل وعَقَر وعَقِرَ إذا لم تَحْبَل زوجته ، فجعل الفعل المسند إلى الرجل أوسع من المسند إلى المرأة .
قال الزّجّاج : عاقر بمعنى ذات عُقر قال : لأن فَعُلْت أسماء الفاعلين منه على فعيل نحو ظريفة ، وكريمة ، وإنما عاقر على ذات عُقْر ، قلت : وهذا نص في أن الفعل المسند للمرأة لا يقال فيه إلا عَقُرَتْ - بضم القاف؛ إذْ لَوْ جاز فَتْحها ، أو كسرها لجاء منهما فَاعِل - من غير تأويل على النسب ، ومن ورود عاقر وصفاً للرجل قول عامر بن الطفيل : [ الطويل ]
1446- لَبِئْسَ الْفَتَى إنْ كُنْتُ أعْوَرَ عَاقِراً ... جَبَاناً فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ
قال القرطبيُّ : « والعاقر : العظيم من الرمل ، لا يُنْبِت شيئاً ، والعُقْر - أيضاً - مهر المرأة إذا وطئت بِشُبْهَةٍ وبَيْضَةُ الْعُقْر : زعموا أنها بيضة الديك ، لأنه يبيض في عمره بيضةً واحدةً إلى الطول ، وعقر النار - أيضاً - وسطها ومعظمها وعقر الحوض : مُؤخِّره - حيث تقف الإبل إذا وردت » .
قوله : { قَالَ كَذَلِكَ } هذا القائل هو الرب المذكور في قوله : { رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } وقد ذكرنا أنه يحتمل أن يكون هو الله تعالى وأن يكون هو جبريل - عليه السلام .
قوله : { كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } في الكاف وجهان :
أحدهما : أنها في محل نصب ، وفيه التخريجان المشهوران :
الأول - وعليه أكثر المعربين- : أنها نعت لمصدر محذوف ، وتقديره يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة ، مثل ذاك الفعل ، وهو خلق الولد بين شيخ فَانٍ وعجوز عاقرٍ .
والثاني أنها في محل نصب على الحال من ضمير ذلك المصدرِ ، أي : يفعل الفعل حال كونه مثل ذلك وهو مذهب سيبويه ، وقد تقدم إيضاحه .
الثاني - من وجهي الكاف- : أنها في محل رفع خبر مقدَّم ، ولفظ الجلالة مبتدأ مؤخر ، فقدره الزمخشري على نحو هذه الصفة لله ، ويفعل ما يشاء بيان له ، وقدره ابن عطية : « كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله » .
وقدّره أبو حيّان ، فقال : « وذلك على حذف مضاف ، أي : صنع الله الغريب مثل ذلك الصنع ، فيكون { يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } شرحاً للإبهام الذي في اسم الإشارة » .
فالكلام - على الأول - جملة واحدة ، وعلى الثاني جملتان .
وقال ابن عطية : « ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا وحال امرأته ، كأنه قال : رَبِّ على أيّ وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا؟ فقال لهما : كما أنتما يكون لكما الغلام ، والكلام تام ، على هذا التأويل - في قوله » كذلك « ، وقوله : { الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } جملة مبيِّنة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب » .
وعلى هذا الذي ذكره يكون « كَذَلِكَ » متعلقاً بمحذوف ، و « اللهُ يَفْعَلُ » جملة منعقدة مع مبتدأ وخبر .
قوله : { اجعل لي آيَةً } يجوز أن يكون الجعل بمعنى التصيير ، فيتعدى لاثنين : أولهما « آية » ، الثاني : الجار قبله ، و التقديم - هنا - واجب؛ لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة - وهي آية - أي : لو انحلت إلى مبتدأ وخبر إلا تقدم هذا الجار ، وحكمها بعد دخول الناسخ حكمها قبله ، والتقدير : صير آية من الآيات لي ، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق والإيجاد - أي : أوجد لي آية - فيتعدى لواحد ، وفي « لِي » - على هذا - وجهان :
أحدهما : أن يتعلق بالجَعْل .
والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من « آيةً » ؛ لأنه لو تأخَّر لجاز أن يقع صفة لها . ويجوز أن يكون للبيان .
وحرك الياء - بالفتح - نافع وأبو عمرو ، وسكنها الباقون .
فصل
المراد بالآية : العلامة ، أي : علامة أعلم بها وقتَ حضمْل امرأتي ، فأزيد في العبادة شكراً لذلك ، وذكروا في الآية وجوهاً :
أحدها : أنه - تعالى - حبس لسانه ثلاثة أيامٍ ، فلم يقدر أن يكلم الناس إلا رمزاً؛ وهو قول أكثر المفسّرين ، وفيه فائدتان :
إحداهما : أن يكون ذلك دليلاً على علوق الولد .
والثانية : أنه تعالى - حبس لسانه عن أمور الدنيا ، وأقْدَره على الذكر ، والتسبيح ، والتهليل ، فيكون في تلك المدةِ مشتغِلاً بذكر الله - تعالى - وبالطاعة وبالشكر على تلك النعمة .
واعلم أن اشتمالَ تلك الْوَاقِعَةِ على المعجزة من وجوهٍ :
أحدها : أن قدرته على التكلُّم بالتسبيح والذكر ، وعجزه عن الكلام بأمور الدنيا من أعظم المعجزات .
وثانيها : أن حصول تلك المعجزة في تلك الأيامِ المقدرة - مع حصول البنية واعتدال المزاج - معجزة ظاهرة .
ثالثها : أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة ، فقد حصل الولد ، ثُم إنَّ الأمر خرج على وفق هذا الخبر .
الثاني : قال أبو مسلم : إنّ زكريا لما طلب من الله آيةً تدل على علوق الولد ، قال تعالى : آيتك أن تصير مأموراً بأن لا تكلم الناس ثلاثة أيامٍ بلياليها مع الخلق ، وأن تكون مشتغلاً بالذكر ، والتسبيح ، والتهليل ، معرضاً عن الخلق والدنيا؛ شكراً لله - تعالى - على إعطاء مثل هذه الموهبة ، فإن كانت لك حاجة دُلَّ عليها بالرمز ، فإذا أمرت بهذه الطاعة فقد حصل المطلوب .
الثالث : قال قتادة : أمسك لسانه عن الكلام؛ عقوبة لسؤاله الآية - بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة - فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام .
وقوله : { أَلاَّ تُكَلِّمَ } « أن » وما في حَيِّزها في محل رفع؛ خبراً لقوله : { آيَتُكَ } أي آيتك عدم كلامك الناس . والجمهور على نصب « تُكَلِّمَ » بأن المصدرية .
وقرأ ابن أبي عبلة برفعه ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن تكون « أن » مخففة من الثقيلة ، واسمها - حينئذ - ضمير الشأن محذوف والجملة المنفيَّة بعدها في محل رفع ، خبراً لِ « أن » ومثله : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ } [ طه : 89 ] وقوله : { وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ المائدة : 71 ] ووقع الفاصل بين « أن » والفعل الواقع خبرها حرف نفي ، ولكن يُضعف كونَها مخفَّفةً عدمُ وقوعها بعد فعل يقين .
والثاني : أن تكون « أن » الناصبة حُمِلَتْ على « ما » أختها ، ومثله : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } [ البقرة : 233 ] و « أن » وما في حيزها - أيضاً - في محل رفع ، خبراً ل « آيتك » .
قوله : { ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ } الصحيح أن هذا النحو - وهو ما كان من الأزمنة يستغرق جميع الحدث الواقع فيه - منصوب على الظرف ، خلافاً للكوفيين ، فإنهم ينصبونه نصب المفعول به .
وقيل : وثم معطوف محذوف تقديره ثلاثة أيام ولياليها ، فحذف ، كقوله تعالى : { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] ونظائره؛ يدل على ذلك قوله - في سورة مريم - { ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } [ مريم : 10 ] وقد يقال : إنه يؤخذ المجموع من الآيتين ، فلا حاجة إلى ادعاء حذف؛ فإنه على هذا التقدير الذي ذكرتموه - يحتاج إلى تقدير معطوف في الآية الأخرىك ثلاث ليال وأيامها .
قوله : { إلاَّ رَمْزًا } فيه وجهان :
أحدهما : أنه استثناء منقطع؛ لأن الرمز ليس من جنس الكلام ، إذ الرمز الإشارة بعَيْن ، أو حاجب أو نحوهما ، ولم يذكر أبو البقاء غيره .
وبه بدأ ابن عطية مختاراً له ، فإنه قال : « والمراد بالكلام - في الآية - إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس ، فحقيقة هذا الاستثناء ، منقطع ، ثم قال : وذهب الفقهاءُ إلى أن الإشارة ونحوها في حكم الكلام في الأيْمَان ونحوها؛ فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلاً » .
والوجه الثاني : أنه متصل؛ لأن الكلام لغة يطلق بإزاء معانٍ : الرمز والإشارة من جملتها .
أنشدوا : [ الطويل ]
1447- إذَا كَلَّمَتْنِي بِالْعُيُونِ الْفَوَاتِرِ ... رَدَدتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوَادِرِ
وقال آخر : [ الطويل ]
1448- أرَادَتْ كَلاَماً فَاتَّقَتْ مِنْ رَقِيبِهَا ... فَلَمْ يَكُ إلاَّ وَمْؤُهَا بِالْحَوَاجِبِ
وهو مستعمل ، قال حبيب : [ البسيط ]
1449- كَلَّمْتُهُ بِجُفُونٍ غَيْرِ نَاطِقَةٍ ... فَكَانَ مِنْ رَدِّهِ مَا قَالَ حَاجِبُهُ
وبهذا الوجه بدأ الزمخشريُّ مختاراً له ، قال : « لما أدى مؤدَّى الكلام ، وفُهِم منه ما يُفْهَم سُمِّي كلاماً ، ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً » .
والرمز : الإشارة والإيماء بعين ، أو حاجب أو يَدٍ - ذكر بعض المفسّرين أن إشارته كانت بالمُسَبِّحة ومنه قيل للفاجرة : الرَّمَّازة ، والرمَّازة ، وفي الحديث : « نَهَى عَنْ كَسْبِ الرَّمَّازَةِ » ، يقال منه : رمزت ترمُز وترمِز - بضم العين وكسرها في المضارع .
وأصل الرمز : التحرك ، يقال : رمز وارْتَمز أي : تحرَّك ، ومنه قيل للبحر : الراموز ، لتحركه واضطرابه .
وقال الراغب : « الرمز : الإشارة بالشفة والصوت الخفي ، والغمز بالحاجب . وما ارمَازَّ : أي ما تكلم رمزاً ، وكتيبه رمَّازة : أي : لم يُسْمَع منها إلا رَمزاً؛ لكثرتها » .
ويؤيد كونه الصوت الخفي - على ما قاله الراغب - أنه كان ممنوعاً من رفع الصوت .
قال الفراء : « قد يكون الرمز باللسان من غي أن يتبيَّن ، وهو الصوت الخفي ، شبه الهَمْس » .
وقال عطاء : أراد صوم ثلاثة أيامٍ؛ لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلا رمزاً .
وقرأ العامة : « رمزاً » - بفتح الراء وسكون الميم - وقرأ يحيى بن وثَّابِ وعلقمة بن قيس « رُمُزاً » بضمها - وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدر على « فُعْل » - بتسكين العين - في الصل ، ثم ضُمَّتِ العين؛ إتباعاً ، كقولهم اليُسُر والعُسُر - في اليُسْر والعُسْر - وقد تقدم كلام أهل التصريف فيه .
والثاني : أنه جمع رموز - كرُسُل في جمع رسول - ولم يذكر الزمخشريُّ غيره .
وقال أبو البقاء : « وقرئ بضمها - أي : الراء - وهو جمع رُمُزَة - بضمتين - وأقر ذلك في الجمع . ويجوز أن يكون مسَكَّنَ الميم - في الأصل - وإنما أتبع الضمُّ الضَّمَّ .
ويجوز أن يكون مصدراً غير جمع ، وضُمَّ ، إتباعاً ، كاليُسُر واليُسْر » .
قال شهاب الدين : قوله : « جمع رُمُزة » إلى قوله : في الصل؛ كلام لا يفهم منه معنى صحيح .
وقرأ الأعمش : « رَمَزاً » بفتحهما .
وخرجها الزمخشري على أنه جمع رامز - كخادم وخَدَم - وانتصابه على هذا - على الحال من الفاعل - وهو ضمير زكريا - والمفعول معاً - وهو الناس - كأنه قال : إلا مترامزين ، كقوله : [ الوافر ]
1450- مَتَى مَا تَلْقَنِي فَرْدَيْنِ تَرْجُفْ ... رَوَانِفُ ألْيَتَيْكَ وَتُسْتَطَارَا
وكقوله : [ الكامل ]
1451- فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خَالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنْ ... أَيِّي وَأيُّكَ فَارِسُ الأحْزَابِ؟
قوله : « كَثِيراً » نعت لمصدر محذوف ، أو حال من ضمير ذلك المصدر ، أو نعت لزمان محذوف تقديره : ذِكْراً كثيراً ، أو زماناً كثيراً ، والباء في قوله : « بِالْعَشِيِّ » بمعنى « فِي » أي : في العشي والإبكار .
والعشي : يقال من وقت زوال الشمس إلى مَغيبها ، كذا قال الزمخشريُّ .
وقال الراغب : « العشيُّ من زوال الشمسِ إلى الصباحِ » . والأول هو المعروف .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1452- فَلاَ الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ ... وَلاَ الْفَيْءُ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ
وقال الواحديُّ : « العَشِيّ : جمع عشية ، وهي آخر النهارِ » .
والعامة قرءوا : « والإبْكَارِ » بكسر الهمزة ، وهو مصدر أبكر يُبْكِر إبكاراً - أي : خرج بُكْرَةً ، ومثله : بَكَرَ - بالتخفيف - وابتكر .
قال عمر بن أبي ربيعة : [ الطويل ]
1453- أمِنْ آلِ نُعْمٍ أنْتَ غَادٍ فَمُبْكر .. . . .
وقال : [ الخفيف ]
1454- أيُّهَا الرَّائِحُ المُجِدُّ ابْتِكَاراً .. . .
وقال أيضاً : [ الطويل ]
1455- بَكَرْنَ بُكُوراً وَاسْتَحَرْنَ بسُحْرَةٍ ... فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ
وقرئ شاذاً « والأبْكَار » - بفتح الهمزة - وهو جمع بَكَرَ - بفتح الفاء والعين - ومتى أريد به هذا الوقت من يوم بعينه امتنع من الصرف والتصرُّف ، فلا يُستعمَل غيرَ ظرف ، تقول : أتيتك يوم الجمعة بَكَر . وسبب مَنْع صَرْفه التعريفُ والعدل عن « أل » . فلو أرِيدَ به وقت مُبْهَم انصرف نحو أتيتك بكراً من الأبكار ونظيره سحر وأسْحار - في جميع ما تقدم .
وهذه القراءة تناسب قوله : { بالعشي } عند من يجعلها جمع عَشِيَّة؛ ليتقابل الجَمْعَان .
ووقت الإبكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى .
وقال الراغب : أصل الكلمة هي البكرة - أول النهار - فاشتقَّ من لفظه لفظُ الفعل ، فقيل : بكر فلان بُكُوراً - إذا خرج بُكْرَةً . والبَكور : المبالغ في البكور ، وبَكَّر في حاجته ، وابتكر وبَاكَر . [ وتصور فيها ] معنى التعجيل؛ لتقدُّمِها على سائر أوقاتِ النهار فقيل لكل مُتَعَجِّل : بَكَّر .
وظاهر هذه العبارة أن البَكَر مختص بطلوع الشمس إلى الضُّحَى ، فإن أريد به من أول طلوع الفجر إلى الضحى فإنه على خلاف الأصلِ .
وقد صرح الواحديُّ بذلك ، فقال : « هذا معنى الإبكارِ ، ثم يُسَمَّى ما بين طلوعِ الفجر إلى الضُّحَى إبكاراً كما يسمى إصْبَاحاً » .
فصل
قيل : المراد بالذكر الكثير : الذكر بالقلب ، وقوله : { وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار } محمول على الذكر باللسان .
وقيل : المراد بالتسبيح : الصلاة؛ لأنها تسمى تسبيحاً ، قال تعالى : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] . ومنه سمي صلاة الظهر والعصر : صلاتي العشيّ .

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
إن شئت جعلتَ « إذ » نسقاً على الظرف قبله - وهو قوله : { إِذْ قَالَتِ امرأة عِمْرَانَ } [ آل عمران : 35 ] ، وإن شئت جعلته منصوباً بمقدّر ، قاله أبو البقاء .
وقرأ ابنُ مسعودٍ وابن عمرَ : { وَإِذْ قَالَتِ الملائكة } ، - دون تاء تأنيث ، وتقدم توجيهه في « فناداه الملائكة » - ومعمول القول الجملة المؤكدة ب « إنَّ » - من قوله : { إِنَّ الله اصطفاك } - وكرر الاصطفاء؛ رَفْعاً من شأنها .
قال الزمخشريُّ : « اصطفاك أولاً حين تَقَبَّلَكِ مِنْ أمِّكِ ، وربَّاكِ ، واختصك بالكرامة السنية ، واصطفاك آخراً على نساء العالمين ، بأن وَهَبَ لكِ عيسى من غير أبٍ ، ولم يكن ذلك لأحد من النساء » .
واصطفى : « افتعل » من الصفوة أبدلت التاء طاءً؛ لأجل حرف الإطباق كما تقدم تقريره في البقرة ، وتقدم سبب تعديه ب « على » وإن كان أصل تعديته بمن .
وقال أبو البقاء : « وكرر اصطفى إما توكيداً وإما لتبيين من اصطفاها عليهم » .
وقال الواحديُّ : « وكرَّر الاصطفاء؛ لأنّ كلا الاصطفاءين يختلف معناهما ، فالاصطفاء الأول عموم يدخل فيه صوالح النساءِ ، والثاني : اصطفاءٌ بما اختصت به من خصائصها » .
فصل
المراد بالملائكة - هنا جبريل وحده كقوله : { يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ1764;اْ } [ النحل : 2 ] يعني : جبريل وإنما عدلنا عن الظاهر؛ لأن سورةَ مريمَ دلت على أن المتكلمَ مع مريم عليه السلام هو جبريلُ؛ لقوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } [ مريم : 17 ] .
فصل
اعلم أن مريمَ - عليها السلامُ - ما كانت من الأنبياء ، لقوله تعالى { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ } [ الأنبياء : 7 ] ، وهذا الاستدلالُ فيه نظرٌ؛ لأن الإرسالَ ليس هو المدَّعَى ، وإنما المدَّعَى هو النبوة ، فإنَّ كلَّ رسول نبيٌّ ، وليس كلُّ نبيٍّ رسولاً ، وإذا كان كذلك كان إرسالُ جبريلَ إليها إمَّا يكون كرامةً لها - وهو مذهب مَنْ يُجوز كرامات الأولياء - وإرهاصاً لعيسى ، والإرهاص : هو مقدمة تأسيسِ النبوةِ ، وإما أن يكون معجزةً لزكريا عليه السلام وهو قول جمهور المعتزلة .
وقال بعضهم : إن ذلك كان على سبيل النفث في الرَّوع ، والإلهام ، والإلقاء في القلب ، كما كان في حقِّ أم موسى - عليه السلام - في قوله : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى } [ القصص : 7 ] .
فصل
قيل : المرادُ بالاصطفاء الأول أمور :
أحدها : أنه - تعالى - قبل تحريرها - مع كونها أنثى - ولم يحصل هذا لغيرها .
وثانيها : قال الحسنُ : إن أمَّها لما وضعتها ما غذَّتها طرفة عين ، بل ألقتها إلى زكريا ، فكان رزقُها يأتيها من الجَنَّةِ .
وثالثها : أنّه - تعالى - فرَّغها لعبادته ، وكفاها أمر رِزقها .
ورابعها : أنه - تعالى - أَسْمَعَها كلام الملائكة شِفَاهاً ، ولم يتَّفِق ذلك لأُنْثَى غيرها .
فصل
وفي التطهير أيضاً وجوه :
أحدها : أنه - تعالى - طهرها عن الكفر والمعصية ، كقوله تعالى في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم :
{ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [ الأحزاب : 33 ] .
وثانيها : طهرها عن مسيس الرجال .
وثالثها : طهرها عن الحيض والنفاس .
ورابعها : طهرها عن الأفعال الخسيسة .
وخامسها : طهرها عن مقال اليهود وكذبهم وافترائهم . وأما الاصطفاء الثاني ، فالمراد منه أنه - تعالى - وَهَبَ لها عيسى عليه السلام من غير أب ، وأَنْطَق عيسى حين انفصاله منها وحين شَهِد لها ببراءتها من التهمة ، وجعلها وابنها ىية للعالمين . وقال علي - رضي الله عنه - سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَان ، وخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ » رواه وكيع وأشار وكيع إلى السماء والأرض .
وعن أبي موسى الأشعريّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَرْيَمُ ابْنَة عمران ، وآسِية امْرَأةُ فِرْعَوْنَ ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَة عَلَى سائِر النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيد عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ » .
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « حَسْبُك مِنْ نِسَاء العَالَمِين أَرْبَعٌ : مَرْيم بِنْتُ عِمْرانَ ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِد ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ » .
وقيل : دلَّ هذا الحديثُ على أن هؤلاء الأربع أفضلُ من سائر النساء ، وهذه الآية دلت على أنَّ مريم عليها السلام أفضل من الكُلِّ . وقَول مَنْ قال : « المراد أنها مُصْطَفَاةٌ على عالمي زمانها ، فهذا تَركٌ للظاهر . وروى موسى بن عقبة عن كُريب عن ابن عباسٍ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » سَيِّدَةُ نساءِ العَالَمِينَ مَرْيَمُ ثُمَّ فَاطِمَة ، ثُمَّ خَدِيْجَةُ ، ثُمَّ آسيَةُ « حديث حسن .
قال القرطبي : خصَّ الله مريَم بما لم يؤتهِ أحداً من النساء؛ وذلك أن رُوحَ القدس كلَّمها ، وظهر لها ونفخ في دِرْعها ، ودنا منها للنفخة ، وليس هذا لأحد من النساء ، وصدَّقت بكلمات ربِّها ، لم تَسأَلْ آيةً عندما بُشرَت - كما سأل زكريا - من الآية ، ولذلك سمَّاها الله - تعالى - في تنزيله : صِدِّيقةً ، قال » وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ « وقال : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين } [ التحريم : 12 ] فشهد لها بالصديقية وشهد لها بالتصديق بكلمات البشرى ، وشهد لها بالقنوت؛ ولما بُشِّرَ زكريا بالغلام لحظ إلى كِبَر سِنِّه ، وعقم رحم امرأته فقال : { قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ } [ آل عمران : 40 ] ، فسأل آية . وبشرت مريم بالغلام فلحظت أنها بكر ، ولم يَمْسَسْها بَشَر ، فقيل لها كذلك قال رَبُّكِ فاقتصرت على ذلك ، وصدَّقت بكلمات ربها ، ولم تسأل آية ، فمن يَعْلم كُنه هذا الأمر ، ومن لامرأة في جميع نساء العالمين من بنات آدمَ ما لها من هذه المناقب؟
قوله : { يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين } تقدم الكلام في القنوت عند قوله تعالى :
{ وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } [ البقرة : 238 ] . وأنه طول القيام .
فإن قيل : لِمَ قدم ذكر السجود على الركوع؟
فالجواب من وجوهٍ :
أحدها : أن الواو تفيد التشريك لا الترتيبَ .
الثاني : أن غاية قُرْب العبد من ربه إذا كان ساجداً ، فلما اختص السجود بهذه الفضيلة قُدِّم على بَاقِي الطَّاعَاتِ .
الثالث : قال ابنُ الأنباري : « قوله تعالى : { اقنتي لِرَبِّكِ } أمر بالعبادة على العموم ، وقوله بَعْدَ ذلك : { واسجدي واركعي } يعني استعملي السجود في وقته اللائق به ، وليس المراد أن تجمع بينهم ، ثم تقدم السجود على الركوعِ » .
الرابع : أن الصلاة تسمى سجوداً - كما قيل في قوله : { وَأَدْبَارَ السجود } [ ق : 40 ] وفي الحديث : « إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين » .
وأيضاً قال : فالسجود أفضل أجزاء الصلاة ، وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه مجاز مشهور .
وإذا ثبت ذلك فقوله : { يامريم اقنتي } معناه : قومي ، وقوله : { واسجدي } أمر ظاهر بالصلاة حال الانفراد ، وقوله : { واركعي مَعَ الراكعين } أمر بالخضوع ، والخشوع بالقلب .
الخامس : لعلّ السجود في ذلك الدين كان متقدّماً على الركوع . فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : واركعي مع الراكعات؟
فالجواب : لأن الاقتداء بالرجل - حال الاختفاء من الرجال - أفضل من الاقتداء بالنساء .
وقيل : لأنه أعم وأشمل .
قال المفسّرون : لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات - شفاهاً - لمريم قامت في الصّلاة ، حتى تورمت قدماها ، وسالت دماً وقَيْحاً .
وقوله : { واركعي مَعَ الراكعين } قيل : معناه : افعلي كفعلهم .
وقيل : المراد به الصلاة الجامعة .
قوله : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ } يجوز فيه أوجه :
أحدها : أن يكون « ذَلِكَ » خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، وتقديره : الأمر ذلك . و { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب } متعلقاً بما بعدَه ، وتكون الجملة من « نُوحِيهِ » - إذ ذاك - إما مُبَيِّنَة وشارحة للجملة قبلها ، وإما حالاً .
الثاني : أن يكون « ذَلِكَ » مبتدأ ، و { مِنْ أَنَبَآءِ الغيب } خبره ، والجملة من « نُوحِيهِ » مستأنفة ، والضميرُ من « نوحِيهِ » عائد على الغيب ، أي : الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب ونعلمك به ونُظهرك على قصص مَنْ تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار ، ولذلك أتى بالمضارع في « نُوحِيهِ » . وهذا أحسن من عَوْده على « ذَلِكَ » ؛ لأن عَوده على الغيب يشمل ما تقدم من القصص ، وما لم يتقدم منها ، ولو أعدته على « ذَلِكَ » اختص بما مَضَى وتقدم .
الثالث : أن يكون « نُوحِيهِ » هو الخبر و { مِنْ أَنَبَآءِ الغيب } على وجهَيْه المتقدمَيْن من كونه حالاً من ذلك ، أو متعلقاً ب « نُوحِيه » .
ويجوز فيه وجه ثالثٌ - على هذا - وهو أن يُجْعَل حالاً من مفعول « نُوحِيهِ » أي : نوحيه حال كونه بعض أنباءِ الغيبِ .
فصل
الإنباء هو الإخبارُ عما غاب عنك - والإيحاء ، ورد بإزاء معانٍ مختلفةٍ ، وأصله إعلام في خفاء يكون بالرمز والإشارة ويتضمن السرعة .
كما في قوله : [ الطويل ]
1456- .. فَأَوْحَتْ إلَيْنَا وَالأنَامِلُ رُسْلُهَا
وقال تعالى : { فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 11 ] . ويكون بالكتابة ، قال زهير : [ الطويل ]
1457- أتَى الْعُجْمَ وَالآفاقَ مِنْهُ قَصَائِدٌ ... بَقِينَ بَقَاءَ الْوَحْي فِي الْحَجَرِ الأصَمْ
ويطلق الوحي على الشيء المكتوب ، قال : [ الكامل ]
1458- فَمَدَافِعُ الرَّيانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا ... خَلَقاً كَمَا ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلاَمُهَا
قيل : الوُحِيّ : جمع وَحْي - كفلس وفلوس - كُسِرَت الحاءُ إتباعاً .
قال القرطبيُّ : « وأصل الوحي في اللغة : إعلام في خفاءٍ » .
وتعريفُ الوحي بأمر خفي من غشارة ، أو كتابة ، أو غيرها ، وبهذا التفسير يُعَدُّ الإلهامُ وَحياً ، كقوله تعالى : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } [ النحل : 68 ] وقال - في الشياطين - : { لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ } [ الأنعام : 121 ] وقال : { فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 11 ] ، فلما ألقى الله - تعالى - هذه الأنباء إلى الرسول عليه السلام - بواسطة جبريل عليه السلام - بحيث يخفى ذلك على غيره - سمَّاه وحياً .
قوله تعالى : { إِذْ يُلْقُونَ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه منصوب بالاستقرار العامل في الظرف الواقع خبراً .
والثاني- وإليه ذهب الفارسي- : أنه منصوب ب « كُنْتَ » . وهو منه عجيب؛ لأنه يزعم أنها مسلوبة الدلالة على الحدثِ ، فكيف يعمل في الظرف ، والظرف وعاء للأحداث؟
والذي يظهر أن الفارسيَّ إنما جوَّز ذلك بناء على ما يجوز أن يكون مراداً في الآية ، وهو أن تكون « كان » تامة بمعنى : وما وُجدتَ في ذلك الوقت .
والضمير في « لَدَيْهِمْ » عائد على المتنازعين في مريم - وإن لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ -؛ لأن السياقَ قد دلّ عليهم .
فإن قيل : لم نُفِيَت المشاهدةُ - وانتفاؤها معلوم بالضرورة - وتُرِك نفي استماع هذه الأنباء من حُفَّاظِها ، وهو أمر مجوز؟
فالجواب : أن هذا الكلامَ ونحوه ، كقوله : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور } [ القصص : 46 ] وقوله : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ } [ يوسف : 102 ] وقوله : { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا } [ هود : 49 ] - وإن كان انتفاؤه معلوماً بالضرورة - جار مَجْرَى التهكُّم بمُنْكِري الوحي ، يعني أنه إذا عُلِمَ أنك لم تُعَاصِر أولئك ، ولم تُدارِس أحداً في العلم ، فلم يبق اطلاعك عليه إلا من جهة الوَحْي .
ومعنى الآية : ذلك - الذي ذكرناه - من حديث زكريا ويحيى ومريم - عليهم السلام - من أخبار الغيب نوحيه إليك ، وذلك دليلٌ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن قصصهم - ولم يكن قرأ الكتب - وصدَّقه أهل الكتاب بذلك . ثم قال : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } أي : وما كنت يا محمد بحضرتهم { إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ } .
أقلام : جمع قَلَم ، وهو فَعَل بمعنى مفعول ، أي : مَقْلُوم .
والقَلْمُ : القَطْع ، ومثله : القبض بمعنى المقبوض ، والنقض بمعنى المنقوض ، وجمع القلم على أقلام - وهو جمع قِلَّة - وحكى ابنُ سيدَه أنه يُجْمَع على قلام - بوزن رِماح - في الكثرة .
وقيل له : قَلَم؛ لأنه يُقْلَم ، ومنه قلمت ظفري - أي : قطعته وسويته .
قال زهير : [ الطويل ]
1459- لَدَى أسَدٍ شَاكِي السلاحِ مُقَذَّفٍ ... لَهُ لِبَدٌ أظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ
وقيل : سمي القَلَمُ قَلَماً ، تشبيهاً بالقُلامةِ - وهو نَبْتٌ ضعيفٌ - وذلك لأنه يُرقق فيَضْعف .
فصل
في المراد بالأقلام - هنا - وجوهٌ :
أحدها : التي يُكْتَب بها ، وكان اقتراعهم أن مَنْ جرى قلمُه عكس جَرْي الماء ، فالحقُّ معه ، فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك ، فسلموا الأمر له ، وهذا قول الأكثرين .
الثاني : قال الربيع : ألْْقَوا عِصِيَّهم في الماء .
الثالث : قال ابو مسلم : هي السهام التي كانت الأمم يفعلونها عند المساهمة ، يكتبون عليها أسماءَهُمْ ، فمَنْ خرج له السهم سُلِّم إليه الأمر ، قال تعالى : { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين } [ الصافات : 141 ] . وإنما سميت هذه السهامُ أقْلاَماً؛ لأنها تُقْلَم وتُبْرَى ، وكلما قَطَعْتَ شيئاً بعد شيء فقد قلمته ، ولهذا يُسَمَّى ما يُكْتَب به قَلَماً .
واختلفوا فيهم ، فقيل : هم سَدَنَةُ البيت ، وقيل : هم العلماء والحبار وكُتَّاب الوَحْي .
قوله : { أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } هذه الجملة منصوبة المحل؛ لأنها مُعَلقة لفعل محذوف ، ذلك الفعل في محل نصب على الحال ، تقديره : يُلْقُون أقلامَهم ينظرون - أو يعلمون - أيهم يكفل مريم .
وجوز الزمخشريُّ : أن يقدَّر ب « يقولون » فيكون مَحْكيًّا به ، ودل [ على ذلك ] قوله ، يُلْقُون .
وقوله : { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } كقوله : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون } .
فصل
اختلفوا في السبب ، الذي لأجله رغبوا في كفالتها ، حتى تنازعوا فيها :
قيل : لن أباها عمرانَ كان رئيساً لهم ، ومتقدِّماً فيهم ، فلأجل حَقِّ أبيها رغبوا في كفالتها .
وقيل : لأن أمَّها حرَّرَتْها لعبادة الله - تعالى - ولخدمة بيته ، فلأجْل ذلك حرصوا على التكفُّل بها . وقيل : لأنهم وجدوا أمرها وأمر عيسى مبيَّناً في الكتب الإلهيةِ ، فلهذا السببِ اختصموا في كفالتها .
فصل
دلت هذه الآية على إثبات القُرْعة ، وهي أصل في شَرْعِنا لكل من أراد العدل في القسمة .
قال القرطبيُّ : وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستوين في الحجة؛ ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم ، وترتفع الظِّنَّةُ عمن يتولى قسمتهم ، ولا يفضل أحدٌ منهم على صاحبه ، وقد ورد الكتاب والسنة بالقرعة ، وقال أبو حنيفة وأصحابه؛ : لا معنى لها ، وزعموا أنها تُشْبِه الأزلام التي نَهَى اللهُ عنها .
قال أبو عبيد : « وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء : يونس وزكريا ومحمد صلّى الله عليهم وسلّم » .
قال ابنُ المُنْذِرِ : « واستعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء » .
فصل
قال القرطبيُّ : دلَّتْ هذه الآية على أن الخالةَ أحقُّ بالحضانةِ من سائر الْقَرَابَاتِ ما عدا الجَدَّة ، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بابنة حمزة لجعفر - وكانت خالتها عنده - وقال :
« الخالة بِمَنْزِلَةِ الأمِّ » .
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَتِ الملائكة } في هذا الظرف أوجهٌ :
أحدها : أن يكون منتصباً ب « يَخْتَصِمُونَ » .
الثاني : أنه بدل من « إذْ يَخْتَصِمُونَ » وهو قول الزجاج .
وفي هذين الوجهين بُعْدٌ؛ حيث يلزم اتحاد زمان الاختصام ، وزمانِ قَوْل الكلام ، ولم يكن ذلك؛ لأن وقت الاختصام كان صغيراً جِدًّا ، ووقت قولِ الملائكةِ بعد ذلك بأحْيَانٍ .
قال الحسنُ : إنها كانت عاقلة في حال الصِّغَرِ ، وإن ذلك كان من كراماتها . فإن صحَّ ذلك صحَّ الاتحاد ، وقد استشعر الزمخشريُّ هذا السؤال ، فأجاب بأن الاختصام والبشارة وقَعَا في زمان واسعٍ ، كما تقول : لقيته سنةَ كذا ، يعني أن اللقاءَ إنما يقع في بعض السنة فكذا هذا .
الثالث : أن يكون بدلاً من { وَإِذْ قَالَتِ الملائكة } - أولاً - وبه بدأ الزمخشريُّ - كالمختار له - وفيه بعد لكثرة الفاصل بين البدلَ والمبدل منه .
الرابع : نصبه بإضمار فعل .
الخامس : قال أبو عبيدة : « إذْ - هنا - صلة زائدة » . والمراد بالملائكة هنا : جبريل عليه السلام لما قررناه وقد تقدم الكلام في البشارة .
فصل
قال القرطبيُّ : « قوله تعالى : { إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ } دليل على نبوتها مع ما تقدم من كونها أفضل نساءِ العالمين ، وأن الملائكة قد بلّغتها الوحي عن الله - عز وجل - بالتكليف والإخبار والبشارة كما بلَّغت سائر الأنبياءِ ، فهي إذاً نَبِيّة ، والنبيُّ أفضل من الوليّ » . وقال ابنُ الخطيب : ذلك كرامة لها؛ إذ ليست نبية؛ لختصاص النبوةِ بالرجال ، وقال جمهورُ المعتزلة؛ ذلك معجزة لعيسى - عليه السلام - .
قال ابنُ الْخَطِيبِ : وهو عندنا إرهاصٌ لعيسى ، أو كرامة لمريم .
قوله : { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } في محل جر؛ صفة ل « كَلِمَةٍ » و « مِنْ » ليست للتبعيض؛ إذ لو كان كذلك ، لكان الله - تعالى - مُتبعِّضاً مُتجزِّئاً - تعالى الله عن ذلك - بل لابتداء الغاية؛ لأن كلمة الله مبدأ لظهوره وحدوثه ، والمراد بالكلمة - هنا - عيسى - لوجوده بها وهو قوله : كن فهو من باب إطلاق السبب على المُسَبّب .
فإن قيل : أليس كل مخلوق ، فهو يخلق بهذه الكلمة؟
فالجوابُ : نَعَمْ ، إلا أن ما هو السبب المتعارَف كان مفقوداً في حق عيسى - عليه السلام - فكان إضافة حدوثه إلى الكلمة أكمل وأتم ، فجعل هذا التأويل كأنه نفس الكلمة ، كمن غلب عليه الجود والكرم يُقال على سبيل المبالغة- : إنه نفس الجود ومَحْض الكرم ، فكذا ها هنا .
وأيضاص فإن السلطان قد يُوصَف بأنه ظلُّ اللهِ ، ونور اللهِ - إذا أظهر لهم ظل العدل ، ونور الإحسانِ ، فكذا عيسى - عليه السلام - لما كان سبباً لظهور كلام الله - تعالى - بكثرة بياناته ، وإزالة الشبهاتِ والتحريفات عنه ، فسُمِّيَ بكلمة الله على هذا التأويل .
فصل
حدوث الولد من غير نطفة الأب مُمكن ، أما على اصول المسلمين ، فظاهر؛ لأنّ الله تعالى قادرٌ على كل الممكنات ، وإذا خلق آدمَ من غير أمٍّ ولا أبٍ ، فخَلْقُه عيسى - عليه السلام - من غير أب أولى ، وأما على أصول الفلاسفة فإنهم اتفقوا على أنه لا يمتنع حدوث الإنسان على سبيل التولُّد؛ لامتزاج العناصر الأربعة على القدر الذي يناسب بَدَنَ الإنسان ، وعند امتزاجها يجب حدوث الكيفية المزاجية ، وعند حصول الكيفية المزاجية ، يجب تعلُّق النفس ، فثبت أن حدوث الإنسان - على سبيل التولد - معقول ممكن ، وأيضاً إنا نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد - كتولُّد الفأر عن المدر ، والحيَّات عن الشعر ، والعقارب عن الباذَروج - وإذا كان كذلك فتولُّد الولَدِ لا عَنِ أبٍ أوْلَى ألا يكون ممتنعاً . وأيضاً ، فإن التخيُّلات الذهنية كثيراً ما تكون أسباباً لحدوث الحوادث الكثيرة كما أن تصور حدوث المنافي ، يوجب حصول كيفية الغضب ، ويوجب حصول السخونة الشديدة في البدن ، وكما أن اللوح الطويل إذا كان موضوعاً على الأرض ، قدر الإنسان على المشي عليه ، ولو جعل كالقنطرة على وهدة لم يقدر على المشي عليه ، بل كلما يمشي سقط ، وما ذاك إلا لأن تصور السقوط يوجب حصول السقوط ، وقد ذكر الفلاسفة أمثلة كثيرة لهذا الباب ، فما المانع أن يقال : إنها لما تخيلت صورةَ جبريل عليه السلام [ كفى ذلك في علوق ] الولد في رحمها ، وإذا كانت هذه الوجوهُ ممكنةٌ كان القول بحدوث عيسى - من غير أبٍ - غير ممتنع .
قوله : { اسمه المسيح عِيسَى } اسمه مبتدأ ، والمسيح خبره ، وعيسى بدل منه ، أو عطف بيان .
قال أبو البقاء : « ولا يجوز أن يكون خبراً آخرَ؛ لأن تعدد الأخبار يوجب تعدد المبتدأ ، والمبتدأ مفرد - وهو قوله : اسمه - ولو كان » عِيسَى « خبراً آخر لكان أسماؤه أو أسماؤها - على تأنيث الكلمة » وأما من يجيز ذلك فقد أعرب « عِيسَى » خبراً ثانياً ، وأعربه بعضهم خبرَ مبتدأ محذوفٍ - اي : هو عيسى .
ويجوز على هذا الوجه وَجْهٌ رابعٌ ، وهو النَّصْب بإضمار أعني؛ لأن كل ما جاز قطعه رفعاص جاز قطعه نصباً ، والألف واللام في المسيح للغلبة كهي في الصعق والعيُّوق وفيه وجهان :
أحدهما : أنه فَعِيل بمعنى فاعل ، فحُوِّلَ منه مبالغةً .
قيل : لأنه يمسح الأرض بالسياحة ، أي : يقطعها ومنه : مسح القسام الأرض وعلى هذا المعنى يجوز أن يقالَ لعيسى : مِسِّيح - بالتشديد - على المبالغة ، كما يقال : رجل شريب .
وقيل : لأنه يمسح ذا العاهةِ فَيَبْرَأُ - قاله ابن عباس .
وقيل : كان يمسح رأسَ اليتيم .
وقيل : يلبس المسح فسمي بما يئوب إليه .
وقيل : إنه فَعِيل بمعنى مفعول؛ لأنه مُسِحَ بالبركة .
وقيل لأنه مُسِح من الأوزار والآثام ، أو لأنه مَشِيح القَدَم لا أخْمَصَ له .
قال الشاعر : [ الرجز ]
1460- بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلاَمٌ كَالزَّلَمْ ... مُدَمْلَجُ السَّاقَيْنِ مَمْسُوحُ الْقَدَمْ
أو لمسح وَجْههِ بالمَلاحة ، قال : [ الطويل ]
1461- عَلَى وَجْهِ مَيٍّ مِسْحَةٌ مِنْ مَلاَحَةٍ .. . .
أو لأنه كان ممسوحاً بدُهْنٍ طاهرٍ مبارَكٍ ، تُمْسَح به الأنبياء ، ولا يُمْسَح به غيرُهم ، قالوا : وهذا الدهن من مسح به وقتَ الولادة فإنه يكون نبيًّا ، أو لأنه مَسَحَهُ جبريلُ بجَنَاحه وقت الولادة؛ صوناً له عن مَسِّ الشيطان . أو لأنه خرج من بطن أمه مَمْسُوحاً بالدُّهْن .
والثاني : أنّ وزنه مَفْعِل - من السياحة - وعلى هذا تكون الميمُ فيه زائدة ، وعلى هذا كلِّه ، فهو منقول من الصفة .
وق لأبو عمرو بن العلاء : المَسِيح : الملك .
وقال النَّخَعِيُّ : المسيح : الصديق . ويكون المسيح بمعنى : الكذَّاب ، وبه سُمِّي الدجال ، والحرف من الأضداد .
وسمي الدجَّال مَسِيحاً لوجهَيْن .
أحدهما : أنه ممسوح إحدى العينَيْن .
الثاني : أنه يَمْسَح الأرضَ - أي يقطعها - في المدةِ القليلةِ ، قالوا : ولهذا قيل له : دَجَّال؛ لضَرْبه الأرضَ ، وقَطْعِه أكثر نواحيها . يقال : قد دَجَل الرجلُ - إذا فعل ذلك .
وقيل : سُمِّي دَجَّالاً من دَجَّل الرجل إذا موَّه ولبَّس .
قال أبو عبيدٍ واللَّيْث : أصله - بالعبرانية - مَشِيحَا ، فغُيِّر .
قال أبو حيان : « فعلى هذا يكون اسماً مرتجلاً ، ليس مُشْتَقاً من المَسْح ، ولا من السياحة » .
قال شهاب الدينِ : « قوله : ليس مشتقاً صحيح ، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون مُرْتَجَلاً ولا بد ، لاحتمال أن يكون في لغتهم مَنْقُولاً من شيء عندهم » .
وعيسى أصله : يسوع ، كما قالوا في موسى : أصله موشى ، أو ميشا - بالعبرانية .
فيكون من الاشتقاق الأوسط لأنه يُشْتَرط فيه وجود الحروف لا ترتيبها ، والأكبر يُشترط فيه أن يكون في الفرع حرفان ، والأصغر يُشْتَرط فيه أن يكون في الفرع حروف الأصل مرتَّبَةً .
وعيسى اسم أعجمي ، فلذلك لم يَنْصَرف - في معرفة ولا نكرة - لأنَّ فيه ألفَ تأنيث ، ويكون مُشْتَقاً من عاسه يعوسه ، إذا سَاسَه وقام عليه .
وأتى الضمير مذكَّراً في قوله : « اسْمُهُ » وإن كان عائداً على الكلمة؛ مراعاةً للمعنى؛ إذ المراد بها مذكَّر .
وقيل - في الدَّجّال- : مِسِّيح - بكسر الميم وشد السين ، وبعضهم يقوله كذا بالخاء المعجمة ، وبعضهم يقوله بفتح الميم والخاء المعجمة - مُخَفَّفاً - والأول هو المشهور؛ لأنه يمسح الأرض - أي : يطوفها - ويدخل جميعَ بلدانِها إلا مكةَ والمدينةَ وبيتَ المقدسِ ، فهو فعيل بمعنى فاعل . والدَّجَّال يمسح الأرضَ محنة وابنُ مريمَ يمسحها مِنْحَةً . وإن كان سُمِّي مسيحاً؛ لأنه ممسوح العين فهو فعيل بمعنى مفعول .
قال الشاعر : [ الرجز ]
1462- . . ... إذَا الْمَسِيحُ يَقْتُلُ الْمَسِيحَا
فصل
« ابنُ مريم » يجوز أن يكون صفة ل « عيسَى » قال ابن عطية : وعيسى خبر لمبتدأ محذوف ، ويدعو إلى هذا كون قوله : « ابن مريم » صفة لعيسى؛ إذْ قد أجمع الناسُ على كَتْبِهِ دون ألفٍ . وأما على البدل ، أو عطف البيان فلا يجوز أن يكون « ابْنُ مَريمَ » صفة ل « عِيسَى » لأن الاسم - هنا - لم يُرَدْ به الشخص . هذه النزعة لأبي علي . وفي صدر الكلام نظرٌ . انتهى .
قال شهابُ الدِّينِ : « فقد حَتَّم كونه صفة؛ لأجل كَتْبهِ بغير ألف ، وأما على البدل ، أو عطف البيان فلا يكون » ابْنُ مَرْيَمَ « صفة ل » عِيسَى « يعني : بدل عيسى من المسيح ، فجعله غير صفة له مع وجود الدليل الذي ذكره ، وهو كتبه بغير ألف » .
وقد منع أبو البقاء أن يكون « ابْنُ مَرْيَمَ » بدلاً أو صفة ل « عِيسَى » قال : « لأن » ابْن مَرْيَمَ « ليس بالاسم ألا ترى أنك لا تقول : اسم هذا الرجل ابن عمرو - إلا إذا كان قد عُلِّق عَلَماً عليه » .
قال شهاب الدينِ : « وهذا التعليل الذي ذكره إنما ينهض دليلاً في عدم كونه بدلاً ، وأما كونه صفة ، فلا يمنع ذلك ، بل إذا كان اسماً امتنع كونه صفة؛ إذ يصير في حكم الأعلامِ ، وهي لا يُوصف بها ، ألا ترى أنك إذا سميت رجلاً ب » ابن عمرو « امتنع أن يقع » ابن عمرو « صفة والحالة هذه » .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلتَ : لِمَ قِيلَ : { اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ } وهذه ثلاثة أشياء ، الاسم عِيسَى ، وأما المسيح والابن فلَقَب ، وصفة؟
قلت : الاسم للمسمَّى يُعْرَف بها ، ويتميَّزُ من غيره ، فكأنه قِيلَ : الذي يُعْرَف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الألفاظِ الثلاثةِ » .
فظهر من كلامه أن مجموع الألفاظِ الثلاثة أخبار عن اسمه ، بمعنى أنَّ كُلاًّ منها ليس مُستَقِلاً بالخبريَّةِ ، بل هو من باب : هذا حُلْوٌ حَامِضٌ [ وهذا أعسر يسرا ] .
ونظيره قول الشاعر : [ الخفيف ]
1463- كَيْفَ أصْبَحْتَ كَيْفَ أمْسَيْتَ مِمَّا ... يَزْرَعُ الوُدَّ فِي فُؤادِ الْكَرِيمِ
أي مجموع كيف أصبحت ، وكيف أمسيت .
فكما جاز تعدُّد المبتدأ لفظاً - من غير عاطف - والمعنى على الْمَجْمُوعِ ، فكذلك في الْخَبَرِ .
وقد أنشدوا عليه أبياتاً كقوله : [ الرجز }
1464- مَنْ يَكُ ذَا بَتٍّ فَهَذَا بَتِّي ... مُقَيِّظٌ ، مُصَيِّفٌ ، مَشَتِّي
وقد زعم بعضهم أن « المَسِيح » ليس باسم لَقَب له ، بل هو صفة كالضّارِبِ والظريف ، قال : وعلى هذا ففي الكلام تقديمٌ وتأخِيرٌ؛ إذ « الْمَسِيحُ » صفةٌ ل « عِيسَى » والتقدير : اسمه عيسى المسيح « . وهذا لا يجوز أعني : تقديم الصفة على الموصوف - لكنه يعني : أنه صفة له في الأصل ، والعرب إذا قدِّمت ما هو صفة في الأصل جعلوه مبيناً على العامل قَبْلَهُ ، وجعلوا الموصوف بدلاً من صفته في الأًل ، نحو قوله : [ الرجز ]
1465- وَبِالطَّوِيْلِ الْعُمْرِ عُمْراً حَيْدَرَا .. . .
الأصل : وبالعمر الطويل ، هذا في المعارفِ ، وأما في النِّكِرَاتِ ، فينصبون الصفةَ حالاً .
وقال أبو حيَّان : « ولا يصح أن يكون » الْمَسِيحُ « - في هذا التَّركيبِ - صفة؛ لأن المُخْبَر به - على هذا لفظ » عِيسَى « والمسيح من صفة المدلول ، لا من صفة الدَّالِّ؛ إذ لفظ » عِيسَى « ليس المسيح » .
ومن قال : إنهما اسمانِ ، قال : تَقَدَّمَ المسيحُ على عيسى؛ لشهرته .
قال ابن الأنباريّ : وإنما بدأ بلقبه؛ لأن المسيح أشهرُ من عيسى؛ لأنه قَلَّ أن يقع على سَمِيِّ ، فيشتبه به ، وعيسى قد يقع على عدد كثيرٍ ، فقدَّمه لشهرته ، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم ، فهذا يدل على أن المسيح عند ابن الأنباري لَقَبٌ ، لا اسمٌ .
قال أبو إسحاق : « عيسى معرب من أيسوع ، وإن جعلته عربياً لم ينصرفْ في معرفة ولا نكرة؛ لأن فيه ألفَ التأنيثِ ، ويكون مشتقاً من عاسه يعوسه : إذا ساسه وقام عليه » .
قال الزمخشريُّ : « ومُشْتَقُّهُمَا - يعني المسيح وعيسَى - من المَسْح والعَيْس كالراقم على الماء » ، وقد تقدم الكلام على عيسى ومريم واشتقاقهما في سورة البقرة .
وقوله : { وَجِيهًا } حال ، وكذلك قوله : { وَمِنَ المُقَرَّبِينَ } وقوله : { وَيُكَلِّمُ } وقوله : { مِّنَ الصالحين } هذه أربعة أحوالٍ انتصبت عن قوله : « بِكَلِمَةٍ » . وإنما ذَكَّر الحالَ؛ حملاً على المعنى؛ إذ المعنى المرادُ بها : الولد والمُكَوِّن ، كما ذكَّر الضميرَ في « اسْمُهُ » .
فالحال الأولى جِيءَ بها على الأصل - اسماً صريحاً - والباقية في تأويله . والثانيةُ : جار ومجرور ، وأتى بِهَا هكذا؛ لوقوعها فاصلةً في الكلام ، ولو جِيءَ بها اسماً صريحاً ، لفات مناسبة الفواصل . والثالثة جملة فعليَّة ، وعطف الفعل على الاسم؛ لتأويلهِ به ، وهو كقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ] ، أي : وقَابضات ، ومثله في عطفِ الاسمِ على الفعل؛ لأنه في تأويله ، قولُ النابغة : [ الطويل ]
1466- فَأَلْفَيْتُهُ يَوْماً يُبِيْرُ عَدُوَّهُ ... وَمُجْرٍ عَطَاءً يَسْتَحِقُّ الْمَعَابِرَا
وقال الآخر : [ الرجز ]
1467- بَاتَ يُغشِّيها بِغَضَبٍ بَاتِرِ ... يَقْصِدُ في أَسْوُقِهَا وَجَائِرِ
والمعنى : مُبِيراً عدوه ، وقاصداً .
وجاء بالثالثة جملة فعلية؛ لأنها في رُتْبتها ، إذ الحالُ وَصْفٌ في المعنى ، وقد تقدم أنه إذا اجتمعَ صفات مختلفة في الصراحةِ والتأويل قُدِّم الاسمُ ، ثمَّ الظرفُ - أو عديلهُ - ثم الجملةُ . فكذا فعل هنا ، فقدم الاسم - وهو { وَجِيهًا } - ثم الجار والمجرور ، ثم الفعل ، وأتى به مضارعاً؛ لدلالته على التجدُّد وقتاً مؤقتاً ، بخلاف الوجاهةِ ، فإنَّ المرادَ ثبوتها واستقرارها ، والاسمُ مُتَكَفِّلٌ بذلِك ، والجار قريبٌ من المفرد ، فلذلك ثَنَّى به ، إذ المقصودُ ثبوتُ تَقْرِيبِهِ .
والتضعيف في « الْمُقَرَّبِينَ » للتعدية ، لا للمبالغةِ؛ ملا تقدم من أن التضعِيفَ للمبالغة لا يُكْسِبُ الفعلَ مفعولاً ، وهذا قد أكسبه مفعولاً - كما ترى - بخلاف : قَطَّعْتُ الأثوابَ ، فإنَّ التعدي حاصل قبل ذلك .
وجيء بالرابعة - بقوله : { مِّنَ الصالحين } مراعاةً للفاصلةِ ، كما تقدم في « الْمُقَرَّبِينَ » .
والمعنى : إنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بهذه الكلمةِ موصوفةً بهذه الصفاتِ الجميلةِ .
ومنع أبو البقاء أن تكونَ أحوالاً من « الْمَسِيحِ » أو من « عِيسَى » أو من « ابْن مرْيَمَ » قال : « لأنها أخبارٌ ، والعاملُ فيها الابتداءُ ، أو المبتدأ ، أو هما ، وليس شيءٌ من ذلك يعملُ في الحالِ » .
ومنع أيضاً - كونَهَا حالاً من الهاء في « اسْمُهُ » قال : « للفصل الواقعِ بينهما ، ولعدمِ العاملِ في الحال » .
قال شهابُ الدينِ : « ومذهبهُ - أيضاً - أنَّ الحالَ لا يجيءُ مِنَ المُضَافِ إليهِ ، وهو مرادُهُ بقولِهِ : ولعدم العامل . وجاءت الحالُ من النكرةِ؛ لتخصُّصِها بالصفة بعدها . وظاهرُ كلام الواحديِّ - فيما نقَلهُ عن الفرَّاء - أنَّها يجوز أن تكون أحوالاً من » عِيسَى « فإنَّه قال : والقرَّاء تسمِّي هذا قَطْعاً ، كأنه قال : عيسى ابن مريم الوجيه ، قطعَ منه التعريف . فظاهرُ هذا يُؤذِنُ بأنَّ { وَجِيهًا } من صفةِ » عِيسَى « في الأصلِ ، فقطع عنه ، والحالُ وصفٌ في المعنى » .
والوجيه : ذو الجاه ، وهو القوةُ ، والمنعةُ ، والشرفُ .
وجمع « وَجيه » وُجَهاءُ ، ووِجَاهٌ ، يقال : وَجُهَ الرَّجُلُ يوجه وجاهة ، فهو وجيه - إذا صارت له منزلةٌ رفيعةٌ عند الناسِ .
وقال بعضهم : الوجيهُ : الكريمُ .
و « كَهْلاً » من قولهم : اكتهلت الدوحة ، إذا عَمَّها النُّوْرُ - والمرأة كهلة .
وقال الراغب : « والكهل : مَنْ وَخَطَه الشَّيْبُ ، واكتهل النباتُ : إذا شارف اليُبُوسَةَ مشارفةَ الكهل الشَّيْبَ » .
وأنشد قولَ الأعشى - في وَصْف رَوْضَةٍ بأكمل أحوالها - : [ البسيط ]
1468- يُضَاحِكُ الشَّمْسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ ... مُؤزَّرٌ بِعَمِيمِ النَّبْتِ مُكْتَهِلُ
وقد تقدم الكلام في تنقُّل أحوالِ الولدِ من لدُنْ كونهِ في البطن إلى شيخوخته ، عند ذِكْر « غلام » .
وقال بعضهم : « ما دامَ في بطن أمِّه ، فهو جنين ، فإذا وُلِدَ فوليد ، فإذا لم يستتمّ الأسبوع فصديغٌ؛ وما دام يرضع فهو رضيع ، ثم هو فَطِيمٌ - عند الفِطَام - وإذا لم يرضع؛ فجَحْوَش ، فإذا دبَّ ونما : فدراج ، فإذا سقطت رواضِعهُ فثَغور ومثغور ، [ فإذا نبتت أسنانهُ بعد السقوط بمُتَّغِر - بالتاء والثاء ] ، فإذا جاوز العشر : فمترعرع ، وناشئ . فإذا رَاهَق الحُلم : فيافع ، ومُراهق . فإذا احتلم فحَزَوَّر . والغلام يُطْلَق عليه في جميع أحواله بعد الولادة ، فإذا اخضر شارُبه ، وسال عذاره : فباقِل ، فإذا صار ذا لِحْيَةٍ : ففتًى وشارخ ، فإذا اكتملت لحيته؛ فمُجْتَمِع ، ثم هو من الثلاثين إلى الأربعين شابّ ، ومن الأربعين إلى ستين كهل » ، ولأهل اللغة عبارات مختلفة في ذلك ، وهذا أشهرها .
فإن قيل : المستغرب إنما هو كلام الطفل في المَهْد ، وأما كلام الكهول فغير مُسْتَغْرَب .
فالجوابُ من وجوهٍ :
أحدها : قالوا : لم يتكلم صبيٌّ في المهد ، وعاش ، أو لم يتكلمْ أصلاً ، بل يبقى أخرس أبداً ، فبشَّر اللهُ مريم بأن هذا يتكلم طفلاً ، ويعيش حتى يكلم الناس في كهولته ، ففيه تَطْمِينٌ لخاطرِها .
وثانيها : قال الزَّمخْشَريُّ وأبو مسلم : « يكلم الناس طفلاً وكهلاً ومعناه يتكلم في هاتين الحالتين كلامَ الأنبياءِ ، من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة » .
وثالثها : يكلم الناسَ مرةً واحدةً في المهدِ؛ لإظهار بَرَاءةِ أمِّه ، ثم عند الكُهُولةِ يتكلم بالوحي والنبوة .
ورابعها : قال الأصَمُّ : المراد منه : بيان أنه يبلغ من [ الصِّبَا ، إلى ] الكهولة .
وخامسها : أنّ المرادَ منه الرد على وَفْد نجرانَ في قولهم : إن عيسى كان إلهاً ، فإنه منقلب في الأحوال من الصِّبَا إلى الكهولة ، والتغيُّر على الإلهِ محال .
فإن قيل : قد نقل أن عُمْر عيسى - لما رُفِع - كان ثلاثاً وثلاثين سنةً وأشْهُراً ، وعلى هذا التقدير ، فلم يبلغْ سِنَّ الكهولةِ .
فالجوابُ : قد بيَّنَّا أن الكهلَ - في اللُّغةِ - عبارة عن الكامل التام ، وأكمل أحوال الإنسان ما بين الثلاثين إلى الأربعين - فصَحَّ وصْفُه بكونه كَهْلاً .
وقال الحُسَيْن بنُ الفَضْل البَجَلِيُّ : « ويكون كهلاً بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان ، ويكلم الناسَ ، ويقتل الدَّجَّالَ ، قال : وفي الآية نص على أنه - عليه السلامُ - سينزل إلى الأرض » .
و « وَجِيهاً » اشتقاقه من الوجه؛ لأنه أشرف الأعضاء . والجاه مقلوب منه ، فوزنه « عَفل » .
قوله : { فِي الدنيا } متعلق ب « وَجِيهاً » ؛ لما فيه من معنى الْفِعْلِ ، ومعنى كونه { وَجِيهاً فِي الدنيا } بسبب النبوة ، و « في الآخرة » بسبب عُلُوِّ المنزلة .
وقوله : { فِي الدنيا } بأنه مُسْتَجَاب الدعاء ، ويُحْيي الموتى ، ويُبْرِئ الأكمه والأبْرَصَ بدعائه ، وفي الآخرة بأنه يشفع في المُحِقِّين من أمته .
وقيل : في الدنيا؛ لأنه مبرأٌ من العيوب التي وَصَفَتْه اليهودُ بها ، وفي الآخرة بكثرة ثوابه وعُلُوِّ درجته .
فإن قيل : كيف كان وجيهاً في الدنيا ، واليهود عاملوه بما عاملوه؟
والجوابُ : أنه - تعالى - سمَّى موسى - عليه السلامُ - بالوجيه ، مع أن اليهودَ طعنوا فيه ، وآذَوْهُ إلى أن برأه اللهُ مما قالوا ، ولم يقدح ذلك في وجاهته ، فكذا هنا .
قوله : { وَمِنَ المُقَرَّبِينَ } قيل « كان هذا مَدْحاً عظيماً للملائكة؛ لأنه ألْحَقَه بمثل مَنْزِلَتِهِمْ ، وهو دليل لمن جعل الملائكة أفضل .
وقيل : معناه : سيُرْفَع إلى السماء بمصاحبة الْمَلاَئِكَةِ .
وقيل : ليس كل وجيه في الآخرة يكون مُقَرَّباً؛ لأن أهل الجنة تتفاوت درجاتُهم .
وقوله : { وَيُكَلِّمُ النَّاسَ } الواو للعطف على قوله : « وَجِيهًا » ، والتقدير : وجيهاً ومُكَلَّماً .
قال ابن الخطيب : وهذا عندي ضعيفٌ؛ لأن عطف الجملة الفعلية على الاسمية غير جائز إلا لضرورة [ أو لفائدة ] ، والأوْلَى أن يُقال : تقدير الآيةِ : إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ، الوجيه في الدنيا والآخرة ، المعدود من المقرَّبِينَ ، وهذا المجموع جملة واحدة ، ثم قال : { وَيُكَلِّمُ النَّاسَ } . فقوله : { وَيُكَلِّمُ النَّاسَ } عطف على قوله : { إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ } .
وأجيب بأن هذا خطأ؛ لأنه إن أراد العطف على جملة { إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ } فهي جملة اسمية فقد عطف الفعلية على الاسمية ، فوقع فيما فَرَّ منه . وإن أراد العطفَ على « يُبَشِّرُكِ » فهو خطأ؛ لأن المعطوف على الخبر خبر - و « يُبَشِّرُكِ » خبر - فيصير التقدير : إن الله يكلم الناسَ في المهدِ ، والصواب ما قالوه من كونه حالاً ، وأن الجملة الحالية إذا كانت فعلاً فهي مقدرة بالاسم ، فجاز العطف .
قوله : { فِي المهد } يجوز فيه وَجْهَان :
أظهرهما : أنه متعلق بمحذوف؛ على أنه حال من الضمير في { وَيُكَلِّمُ } أي : يكلمهم صَغِيراً ، و « كَهْلاً » على هذا نسق على هذه الحال المؤوَّلة فعلى هذا تكون خمسة أحوال .
والثاني : أنه ظرف ل « يُكَلِّمُ » كسائر المنفصلات ، و « كَهلاً » على هذا نَسَق على « وَجِيهاً » فعلى هذا يكون خَمْسَةَ أحْوَالٍ .
والكهل : هو مَنْ بلغ سِنَّ الكُهُولة ، وأولها ثلاثون .
وقيل : اثنان وثلاثون .
وقيل : ثلاث وثلاثون .
وقيل : أربعون . وآخرها : خمسون .
وقيل : ستون . ثم يدخل في سن الشَّيْخُوخَةِ . واشتقاقه من : اكتهل النبات - إذا علا وارتفع - ومنه الكاهل .
وقال صاحبُ المُجْمَلِ : « أكهل الرجل : وَخَطَهُ الشَّيْبُ » .
فصل
كلامه - عليه السلام - في المَهْد هو قوله : { إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 30-33 ] .
وحكي عن مجاهدٍ قال : قالت مريم : كنت إذا خلوتُ أنا وعيسى حدَّثني وحدّثته ، فإذا شغلني عنه إنسان كان يُسَبِّحُ في بطني وأنا أسمعُ .
فصل
ذكر القرطبيُّ في تفسيره عن ابن أبي شيبةَ بسنده ، قال : « لم يتكلمْ في الْمَهْدِ إلا ثلاثة : عيسى ابن مريم ، وصاحب يوسف ، وصاحب جُرَيْج » . [ وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم ، وصاحب جريج وصاحب الجبار » ] .
وقال الضَّحَّاكُ : « تكلم في المهد ستة شاهد يوسف ، وصبيّ ماشطة امرأة فرعون ، وعيسى ، ويحيى ، وصاحب جريج » ولم يذكر صاحب الأخدود ، فأسقط صاحب الأخدود ، وبه يكون المتكلمون سبعةً .
قال القرطبيُّ : « ولا معارضة بين هذا وبين قوله - عليه السلام- : » لَمْ يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إلاَّ ثَلاَثَةٌ « بالحصر - فإنه أخبر بما كان في علمه مما أوحِي إليه في تلك الحالِ ، ثم بعد هذا أعلمه اله - تعالى - بما شاء من ذلك ، فأخْبَرَ به .
والمهدُ : ما يُهُيَّأُ للصَّبِيِّ أن يربى فيه ، من مَهَّدت له المكان - أي : وطَّأته وليَّنته له - وفيه احتمالانِ : أحدهما يُحتمل أن يكون أصله المصدر ، فسُمِّي به المكانُ ، ويحتمل أن يكون بنفسه اسم مَكان غير مصدر . وقد قرئ : مَهْداً ومِهَاداً في طه كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
قال ابن الخطيب [ قوله : وكهلاً يدل على أنه يكلم الناس بعد الكهولة ، وذلك بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان .
قال الحسين بن الفضل : في الآية نص على نزوله إلى الأرض وقد ] أنكرت النصارَى كلامَ المسيح - عليه السلام - في المَهْد ، واحتجوا - على صحة قولهم بأن كلامه من أعْجب الأمور وأغربها ، ولا شك أن هذه الواقعةَ لو وقعت لوجب أن يكون وقوعُها في حضور الجَمْع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم؛ لأن تخصيصَ مثل هذا المُعْجِز بالواحد والاثنين لا يجوز ، ولو حدثت هذه الواقعة لتوفَّرَت الدواعي على نقلها ، فيصير ذلك بالغاً حَد التواتُرِ ، يمتنع إخفاؤه . وأيضاً فإن النصارَى بالَغُوا في المسيح ، حتى ادَّعَوْا ألوهيته ، ومن هذا شأنه في التعصُّب يمتنع أن تخفى مناقِبُه ، فلما أنكروه - وهم أحق النّاسِ بإظهاره - علمنا أنه ما كان موجوداً .
وأجاب المتكلمون بأن كلامه - حينئذٍ - إظهار لبراءة أمِّه ، والحاضرون قليلون يجوز تواطؤهم على الإخفاء ، فنسبهم الناس إلى الكذب ، أو خافوا من ذلك الأمر إلى أن أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم وذلك يدل على معجزته ، وصدقه .
قوله : { قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ } » يكون « يحتمل التمام والنقصان ، وتقدم إعراب هذه الجمل في قصة زكريا إلا أنه قال هناك : { يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } وقال هنا { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } قيل : لأن قِصَّتَها أغربُ من قضته؛ ذلك أنه لم يُعْهَد ولد من عذراءَ لم يَمْسَسْها بشرٌ ألبتة ، بخلاف الولد بين الشيخ والعجوز ، فإنه يستبعد ، وقد يُعْهَد بمثله - وإن كان قليلاً - فلذلك أتى ب » يَخْلُقُ « المقتضي للإيجاد والاختراع من غير إحالة على سببٍ ظاهرٍ ، وإن كانت الأشياء كلها بخَلقه وإيجاده - وإن كان لها أسبابٌ ظاهرة .
قوله : { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } هذه الجملة حَالٌ ، والبشر - في الأصل - مصدر كالخَلق ، ولذلك يُسَوَّى فيه بين المذكَّر ولمؤنَّث ، والمفرد ، والمثنى ، والجمع ، تقول : هذه بَشَرٌ ، وهذا بَشَرٌ ، وهؤلاء بَشَرَ . كقولك : هؤلاء خَلْق .
قيل : واشتقاقه من البشرة ، وهي ظاهر الجلدِ؛ لأنه الذي شأنه أن يظهر الفرح والغم في بشرته ، وتقدم اختلاف القرَّاء في { فَيَكُونُ } وما ذُكِر في توجيهه .
فصل
قال المفسّرون : إنما قالت ذلك؛ لأن البشريةَ تقتضي التعجُّبَ مما وقع على خلاف العادة؛ إذْ لم تَجْرِ عادة بأن يُولَدَ وَلَدٌ بلا أبٍ .
فصل
قال القرطبيُّ : « معنى قوله : { قَالَتْ رَبِّ } أي : يا سيدي ، تخاطب جبريل - عليه السلامُ - لأنه لما تمثَّل لها ، قال لها : { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } [ مريم : 19 ] فلما سمعت ذلك من قوله استفهمت عن طريق الولد ، فقالت : { أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } ؟ أي : بنكاح ، وذلك : لأن العادة التي أجراها الله في خَلْقه أن الولد لا يكون إلا من نكاح ، [ أو سفاح ] .
وقيل : إنها لم تستبعد من قدرة الله شيئاً ، ولكن أرادت : كيف يكون هذا الولد؟ من قِبَلِ زَوْجٍ في المستقبل؟ أم يخْلُقُه الله ابتداءً .
قوله : { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . تقدم الكلام فيه .
قال ابنُ جُرَيْجٍ : نفخ جبريلُ في جيب درعها وكُمِّها ، فحملت من ساعتها بعيسى .
وقيل : وقع نفخ جبريل - عليه السلام - في رَحِمِهَا ، فعلقت بذلك .
وقال بعضهم : لا يجوز أن يكون الخَلْق من نفخ جبريل؛ لأن الولدَ يكون بعضُه من الملائكة وبعضه من الإنس؛ ولكن سبب ذلك ، أن اللهَ تعالى لما خلق آدمَ وأخذ الميثاقَ من ذريته ، فجعل بعضَ الماءِ في أصلاب الآباء ، وبعضه في أرحام الأمَّهَاتِ ، فإذا اجتمع الماءان صارَ ولداً ، وإن اللهَ - تعالى - جعل الماءين جميعاً في مريمَ ، بعضه في رحمها ، وبعضه في صلبها ، فنفخ جبريلُ ، ليهيجَ شهوتَها ، فإن المرأة ما لم تهج شهوتها لم تحبل فلما هاجت شهوتها بنفخ جبريل وقع الماء - الذي كان في صُلْبها - في رَحِمِهَا ، فاختلط الماءان ، فعلقت بذلك ، فذلك قوله تعالى : { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } .
قوله : { وَيُعَلِّمُهُ الكتاب } قرأ نافع وعاصم ويعقوب { وَيُعَلِّمُهُ } - بياء الغيبة - والباقون بنون المتكلم المعظم نفسه ، وعلى كلتا القراتين ففي محل هذه الجملة أوجهٌ :
أحدها : أنها معطوفة على » يُبَشِّرُكِ « أي : أن الله يبشركِ بكلمةٍ ويعلم ذلك المولود المُعَبَّر عنه بالكلمة .
الثاني : أنها معطوفة على » يَخْلُقُ « أي : كذلك الله يخلق ما يشاء ويعلمه . وإلى هذين الوجهين ، ذهب جماعة منهم الزمخشريُّ وأبو علي الفارسيّ ، وهذان الوجهان ظاهران على قراءة الياء ، وأما قراءة النون ، فلا يظهر هذان الوجهان عليها إلا بتأويل الالتفات من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم ، إيذاناً بالفخامة والتعظيم .
فأما عطفه على » يُبَشِّرُكِ « فقد استبعده أبو حيَّانَ جِدًّا ، قال : » لطول الفصل بين المعطوف ، والمعطوف عليه « ، وأما عطفه على » يَخْلُقُ « فقال : » هو معطوف عليه سواء كانت - يعني « يَخْلُقُ » خبراً عن الله أم تفسيراص لما قبلها ، إذا أعربت لفظ « اللهُ » مبتدأ ، وما قبله خبر « .
يعني أنه تقدم في إعراب { كَذَلِكَ الله } في قصة زكريا أوجهٍ :
أحدها ما ذكره - ف « يُعَلِّمُهُ » معطوف على « يخلُقُ » بالاعتبارين [ المذكورين ] ؛ إذْ لا مَانِعَ من ذلك ، وعلى هذا الذي ذكره أبو حيّان وغيره ، تكون الجملة الشرطية معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه ، والجملة من « نُعَلِّمُهُ » - في الوجهين المتقدمين - مرفوعة المحل ، لرفع محل ما عُطِفَتْ عليه .
الثالث : أن يعطف على « يُكَلِّمُ » فيكون منصوباً على الحال ، والتقدير : يُبَشِّرُكَ بكلمة مُكَلِّماً ومُعلِّماً الكتاب ، وهذا الوجه جوزه ابنُ عَطِيَّةَ وغيره .
الرابع : أن يكون معطوفاً على « وَجِيهاً » ؛ لأنه في تأويل اسم منصوبٍ على الحال ، وهذا الوجه جوَّزه الزمخشريُّ .
واستبعد أبو حيّان هذين الوجهين الأخيرين - أعني الثالث والرابع - قال : « الطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، ولا يقع مثلُه في لسان العرب » .
الخامس : أن يكون معطوفاً على الجملة المحكية بالقول : - وهي { كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } .
قال أبو حيّان : « وعلى كلتا القراءتين هي معطوفة على الجملة المقولة؛ وذلك أن الضمير في ( قال كذلك ) لله - تعالى - والجملة بعده هي المقولة ، وسواء كان لفظ ( الله ) مبتدأ خبره ما قبله ، أم مبتدأ ، وخبره » يَخْلُقُ « - على ما مر إعرابه في { قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } - فيكون هذا من القول لمريم على سبيل الاغتباط ، والتبشير بهذا الولد ، الذي أوجده اللهُ منها » .
السادس : أن يكون مستأنفاً ، لا محلَّ له من الإعراب .
قال الزَّمَخْشريُّ - بعد أن ذكر فيه أنه يجوز أن يكون معطوفاً على « يُبَشِّرُكِ » أو يخلق أو « وَجِيهاً » - : « أو هو كلام مبتدأ » يعني مستأنفاً .
قال أبو حيّان : « فإن عنى أنه استئناف إخبار عن الله ، أو من الله - على اختلاف القراءتين - فمن حيث ثبوت الواو لا بد أن يكون معطوفاً على شيء قبله ، فلا يكون ابتداء كلام إلا أن يُدَّعَى زيادةُ الواو في وتعلمه ، فحينئذٍ يَسِحُّ أن يكون ابتداءَ كلامٍ ، وإن عنى أنه ليس معطوفاً على ما ذكر ، فكان ينبغي أن يبين ما عطف عليه ، وأن يكون الذي عُطِف عليه ابتداء كلام ، حتى يكون المعطوف كذلك » .
قال شهاب الدين : « وهذا الاعتراض غير لازم؛ لأنه لا يلزم من جعله كلاماً مستأنفاً أن يُدَّعَى زيادة الواو ، ولا أنه لا بد من معطوف عليه؛ لأن النحويين ، وأهل البيان نَصُّوا على أن الواوَ تكون للاستئناف ، بدليل أن الشعراء يأتُون بها في أوائل اشعارهم ، من غير تقدُّم شيءٍ يكون ما بعدَها معطوفاً عليه ، والأشعار مشحونة بذلك ، ويُسمونها واوَ الاستئناف ، ومَن منع ذلك قدَّر أنّ الشاعرَ عطف كلامه على شيء منويٍّ في نفسه ، ولكن الأول أشهر القولين » .
وقال الطبريُّ : قراءة الياء عطف على قوله : { يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } ، وقراءة النون ، عطف على قوله : { نُوحِيهِ إلَيْكَ } .
قال ابن عطيةَ : « وهذا الذي قاله في الوجهين مفسد للمعنى » . ولم يبين أبو محمد وجه إفساد المعنى .
قال أبو حيّان : « أما قراءةُ النون ، فظاهر فساد عطفه عفى » نُوحِيهِ « من حيث اللفظ ومن حيث المعنى ، أما من حيث اللفظ فمثله لا يقع في لسان الْعَرَبِ؛ لبُعْدِ الفَصْل المُفْرِط ، وتعقيد التركيب وتنافي الكلامِ ، وأما من حيث المعنى فإنَّ المعطوف بالواو شريك المعطوف عليه في المعنى ، فيصير المعنى بقوله : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب } ، أي : إخبارك يا محمد بقصة امرأة عمرانَ وولادتها لمريم ، وَكَفَالَةِ زكريا ، وقصته في ولادة يحيى ، وتبشير الملائكة لمريمَ بالاصطفاء والتطهير كل ذلك من أخبار الغيب - نعلمه ، أي : نعلم عيسى الكتاب ، فهذا كلام لا ينتظم [ معناه ] مع معنى ما قبله .
أما قراءة الياء وعطف » وَيُعَلِّمُهُ « على » يَخْلُقُ « فليست مُفْسِدَةً للمعنى ، بل هو أوْلَى وأصَحّ ما يحمل عطف » وَيُعَلِّمُهُ « لقُرب لفظه وصحة معناه - وقد ذكرنا جوازَه قبل - ويكون الله أخبر مريم بأنه - تعالى - يخلق الأشياءَ الغريبةَ التي لم تَجْرِ العادة بِمثلِهَا ، مثلما خلق لك ولداً من غير أبٍ ، وأنه - تعالى - يُعَلِّمُ هذا الولَد الذي يخلقه لك ما لم يُعَلِّمْه مَنْ قَبْلَه من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، فيكون في هذا الإخبار أعظم تبشيرٍ لها بهذا الولد ، وإظهار بركته ، وأنه ليس مشبهاً أولاد الناس - من بني إسرائيل - بل هو مخالف لهم في أصل النشأة ، وفيما يعلمه - تعالى - من العلم ، وهذا يظهر لي أنه أحسن ما يحمل عليه عطف وَيُعَلِّمُهُ » اه .
قال أبو البقاء : « يُقْرَأ - نعلمه - بالنون ، حملاً على قوله : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ } ويقرأ بالياء؛ حملاً على » يُبَشِّرُكِ « وموضعه حال معطوفة على » وَجِيهاً « .
قال أبو حيّان : وقال بعضهم : » وَنُعَلِّمُهُ « - بالنون - حملاً على » نُوحِيهِ « - إن عني بالحمل العطف فلا شيء أبعد من هذا التقدير ، وإن عني بالحمل أنه من باب الالتفات فهو صحيح » .
قال شهاب الدين : « يتعين أن يعني بقوله : حَمْلاً؛ الالتفات ليس إلا ، ولا يجوز أن يعني به العطف لقوله : وموضعه حال معطوفة على » وَجِيهاً « وكيف يستقيم أن يُرِيدَ عطفه على » يُبَشِّرُكِ « أو على توجيهه مع حكمه عليه بأنه معطوف على » وَجِيهاً « ؟ هذا ما لا يستقيم أبداً » .
فصل في المراد ب « الكتاب »
المرادُ من « الكِتَاب » : تعليم الخط والكتابة ، ومن « الْحِكْمَة » تعليم العلوم ، وتهذيب الأخلاق : { والتوراة والإنجيل } كتابان إلهيان ، وذلك هو الغاية العُلْيا في العلم؛ لأنه يحيط بالأسرار العقلية والشرعية ، ويطَّلع على الحِكَم العُلْوِيَّةِ والسُّفْلِيَّةِ .
قوله : { وَرَسُولاً } فيه وجهان :
أحدهما : أن صفة - بمعنى مُرْسَل - على « فَعُول » كالصَّبور والشَّكُور .
والثاني : أنه - في الأصل - مصدر ، ومن مَجِيء « رسول » مصدراً قوله : [ الطويل ]
1469- لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحتُ عِنْدَهُمْ ... يِسِرِّ وَلاَ أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
وقال آخر : [ الوافر ]
1470- ألاَ أبْلِغْ أبَا عَمْرٍو رَسُولاً ... بِأنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ
أي أبلغه رسالة .
ومنه قوله تعالى : « إنَّا رسُولُ رَبِّ العالمين » - على أحد التأويلين - أي : إنا ذوا رسالةِ ربِّ العالمينَ . وعلى الوجهين يترتب الكلامُ في إعراب « رَسُولاً » ، فعلى الأول يكون في نصبه ستة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون معطوفاً على « يُعَلِّمُهُ » - إذا أعربناه حالاً معطوفاً على « وَجِيهاً » - إذ التقدير وجيهاً ومُعَلَّماً ومُرْسَلاً .
قاله الزمخشريُّ وابنُ عطيةَ .
وقال أبو حيّان : « وقد بيَّنا ضَعْفَ إعرابِ مَنْ يقول : إن » وَيُعَلِّمُهُ « معطوف على » وَجِيهاً « ؛ للفصل المُفْرِط بين المتعاطفَيْن [ وهو مبني على إعراب » ويعلمه « ] » .
الثاني : أن يكون نَسَقاً على « كَهْلاً » الذي هو حال من الضمير المستتر في « وَيُكَلِّمُ » ، أي : يكلم الناسَ طفلاً وكهلاً ومُرْسَلاً إلى بني إسرائيلَ ، وقد جَوَّز ذلك ابنُ عطيةَ ، واستبعده أبو حيّان؛ لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه .
قال شهاب الدين : « ويظهر أن ذلك لا يجوز - من حيث المعنى - إذْ يصير التقدير : يكلم الناس في حال كونه رسولاً إليهم وهو إنما صار رسولاً بعد ذلك بأزمنةٍ » .
فإن قيل : هي حَالٌ مُقَدَّرة ، كقولهم : مررت برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً ، وقوله : { فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] .
وقيل : الأصل في الحال أن تكون مقارنة ، ولا تكون مقدّرة إلا حيث لا لَبْسَ .
الثالث : أن يكون منصوباً بفعل مُضْمَرٍ لائقٍ بالمعنى ، تقديره : ويجعله رسولاً ، لما رأوه لا يصح عطفه على مفاعيل التعليم أضمروا له عاملاً يناسب . وهذا كما قالوا في قوله : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } [ الحشر : 9 ] وقوله : [ مجزوء الكامل ]
1471- يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّداً سيْفاً وَرُمْحَا
وقول الآخر : [ الكامل ]
1472- فَعَلَفتُهَا تبْناً وَمَاءً بَارِداً .. .
وقول الآخر : [ الوافر ]
1473- . ... وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا
أي : واعتقدوا الإيمانَ ، وحاملاً رُمْحاً ، وسيقتها ماءً بارداً ، وكحَّلْنَ العيون .
وهذا على أحد التأويلين في هذه الأمثلة .
الرابع : أن يكون منصوباً بإضمار فعل من لفظ « رسول » ويكون ذلك الفعل معمولاً لقول مُضْمَرٍ - أيضاً - هو من قول عيسى .
الخامس : أن الرسول - فيه بمعنى النطق ، فكأنه قيل : وناطقاً بأني قد جئتكم ، ويوضِّحُ هذين الوجهين الأخيرين ، ما قاله الزمخشريُّ : « فإن قلت : عَلاَم تَحْمِل » وَرَسُولاً « و » مُصَدِّقاً « من المنصوبات المتقدمة ، وقوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } و { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } يأبى حَمله عليها؟
قلت : هو من المضايق ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يُضمر له » وأرسَلْت « - على إرادة القول - تقديره : ويعلمه الكتاب والحكمة ، ويقول : أرسلت رسولاً بأني قد جئتكم ، ومصدقاً لما بين يديَّ .
الثاني : أن الرسول والمصدِّق فيهما معنى النطق ، فكأنه قيل : وناطقاً بأني قد جئتكم ، ومصدقاً لما بين يدي » . اه .
إنما احتاج إلى إضمار ذلك كُلِّه تصحيحاً للمعنى واللفظ ، وذلك أن ما قبله من المنصوبات ، لا يصح عطفه عليه في الظاهر؛ لأن الضمائر المتقدمة غُيَّب ، والضميرانِ المصاحبانِ لهذين المنصوبين في حُكْم المتكلم؛ فاحتاج إلى ذلك التقدير؛ ليناسب الضمائر .
وقال أبو حيان : « وهذا الوجه ضعيف؛ إذْ فيه إضمارُ الْقَوْلِ ومعموله - الذي هو أرسلت - والاستغناء عنهما باسمِ منصوبٍ على الحال المؤكِّدة ، إذْ يُفْهَم من قوله : وأرسلت ، أنه رسول ، فهي - على هذا - حال مؤكِّدة » .
واختار أبو حيّان الوجه الثالث ، قال : « إذْ ليس فيه إلا إضمار فعل يدل عليه المعنى - ويكون قوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } معمولاً ل » رَسُولاً « أي : ناطقاً بأني قد جئتكم ، على قراءة الجمهور » .
الثالث : أن يكون حالاً من مفعول « وَيًعَلِّمُهُ » وذلك على زيادة الواو - كأنه قيل : ويعلمه الكتاب ، حال كونه رسولاً . قاله الأخفشُ ، وهذا على أصل مذهبه من تجويزه زيادة الواو ، وهو مذهب مَرْجُوحٌ .
وعلى الثاني وهو كون « الرسول » مصدراً كالرسالة في نصبه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول به - عطفاً على المفعول الثاني لِ « يُعَلِّمُهُ » - أي : ويعلمه الكتاب والرسالة معاً ، أي : يعلمه الرسالة أيضاً .
الثاني : أنه مصدر في موضع الحال ، وفيه التأويلات المشهورة في : رَجُلٌ عَدْل .
وقرأ اليزيديُّ « وَرَسُولٍ » بالجر - وخرجها الزمخشريُّ على أنها منسوقة على قوله : « بِكَلِمَةٍ » أي : يبشرك بكلمة وبرسول .
وفيه بُعْدٌ لكثرة الفصل بين المتعاطفين ، ولكن لا يظهر لهذه القراءة الشاذة غير هذا التخريج .
قوله : { إلى بني إِسْرَائِيلَ } فيه وَجْهَانِ :
أحدهما : أن يتعلق بنفس « رسول » إذْ فعله يتعدى ب « إِلَى » .
والثاني : أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه صفة ل « رَسُولاً » فيكون منصوبَ المحلِّ في قراءة الجمهور ، مجرورة في قراءة اليزيديِّ .
فصل
هذه الآية تدل على أنه - عليه السلامُ - كان رسولاً إلى كل بني إسرائيل ، وقال بعض اليهودِ : إنه كان مبعوثاً إلى قوم مخصوصين .
قيل : إنما كان رسولاً بعد البلوغ ، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى - عليهما السلام - وقال القرطبيُّ : وفي حديث أبي ذر الطويل : « . . . وَأولُ أنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ مُوْسَى ، وآخرهُم عِيسَى » .
قوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } قرأ العامَّةُ « أنِّي » بفتح الهمزة ، وفيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن موضعها جر - بعد إسقاط الخافض- ، إذ الأصل : بأني ، فيكون « بأنَّي » متعلِّقاً ب « رَسُولاً » وهذا مذهب الخليلِ والكسائي .
والثاني : أن موضعها نصب ، وفيه ثلاثة أوجهٍ :
الأول : أنه نصب بعد إسقاط الخافض - وهو الباء - وهذا مذهبُ التلميذين : سيبويه والفرّاء .
الثاني : أنه منصوب بفعل مقدَّر ، أي : يذكر ، فيذكر صفة ل « رَسُولاً » حُذِفَت الصفة ، وبقي معمولُها .
الثالث : أنه منصوب على البدل من « رَسُولاً » ، أي : إذا جعلته مصدراً مفعولاً به ، تقديره : ويسلمه الكتاب ويعلمه أني قد جئتكم .
وقرأ بعضهم بكسر الهمزة ، وفيها تأويلان :
أحدهما : أنها على إضمار القول ، أي قائلاً : إني قد جئتكم ، فحُذِفَ القولُ - الذي هو حالٌ في المعنى ، وأبقي معموله .
والثاني : أن « رَسُولاً » بمعنى ناطق ، فهو مُضَمَّن معنى القول ، وما ك ان مُضَمَّناً معنى القول أعْطِيَ حكم القول . وهذا مذهب الكوفيين .
قوله : { بِآيَةٍ } يحتمل أن يكون متعلقاص بمحذوفٍ ، على أنه حال من فاعل
« جِئْتُكمُ » ، أي : جئتكم [ ملتبساً بآية ] . والثاني : أن يكون متعلقاً بنفس المجيء ، أي : جاءتكم الآية . . والآية : العلامة .
فإن قيل : لم قال « بِآيَةٍ » وقد أتى بآياتٍ؟
فالجوابُ : أن المراد بالآية : الجنس .
وقيل : لأن الكل دل على شيء واحدٍ ، وهو صدقه في الرسالة .
قوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } صفة ل « آيَةٍ » فيتعلق بمحذوف ، أي : بآية من عند ربكم ، ف « مِنْ » للابتداء مجازاً ، ويجوز أن يتعلق { مِّن رَّبِّكُمْ } بنفس المجيء - أيضاً .
وقدر أبو البقاء الحال - في قوله : « بِآيَةٍ » - بقوله : « محتجاً بآيةٍ ، إن عنى من جهة المعنى صح ، وإن عنى من جهة الصناعة لم يَصِحّ؛ إذْ لم يُضْمَرْ في هذه الأماكن ، إلا الأكوان المُطْلَقَة » .
وقرأ الجمهور « بِآيةٍ » - بالإفراد - في الموضعين ، وابن مسعود- : بآياتٍ - جمعاً - في الموضعين .
قوله : { أني أَخْلُقُ } قرأ نافع بكسر الهمزة ، والباقون بفتحها ، فالكسر من ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : على إضمار القول ، أي : فقلت : إني أخلق .
الثاني : أنه على الاستئناف .
والثالث : على التفسير ، فسر بهذه الجملة قوله : « بِآيَةْ » ، كأن قائلاً قال : وما الآية؟ فقال هذا الكلام .
ونظيره قوله : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] ثم قال : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] ف « خَلَقَهُ » مفسرة للمثل؛ ونظيره - أيضاً قوله : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ المائدة : 9 ] ثم فسر الوعد { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } [ المائدة : 9 ] . وهذا الوجه هو الصائر إلى الاستئناف؛ فإن المستأنَفَ يؤتى به تفسيراً به لمجرد الإخبار بما تضمنه ، وفي الوجه الثالث نقول : إنه متعلِّق بما تقدمه ، مفسِّر له .
وأما قراءة الجماعة ففيها أرْبَعَةُ أوْجُهٍ :
أحدها : أنها بدل من { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } فيجيء ، فيها ما تقدم في تلك؛ لأن حكمها حكمها .
الثاني : أنها بدل من « بِآيَةٍ » فيكون محلُّها الجَرّ ، أي : وجئتكم بأني أخلق لكم ، وهذا نفسه آية من الآيات .
وهذا البدلُ يحتمل أن يكون كُلاًّ من كُلٍّ - إن أريد بالآية شيء خاصٌّ - وأن يكون بدل بعض من كل إن أريد بالآية الجنس .
الثالث : أنها خبر مبتدأ مُضْمَر ، تقديره : هي أني أخلق ، أي : الآية التي جئت بها أني أخلق وهذه الجملة - في الحقيقة - جوابٌ لسؤال مقدر ، كأن قائلاً قال : وما الآية؟ فقال ذلك .
الرابع : أن تكون منصوبةً بإضمار فعل ، وهو - أيضاً - جواب لذلك السؤال ، كأنه قال : أعني أني أخلُقُ .
وهذان الوجهان يلاقيان - في المعنى - قراءة نافع - على بعض الوجوه - فإنهما استئناف .
قوله : { أَخْلُقُ لَكُم } [ البقرة : 21 ] أن الخلق هو التقدير ، ويدل عليه وُجُوهٌ :
أحدها : قوله : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] أي : المقدِّرين ، وقد ثبت أن العبد لا يكون خالقاً بمعنى التكوين والإبداع ، فوجب أن يكون بالتقدير والتسوية .
وثانيها : أن لفظ الخلق : يطلق على الكذب ، قال تعالى : { إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين } [ الشعراء : 137 ] وقال : { وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا } [ العنكبوت : 17 ] وقال : { إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق } [ ص : 7 ] . والكاذب إنما سُمِّي خالقاً ، لأنه يقدِّر الكذب في خاطره ويُصَوره .
وثالثها : هذه الآية .
ورابعها : قوله تعالى : { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض } [ البقرة : 29 ] إشارة إلى الماضي ، فلو حملنا قوله : « خلق » على الإيجاد والإبداع لكان المعنى : أن كل ما في الأرض الآن فهو - تعالى - كان قد أوجده في الزمان الماضي ، وذلك بَاطِلٌ ، فوجب حَمْل الخلق على التقدير - حتى يَصِحّ الكلام - وهو أنه - تعالى - قدَّر في الماضي كلَّ ما وُجِدَ الآن في الأرض .
وخامسها : قول الشاعر : [ الكامل ]
1474- وَلأنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ ... وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَ يَفْرِي
وقال الآخر : [ البسيط ]
1475- وَلاَ يَئِطُّ بِأيْدِي الْخَالِقِينَ وَلاَ ... أيْدِي الْخَوَالِقِ إلاَّ جَيِّدُ الأدَمِ
وسادسها : أنه يقال : خلق الفعل إذا قدرها وسواها بالمقياس ، والخَلاَق : المقدار من الخير ، وفلان خليق بكذا ، أي : له هذا المقدار من الاستحقاق ، و الصخرة الخَلْقاء : الملساء؛ لأن الملاسة استواء وفي الخشونة اختلاف ، فثبت أن الخلق عبارةٌ عن التقدير والتسوية .
وقال أبو عبد الله البصريُّ : لا يجوز إطلاق « الخالق » على الله - تعالى - في الحقيقة؛ لأن التقدير والتسوية عبارة عن الظن والتخيُّل ، وذلك على الله تعالى مُحَالٌ .
وأجيب بقوله تعالى : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله } [ فاطر : 3 ] والتقدير والتسوية عبارة عن العلم والظن ، لكن الظن كان محالاً في حق الله تعالى فالْعِلْمُ ثابتٌ .
إذا عرفت هذا فقوله : { أني أَخْلُقُ } معناه : أقَدِّر وأصَوِّر .
قوله : { لَكُمْ } متعلق ب « أخلُقُ » واللام للعلة ، أي : لأجلكم - بمعنى لتحصيل إيمانكم ، ودَفْع تكذيبكم إياي - وإلا فالذوات لا تكون عِلَلاً ، بل أحداثها . و { مِّنَ الطين } متعلق به - أيضاً - و « مِنْ » لابتداء الغاية ، وقول من قال : إنها للبيان تساهل؛ إذ لم يَسْبِق مُبْهَم تبينه .
قوله : { كَهَيْئَةِ } في موضع هذه الكاف ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنها نَعْت لمفعولٍ محذوفٍ ، تقديره : أني أخلق لكم هيئة مثلَ هيئة الطير . والهيئة إما أن تكونَ في الأصل مصدراً ، ثم أطلِقَت على المفعول - أي : المُهَيَّأ - كالخلق بمعنى : المخلوق ، وإما أن تكون اسماً لحال الشيء وليست مصدراً ، والمصدر : التَّهْيِيء - والتَّهَيُّؤ - والتَّهْيِئَة .
ويقال : هاء الشيء يَهِيءُ هَيْئاً وهَيْئَةً - إذا ترتب واستقر على حال مخصوص - ويتعدى بالتضعيف ، قال تعالى : { وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً } [ الكهف : 16 ] ، والطين معروف ، يقال : طَانَهُ الله على كذا وطَلَمَهُ - بإبدال النون ميماً - أي : جبله عليه ، والنفخ مَعْرُوفٌ .
الثاني : أن الكاف مفعول به؛ لأنها اسم كسائر الأسماء - وهذا رأي الأخْفَشِ ، حيث يجعل الكاف اسماً حيث وقعت وغيره من النحاة لا يقول بذلك إلا إذا اضطر إليه - كوقوعها مجرورة بحرف جر ، أو إضافة ، أو وقوعها فاعلةً أو مبتدأ . وقد تقدم ذلك .
الثالث : أنها نعت لمصدر محذوف ، قاله الواحديُّ نقلاً عن أبي عليٍّ بعد كلامٍ طويلٍ : « ويكون الكاف موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد ، تقديره : أنِّي أخلق لكم من الطّينِ خلقاً مثل هيئة الطَّيْرِ » .
وفيما قاله نظرٌ من حيث المعنى؛ لأن التحدِّي إنما يقع في أثر الخلق - وهو ما ينشأ عنه من المخلوقات - لا في نفس الخلق ، اللهم إلا أن نقول : المراد بهذا المصدر المفعول به فيئول إلى ما تقدم .
قال الزمخشري : أي أقدِّر لكم شيئاً مثل هيئة الطّيرِ . وهذا تصريح منه بأنها صفة لمفعول محذوف وقوله : « أقدر » تفسير للخلق؛ لأن الخلق هنا - التقدير - كما تقدم - وليس المراد الاختراع ، فإنه مختص بالباري - تعالى- .
وقرأ الزهريُّ : « كَهَيْئَةِ » - بنقل حركة الهمزة إلى الياء .
وقرأ أبو جعفر : « كَهَيْئَةِ الطَّائِرِ » .
قوله : { فَأَنْفُخُ فِيهِ } في هذا الضمير ستة أوجُهٍ :
أحدها : أنه عائد على الكاف؛ لأنها اسم - عند مَنْ يرى ذلك - أي : فأنفخ في مثل هيئة الطير .
الثاني : أنه عائد على « هَيْئَةِ » ، لأنها في معنى الشيء المُهَيَّأ ، فلذلك عاد الضميرُ عليها مذكَّراً وإن كانت مؤنثةً - اعتباراً بمعناها دون لفظها ، ونظيره قوله تعالى : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة } [ النساء : 8 ] ثم قال { فارزقوهم مِّنْهُ } [ النساء : 8 ] فأعاد الضمير في { مِنْهَا } على { القِسْمَةَ } لما كانت بمعنى المقسوم .
الثالث : أنه عائد على ذلك المفعول المحذوف ، أي : فأنفخ في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير .
الرابع : أنه عائد على ما وقعت عليه الدلالة في اللفظ . وهو أني أخلق . ويكون الخلق بمنزلة المخلوق .
الخامس : أنه عائد على ما دَلَّت عليه الكاف من معنى المثل؛ لأن المعنى : أخلق من الطِّينِ مثلَ هيئة الطَّير وتكون الكاف في موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد تقديره : أني أخلق لكم خلقاً مثل هيئة الطير . قاله الفارسي؛ وقد تقدم الكلام معه في ذلك .
السادس : أنه عائد على الطين ، قاله أبو البقاء ، وأفسده الواحديُّ ، قال : « ولا يجوز أن تعود الكناية على » الطِّينِ « لأن النفخ إنما يكون في طين مخصوص وهو ما كان مهيَّئاً منه - والطين المتقدم ذكرُه عام فلا تعود إليه الكناية ، ألا ترى أنه لا ينفخ في جميع الطين » .
وفي هذا الرَّد نَظَر؛ إذ لقائلٍ أن يقول : لا نُسَلِّم عمومَ الطين المتقدم ، بل المراد بعضه . ولذلك أدخل عليه « مِنْ » التي تقتضي التبعيض ، فإذا صار المعنى : أني أخلق بعض الطين ، عاد الضَّمِيرُ عليه من غير إشكال ، ولكنَّ الواحدي جعل « مِنْ » في الطين لابتداء الغاية ، وهو الظَّاهِرُ .
قال أبو حيّان : « وقرأ بعض القُرَّاء » فأنْفَخَهَا « . أعَاد الضمير على الهيئة المحذوفة؛ إذ يكون التقدير : هيئة كهيئة الطير ، أو على الكاف - على المعنى - إذ هي بمعنى مماثلة هيئة الطير ، فيكون التأنيث هنا كما هو في آية المائدة : { فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً } [ المائدة : 110 ] ويكون في هذه القراءة قد حذف حرف الجر ، كما حذف في قوله : [ البسيط ]
1476- مَا شُقَّ جَيْبٌ وَلاَ قَمَتْكَ نَائِحَةٌ ... وَلاَ بَكَتْكَ جِيَادٌ عِنْدَ أسْلاَبِ
وقول النابغة : [ البسيط ]
1477- . ... كَالْهِبْرَقِيِّ تَنَحَّى يَنْفُخُ الْفَحْما
يريد ولا قامت عليك ، وينفخ في الفَحْمِ . وهي قراءة شائة ، نقلها الفرَّاء » .
قال شهابُ الدين : « وعجبت منه ، كيف لم يَعْزُها ، وقد عزاها صاحبُ الكشَّاف إلى عبد الله ، قال : وقرأ : » أعبدُ الله « فأنفخها » .
قوله : { فَيَكُونُ } في « يكون » وجهان :
أحدهما : أنها تامة ، أي : فيوجد ، ويكون « طيراً » - على هذا - حالاً .
والثاني : أنها ناقصة ، و « طَيْراً » - على هذا - حالاً .
والثاني : أنها ناقصة ، و « طيراً » خبرها . وهذا هو الذي ينبغي أن يكون؛ لأن في وقوع اسم الجنس حالاً لا حاجة إلى تأويل ، وإنما يظهر ذلك على قراءة نَافعٍ « طَائِراً » ؛ لأنه - حينئذٍ - اسم مشتق .
وإذا قيل بنقصانها ، فيجوز أن تكون على بابها ، ويجوز أن تكون بمعنى « صار » الناقصة ، كقوله : [ الطويل ]
1478- بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَاَنَّهَا ... قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا
أي صارت .
وقال أبو البقاء : « فيكون - أي فيصير - فيجوز أن يكون » كان « هنا - التامة؛ لأن معناها » صار « بمعنى : انتقل ، ويجوز أن تكون الناقصة ، و » طَائِراً « - على الأول - حالٌ ، وعلى الثاني - خَبَرٌ » .
قال شِهَابُ الدِّينِ : « ولا حاجة إلى جعله إياها - في حال تمامها - بمعنى » صار « التامة التي معناها معنى » انتقل « بل النحويون إنما يقدرون التامة بمعنى حدث ، ووجد ، وحصل ، وشبهها وإذا جعلوها بمعنى » صار « فإنما يعنون » صار « الناقصة » .
وقرأ نافع ويَعْقُوبُ فيكون طائِراً - هنا وفي المائدة - والباقون « طَيْراً » في الموضعين .
فأما قراءة نافع فوجَّهَهَا بعضُهم بأنَّ المعنى على التوحيد ، والتقدير : فيكون ما أنفخ فيه طائراً ولا يعترض عليه بأن الرسمَ الكريمَ إنما هو « طَيْراً » - دون ألف - لأن الرسم يُجوِّز حذف مثل هذه الألف تخفيفاً ويدل على ذلك أنه رسم قوله تعالى : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] ولا طير - دون ألف - ولم يقرأه أحد « طائر » - بالألف - فالرسم محمل ، لا مُنَافٍ .
قال بعضهم كالشارح لما تقدم - : ذهب نافع إلى نوع واحد من الطير؛ لأنه لم يخلق غير الخفّاشِ ، وزعم آخرون أن معنى قراءته : يكون كل واحد مما أنفخ فيه طائراً ، قال : كقوله تعالى : { فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [ النور : 4 ] أي اجلدوا كل واحد منهم وهو كثير من كلامهم .
وأما قراءة الباقين فمعناها يحتمل أن يُرَاد به اسم الجنس - أي : جنس الطير - ويُحْتَمل أن يُرَاد به الواحد فما فوقه ، ويحتمل أن يراد به الجمع ، ولا سيما عند من يرى أن طيراً صيغة جمع نحو رَكْب وصَحْب وتَجْر؛ جمع راكب وصاحب وتاجر - وهو الأخفشُ - وأما عند سيبويه فهي عنده أسماء جموع ، لا جموع صريحة وتقدم الكلام على ذلك في البقرة . وحسن قراءة الجماعة لموافقتها لما قبلها - في قوله : { مِّنَ الطير } - ولموافقة الرسم لفظاً ومعنى .
قوله : { بِإِذْنِ الله } يجوز أن يتعلق ب « طَيْراً » - على قراءة نَافِعٍ ، وأما على قراءة غيره فلا يتعلق به؛ لأن « طَيْراً » اسم جِنْسٍ ، فيتعلق بمحذوف على أن صفة لِ « طَيْراً » أي : طيراً ملتبساً بإذن الله - بتمكينه وإقداره .
============
ج16. ج16.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتابأبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
قال أبو البقاء : متعلق ب « يكون » . وهذا إنما يظهر إذا جعل « كان » تامة ، وأما إذا جعلها ناقصة ففي تعلُّق الظرف بها الخلاف المشهور .
فصل
روي أن عيسى - عليه السلام - لما ادَّعَى النبوةَ ، وأظهر المعجزات ، طالبوه بخَلْق خفاش فأخذ طيناً ، فصوَّره ، فنفخ فيه ، فإذا هو يطير بين السماء والأرض .
قال وَهْبٌ : كان يطير ما دام الناسُ ينظرون إليه ، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميِّتاً ، ليتميز فعلُ الخلْق من فعل الخالق .
قيل : خلق الخُفَّاش ، لأنه أكمل الطير خَلْقاً ، وأبلغ في القدرة؛ لأن لها ثَدْياً وأسْنَاناً وأذناً ، وهي تحيض وتطهر وتَلِد .
وقيل : إنما طالبوه بخلق خُفَّاش؛ لأنه أعجب من سائر الخلق ، ومن عجائبه أنه لحم ودم ، يطير بغير ريش ويلد كما يَلِد الحيوان ، ولا يبيض كما يبيض سائر الطُّيور ، ويكون له الضرع يخرج منه اللبن ، ولا يُبصر في ضوء النهار ، ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين : بعد غروب الشمس سَاعةً ، وبعد طلوع الفجر سَاعةً - قبل أن يُسْفِر جِدًّا - ويضحك كما يضحك الإنسان ، ويحيض كما تحيض المرأة . قال قوم إنه لم يخلق غير الخفاش . وقال آخرون : إنه خلق أنواعاً من الطّيْرِ .
فصل
قال بعض المتكلمين : دلت الآيةُ على أن الروح جسم رقيقٌ ، كأنه الريح؛ لأنه وصفها بالنفخ ، ثم هاهنا بحث ، وهو أنه هل يجوز أن يقال : إنه - تعالى - أودع في نفس عيسى - عليه السلام - خاصية ، بحيث إذا نفخ في شيء كانت نفخته فيه موجبة لصيرورة ذلك الشيء حَيًّا؟
ويقال : إن الله - تعالى - كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بصورته ، عند نفخ عيسى على سبيل إظهار المعجزات ، وهذا الثاني هو الحق؛ لقوله تعالى : { الذي خَلَقَ الموت والحياة } [ الملك : 2 ] وقال إبراهيمُ عليه السلام لمناظريه : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] فلو حصل لغيره هذه الصفة لبطل ذلك الاستدلال . وقوله : { بِإِذْنِ الله } معناه : بتكوين الله وتخليقه؛ لقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ البقرة : 145 ] أي بأن يُوجَِ اللهُ الموتَ .
فصل
القرآن دل على أنه - عليه السلام - إنما تولد من نفخ جبريل - عليه السلام - في مريم وجبريل روح محض وروحاني محض ، فكانت نفخة عيسى عليه السلام سبباً للحياة والروح .
قوله : « وأبرئ الأكمه » وأبرئ عطف على « أخْلُقُ » فهو داخل في خبر « أنِّي » . يقال : أبرأت زيد عن العاهة ومن الدِّيْن ، وبَرَّأتك من الدين - بالتضعيف . وبَرَأت من المرض أبْرأ وبَرِئْتُ - أيضاً - وأما برئت من الدَّيْنِ ومن الذَّنْب ، فبَرِئْتُ لا غَيْرُ .
وقال الأصمعيُّ : برئتُ من المرض لغةُ تَمِيم ، وبَرَأتُ لغَةُ الحجازِ .
قال الراغبُ : « بَرَأتُ من المرض وَبَرئْتُ ، وَبَرَأت من فلان » ، فالظاهرُ من هذا أنه لا يقال الوجهان - أعني فتح الراء وكسرها - إلا في البراءة من المرض ونحوه . وأما الدَّيْنُ والذَّنْبُ ونحوهما ، فالفتح ليس إلا .
والبراءة : التخلص من الشيء المكروه مجاورته؛ وكذلك التَّبَري والبراء .
فصل
من وُلِدَ أعْمَى ، يقال : كَمِه يَكْمَهُ فهو أكْمَه .
قال رؤبة : [ الرجز ]
1479- فَارْتَدَّ عَنْهَا كَارْتِدَادِ الأكْمَهِ ... يقال : كمهتها ، أي : أعميتها .
قال الزمخشريُّ والراغبُ وغيرُهما : « الأكمهُ : من وُلِدَ مطموس العينين » ، وهو قول ابنِ عباس وقتادة .
قال الزمخشري : « ولم يوجد في هذه الأمة أكمه غير قتادة صاحب التفسير » .
قال الراغب : « وقد يُقال لمن ذَهَبَتْ عينُه : أكمه » .
قال سُوَيد : [ الرمل ]
1480- كَمِهَتْ عَيْنَاهُ حَتَّى ابْيَضّتَا .. . . .
قال الحسنُ والسُّدِّيُّ : هو الأعمى .
وقال عكرمةُ : هو الأعمش .
وقال مجاهد : هو الذي يبصر بالنهار ولا يُبْصر بالليلز
والبرص : داء معروف ، وهو بياضٌ يَعْتَري الإنسانَ ، ولم تكن العربُ تنْفر من شيء نُفْرَتَها منه ، ويُقال : برص يبرص بَرَصاً ، أي : أصابه ذلك ، ويقال له : الوَضَح ، وفي الحديث : « وَكَانَ بِهَا وَضَحٌ » . والوضَّاح من ملوك العرب هابوا أن يقولوا له : الأبرص . ويقال للقمر : أبْرَص؛ لشدة بياضِه .
وقال الراغب « وللنكتة التي عليه » وليس بِظَاهِرٍ ، فَإنَّ النُّكْتَةَ التي عليه سوداء ، والوزغ سامٌّ أبرص ، سُمِّيَ بذلك؛ تشبيهاً بالبرص ، والبريص : الذي يَلْمَع لمعان البرص ويقارب البصيص .
فصل
إنما خَصَّ هذين المرضَيْن لأنهما أعْيا الأطباء ، وكان الغالب في زمن عيسى - عليه السلام - الطبَّ ، فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك .
قال وَهَبٌ : رُبَّما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى - في اليوم الواحد - خَمْسُونَ ألفاً ، من أطاق منهم أن يبلغه بَلَغه ، ومن لم يُطِقُ مَشَى إليه عيسى ، وكان يداويهم بالدُّعاء - على شرط الإيمان - ويُحْيي الموتَى .
قال الكلبيُّ : كان عيسى يُحْيي الموتَى ب « يا حَيُّ يَا قَيُّومُ ، أخي عَازَرَ » وكان صديقاً له ، ودعا سام من نوح من قبره فخرج حَيًّا ، ومرَّ على ابن عجوز ميت ، فدعا الله عيسى ، فنزل عن سريره حَيًّا ، ورجع إلى أهله وبقي ووُلِدَ لَهُ ، وبنت العاشر أحياها ، وولدت بعد ذلك . وأما العازر فإنه كان تُوُفِّي قبل ذلك بأيام فدعا الله ، فقام - بإذن الله - وَودَكُه يَقْطُر ، وعاش ، ووُلِدَ له . وأما ابنُ العجوزِ ، فإنه مر به محمولاً على سريره ، فدعا الله ، فقام ، ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه إلى أهله ، وأما ابنة العاشر فكان أتى عليها ليلة ، فدعا الله ، فعاشت بعد ذلك ، وولد لها . فلما رأوا ذلك قالوا : إنك تُحْيي من كان موتُه قريباً ، ولعله لم يمت ، بل أصابتهم سكتة فأَحْيِ لنا سام بن نوح ، فقال : دلوني على قبره ، فخرجوا وخرج معهم ، حتى انتهى إلى قبره ، فدعا الله ، فخرج من قبره ، قد شاب رأسُهُ ، فقال له عيسى : كيف شاب رأسُك ولم يكن في زمانكم شَيْبٌ؟ فقال : يا رُوحَ اللهِ ، إنك دعوتني ، فسمعت صوتاً يقول : أجِبْ رُوحَ اللهِ ، فظننت أن القيامة قد قامت ، فمن هَوْل ذلك شاب رأسي .
فساله عن النزع ، فقال : يا روح الله ، إن مرارة النزع لم تَذْهَب من حنجرتي - وكان قد مر على وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنةٍ - ثم قال للقوم : صَدِّقُوه؛ فإنه نبيٌّ ، فآمن به بعضُهم ، وكذَّبه بعضُهم ، وقالوا : هذا سحرز
فصل
قَيَّد قوله : { أني أَخْلُقُ } بإذن الله؛ لأنه خارق عظيم ، فأتَى به؛ دفعاً لتوهُّم الإلهية ، ولم يأت فيه فيما عُطِف عليه في قوله : { وَأُبْرِىءُ الأكمه والأبرص } ثم قيَّد الخارقَ الثالث - أيضاً - بإذن الله؛ لأنه خارق عظيم أيضاً - وعطف عليه قوله : { وَأُنَبِّئُكُم } من غير تقييد له ونبهه على عِظم ما قبلَه ، ودَفْعاً لوهم من يتوهم فيه الإلهيّة ، أو يكون قد حذف القيد من المعطوفين؛ اكتفاء به في الأول والأول أحسن .
قوله : { بِمَا تَأْكُلُونَ } يجوز في « ما » أن تكون موصولةً - اسميَّة أو حرفيَّة - و نكرة موصوفة . فعلى الأول والثالث تحتاج إلى عامل بخلاف الثاني - عند الجمهور - وكذلك « ما » في قوله : { وَمَا تَدَّخِرُونَ } محتملة لما ذكر . وأتى بهذه الخوارق الأربع بلفظ المضارع؛ دلالةً على تجدُّد ذلك كلَّ وقتٍ طُلِبَ منه .
قوله : { تَدَّخِرُونَ } قراءة العامة بدال مشدَّدةٍ مهملةٍ ، وأصله : تَذتَخِرُونَ - تفتعلون - من الذخر ، وهو التخبية ، يقال : ذَخَر الشيء يَذْخَرُه ذَخْراً ، فهو ذاخرٌ ومذخورٌ - أي : خبَّأه .
قال الشاعر : [ البسيط ]
1481- لَهَا أشَارِيرُ مِنْ لَحْمٍ تُتَمِّرُهُ ... مِنَ الثَّعَالِبِي وَذُخْرٌ مِنْ أرَانِيها
الذخر : فُعْل بمعنى المذخور ، نحو الأكل بمعنى المأكول ، وبعض النحويين يصَحِّفُ هذا البيتَ فيقول : وَوخْزٌ - بالواو والزاي - وقوله : من الثَّعَالِي ، وأرانيها ، يريد : الثعالب ، وأرانبها ، فأبدل الباء الموحدة باثنتين من تحتها .
ولما كان أصله : تَذْتَخِرون ، اجتمعت الذال المعجمة مع تاء الافتعال ، فأبدِلَتْ تاء الافتعال دالاً مهملةً ، فالتقى بذلك متقاربان - الدال والذال - فأبدل الذال - المعجمة - دالاً ، وأدغمها في الذال المعجمة - فصال اللفظ : تَدَّخرون .
وقد قرأ السوسيُّ - في رواية عن أبي عمرو - تَذْدَخِرُون بقلب تاء الافتعال دالاً مهملة من غير إدغام ، وهذا وإن كان جائزاً إلا أن الإدْغامَ هو الفصيح .
وقرأ الزهري ومجاهد وأبو السّمّال وأيوب السختياني « تَذْخَرُونَ » - بسكون الذَّال المعجمة ، وفَتح الخاء جاءوا به مجرداً على فَعَل ، يقال : ذَخَرته - أي : خبَّأته .
ومن العرب من يقلب تاء الافتعال - في هذا النحو - ذالاً معجمة ، فيقول : اذَّخَر يذخِر - بذال معجمة مشددة ، ومثله اذَّكَر فهو مذّكر .
وسيأتي إن شاء الله تعالى .
قال أبو البقاء : والأصل في « تَدَّخِرُونَ » تَذتَخِرون ، إلاَّ أنَّ الذالَ مجهورة ، والتاء مهموسة ، فلم يجتمعا ، فأبدلت التاء دالاً؛ لأنها من مَخْرَجِها؛ لتقرب من الذال ، ثم أبدِلت الذال دالاً ، وأدغمت . و « في بيوتكم » متعلق ب « تَدَّخِرُونَ » .
فصل
في الآية قولان :
أحدهما : قال السُّديُّ : كان عيسى عليه السلام في الكتّاب يُحَدِّثُ الغِلْمَانَ بما يصنع آباؤهم ، ويقول للغلام : انطلق فقد أكل أهلُك كذا وكذا ، ورفعوا لك كذا وكذا ، فينطلق الصبيُّ إلى أهله ، ويبكي لهم ، حتى يعطوه ذلك الشيءَ ، فيقولون مَنْ أخبرَك بهذا؟ فيقول : عيسى ، فحبسوا صبيانَهُمْ عنه ، وقالوا : لا تلعبوا مع هذا الساحر ، فجمعوهم في بيتٍ فجاء عيسى ، وطلبهم ، فقالوا : ليسوا هاهنا . فقال : ما في هذا البيت قالوا : خنازير ، قال عيسى : كذلك يكونون ، ففتحوا عليهم فإذا هم خنازير ، ففشا ذلك في بني إسرائيل ، فهمت به بنو إسرائيل ، فلما خافت عليه أمُّه ، حملته على حمارٍ لها ، وخرجت هاربةً به إلى مصر .
قال قتادةُ : إنما كان هذا في المائدةِ ، وكان خواناً ينزل عليهم أينما كانوا كالمَنِّ والسَّلْوَى وأمروا أن لا يخونوا ولا يخبئوا لغد ، فخانوا وخبّأوا ، فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وبما ادَّخروا ، فمسخهم اللهُ خنازيرَ .
وقال القرطبيُّ : إنه لمَّا أحيا لهم الموتى طلبوا منه آيةً أخرى ، وقالوا : أخبرنا بما نأكل في بيوتنا ، وبما ندخر للغد ، فأخبرهم ، فقال : يا فلان ، أكلتَ كذا وكذا ، وادَّخرت كذا وكذا ، وأنت يا فلان ، أكلت كذا وكذا وادَّخرت كذا وكذا .
فصل
اعلم أن الإخبار عن الغيب على هذا الوجه معجزة؛ وذلك لن المنجِّمين الذين يدعون استخراج الجنيِّ لا يُمكنهم ذلك إلا عن تقدم سؤال يستعينون عند ذلك بآلة ، ويتوصَّلون بها إلى معرفة أحوال الكواكبِ ، ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيراً ، فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة ولا تقدم مسألة فلا يكون إلا بوحي من الله تعالى .
قوله : { إنَّ فِى ذَلِكَ } إشارة غلى جميع ما تقدم من الخوارق ، وأشِير إليها بلفظ الإفْرادِ - وإن كانت جمعاً في المعنى - بتأويل ما ذُكِر .
وقد تقدم أن مصحفَ عبدِ الله وقراءته « لآياتٍ » - بالجمع؛ مراعاةً لما ذكرنا من معنى الجمع ، وهذه الجملة يُحْتَمَل أن تكون من كلام عيسى ، وأن تكون من كلام الله تعالى .
قوله : { إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } جوابه محذوف ، أي : إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآية ، وتدبَّرتموها . وقدر بعضهم صفةً محذوفةً ل « آية » أي : لآية نافعة . قال ابو حيّان : « حتى يتَّجه التعلُّق بهذا الشرط » وفيه نظر؛ إذْ يَصِحّ التعلُّق بالشرط دون تقدير هذه الصفة .
قوله : { مُصَدِّقًا } نَسَقٌ على محل بآيةٍ ، لأن محل « بآيَةٍ » في محل نصبٍ على الحالِ؛ إذ التقدير وجئتكم متلبساً بآيةٍ ومصدقاً .
وقال الفراء والزَّجَّاجُ : نصب « مُصَدِّقاً » على الحال ، المعنى : وجئتكم مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ ، وجاز إضمار « جئتكم » ، لدلالة أول الكلام عليه - وهو قوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } - ومثله في الكلام : جئته بما يُحِبُّ ومُكْرِماً له .
قال الفراء : « ولا يجوز أن يكون » مُصَدِّقاً « معطوفاً على » وَجِيهاً « ؛ لأنه لو كان كذلك لقال : أو مصدقاً لما بين يديه ، يعني : أنه لو كان معطوفاً عليه؛ لأتى معه بضمير الغيبة ، لا بضمير التكلُّم » . وذكر غير الفرّاء ، ومنع - أيضاً - أن يكون منسوقاً على « رَسُولاً » قال : لأنه لو كان مردوداً عليه لقال : ومصدقاً لما بين يديك؛ لأنه خاطب بذلك مريم ، أو قال : بين يديه .
يعني أنه لو كان معطوفاً على « رَسُولاً » لكان ينبغي أن يُؤتَى بضمير الخطاب؛ مراعاةً لمريم ، أو بضمير الخطاب مراعاةً للاسم الظاهر .
قال أبو حيّان : وقد ذكرنا أنه يجوز في « رَسُولاً » أن يكون منصوباً بإضمار فعل- أي : وأرسلت رسولاً - فعلى هذا التقدير يكون « مُصَدِّقاً » معطوفاً على « رَسُولاً » .
قوله : { مِنَ التوراة } فيه وجهان :
أحدهما : أنه حال من « ما » الموصولة ، أي : الذي بين يدي حال كونه من التوراةِ ، فالعامل فيه مصدقاً لأنه عامل في صاحب الحالِ .
الثاني : أنه حال من الضمير المُسْتَتِر في الظرف الواقع صِلَةً . والعامل فيه الاستقرارُ المُضْمَرُ في الظرف أو نفس الظرف؛ لقيامه مقامَ الفعل .
فصل
اعلم أنه يجب على كل نبيٍّ أن يكون مُصَدِّقاً لجميع الأنبياء؛ لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجزة ، فكل مَنْ حصلت له المعجزةُ ، وجب الاعترافُ بنبوته .
قوله : { وَلأُحِلَّ } فيه أوجُهٌ :
أحدها : أنه معطوف على معنى « مُصَدِّقاً » إذ المعنى : جئتكم لأصَدِّقَ ما بين يديَّ ولأحِلَّ لكم ، ومثله من الكلام : جئته مُعْتَذِراً إليه ولأجْتَلِبَ رِضاهُ - أي : دئت لأعتذر ولأجتلب - كذا قال الواحديُّ ، وفيه نظرٌ؛ لأن المعطوف عليه حال ، وهذا تعليلٌ .
قال أبو حيّان : - بعد أن ذكر هذا الوَجْهَ - : « وهذا هو العطف على التوهُّم وليس هذا منه؛ لأن معقولية الحال مخالفة لمعقوليَّة التعليلِ ، والعطف على التوهُّم لا بُدَّ أن يكون المعنى مُتَّحِداً في المعطوف والمعطوف عليه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن } [ المنافقون : 10 ] كيف اتحد المعنى من حيث الصلاحية لجواب التحضيض .
وكذلك قول الشاعر : [ الطويل ]
1482- تَقِيٌّ نَقِيٌّ ، لَمْ يُكَثِّرْ غَنِيمَةً ... بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلاَ بِحَقَلَّدِ
كيف اتخذ معنى النفي في قوله : لم يُكَثِّرْ ، وفي قوله : ولا بِحَقلَّدٍ ، أي : ليس بمكثر ولا بحقلدٍ .
وكذلك ما جاء منه « .
قال شهابُ الدّينِ : » ويمكن أن يريد هذا القائلُ أنه معطوف على معنى « مُصَدِّقاً » أي : بسبب دلالته على علةٍ محذوفةٍ ، هي موافقة له في اللفظ ، فنسب العطف على معناه ، باعتبار دلالته على العلة المحذوفة لأنها تشاركه في أصل معناه - أعني مدلول المادة - وإن كانت دلالة الحال غير دلالة العقل « .
الثاني : انه معطوف على عِلَّةٍ مقدرة ، أي : جئتكم بآية ، ولأوسِّعَ عليكم ولأحِلَّ ، أو لأخفِّفَ عنكم ولأحِلَّ ، ونحو ذلك .
الثالث : أنه معمول لفعلٍ مُضْمَرٍ؛ لدلالة ما تقدم عليه ، أي : وجئتكم لأحِلَّ ، فحذف العامل بعد الواو .
والرابع : أنه متعلق بقوله : { وَأَطِيعُونِ } والمعنى اتبعوني لأحِلَّ لكم . وهذا بَعِيدٌ جداً أو مُمتنع .
الخامس : أن يكون { ولأُحِلَّ لَكُمْ } رداً على قوله : » بِآيةٍ « . قال الزمخشريُّ : { وَلأُحِلَّ } رَدٌّ على قوله { بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } أي : جئتكم بآية من ربكم ولأحلَّ .
قال أبو حيان : » ولا يستقيم أن يكون { وَلأُحِلَّ لَكُم } راَّا على « بآيَةٍ » ، لأن « بِآيَةٍ » في موضع حال و « لأحل » تعليل ، ولا يَصِحُّ عطف التعليل على الحال؛ لأن العطف بالحرف المشرك في الحكم يوجب التشريك في جنس المعطوفِ عليه ، فإن عطفت على مصدر ، أو مفعولٍ به ، أو ظرفٍ ، أو حالٍ ، أو تعليل وغير ذلك شارَكه في ذلك المعطوف « .
قال شهاب الدين : ويحتمل أن يكون جوابه ما تقدم من أنه أراد رداً على » بآية « من حيث دلالتها على عمل مقدر .
قوله : { بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } المراد ب » بَعْض « مدلوله في الأصل .
قال أبو عبيدة : إنها - هنا - بمعنى » كل « .
مستدلاًّ بقول لَبِيد : [ الكامل ]
1483- تَرَّاكُ أمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أرْضَهَا ... أوْ يَعْتَلِقُ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا
يعني كلّ النفوس .
وقد يرد الناسُ عليه بأنه كان يَلْزَمُ أن يُحِلَّ لهم الزنا ، والسرقةَ ، والقَتْلَ؛ لأنها كانت محرَّمةً عليهم ، فلو كان المعنى : ولأحِلَّ لكم كُلَّ الذي حُرِّم عليكم لأحلَّ لهم ذلك كلَّه .
واستدل بعضهم على أن » بَعْضاً « بمعنى » كُلّ « بقول الآخر : [ الطويل ]
1484- أبَا مُنْذِرٍ أفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا ... حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ مِنْ بَعْضِ
أي : أهون من كل شر .
واستدل ىخرون بقول الشَّاعِر : [ البسيط ]
1485- إنَّ الأمُورَ إذَا الأحْدَاثُ دَبَّرَهَا ... دُونَ الشُّيُوخِ تَرَى فِي بَعْضِهَا خَلَلاَ
أي : في كلها خللاً ، ولا حاجة إلى إخراج اللفظ عن مدلوله مع إمكان صحة معناه؛ إذ مراد لبيد ب » بَعْضَ النُّفُوسِ « نفسه هو والتبعيض في البيت الآخر واضح؛ فإن الشر بعضه أهون من بعضٍ آخر لا من كُلِّه ، وكذلك ليس كل أمر دبره الأحداث كان خَلَلاً ، بل قد يأتي تدبيره خيراً من تدبير الشيخ .
وقرأ العامة : « حُرِّمَ » بالبناء للمفعول ، والفاعل هو الله . وقرأ عكرمة « حَرَّمَ » مبنيًّا للفاعل وهو الله تعالى ، أو الموصول في قوله : { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } ؛ لأنه كتاب مُنزَّل ، أو موسى؛ لأنه هو صاحب التوراة ، فأضمر بالدلالة عليه بذكر كتابه .
وقرأ إبراهيم النّخْعِيُّ : « حَرُمَ » - بوزن شَرُفَ وظَرُفَ - ونُسِب الفعل إليه مجازاً للعلم بأن المُحَرِّم هو الله .
فإن قيل : هذه الآية مناقضةٌ للآية التي قبلَها؛ لأنها صريحة في أنه جاء ليُحِلَّ لهم بعض الذي كان محرماً عليهم في التوراة ، وهذا يقتضي أن يكون حكمُه بخلاف حكم التوراة ، وهذا يناقض قوله : { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة } .
فالجوابُ : أنه لا مناقضة بين الكلام؛ لأن التصديق بالتوراة ، لا معنى له إلاَّ اعتقاد أن كلَّ ما فيه فهو حق وصواب ، فإذا لم يكن التأبيد مذكوراً في التوراة لم يكن حكمُ عيسَى بتحليل ما كان محرَّماً فيه مناقضاً لكونه مُصَدِّقاً بالتوراة ، كما يَرِدُ النسخُ في الشريعةِ الواحدةِ .
فصل
قال وَهَبٌ : كان عيسى على شريعة موسى ، يقرِّر السبتَ ، ويستقبل بيتَ المَقدِس ، ثم فَسَّرَ قوله : { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } بأمرين :
أحدهما : أن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائعَ باطلةً ، ونسبوها إلى موسى ، فجاء عيسى ورفعها ، وأبْطلها وأعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى - عليهما السلام- .
الثاني : أن الله - تعالى - كان قد حَرَّم عليهم بعضَ الأشياء؛ عقوبةً لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات ، كما قال : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] ثم بَقِي ذلك التحريمُ مستمراً على اليهود ، فجاء عيسى ، ورفع عنهم تلك التشديداتِ .
وقال آخرون : إن عيسى رَفَعَ كثيراً من أحكام التوراةِ ، ولم يقدَحْ ذلك في كونه مُصَدِّقاً بالتوراة؛ لِمَأ بينا أن الناسخَ والمنسوخَ كلاهما حَقٌّ وصِدْقٌ ، فرفع السَّبْتَ ، وأقام الأحدَ مُقَامَه .
قوله : { وَجِئْتُكُمْ } هذه الجملة يحتمل أن تكون تأكيداً للأولَى؛ لتقدُّم معناها ولفظها قبل ذلك .
قال أبو البقاء : « هذا تكرير للتوكيد؛ لأنه قد سبق هذا المعنى في الآية التي قبلها » .
ويحتمل أن تكون للتأسيس؛ لاختلاف متعلَّقها ومتعلَّق ما قبلها .
قال أبو حَيَّانَ : قوله : { وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } للتأسيس ، لا للتوكيد لاختلاف متعلقها لقوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } وتكون هذه الآية هي { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه } ، لأن هذا القولَ شاهدٌ على صحة رسالتِه؛ إذ جميعُ الرُّسُلِ كانوا عليه لم يختلفوا فيه ، وجعل هذا القولَ آيةَ وعلامةً؛ لأنه رسول كسائر الرُّسُلِ؛ حيث هداه للنظر في أدلَّةِ العقل والاستدلال قاله الزمخشريُّ ، [ وهو صحيح ] .
وقال : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } لأن طاعة الرسولِ من لوازم تَقْوَى اللهِ .
وقوله : { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } قراءة العامة بكسر همزة « إنّ » على الإخبار المستأنف؛ وهذا ظاهر على قولنا : إن { جِئْتُكُمْ } تأكيد .
أما إذا جعلناه تأسيساً ، وجُعِلَت الآية هي قوله : { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } - بالمعنى المذكور أولاً - فلا يصحُ الاستئناف ، بل يكون الكسر على إضمار القول ، وذلك القول بدلٌ من الآية ، كأن التقدير : وجئتكم بآية من ربكم قَوْلي : { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } ، ف « قَوْلِي » بدلٌ من آية ، و « إنّ » وما في حَيِّزها معمول « قولي » ، ويكون قوله : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } اعتراضاً بين البدل والمُبْدَل منه .
وقرئ بفتح الهمزة ، وفيه أوجُهٌ :
أحدها : أنه بدل من « آية » ، كأن التقدير : وجئتكم بأن الله ربي وربكم ، أي : جئتكم بالتوحيد .
وقوله : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } اعتراضٌ أيضاً .
الثاني : أن ذلك على إضمار لام العلة ، ولام العلةِ متعلقة بما بعدها من قوله { فاعبدوه } ، والتقدير : فاعبدوه لأن الله ربي وربكم كقوله : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } [ قريش : 1 ] إلى أن قال : { فَلْيَعْبُدُواْ } [ قريش : 3 ] إذ التقدير فليعبدوا ، لإيلاف قريش ، وهذا عند سيبويه وأتباعه - ممنوع؛ لأنه متى كان المعمول أنّ وصلتها يمتنع تقديمها على عاملها لا يجيزون : أنَّ زيداً منطق عرفت - تريد عرفت أن زيداً منطلقٌ - للفتح اللفظي ، إذْ تَصَدُّرُها - لفظاً يقتضي كسرها .
الثالث : أن يكون على إسقاط الْخَافِضِ - وهو على - و « على » يتعلق بآية بنفسها ، والتقدير : وجئتكم بآية على أن الله ، كأنه قيل : بعلامة ودلالة على توحيد الله - تعالى - قاله ابنُ عَطِيَّةَ ، وعلى هذا فالجملتان الأمْرِيَّتان اعتراض - أيضاً - وفيه بُعْدٌ .
قوله : { هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } « هذا » إشارة إلى التوحيد المدلول عليه بقوله { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } أو إلى نفس { إِنَّ الله } باعتبار هذا اللفظ هو الصراط المستقيم .

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
الإحساس : الإدراك ببعص الحواسّ الخمس وهي الذوق والشمُّ واللمس والسمع والبصر - يقال : أحسَسْتُ بالشيء وبالشيء وحَسَسْتُه وحَسَسْتُ به ، ويقال : حَسَيْت - بإبدال سينه الثانية ياءً - وأحست بحذف أول سِينيه- .
قال الشاعر : [ الوافر ]
1486- سِوَى أنَّ الْعِتَاقَ مِنَ الْمَطَايَا ... أحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْهِ شُوسُ
قال سيبويه : ومما شَذَّ من المضاعف - يعني في الحَذْف - فشبيه بباب أقمت ، وليس وذلك قولهم أَحَسْتُ وأَحَسْنَ - يريدون : أحسست وأحسَسْنَ ، وكذلك تفعل به في كل بناء يبنى الفعل فيه ولا تصل إليه الحركة ، فإذا قلت : لم أحس ، لم تحذف .
وقيل : الإحساس : الوجود والرؤية ، يقال : هل أحْسَسَْ صاحبَك - أي : وجدته ، أو رأيته؟
قال أبو العباس المقرئ : ورد لفظ « الحِسّ » في القرآن على أربعة أضربٍ :
الأول : بمعنى الرؤية ، قال تعالى : { فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر } [ آل عمران : 52 ] وقوله تعالى : { أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ } [ الأنبياء : 12 ] أي رأوه . وقوله { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ } [ مريم : 98 ] أي : هل تَرَى منهم؟
الثاني : بمعنى القتل ، قال تعالى : { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } [ آل عمران : 152 ] أي : تقتلونهم .
الثالث : بمعنى البحث ، قال تعالى : { فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ } [ يوسف : 87 ] .
الرابع : بمعنى الصوت ، قال تعالى : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } [ الأنبياء : 102 ] أي : صَوْتَهَا .
قوله : { مِّنْهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق ب « أحَسَّ » و « مِنْ » لابتداء الغاية أي : ابتداء الإحساس من جهتهم .
الثاني : أنه متعلق بمحذوف ، على أنه حال من الكفر ، أي : أحس الكفر حال كونه صادراً منهم .
فصل
في هذا الإحساس وجهان :
أحدهما : أنهم تكلَّمُوا كلمةَ الكُفْرِ فأحَسُّوا ذلك بإذنه .
والثاني : أن يُحْمَلَ على التأويل ، وهو أنه عرف منهم إصرارَهم على الكفر وعزمهم على قتله ، ولما كان ذلك العلم عِلْماً لا شُبْهَةَ فيه ، مثل العلم الحاصل من الحواس - لا جرم - عبر عنه بالإحساس ، واختلفوا في السبب الذي ظهر فيه كفرهم على وُجُوهٍ :
أحدها : قال السُّدِّيُّ : إنه - تعالى - لما بعثه إلى بني إسرائيل ، ودعاهم إلى دينِ اللهِ تعالى فتمردوا وعصوا ، فخافهم واختفى عنهم .
وقيل : نفوه وأخرجوه ، فخرج هو وأمُّه يَسِيحَانِ في الأرض ، فَنَزَلا في قرية على رجل ، فأضافهم ، وأحسن إليهم ، وكان بتلك المدينة ملك جَبَّار ، فجاء ذلك الرجل يوماً حَزِيناً ، مُهْتضمًّا ، ومريم عند امرأته ، فقالت مريم ما شأن زَوْجك؟ أراه كئيباص؟ قالت : لا تسأليني . فقالت : أخبريني ، لعل الله يفرِّج كرْبَتَه ، قالت : إن لنا ملكاً يجعل على كل رجل منا يطعمه ويطعم جنوده ، ويسقيهم الخمر ، فإن لم يفعل ، عاقبه ، واليوم نوبتنا ، وليس لذلك عندنا سَعَةٌ ، قالت : فقولي له : لا يهتم؛ فإني آمُرُ ابني فيدعو له ، فيُكفى ذلك . فقالت مريم لعيسى يا ولدي ادع الله أن يكفيه ذلك ، فقال : يا أمَّه ، إن فعلتُ ذلك كان فيه شر فقالت : قد احْسَنَ إلينا وأكرمنا ، فقال عيسى : قولي له إذا قَرُب مجيء الملك فاملأ قُدُورَك وجوابيَك [ ماءاً ] ثم أعْلِمْني .
ففعل ذلك ، فدعا الله تعالى - فتحوَّل ما في القدور طبيخاً ، وما في الجوابي خَمْراً ، لم يرى الناس مثلَه ، فلما جاء الملك أكل ، فلما شرب الخمرَ ، قال : من اين هذا الخمر؟ قال : من أرض كذا ، قال الملك : إن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه قال : هذه من أرض أخرى ، فلما خلط على الملك ، واشتد عليه ، قال : أنا أُخْبِرُك ، عندي غلام لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه وإنه دعا الله فجعل الماء خمراً وكان للملك ابن يُريد أن يستخلفه ، فمات قبل ذلك بأيام - وكان أحبَّ الخلق إليه - فقال : إنه رجل دعا الله حتى جعل الماء خمراً ليُستجابَنَّ له حتى يُحْييَ ابني ، فدعا عيسى فكلمه في ذلك فقا لعيسى : لا تفعل فإنه إن عاش وقع الشر فقال : ما أبالي ما كان - إذا رأيته - قال عيسى : فإن أحيَيْتُهُ تتركني وأمي نذهب حيث شئنا؟ قال : نعم . فدعا الله تعالى - فعاش الغلامُ ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح وقالوا : أكلنا هذا ، حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلفَ علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه؟ فاقتتلوا . وذهب عيسى وأمُّه فمروا بالحواريِّين - وهم يصطادون السمكَ - فقال ما تصنعون؟ قالوا : نصطاد السمك ، قال : أفلا تمشون حتى تصطادوا الناسَ؟ قالوا : مَنْ أنت؟ قال : عيسى ابن مريم ، عبد الله ورسوله ، { مَنْ أنصاري إِلَى الله } ؟ فآمنوا به وانطلقوا معه وصار أمر عيسى مشهوراً في الخلق ، فقصد اليهودُ قتلَه ، وأظهروا الطعن فيه .
وثانيها : أن اليهود كانوا عارفين بأنه المسيح المبشَّر به في التوراة ، وأنه ينسخ دينَهم ، فكانوا هم أوَّل طاعنين فيه ، طالبين قَتْلَهُ ، فلما أظهر الدعوةَ ، اشتد غضبهُم ، وأخذوا في إيذائه وطلبوا قتله .
وثالثها : أن عيسى - عليه السلام - ظنّ من قومه الذين دعاهم إلى الإيمان أنهم لا يؤمنون به ، وأن دعوته لا تنجع فيهم ، فأحب أن يمتحنهم ، ليتحقق ما ظنه بهم ، فقال لهم : { مَنْ أنصاري إِلَى الله } فما أجابه إلا الحواريُّونَ ، فعند ذلك أحس بأن مَنْ سِوَى الحواريين كافرون ، مصرون على إنكار دينه ، وطلب قتله .
قوله : { مَنْ أنصاري إِلَى الله } ؟ « أنْصَار » جمع نصير نحو شريف وأشراف .
وقال قوم : هو جمع نَصْر المراد به المصدر ، ويحتاج إلى حذف مضاف أي مَنْ أصْحَابُ نُصْرَتي؟ و « إلى » على بابها ، وتتعلق بمحذوف؛ لنها حال ، تقديره : من أنصاري مضافين إلى الله ، كذا قدره أبو البقاء .
وقال قوم إن « إلَى » بمعنى مع أي : مع الله ، قال الفرَّاء : وهو وجه حسن . وإنما يجوز أن تجعل « إلَى » في موضع « مع » إذا ضَمَمْتَ الشيء إلى الشيء مما لم يكن معه ، كقول العرب : الذود إلى الذَّوْدِ إبل ، أي : مع الذود .
بخلاف قولك : قدم فلان ومعه مال كثير ، فإنه لا يصلح أن يقال : وإليه مال ، وكذا قوله : قدم فلان مع أهله ، ولو قلت إلى أهله لم يصح ، وجعلوا من ذلك أيضاً قوله : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] .
وقد رد أبو البقاء كونَها بمعنى : « مع » فقال : [ وقيل : هي بمعنى : « مع » ] وليس بشيء؛ فإن « إلَى » لا تصلح أن تكون بمعنى « مع » ولا قياس يُعَضِّدُهُ .
وقيل : إن « إلَى » بمعنى اللام من أنصاري لله؟ كقوله : { يهدي إِلَى الحق } ، كذا قدره الفارسي .
وقيل : ضمَّن أنصاري معنى الإضافة ، أي : من يضيف نفسه إلى الله في نصرتي ، فيكون « إلَى الله » متعلقاً بنفس « أنصاري » .
وقيل : متعلق بمحذوف على أنه حال من الياء في « أنْصَارِي » أي : مَنْ أنصاري ذَاهِباً إلى الله ملتجِئاً إليه ، قاله الزمخشريُّ .
وقيل : التقدير : من أنصاري إلى أن أبَيِّن أمر الله ، وإلى أن أظهر دينه ، ويكون « إلَى » هاهنا غاية؛ كأنه أراد : من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي ، ويظهر أمرُ الله؟
وقيل : المعنى : من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه؟
وفي الحديث : أنه - عليه السلام - كان يقول - إذا ضَحَّى- : « اللَّهُمَّ مِنْكَ وإلَيْكَ » أي تقرّبنا إليك .
وقيل : « إلى » بمعنى : « في » تقديره : من أنصاري في سبيل الله؟ قاله الحسنُ .
فصل
والحواريون ، جمع حواري ، وهو النّاصرُ ، وهو مصروفٌ - وإن ماثل « مفاعل » ؛ لأن ياء النسب فيه عارضة ومثله حَوَاليّ - وهو المحتال - وهذا بخلاف : قَمَارِيّ وَبخَاتِيّ ، فإنهما ممنوعان من الصرف ، والفرق أن الياء في حواريّ وحواليّ - عارضة ، بخلافها في قَمَاري وبخاتيّ فإنها موجودة - قبل جمعهما - في قولك قُمْريّ وبُخْتِيّ . والحواريّ : الناصر - كما تقدم - ويُسَمَّى كل من تبع نبياً ونصره : حوارياً؛ تسمية له باسم أولئك؛ تشبيهاً بهم ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم في الزبير : « ابن عمتي وحواريّ أمتي » وفيه أيضاً - « إنَّ لكل نبي حواريًّا وحواريي الزُّبَيْر » ، وقال معمر قال قتادة : إن الحواريّين كلهم من قريش : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وحمزة ، وجعفر ، وأبو عبيدةِ بن الجراح ، وعثمان بن مَظْعُون وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وَقّاصِ وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوامِ - رضي الله عنهم أجمعين . وقيل : الحواريّ : هو صفوة الرجل وخالصته واشتقاقه من جِرتُ الثوب ، أي : أخلصت بياضَه بالغَسْل ، ومنه سُمِّي القَصَّار حوارياً؛ لتنظيفه الثياب ، وفي التفسير : إن أتباع عيسى كانوا قصارين .
قال أبو عبيدة : سمي اصحاب عيسى الحواريون للبياض وكانوا قصارين .
وقال الفرزدق : [ البسيط ]
1487- فَقُلْتُ : إنَّ الْحَوَارِيَّاتِ مَعْطَبَةٌ ... إذَا تَفَتَّلْنَ مِنْ تَحْتِ الْجَلاَبِيْبِ
يعني النساء؛ لبياضهن وصفاء لونهن - ولا سيما المترفِّهات - يقال لهن : الحواريات ، ولذلك قال الزَّمَخْشَريُّ : وحواري الرَّجُلِ : صفوته وخالصته ، ومنه قيل للحضريات : الحواريات؛ لخلوص ألوانهن ونظافتهن .
[ وأنشد لأبي حلزة اليشكري ] : [ الطويل ]
1488- فَقُلْ للحَوَارِيَّاتِ : يبكين غيرَنا ... ولا تبكِنا إلا الكلابُ النوابحُ
ومنه سميت الحور العين؛ لبياضهن ونظافتهن ، والاشتقاق من الحور ، وهو تبيض الثياب وغيرها :
وقال الضّحّاكُ : هم الغَسَّالون وهم بلغة النبط - وهواري - بالهاء مكان الحاء- .
قال ابن الأنباري : فمن قال بهذا القول قال : هذا حرف اشتركت فيه لغة العرب ولغة النبطِ وهو قول مقاتل بن سليمان إن الحواريين هم القصارون .
وقيل : « هم المجاهدون » كذا نقله ابنُ الأنباريّ .
وأنشد : [ الطويل ]
1489- وَنَحْنُ أُنَاسٌ تَمْلأُ البِيْضُ هَامُنَا ... وَنَحْنُ الحَوَارِيُّونَ يَوْمَ نُزَاحِفُ
جَمَاجِمُنَا يَوْمَ اللِّقَاءِ تُرُوسُنَا ... إلَى الْمَوْتِ نَمْشِي لَيْسَ فِينَا تَجَانُفُ
قال الواحديُّ : والمختار - من هذه الأقوال عند أهل اللغة - أن هذا الاسم لزمهم للبياض ثم ذكر ما تقدم عن أبي عبيدة .
وقال الراغبُ : حوَّرت الشيء : بيَّضت ودوَّرته ، ومنه الخبز الحُوَّارَى ، والحواريُّون : أنصار عيسى .
وقيل : اشتقاقه من حار يَحُور - أي : رَجَع . قال تعالى : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } [ الانشقاق : 14 ] . أي لن يرجع ، فكأنهم الراجعون إلى الله تعالى حار يحور حَوَراً - أي : رجع - وحار يحور حَوَراً - إذا تردَّد في مكانه ومنه : حار الماء في القدر ، وحار في أمره ، وتحيَّر فيه ، وأصله تَحَيْوَرَ ، فقُلِبَت الواوُ ياءً ، فوزنه تَفَيْعَل ، لا تفعَّل؛ إذْ لو كان تفعّل لقيل : تحوَّر نحو تجوَّز ومنه قيل للعود الذي تُشَدُّ عليه البكرة : مِحْوَر؛ لتردُّدِهِ ، ومَحَارة الأذُنِ ، لظاهره المنقعر - تشبيهاً بمحارة الماء؛ لتردُّد الهواء بالصوت كتردُّد الماء في المحارة ، والقوم في حوارى أي : في تَرَدُّد إلى نقصان ، ومنه : « نعوذ بالله من الحور بعد الكور » وفيه تفسيران : أحدهما : نعوذ بالله من التردُّد في الأمر بعد المُضِيِّ فيه والثاني : نعوذ بالله من النقصان والتردُّد في الحال بعد الزيادةِ فيها .
ويقال : حَارَ بعدما كان . والمحاورة : المرادَّة في [ الكلام ] ، وكذلك التحاورُ ، والحوار ، ومنه : { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } [ الكهف : 34 ] و { والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ } [ المجادلة : 1 ] ومنه أيضاً : كلمته فما رجع إليَّ حواراً وحَوِيراً ومَحُورة وما يعيش بحَوْر - أي : بعَقْل يرجع إليه . والحور : ظهور قَلِيلِ بَيَاض في العين من السواد ، وذلك نهاية الحُسْنِ في العينِ ، يقال - منه - : أحورت عينه ، والمذكر أحور ، والمؤنث حوراء والجمع فيهما حور - نحو حُمر في جمع أحمر وحمراء- .
وقيل : سُمِّيت الحوراءُ حوراء لذلك .
وقيل : اشتقاقهم من نقاء القلب وخلوصه وصدقه ، قاله أبو البقاء والضَّحَّاك ، وهو راجع للمعنى الأول من خلوص البياض ، فهو مجاز عن التنظيف من الآثام ، وما يشوب الدين .
قاله ابن المبارك : سُمُّوا بذلك؛ لما عليهم من أثر العبادة ونورها .
وقال رَوْحُ بن قَاسِم : سألت قتادةَ عن الحواريِّين ، فقال : هم الذين تَصْلُح لهم الخلافةُ ، وعنه أنه قال : الحواريون هم الوزراء .
والياء في « حواريّ وحواليّ » ليست للنسب ، بل زيادة كزيادتها في كُرْسِيٍّ ، وقرأ العامة « الْحَوَارِيُّونَ » بتشديد الياء في جميع القرآن ، وقرأ الثَّقَفِي والنخعيّ بتخفيفها في جميع القرأن ، قالوا : لأن التشديد ثقيل .
وكان قياس هذه القراءة أن يُقال فيها : الحوارون؛ وذلك أنه يستثقل الضمة على الياء المكسور ما قبلها ، فتنتقل ضمة الياءِ إلى ما قبلها ، فتَسْكُن الياء ، فيلتقي ساكنان ، فيحذفوا الياء؛ لالتقاء الساكنين ، وهذا نحو جا ءالقاضون ، الأصل : القاضيون ، فَفَعَلُوا به ما ذُكِر . قالوا : وإنما أقِرَّت ضمةُ الياء عليها؛ تنبيهاً على أن التشديد مُرادٌ؛ لأن التشديد يتحمل الضمة ، كما ذهب الأخفشُ في « يَسْتَهْزِيُونَ » إذ أبدل الهمزةَ ياءً مضمومةً ، وإنما بقيت الضمة؛ تنبيهاً على الهمزة .
فصل في المراد ب « الحواريين »
اختلفوا في الحواريين ، فقال مجاهد والسُّدِّيُّ : كانوا صيادين يصطادون السمك وسُمُّوا حواريين؛ لبياض ثيابهم ، وذلك أن عيسى لما خرج سائحاً مَرَّ بجماعة يصطادون السمك وكان فيهم شمعون ويعقوب ويُوحَنَّا بني رودي وهم منه جملة الحواريين الاثني عشر ، فقال لهم عيسى : أنتم تصيدون السمك ، فإن اتبعتموني صرتم بحيث تصيدون الناسَ بحياة الأبد ، قالوا : ومن أنت؟ قال : عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فطلبوا منه المعجز ، وكان شمعون قد رَمَى شبكته تلك الليلة ، فما اصطاد شيئاً ، فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى فاجتمع في تلك الشبكة ما كادت تتمزق ، واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملئوا سفينتين ، فعند ذلك آمنوا بعيسى صلى الله عليه وسلم .
وقال الحسنُ : كانوا قصَّارين ، سُمُّوا بذلك لأنهم كانوا يحوِّرون الثيابَ ، أي يبيِّضونها .
وقيل : كانوا ملاَّحين وكانوا اثني عشر رجلاً ، اتَّبعوا عيسى ، وكانوا إذا جاعوا قالوا : يا روحَ الله جعلنا ، فيضرب بيده الأرضَ ، فيخرج لكل واحد رغيفانِ ، وإذا عطشوا قالوا : عطشنا ، فيضرب بيده الأرضَ فيخرج الماء ، فيشربون ، فقالوا : من أفضل منا؛ إذا شئنا أُطعِمْنَا ، وإذا شئنا استقينا ، وقد آمنا بك؟ فقال : أفضل منكم مَنْ يعمل بيده ، ويأكل من كَسْبه ، قال : فصاروا يَغْسِلُون الثيابَ بالكراء ، فسُمُّوا حَوَاريِّين .
وقيل : كانوا ملوكاً ، وذلك أن واحداً من الملوك صنع طعاماً ، وجمع الناس عليه ، وكان عيسى عليه السلامُ على قصعة منها ، فكانت القصعة لا تنقص ، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك ، فقال : أتعرفونه؟ قالوا : نعم فذهبوا ، فجاءوا بعيسى ، فقال : من أنت؟ قال عيسى ابن مريم ، قال : وأنا أترك ملكي وأتبعك ، فتبعه ذلك الملك مع أقاربه ، فأولئك هم الحواريون .
وقيل : إن أمه سلَّمته إلى صَبَّاغ ، فكان إذا أراد أن يعلِّمَه شيئاً كان هو أعلم به منه ، فأراد الصباغ أن يغيب يوماً لبعض مُهمَّاتِه ، فقال له : هاهنا ثياب مختلفة ، وقد جعلت على كل واحد علامةً معينةً ، فاصبغها بتلك الألوان حتى يتم المقصود عند رجوعي ، ثم غاب ، فطبخ عيسى صلى الله عليه وسلم جُبًّا واحداً ، وجعل الجميع فيه ، وقال : كوني بإذن الله كما أريد ، فرجع الصباغ ، وسأله ، فأخبره بما فعل ، فقال : أفسدت عليَّ الثيابَ ، قال : قم فانظر ، فكان يخرج ثوباً أخضر ، وثوباً أصفر ، وثوباً أحمر ، - كما كان يريد - إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها ، فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به ، وهم الحواريُّونَ .
قال القفَّال : ويجوز أن يكون بعضُ هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك ، وبعضهم من صيادي السَّمكِ ، وبعضهم من القصَّارين ، وبعضهم من الصبَّاغين ، والكل سموا بالحواريين؛ لأنهم كانوا أنصار عيسى - عليه السلام - وأعوانه ، والمخلصين في محبته وطاعته .
قوله : { قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله } أي : أنصار أنبيائه؛ لأن نُصْرَةَ اللهِ - في الحقيقة - محالٌ . { آمَنَّا بالله } هذا يجري مجرى ذكر العلة ، والمعنى : أنه يجب علينا أن نكون من أنصار الله؛ لأجل أن آمنا به؛ فإن الإيمان بالله يوجب نُصْرَةَ دينِ الله ، والذَّبَّ عن أوليائه ، والمحاربة لأعدائه ، ثم قالوا : { واشهد } يا عيسى { بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي : منقادون لما تريد منا من نُصْرَتِك .
ويحتمل أن يكون ذلك إقراراً منهم بأن دينَهم الإسلام ، وأنه دين كلّ الأنبياء - عليهم السلام - ولما أشهدوا عيسى على إيمانهم تضرَّعوا غلى الله ، وقالوا : { رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتْ واتبعنا الرسول } عيسى { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق .
وقال عطاء : مع النبيين؛ لأن كل نبي شاهد أمته ، وقد أجاب الله دعاءهم ، وجعلهم مثل الأنبياء والرسل وأحيوا الموتى كما صنع عيسى - عليه السلام- .
قال ابن عباس : مع محمد وأمته ، قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] .
وقيل : اجعلنا من تلك الفرقة الذين فرنتَ ذكرَهم بذكرِك في قولك : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم } [ آل عمران : 18 ] . قوله : { مَعَ الشاهدين } حال من مفعول { فاكتبنا } وفي الكلام حذف ، أي : مع الشاهدين لك بالوحدانية . قوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } من باب المقابلة ، أي : لا يجوز أن يوصف - تعالى - بالمكر إلاَّ لأجْل ما ذُكِرَ معه من لفظ آخر مسند لمن يليق به . هكذا قيل ، وقد جاز ذلك من غير مقابلة في قوله : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم } [ الأعراف : 99 ] والمكر في اللغة أصله الستر ، يقال : مكر اللَّيْلُ ، أي أظلم وستر بظلمته ما فيه .
قال القرطبي : وأصل المكر في اللغة : الاحتيال والخِداع ، والمكر : خَدَالةُ الساق ، والمكر : ضَرْب من النبات ويقال : بل هو المَغْرَة ، حكاه ابنُ فارس ، قالوا : واشتقاقه من المكر ، وهو شجر ملقف ، تخيلوا منه أن المكر منه أن المكر يلتفّ بالممكور به ويشتمل عليه ، وامرأة ممكورة الخَلْق ، أي : ملتفة الجسم ، وكذا ممكورة البَطْن .
ثم أطلق المكر على الخُبْث والخداع ، ولذلك عبر عنه بعض أهل اللغة بأنه السعيُ بالفساد ، قال الزّجّاجُ هو من مكر الليل وأمكر أي أظلم ، وعب ربعضهم عنه فقال هو صرف الغير عما يقصده بحيلةٍ ، وذلك ضربان : محمود ، وهو ان يتحرَّى به فِعْلَ جَميلٍ ، وعلى ذلك قوله : { والله خَيْرُ الماكرين } . ومذموم ، وهو أن يتحرَّى به فعل قبيح ، نحو : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ] ٍ .
فصل
أمَّا مَكْرُهُمْ بعيسى - عليه السلام - فهو أن عيسى لما خرج عن قومه - هو وأمه - عاد إليهم مع الحواريين ، وصاح فيهم بالدعوة ، فَهَمُّوا بقتله ، فذلك مكرهم به . وأما مكرُ الله بهم ففيه وجوه :
أحدها : أن مكر الله استدرَاج العبد ، وأخذه بغتةً من حيث لا يعلم ، كما قال { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [ القلم : 44 ] .
وقال الزّجّاج : « مكر الله » مجازاتهم على مكرهم ، فسَمَّى الجزاءَ باسم الابتداء؛ لأنه في مقابلته ، كقوله : { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } [ البقرة : 15 ] وقوله : { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] . ومكر الله - تعالى - خاصة بهم في هذه الآية هو أنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء وذلك أن اليهود أرادوا قتلَ عيسى ، وكان جبريل لا يفارقه ساعةً واحدةً ، وهو معنى قوله : { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس } [ البقرة : 87 ] فلما أرادوا ذلك أمره جبريل أن يدخل بيتاً فيه رَوْزَنَةٌ ، فلما دخلوا أخرجه جبريل من تلك الروزنة ، وكان قد ألقي شبهه على غيره ، فأخِذ ، وصُلِب ، فتفرَّق الحاضرون ثلاث فرقٍ :
فرقة قالوا : كان الله فينا فذهب . والأخْرَى قالت : ابن الله . والثالثة قالت : كان عبد الله ورسوله فأكرمه بأن رفعه إلى السماء فصار لكل فرقة جمع ، وظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنة إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أن الحواريين كانوا اثني عشر ، وكانوا مجتمعين في بيت ، فنافق واحدٌ منهم ، ودل اليهود عليه فألقى الله شبهه عليه ، ورفع عيسى ، فأخذوا ذلك المنافقَ الذي كان منهم وقتلوه ، وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه السلام ، ثم قالوا : وجهه يُشْبِه وَجْه عيسى ، وبدنه يشبه بدن عيسى صاحبنا ، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا عيسى ، وبدنه يشبه بدن عيسى صاحبنا ، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فوقع بينهم قتالٌ عظيمٌ ، حتى قتل بعضهم ، فذلك هو مكرُ اللهِ بهم .
الثالث : قال محمدُ بنُ إسحاقَ : إن اليهودَ عَذبُوا الحواريين بعد أن رُفِع عيسى عليه السلام ، ولَقُوا منهم الجهد ، فبلغ ذلك ملك الروم ، وكان ملك اليهود من رعيته ، فقيل له : إن رجلاً من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله ، وأراهم إحياء الموتَى ، وإبراء الأكْمَهِ والأبرصِ ، وفَعَل وَفََل ، فقال : لو علمتُ ذلك ما خَلَّيْتُ بينهم وبينه .
ثم بعث إلى الحواريين ، فانتزعهم من أيديهم وسالهم عن عيسى ، فأخبروه وبايعوه على دينهم ، وأنزل المصلوب ، فغيبه ، وأخذ الخشبة ، فأكرمها وصانها ، ثم غزا بني إسرائيلَ وقتل منهم خَلْقاً عظيماً ، ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم وكان اسم هذا الملك طباريس ، وصار نصرانياً إلا أنه ما أظهَر ذلك ، ثم جاء بعده ملك آخرُ يقال طبطيوس غزا بيت المقدس بعد رفع عيسى بنحو من أربعين سنة ، فقتل وسبى ، ولم يترك في مدينة بيت المقدسِ حجراً على حجر ، فخرج عند ذلك قريظةُ والنضيرُ إلى الحجاز ، فهذا كله مما جازاهم الله تعالى به على تكذيب المسيح والهَمِّ بقَتْله .
الرابع : أن الله تعالى سلَّط عليهم ملك فارس ، فقتلهم ، وسباهم ، وهو قوله : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار } [ الإسراء : 5 ] فهذا هو مكر الله - تعالى - بهم .
الخامس : يحتمل أن يكون المراد منهم أنهم مكروا في إخفاء أمره ، وإبطال دينه ، ومكر الله بهم ، حيثُ أعلى دينَهُ ، وأظهر شَرِيعَتَهُ ، وقهر بالذل أعداءَه - وهم اليهود .
وفي قوله : { والله خَيْرُ الماكرين } إيقاعُ الظاهرِ موقعَ المضمر؛ إذ الأصل : ومكروا ومكر اللهُ ، وَهُوَ خَيرُ بالْماكِرِينَ
قوله : { إِذْ قَالَ الله } في ناصبه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : قوله : { وَمَكَرَ الله } أي : مكر الله بهم في هذا الوقت .
الثاني : { خَيْرُ الماكرين } .
الثالث : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } ، فيه وجهان :
أحدهما : وهو الأظهر - أن يكون الكلام على حاله - من غير ادعاء تقديم وتأخير فيه - بمعنى إني مستوفي أجلك ومؤخرك وعاصمك من أن يقتلكَ الكفارُ ، إلى أن تموت حتفَ أنفِك - من غير أن تُقتَل بأيدي الكفار - ورافعك إلى سمائي .
الثاني : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، والأصلُ : رافعك إليَّ ومتوفيك؛ لأنه رُفِعَ إلى السماء ، ثم يتوفى بعد ذلك ، واواو للجمع ، فلا فرق بين التقديمِ والتأخيرِ قاله أبو البقاء .
ولا حاجة إلى ذلك مع إمكان إقرار كل واحد في مكانه مما تقدم من المعنى ، إلا أن أب البقاء حمل التوفي على الموت ، وذلك إنما هو بَعْدَ رَفْعِه ، ونزلوه إلى الأرض وحُكمِه بِشريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديثِ . فعلى الأول ففيه وجوهٌ :
أحدها : إني متمم عمرك ، وإذا تَمَّ عمرُك فحينئذٍ أتوفَّاك كما قدمناه .
الثاني : إني مُميتُك ، والمقصود منه ألا يصل أعدؤه من اليهود إلى قتله . وهو مروي عن ابن عبَّاسٍ ومحمد بن إسحاق ، وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجهٍ :
الأول : قال وَهْبٌ : تُوفِّي ثلاثَ ساعاتٍ ، ثم رُفِع وأحْيِيَ .
الثاني : قال محمد بن إسحاق : توفي سبع ساعات ، ثم أحياه الله ورفعه .
الثالث : قال الربيع بن أنس : إنه - تعالى - أنامه حال رفعه إلى السماء ، قال تعالى { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا } [ الزمر : 42 ] .
وثالثها : أن الواو لا تفيد الترتيب ، فالأمر فيه موقوف على الدليل ، وقد ثبت أنه حي ، وأنه ينزل ويقتل الدجال ثم يتوفاه الله بعد ذلكز
رابعها : إني متوفيك عن شهواتك ، وحظوظ نفسك ، فيصير حاله كحال الملائكة- في زوال [ الشهوات ] والغضب والأخلاق الذميمة- .
خامسها : أن التَّوفِّيَ اخذ الشيء وافياً ، ولما علم الله أن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو رُوحهُ ، لا جَسَدُهُ ، ذكر ذلك؛ ليدل على أنه - عليه السلام - رفع بتمامه إلى السماء - بروحه وجسده .
وسادسها : إني متوفيك ، أي جاعلك كالمتوفى؛ لأنه إذا رفع إلى السماء ، وانقطع خبره ، وأثره عن الأرض كان كالمتوفى ، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن .
وسابعها : أن التوفِّي هو القبض ، يقال : فلان وفاني دراهمي ، ووافاني ، وتوفيتها منه ، كما يقال سلم فلان درامي إلي ، وتسلمتها منه . فإن قيل : فعلى هذا يكون التوفي في عين الرفع ، فيصير قوله : { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } تكراراً ، فالجواب : أن قوله { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } يدل على حُصُولِ التَّوفِّي ، وهو جنس تحته أنواع ، بعضها بالموتِ وبعضُها بالإصعادِ ، فلما قال : { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } صار تعييناً للنوع ، فلم يكن تكراراً .
ثامنها : أن يقدر حذف مضاف ، أي : متوفي عملك ، بمعنى مستوفي عملك ، ورافعك إليَّ ، أي : ورافع عملك إليّ ، كقوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] والمرادُ منه : أنه تعالى بشره بقبول طاعاتِهِ وأعماله ، وعرَّفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق - في نشر دينه ، وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يُضيع أجره ، ولا يهدر ثوابهُ .
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ليُوشِكَنَّ أنْ يَنْزِلَ فِيْكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حكماً عدلاً ، يَكْسِرُ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ ، فَيَفِيضُ الْمَالُ ، حَتَّى لا يَقْبَلُهُ أحَدٌ » .
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى : « وَيُهْلَكُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلُ كُلُّها إلاَّ الإسْلاَم وَيُهْلَكُ الدَّجَّال ، فَيَمْكُثُ في الأرْضِ أرْبَعِينَ سَنَةً ، ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ » .
وقيل للحُسَيْن بن الفضل : هل تجدُ نزولَ عيسى في القرآن؟ قال : نعم ، قوله : { وَكَهْلاً } وهو لم يكتهل في الدنيا ، وإنما معناه : { وَكَهْلاً } بعد نزوله من السماء .
فصل
قال القرطبيُّ : « والصحيح أن الله تعالى - رفعه من غير وفاةْ ولا نومٍ - كما قال الحسنُ وابنُ زيد - وهو اختيار الطبريِّ ، وهو الصحيحُ عن ابنِ عباس » .
وقال الضحاك : وكانت القصة أنهم لما أرادوا قَتْلَ عيسى عليه السلام اجتمع الحواريُّونَ في غرفة - وهم اثنا عشرَ رَجُلاً ، فدخل عليهمُ المسيحُ من مشكاةِ الغرفةِ ، فأخبر إبليس جَميع الْيَهُودِ ، فركب منهم أربعة آلاف رجلٍ ، فأخذوا بباب الغرفة ، فقال المسيح للحواريين : أيُّكُمْ يخرج ، ويقتل ، ويكون معي في الجنة؟ فقال واحدٌ منهم أنا يا نبيَّ الله ، فألقَى إليه مدرعة من صوف ، وعمامة من صوفٍ ، ونَاوَلَه عُكَّازه ، وألقي عليه شبه عيسى ، فخرج على اليهود فقتلوه ، وصلبوه ، وأما عيسى فكساه اللهُ الرِّيشَ ، وألبسه النورَ ، وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب ، فَطَارَ مع الملائكة ، ثم إن اصحابه تفرقوا ثلاث فرق :
فقالت فرقة : كان اللهُ فينا ، ثم صعد إلى السماء ، وهم اليعقوبية .
وقالت فرقة : كان فينا ابن الله - ما شاء الله - ثم رفعه الله إليه - وهم النسطورية .
وقالت فرقة : كان فينا عبدُ الله ورسوله - ما شاء الله - ثم رفعه الله إليه - وهؤلاء هم المسلمون .
فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها ، فلم يَزَل الإسلامُ طامساً حتى بَعَثَ اللهُ محمداً صلى الله عليه وسلم { فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ } [ الصف : 14 ] الآية على ما سيأتي من السورة إن شاء الله تعالى .
قوله : { وَرَافِعُكَ إلَيَّ } تمسَّك القائلون بالاستعلاء بهذه الآية ، وأجيبُوا عنها بوجوهٍ :
أحدها : أن المراد إلى محل كرامتي ، كقول إبراهيم : « إنِّي ذاهبٌ إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ » وإنما ذهب إبراهيم عليه السلام من « العراق » إلى « الشام » ، ويُسَمَّى الحُجَّاجُ زُوَّارَ الله ، والمجاورون جيران الله ، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم ، فكذا هاهنا .
وثانيها : أن معناه [ رافعك إلى مكان ] لا يملك الحكم عليه فيه غيرُ اللهِ؛ لأن في الأرض قد يتولى الخلقَ أنواعُ الحُكَّامِ ، أمَّا السموات فلا حاكم هناك - في الظاهر وفي الحقيقة - إلا اللهُ .
وثالثها : أن القول بأن الله في مكان لم يكن ارتفاع عيسى إلى ذلك المكان سبباً لانتفاعه ، بل إنما ينتفع بذلك لو وجد هناك مطلوبهُ من الثواب والرَّوح والريحان والراحة ، فلا بد من حمل اللفظِ على أن المراد : ورافعك إلى محل ثوابك ومجازاتك ، وإذا كان لا بد من إضمار ما ذكرناه لم يَبْقَ في الآية دلالة على ما ذكروه .
قوله : { وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } معناه مُخْرِجك من بينهم ، ومُنَجِّيك ، فكما عظَّم شأنَه بلفظ الرفع ، أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهيرِ ، وكل ذلك مبالغة في إعلاء شأنَه بلفظ الرفع ، أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهيرِ ، وكل ذلك مبالغة في إعلاء شأنِه وتعظيم منصبه عند الله تعالى .
قوله : { وَجَاعِلُ الذين اتبعوك } فيه قولان :
أظهرهما : أنه خطاب لعيسى عليه السلام .
الثاني : أنه خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم فيكون الوقف على قوله : { مِنَ الذين كَفَرُواْ } تاماً ، والابتداء بما بعده ، وجاز هذا؛ لدلالة الحال عليه . و { فَوْقَ الذين كَفَرُواْ } ثاني مفعولي { وَجَاعِلُ } لأنه بمعنى مُصَيِّر فقط .
و { إلى يَوْمِ القيامة } متعلق بالجَعْل ، يعني أن هذا الجعل مستمر إلى ذلك اليوم . ويجوز أن يتعلق الاستقرار المقدَّر في فَوْقَ أي : جاعلهم قاهرين لهم ، إلى يَوْمِ القيامةِ ، يعني أنهم ظاهرون على اليهود ، وغيرهم من الكفار بالغلبة في الدنيا ، فأما يوم القيامة ، فَيَحْكُمُ اللهُ بينهم ، فيدخل الطائع الجَنَّةَ ، والعاصي النَّارَ وليس المعنى على انقطاع ارتفاع المؤمنين على الكافرين بعد الدنيا ، وانقضائها؛ لن لهم استعلاءٌ آخر غير هذا الاستعلاء .
قال أبو حيّان : « والظاهر أن » إلى « تتعلق بمحذوف وهو العامل في » فَوْقَ « وهو المفعول الثاني ل » َجَاعِل « إذْ معنى » جاعل « هنا مُصَيِّر ، فالمعنى كائنين فوقهم إلى يوم القيامة . وهذا على أن الفوقية مجاز ، أما إن كانت الفوقية حقيقة - وهي الفوقية في الجنة - فلا تتعلق » إلى « بذلك المحذوف ، بل بما تقدم من » مُتَوَفِّيك « أو من » رَافِعُكَ « أو من » مُطَهِّرُكَ « إذْ يصح تعلُّقه بكل واحد منها ، أما تعلقه ب » رَافِعُكَ « أو ب » مُطَهِّرُكَ « فظاهر ، وأما ب » مُتَوَفِّيكَ « فعلى بعض الأقوال » .
يعني ببعض الأقوال أن التوفي يُرادُ به : قابضك من الأرض من غير موت ، وهو قول جماعة - كالحسن والكلبي [ وابن جريج ] وابن زيد وغيرهم . أو يراد به ما ذكره الزمخشريُّ : وهو مُسْتَوْفٍ أجلك ، ومعناه : إني عاصمك من أن يقتلَكَ الكفارُ ، ومؤخِّرُك إلى أجل كتبتُهُ لك ، ومميتك حَتْفَ أنفكِ لا قَتْلاً بأيدي الكفار ، وإن على قول مَنْ يقول : إنه تَوَفٍّ حقيقةً فلا يُتَصَوَّر تعلُّقه به؛ لأن القائلَ بذلك لم يَقُل باستمرار الوفاة إلى يوم القيامة ، بل قائل يقول : إنه تُوُفِّي ثَلاثَ ساعاتٍ ، بقدر ما رفع إلى سمائه حتّى لا يلحقَه خوفٌ ولا ذُعْرٌ في اليقظة . وعلى هذا الذي ذكره أبو حيان يجوز أن تكون المسألة من الإعمال ، ويكون قد تنازع في هذا الجار ثلاثةُ عواملَ ، وإذا ضَمَمْنَا إليها كَوَن الفوقية مجازاً تنازع فيها أربعة عوامل ، والظاهر أنه متعلق ب « جَاعِل » . وقد تقدم أن أبا عمرو يسكن ميم « أحكم » ونحوه قبل الباء .
فصل
قال قتادةُ والربيعُ والشعبيُّ ومقاتل والكلبيُّ : الذي اتبعوه هم أهْلُ الإسلام الذين صدقوه واتبعوا دينَه في التوحيد من أمَّةِ محمد صلى الله عليه وسلم فهم فوق الذين كفروا ظاهرين بالعزة ، والمنعة ، والحُجَّةِ .
قال الضحاك : يعني الحواريين .
وقيل : هم الروم .
وقيل : النصارى ، فَهُمْ فَوْقَ اليهود إلى يَوْمِ القيامةِ ، فإن اليهود قد ذهب ملكُهم ، وملك النصارى يدوم إلى قريب من قيام الساعة . وعلى هذا الاتباع بمعنى الادعاء والمحبة لا اتباع الدين ، فإن النصارى - وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم مخالفون له أشَدَّ مخالفةٍ؛ لأن صريح العقل يشهد بأن عيسى ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجُهَّالُ ، ومع ذلك فإنا نرى دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود ، ولا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكاً يهوديًّا ولا بلدة مملوءة من اليهود ، بل يكونون - أيْنَما كانوا - في الذلة والمسكنة ، والنصارى بخلاف ذلك .
فصل
قال أهلُ التّاريخِ : حملت مريم بعيسى ولها ثلاثَ عشْرَةَ سنةً ، وولدت عيسى ببيت لحم لمضيّ خمس وستين سنةً من غلبة الاسكندر على أهل بابل ، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنةً ورفعه من بيت المقْدِس ليلة القدر في شهر رمضانَ وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثينَ سنة ، فكانت نبوته ثلاث سنين ، وعاشت أمُّه مريم بعد رفعه ست سنين .
فصل
قال ابنُ الْخَطِيبِ : في مباحث هذه الآية موضعٌ مشكل ، وهو أن نَصَّ القرآن يدل على أنه - تعالى - حين رفعه ألقى شبهه على غيره ، على ما قال : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ } [ النساء : 157 ] والخبار واردة أيْضاً بذلك ، إلا أن الرواياتِ اختلفت ، فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شَبَهَهُ عليه حتى يُقْتَل في مكانه ، وبالجملة ففي إلقاء شَبَهِهِ على الغير إشكالات :
الأول : أنا لو جوَّزنا إلقاء شَبَه إنسان على إنسان آخر ، لزم السفسطة؛ فإني إذا رأيتُ ولدي ، ثم زينته ثانياً فحينذئ أجوِّزُ أن يكون هذا الذي أراه ثانياً ليس ولدي ، بل هو إنسان آخر أُلْقِي شَبَهُهُ عليه وحينئذٍ يرتفع الأمانُ عن المحسوسات .
وأيضاً فالصحابة الذين رأوْا مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم يأمرهم ، ويَنْهَاهُمْ ، وجب أن لا يعرفوا أنه محمدٌ؛ لاحتمال أنه ألقي شبهه على الغير ، وذلك يُفْضِي إلى سقوط الشرائعِ .
وأيضاً فمدار الأمرِ في الأخبار المتواترةِ على أن يكون المُخْبر الأول إنما أخبر عن المحسوس ، فإذا [ جاز ] الغلط في المبصرات كان سقوط الخبر المتواتر أولى ، وبالجملة ، فَفَتْحُ هذا البابِ أوله السفسطةُ ، وآخره إبطالُ النبوات بالْكُلِّيَّةِ .
الإشكال الثاني : أن اللهَ - تعالى - كان قد أمر جبريل عليه الصلاة والسلام بأن يكون معه في أكثر الأحوال ، كذا قاله المفسّرون في تفسير قوله تعالى : { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس } [ المائدة : 110 ] ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام كان يكفي للعالم من البشر ، فكيف لم يَكْفِ في منع أولئك اليهود عنه .
وأيضاً إنه عليه السلام - لَمَّا كان قادراً على إحياء الموتَى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، فكيف لم يقدر على إماتة اليهودِ الذين قصدوه بالسوء ، وعلى إسْقامهم ، وإلقاء الزمانة والفَلَج عليهم حتى يصيروا عاجزينَ عن التعرُّضِ له؟
الإشكال الثالث : أنه - تعالى - كان قادراً على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يدفعَه عنهم ، ويرفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء الشبه على الغير؟ وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القَتْل من غير فائدة ألبتة؟
الإشكال الرابع : أنه إذا ألقي شبهه على الغير ، ثم إنه رُفِعَ بَعدَ ذلك إلى السماء فالقومُ اعتقدوا فيه أنه عيسى عليه السلام مع أنه ما كان عيسى ، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى .
الإشكال الخامس : أن النصارَى - على كثرتهم في مشارقِ الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح ، وغلوّهم في أمره - أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً ، مصلوباً ، فلو أنكرنا ذلك ، طعَنَّا فيما ثبت بالتواتر ، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكل ذلك باطل .
الإشكال السادس : أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حيًّا زماناً طويلاً فلو لم يكن ذلك عيسى - بل كان غيره - لأظهر الجزع ، ولقال : إني لَسْتُ بعيسى - بل إنما أنا غيره - ولبالغ في تعريف هذا المعنى ، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى ، فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أنه ليس الأمر على ما ذكرتم .
والجواب ن الأول : أنه كل من أثبت القادرَ المختارَ سلَّم أنه - تعالى - قادرٌ على أن يخلق إنساناً آخر على صورة زَيْدٍ - مثلاً - ثم إن هذا التجويز لا يوجب الشك المذكور ، فكذا القول فيما ذكرتم .
والجواب عن الثاني : أن جبريل عليه السلام لو دفع الأعداء عنه ، أو أقدر الله عيسى على دَفْع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء ، وذلك غير جائز ، وهذا هو الجواب عن الإشكال الثالث؛ فإنه - تعلى لو رفعه إلى السماء ، وما ألْقَى شَبَهَهُ على الغير لبلغت تلك المعجزةُ إلى حَدِّ الإلجاء .
والجواب عن الرابع : أن تلامذة عيسى كانوا حاضرين ، وكانوا عالمين بكيفية الواقعة؛ وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس .
والجواب عن الخامس : أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين ، ودخول الشبهة على الجَمْع القليل جائز ، والتواتر إذا انتهى في حد الأمر إلى الْجَمْعِ القليلِ ، لم يكن مُفِيداً للعلم .
والجواب عن السادس : أن بتقدير أن يكون الذي أُلْقِيَ شَبَهُ عيسى عليه كان مُسْلِماً ، وقَبِل ذلك عن عيسى عليه السلام جاز أن يسكت عن تعريف حقيقةِ الحالِ في تلك الواقعةِ .
وبالجملة فالأسئلة المذكورة أمور تتطرق إليها الاحتمالات من بعض الوجوهِ ، ولما ثبت بالمعجز القاطِع صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملةِ معارِضَةً للنص القاطع عن الله .
قوله : { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } في الآخرة { فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من الدّينِ ، وأمر عيسى عليه السلام؛ التفات من غيبة إلى خطابِ؛ وذلك أنه - تعالى - قدَّم ذِكْر مَنْ كَذَّب بعيسى وافترى عليه - وهم اليهود - وقدَّم - أيضاً - ذِكْرَ مَنْ آمن به - وهم الحواريون رضي الله عنهم - وقفَّى بعد ذلك بالإخبار بأنه يجعل مُتَّبِعِي عيسى فوق مخالفيه ، فلو جاء النظم على هذا السياق - من غير التفات ، لكان : ثم إليّ مرجعهم ، فأحكم بَيْنَهُم فيما كانوا ، ولكنه التفت إلى الخطاب؛ لأنه أبلغ في البشارة ، وأزجر في النذارة .
وفي ترتيب هذه الأخبار الأربعة - أعني : إني مُتَوفِّيكَ وَرَافِعُكَ وَمُطَهِّرُكَ وَجَاعِلُ - هذا الترتيب معنًى حَسَنٌ جِدًّا؛ وذلك أنه - تعالى - بشَّره - أولاً - بأنه متوفيه ، ومتولّي أمره ، فليس للكفار المتوعِّدين له بالقتل عليه سلطانٌ ولا سبيلٌ ، ثم بَشَّرَه - ثانياً - بأنه رافعه إليه - أي : إلى سمائه محل أنبيائه وملائكته ، ومحل عبادته؛ ليسكن فيها ، ويعبدَ ربَّه مع عابديه - ثم - ثالثاً - بتطهيره من أوضار الكفرة وأذاهم وما قذفوه به ، ثم رابعاً - برفعة تابعيه على من خالَفهم؛ ليتمَّ بذلك سروره ، ويكمل فرحه . وقدم البشارة بما يتعلق بنفسه على البشارة بما يتعلق بغيره؛ لأن - الإنسان بنفسه أهم ، وبشأنه أعْنَى ، كقوله : { قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا } [ التحريم : 6 ] وفي الحديث : « ابْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنَ تَعُولُ » .
قوله : { فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ } في محل هذا الموصول قولان :
أظهرهما - وهو الأظهر- : أنه مرفوع على الابتداء ، والخبر الفاء وما بعدها .
الثاني : أنه منصوب بفعل مقدَّر ، على أن المسألة من باب الاشتغال ، إذ الفعل بعده قد عمل في ضميره ، وهذا وجه ضعيف؛ لأن « أمَّا » لا يليها إلا المبتدأ وإذا لم يَلِها إلا المبتدأ امتنع حمل الاسم بعدها على إضمار فعل ، ومن جوَّز ذلك قال : بأنه يُضْمَر الفعلُ متأخِّراً عن الاسم ، ولا يضمر قبله . قال : لئلا يَلِيَ « أمَّا » فعل - وهي لا يليها الأفعال ألبتة - فَتُقَدِّر - في قولك : أما زيداً فضربتُهُ - أما زيداً ضربتُ فضَرَبْتُه ، وكذا هنا يُقَدَّر : فأما الذين كفروا أعَذِّبُ فأعَذِّبُهُم؛ قدر العامل بعد الصلة ، ولا تقدره قبل الموصول؛ لما ذكرناه . وهذا ينبغي أن لا يجوز؛ لعدم الحاجة إليه مع ارتكابِ وجهٍ ضعيفٍ جدًّا في أفصح الكلامِ .
وقد قرئ شاذًّا { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } [ فصلت : 17 ] بنصب « ثمود » واستضعافها الناس .
فصل
عذاب الكفار - في الدنيا - بالقتل والسبي والجزية والذلة ، وفي الآخرة بالنار أيك في وقت الآخرة بالنار { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } .
فإن قيل : وصف العقاب بالشدة يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد ، ولسنا نجد الأمر كذلك فإن الأمر تارة يكون على الكفار ، وأخرى على المسلمين ، ولا نجد بين الناس تفاوتاً .
فالجوابُ : أن التفاوُتَ في الدنيا موجود؛ لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسى - عليه السلام - ، وَنَرى الذِّلَّةَ والمسكنةَ لازمةً لهم .
فإن قيل : أليس قد يمتنع على الأئمة وعلى المؤمنين قتل الكفار؛ بسبب العهد وعقد الذِّمَّة؟
فالجواب : أن المانع من القتل هو العهد ، ولذلك إذا زالَ العهدُ حَلَّ قَتْلُه .
قوله : { وَأَمَّا الذين آمَنُوا } الكلام فيه كالكلام في الموصول قبله .
وقد قرأ حفص عن عاصم والحسن « فَيُوَفِّيهِمْ » - بياء الغيبة - والباقون بالنون . فقراءة حفص على الالتفاتِ من التكلُّم إلى الغيبة؛ تفنُّناً في الفصاحةِ ، وقراءة الباقين جاريةٌ على ما تقدم من إتِّسَاق النظم ، ولكن جاء هناك بالمتكلم وحده ، وهنا بالمتكلم وحده المعظم نفسه؛ اعتناءً بالمؤمنين ، ورفْعاً من شأنهم؛ لمَّا كانوا مُعَظَّمِينَ عندَه .
فصل
دَلّتْ هذه الآية على أن العملَ الصالحَ خارجٌ عن مُسَمَّى الإيمان وقد تقدم ذلك ، واستدلوا بالآية على أن العملَ علةٌ للجزاء؛ لقوله : { فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ } فشبههم - في عبادتهم لأجل طلب الثّوابِ بالمستأجر .
واحتج المعتزلة بقوله : { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } - بمنزلة قوله : لا يريد ظُلْمَ الظالمين - على أنه تعالى - لا يريد الكفر والمعاصي ، قالوا : لأن مُرِيدَ الشيء لا بد وأن يكون مُحِبًّا له إذا كان ذلك الشيء من الأفعال ، وإنما تخالف المحبةُ الإرادة إذا علقناهما بالأشخاص ، فقد يقال : أحبّ زيداً ، ولا يقال : أريده . فأما إذا عُلِّقَتا بالأفعال فمعناهما واحد ، إذا استُعْمِلَتَا على حقيقة اللغة ، فصار قوله : { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } بمنزلة قوله : لا يريد ظلم الظالمين كذا قرره القاضي .
وأجيب بأن المحبةَ عبارة عن إرادة إيصالِ الخيرِ إليه فهو - تعالى - وإن أراد كُفْرَ الكافرِ إلا أنه لا يريد إيصالَ الثواب إلَيْه .
قوله : { { ذلك نَتْلُوهُ } يجوز أن يكون « ذَلِكَ » مبتدأ ، « نَتْلُوهُ » الخبر « مِنَ الآيَاتِ » حال أو خبر بعد خبر .
ويجوز أن يكون « ذَلِكَ » منصوباً بفعل مقدَّر يفسِّره ما بعده - فالمسألة من باب الاشتغال - و « مِنَ الآيَاتِ » حال ، أو خبر مبتدأ مُضمَرٍ [ أي : هو من الآيات ، ولكنّ الأحسن الرفعُ بالابتداء؛ لأنه لا يحوج إلى إضمار ، وعندهم « زيد ضربته » أحسن من « زيداً ضربته » ، ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ مضمر ] ، يعني الأمر ذلك ، و « نَتْلُوهُ » على هذا حال من اسم الإشارة ، و { مِنَ الآيَاتِ } حال من مفعول « نَتْلُوهُ » .
ويجوز أن يكون « ذَلِكَ » موصولاً بمعنى « الذي » و « نَتْلُوهُ » صلة وعائد ، وهو مبتدأ خبره الجار بعده أي : الذي نتلوه عليك كائن من الآيات ، أي : المعجزات الدالة على نبوتك . جوَّز ذلك الزَّجَّاجُ وتبعه الزمخشريُّ ، وهذا مذهب الكوفيين .
أما البصريون فلا يُجيزُون أن يكون اسماً من أسماء الإشارة موصولاً إلا « ذَا » خاصةً ، بشروطٍ تقدم ذكرها؛ ويجوز أن يكون « ذلك » مبتدأ ، و « مِنَ الآيَاتِ » خبره ، و « نَتْلُوهُ » جملة في موضع نصب على الحال ، والعامل معنى اسم الإشارة .
قوله : « نَتْلُوهُ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه وإن كان مضارعاً لفظاً فهو ماضٍ معنًى ، أي : الذي قدمناه من قصة عيسى وما جرى له تلوناه عليك ، كقوله : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين } [ البقرة : 102 ] .
والثاني : أنه على بابه؛ لأن الكلام لم يتم ، ولم يفرغ من قصة عيسى - عليه السلام - إذْ بقي منها بقية .
و « من » فيها وجهانِ :
أظهرهما : أنها تبعيضية؛ لأن المَتلُوَّ عليه - من قصة عيسى - بعض معجزاته وبعض القرآن وهذا أوْجَهُ وأوضحُ . والمرادُ بالآيات - على هذا - العلامات الدالة على نبوتك .
والثاني : أنها لبيان الجنسِ ، وإليه ذهب ابنُ عَطِيَّةَ وبَدَأ به .
قال أبو حيّان : وَلاَ يَتأتَّى ذلك من جهة المعنى إلا بمجاز؛ لأن تقدير « من » البيانية بالموصول ليس بظاهر؛ إذ لو قلتَ : ذلك تتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم لاحتجت إلى تأويل ، وهو أن تجعل بعض الآيات والذكر آياتٍ وذكراً [ على سبيل المجاز ] .
والحكيمُ : صيغة مبالغة محول من « فاعل » . ووصف الكتاب بذلك مجازاً؛ لأن هذه الصفة الحقيقية لمنزِّله والمتكلم به ، فوصف بصفة من هو من سببه - وهو الباري تبارك وتعالى - أو لأنه ناطق بالحكمة أو لأنه أحْكِم في نظمه . وجوزوا أن تكون بمعنى « مُفْعَل » أي : مُحْكَم ، كقوله : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } [ هود : 1 ] إلا أن « فعيل » بمعنى « مُفْعَل » قليل ، قد جاءت منه أليْفَاظ ، قالوا : عقدت العسل فهو عقيد ومعقد وحبست الفرس [ في سبيل الله ] فهو حبيس ومُحْبَس . وفي قوله : « نَتْلُوه » التفات من غيبة إلى تكلُّم؛ لأنه قد تقدمه اسم ظاهر - وهو قوله : { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } - كذا قاله أبو حيّان ، وفيه نظرٌ؛ إذ يُحْتَمل أن يكون قوله : { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } جِيء به اعتراضاً بَيْنَ أبعاض هذه القصَّةِ .
فصل
التلاوة والقصص واحد؛ لأن معناهما يرجع إلى شيء يُذْكَر بعضُه على أثَر بعض ثم إنه تعالى أضاف القصص إلى نفسه فقال : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } [ يوسف : 3 ] كما أضاف التلاوة إلى نفسه في قوله : { نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى } [ القصص : 3 ] ، وذلك يدل على تشريف الملك وتعظيمه؛ لأن التالي على النبي إنما هو الملك ، فَجَعلَ تِلاَوَةَ الْمَلَكِ جَارِيَةً مَجْرَى تِلاَوَتِهِ .
والمراد بالذكر الحكيم هو القرآن .
وقيل : هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذي مِنْهُ نُقِلَت الْكُتُبُ المنزلةُ على الأنبياء - عليهم السلام - أخبر - تعالى - أنَّهُ أنزلَ هذه القَصصَ مما كُتِبَ هنالك .

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
{ إِنَّ مَثَلَ عيسى } جملة مستأنفة لا تعلُّق لها بما قبلها تعلقاً صناعياً ، بل معنويًّا . وزعم بَعْضهُمْ أنها جواب القسم ، وذلك القسم هو قوله : { والذكر الحكيم } كأنه قيل : أقسم بالذكر الحكيم أنَّ مثل عيسى ، فَيَكُونُ الْكَلاَمُ قد تم عند قوله : { مِنَ الآيَاتِ } ثم استأنف قسماً ، فالواو حَرْف جَرٍّ ، لا عطف وهذا بَعِيدٌ ، أو مُمْتَنعٌ؛ إذ فيه تفكيكٌ لنَظْم القرآنِ ، وإذْهاب لرونقه وفصاحته .
قوله : { خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ } في هذه الجملة وَجْهَانِ :
أظهرهما : أنها مفسِّرة لوجه الشبه بين المثلين ، فلا مَحَلَّ لَهَا حينئذٍ مِنَ الإعْرَابِ .
الثاني : أنها في محل نصب على الحال من آدَمَ عليه السلام و « قد » معه مضمرة ، والعامل فيها معنى التشبيه والهاء في طخَلَقَهُ « عائدة على » آدم « ولا تعود على » عِيْسَى « لِفَسَادِ المعنى .
وقال ابن عطية : » ولا يجوز أن تكون خَلَقَه [ صفة ] لآدم ولا حالاً منه « .
قال الزّجّاج : إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيهان بل هو كلامٌ مَقْطُوعٌ منه مَضمَّن تفسير الْمَثَلِ ، كما يقال في الكَلامِ : مثلك مثل زيد ، يشبه في امر من الأمور ، ثم يخبر بقصة زيد ، فيقول : فعل كذا وكذا .
قال أبو حيّان : » وَفيهِ نَظرٌ « ولم يُبَيِّنُ وَجْهَ النظر .
قال شهاب الدِّينِ : » والظاهر من هذا النظر أن الاعتراضَ - وهو قوله : لا يكون حالاً أنت فيها غير لازمٍ؛ إذ تقدير « قَدْ » تُقَرِّبُه من الحال . وقد يظهر الجوابُ عما قاله الزَّجَّاجُ من قول الزمخشريِّ : قدره جسداً من طين { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ } أي : أنشأه بَشَراً « .
قال أبو حيّان : ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء - لا بمعنى التقدير - لم يأت بقوله : » كُنْ « ؛ لأن ما خلق لا يقال له : كُنْ ، ولا ينشأ إلا إن كان معنى : { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن } عِبَارةً عَنْ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ .
وقال الواحديُّ : قوله { خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ } لَيْسَ بِصِلَةٍ لآدم وَلاَ صِفَةٍ؛ لأن الصِّلَةَ للمبهمات ، والصفة للنَّكِرِاتِ ، ولكنه خبر مُسْتَأنَف على وجه التفسِيرِ لحال آدمَ عليه السلام .
وعلى قول الزجّاج : { مِن تُرَابٍ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه متعلق ب » خَلَقَهُ « أي : ابتدأ خلقه من هذا الجنس .
الثاني : أنه حال من مفعول » خلقه « تقديره : خلقه كائناً من تراب ، وهذا لا يساعده المعنى .
وَالْمَثَلُ هاهنا منهم من فسَّره بمعنى الحال والشأن .
قال الزَّمَخْشَريُّ : » إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدمَ « . وعلى هذا التفسير فالكاف على بابها - من كونها حرف تشبيه - وفسَّر بعضُهم المثل بمعنى الصفة ، كقوله : { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } [ الرعد : 35 ] ، أي : صفة الجنة .
قال ابنُ عَطِيَّة : وهذا عندي خطأٌ وضَعْفٌ في فَهْمِ الكلام ، وإنما المعنى : أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول من عيسى هو كالمُتَصَوَّر من آدمَ؛ إذ النّاس كلهم مُجْمِعُون على أن الله - تعالى - خلقه من تراب ، من غير فحل ، وكذلك قوله : { مَّثَلُ الْجَنَّةِ } عبارة عن المُتَصَوَّر منها . والكاف في « كَمَثَلِ » اسم على ما ذكرناه من المعنى .
قال أبو حيّان : « ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا وكلام مَنْ جعل المثل بمعنى الشأن والحَال أو بمعنى الصفةِ » .
[ قَالَ شِهَابُ الدِّينِ : قَد تَقَدَّمَ فَي أوَّلِ الْبَقَرةِ أنَّ الْمَثَلَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَن الصِّفَةِ ، وَقَدْ لا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَغَايُرِهِمَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلاَمُ النَّاسِ فِيهِ ، ويدلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ « ريِّ الظَّمآنِ » عن الفارسيّ الْجَميعِ ، وقَالَ : « المَثَلُ بِمعنَى الصِّفَةِ ، لا يمكن تَصْحِيحُهُ فِي اللُّغَةِ ، إنَّمَا الْمثَلُ التشبيه على هذا تدور تصاريفُ الكلمةِ ، ولا معنى للوصفية في التشابه؛ ومعنى المثل ] في كلامهم أنها كلمة يُرْسِلها قائلُها لحكمة تُشَبَّه بها الأمور ، وتقابَل بها الأحوال وقد فرق بين لفظ المثل في الاصطلاح وبين الصفة .
قال بعضهم : إن الكافَ زائدة .
وقال آخرون : إنّ » مَثَلاً « زائدة فحصل في الكافِ ثَلاَثَةُ أقوالٍ :
قيل : أظهرها : أنها على بابها من الحرفية وعدم الزيادة وقد تقدم تحقيقه .
وقال الزمخشريُّ : » فإن قلتَ : كيف شُبِّه به وقد وُجِد هو بغير أب ووُجِد آدم من غير أب ولا أمٍّ؟
قلت : هو مثله في أحد الطَّرَفَيْنِ ، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به؛ لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف ، ولأنه شُبِّه به في أنه وُجِد وجوداً خارجاً عن العادةِ المستمرةِ ، وهما في ذلك يظهران ، ولأن الوجود من غير أب ولا أمٍّ أغرب وأخرق للعادةِ من الوجود من غي رأب ، فشبَّه الغريبَ بالأغرب؛ ليكون أقطعَ للخَصْم ، وأحسم لمادة شُبْهَتِه ، إذا نُظِّر فيما هو أغرب مما اسْتَغْرَبَه « .
فصل
قال القرطبيُّ : » دَلَّت هذه الآية على صحةِ القياسِ . والتشبيه واقع على أن عيسى خُلِقَ من غير أب كآدم ، لا على أنه خلق من ترابٍ ، والشيء قد يُشَبَّه بالشيء - وإن كان بينهما فرقٌ [ كَبِيرٌ ] - بعد أن يَجْتَمِعَا في وصف واحدٍ « .
وعن بعض العلماء أنه أسِر بالروم ، فقال لهم : لِمَ تعبدون عيسى؟ قالوا : لأنه لا أبَ لَه .
قال : فآدم أوْلَى؛ لأنه لا أبوين له ، قالوا : فإنه كان يُحْيي الموتَى؟ قال : فحَزقيل أوْلَى؛ لأن عيسى أحْيَى أربعةَ نفر ، وحزقيل أحْيَى ثَمَانِيةَ آلاف ، قالوا : فإنه كان يُبْرِئُ الأكمه والأبرص .
قال : فجَرْجيس أوْلَى؛ لأنه طُبخَ ، وأحرق ، وخَرَجَ سَالِماً .
قوله : { كُنْ فَيَكُونُ } اختلفوا في المقول له : كُنْ ، فالأكثرون على أنه آدم - عليه السلام - وعلى هذا يقع الإشكال في لفظ الآية؛ لأنه إنما يقول له : كن قبل أن يخلقَه لا بعده ، وهاهنا يقول : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن } .
والجوابُ : أن الله - تعالى - أخبرنا - أولاً - أنه خلق آدم من غير ذَكَرٍ ، ولا أنثى ، ثم ابتدأ أمراً آخر - يُريد أن يُخْبرَنا به - فقالَ : إني مُخبِرُكم - أيضاً بعد خبري الأولِ - أني قلتُ له : كُن فكان ، فجاء « ثُمَّ » لمعنى الخبر الذي تقدم ، والخبر الذي تأخر في الذكر؛ لأنَّ الخلقَ تقدم على قوله : « كُنْ » . وهذا كما تقولُ : أخْبِرُكَ أنِّي أعطيكَ اليومَ ألفاً ثم أخبرك أني أعطيتك أمسَ ألفاً ، ف « أمسِ » متقدم على « اليوم » وإنما جاء ب « ثُمَّ » ؛ لأنَّ خبرَ « اليومَ » متقدِّمٌ خبر « أمس » ؛ حيث جاء خبرُ « أمس » بعد مُضِيِّ خَبَر « اليوم » ومثله قوله : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] - وقد خَلَقَنا بعد خلق زَوْجِها ، ولكن هذا على الخبر دون الخلق؛ لأنَّ التأويلَ : أخبركُمْ أني قد خلقتُكُم من نفسٍ واحدةٍ-؛ لأن حواءَ قد خُلِقَتْ من ضِلعِهِ ثم أخبركم أني خَلَقْتُ زَوْجَهَا منها .
ومثل هذا قول الشاعر : [ الخفيف ]
1490- إنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أبُوهُ ... ثُمَّ قَدْ سَادَ بَعْدَ ذَلِكَ جَدُّهُ
ومعلوم أن الأبَ متقدِّمٌ له ، والجدُّ متقدمٌ للأبِ ، فالترتيب يعود إلى الخبرِ لا إلى الوجودِ ، كقولهِ : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ } [ البلد : 17 ] فكذا قوله : { خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ } أي : صيَّره خلْقاً سَويًّا ، ثم إني أخبرُكم أني إنما خلقتُه بأن قُلتُ لَهُ : كُنْ . فالتراخي في الخبرِ ، لا في هذا المخبرِ عن ذلك المخبر .
ويجوز أن يكون المرادُ خلقَهُ قالباً من ترابٍ ، ثم قال له : كُنْ بَشَراً .
فإن قيل : الضميرُ في قوله : { خَلَقَهُ } راجع إلى آدم ، وحين كان تراباً لم يكن آدم موجوداً .
فالجواب : أن ذلك الهيكل لما كان بحيث يصير آدم عن قريب سماه آدم؛ تسمية للشيء بما يئول إليه .
قال أبُو مُسْلِم : « قد بَيَّنَّا أن لخلق هو التقدير والتسوية ، ويرجع معناه إلى علم الله - تعالى - بكيفية وقوعه ، وإرادته لإيقاعه على الوجه المخصوص ، وكل ذلك مُتَقدِّم في الأزل ، وأما قوله : كن ، فهو عبارة عن إدخاله في الوجود ، فثبت أن خلق آدم متقدِّم على قوله : كن » .
وقال بعضهم : المقول له : كن هو عيسى ، ولا إشكال على هذا .
قوله : { فَيَكُونُ } يجوز أن يكون على بابه من كونه مستقبلاً ، والمعنى : فيكون كما يأمر الله - تعالى - فيكون حكاية للحال التي يكون عليها آدم .
قال بعضُهُمْ : معناه : اعلم يا محمد أن ما قال له ربُّك : كن فإنه يكون لا محالة .
ويجوز أن يكون { فَيَكُونُ } بمعنى : « فكان » وعلى هذا أكثر المفسِّرين ، والنحويين ، وبهذا فَسَّرَهُ ابنُ عبَّاس رضي الله عنه .
فصل
أجمع المفسّرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك تشتم صاحِبَنَا؟ قال : « ومَا أقُولُ » ؟ قالوا : تقول : إنه عَبْدٌ ، قَالَ : « أجلْ ، هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ، وَكَلِمتُهُ ألْقَاهَا إلَى الْعَذْرَاء الْبَتُولِ » ، فغَضِبُوا ، وقالوا : هل رأيت إنساناً - قطُّ - من غير أب؟ فقال « إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ » كأنهم قالوا : يا محمد لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله ، فَقَالَ : « إنَّ آدَمَ مَا كَانَ لَهُ أبٌ وَلاَ أمٌّ وَلَمْ يَلْزَمْ أن يَكُونَ أبُوهُ هُوَ الله ، وأنْ يَكَونَ ابْناً للهِ » ، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي عِيسَى ، وأيضاً إذَا جَازَ أن يَخْلُقَ اللهُ آدَمَ مِن التراب ، فلم لا يجوز أن يخلُقَ عيسَى منْ دمِ مَرْيَمَ؟ بل هذا أقرب إلى العقل ، فإن تولُّد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولُّده من التراب اليابس .
فصل
اعلم أن العقل دل على أنه لا بد للناس من والد أول ، وإلا لزم أن يكون كل ولد مسبوقاً بوالد لا إلى أول ، وهو مُحَالٌ ، والقرآن دل على أن ذلك الوالد الأول هو آدم .
لقوله : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] ثُم إنه - تعالى - ذكر في كيفية خلق آدمَ وجوهاً كثيرةً :
أحدها : أنه مخلوق من التراب - كما في هذه الآية .
الثاني : أنه مخلوق من الماء ، قال تعالى : { وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً } [ الفرقان : 54 ] .
الثالث : أنه مخلوق من الطين ، [ قال تعالى : { وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ } ] [ السجدة : 7 ] .
رابعها : أنه مخلوق من سلالة من طين ، قال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] .
خامسها : أنه مخلوق من طين لازبٍ ، قال تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [ الصافات : 11 ] .
سادسها : أنه مخلوق من صلصال من حَمَأ مسنون .
سابعها : أنه [ خلق ] من عَجَلٍ .
ثامنها : قال تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ } [ البلد : 4 ] .
قال الحكماء : إنما خُلِق آدمُ من التراب؛ لوجوهٍ :
الأول : ليكون متواضعاً .
الثاني : ليكون سَتَّاراً .
الثالث : إذا كان من الأرض ليكون أشدَّ التصاقاً بالأرض؛ لأنه إنما خلق لخلافة الأرض؛ لقوله تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] .
الرابع : أراد الحق إظهار القدرة ، فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرامِ ، وابتلاهم بظلمات الضلالة ، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو ألطف الأجرام ، وأعطاهم كمال الشدة والقوة ، وخلق آدم من التراب الذي هو أكثف الأجرام ، ثم أعطاهم المعرفة والنور والهداية ، وخلق السموات من أمواج مياه البحر ، وأبقاها مُعَلَّقة في الهواء ، حتى يكون خلقه هذه الأجرام بُرْهاناً باهِراً ، ودليلاً ظاهراً على أنه - تعالى - هو المدبر بغير احتياج .
الخامس : خلق الإنسان من تراب ، فيكون مُطْفِئاً لنار الشهوة ، والغضب ، والحِرْص؛ فإن هذه النيران لا تنطفئ إلا بالتراب ، وإنما خلقه من الماء ليكون صافياً ، تتجلَّى فيه صُوَرُ الأشياء ، ثم إنه - تعالى - فرج بين الأرض والماء ليمتزجَ اللطيفُ بالكثيفِ ، فيصير طيناً ، وهو قولُهُ : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ } [ ص : 71 ] ثم إنه في المرتبةِ الرابعة قال : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] والسلالةُ بمعنى المسلولةِ قال : فعالة بمعنى مفعولة؛ لأنها هي التي من ألطف أجزاء الطين ، ثم إنه في المرتبة الخامسة جعله طيناً لازباً ، فقال : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [ الصافات : 11 ] ثم إنَّه في المرتبةِ السادسةِ أثبت له ثلاثةَ أنواعٍ من الصفاتِ :
أحدها : أنَّه صلصالٌ ، والصلصالُ : اليابسُ الذي إذا حُرِّك تصلصلَ ، كالخزفِ الذي يُسْمَع مِنْ داخلهِ صوتٌ .
الثاني : الحمأ ، وهو الذي استقر في الماء مُدَّةً ، وتغيَّر لونُه إلى السَّوادِ .
الثالث : تغيُر رائحته ، وهو المسنونُ ، قال تعالى : { فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } [ البقرة : 259 ] ، أي : لم يتغيَّر .
قوله : { الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } يجوزُ أنْ تكونَ هذه الجملةُ مستقلةً برأسِهَا والمعنى أنَّ الحقَّ الثابت الذي لا يضمحلّ هو مِنْ ربك ، ومن جملةِ ما جاء مِنْ ربكَ قصةُ عيسى وأمُهُ ، فهو حقٌّ ثابتٌ .
ويجوز أن يكونَ « الحقُّ » خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : ما قَصَصْنَا عليكَ من خبرِ عيسى وأمه ، وحُذِفَ لكونه معلوماً . و { مِّن رَّبِّكُمْ } على هذا - فيهِ وجهانِ :
أحدهما : أنه حال فيتعلق بمحذوف .
والثاني : أنه خبر ثان - عند من يجوز ذلك وتقدم نظير هذه الجملة في البقرة .
وقال بعضهم : « الحق رفع بإضمار فعل ، أي : جاءك الحق » .
وقيل : إنه مرفوع بالصفة ، وفيه تقديم وتأخير ، تقديره : من ربك الحق .
والامتراء : الشك . قال ابنُ الأنباريِّ : هو مأخوذٌ من قول العرب : مَرَيْتُ الناقة والشاة - إذا حلبتهما - فكأن الشاك يجتذب بشكِّه شَرًّا - كاللبن الذي يُجْتَذَب عند الحلب .
ويقال قد مارى فلان فلاناً - إذا جادله - كأنه يستخرج غضبه ، قال ابنُ عبّاسٍ لعمر رضي الله عنها : لا أماريك أبَداً . ومنه قيل : الشكر يَمْتَرِي المزيد؛ أي : يجلبه .
فصل
هذا الخطابُ - في الظاهر - مع النبي صلى الله عليه وسلم واختُلِفَ في تأويلِهِ :
فقيل إن هذا الخطاب - وإن كان ظاهره مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه في المعنى مع الأمة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن شاكاً في أمر عيسى ، فهو كقوله : { ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء } [ الطلاق : 1 ] .
وقيل إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومعناه أنه من باب الإلهاب والتهييج على الثبات على ما هو عليه من الحق أي : دم على يقينك وعلى ما أنت عليه من تَرْك الامتراء .
فصل
ومعنى الآية فيه قولان :
أحدهما : قال أبو مسلم : معناه أن هذا الذي أنزلتُ عليك - من حبر عيسى - هو الحقُّ ، لا ما قالت النصارى واليهود ، فالنصارى قالوا : إن مريم ولدت إلَهاً ، واليهود رَمَوْا مريم عليها السلام بالإفك ، ونسبوها إلى يوسف بن يعقوب النجار ، فالله - تعالى - بَيَّن أن هذا الذي نزل في القرآن هو الحق ، ثم نهى عن الشك فيه .
الثاني : ما ذكرنا من المثل - وهو قصة آدم - فإنه لا بيان لهذه المسألة ، ولا برهان أقوى من التمسُّك بهذه الواقعةِ .

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
يجوز في « مَنْ » وجهان :
أحدهما : أن تكونَ شرطية - وهو الظاهرُ - أي : إن حاجَّكَ أحدٌ فقُل له كيت وكيت .
ويجوز أن تكونَ موصولة بمعنى : « الذي » وإنما دخلت الفاءُ في الخبرِ لتضمُّنه معنى الشرطِ [ والمحاجةِ مفاعلة وهي من اثنين ، وكانَ الأمرُ كذلِكَ ] .
« فِيهِ » متعلق ب « حَاجَّكَ » اي : جادلَكَ في شأنِهِ ، والهاء فيها وجهان :
أولهما : وهو الأظهرُ - عودُها على عيسى عليه السلامُ .
الثاني : عودها على « الْحَقِّ » ؛ لأنه أقربُمذكورٍ ، والأول أظْهَرُ؛ لأنَّ عيسى هو المحدَّثُ عنهُ ، وهو صاحبُ القصة . قوله : { مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ } متعلق ب « حَاجَّكَ » - أيضاً - و « ما » يجوز أن تكون موصولة اسمية ، ففاعل « جَاءََكَ » ضمير يعود عليها ، أي : من بعد الذي جاءك هو . { مِنَ الْعِلْمِ } حال من فاعل « جَاءَكَ » .
ويجوز أن تكونَ موصولةً حرفيَّةً ، وحينئذٍ يقال : يلزم من ذلك خُلُوُّ الفعل من الفاعلِ ، أو عَوْد الضمير على الحرف؛ لأن « جَاءَكَ » لا بد له من فاعل ، وليس معنا شيء يصلح عوده عليه إلا « ما » وهي حرفية .
والجوابُ : أنه يجوز أن يكون الفاعل قوله : { مِنَ الْعِلْمِ } و « من » مزيدة - ي : من بعد ما جاءك العلم - وهذا إنما يتخرج على قول الأخفش؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئاً . و « مِنْ » في قوله : « مِنَ الْعِلْمِ » يحتمل أن تكون تبعيضيَّة - وهو الظاهر - وأن تكون لبيان الجنس . والمراد بالعلم هو أنَّ عيسى عبد الله ورسوله ، وليس المراد - هاهنا - بالعلم نفس العلم؛ لن العلمَ الذي في قلبه لا يؤثر في ذلك ، بل المرادُ بالعلم ، ما ذكره من الدلائل العقلية ، والدلائل الواصلة إليه بالوحي .
فصل
ورد لفظ « الْعِلْم » في القرآن على أربعة [ أضربٍ ] .
الأول : العلم القرآن ، قال تعالى : { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم } [ آل عمران : 61 ] .
الثاني : النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم } [ الجاثية : 17 ] أي : محمد ، لما اختلف فيه أهلُ الكتاب .
الثالث : الكيمياء ، قال تعالى - حكاية عن قارون- : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا } [ القصص : 78 ] .
الرابع : الشرك ، قال تعالى : { فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم } [ غافر : 83 ] أي من الشرك .
فصل
قال ابن الخطيب : لما كنت بخوارزم أخبرتُ أنه جاء نصرانيٌّ يَدَّعِي التحقيق والتعمق في مذهبهم ، فذهَبْتُ إليه ، وشرعنا في الحديث ، فقال : ما الدليل على نُبُوَّةِ محمد؟ فقلتُ كما نقل إلينا ظهورُ الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء نُقِل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد صلى الله عليه وسلم فإن ردَدْنَا التواتُرَ ، وقُلْنَا : إن المعجز لا يدل على الصدق فحينئذ بطل نبوة سائر الأنبياءِ - عليهم السلامُ - وإن اعترفنا بصحةِ التواتُرِ ، واعترفنا بدلالةِ المُعْجِزِ على الصدقِ ، فهُمَا حاصلان في مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فوجبَ الاعترافُ قطعاً بنبوةِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ضرورةَ أن عند الاستواء في الدليل لا بدّ من الاستواء في حصول المدلول .
فقال النصرانيُّ : أنا لا أقول في عيسى - إنه كان نبياً بل أقول : إنه كان إلهاً . فقلتُ له : الكلامُ في النبوةِ لا بد وأن يكونَ مسبوقاً بمعرفة الإلهِ وهذا الذي تقولُهُ باطلٌ ، ويدلُ عليهِ وجوه :
الأول : أنّ الإله عبارة عن موجودٍ واجب الوجودِ لذاتِهِ - بحيثُ لا يكون جِسماً ولا متحيّزاً ولا عرضاً - وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشريِّ الجسمانيِّ الذي وُجِدَ بعد أنْ كانَ معدوماً ، وقُتِلَ - على قولِكُمْ - بعد أن كان حياً ، وكان طفلاً - أولاً - ثم صار مُترعرعاً ، ثم صار شاباً ، ويشربُ ويُحْدِثُ وينامُ ويستيقظ وقد تقرَّرَ في بداهةِ العقولِ أن المحدث لا يكونُ قديماً والمحتاج لا يكون غَنِيًّا ، والممكن لا يكون واجباً والمتغير لا يكون دائماً .
الثاني : أنكم تعترفون أنَّ اليهودَ قتلوه وأخذوه ، وصلبوه ، وتركوه حيًّا على الخشبة ، وقد مزَّقوا ضِلْعه ، وانه كان يحتال في الهَرَبِ منهم ، وفي الاختفاء عنهم ، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزَعَ الشديدَ . فإن ك ان إلهاً ، و كان الإله حالاًّ فيه ، أو كان جُزءٌ من إله حالاًّ فيه ، فلِمَ لَمْ يدفَعْهم عن نفسه؟ ولم لم يهلكهم بالكلية؟ وأيُّ حاجةٍ إلى إظهار الجَزَع منهم ، والاحتيال في الفرار منهم؟ وبالله إني لأتعجَّب جداً من أن العاقلَ كيف يليق به أن يقولَ هذا القولَ ، ويعتقد صحته ، وبداهة العقل تكاد أن تشهد بفساده؟
الثالث : أن يقال : إن الإله إمَّا أن يكونَ هذا الشخصُ الجسمانيُّ المُشَاهَدُ ، أو يقال : إن الإله بكليته فيه ، أو حل بعضُ الإله فيه . والأقسام الثلاثة باطلة : أما الأول فإن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم ، فحين قتله اليهودُ كان ذلك قولاً بأن اليهودَ قتلوا إله العالَم ، فكيف بَقِيَ العالَم بعد ذلك من غير إلهٍ؟ ثم إن أشَدَّ الناس ذُلاًّ ودَنَاءَةً اليهودُ ، فالإله الذي تقتله اليهودُ إلهٌ في غاية العجز . وأما الثاني : - وهو أن الإله بكليته حَلَّ في هذا الجسم - فهو أيضاً - فاسد؛ لأن الإله إن لم يكن جسماً ولا عَرَضاً امتنع حُلولُه في الجسم ، وإن كان جسماً فحينئذ يكون حلوله في جسم آخرَ ، عبارة عن اختلاط أجزائه بأجزاء ذلك الجسم ، وذلك يوجب وقوع التفرُّق في أجزاء ذلك الإله ، وإن كان عرضاً كان محتاجاً إلى المحلّ ، وحينئذ يكون الإله محتاجاً إلى غيره ، وكل ذلك سخفٌ .
وأما الثالثة : وهو أنهُ حَلَّ فيه بعضٌ من أبعاض الإله وجزء من أجزائه ، وذلك - أيضاً - محالٌ؛ لأن ذلك الجزء إن كان معتبراً في الإلهية فعند انفصاله عن الإله ، وجب أن لا يبقى الإله إلهاً . وإن كان معتبراً في تحقق الإلهية لم يكن جُزْءاً من إله فثبت فسادُ هذه الأقسام .
الوجه الرابعُ - في بطلان قول النصارى - ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله - تعالى - ولو كان إلهاً لاستحال ذلك؛ لأن الإله لا يَعْبُدُ نفسه ، ثم قلت للنصراني : ما الذي دَلّكَ على كونِهِ إلهاً؟ فقال دلَّ عليه ظهورُ العجائبِ عليه من إحياء الموتى وإبْراءِ الأكمهِ والأبرصِ وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرةِ الإله - تعالى - فقلتُ لَهُ : تسلم أنَّه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول ، أم لا؟ فإنْ لَمْ تُسَلِّمْ لزمك مِنْ نفي العالمِ في الأزلِ نفي الصانع وإن سَلَّمْتَ أنَّهُ لا يلزمُ من عدم الدليل عدم المدلول فأقول : لَمَّا جوَّزْتَ حُلُولَ الإلَهِ في بَدَنِ عيسى عليه السلام فكيف عَرَفْتَ أنَّ الإلهَ ما حل في بَدَنِي وفي بدنِكَ ، وفي بَدَنِ كلِّ حيوانٍ ، ونباتٍ وجمادٍ؟ فقال : الفرقُ ظاهرٌ؛ وذلك أني إنما حكمت بذلك الحلول؛ لأنَّه ظهرتْ تلك الأفعال العجيبةُ عليه ، والأفعال العديبةُ ما ظهرتْ على يديَّ وعلى يديْكَ ، فعلمنا أنَّ ذلكَ الحلولَ - هاهنا - مفقودٌ ، فقلتُ له : تبين الآن أنك ما عرفت معنى قولي : إنه لا يلزمُ من عدمِ الدليلِ عدمُ المدلول ، وذلك أنَّ ظهورَ تلك الخوارقِ دالة على حلول الإله في بدن عيسى ، فعدم ظهور الخوارقِ مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل فإذا تبيَّنَّا أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك ، بل في حقّ الكلب والسِّنَّوْر والفأر ، ثم قلت : إن مذهباص يؤدي إلى تجويز القول بحلول ذات الله في بدن الكلبِ والذبابِ لفي غاية الخِسَّةِ والرَّكاكة .
الوجه الخامس : أن قَلْبَ العصا حَيَّةً أبعد في العقل من إعادة الميت حيًّا؛ لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن اليعبانِ ، فإذا لم يوجب قلب العصا حيةً كوْن موسى إلهاً ، ولا ابناً للإله ، فبأن لا يدل إحياءُ الموتَى على الإلهية كان أولَى .
قوله : { تَعَالَوْاْ } العامة على فَتْح اللام؛ لأنه أمر من تعالَى يَتَعالَى - كترامى يترامى - وأصل ألفِهِ ياء وأصل هذه [ الياء ] واو؛ وذلك أنه مشتقٌّ من العُلُوّ - وهو الارتفاع كما سيأتي بيانه في الاشتقاق - والواو متى وقعت رابعةً فصاعداً قُلبت ياءً فصار « تَعَالَوا » تَعَالَي ، فتحرك حرفُ العلَّة ، وانفتح ما قبله ، فقُلِبت ألفاً فصار « تَعَالَي » - كترامى وتعادى - فإذا أمرت منه الواحد ، قلتَ : تعالَ يا زيد - بحذف الألف - وكذا إذا أمرت الجمع المذكر قلت : تعَالَوْا؛ لأنك لما حَذَفْتَ الألف لأجل الأمر أبقيتَ الفتحة مشعرة بها .
وإن شئت قلتَ : الأصل : تعالَيُوا ، وأصل هذه الياء واو - كما تقدم - ثم استُثْقِلَت الضمة على الياء ، فحُذِفت ضمتُها ، فالتقى ساكنان ، فحذف أوَّلُهما - وهو الياء - لالتقاء الساكنين ونزلت الفتحةُ على حالها .
وإن شئت قلت : لما كان الأصل تعلَيُوا تحرك حرفُ العِلَّةِ ، وانفتح ما قبله - وهو الياءُ - فقلب ألفاً ، فالتقى ساكنان ، فحذف أولهما - وهو الألف - وبقيت الفتحة دالةٌ عليه .
والفرق بين هذا وبين الوجه الأول أن الألف - في الوجه الأول - حُذِفَت لأجل الأمر - وإن لم تتصل به واو ضمير ، وفي هذا حُذِفَتْ لالتقائها مع واو الضمير .
وكذلك إذا أمرت الواحدة تقول لها : تعالَي ، فهذه الياء ، هي ياء الفاعلة من جملة الضمائر ، والتصريف كما تقدم ، إلا أنك تقول هنا : الكسرة على الياء بدل الضمة هناك . وأما إذا أمرت المثنى فإن الياء تثبت فتقول : يا زيدان تعالَيَا ، ويا هندان تعالَيَا - أيضاً يستوي فيه المذكران والمؤنثان - وكذلك أمر جماعة الإناث تثبت فيه الياء تقول : يا نسوة تعالَيْنَ ، قال تعالى : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } [ الأحزاب : 28 ] ؛ إذْ لا مقتضي للحذف ، ولا للقلب؛ وهو ظاهرٌ بما تمهد من القواعد .
وقرأ الحسن وأبو السَّمَّال وأبو واقد : تَعَالُوا - بضم اللام - ووجهوها على أن الأصل : تعالَيُوا - كما تقدم فاستُثْقِلت الضمة على الياء ، فنُقِلت إلى اللام - بعد سلب حركتها - فبقي تعالُوا - بضم اللام .
قال الزمخشريُّ في سورة النساء : وعلى هذه القراءة قال الحَمدَانِيّ : [ الطويل ]
1491- . ... تَعَالِي أُقَاسِمْكِ الْهُمُومَ تَعَالِي
بكسر اللام - وقد غاب بعضُ الناس عليه في استشهاده بشعر هذا المولَّد المتأخِّر وليس بعيْبٍ؛ فإنه ذكره استئناساً .
وهذا كما تقدم في أول البقرة - عندما أنشد لحبيب : [ الطويل ]
1492- هُمَا أظْلَمَا حَالَيَّ ثُمَّتَ أجْلَيَا ... ظَلاَمَيْهِمَا عَنْ وَجْهِ أمْرَدَ أشْيَبِ
واعتذر هو عن ذلك فكيف يعاب عليه بشيء عَرَفَهُ ، ونَبَّه عليه ، واعتذر عنه؟
والذي يظهر في توجيه هذه القراءة أنهم تناسَوُا الحرفَ المحذوف ، حتى كأنهم توهَّمُوا أن الكلمةَ بنيت على ذلك ، وأنّ اللام هي الآخِر في الحقيقة ، فلذلك عُومِلَتْ معاملةَ الآخِر حقيقةً ، فضُمَّتْ قبل واو الضمير وكُسِرَت قبل يائه ، ويدل على ما قلناه أنهم قالوا : - في لم أبَلْه- : إن الأصل : أبالي؛ لأنه مضارع « بالَى » فلما دَخَلَ الجازمُ حذفوا له حرفَ العلةِ - على القاعدة - ثم تناسَوْا ذلك الحرفَ ، فسكنوا للجازم اللام؛ لأنها كالأخير حقيقةً ، فلما سكنت اللام التقى ساكنان - هي والألف قبلها - فحذفت الألف؛ لالتقاء الساكنين .
وهذا التعليل أوْلَى؛ لأنه يَعُمُّ هذه القراءةَ والبيت المذكور ، وعلى مقتضى تعليله هو أن يقال : الأصل تعاليي ، فاستُثْقلت الكسرةُ على الياء ، فنُقِلت إلى اللام - بعد سَلْبِهَا حركتها - ثم حذفت الياءُ؛ لالتقاءِ الساكنَيْنِ .
وتعالَ فعل صريح ، وليس باسم فعل؛ لاتصال الضمائرِ المرفوعةِ البارزة به .
قيل : وأصله طلب الإقبال من مكان مرتفع؛ تفاؤلاً بذلك وإدناءً للمدعو؛ لأنه من العلو والرِّفْعَة . ثم تُوُسِّعَ فيه ، فاستعمل في مجرد طلب المجيء ، حتى يقال ذلك لمن تريد إهانته - كقولك للعدو : تعالَ - ولمن لا يعقل كالبهائم ونحوها .
وقيل : هو الدعاءُ لمكان مرتفع ، ثم تُوُسِّع فيه ، حتى استُعمِل في طلب الإقبال إلى كل مكان ، حتى المنخفض .
و « ندع » جزم على جواب الأمرِ؛ إذ يَصحُّ أن يقال : فتعالوا ندع .
قوله : « أبْناءنا » . قيل : اراد الحسن والحسين ويؤيده قوله تعالى : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ } [ الأنعام : 84 ] { وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى } [ الأنعام : 85 ] ومعلوم أن عيسى إنما انتسب إلى إبراهيم بالأم - لا بالأب - فثبت أن ابن البنت قد يسمى ابناً . و « نِساءَنَا » فاطمة ، « وَأنْفُسَنَا » عني نفسه وعلياً ، والعرب تسمي ابن العم نفسه كما قال : { وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ } [ الحجرات : 11 ] يريد إخوانكم .
وقيل هو على العموم لجماعة أهل الدين .
قوله : { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } قال ابنُ عبّاس : نتضرع في الدعاء .
وقال الكلبي : نجتهد ونبالغ في الداعاء وقال الكسائيُّ وأبو عبيدة : نَلتعن . والابتهال : افتعال ، من البُهْلَة ، وهي - بفتح الباء وضمها - اللعنة ، قال الزمخشريُّ : ثم نتباهل بأن نقول لعنة الله على الكاذب منا ومنكم والبهلة - بالفتح والضم - اللعنة ، وبَهَلَه الله : لعنه وأبعده من رحمته من قولك : أبهله إذا أهمله ، وناقة باهل : لا صِرَارَ عليها ، أي : مرسلة مُخَلاَّة - كالرجل الطريد المنفي - وإذا كان البهل هو الإرسال والتخلية ، فمن بهله الله فقد خلاه ، ووكله إلى نفسه ، فهو هالك لا شك فيه - كالناقة الباهل التي لا حافظ لها ، فمن شاء حلبها ، لا تقدر على الدفع عن نفسها هذا أصل الابتهال ، ثم استُعْمِل في كل دعاء مُجْتَهَدٍ فيه - وإن لم يكن التعاناً - [ يعني أنه اشتهر في اللغة : فلان يبتهل إلى الله - تعالى - في قضاء حاجته ، ويبتهل في كشف كربته ] .
قال شهاب الدّين : ما أحسن ما جعل « الافتعال » - هنا - بمعنى التفاعل؛ لأن المعنى لا يجيء إلا على ذلك ، وتفاعل و « افتعل » أخوان في مواضع ، نحو اجتوروا وتجاوروا ، واشتوروا وتشاوروا ، واقتتل القوم وتقاتلوا ، واصطحبوا وتصاحبوا ، لذلك صحت واو اجتوروا واشتوروا .
قال الراغبُ : وأصل البهل : كون الشيء غيرَ مراعى ، والباهل : البعير المُخَلَّى عن قيده والناقة المخلَّى ضرعها عن صِرَارٍ ، وأنشد لامرأة : أتيتك باهلاً غير ذات صِرار .
وأبهلت فلاناً : خليته وإرادته؛ تشبيهاً بالبعير الباهل ، والبهل والابتهال في الدعاء : الاسترسال فيه والتضرع ، نحو { ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل } ومن فسر الابتهال باللعن فلأجل أن الاسترسال في هذا المكان لأجل اللعن .
قال الشاعر : ( وهو لبيد ) : [ الرمل ]
1493- مِنْ قُرُومٍ سَادَةٍ في قَوْمِهِمْ ... نَظَرَ الدَّهْرُ إلَيْهِمْ فَابْتَهَلْ
وظاهر هذا أنَّ الابتهال عام في كل دعاء - لعناً كان أو غيره - ثم خُصَّ في هذه الآية باللعن ، وظاهر عبارة الزمخشري أن أصله خصوصيته باللعن ، ثم تُجُوِّز فيه ، فاستُعمِل في كل اجتهاد في دعاء - لعناً كان ، أو غيره - والظاهر من أقوال اللغويين ما ذكره الراغب .
قال أبو بكر بن دُرَيْد في مقصورته : [ الرجز ]
1494- لَمْ أرَ كَالْمُزْنِ سَوَاماً بُهَّلا تَحْسَبُهَا مَرْعِيَّةً وَهْيَ سُدَى
بهلاً جمع باهلة - أي : مهملة ، وفاعلة تجمع على فُعَّل ، نحو ضُرَّب . والسُّدَى : المهمل - أيضاً - وأتى ب « ثُمَّ » هنا ، تنبيهاً على خطئهم في مباهلته ، كأنه يقول لهم : لا تعجلوا ، وتَأنَّوْا؛ لعلَّه أن يظهر لكم الحق ، فلذلك أتى بحرف التراخي .
قوله : { فَنَجْعَل } هي المتعدية لاثنين - بمعنى نصير - و { عَلَى الكاذبين } هو المفعول الثاني .
فصل
روي أنه صلى الله عليه وسلم لما أورد الدلالة على نصارى نجران ، ثم إنهم أصرُّوا على جهلهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : « إنَّ اللهَ يَأمُرُنِي - إن لَمْ تَقْبَلُوْا الْحُجَّةَ - أنْ أبَاهِلَكُمْ » ، فقالوا : يا أبا القاسم ، بل نرجع ، فننظر في أمرنا ، ثم نأتيك غداً ، فخلا بعضهم ببعض ، فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم : يا عبد المسيح ، ما ترى؟ فقال : والله لقد عرفتم - يا معشر النصارى - أن محمداً نبي مرسل ، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم ، والله ما باهل قوم نبيًّا - قط - فعاش كبيرُهم ولا صغيرُهم ، ولأن فعلتم ذلك لنهلكن ، ولكان الاستئصال ، فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه ، فوادِعوا الرجل ، وانصرِفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد خرج وعليه مرط من شعر أسود ، وكان قد احتضن الحُسَيْن ، وأخذ بيد الحسن ، وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفهما ، وهو يقول لهم : إذَا دَعَوْتُ فأمِّنُوا ، فقال أسقفُ نجران : يا معشر النصارى إنّي لأرى وجوهاً لو شاء الله أن يُزيل جَبَلاً من مكانه لأزاله بها ، فلا تباهلوا ، فتهلكوا ولا يبقى نصراني على وجه الأرض إلى يوم القيامة فقالوا : يا أبا القاسم ، قد رأينا أن لا نباهلَك ، وأن نقرك على دينك ، ونثبت على ديننا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم « فَإنْ أبَيْتُمُ الْمُبَاهَلَةَ فَأسْلِمُوا يَكُنْ لَكُمْ مَا لِلْمُسْلِمِيْنَ وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْهمْ فأبَوْا ، فقال : فَإنِّي أنَابِذُكُمْ »
، فقالوا ما لنا بحَرْبِ العَرَب طاقةٌ ، ولكن نصالِحُكَ على أن لا تَغزُوَنا ، ولا تُرُدَّنا عن ديننا ، على أن نؤدِّي إليك في كل عام ألفَيْ حُلَّة - ألفاً في صَفَر وألفاً في رجب - وثلاثين درعاً عادية من حديد ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى ذلك ، وَقَالَ : « وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ الْعَذَابَ قَدْ تَدَلَّى عَلَى أهْلِ نَجْرَانَ ، وَلَوْ لاعَنُوا لَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ ، ولاضْطَرَمَ عَلَيْهِمُ الْوَادِي نَاراً ، وَلأسْتَأصَلَ اللهُ نَجْرَانَ وَأهْلَهُ - حَتَّى الطَّيْرَ عَلَى الشَّجَرِ - وَلَمَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى النَّصَارى كلِّهِمْ حَى يَهْلِكُوا » .
وروي أنه - عليه السَّلامُ - لما خرج في المرط الأسود ، فجاء الحَسَن ، فأدْخله ، ثم جاء الحُسَيْن فأدخله ، ثُمّ فَاطِمَةُ ، ثُم عليٌّ ، ثم قال : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } [ الأحزاب : 33 ] .
فصل
قال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إن القول ، بأن الابتهال هو الاجتهاد في الدعاء أوْلَى؛ لأنه يكون قوله : { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } أي : ثم نجتهد في الدعاء ، ونجعل اللعنة على الكاذب ، وعلى القول بأنه الالتعان يصير التقدير : { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } أي : نَلْتَعِن ، فنجعل لعنة الله على الكاذب ، هو تكرارٌ . وهنا سؤالان :
السؤالُ الأولُ : الأولاد إذا كانوا صِغَاراً لم يَجُزْ نزولُ العذابِ بهم ، وقد ورد في الخبر أنه صلى الله عليه وسلم أدْخَل في المباهلةِ الحسنَ والحسينَ ، فما الفائدة فيه؟
والجواب : أن عادة الله جاريةٌ بأن عقوبة الاستئصال إذا نزلت بقوم هلك معهم الأولاد والنساء ، فيكون ذلك في حق البالغين عقاباً ، وفي حق النساء جارياً مجرى إماتتهم ، وإيصال الآلام إليهم ومعلوم أن شفقة الإنسان على أولاده ، وأهله شديدة جِداً ، ورُبَّما جَعَل الإنسانُ نفسَه فداءً لهم وإذا كان كذلك فهو - عليه السلامُ - أحضر صبيانه ونساءه معه ، وأمرهم بأن يفعلوا مثل ذلك ، ليكون ذلك أبلغ للزجر ، وأقوى في تخويف الخصم ، وأدل على وثوقه صلى الله عليه وسلم بأن الحقَّ معه .
السؤال الثاني : أليس أن بعض الكفار استعمل المباهلة مع نبيه صلى الله عليه وسلم حيث قالوا : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ثم إنه لم ينزل بهم عذاب ألبتة - فكذا ها هنا - وأيضاً فبتقدير نزول العذابِ يكون ذلك مناقضاً لقوله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] .
الجوابُ : أن الخاص مقدَّم على العام ، فلما أخبر - عليه السلامُ - بنزول العذاب في هذه القصة على التعيين ، وجب أن تعتقد أن الأمرَ كذلك .
فصل
دلت هذه الواقعةُ على صحة نبوتِهِ - عليه السلام - من وَجْهَيْنِ :
أحدهما : أنه - عليه السلام - خوفهم بنزول العذاب ، ولو لم يكن واثقاً بذلك لكان ذلك منه سعياً في إظهار كذب نفسه؛ لأن بتقدير أن يرغبوا في مباهلته ، ثم لا ينزل العذاب ، فحينئذ يظهر كذبه ، فلما أصرَّ على ذلك علمنا أنه إنما أصرَّ عليه؛ لكونه واثقاً بنزول العذاب عليهم .
وثانيهما : أن القوم - لما تركوا مباهلته - لولا أنهم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته لما أحجموا عن مباهلته .
فإن قيلَ : لم لا يجوز أن يُقال : إنهم كانوا شاكِّين ، فتركوا مباهلَتَه؛ خَوْفاً من أن يكون صادقاً ، فينزل بهم ما ذُكِرَ من العذاب؟
فالجوابُ : أن هذا مدفوع من وَجْهَيْنِ :
الأول : أن القوم كانوا يَبْذلون النفوسَ والأموالَ في المنازعة مع الرسول صلى الله عليه وسلم ولو كانوا شاكِّين لَمَا فعلوا ذلك .
الثاني : أنه قد نُقل عن أولئك النصارَى أنهم قالوا : إنه والله هو النبي المبشَّرُ به في التوراةِ والإنجيلِ وإنكم لو باهلتموه لحصل الاستئصالُ ، فكان تصريحاً منهم بأن الامتناع من المباهلة كان لأجل علْمِهم بأنه نبي مُرْسَل من عند الله تعالى .
فصل
قال ابنُ الْخَطِيبِ : كان في الرِّيِّ رجلٌ يقال له مَحْمُود بن الحسن الحِمْضِيُّ ، وكان معلم الاثني عشرية ، وكان يزعم أن عليًّا - رضي الله عنه - أفضل من جميع الأنبياء - سوى محمَّد صلى الله عليه وسلم - قال : والذي يدل على ذلك قوله : { وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ } ، وليس المراد بقوله : { وَأَنفُسَنَا } نفس محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الإنسان لا يدعو نفسه ، بل المراد به غيره ، وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب ، فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن يكون المراد منه أن هذه النفس هي عين تلك النفسِ ، فالمراد : أن هذه النفس مثل تلك النفس ، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه ، ترك العمل بهذا العموم في حق النبوة وفي حق الفضل؛ لقيام الدلائل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان نبياً ، وما كان عَلِيٌّ كذلك ، ولانعقاد الاجماع على أن محمداً ك ان أفضل من علي ، فيبقى فيما وراءه معمولاً به ، ثم الإجماع دَلَّ على أنّ محمداً كان أفضلَ من سائر الأنبياء ، فيلزم أن يكون عَلِيٌّ أفضلَ من سائر الأنبياء ، فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية ، ثم قال : ويؤكد هذا الاستدلالَ الحديثُ المقبولُ - عند الموافقِ والمخالفِ - وهو قوله صلى الله عليه وسلم : « من أرَادَ أنْ يَرَى آدَمَ فِي عِلمِهِ ، وَنُوحاً في طَاعَتِهِ ، وإبْرَاهِيمَ فِي خُلَّتِه ، وَمُوسَى في هَيْبَتِه ، وَعِيْسَى في صَفْوَتِهِ فَلْيَنْظُرْ إلى عَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ » .
فالحديث دل على أنه اجتمع فيه ما كان متفرِّقاً فيهم ، وذلك يدل على أن عَلِيًّا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صلى الله عليه وسلم .
أما سائر الشيعةِ فقد كانوا - قديماً وحديثاً - يستدلون بهذه الآية على أن عليًّا أفضلُ من سائر الصحابة؛ وذلك لأنَّ الآية لمَّا دلَّت على أن نَفْسَ عَلِيٍّ مِثْلُ مُحَمَّدٍ - إلا ما خصه الدليل - وكان نفس محمد أفضل من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - فوجب أن يكون نفس عليٍّ أفضل من سائر الصحابة ، هذا تقريرُ كلامِ الشيعة .
فالجوابُ : أنه كما انعقد الإجماع بَيْنَ المسلمين على أن محمداً أفضلُ من عليٍّ ، فكذلك انعقد الإجماع بينهم - قَبْلَ ظُهُورِ هذا الإنسانِ - على أن النبيَّ أفضل ممن ليس بنبيِّ ، وأجمعوا على أن عليًّا ما كان نبيًّا ، فلزم القطعُ على أن ظاهرَ الآية ، كما أنه مخصوص في حق محمد ، فكذلك مخصوص في حق سائر الأنبياءِ - عليهم السلام - .

إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
قال أبو مُسْلِمٍ : هذا الكلام متصل بما قبله ، ولا يجوز الوقف على قوله : { الكاذبين } ، وتقدير الآية : فنجعلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِيْنَ بأن هذا هو القصص الحقُ ، وعلى هذا التقدير كان حق « إنَّ » أن تكون مفتوحةً ، إلا أنها كُسِرَت؛ لدخول اللاَّمِ في قوله : { لَهُوَ الْقَصَصُ } ، كما في قوله : { إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ } [ العاديات : 11 ] .
قال الباقون : الكلام تمّ عند قوله : { عَلَى الكاذبين } وما بعده جملة أخْرَى مستقلة غير مُتعَلِّقةٍ بما قبلها ، فَقَوْلُهُ : { هذا } الكلام إشارةٌ إلى ما تقدم من الدلائلِ والدعاءِ إلى الْمُبَاهَلَةِ ، وأخبار عيسى .
وقيل : هو إشارة لما بعده - وهو قوله : { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } - وضُعفَ هذا بوجهين :
أحدهما : أنَّ هذا ليس بقصصٍ .
الثاني : أن مقترن بحرف العطف .
واعتذر بعضهم عن الأول ، فقال : إن أراد بالقصص الخبر ، فيصح على هذا ، ويكون التقدير : إن الخبر الحق { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } ولكن الاعتراض الثاني باقٍ ، لم يُجَبْ عنه .
و « هُوَ » يجوز أن يكون فَصْلاً ، و « القصص » خبر « إن » ، و « الْحَقُّ » صفته ، ويجوز أن يكون « هو » مبتدأ و « الْقَصَصُ » خبره ، والجملة خبر « إنَّ » .
والقصص مصدر قولهم : قَصَّ فلانٌ الحديثَ ، يَقُصُّهُ ، قَصًّا ، وقَصَصاً وأصله : تتبع الأثَر ، يقال : فلان خرج يقصُّ أثَرَ فلان ، أي : يتبعه ، ليعرف أين ذَهَبَ . ومنه قوله : { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } [ القصص : 11 ] ، أي ، اتبعي أثره ، وكذلك القاصّ في الكلام ، لأنه يتتبع خَبراً بعد خبر . وقد تقدم التنبيه على قراءتي « لهْو » بسكون الهاء وضمها؛ إجراء لها مجرى عضد .
قال الزمخشريُّ : فإن قلتَ : لم جاز دخولُ اللامِ على الفَصْل؟
قلت : إذا جاز دخولُها على الخبر كان دخولُها على الفَصْل أجودَ؛ لأنه أقرب إلى المبتدأ منه وأصلها أن تدخل على المبتدأ .
قوله : { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن { مِنْ إله } مبتدأ ، و « مِنْ » مزيدة فيه ، و « إلاَّ اللهُ » خبره ، تقديره : ما إلَهٌ إلا اللهُ ، وزيدت « مِنْ » للاستغراق والعموم .
قال الزمخشريُّ : و « مِنْ » - في قوله : { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } - بمنزلة البناء على الفتح في : لا إلَهَ إلا اللهُ - في إفادة معنى الاستغراق .
قال شهابُ الدينِ : الاستغراق في : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، لم نستفده من البناء على الفتح ، بل استفدناه من « مِنْ » المقدَّرة ، الدالة على الاستغراق ، نَصَّ النحويون على ذلك ، واستدلوا عليه بظهورها في قول الشاعر : [ الطويل ]
1495- فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ ... وَقَالَ : ألاَ لاَ مِنْ سَبيلٍ إلَى هِنْدٍ
الثاني : أن يكون الخبر مُضْمَراً ، تقديره : وما من إله لنا إلا الله ، و { إِلاَّ الله } بدل من موضع { مِنْ إله } ، لأن موضعه رفع بالابتداء ، ولا يجوز في مثله الإبدالُ من اللفظ ، لِئَلاّ يلزم زيادة « مِنْ » في الواجب ، وذلك لا يجوز عند الجمهور .
ويجوز في مثل هذا التركيب نصب ما بعد « إِلاَّ » على الاستثناء ، ولكن لم يُقرأ به ، إلا أنَّه جائز لُغَةً أنْ يُقَالَ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ - برفع لفظ الجلالة بدلاً من الموضع ، ونصبها على الاستثناء من الضمير المستكن في الخبر المقدر؛ إذ التقدير : لا إله استقر لنا إلا الله .
وقال بَعْضُهُم : دخلت « مِنْ » لإفادة تأكيد النفي؛ لأنك لو قلتَ : ما عندي من الناس أحد ، أفاد أن عندك بعض الناس . فإذا قلتَ : ما عندي من الناس من أحدٍ ، أفاد أن ليس عندك بعضهم وإذا لم يكن عندك بعضهم فبأن لا يكون عندك كلهم أوْلَى ، فثبت أن قوله : { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } مبالغة في أنه لا إله إلا الله الواحدُ الحقُّ .
قوله : { وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز الحكيم } كقوله : { إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق } وفيه إشارةٌ إلى الجواب عن شبهات النَّصَارَى ، لأن اعتمادَهم على أمرين :
أحدهما : أنه قدر على إحياء الموتَى وإبراء الأكْمَهِ والأبْرَصِ ، فكأنه - تعالى - قال : هذا القدر من القدرة لا يكفي في الإلهية ، بل لا بُدَّ وأن يكون عزيزاً ، غالباً ، لا يدفع ، ولا يمنع ، وأنتم اعترفتم بأن عيسى - عليه السلام - ما كان كذلك ، بل قلتم : إنّ اليهودَ قتلوه .
والثاني : أنهم قالوا : إنه كان يُخبر عن الغيوب وغيرها ، فكأنه - تعالى - قال : هذا القدرُ من العلم لا يكفي في الإلهية ، بل لا بد وأن يكون حَكِيماً ، أي : عالماً بجميع المعلومات ، وبجميع عواقب الأمورِ .
فَذِكرُ العزيز الحكيم - هاهنا - إشارةٌ إلى الجواب عن هاتَيْنِ الشبهتين ، ونظير هذه الآية ما ذكر تعالى في أول السورة من قوله : { هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } [ آل عمران : 6 ] .
وقوله : { فَإِنْ تَوَلَّوْا } يجوز أن يكون مضارعاً - حُذِفَتْ منه إحدى التاءَين ، تخفيفاً - على حَدِّ قراءة : { تَنَزَّلُ الملائكة } [ القدر : 4 ] و { تَذَكَّرُون } [ الأنعام : 152 ] - ويؤيد هذا نسق الكلام ، ونظمُه في خطاب من تقدم في قوله : { تَعَالَوْا } ثم جرى معهم في الخطاب إلى أن قال لهم : فَإن تولّوا .
قال ابو البقاء : « ويجوز أن يكون مستقبلاً ، تقديره : تتولوا - ذكره النَّحَّاسُ - وهو ضعيفٌ؛ لأن حَرْفَ الْمُضَارَعَِ لا يُحْذَف » .
قال شهاب الدين : « وهذا ليس بشيء؛ لأن حرف المضارعة يُحْذَف - في هذا النحو - من غير خِلافٍ . وسيأتي من ذلك طائفة كثيرة » .
وقد أجمعوا على الحذف في قوله :
{ تَنَزَّلُ الملائكة وَالرُّوحُ فِيهَا } [ القدر : 4 ] .
ويجوز أن يكون ماضياً ، أي : فإن تَوَلَّى وَفْدُ نجرانَ المطلوب مباهلتهم ، ويكون - على ذلك - في الكلام التفات؛ إذْ فيه انتقال من خطابٍ إلى غيبةٍ .
قوله : { بِالْمُفْسِدِينَ } من وقوع الظاهر موقعَ المُضْمَرِ ، تنبيهاً على العلة المقتضية للجزاءِ ، وكان الأصل : فإن الله عليم بكم - على الأول - وبهم - على الثاني .
فصل
ومعنى الآية : فإن تولوا عما وَصَفْتَ لهم من أنه الواحد ، وأنه يجب أن يكون عزيزاً غالباً ، قادراً على جميع المقدوراتِ ، حكيماً ، عالماً بالعواقب - مع أن عيسى ما كان كذلك - فاعلم أن تولّيهم وإعراضَهم ليس إلاَّ على سبيل العِنَادِ ، فاقطع كلامَك عَنْهُم ، وفَوِّضْ أمرك إلى اللهِ؛ فإنه عليم بالمفسدين الذين يعبدون غيرَ اللهِ ، مُطَّلِع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة ، قادرٌ على مجازاتهم .

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
قوله : { إلى كَلَمَةٍ } مُتَعَلِّق ب « تَعَالَوْا » فذكر مفعول « تَعَالَوْا » قبلها ، فإنه لم يذكر مفعوله؛ فإن المقصودَ مُجَرَّدُ الإقبال ، ويجوز أن يكون حذفه للدلالة عليه ، تقديره : تعالوا إلى المباهلة .
وقرأ العامة « كَلِمَةٍ » - بفتح الكاف وكسر اللام - وهو الأصل ، وقرأ أبو السَّمَّال « كِلْمَةٍ » بوزن سدرة و « كَلْمَةٍ » كَضَرْبَة وتقدم هذا قريباً .
وكلمة مفسَّرة بما بعدها - من قوله : « ألاّ نَعْبُدَ إلاَّ الله » - فالمرادُ بها كَلاَمٌ كَثِيرٌ ، وهَذا مِنْ بَابَ إطلاق الجزء والمراد به الكل ، ومنه تسميتهم القصيدة جميعاً قافيةً - والقافية جزء منها قال : [ الوافر ]
1496- أعَلِّمُهُ الرِّمَايَةَ كُلَّ يَوْمٍ ... فَلَمَّا اشتدَّ سَاعِدُهُ رَمَانِي
وَكَمْ عَلَّمُْهُ نَظْمَ الْقَوَافِي ... فَلَمَّا قَالَ قَافِيَةً هَجَانِي
ويقولون كلمة الشهادة - يعنون : لا إله إلا الله ، مُحَمدٌ رَسُولُ اللهِ - وقال صلى الله عليه وسلم : « أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالهَا شاعرٌ كلمة لبِيدٍ » .
يريد : [ الطويل ]
1497- ألا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلُ ... وَكُلُّ نَعِيمٍ - لا مَحَالَةَ - زَائِلُ
وهذا كما يسمون الشيء بجزئه في الأعيان ، لأنه المقصود منه ، قالوا لرئيس القوم - وهو الذي ينظر لهم ما يحتاجون إليه- : عَيْن ، فأطلقوا عليه « عيناً » .
وقال بعضهم : وُضِعَ المفردُ موضعَ الجمع ، كما قال : [ الطويل ]
1498- بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى ، فَأمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ ، وَأمَّا جِلدُهَا فَصَلِيبُ
وقيل : أطلقت الكلمة على الكلمات؛ لارتباط بعضها ببعضٍ ، فصارت في قوة الكلمة الواحدة - إذا اخْتلَّ جُزْءٌ منها اختلت الكلمةُ؛ لأن كلمة التوحيد - لا إله إلا الله - هي كلماتٌ لا تتم النسبة المقصودة فيها من حصر الإلهية في « الله » إلا بمجموعها .
وقرأ العامة « سَوَاءٍ » بالجر؛ نعتاً لِ « كَلِمَةٍ » بمعنى عَدْلٍ ، ويدل عليه قراءة عبد الله : إلى كلمة عدل ، وهذا تفسير لا قراءة .
وسواء في الأصل - مصدر ، ففي الوصف التأويلات الثلاثة المعروفة ، ولذلك لم يُؤنث كما لم تؤنث ب « امرأة عدل » ؛ لأن المصادر لا تُثَنَّى ، ولا تُجْمَع ، ولا تُؤنَّثُ ، فإذا فتحت السين مَدَدْتَ ، وإذا كسرتَ أو ضممت قصرت ، كقوله : { مكَانًا سُوًى } [ طه : 58 ] .
وقرأ الحسن « سَوَاءٌ » بالنصب ، وفيها وجهان :
أحدهما : نصبها على المصدر .
قال الزمخشريُّ : « بمعنى : اسْتَوْتِ اسْتِوَاءً » ، وكذا الحوفيّ .
والثاني : أنه منصوب على الحال ، وجاءت الحالُ من النكرةِ ، وقد نصَّ عليه سيبويه .
قال أبو حيّان : « ولكن المشهور غيره ، والذي حسَّن مجيئَها من النكرة - هنا - كونُ الوَصْفِ بالمصدر على خلاف الأصل ، و الصفة والحال متلاقيان من حيث المعنى » .
وكأن أبا حيان غض من تخريج الزمخشريِّ و الحوفيّ ، فقال : « والحال والصفة متلاقيان من حيثُ المعنى ، والمصدر يحتاج إلى إضمار عاملٍ ، وإلى تأويل » سواء « بمعنى استواء » .
والأشهر استعمال « سَوَاء » بمعنى اسم الفاعل - أي : مُسْتوٍ .
قال شهاب الدين : « وبذلك فسَّرها ابن عباس ، فقال : إلى كَلِمَةٍ مُسْتَوِيَةٍ » .
قوله : { أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله } فيه ستة أوجهٍ :
أحدها : أنه بدل من « كَلِمةٍ » - بدل كل من كل .
الثاني : بدل من « سَوَاء » جوزه أبو البقاء؛ وليس بواضح ، لأن المقصود إنما هو الموصوف لا صفته فنسبة البدلية إلى الموصوف أوْلَى ، وعلى الوجهين ف « أنْ » وما في حَيِّزها في محل جَرٍّ .
الثالث : أنه في محل رَفْع؛ خبراً لمبتدأ مُضْمَرٍ ، والجملة استئناف ، جواب لسؤال مقدَّر ، كأنه لما قيل : { تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ } قال قائل : ما هي؟ فقيل : هي أن لا نعبد إلا الله ، وعلى هذا الأوجه الثلاثة ف « بَيْنَ » منصوب ب « سَوَاءٍ » ظرفاً له ، أي : يقع الاستواء في هذه الجهة .
وقد صرَّح بذلك [ الشاعر ] ، حيث قال : [ الوافر ]
1499- أرُونِي خُطَّةً لا عَيبَ فيهَا ... يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيهَا السَّوَاءُ
والوقف التام - حينئذ - عند قوله : { مِّن دُونِ الله } ؛ لارتباط الكلام معنًى وإعراباً .
الرابع : أن يكون « أنْ » وما في حَيِّزها في محل رفع بالابتداء ، والخبرُ : الظرفُ قبله .
الخامس : جوَّز ابو البقاء أن يكون فاعلاً بالظرف قبله ، وهذا إنما يتأتَّى على رأي الأخفش؛ إذا لم يعتمد الظرفُ .
وحينئذ يكون الوقف على « سَوَاءٍ » ثم يبتدأ بقوله : { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله } وهذا فيه بُعْدٌ من حيثُ المعنى ، ثم إنهم جعلوا هذه الجملة صفة ل « كَلِمةٍ » ، وهذا غلط؛ لعدم رابطة بين الصفة والموصوف ، وتقدير العائد ليس بالسهل .
وعلى هذا فَقوْل أبي البقاء : وقيل : تم الكلامُ على « سَوَاءٍ » ، ثم استأنف ، فقال : { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ } ، أي : بيننا وبينكم التوحيد ، فعلى هذا يكون { أَلاَّ نَعْبُدَ } مبتدأ ، والظرف خبره ، والجملة صفة ل « الكلمة » ، غير واضح؛ لأنه - من حيث جعلها صفة - كيف يحسن أن يقول : تم الكلام على « سَوَاءٍ » ثم استأنف؟ بل كان الصواب - على هذا الإعراب - أن تكون الجملة استئنافية - كما تقدم .
السادس : أن يكون : { أَلاَّ نَعْبُدَ } مرفوعاً بالفاعلية ب « سَوَاءٍ » ، وإلى هذا ذَهَب الرُّمَّانِيُّ؛ فإن التقدير - عنده - إلى كلمة مستوٍ فيها بيننا وبينكم عدم عبادةُ غيرِ الله تعالى :
قال أبو حيّان : « إلا أن فيه إضمارَ الرابطِ - وهو فيها - وهو ضعيف » .
فصل
لما أوْرَد صلى الله عليه وسلم على نصارى نجران أنواعَ الدلائل ، دعاهم إلى الْمُبَاهَلَةِ فخافوا ، وما شرعوا فيها ، وقبلوا الصَّغَارَ بأداء الجزية ، وكان صلى الله عليه وسلم حريصاً على إيمانهم ، فكأنه - تعالى - قال : يا محمدُ ، اترك ذلك المنهجَ من الكلام ، واعدل [ إلى ] منهج آخرَ يشهد كلُّ ذي عقل سليم ، وطبع مستقيم أنه [ متين ] مبنيٌّ على الإنصاف وتَرْك الجدال « قل يا أهل الكتاب هلموا إلى كلمة سواءٍ » فيها إنصافٌ لبعضنا من بعض ، ولا ميل فيها لأحدٍ على صاحبه ، وهي : { أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } فهذا وَجْهُ النَّظم .
فصل
وفي المراد بأهل الكتاب ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المراد : نصىرَى نجرانَ .
الثاني : اليهود من المدينة .
الثالث : أنها نزلت في الفريقين ، ويدل على هذا وجهان :
الأول : أن ظاهر اللفظ يتناولهما .
الثاني : قال المفسّرون - في سبب النزولِ - : قدم وَفْد نجران المدينة ، فالتَقَوْا مع اليهود ، واختصموا في إبراهيم - عليه السلامُ - فزعمت النصارى أنه كان نَصْرانيًّا ، وأنه على دينهم ، وأنهم وهم على دينه وأوْلَى الناس به ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كِلاَ الْفَرِيْقَيْنِ بَرِيءٌ من إبْرَاهِيمَ وَدِيْنِهِ؛ كَانَ حَنيفاً مسلِماً ، وَأنَا عَلَى دِينِهِ فاتَّبِعُوا دِينَهُ الإسْلامَ » فقالت اليهودُ : يا محمدُ ، ما تريد إلا أن نتخذَك رَبًّا كما اتخذت النصارى عيسى ربًّا ، وقالت النصارى : يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ، كما قالت اليهود في عُزَيْرٍ ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قال ابن الخطيب : « وعندي أن الأقرب حَمْلُه على النصارى؛ لما بيَّنَّا في وجه النَّظْم أنه لما أورد - الدلالة عليهم أولاً ، ثم باهلهم ثانياً ، فعدل عن هذا المقام إلى الكلام المبني على غاية الإنصاف ، وترك المجادلةِ ، وطلبِ الإقْحام والإلزام ، ويدل عليه أنه خاطَبَهُم - هنا - بقوله : { ياأهل الكتاب } ، وهذا الاسم من أحسن الأسماء ، وأكمل الألقاب؛ حيث جعلهم أهلاً للكتاب ، ونظيره ما يقال لحافظ القرآن : حَامِلَ كتاب الله العزيز ، وللمفسِّر يا مُفَسِّرَ كلام اللهِ ، فإن هذا اللقبَ يدل على أن قائله أراد المبالغة في تعظيم المخاطَب ، وتَطْييب قَلْبِه ، وذلك إنما يُقال عند عدول الإنسانِ مع خَصْمه عن طريقة اللَّجَاج والنزاع إلى طريقة طلب الإنْصَافِ » .
قوله : { تَعَالَوْا } هَلُمُّوا { إلى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ } فيها إنصافٌ من بعضنا لبعض ، لا ميل فيه لأحد على صاحبه . والسواء : هو العَدْل والإنصاف؛ لأن حقيقةَ الإنصاف إعطاء النصف ، فإن الواجب في العقول ترك الظلم على النفس وعلى الغير ، وذلك لا يحصل إلا بإعطاء النصف؛ لكي يُسَوِّي بين نفسه وبين الغير . ثم إنه تعالى ذكر ثلاثةَ أشياءَ :
الأول : أن لا نعبدَ إلا اللهَ . الثاني : أن لا نُشْركَ به به شيْئاً .
الثالث : أن لا يتخذَ بعضُنا أرْباباً مِن دونِ اللهِ .
ودون - هذه - بمعنى : « غير » .
إنما ذكر هذه الثلاثة؛ لأن النصارَى جمعوا بينها ، فعبدوا غيرَ الله - وهو المسيح - وأشركوا بالله غيره؛ لأنهم يقولون : إنه ثلاثة : أب وابن وروح القدس ، واتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله؛ لأنهم كانوا يطيعونهم في التحليل والتحريم ، وكانو يسجدون لهم ، ويطيعونهم في المعاصي ، قال تعالى : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } [ التوبة : 31 ] .
قال أبو مُسْلِم : ومذهبهم أن مَن صار كاملاً في الرياضة والمجاهدة ظهر فيه أثَرُ اللاهوت ، فيقدر على إحياء الموتَى ، وإبراء الأكْمَهِ والأبْرَصِ ، فإنهم - وإن لم يُطْلقوا عليه لفظ « الرَّبِّ » - أثبتوا في حقه معنى الربوبية ، وهذه الأقوال الثلاثة باطلة .
أما الأول : فإن قبل المسيح ما كان المعبود إلا الله ، فوجب أن يَبْقَى الأمر بعد ظهور المسيح على ما كان .
الثاني : والقول بالشرك باطل باتفاق الكُلِّ .
والثالث : - أيضاً باطل-؛ لأنه إذا كان الخالق والرازق والمُنْعِم - بجميع النعم - هو الله وجب أن لا يرجع في التحليل ، والتحريم ، والانقياد ، والطاعة إلا إليه ، - دون الأحْبار والرُّهبان .
وقوله : { وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } قال القرطبي : معنى قوله : { وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } أي لا نتبعه في تحليل شيء أو تحريمه ، إلا فيما حلَّلَه الله - تعالى - وهو نظير قوله تعالى : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } [ التوبة : 31 ] أي : أنزلوهم منزلةَ ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لِما لم يحرمْه الله ولم يحللْه ، وهذا يدل على بُطْلان القول بالاستحسان المجردِ الذي لا يستند إلى دليلٍ شرعيٍّ .
قال إلكيا الطبريُّ : « مثل [ استحسانات ] أبي حنيفة في التقديرات التي قدرها دون [ مستندات بينة ] » .
قال عكرمةُ : « هو سجودُ بعضهم لبعض » ، أي : لا نسجد لغير الله ، وكان السجود إلى زمان نبينا عليه السلامُ - ثم نُهِيَ عنه .
وروى ابن ماجه - في سننه - عن أنس ، قال : « قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ، أيَنحَنِي بَعْضُنَا لِبَعْضٍ؟ قال : » لاَ « ، قُلْنَا : أيُعَانِقُ بَعْضُنَا بَعْضاً؟ قَالَ : » لا ، وَلَكِنْ تَصَافَحُوا « .
وقيل : لا نطيع أحداً في معصية الله .
قوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ } .
قال أبو البقاء : هو ماضٍ ، ولا يجوز أن يكون التقدير : » فإن تتولوا « لفساد المعنى؛ لأن قوله : { فَقُولُواْ اشهدوا } خطاب للمؤمنين ، و » يَتولّوا « للمشركين وعند ذلك لا يبقى في الكلام جوابُ الشرط ، والتقدير : فقولوا لهم وهذا ظاهر .
والمعنى : إن أبَوْا إلا الإصرارَ فقولوا لهم : اشْهَدُوا بأنا مسلمون [ مخلصون بالتوحيد ] .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)
قوله : { لِمَ تُحَآجُّونَ } هي « ما » الاستفهامية ، دخل عليها حرف الجر ، فحُذِفَت ألفُها وتقدم ذلك في البقرة ، واللام متعلقة بما بعدها ، وتقديمها على عاملها واجب؛ لجرها ما له صَدْرُ الكلام .
قوله : { في إِبْرَاهِيمَ } لا بد من مضافٍ محذوفٍ ، أي : في دين إبراهيم وشريعته؛ لأن الذوات لا مجادلة فيها .
قوله : { وَمَآ أُنزِلَتِ التوراة } الظاهر أن الواو للحال ، كهي في قوله : { لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } [ آل عمران : 70 ] .
أي كيف تحاجون في شريعته والحال أن التوراة والإنجيل متأخران عنه؟
وجوزوا أن تكون عاطفة ، وليس بالبيِّن ، وهذا الاستفهام للإنكار والتعجُّب ، وقوله : { إِلاَّ مِن بَعْدِهِ } متعلق ب « أنزلت » ، وهو استثناء مفرَّغ .
فصل
اعلم أن اليهود كانوا يقولون : إن إبراهيم كان على ديننا ، والنصارى كانوا يقولون : إن إبراهيم كان على ديننا ، فقيل لهم : كيف تقولون ذلك والتوراة والإنجيل إنما نَزَلاَ من بعده بزمان طويلٍ؟ كان بين إبراهيم وبين موسى ألف سنةٍ ، وبين موسى وعيسى ألف سنةٍ ، فكيف يُعْقَل أنْ يكون يهوديًّا أو نصرانياً؟
فإن قيل : فهذا - أيضاً - لازم عليكم؛ لأنكم تقولون : إن إبراهيم على دين الإسلام ، والإسلام إنما نزل بعده بزمان طويلٍ ، فإن قلتم : المراد أن إبراهيم كان في أصول الدين على مذهب المسلمين الآن ، فنقول لهم : لِمَ لا يجوز - أيضاً - أن يقول اليهود : إن إبراهيم كان يهوديًّا بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه اليهود ، وتقول النصارى : إن إبراهيم كان نصرانياً بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه النصارى؟ فكون التوراة والإنجيل نازلين بعد إبراهيم لا ينافي كونه يهودياً أو نصرانياً ، كما أن كون القرآن نازلاً بعده لا ينافي كونه مسلماً .
فالجواب : أن القرآن أخبر أن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً ، وليس في التوراة والإنجيل أن إبراهيم كان يهودياً ، أو نصرانياً ، فظهر الفرق .
ثم نقول : أما كون النصارى ليسوا على ملة إبراهيمَ فظاهر؛ لأن المسيح ما كان موجوداً في زمان إبراهيمَ فما كانت عبادته مشروعة في زمان إبراهيم - لا محالة - فكان الاشتغال بعبادة المسيح مخالفة لإبراهيم - لا محالة - وأما كون اليهدود ليسوا على ملة إبراهيم ، فلا شك أنه كان لله - تعالى - تكاليف على الخلق قبل مجيء موسى عليه السلام وكان قبله أنبياء ، وكانت لهم شرائعُ معيَّنة ، فلما جاء موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم ، فإما أن يقال : إنّ موسَى جاء بتقرير تلك الشرائع ، أو بغيرها ، فإن جاء بتقريرها لم يكن موسَى صاحب الشريعةِ ، بل كان كالفقيه المقرِّر لشرعِ مَنْ قبله ، واليهود لا يرضَوْن بذلك .
وإذا كان جاء بشرع سوى شرع مَنْ تقدمه فقد قال بالنسخ ، فثبت أنه لا بد وأن يكون دين كُلِّ الأنبياء جواز القول بالنسخ ، وأن النسخ حق - واليهود يُنْكرون ذلك ، فثبت أن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم ، فظهر بُطْلانُ قولِ اليهود .

هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
القراء في هذه على أربع مراتِبَ ، والإعراب متوقِّفٌ على ذلك :
المرتبة الأولى للكوفيين وابن عامر والبَزِّي عن ابن كثير : ها أنتم - بألف بعد الهاء ، وهمزة مخففة بعدها .
المرتبة الثانية لأبي عمرو وقالون عن نافع : بألف بعد الهاء ، وهمزة مسهَّلَة بين بين بعدها .
المرتبة الثالثة لورش ، وله وجهانِ :
أحدهما : بهمزة مسهلة بين بين بعد الهاء دون ألف بينهما .
الثاني : بألفٍ صريحةٍ بعد الهاء بغير همزة بالكلية .
المرتبة الرابعة لقُنْبُل بهمزة مُخَفَّفَة بعد الهاء دون ألف .
فصل
اختلف الناسُ في هذه الهاء : فمنهم من قال : إنها « ها » التي للتنبيه الداخلة على أسماء الإشارة ، وقد كثر الفصلُ بينها وبين أسماء الإشارةِ بالضمائر المرفوعة المنفصلة ، نحو : ها أنت ذا قائماً ، وها نحن ، وها هم ، وهؤلاء ، وقد تُعادُ مع الإشارة بعد دخولها على الضمائرِ؛ توكيداً ، كهذه الآية ، ويقل الفصل بغير ذلك كقوله : [ البسيط ]
1500- تَعَلَّمَنْ هَا - لَعَمْرُ اللهِ - ذَا قَسَماً ... فَاقْدِرْ بِذَرْعِكَ وَانْظُرْ أيْنَ تَنْسَلِكُ
وقول النابغة : [ البسيط ]
1501- هَا - إنَّ - ذِي عِذْرَةٌ إنْ لا تَكُنْ قُبِلَتْ ... فَإِنَّ صَاحِبَهَا قَدْ تَاهَ في الْبَلَدِ
ومنهم من قال : إنها مُبْدَلَةٌ من همزة الاستفهام ، والأصل : أأنتم؟ وهو استفهام إنكار ، وقد كثر إبدال الهمزة هاء - وإن لم ينقس - قالوا هَرَقْتُ ، وهَرَحْتُ ، وهَنَرتُ ، وهذا قول أبي عمرو بن العلاء ، وأبي الحسن الأخفش ، وجماعة ، وأستحسنه أبو جعفر ، وفيه نظرٌ؛ من حيث إنه لم يثبُت ذلك في همزة الاستفهام ، لم يُسْمَع : هَتَضْرِبُ زَيْداً - بمعنى أتَضْرِبُ زيداً؟ وإذا لم يثبت ذلك فكيف يُحْمَلُ هذا عليه؟
هذا معنى ما اعترض به أبو حيان على هؤلاء الأئمةِ ، وإذا ثبت إبدال الهمزة هاءٌ هان الأمر ، ولا نظر إلى كونها همزةَ استفهام ، ولا غيرها ، وهذا - أعني كونها همزة استفهام أبْدِلت هاءً - ظاهر قراءة قُنْبُلٍ ، وورش؛ لأنهما لا يُدْخِلان ألفاً بين الهاء وهمزة « أنتم » ؛ لأن إدخال الألف لما كان لاستثقال توالي همزتين ، فلما أبدلت الهمزة هاء زال الثقل لفظاً؛ فلم يُحتَج إلى فاصلةٍ ، وقد جاء إبدال همزة الاستفهام ألفاً في قول الشاعر : [ الكامل ]
1502- وَأتَتْ صَوَاحِبَهَا ، وَقُلْنَ هَذَا الَّذِي ... مَنَحَ الْمَوَدَّةَ غَيْرَنَا وَجَفَانَا
يريد أذا الذي؟
ويضعف جعلها - على قراءتهما - « ها » التي للتنبيه؛ لأنه لم يُحْفَظ حَذْفُ ألِفِها ، لا يقال : هَذَا زيد - بحذف ألف « ها » - كذا قيل .
قال شهاب الدّينِ : « وقد حذفها ابنُ عامر في ثلاثة مواضع - إلا أنه ضم الهاء الباقية بعد حذف الألف - فقرأ - في الوصل - : { ياأيها الساحر } [ الزخرف : 49 ] و { وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَا المؤمنون }
[ النور : 31 ] ، و { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان } [ الرحمن : 31 ] ، ولكن إنما فعل ذلك اتباعاً للرسم؛ لأن الألفَ حُذِفَتْ في مرسوم مصحف الشام في هذه الثلاثة ، وعلى الجملة فقد ثبت حذف ألف « ها » التي للتنبيه . وأمَّا من أثبت الألف بَيْن الهاء وبين همزة « أنتم » فالظاهر أنها للتنبيه ، ويضعف أن تكون بدلاً من همزة الاستفهام؛ لما تقدم من أن الألف إنما تدخل لأجل الثقل ، والثقل قد زال بإبدال الهمزة هاء ، وقال بعضهم : الذي يقتضيه النظر أن تكون « ها » - في قراءة الكوفيين والبَزِّيّ وابن ذكوان - ، للتنبيه؛ لأن الألف في قراءتهم ثابتة ، وليس من مذهبهم أن يفصلوا بين الهمزتين بألف ، وأن تكون في قراءة قُنْبُل وورش - مُبْدَلَة من همزة؛ لأن قُنْبُلاً يقرأ بهمزة بعد الهاء ، ولو كانت « ها » للتنبيه لأتى بألف بعد الهاء ، وإنما لم يُسهِّل الهمزة - كما سَهَّلَها في { أَأَنذَرْتَهُمْ } ونحوه لأن إبدال الأولى هاء أغناه عن ذلك ، ولأن ورشاً فعل فيه ما فعل في : { أَأَنذَرْتَهُمْ } ونحوه من تسهيل الهمزة ، وترك إدخال الألفِ ، وكان الوجه في قراءته بالألف - أيضاً - الحمل على البدل كالوجه الثاني في { أَأَنذَرْتَهُمْ } ونحوه .
وما عدا هؤلاء المذكورين - وهم أبو عمرو وهشام وقالون - يحتمل أن تكون « ها » للتنبيه ، وأن تكون بدلاً من همزة الاستفهام .
أما الوجه الأول فلأن « ها » التنبيه دخلت على « أنتم » فحَقَّق هشام الهمزة كما حققها في « هؤلاء » ونحوها ، وَخَفَّفَهَا قالون وأبو عمرو؛ لتوسُّطِها بدخول حرف التنبيه عليها ، وتخفيف الهمزة المتوسطة قَوِيٌّ .
الوجهُ الثاني : أن تكونَ الهاءُ بدلاً من همزة الاستفهام؛ لأنهم يَفْصِلُون بين الهمزتين بألفٍ ، فيكون أبو عمرو وقالون على أصلهما - في إدخال الألف والتسهيل - وهشام على أصله - في إدخال الألف والتحقيق - ولم يُقْرَأ بالوجه الثاني - وهو التسهيل - لأن إبدال الهمزة الأولى هاءً مُغْنٍ عن ذلك .
وقال آخرون : إنه يجوز أن تكون « ها » - في قراءة الجميع - مُبْدَلَةً من همزة ، وأن تكون التي للتنبيه دخلت على « أنتم » ذكر ذلك ابو علي الفارسي والمَهْدَوِي ومَكِيّ في آخرين .
فأما احتمال هذين الوجهين - في قراءة أبي عمرو وقالون عن نافع ، وهشام عن ابن عامر- فقد تقدم توجيهه ، وأما احتمالهما في قراءة غيرهم ، فأما الكوفيون والبَزِّيُّ وابنُ ذكوان فقد تقدم توجيه كون « ها » - عندهم - للتنبيه ، وأما توجيه كونها بدلاً من الهمزة - عندهم - أن يكون الأصل أنه أأنتم ، ففصلوا بالألف - على لغة مَنْ قال : [ الطويل ]
1503- .. أأنتِ أمْ أمُّ سَالِمِ
ولم يعبئوا بإبدال الهمزة الأولى هاءً؛ لكَوْن البدَلِ فيها عارضاً ، وهؤلاء ، وإن لم يكن من مذهبهم الفصل لكنهم جمعوا بين اللغتين .
وأما توجيه كونها بدلاً من الهمزة - في قراءة قُنْبُلٍ وورشٍ - فقد تقدم ، وأما توجيه كونها للتنبيه في قراءتهما - وإن لم يكن فيها ألف - أن تكون الألف حُذِفَتْ لكثرة الاستعمال ، وعلى قول مَنْ أبدل كورشٍ حذفت إحدى الألفين؛ لالتقاء الساكنين .
قال أبو شَامَةَ : الأوْلَى في هذه الكلمة - على جميع القراءات فيها - أن تكون « ها » للتنبيه؛ لأنا إن جعلناها بدلاً من همزةٍ كانت الهمزةُ همزةَ استفهامٍ ، و { هاأنتم } أينما جاءت في القرآن إنما جاءت للخبر ، لا للاستفهام ، ولا مانع من ذلك إلا تسهيلُ مَنْ سَهَّل ، وحَذْفُ مَنْ حذف ، أما التسهيل فقد سبق تشبيهه بقوله : { لأَعْنَتَكُمْ } [ البقرة : 220 ] وشبهه ، وأما الحذف فنقول : « ها » مثل « أما » - كلاهما حرف تنبيه - وقد ثبت جواز حذف ألف « أما » فكذا حذف ألف « ها » وعلى ذلك قولهم : أمَ واللهِ لأفْعَلَنَّ .
وقد حمل البصريون قولهم : « هَلُمَّ » على أن الأصل « هَالُمَّ » ، ثم حذف الف « ها » فكذا { هاأنتم } . وهو كلام حَسَنٌ ، إلا أنَّ قوله : إن { هاأنتم } - حيث جاءت - كانت خبراً ، لا استفهاماً ممنوع ، بل يجوز ذلك ، ويجوز الاستفهام ، انتهى .
ذكر الفرّاءُ أيضاً - هنا - بحثاً بالنسبة إلى القصر والمد ، فقال : من أثبت الألفَ في « ها » ، واعتقدها للتنبيه ، وكان مذهبُه أن يقصر في المنفصل ، فقياسه هنا قَصْر الألف سواء حقَّق الهمزة ، أو سهلها ، وأمّا من جعلها للتنبيه ، ومذهبه المد في المنفصل ، أو جعل الهاء مبدلة من همزة استفهام - فقياسه أن يمد - سواء حقق الهمزة أو سهلها- .
وأما ورش فقد تقدم عنه وجهان : إبدال الهمزة - من « أنتم » - ألفاً ، وتسهيلها بَيْن بَيْنَ ، فإذا أبدل مَدَّ ، وإذا سهَّل قَصَر ، إذا عُرِف هذا ففي إعراب هذه الآيةِ أوجُهٌ :
أحدها : أنَّ « أنتم » مبتدأ ، و « هَؤُلاَءِ » خبره ، والجملة من قوله : { حَاجَجْتُمْ } في محل نصب على الحال يدل على ذلك تصريحُ العَرَب بإيقاع الحال موقعها - في قولهم : ها أنا ذا قائماً ، ثم هذه الحال عندهم - من الأحوال اللازمة ، التي لا يَسْتَغْنِي الكلامُ عَنْها .
الثالث : أن يكون { هاأنتم هؤلااء } على ما تقدم - أيضاً - ولكن هَؤلاءِ هنا موصول ، لا يتم إلا بصلةٍ وعائدٍ ، وهما الجملة من قوله : { حَاجَجْتُمْ } ، ذكره الزمخشريُّ .
وهذا إنما يتجه عند الكوفيين ، تقديره : ها أنتم الذين حاججتم .
الرابع : أن يكون « أنْتُمْ » مبتدأ ، و « حَاجَجْتُمْ » خبره ، و « هؤلاء » منادًى ، وهذا إنما يتَّجِه عند الكوفيين أيضاً؛ لأن حرفَ النداء لا يُحْذَف من أسماء الإشارة ، وأجازه الكوفيون وأنشدوا : [ البسيط ]
1504- إنَّ الأولَى وَصَفُوا قَوْمِي لَهُمْ فَبِهِمْ ... هَذَا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَنْ عَادَاكَ مَخْذُولا
يريد يا هذا اعتصم ، وقول الآخر : [ الخفيف ]
1505- لا يَغُرًَّنَّكُمْ أولاَءِ مِنَ الْقَوْ ... مِ جُنُوحٌ لِلسِّلْمِ فَهْوَ خِدَاعُ
يريد : يا أولاء .
الخامس : أن يكون « هَؤلاءِ » منصوباً على الاختصاص بإضمار فعل . و « أنتُمْ » مبتدأ ، و « حَاجَجْتُمْ » خبره ، وجملة الاختصاص مُعْتَرِضَةٌ .
السادس : أن يكون على حذف مضافٍ ، تقديره : ها أنتم مثل هؤلاء ، وتكون الجملة بعدَها مُبَيِّنَةٌ لوجه الشبه ، أو حالاً .
السابع : أن يكون « أنْتُمْ » خبراص مقدماً ، و « هَؤلاءِ » مبتدأ مؤخراً .
وهذه الأوجهُ السبعةُ قد تقدم ذكرُها ، وذكرُ من نسبت إليه والردُّ على بعض القائلين ببعضها ، بما يغني عند إعادته في سورة البقرةِ عند قوله تعالى : { ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ } [ البقرة : 85 ] فليلتفت إليه .
قوله : { فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } « ما » يجوز أن تكون معنى « الذي » وأن تكونَ نكرةً موصوفةً .
ولا يجوز أن تكون مصدرية؛ لعود الضمير عليها ، وهي حرف عند الجمهور ، و « لَكُمْ » يجوز أن يكون خبراً مقدماً ، و « عِلمٌ » مبتدأ مؤخراً ، والجملة صلة لِ « ما » أو صفة ، ويجوز أن يكون لكم وحده صلة ، أو صفة ، و « عِلْمٌ » فاعلٌ به؛ لأنه قد اعتمد ، و « بِهِ » متعلق بمحذوف؛ لأنه حال من « عِلْمٌ » إذ لو تأخَّر عنه لصَحَّ جَعْلُه نعتاً له ، ولا يجوز أن يتعلق ب « عِلمٌ » لأنه مصدر ، والمصدر لا يتقدم معموله عليه ، فإن جعلته متعلِّقاً بمحذوف يفسِّره المصدرُ جاز ذلك ، وسُمي بياناً .
فصل
وأما المعنى فقال قتادةُ والسُّدِّيُّ والربيعُ وغيرُهم : إن الذي لهم به علم هو دينُهم وجدوه في كتبهم ، وثبتَتْ صحتُه لديهم ، والذي ليس لهم به علم هو شريعةُ إبراهيمَ ، وما عليه مما ليس في كتبهم ، ولا جاءت به إليهم رُسُلُهُمْ ، ولا كانوا مُعَاصِرِيه ، فيعلمون دينَه ، فجدالهم فيه مجرَّد عِنَادٍ ومُكَابَرة .
قيل : الذي لهم به علم هو أمر نبيِّنا صلى الله عليه وسلم لأنه موجود عندهم في كُتُبِهم بنعته ، والذي ليس به علمٌ هو أمر إبراهيم - عليه السلام- .
قال الزمخشريُّ : « يعني أنتم هؤلاء الأشخاص الحَمْقَى ، وبيان حماقتكم ، أنكم جادلتم فيما لكم به علم ومما نطق به التوراة والإنجيل ، { فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } ولا نطق به كِتَأبُكُمْ من إبراهيمَ » .
فصل
اعلم أنهم زعموا أن شريعةَ التوراةِ والإنجيل مخالِفَةٌ لشريعة القرآن ، وهو المراد بقوله { حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } ثم قال : { فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } وهو ادِّعاؤكم أن شريعةَ إبراهيمَ كانت مخالفةً لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وقد تقدم أقوال العلماء فيه ثم يُحْتَمَل في قوله : { هاأنتم هؤلااء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } فكيف تحاجُّونه فيما لا علم لكم به ألبتة؟ ثم حقَّق ذلك بقوله : { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } كيفية تلك الأحوال من المخالفةِ والموافقةِ ، ثم ذكر - تعالى - ذلك مفَصَّلاً ، مُبَيَّناً ، فقال : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً } فكذَّبهم فيما ادَّعَوْه - من موافقته لهما - بَدْأً باليهود؛ لأن شريعتهم أقدم وكرر « لا » - في قوله : { وَلاَ نَصْرَانِيّاً } - توكيداً ، وبياناً أنه كان منفيًّا عن كل واحد من الدينين على حدته .
قال القرطبيُّ : « دلَّت الآيةُ على المنع من جدال مَنْ لا علم له ، وقد ورد الأمر بالجدال لمن علم وأتقن ، قال تعالى : { وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاه رجل وولده ، فقال : يا رسولَ الله ، إنَّ امرأتي وَلَدَتْ غُلاماً أسْوَدَ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ « ؟ قال : نَعَمْ ، قَالَ : » فَمَا ألْوَانُهَا « ؟ قال : حُمْرٌ ، قال : » فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ « ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَال : » مِنْ أيْنَ أتَاهَا ذَلِكَ « ؟ قَالَ : لَعَلَّ عِرْقاً نزَعَه ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : » وَهَذَا الغَلامُ لَعَلَّ عِرْقاً نَزَعَهُ « .
وهذه حقيقة الجدال ، والنهاية في تبيين الاستدلال من رسول الله صلى الله عليه وسلم » .
قوله : { ولكن } استدراك لما كان عليه ، ووقعت - هنا - أحسن موقع؛ إذْ هي بين نَقِيضَيْن بالنسبة إلى اعتقادِ الحقِّ والباطلِ .
ولما كان الخطاب مع اليهود والنصارَى أتى بجُمْلة تنفي أخْرَى؛ ليدل على أنه لم يكن على دين أحد من المشركين ، كالعرب عَبَدَةِ الأوثان ، والمجوس عَبَدَةِ النار ، والصابئةِ عَبَدَةِ الكواكبِ .
بهذا يطرحُ سؤالُ مَنْ قال : أيُّ فائدةٍ في قوله : { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } بعد قوله : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً } ؟ وأتى بخبر « كان » مجموعاً ، فقال : { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } بكونه فاصلةً ، ولولا مراعاة ذلك لكانَتِ المطابقةُ مطلوبةً بينه وبين ما استدرك عنه في قوله : { يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً } فيتناسب النفيان .
وقيل : قوله : { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } تعريض بكَوْن النصارى مشركين في قولهم بإلهية المسيح ، وكون اليهود مشركين في قولهم بالتشبيه .
والحنيفُ : المائل عن الأديان كلِّها إلى الدّينِ المُسْتَقِيمِ .
وقيل : الحنيفُ : الذي يُوَحِّد ، ويَحُد ، ويُضَحِّي ، ويَخْتَتِنُ ، ويَسْتَقِبِل القبلة وتقدم الكلام عليه في البقرة .
فإن قيل : قولكم : إبراهيم على دين الإسلام ، أتريدون به الموافقة في الأصول ، أو في الفروع؟
فإن كان الأول لم يكن هذا مختصًّا بدين الإسلام ، بل نقطع بأنّ إبراهيمَ أيضاً على دين اليهود - [ ذلك الدينَ الذي جاء به موسى - وكان أيضاً - نصرانياً ] أعني تلك النصرانية التي جاء بها عيسى - فإنَّ أديانَ الأنبياء كلَّها لا يجوز أن تكون مختلفة في الأصول ، وإن أردتم به الموافقةَ في الفروع لزم أن لا يكون محمد صلى الله عليه وسلم صاحب شرع ألبتة ، بل كان مقرِّراص لدين غيره ، وأيضاً فمن المعلوم بالضرورة أن التعبُّد بالقرآن ما كان موجوداً في زمان إبراهيمَ ، وتلاوة القرآن مشروعة في صلاتنا ، وغير مشروعة في صلاتهم .
فالجوابُ : أنه يجوز أن يكون المراد به الموافقة في الأصولِ والغرض منه بيانُ أنه ما كان موافقاً في أصول الدين لمذهب هؤلاء الذين هُمُ اليهود والنصارى في زماننا هذا .
ويجوز أن يقالَ : المراد به الموافقة في الفروع ، وذلك لأن اللهَ نسخ تلك الشرائعَ بشرع موسى ، ثم زمان محمد صلى الله عليه وسلم نسخ شرع موسى بتلك الشرائع التي كانت ثابتةً في زمان إبراهيم عليه السلامُ - وعلى هذا التقدير يكون - عليه السلامُ - صاحب الشريعة ، ثم لمَّا كان غالب شرع محمد صلى الله عليه وسلم موافقاً لشرع إبراهيم ، جاز إطلاق الموافقة عليه ، ولو وقعت المخالفةُ في القليل لم يقدَحْ ذلك في حصول الموافقة .
قوله : { إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ } ، « إبْراهِيم » متعلِّق به « أوْلَى » و « أوْلَى » أفعل تفضيل ، من الولي ، وهو القُرْب ، والمعنى : إنَّ أقْرَبَ الناسِ به ، وأخصهم ، فألفه منقلبة عن ياء ، لكون فائه واواً ، قال أبو البقاء : وألفه منقلبة عن ياء ، لأن فاءَه واوٌ ، فلا تكون لامه واواً؛ إذ ليس في الكلام ما فاؤه ولامه واوان إلا واو - يعني اسم حرف التهجِّي - كالوسط من قول - أو اسم حرف المعنى - كواو النسق - ولأهل التصريفِ خلاف في عينه ، هل هي واو - أيضاً - أو ياء .
{ لِّلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } خبر « إن » و { وهذا النبي } نَسَق على الموصول ، وكذلك : { والذين آمَنُواْ } ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون - رضي الله عنهم - وإن كانوا داخلين فيمن اتبع إبراهيمَ إلا أنهم خُصُّوا بالذِّكْر؛ تشريفاً ، وتكريماً ، فهو من باب قوله تعالى : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] .
حكى الزمخشريُّ أنه قُرِئَ : { وهذا النبي } - بالنصب والجر - فالنصب نَسَقاً على مفعول { اتَّبَعُوهُ } فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد اتَّبَعه غيرُه - كما اتبع إبراهيمَ - والتقدير : للذين اتبعوا إبراهيمَ وهذا النبيَّ ، ويكون قوله : { والذين آمَنُواْ } نَسًقاً على قوله : { لِّلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } .
والجر نَسَقاً على « إبْرَاهِيمَ » أي : إن أوْلَى الناسِ بإبراهيمَ وبهذا النبي ، لَلَّذِينَ اتَّبَعُوه ، وفيه نظرٌ من حيث إنه كان ينبغي أن يُثَنَّى الضميرُ في « اتَّبَعُوهُ » فيُقَال : اتبعوهما ، اللهم إلا أن يقال : هو من باب : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ، ثم قال : { والله وَلِيُّ المؤمنين } بالنصر والمعونةِ والتوفيقِ والإكرامِ
فصل
روى الكلبيُّ وابنُ إسحاقَ حديث هجرة الحبشة لما هاجر جعفر بن أبي طالب ، وأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة ، واستقرَّتْ بهم الدَّارُ ، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وكان من أمر بدر ما كان ، اجتمعت قريش في دارِ الندوةِ ، وقالوا : إن لنا في الذين عند النجاشي - من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - ثأراً ممن قُتِل منكم ببدر ، فاجمعوا مالاً ، وأهدوه إلى النجاشِيِّ؛ لعله يدفع إليكم مَنْ عنده من قَوْمِكُمْ ، ولْيُنْتَدَب لذلك رجلان من ذوي رَأيكم ، فبعثوا عمرو بنَ العاصِ ، وعمارة بن الوليد مع الهدايا ، فركِبا البحرَ ، وأتَيَا الحبشةَ ، فلما دَخَلاَ على النجاشيِّ سَجَدَا له ، وسلما عليه ، وقَالاَ له : إنَّ قومَنا لك ناصحون شاكرون ، ولصِلاَحِك مُحِبُّونَ ، وإنهم بعثونا لنحذّرك هؤلاءِ الذين قَدِموا عليك؛ لأنهم قومُ رجلٍ كَذَّابٍ ، خرج فينا يزعم أنه رسولُ اللهِ ، ولم يتابعه أحدٌ منا إلاَّ السُّفَهاءُ ، وإنا كنا ضيَّقْنَا عليهم الأمر ، وألجأناهم إلى شِعْبٍ بأرضِنَا ، لا يدخل عليهم أحدٌ ، ولا يخرجُ منهم أحدٌ ، حتى قتلهم الجوعُ والعطشُ ، فلمَّا اشتدَّ عليهم الأمرُ بعث إليك ابن عَمِّه ، ليُفْسِد عليك دِينَك ومُلْكَك ورَعِيَّتَك ، فاحْذَرْهُمْ ، وادْفَعْهم إلَيْنَا ، لنكفِيَكَهُمْ ، قالوا : وآية ذلك أنهم إذا دَخَلوا عليك لا يسجدون لك ، ولا يُحَيُّونَك بالتحية التي يُحَيِّيك بها الناسُ رغبةً عن دِينك وسُنَّتِكَ .
فدعاهم النجاشيُّ ، فلمَّا حضروا صاح جعفرُ بالباب : يستأذن عليك حزبُ اللهِ ، فقال النجاشيُّ : مروا هذا الصائحَ فلْيُعِدْ كلامَه ، ففعل جَعْفَرُ ، فقال النجاشيُّ : نعم ، فلْيَدْخُلُوا بأمان اللهِ وذمته ، فنظر عمرو بنُ العاصِ إلى صاحبه ، فقال : ألا تسمع؟ يرطنون ب « حِزْبِ اللهِ » وما أجابهم به النجاشي!!! فساءهما ذلك ، ثم دخلوا عليه ولم يَسْجُدُوا له ، فقال عمرو بن العاص ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك؟ فقال لهم النجاشِيُّ : ما منعكم أن تسجدوا لِي وتُحَيُّونِي بالتحية التي يحييني بها مَنْ أتاني من الآفاقِ؟ قالوا : نَسْجُد لله الذي خَلَقَكَ ومُلْكَك ، وإنما كانت تلك التحيةُ لنا ونحن نعبدُ الأصْنَام ، فبعث الله فينا نبيًّا صادقاً ، وأمرنا بالتحية التي رضيها اللهُ ، وهي السلامُ ، وتحية أهل الجنَّةِ ، فعرف النجاشيُّ أن ذلك حَقٌّ ، وأنه في التوراة والإنجيل ، فقال : أيكم الهاتف : يستأذنُ عليك حِزْبُ الله؟ قال جَعْفَر : أنا ، قال : فتكلم ، قال : إنك مَلِك من ملوك أهل الأرض ، ومن أهل الكتاب ، ولا يصلح عندَك كثرةُ الكلامِ ، ولا الظلمُ ، وأنا أحب أن أجيبَ عن أصحابي ، فمر هذين الرجلين ، فلْيَتَكَلَّمْ أحدُهما ، وليُنْصِت الآخرُ ، فيسمع محاورتنا ، فقال عَمْرو لجعفر : تَكَلَّمْ ، فقال جعفر للنجاشيُّ : سل هذين الرجلين أعَبيدٌ نحن أم أحرارٌ؟ فإن كنا عبيداً أبَقْنَا من أرْبَابِنا فاردُدْنا إليهم ، فقال النجاشيُّ : أعبيدٌ هم أم أحرار؟ فقال لا ، بل أحرارٌ كرام ، فقال النجاشيُّ : نَجَوْا من العبوديَّةِ ، ثم قال جعفرُ : سَلْهَُمَا هل لهم فينا دماء بغير حق ، فيقتصّ منا؟ فقال عمرو : لا ، ولا قطرة .
قال جعفر : سَلْهُمَا ، هل أخذنا أموالَ الناسِ بغير حق ، فعلينا قضاؤها - قال النجاشيُّ : إن كان قنطاراً فعلي قضاؤه - فقال عمرو : لا ، ولا قيراط ، فقال النجاشيُّ : فما تطلبون منهم؟ قال عمرو كنا وهم على دينٍ واحدٍ - دين آبائِنا - فتركوا ذلك ، واتَّبَعُوا غيره ، فَبَعَثَنَا إليك قومنا لتدفعهم إلينا ، فقال النجاشيُّ : ما هذا الدينُ الذي كنتم عليه ، الدين الذي اتبعتموه؟
قال : أما الدينُ الذي كنا عليه فتركناه فهو دينُ الشيطانِ ، كنا نكفر بالله ، ونعبد الحجارة ، وأما الدين الذي تحوَّلنا إليه فدينُ الله الإسلامُ ، جاءنا به من الله رسولٌ ، وكتاب مثل كتاب ابن مريم ، موافِقاً له .
فقال النجاشيُّ : يا جعفر ، تكلمت بأمر عظيم ، فعلى رِسْلِك ، ثم أمر النجاشيُّ ، فضُرِب بالنَّاقوس ، قد اجتمع إليه كُلُّ قِسِّيسٍ ورَاهبٍ ، فلما اجتمعوا عنده ، قال النجاشيُّ : أنشدكم اله الذي أنزل الإنجيل على عيسى ، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيًّا مُرسَلاً؟ فقالوا : اللهم نَعَمْ ، قد بشرنا به عيسَى ، وقال : مَنْ آمن به فقد آمن بي ، ومن كَفَر به فقد كفر بي .
قال النجاشيُّ لجعفَرَ : ماذا يقول لكم هذا الرجلُ؟ وما يأمركم به ، وما ينهاكم عنه؟ قال : يقرأ علينا [ كتاب الله ] ، ويأمرنا بالمعروف ، وينهانا عن المنكر ، ويأمر بحُسْنِ الجوار ، وصلة الرَّحِم ، وبِرِّ اليتيم ، وأمرنا أن لا نعبد إلا اللهَ وحدَه لا شريك له ، فقال : اقرأ عليَّ مما يقرأ عليكم ، فقرأ سورتي العنكبوت والرُّوم ، ففاضت عينا النجاشيِّ وأصحابه من الدّمع ، وقالوا : زِدْنَا يا جعفرُ من هذا الحديثِ الطيبِ ، فقرأ عليهم سورة الكهف ، فأراد عمرو أن يُغْضِبَ النجاشِيّ ، فقال : إنهم يشتمون عيسى ابن مريمَ وأمَّه ، فقال النجاشِيُّ : ما تقولون في عيسى وأمِّه ، فقرأ عليهم جعفر سورة « مريم » ، فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشِيُّ نُفَاثَةً من سواكه قَدْرَ ما يُقْذِي العَيْنَ قال : والله ما زادَ المسيحُ على قول هذا ، ثم أقبل على جعفرَ وأصحابه ، فقال : اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي ، آمنون ، مَنْ سَبَّكُمْ وآذاكم غَرِم ، ثم قال : أبشروا ، ولا تخافوا ، فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيمَ ، قال عمرو : يا نجاشيُّ ، ومَنْ حِزْبَ إبراهيم؟ قال : هؤلاء الرهط وصاحبُهم الذي جاءوا من عنده ومَن اتبعهم ، فأنكر ذلك المشركون ، وادَّعَوْا في دين إبراهيمَ ، ثم رَدَّ النجاشيُّ على عمرو وصاحبه المالَ الذي حملوه ، وقال : إنما هديَّتُكم إليّ رشْوَة ، فاقبضوها؛ فإن الله - تعالى - ملَّكَني ولم يأخذْ مني رشوة ، قال جعفرُ : فانصرفْنَا ، فكنا في خير دارٍ ، وأكرم جوارٍ ، فأنزل الله ذلك اليوم على رسوله في خصومتهم في إبراهيم - وهو في المدينة - قوله - عز وجل : { إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين } .
وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاَةً مِنَ النَّبِيِّينَ ، وَإنَّ وليِّي مِنْهُمْ أبي ، وَخَلِيلُ رَبِّي » ثم قرأ : { إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين } .

وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
في « مِن » وجهان :
أظهرهما : أنها تبعيضيَّة .
والثاني : أنها لبيان الجني .
قال ابن عطيَّة : ويعني أن المراد ب « طائفة » جميع أهل الكتاب ، قال أبو حيّان : وهذا بعيد من دلالة اللفظ ، وهذا الجار - على القول بأنها تبعضية - في محلّ رفع ، صفة لِ « طَائِفَةٌ » ، وعلى القول بأنها بيانية تعلق بمحذوف .
وقوله : تقدم أنه يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون على بابها - من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره .
قال أبو مُسْلِم الأصبهاني : « وَدَّ » بمعنى تَمَنَّى ، فيستعمل معها « لو » و « أن » وربما جُمِع بينهما ، فَيُقَالُ : وددت أن لو فعلت ، ومصدره الودادة ، والاسم منه وُدّ وبمعنى « أحَبَّ » فيتعدَّى « أحَب » والمصدر المودة ، والاسم منه ود وقد يتداخلانِ في المصدر والاسم .
وقال الراغب : « إذا كان بمعنى » أحب « لا يجوز إدخال » لو « فيه أبداً » .
وقال الرمانيُّ : « إذا كان وَدَّ » بمعنى تمنَّى صلُح للحال والاستقبال [ والماضي ، وإذا كان بمعنى الهمة والإرادة لم يصلح للماضي؛ لأن الإرادة لاستدعاء الفعل ، وإذا كان للحال والمستقبل جاز وتجوز « لَوْ » ، وإذا كان للماضي لم يجز « أنْ » لأن « أن » للمستقبل ] .
وفيه نظرٌ ، لأن « أن » تُوصَل بالماضي .
فصل
لما بَيَّن - تعالى - أن من طريقة أهل الكتاب العدولَ عن الحق ، والإعراضَ عن قبول الحجة بيَّن - هنا - أنهم لا يقتصرون على هذا القدر ، بل يجتهدون في إضلال المؤمنين بإلقاء الشبهات ، كقولهم : إن محمداً صلى الله عليه وسلم مُقرٌّ بموسَى وعيسَى ، وكقولهم : إن النسخ يُفْضِي إلى البداء والغرض منه : تنبيه المؤمنين على ألاَّ يَغْتَرُّوا بكلام اليهودِ ، ونظيرُه قولُه تعالى في سورة البقرة : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً } [ البقرة : 109 ] ، وقوله : { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً } [ النساء : 89 ] .
فصل
قيل : نزلت هذه الآية في معاذ بن جبلٍ وعمارِ بن ياسرٍ وحُذَيفَةَ حين دعاهم اليهود إلى دينهم ، فنزلت .
« ودت » تمنَّت طَائِفَةٌ جماعة { مِّنْ أَهْلِ الكتاب } يعني اليهود { لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } ، ولم يَقُلْ : أن يضلوكم؛ لأن « لو » أوفق للتمني؛ فإن قولك : لو كان كذا ، يفيد التمني ، ونظيره قوله : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [ البقرة : 96 ] ، ثم قال تعالى : { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ } وهو يحتمل وجوهاً منها :
إهلاكهم أنفسهم باستحقاق العقاب على قَصْدِهم إضلال الغير ، كقوله : { وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ البقرة : 57 ] ، وقوله : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] ، وقوله : و { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } [ النحل : 25 ] .
ومنها : إخراجهم أنفسهم عن معرفة الهدى والحق؛ لأن الذاهب عن الاهتداء ضالّ .
[ ومنها : أنهم اجتهدوا في إضلال المؤمنين ، ثم إن المؤمنين لم يلتفتوا إليهم ، فهم قد صاروا خائبين خاسرين؛ حيث اعتقدوا شيئاً ، ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوَّروه ] .
ثم قال تعالى : { وَمَا يَشْعُرُونَ } ، أي : وما يعلمون أن هذا يَضُرُّهم ، ولا يضر المؤمنين .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
« لم » أصلها « لِمَا » لأنها « ما » التي للاستفهام ، دخلت عليها اللامُ ، فحُذِفت الألف؛ لطلب الخفة لأن حرف الجر صار كالعِوَضِ عنها ، ولأنها وقعت طرفاً ، ويدل عليها الفتحة؛ وعلى هذا قوله تعالى : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } [ النبأ : 1 ] وقوله : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] والوقف على [ هذه الحروف ] يكون بالهاء نحو فَبِمَهْ ، لِمَهْ .
قوله : { بِآيَاتِ الله } فيه وُجُوهٌ :
أحدها : أن المراد بها ما في التوراة والإنجيل ، وعلى هذا يُحْتَمل أن يكون المراد ما في هذين الكتابين من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ونَعْتِه ، ويحتمل أن يكون المرادُ بما في هذين الكتابين من أن إبراهيمَ كان حنيفاً مسلماً .
ويحتمل أن يكون ما فيهما من أن الدين عند اللهِ الإسْلاَمُ؛ وقائل هذا القول المحتمل لهذه الوجوه ، يقول : إن الكفرَ بآيات الله يحتمل وجهين :
أحدهما : أنهم ما كانوا كافرين بالتَّوْرَاةِ ، بل كانوا كافرين بما تدل عليه التوراةُ ، فأطلق اسْمَ الدليل على المدلول ، على سبيل الْمَجَازِ .
الثاني : أنهم كانوا كافرين بنفس التوراة؛ لأنهم كانوا يُحَرِّفُونها ، وكانوا يُنَكِرون وجودَ تلك الآياتِ الدالةِ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
الوجه الثاني : أن المراد بآيات الله [ هو ] القرآن وبيان نعته صلى الله عليه وسلم { وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } أن نعته مذكور في التوراة والإنجيل ، وتُنْكِرون عند العوام كَوْنَ القرآنِ معجزةٌ ، ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم بكونه معجزاً .
الوجه الثالث : أن المراد بآياتِ الله جملة المعزات التي ظهرت على يد [ النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا قوله : { وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } معناه : وأنكم لما اعترفتم بدلالة المعجزاتِ التي ظهرت على ] سائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - الدالة على صدقهم ، من حيث إنَّ المعجز قائم مقام التصديق من الله وإذا شهدتم بأن المعجز دليل على صدق الأنبياء عليهم السلام ، وأنتم قد شاهدتم المعجز في حق محمد صلى الله عليه وسلم فكان إصرارُكم على إنكار نبوته ورسالته مناقضاً لما شهدتم بحقيقته من دلالةِ معجزات سائر الأنبياء - عليهم السلام- .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
قرأ العامة : { تَلْبِسُونَ } بكسر الباء ، من لبس عليه يلبس ، أي : خلَطه ، وقرأ يحيى بن وثَّابٍ بفتحها جعله من لبست الثوب ألبسه - على جهة المجاز ، وقرأ أبو مجلز « تُلبِّسُون » - بضم التاء ، وكسر الباء وتشديدها - من لبَّس « بالتشديد » ، ومعناه التكثير .
والباء في « الباطل » للحال ، أي : متلبساً بالباطل .
فصل في معنى : تلبسون الحق
{ تَلْبِسُونَ } تخلطون { الحق بالباطل } الإسلام باليهودية والنصرانية .
وقيل : تخلطون الإيمان بعيسى - وهو الحق - بالكفر بمحمد - وهو الباطل - .
وقيل : التوراة التي أنزل الله على موسى بالباطل ، الذي حرَّفتموه ، وكتبتموه بأيديكم ، قاله الحسنُ وابن زيد .
وقال ابنُ عباس وقتادةُ : تواضعوا على إظهار الإسلام أول النهار ، ثم الرجوع عنه في آخر النهار تشكيكاً للناس .
قال القاضي : أن يكون في التوراة ما يدل على نبوته صلى الله عليه وسلم من البشارة والنعت والصفة ، ويكون في التوراة - أيضاً - ما يوهم خلاف ذلك ، فيكون كالمحكم والمتشابه ، فيلبسون على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر .
وقيل إنهم كانوا يقولون : إنَّ محمداً معترفٌ بأن موسى حَقٌّ ، ثم إنّ التوراةَ دالة على أن شرع موسى لا ينسخ ، وكل ذلك إلقاء للشبهات .
قوله : { وَتَكْتُمُونَ الحق } جملة مُسْتَأنَفةٌ ، ولذلك لم يُنْصَب بإضمار « أن » في جواب الاستفهام ، وقد أجاز الزجاجُ - من البصريين - والفرّاءُ - من الكوفيين - فيه النصب - من حيث العربية - تسقط النون ، فينتصب على الصرف عند الكوفيين ، وبإضمار « أن » عند البصريين .
ومنع ذلك أبو علي الفارسيّ ، وأنكَرَه ، وقال : الاستفهام واقع على اللبس فحسب ، وأما { يَكْتُمُونَ } فخبر حتم ، لا يجوز فيه إلا الرفع . يعني أنه ليس معطوفاً على { تَلْبِسُونَ } ، بل هو استئناف ، خَبَّر عنهم أنهم يكتمون الحقَّ مع علمهم أنه حَقٌّ .
ونقل ابو محمد بن عَطِيَّة عن أبي عليٍّ أنه قال : الصَّرْف - هنا - يَقْبُح ، وكذلك إضمار « أن » لأن « تَكتُمُونَ » معطوف على موجب مقرَّر ، وليس بمستفهَم عنه ، وإنما استفهم عن السبب في اللبس ، واللبس موجب ، فليست الآيةُ بمنزلةِ قولهم : لا تأكل السمكَ وتَشْرَبَ اللَّبَنَ ، وليس بمنزلة قولك : أيقومُ فأقومَ؟ والعطف على الموجب المقرَّر قبيح متى نصب - إلا في ضرورة الشعر - كما رُوِي : [ الوافر ]
1506- .. وَأَلْحَقَ بِالْحِجَازِ فَأسْتَرِيحَا
قال سيبويه - في قولك : أسِرْتَ حتى تَدْخُلَهَا- : لا يجوز إلا النَّصْبُ في « تداخلها » لأن السير مستفهم عنه غيرُ موجَب ، وإذا قلنا : أيهم سار حتى يدخلُها؟ رفعت لأن السيرَ موجب والاستفهام إنما وقع عن غيره .
قال أبو حيّان : وظاهر هذا النقل - عنه - معارضتُه لما نقل عنه قبله؛ لأن ما قبلَه فيه أن الاستفهام رفع عن اللبس فحَسْب ، وأما { يَكْتُمُونَ } فخبر حَتْماً ، لا يجوز فيه إلا الرفع ، وفيما نقله ابن عطية أنَّ { يَكْتُمُونَ } معطوف على موجَب مقرَّر ، وليس بمستفهم عنه ، فيدل العطفُ على اشتراكهما في الاستفهام عن سبب اللبس ، وسبب الكَتْم الموجبين ، وفرق بين هذا المعنى ، وبين أن يكون { يَكْتُمُونَ } إخْباراً محضاً ، لم يشترك مع اللبس في السؤالِ عن السببِ ، وهذا الذي ذهبَ إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمَّن وقوعَ الفعل ، لا ينتصب الفعل بإضمار « أن » في جوابه وتبعه في ذلك جمال الدين ابن مالك ، فقال في تسهيله : « أو لاستفهام لا يتضمَّن وقوعَ الفعلِ » .
فإن تضمن وقوع الفعلِ امتنع النصبُ عندَه ، نحو : لِمَ ضربتَ زيداً فيجازِيَك؛ لأن الضرب قد وقع . ولم يشترط غيرُهما - من النحويين - ذلك ، بل إذا تعذر سَبْك المصدر مما قبله - إمَّا لعدم تقدُّمِ فعل ، وأما لاستحالة سَبْك المصدر المراد به الاستقبال؛ لأجل مُضِيِّ الفعل - فإنما يقدر مصعد مقدَّراً استقبالُه بما يدل عليه المعنى ، فإذا قلت : لِمَ ضربتَ زيداً فاَضْرِبَك؟ فالتقدير : ليكن منك إعلام بضَرْبِ زيدٍ فمجازاة منا ، وأما ما ردَّ به أبو علي الفارسي على الزجَّاج والفرَّاء ليس بلازم؛ لأنه قد منع أن يراد بالفعل المُضِيَّ معنى إذ ليس نصًّا في ذلك؛ إذْ قد يمكن الاستقبال لتحقيق صدوره لا سيما على الشخص الذي صدر منه أمثال ذلك ، وعلى تقدير تحقُّق المُضِي فلا يلزم - أيضاً - لأنه - كما تقدم - إذا لم يُمْكن سَبْك مصدر مستقبل من الجملة الاستفهامية سبكناه من لازمها ، ويدل على إلغاء هذا الشرطِ ، والتأويل بما ذكرناه ما حكاه ابنُ كَيْسَان من رفع المضارع بعد فعلٍ ماضٍ ، محقَّق الوقوع ، مستفهَم عنه ، نحو : أين ذهب زيد فنتَّبعُه؟ ومن أبوك فنكرمه؟ وكم مالك فنعرفُه؟ كل ذلك متأوَّل بما ذكرنا من انسباك المصدر المستقبل من لازم الجُمَل المتقدمة ، فإن التقدير : ليكن منك إعلامٌ بذهاب زيد فاتباعٌ منا ، وليكن منك إعلام بأبيك فإكرام له منا ، وليكن منك تعريف بقدر مالك فمعرفة مِنَّا .
قال شهابُ الدِّينِ : « وهذا البحثُ الطويلُ على تقدير شيء لم يَقَعْ ، فإنه لم يُقْرَأ - لا في الشاذ ولا في غيره - إلا ثابتَ النون ، ولكن للعلماء غرضٌ في تطويل البحث ، تنقيحاً للذهن » .
ووراء هذا قراءة مُشْكِلَة ، رَوَوْها عن عُبَيْد بن عُمَير ، وهي : لِمَ تَلْبسُوا الحق بالباطل وَتَكْتُمُوا بحذف النون من الفعلين - وهي قراءة قراءة لا تَبْعد عن [ لَغطِ البحث ] ، كأنه توهم أن « لَمْ » هي الجازمة ، فجزم بها ، وقد نقل المفسّرونَ عن بعض النُّحَاةِ - هنا - أنهم يجزمون بلم حملاً على « لم » - نقل ذلك السجاونديُّ وغيره عنهم ، ولا أظن نحويّاً يقول ذلك ألبتة ، كيف يقولون في جار ومجرور : إنه يَجْزِم؟ هذا ما لا يُتفَوَّهُ به ألبتة ولا نطيق سماعه ، فإن ثبتت هذه القراءةُ ولا بد فلتكن مما حُذِف فيه نونُ الرفع تخفيفاً؛ حيث لا مقتضى لحَذْفها ، ومن ذلك قراءة بعضهم :
{ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا } [ القصص : 48 ] - بتشديد الظاء - الأصل : تتظاهران ، فأدغم الثاني في الظاء ، وحذف النون تخفيفاً ، وفي الحديث : « والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتّى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا . . » يريد - عليه السلامُ- : لا تدخلون ، ولا تؤمنون؛ لاستحالة النهي معنًى .
وقال الشاعرُ : [ الرجز ]
1507- أبِيتُ أسْرِي ، وَتَبِيتِي تَدْلُكِي ... وَجْهَكِ بالْعَنْبَر وَالْمِسْكِ الذَّكِي
يريد تبيتين وتدلُكين .
ومثله قول أبي طالب : [ الطويل ]
1508- فَإنْ يَكُ قَوْمٌ سَرَّهُمْ مَا صَنَعْتُمُ ... سَتَحْتَلِبُوهَا لاَقِحاً غَيْرَ بَاهِلِ
يريد : ستحتلبونها .
ولا يجوز أن يُتَوهَّم - في هذا البيت - أن يكون حذف النون لأجل جواب الشرط ، لأن الفاء مُرادَة وجوباً؛ لعدم صلاحية « ستحتلبوها » جواباً؛ لاقترانه بحرف التنفيس .
والمراد بالحق : الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة .
قوله : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جملة حالية ، ومتعلق العلم محذوف ، إما اقتصاراً ، وإما اختصاراً - أي : وأنتم تعلمون الحق من الباطل ، أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو تعلمون أن عقابَ مَنْ يفعل ذلك عظيم ، وتعلمن أنكم تفعلون ذلك عناداً وحسداً .
فصل في كلام القاضي
قال القاضي : قوله تعالى : { لِمَ تَكْفُرُونَ } ؟ و { لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل } يدل على أن ذلك فعلهم؛ لأنه لا يجوز أن يخلقه فيهم ، ثم يقول : لِمَ فعلتم؟
وجوابه : أن الفعل يتوقف على الداعية ، فتلك الداعية إن حدثت لا لِمُحْدِث لزم نفي الصانع ، وإن كان محدثها هو العبد افتقر إلى إرادة أخرى ، وإن كان مُحْدِثُها هو الله - تعالى - لزمكم ما ألزمتموه علينا .

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
حكي عنهم التلبيسُ ، فذكر منه هذا النوع .
قوله : { وَجْهَ النهار } منصوب على الظرف؛ لأنه بمعنى : أول النهار؛ لأن الوجه - في اللغة - مستقبل كل شيء؛ لأنه أول ما يواجَه منه ، كما يقال - لأول الثوب- : وجه الثوب .
روى ثَعْلَبٌ عن ابن الأعرابي : أتيته بوجه نهارٍ ، وصدر نهار ، وشباب نهار ، أي : أوله وقال الربيع بن زياد العبسي : [ الكامل ]
1509- مَنْ كَانَ مَسْرُوراً بِمَقْتَلِ مَالِكٍ ... فَلْيَأتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ
أي : بأوله ، وفي ناصب هذا الظرف وجهان :
أظهرهما : أنه فعل المر من قوله { آمِنُواْ } أي : أوْقَعُوا إيمانَكم في أول النهار ، وأوقعوا كُفْرَكم في آخره .
والثاني : أنه { وَأَنْزَلَ } أي : آمنوا بالمُنَزَّل في أول النهار ، وليس ذلك بظاهر ، بدليل المقابلة في قوله : { واكفروا آخِرَهُ } . فإن الضميرَ يعودُ على النهارِ ، ومن جوَّز الوجه الثاني جعل الضمير يعود على { بالذي أُنْزِلَ } ، أي : واكفروا آخر المنزَّل ، وأسباب النزول تُخالف هذا التأويل وفي هذا البيتِ الذي أنشدناه فائدةٌ ، وذلك أنه من قصيدة يرثي بها مالك بن زهير بن خُزَيْمَةَ العبسي ، وبعده : [ الكامل ]
1510- يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِراً يَنْدُبْنَهُ ... يَبْكِينَ قَبْلَ تَبَلُّجِ الأسْحَارِ
قَدْ كُنَّ يَخْبَأنَ الْوُجُوهَ تَسَتُّراً ... فَالْيَوْمَ حِينَ بَدَوْنَ لِلنُّظَّارِ
يَخْمِشْنَ حرَّاتِ الْوُجُوهِ عَلَى امرئٍ ... سَهْلِ الْخَلِيقَةِ طَيِّبِ الأخْبَارِ
ومعنى الأبيات يحتاج إلى معرفةِ اصطلاح العربِ في ذلك ، وهو أنهم ك انوا إذا قُتِلَ لهم قتيلٌ لا تقوم عليه نائحةٌ ولا تَنْدُبُه نادبةٌ ، حتى يؤخذَ بثأره ، فقال هذا : من سرَّه قَتْلُ مالك ، فليأتِ في أول النهارِ يجدنا قد أخذْنَا بثأره ، فذكر اللازم للشيء ، وهو من باب الكناية .
وحكي أن الشيباني سأل الأصمعي : كيف تنشد قول الربيع : . حين بدأنَ ، أو بدَيْنَ؟ فقال الأصمعيّ : بَدأنَ ، فقال : أخطأت ، فقال : بَدَيْنَ ، فقال : أخطأتَ ، فغضب الأصمعيُّ ، وكان الصواب أن يقول : بدَوْنَ - بالواو - لأنه من باب : بدا يَبْدو ، أي : ظهر - فأتى الأصمعي يوماً للشيباني ، وقال له : كيف تُصَغِّر مُخْتَاراً؟ فقال : مُخَيتير ، فضَحِك منه ، وصفَّق بيديه ، وشَنَّع عليه في حلقته ، وكان الصواب أن يقولَ : مُخَيِّر - بتشديد الياء - وذلك أنه اجتمع زائدان- ، الميم والتاء - والميم أولى بالبقاء؛ لعلة ذكرها التصريفيُّون ، فأبقاها ، وحذف التاء ، وأتى بياء التصغير ، فقلب - لألها - الألف ياءً ، وأدْغمها فيها ، فصار : مُخَيِّراً - كما ترى - وهو يحتمل أن يكون اسمَ فاعل ، أو اسمَ مفعول - كما كان يحتملها مُكَبَّرهُ ، وهذا - أيضاً - يلبس باسم الفاعل خَيَّر فهو مُخَيِّر ، والقرائنُ تبينه .
ومفعول { يَرْجِعُونَ } محذوف - أيضاً - اقتصاراً - أي : لعلهم يكونون من أهل الرجوع ، أو اختصاراً أي : يرجعون إلى دينكم وما أنتم عليه .
فصل
قال القرطبيُّ : والطائفة : الجماعة - من طاف يطوفُ - وقد يُسْتَعْمَل للواحد على معنى : نفس طائفة ، ومعنى الآية يحتمل أن يكون المراد كلَّ ما أنزل ، وأن يكون بعضَ ما أنزل أما الاول ففيه وجوهٌ :
الأول : أن اليهودَ والنصارَى استخرجوا حيلةً في تشكيك ضَعَفَةِ المسلمين في صحة الإسلام ، وهي أن يظهروا تصديق ما ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم من الشرائع في بعض الأوقات ، ثم يُظهروا بعد ذلك تكذيبه فإن الناس متى شاهدوا هذا التكذيب قالوا : هذا التكذيب ليس لأجل الحَسَدِ والعناد ، وإلا لَمَا آمَنُوا في أول الأمر ، فإذا لم يكن حَسَداً ، وجب أن يكون لأجل أنهم أهل الكتاب وقد تفكَّروا في أمره ، واستَقْصَوْا في البحث عن دلائل نبوتِهِ ، فلاح لهم - بعد ذلك التأمل التام ، والبحثَ الوافي - أنه كذاب ، فيصير هذا الطريق شبهة لضَعَفةِ المسلمين في صحة نبوته .
قال الحَسَنُ والسُّدِّيُّ : تواطأ اثنا عشر رجلاً من أحبار خيبر وقُرَى عُرَيْنَة ، وقال بَعْضُهُمْ ادخلوا في دين محمدٍ أولَ النهار باللسان دون الاعتقاد ، ثم اكفروا آخِرَ النهار ، وقولوا : إنّا نظرنا في كتابنا ، وشاوَرْنا علماءَنا ، فوجدنا محمداً ليس بذلك ، وظهر لنا كذبُه ، فإذا فعلتم ذلك شَكَّ أصحابُه في دينهم ، واتهموه ، وقالوا : إنهم أهْلُ الكتاب ، وهم أعلم منا ، فيرجعون عن دينهم ، وهذا قول أبي مُسْلِمِ الأصبهانيِّ .
قال الأصمُّ : قال بعضهم لبعض : إن كذبتموه في جميع ما جاء به فإن عوامكم يعلمون كذبكم؛ لأن كثيراً يعلمون ما جاء به حقٌّ ، ولكن صَدِّقُوه في بعض ، وكَذِّبوه في بعض ، حتى يحمل الناسُ تكذيبَكم على الإنصاف ، لا على العِناد ، فيقبلوا قولكم .
وأما الاحتمال الثاني - وهو الإيمان بالبعض - ففيه وجهان
أحدهما : قال ابنُ عباسٍ : « وَجْهَ النَّهارِ » : أوله ، وهو صلاة الصبح ، { واكفروا آخِرَهُ } يعني : صلاة الظهر ، وتقديره : أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس - بعد أن قدم المدينة - ففرح اليهود بذلك ، وطمعوا أن يكون منهم ، فلمَّا حوله الله إلى الكعبة - وكان ذلك عند صلاة الظهر - قال كعبُ بن الأشرفِ وغيره : « ءامنوا بالذي أنزل على الذين ءامنوا وجه النهار » يعني آمنوا بالْقِبْلَةِ التي صلى إليها صلاةَ الصبح ، فهي الحق ، { واكفروا } بالقبلة إلى الكعبة { لَعَلَّهُمْ } يقولون : إن هؤلاء أهل كتاب ، وهم أعلم ، فيرجعون إلى قبلتنا .
الثاني : قال بعضُهُمْ لبعض : صَلُّوا إلى الكعبة أولَ النهار ثم اكفروا بهذه القبلةِ في آخر النهار؛ وصلوا إلى الصخرة لعلهم يقولون : إن أهل الكتاب أصحابُ العلم ، فلولا أنهم عَرفوا بُطْلانَ هذه الْقِبْلَة لَمَا تركوها ، فحينئذٍ يرجعون عن هذه القبلة .
فصل في فوائد كشف حيلتهم
إخبار الله - تعالى - عن تواطُئِهم على هذه الحيلة فيه فائدةٌ من وُجُوهٍ :
الأول : أن ذلك إخبار عن الغيب ، فَيَكون مُعْجِزاً؛ لأنها كانت مخفيَّةً فيما بينهم ، وما أطْلعوا عليه أحداً من الأجانب .
الثاني : أنه - تعالى - لما أطْلع المؤمنين على هذه الحيلةِ لم يَبْقَ لها أثرٌ في قلوبِ المؤمنين ، ولولا هذا الإعلام لكان رُبَّما أثّرت في قلوب بعضِ [ المؤمنين الذين ] في إيمانهم ضعف .
الثالث : [ أن القومَ ] لما افتضحوا في هذه الحيلةِ صار ذلك رادِعاً لهم عن الإقدام على أمْثَالِها من الحِيل والتلبيس .

وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
اللام في « لِمَنْ » فيها وجهان :
أحدهما : أنها زائدة مؤكِّدة ، كهي في قوله تعالى : { قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] أي : ردفكم وقول الآخر : [ الوافر ]
1511- فَلَمَّا أنْ تَوَاقَفْنَا قَلِيلاً ... أنَخْنَا لِلْكَلاَكِلِ فَارْتَميْنَا
وقول الآخر : [ الكامل ]
1512- مَا كُنْتُ أخْدَعُ لِلْخَلِيلِ بِخُلَّةٍ ... حَتَّى يَكُونَ لِيَ الْخَلِيلُ خَدُوعَا
وقول الآخر : [ الطويل ]
1513- يَذُمُّونَ لِلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْلِبُونَهَا ... أفَاوِيقَ حَتَّى ما يَدِرُّ لَهَا فَضْلُ
أي : أنخنا الكلاكِلَ ، وأخدع الخليل ، ويذمون الدنيا ، ويُرْوَى : يذمون بالدنيا ، بالباء .
قال شهابُ الدينِ : وأظن البيتَ : يذمون لِي الدنيا - فاشتبه اللفظ على السامع - وكذا رأيته في بعض التفاسيرِ ، وهذا الوجه ليس بالقوي .
الثاني : أن « آمن » ضُمِّن معنى أقَرَّ واعْتَرَف ، فعُدِّيَ باللام ، أي : ولا تُقِرّوا ، ولا تعترفوا إلا لمن تبع دينكم ، ونحوه قوله : { فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ } [ يونس : 83 ] وقوله : { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] وقال أبو علي : وقد يتعدَّى آمن باللام في قوله : { فَمَآ آمَنَ لموسى } [ يونس : 83 ] ، وقوله : { آمَنتُمْ لَهُ } [ طه : 71 ] ، وقوله : { يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 61 ] فذكر أنه يتعدى بها من غير تضمين ، والصَّوَابُ التضمين وقد تقدم تحقيقه أول البقرة . وهنا استثناء مُفَرَّغٌ .
وقال أبو البقاء : { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه استثناء مما قبلَه ، والتقديرُ : ولا تَقرُّوا إلا لمن تبع ، فعلى هذا اللام غير زائدة ولا يجوز أن تكون زائدة ويكون محمولاً على المعنى ، أي اجْحَدوا كُلَّ أحد إلا من تبع دينكم .
والثاني : أن النية به التأخير ، والتقدير : ولا تُصَدِّقُوا أن يؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم؛ فاللام على هذا - زائدة ، و « مَنْ » في موضع نصب على الاستثناء من أحد .
وقال الفارسيُّ : الإيمان لا يتعدى إلى مفعولين ، فلا يتعلق - أيضاً - بجارين ، وقد تعلَّق بالجار المحذوف من قوله : { أَن يؤتى } فلا يتعلق باللام في قوله : { لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } إلا أن يحمل اللام على معناه ، فيتعدى إلى مفعولين ، ويكون المعنى : ولا تُقِرُّوا بأن يُتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينَكم ، كما تقول : أقررت لزيد بألفٍ ، فتكون اللام متعلقة بالمعنى ، ولا تكون زائدة على حد : { رَدِفَ لَكُمْ } [ النمل : 72 ] و { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] وهذا تَصْرِيحٌ من أبي علي بأنه ضمن « آمن » معنى « أقَرَّ » .
فصل
اتفق المفسّرون على أن هذا بقية كلامِ اليهودِ ، وفيه وجهانِ :
الأول : أن معناه : ولا تُصَدِّقُوا إلا بنبي يُقرِّر شرائعَ التوراةِ ، ومَنْ جاء بتغيير شرع من أحكام التوراة ، فلا تصدقوه ، وعلى هذا التفسير تكون اللام في { لِمَنْ تَبِعَ } صلة زائدة .
الثاني : معناه : لا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل مَنْ تبع دينكم ، أي : ليس الغرضُ من الإتيان بذلك التلبيس إلا بقاء أتباعكم على دينكم ، فإنّ مقصود كلِّ أحد حفظ أتباعه وأشياعه على متابعته .
ثم قال : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } .
قال ابن عباسٍ : معناه : الدين دين الله ، ونظيره : { قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى } [ الأنعام : 71 ] وبيان كيف صار هذا الكلامُ جواباً عما حكاه عنهم :
أما على الوجه الأول - وهو قولهم : لا دينَ إلا ما هم عليه - فهذا الكلام إنما صَحَّ جواباً عنهم من حيثُ إن الذي هم عليه ثبت ديناً من جهة الله - تعالى - لأنه أمر به ، وأرشد إليه ، فإذا وجب الانقياد لغيره كان ديناً يجب أن يُتَّبعَ - وإن كان مخالفاً لما تقدَّم - لأن الدينَ إنما صارَ ديناً بحكمه وهدايته ، فحيثما كان حُكْمُه وجب متابعته ، ونظيره قوله تعالى - جواباً لهم عن قوله : { مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] - قوله : { قُل للَّهِ المشرق والمغرب } [ البقرة : 142 ] يعني : الجهاتِ كلَّها لله ، فله أن يُحَوِّل القبلةَ إلى أيِّ جهةٍ شاء .
وعلى الوجه الثاني : المعنى : { إِنَّ الهدى هُدَى الله } قد جئتكم به ، فلن ينفعَكم في دفعه هذا الكيد الضعيفُ .
فصل
قوله تعالى : { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } نقل ابنُ عطيّة الإجماع من أهل التأويل على أن هذا من مقول الطائفة ، وليس بسديد ، لما نقل من الخلاف ، وهل هي من مقول الطائفة أم من مقول الله تعالى - على معنى أن الله - تعالى - خاطب به المؤمنين ، تثبيتاً لقلوبهم ، وتسكيناً لجأشهم؛ لئلا يشكُّوا عند تلبيس اليهودِ عليهم وتزويرهم؟
[ إذا كان من كلامِ طائفةِ اليهودِ ، فالظاهر أنه انقطع كلامُهم؛ إذ لا خلاف ، ولا شك أن قولَه : { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } من كلام الله مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم ] .
قوله : { أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } اعلم أن هذه الآية من المشكلات ، فنقول : اختلف الناس في هذه الآية على وجوه :
الأول : أن قوله : { أَن يؤتى أَحَدٌ } متعلق بقوله : { وَلاَ تؤمنوا } على حذف حرف الجر ، والأًل : ولا تُؤْمِنُوا بأن يُؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم ، فلما حُذِفَ حرف الجر جرى الخلافُ المشهور بين الخليل وسيبويه في محل « أن » ، ويكون قولُه : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } جملةً اعتراضيةً .
قال القفّالُ : يحتمل أن يكون قوله : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } كلاماً أمر اللهُ نبيه أن يقولَه عند انتهاء الحكاية عن اليهود إلى هذا الموضع؛ لأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولاً باطلاً - لا جرم - أدب الله رسوله بأن يقابله بقول حَقِّ ، ثم يعود إلى حكايةِ تمامِ كلامِهم - كما إذا حكى المسلم عن بعضِ الكُفَّار قَوْلاً فيه كُفْر ، فيقول - عند بلوغه إلى تلك الكلمة- : آمنت بالله ، أو يقول : لاَ إلَه إلا اللهُ ، أو يقول : تعالى الله عن ذلك ، ثم يعود إلى تمام الحكاية ، فيكون قوله : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } من هذا الباب .
قال الزمخشريُّ في تقرير هذا الوجه - وبه بدأ- : { وَلاَ تؤمنوا مُتَعَلِّقٌ بقوله : { أَن يؤتى أَحَدٌ } وما بينهما اعتراضٌ ، أي : ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم ، وأسِرُّوا تصديقكُمْ بأن المسلمين قد أوتوا مثل ما أوتيتم ، ولا تُفْشُوه إلا لأشياعكم - وحدهم - دون المسلمين؛ لئلاَّ يزيدَهم ثباتاً ، ودون المشركين ، لئلا يدعوهم إلى الإسلام .
{ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } عطف على { أَن يؤتى } والضمير في { يُحَاجُّوكُمْ } لِ { أَحَدٌ } لأنه في معنى الجميع ، بمعنى : ولا تؤمنوا لغير أتباعكم بأن المسلمين يحاجونكم عند ربكم بالحق ، ويغالبونكم عَنْدَ اللهِ - تعالى - بالحُجَّةِ .
فإن قلت : ما معنى الاعتراضِ؟
قلت : معناه : إن الهدَى هُدى الله ، من شاء يَلْطُف به حتى يُسلم ، أو يزيد ثباتاً ، ولم ينفع كيدكم وحِيَلُكم ، وذَبُّكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين ، وكذلك قوله : { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } يريد الهداية والتوفيق .
قال شهاب الدينِ : « وهذا كلامٌ حسَنٌ ، لولا ما يُريد بباطنه » ، وعلى هذا يكون قوله : { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ } مستثْنَى من شيء محذوفٍ ، تقديره : ولا تُؤمنوا بأن يُؤتَى أحد مل ما أوتيتم لأحد من الناس إلا لأشياعكم دون غيرهم ، وتكون هذه الجملة - أعني قوله : { وَلاَ تؤمنوا } من كلام الطَّائِفَةِ المتقدمة ، أي وقالت طائفةٌ كذا ، وقالت أيضاً : ولا تؤمنوا ، وتكون الجملة من قوله : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } من كلام اللهِ لا غير « .
قال ابن الخطيبِ : وعندي أن هذا التفسير ضعيف من وُجُوهٍ :
الأول : أن جدَّ القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمَّد صلى الله عليه وسلم كان أعظمَ من جدهم في حفظِ غير أتباعهم عنه ، فكيف يليق أن يوصِيَ بعضُهم بعضاً بالإقرار بما يدل على صحة دين محمَّد صلى الله عليه وسلم عند أتباعهم ، وأشياعهم ، وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب؟ هذا في غاية البعد .
الثاني : أن على هذا التقدير لا بد من الحَذْف؛ فإن التقدير : قل إن الهُدَى هُدَى اللهِ ، وإنّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ ، وَلا بُدَّ مِنْ حَذْفِ قَلْ في قوله : { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله } .
الثالث : أنه كيف وقع قوله : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } فيما بين جزأي كلام واحد؟ هذا في غاية البعد عن الكلام المستقيم .
الوجه الثاني : أن اللام زائدة في { لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ } وهو مستثنى من » أحَدٌ « المتأخِّر ، والتقدير : ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا مَنْ تَبعَ دينَكُمْ ، ف { لِمَنْ تَبِعَ } منصوب على الاستثناء من » أحد « ، وعلى هذا الوجه جوَّز أبو البقاء في محل { أَن يؤتى } ثلاثة أوجهٍ :
الأول والثاني : مذهب الخليل وسيبويه ، وقد تَقَدَّمَا .
الثالث : النصب على المفعول من أجله ، تقديره : مخافةَ أن يُؤتَى .
وهذا الوجه الثالث - لا يصح من جهة المعنى ، ولا من جهة الصناعة ، أمّا المعنى فواضحٌ وأما الصناعة فإن فيه تقديم المستثنى على المستثنى منه ، وعلى عامله ، وفيه - أيضاً - تقديم ما في صلة أن عليها ، وهو غير جائزٍ .
الوجه الثالث : أن يكون { أَن يؤتى } مجروراً بحرف العلة - وهو اللام - والمُعَلَّل محذوف ، تقديره لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ، ودبَّرتموه ، لا لشيء آخرَ ، وقوله : { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } معناه : ولا تؤمنوا هذا الإيمانَ الظاهرَ - وهو إيمانكم وَجْهَ النَّهَارِ - { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } ، إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم؛ لأن رجوعَهم كان أرْجَى عندهم من رجوع من سواهم ، ولأن إسلامَهم كان أغبط لهم ، وقوله : { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } معناه : لأن يؤتى مثل ما أوتيتُمْ قلتم ذلك ، ودبرتموه ، لا لشيء آخرَ ، يعني أن ما بكم من الحسد و البغي ، أن يؤتى أحَدٌ مثل ما أوتيتم من فَضْل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قُلْتُم ما قلتم ، والدليل عليه قراءة ابن كثير : أأنْ يُؤتَى أحَدٌ؟ - بزيادة همزة الاستفهامِ ، والتقرير ، والتوبيخ - بمعنى : ألأن يؤتى أحَدٌ؟
فإن قلت : ما معنى قوله : { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } على هذا؟
قلت : معناه : دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، ولما يتصل به عند كفركم به في محاجتهم [ لكم ] عند ربكم .
الوجه الرابع : أن ينتصب { أَن يؤتى } بفعل مقدَّرٍ ، يدل عليه : { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } إنكار لأن يؤتى أحد مثل ما أوتُوا .
قال أبو حيّان : وهذا بعيد؛ لأنه فيه حذفَ حرف النهي وحذفَ معموله ، ولم يُحْفظ ذلك من لسانهم .
قال شهاب الدين : « متى دلَّ على العامل دليلٌ جاز حَذْفُه على أي حالةٍ كان » .
الوجه الخامس : أن يكون { هُدَى الله } بدلاً من « الْهُدَى » الذي هو اسم « إنَّ » ويكون خبر { أَن يؤتى أَحَدٌ } ، قُلْ إنَّ هدى الله أن يؤتى أحد ، أي إن هدى الله آتياً أحداً مثل ما أوتيتم ، ويكون « أوْ » بمعنى « حتى » ، والمعنى : حتى يحاجوكم عند ربكم ، فيغلبوكم ويدحضوا حُجَّتَكم عند الله ، ولا يكون { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } معطوفاً على { أَن يؤتى } وداخلاً في خبر إن .
الوجه السادس : أن يكون { أَن يؤتى } بدلاً من { هُدَى الله } ويكون المعنى : قُلْ بأن الهدى هدى الله ، وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن ، ويكون قوله : { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } بمعنى فليحاجوكم ، فإنهم يغلبونكم ، قال ابنُ عطية : وفيه نظرٌ؛ لأن يؤدي إلى حذف حرف [ النهي ] وإبقاء عمله .
الوجه السابع : أن تكون « لا » النافية مقدَّرة قبل { أَن يؤتى } فحذفت؛ لدلالة الكلام عليها ، وتكون « أو » بمعنى « إلاَّ أن » والتقدير : ولا تؤمنوا لأحد بشيء إلا لمن تبع دينَكم بانتفاء أن يؤتى أحَدٌ مثل ما أوتيتم إلا من تَبع دينَكُمْ ، وجاء بمثله ، فإن ذلك لا يؤتى به غيركم إلا أن يحاجوكم ، كقولك : لألزمنك أو تقضيني حقي .
وفيه ضعف من حيث حذف « لا » النافية ، وما ذكروه من دلالة الكلامِ عليها غير ظاهر .
الوجه الثامن : أن يكون { أَن يؤتى } مفعولاً من أجله ، وتحرير هذا القول أن يجعل قوله : { أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ } ليس داخلاً تحت قوله : « قل » بل هو من تمام قول الطائفة ، متصل بقوله : ولا تؤمنوا إلا لمن جاء بمثل دينكم مخافةَ أن يؤتى أحد من النُّبُوَّة والكرامة مثل ما أوتيتم ، ومخافةَ أن يُحاجُّوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم تستمروا عليه ، وهذا القولُ منهم ثمرة حسدهم وكُفْرهم - مع معرفتهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
ولما قدر المُبردُ المفعول من أجله - هنا - قدر المضاف : كراهة أن يُؤتَى أحد مثل ما أوتيتم ، أي : مما خالف دينَ الإسلام؛ لأن اللهَ لا يهدي من هو كاذبٌ كَفَّار ، فهُدَى الله بعيد من غير المؤمنين والخطاب في { أُوتِيتُمْ } و { يُحَاجُّوكُمْ } لأمة محمد صلى الله عليه وسلم .
واستضعف بعضُهم هذا ، وقال : كونه مفعولاً من أجْلهِ - على تقدير : كراهة - يحتاج إلى تقدير عامل فيه ويصعُب تقديره؛ إذ قبله جملة لا يظهر تعليل النسبة فيها ، بكراهة الإيتاء المذكور .
الوجه التاسع : أن « أنْ » المفتوحة تأتي للنفي - كما تأتي « لا » ، نقله بعضهم أيضاً عن الفراء ، وجعلَ « أو » بمعنى « إلا » ، والتقدير : لا يُؤتَى أحد ما أوتيتم إلا أن يحاجُّوكم ، فإن إيتاءه ما أوتيتم مقرون بمغالبتكم أو محاجتكم عند ربكم؛ لأن من آتاه الله الوحي لا بُدّ أن يحاجهم عند ربهم - في كونهم لا يتبعونه - فقوله : { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } حالٌ لازمةٌ من جهة المعنى؛ إذ لا يوحي اللهُ لرسولٍ إلا وهو يُحاجُّ مخالفيه . وهذا قول ساقطٌ؛ إذْ لم يثبت ذلك من لسان العربِ .
فصل
« أحد » يجوز أن تكون - في الآية الكريمة - من الأسماء الملازمةِ للنفي ، وأن تكون بمعنى « واحد » والفرق بينهما أن الملازمة للنفي همزته أصلية ، والذي لا يلزم النفي همزته بدل من واو فعلى جعله ملازماً للنفي يظهر عود الضمير عليه جمعاً؛ اعتباراً بمعناه؛ إذ المراد به العموم ، وعليه قوله : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 47 ] - جمع الخبر لما كان « أحَدٌ » في معنى الجميع - وعلى جعله غير اللازم للنفي يكون جمع الضمير في { يُحَاجُّوكُمْ } باعتبار الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعِه .
وبعض الأوجه المتقدمة يصح أن يجعل فيها « أحد » - المذكور - الملازم للنفي ، وذلك إذا كان الكلام على معنى الجَحْد ، وإذا كان الكلام على معنى الثبوت - كما مَرَّ في بعض الوجوه فيمتنع جعفُه الملازم للنفي . والأمر واضح مما تقدم .
فصل
قرأ ابنُ كثير : أأن يؤتى - بهمزة استفهام - وهو على قاعدته من كونه يسهل الثانية بين بين من غير مدة بينهما ، وخُرِّجَتْ هذه القراءةُ على وجوهٍ :
أحدها : أن يكون { أَن يؤتى } على حذف حرف الجر - وهو لام العلة - والمُعَلَّل محذوف تقديره : ألأن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبَّرتموه - وتقدم تحقيقه - وهذه اللفظة موضوعة للتوبيخ ، كقوله تعالى : { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين } [ القلم : 14-15 ] ، والمعنى : أمن أجل أن يُؤتَى أحدٌ شرائعَ مثلَ ما أوتيتم من الشرائع تُنْكِرون اتباعه؟ ثم حذف الجواب ، للاختصارِ ، تقديره : أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشرَ اليهودِ من الكتاب والحكمة تحسدونه ، ولا تؤمنون به ، قاله قتادةُ والربيعُ ، وهذا الحذفُ كثيرٌ؛ يقول الرجل - بعد طول العتاب لصاحبه ، وتعديده عليه ذنوبه بعد قلة إحسانه إليه- : أمِنْ قلة إحساني إليك؟ أمِنْ إساءتي إليك؟ والمعنى : أمن هذا فعلتَ ما فعلتَ؟ ونظيره : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الليل سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } [ الزمر : 9 ] ، وهذا الوجه يُروى عن مجاهد وعيسى بن عُمَرَ . وحينئذ يسوغ في محل « أن » الوجهان - أعني النصب - مذهب سيبويه - والجر مذهب الخليلِ .
وثانيها : أن { أَن يؤتى } في محل رفع بالابتداء ، والخبر محذوف ، تقديره : أأن يُؤتَى أحَدٌ - يا معشر اليهودِ - من الكتاب والعلم مثل ما أوتيتم تصدقون به ، أو تعترفون به ، أو تذكرونه لغيركم ، أو تُشيعونه في الناس ، ونحو ذلك مما يَحْسُنُ تقديره ، وهذا على قول مَنْ يقول : أزَيْدٌ ضربته؟ وهو وجه مرجوحٌ ، كذا قدره الواحديُّ تبعاً للفارسيِّ وأحسن من هذا التقدير لأن الأصل أإتيان أحد مثل ما أوتيتم ممكن أو مصدق به .
الثالث : أن يكون منصوباً بفعل مقدَّرٍ يُفَسِّرُه هذا الفعل المُضْمَر ، وتكون المسألة من باب الاشتغال ، التقدير : أتذكرون أن يؤتى أحَدٌ تذكرونه؟ ف « تذكرونه » مُفَسِّرٌ ل « تذكرون » الأولى ، على حد : أزيداً ضربتَه؟ ثم حذف الفعل الأخير؛ لدلالة الكلام عليه ، وكأنه منطوقٌ به ، ولكونه في قوةِ المنطوقِ به صَحَّ له أن يُفَسِّر مُضْمَراً وهذه المسألة منصوص عليها ، وهذا أرجح من الوجه قبله ، لأنه مثل : أزيداً ضربته وهو أرجح ، لأجل الطالب للفعل ، ومثل حذف هذا الفعل المقدَّر لدلالة ما قبل الاستفهام عليه حذف الفعل في قوله تعالى :
{ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ } [ يونس : 91 ] تقديره : آلآن آمنتَ ، ورجعتَ وثبت ، ونحو ذلك .
قال الواحديُّ : فإن قيل : كيف جاز دخول « أحَدٌ » في هذه القراءة ، وقد انقطع من النفي ، والاستفهام ، وإذا انقطع الكلام - إيجاباً وتقريراً - فلا يجوز دخول « أحَدٌ » .
قيل : يجوز أن يكون طأحَدٌ « - في هذا الموضع - أحداً الذي في نحو أحد وعشرين ، وهذا يقع في الإيجاب ، ألا ترى أنه بمعنى » واحد « .
قال أبو العباسِ : إن » أحَداً « و » وَحَداً « و » وَاحِداً « بمعنًى .
وقوله : { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } ، أو في هذه القراءة - بمعنى » حتى « ، ومعنى الكلام : أأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم تذكرونه لغيركم حتى يُحَاجُّوكُمْ عند ربكم .
قال الفراء : » ومثله في لكلام : تَعَلَّق به أو يُعْطيك حَقَّك .
ومثله قول امرئ القيس : [ الطويل ]
1514- فَقُلْتُ لَهُ : لا تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا ... نُحَاوِلُ مُلْكاً أو نَمُوتَ فنُعْذَرَا
أي حتى ، ومن هذا قوله تعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [ آل عمران : 128 ] ، ومعنى الآية : ما أعطي أحد مثل ما أوتيتم - يا أمة محمدٍ - من الدين والحُجَّة حتى يحاجوكم عند ربكم « ، قال : » فهذا وَجْهٌ ، وأجود منه أن تجعله عَطْفاً على الاستفهام ، والمعنى : أأن يُؤتَى أحَد مثل ما أوتيتم أو يحاجَّكم أحد عند الله تصدقونه؟ « . وهذا كله معنى قول أبي علي الفارسي .
ويجوز أن يكون { أَن يؤتى أَحَدٌ } منصوباً بفعل مُقَدَّرٍ لا على سبيل التفسير ، بل لمجرد الدلالة المعنوية ، تقديره : أتذكرون ، أو أتشيعونه . ذكره الفارسي أيضاً ، وهذا هو الوجه الرابع .
الخامس : أن يكون { أَن يؤتى } - قراءته - مفعولاً من أجله على أن يكون داخلاً تحت القول لا من قول الطائفة ، وهو أظهر مِنْ جَعْلِه من قَوْل الطَّائِفَةِ .
قال ابن الخطيبِ : » أما قراءة من يقصر الألف من « أنْ » فقد يُمْكن إيضاحها على معنى الاستفهام ، كما قرئ : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُم } [ البقرة : 6 ] - بالمد والقصر - وكذا قوله تعالى : { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ } [ القلم : 14 ] قرئ بالمد والقصر .
وقال امرؤ القيس : [ المتقارب ]
1515- تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أمْ تَبْتَكِرْ ... وَمَاذَا عَلَيْكَ بِأنْ تَنْتَظِر؟
أراد : أتروح؟ فحذف ألف الاستفهام؛ لدلالة « أم » عليه ، وإذا ثبت أن هذه القراءةَ مُحْتَمِلَةٌ لمعنى الاستفهام كان التقدير ما شرحناه في القراءة الأولى .
وقد ضعف الفارسيُّ قراءةَ ابن كثيرٍ ، فقال : [ « وهذا موضع ينبغي أن تُرَجَّحَ فيه قراءةُ غيرِ ابنِ كثير على قراءة ابن كثير ] ؛ لأن الأسماء المُفْرَدةَ ليس بالمستمر فيها أن تدلَّ على الكثرة » .
وقرأ الأعمش وشعيب بن أبي حمزة : إن يُؤتَى - بكسْر الهمزة - وخرَّجها الزمخشريُّ على أنها « إنْ » النافية ، فقال : وقُرِئَ : « إن يؤتى أحد » على « إن » النافية ، وهو متصل بكلام أهل الكتاب ، أي : « ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم » وقولوا لهم : ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم ، يعني ما يُؤتَوْنَ مثلَه فلا يحاجونكم .
قال ابنُ عطيةَ : « وهذه القراءة تحتمل أن يكون الكلام خطاباً من الطائفة القائلة ، ويكون قولها : أو يحاجوكم بمعنى : أو فَلْيُحَاجُّوكُمْ ، وهذا على التصميم على أنه لا يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم ، أو يكون بمعنى إلا أن يحاجوكم ، وهذا على تجويز أن يؤتى أحد ذلك إذا قامت الحجة له » ، فقد ظهر - على ما ذكره ابن عطية - أنه يجوز في « أوْ » - في هذه القراءة - أن تكون على بابها من كونها للتنويع والتخيير ، وأن تكون بمعنى « إلا » إلا أن فيه حذفَ حرفِ الجزمِ ، وإبقاء عمله وهو لا يجوز ، وعلى قول غيره تكون بمعنى « حَتَّى » .
وقرأ الحسن : أن يُؤتِيَ أحَد - على بناء الفعل للفاعل - ولما نقل بعضهم هذه القراءةَ لم يتعرَّض ل « أن » - بفتح ولا بكسر - كأبي البقاء ، وابن عطية ، وقيَّدَها بعضُهم بكسر « أنْ » وفسَّرها بإن النافية ، والظاهر في معناه أن إنعام الله تعالى لا يُشْبِهه إنعام أحد من خلقه ، وهي خطاب من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ، والمفعول المحذوف ، تقديره : إن يُؤتِيَ أحَدٌ أحَداً مثل ما أوتيتم ، فحذف المفعول الأول ، وهُوَ أحَدٌ؛ لدلالة المعنى عليه ، وأبقى الثاني ، فيكون قول اليهودِ وقد تم عند قوله : { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } وما بعده من قول الله تعالى ، يقول : « قل » يا محمدُ إن { الهدى هُدَى الله أَن يؤتى } « إنْ » بمعنى الجحد ، أي : ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد ، أو يحاجوكم ، يعني : إلا أن يجادلكم اليهودُ بالباطل ، فيقولوا : نحن أفضل منكم وهذا معنى قول سعيد بن جُبَيرٍ والحسن والكلبيِّ ومقاتلٍ وهذا ملخَّص كلام الناسِ في هذه الآية مع اختلافهم .
قال الواحدي : « وهذه الآيةُ من مشكلات القرآن ، وأصعبه تفسيراً؛ ولقد تدبَّرْتُ أقْوَالَ أهلِ التفسير ، والمعاني في هذه الآية ، فلم أجد قولاً يَطَّرِدُ في الآيةِ ، من أوَّلِها إلى آخرهَا ، مع بيان المعنى في النظم » .
فصل
قال بعض المفسّرين : هذا من قول الله - تعالى - ، يقول : « قل » لهم يا محمدُ : { إِنَّ الهدى هُدَى الله } بأن أنزل كتاباً مثل كتابكم ، وبعث نبيًّا حسدتموه ، وكفرتم به ، { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } وقوله : { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } - على هذا - رجوع إلى خطاب المؤمنين ، وتكون « أوْ » بمعنى « إنْ » لأنهما حرفا شرط وجزاء ، ويوضع أحدُهما مَوْضِعَ الآخر ، وإن يُحاجُّوكم - يا معشرَ المؤمنين - عند ربكم فقل يا محمدُ ، إنَّ الهدى هدى الله ، ونحن عليه .
ويجوز أن يكون الجميعُ خِطاباً للمؤمنين ، ويكون نظمُ الآيةِ : إنْ يُؤتَ أحدٌ مثلَ ما أوتيتم - يا معشرَ المؤمنين - يَحْسدوكم ، فقل : إن الفَضْلَ بِيَدِ الله ، وإن حاجُّوكم فقل : إنَّ الْهُدَى هُدَى الله .
ويجوز أن يكون الخبر عن اليهود قد تم عند قوله تعالى : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } وقوله : { وَلاَ تؤمنوا } من كلام الله تعالى - كما تقدم - ثَبَّت به قلوبَ المؤمنينَ؛ لئلا يشكُّوا عند تلبيس اليهود ، وتزويرهم في دينهم ، ومعناه : لا تُصدِّقوا يا مَعْشَرَ الْمُؤمنين إلا مَنْ تَبعَ دِينَكُمْ ، ولا تصدقوا أن يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم من الدين والفَضْلِ ، ولا تصدِّقُوا أن يُحاجُّوكم في دينكم عند ربكم ، أو يقدروا على ذلك؛ فإنَّ الهدى هدى اللهِ ، والفضل بيد اللهِ يؤتيه من يشاء ، والله واسعٌ عليمٌ ، فتكون الآية كلُّها خطاب الله - تعالى - مع المؤمنين .
و « الفضل » - هنا - الرسالة ، وهو - في اللغة - عبارة عن الزيادة ، وأكثر ما يُستعمَل في زيادة الإحسان ، والفاضل : الزائد على غيره [ في خصال الخير ، ثم كَثر استعمال الفَضْل حتى صار لكل نفع قَصَد به فاعله الإحسانَ إلى الغير ] ، وقوله : { بِيَدِ الله } معناه : أن مالك له ، يؤتيه من يشاءُ ، أي : هو تفضُّلٌ موقوف على مشيئته ، وهذا يدل على أن النبوةَ تحصُل بالتفضُّلِ ، لا بالاستحقاق؛ لأنه جعلها من باب الفَضْل الذي لفاعله أنْ يفعَلَه ، وأنْ لا يفعَلَه .
الواسع : الكامل القدرة ، والعليم : الكامل العلم ، فلكمال قُدْرَتهِ يصح أن يتفضل على أيِّ عَبْدٍ شاء بأي تفضُّل شاء ، ولكمال علمه لا يكون شيء من افعاله إلا على وَجْه الحكمة والصواب .
قوله : { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } أي : يختص بنبوته من يَشَاء ، وهذا كالتأكيد لِمَا تَقَدَّم ، والفرق بين هذه الآية والتي قبلها أن الفضل عبارة عن الزيادةِ من جنس المزيدِ عليه ، والرحمةُ المضافةُ إلى الله - تعالى - أمرٌ أعْلى من ذلك الفضل ، فرُبَّما بلغت هذه الرحمةُ إلى أن لا تكون من جنس ما آتاهم ، بل يكون أعْلى وأجلَّ من ذلك { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } .

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
لما حكى خيانَتَهم في باب الدِّين ذكرها - ايضاً - في الأموال .
قوله : « مَنْ » مبتدأ ، و { وَمِّنْ أَهْلِ } خَبَرُه ، قُدِّمَ عليه ، و « مَنْ » إما موصولة ، وإما نكرة . و « إن تأمنه بقنطار يؤده » هذه الجملة الشرطية ، إما صلة ، فلا محل لها ، وإما صفة فمحلّها الرفع .
وقرا بعضهم : { تَأْمَنْهُ } ، و { مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّ } [ يوسف : 11 ] . بكسر حرف المضارعة ، وكذلك ابن مسعود والأشهب والعقيلي ، إلا أنهما أبْدَلاَ الهمزة ياءً .
وجعل ابن عطية ذلك لغة قُرَيْشٍ ، وغلَّطه أبو حيّان وقد تقدّمَ الْكَلاَمُ في كسر حرف المضارعةِ ، وشرطه في الفاتحة يقال : أمنته بكذا ، وعلى كذا ، فالباءُ للإلصاق بالأمانة ، و « على » بمعنى استيلاء المودع على الأمانة .
وقيل : معنى : أمنته بكذا ، وثقت به فيه ، وأمنته عليه : جعلته أميناً عليه .
والقنطارُ والدينار : المراد بهما العددُ الكثيرُ ، والعدد القليل ، يعني : أن فيهم مَنْ هو في غاية الأمانة ، حتى أنه لو ائتمِن على الأموال الكثيرة أدَّى الأمانة فيها ، ومنهم من هو في غاية الخيانة ، حتى لو ائتُمِن على الشيء القليل فإنه يخون فيه .
واختلف في القنطار ، فقيل : ألف ومائتان أوقية؛ لأن الآية نزلت في عبد الله بن سلام ، حين استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية من الذهب ، فردَّه ، ولم يَخُنْ فيه .
ورُوِي عن ابن عباس أنه مِلْءُ جلد ثور من المال .
وقيل : ألف ألف دينار ، أو ألف الف درهم - وقد تقدم- .
والدينار : أصله : دِنَّار - بنونين - فاستثقل توالي مثلَيْن ، فأبدلوا أولهما حرفَ علة ، تخفيفاً؛ لكثرة دوره في لسانهم ، ويدل على ذلك رَدُّه إلى النونين - تكسيراً وتصغيراً - في قولهم : دَنَانير ودُنَيْنِير .
ومثله قيراط ، أصله : قِرَّاط ، بدليل قراريط وقُرَيْرِيط ، كما قالوا : تَظَنَّيْتُ ، وقصَّصْتُ أظفاري ، يريدون : تظنّنت وقصّصت - بثلاث نونات وثلاث صاداتٍ - والدِّينار مُعرَّب ، قالوا : ولم يختلف وزنه أصْلاً وهو أربعة وعشرون قيراطاً ، كل قِيراطٍ ثلاث شعيرات معتدلاتٍ ، فالمجموع اثنان وسبعون شعيرةً .
وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم « يُؤَدِّهْ » بسكون الهاء في الحرفين .
وقرأ قالون « يُؤَدِّهِ » بكسر الهاء من دون صلة ، والباقون بكسرها موصولة بياء ، وعن هشام وجهان :
أحدهما : كقالون ، والآخر كالجماعة .
أما قراءة أبي عمرو ومن معه فقد خرَّجوها على أوجه ، أحسنها أنه سكنت هاء الضمير ، إجراءً للوصْل مجرى الوقف وهو باب واسع مضى منه شيء - نحو : { يَتَسَنَّهْ } [ البقرة : 259 ] و { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيت } [ البقرة : 258 ] وسيأتي منه أشياء إن شاء الله تعالى .
وأنشد ابنُ مجاهد على ذلك : [ البسيط ]
1516- وأشْرَبُ الْمَاءَ مَا بِي نَحْوَهُ عَطَشٌ ... إلاَّ لأنَّ عُيُونَهْ سَيْلُ وَادِيهَا
وأنشد الأخفش : [ الطويل ]
1517- فَبتُّ لَدَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أخِيلُهُ ... وَمِطْوايَ مُشْتَاقَانِ لَهْ أرقَان
إلا أن هذا يخصُّه بعضهم بضرورة الشعر ، وليس كما قال ، لما سيأتي .
وقد طعن بعضهم على هذه القراءةِ ، فقال الزَّجَّاجُ : هذا الإسكان الذي رُوِيَ عن هؤلاء غلط بَيِّنٌ؛ وأن الفاء لا ينبغي أن تُجْزَم ، وإذا لم تُجْزَم فلا تسكن في الوصل ، وأما ابو عمرو فأُراه كان يختلس الكسرة ، فغلط عليه كما غلط عليه في « باريكم » . وقد حكى عنه سيبويه - وهو ضابط لمثل هذا - أنه كان يكسر كسراً خفياً ، يعني يكسر في { بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] كسراً خفيًّا ، فظنه الراوي سكوناً .
قال شهابُ الدينِ : وهذا الرد من الزجَّاج ليس بشيءٍ لوجوه :
منها : أنه فَرَّ من السكون غلى الاختلاس ، والذي نصَّ على أن السكون لا يجوز نص على أنَّ الاختلاس - ايضاً - لا يجوز إلا في ضرورة ، بل جعل الإسكان في الضرورة أحسن منه في الاختلاس ، قال : ليُجْرَى الوصلُ مجرى الوقف إجراء كاملاً ، وجعل قوله : [ البسيط ]
1518- ... إلاَّ لأن عُيُونَهْ سَيْلُ وَادِيهَا
أحسن من قوله : [ البسيط ]
1519- . ... مَا حَجَّ رَبَّهُ في الدُّنْيَا ولا اعْتَمَرَ
حيث سكن الأول ، واختلس الثاني .
ومنها أن هذه لغة ثابتة عن العرب حفظها الأئمة الأعلام كالكسائي والفراء - حكى الكسائيُّ عن بني عقيل وبني كلابٍ { إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُود } [ العاديات : 6 ] - بسكون الهاء وكسرها من غير إشباع- .
ويقولون : لَهُ مال ، ولَهْ مالٌ - بالإسكان والاختلاس .
قال الفراء : من العرب مَنْ يجزم الهاء - إذا تحرَّك ما قبلَها - نحو ضَرَبْتُهْ ضرباً شديداً ، فيسكنون الهاء كما يسكنون ميم « أنتم » و « قمتم » وأصلها الرفع .
وأنشد : [ الرجز ]
1520- لمَّا رَأى أن لا دَعَهْ ولا شِبَعْ ... مَالَ إلَى أرْطَاةِ حِقف فالطَدَعْ
قال شهاب الدينِ : وهذا عجي من الفرَّاء؛ كيف يُنْشِد هذا البيت في هذا المَعْرِض؛ لأن هذه الفاء مبدلة من تاء التأنيث التي كانت ثابتةً في الوصل ، فقلبها هاءً ساكنة في الوصل؛ إجراءً له مُجْرَى الوقف وكلامنا إنما هو في هاء الضمير لا في هاء التأنيثِ؛ لأن هاء التانيثِ لا حَظَّ لها في الحركة ألبتة ، ولذلك امتنع رومها وإشمامُها في الوقف ، نَصُّوا على ذلك ، وكان الزجاج يُضَعَّف في اللغة ، ولذلك رد على ثعلب - في فصيحه - أشياء أنكرها عن العرب ، فردَّ الناسُ عليه رَدَّه ، وقالوا : قالتها العربُ ، فحفظها ثعلب ولم يحفظْها الزجَّاج . فليكن هذا منها .
وزعم بعضهم أن الفعلَ لما كان مجزوماً ، وحلت الهاءُ محلّ لامِهِ جرى عليها ما يَجْرِي على لام الفعل - من السكون للجزم - وهو غير سديدٍ .
وأما قراءة قالون فأنشدوا عليها قول الشاعر : [ الوافر ]
1521- لَهُ زَجَلٌ كأنَّهُ صَوْتُ حَادٍ ... إذَا طَلَبَ الْوَسِيقَةَ أوْ زَمِيرُ
وقول الآخر : [ الطويل ]
1522- أنَا ابْنُ كِلابٍ وابْنُ أوْسٍ فَمَنْ يَكُنْ ... قِنَاعُهُ مغْطِيًّا فَإنِّي لَمُجْتَلى
وقول الآخر : [ البسيط ]
1523- أوْ مَعْبَرُ الظَّهْرِ يُنْبي عَنْ وَلِيَّتِهِ ... مَا حَجَّ رَبَّهُ فِي الدُّنْيَا وَلا اعْتَمَرَ
وقد تقدم أنها لغة عقيل ، وكلاب أيضاً ، وأما قراءة الباقين فواضحة وقرأ الزهريُّ « يُؤَدِّهو » بضم الهاء بعدها واو ، وهذا هو الأصل في هاء الكتابة ، وقرأ سَلاَّم كذلك إلا أنه ترك الواوَ فاختلس ، وهما نظيرتا قراءتي « يؤدهي » و { يُؤَدِّهِ } - بالإشباع والاختلاس مع الكسرِ واعلم أن هذه الهاء متى جاءت بعد فعل مجزوم ، أو أمر معتلِّ الآخر ، جَرَى فيها هذه الأوجُه الثلاثة أعني السكون والإشباع والاختلاس - كقوله : { نُؤْتِهِ مِنْهَ } [ آل عمران : 145 ] وقوله : { يَرْضَهُ لَكُمْ } [ الزمر : 7 ] وقوله : { مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّم } [ النساء : 115 ] ، وقوله : { فَأَلْقِهْ إِلَيْهِم } [ النمل : 28 ] وقد جاء ذلك في قراءة السبعة - أعني : الأوجه الثلاثة - في بعض هذه الكلمات وبعضها لم يأت فيه إلا وجه - وسيأتي مفصَّلاً في مواضعه إنْ شاء الله . وليس فيه أن الهاء التي للكناية متى سبقها متحرَّك فالفصيح فيها الإشباع ، نحو « إنَّهُ ، لَهُ ، بِهِ » ، وإن سبقها ساكن ، فالأشهر الاختلاس - سواء كان ذلك الساكن صحيحاً أو معتلاً - نحو فيه ، منه وبعضهم يفرق بين المعتلْ والصحيح وقد تقدم ذلك أول الكتاب .
إذا علم ذلك فنقول : هذه الكلمات - المشار إليها - إن نظرنا إلى اللفظ فقد وقعت بعد متحرِّك ، فحقها أن تشبع حركتها موصولةً بالياء ، أو الواو ، وإن سكنت فلما تقدم من إجراء الوصل مُجرى الوقف . وإن نظرنا إلى الأصل فقد سبقها ساكن - وهو حَرْفُ العلة المحذوف للجزم - فلذلك جاز الاختلاسُ ، وهذا أصل نافع مطرد في جميع هذه الكلمات .
قوله { بِدِينَارٍ } في هذه الباء ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنها للإلصاق ، وفيه قَلَقٌ .
الثاني : أنها بمعنى « في » ولا بد من حذف مضاف ، أي : في حفظ قنطار ، وفي حفظ دينار .
الثالث : أنها بمعنى « على » وقد عُدِّيَ بها كثيراً ، كقوله : { مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُف } [ يوسف : 11 ] وقوله : { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 64 ] وكذلك هي في { بِقِنطَارٍ } .
قوله : { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } استثناء مفرَّغ من الظرف العام؛ إذ التقدير : لا يؤده إليك في جميع المُددِ والأزمنة إلا في مدة دوامك قائماً عليه ، متوكِّلاً به و « دُمْتَ » هذه هي الناقصةُ ، ترفع وتنصب ، وشرط إعمالها أن يتقدمها ما الظرفية كهذه الآية إذ التقدير إلا مدة دومك [ ولا ينصرف ، فأما قولهم : « يدوم » فمضارع « دام » التامة بمعنى بقي ، ولكونها صلة ل « ما » الظرفية ] لزم أن يكون بحاجة إلى كلام آخر ، ليعمل في الظرف نحو أصحبك ما دمت باكياً ولو قلت ما دام زيد قائماً من غير شيء لم يكن كلاماً .
وجوز أبو البقاء في « ما » هذه أن تكون مصدرية فقط ، وذلك المصدر - المنسبك منها ومن دام - في محل نصب على الحال ، وهو استثناءٌ مفرَّغ - أيضاً - من الأحوال المقدَّرة العامة ، والتقدير : إلا في حال ملازمتك له ، وعلى هذا ، فيكون « دَامَ » هنا تامة؛ لما تقدم من أن تقدُّم الظرفية شرط في إعمالها ، فإذا كانت تامة انتصب « قَائماً » على الحال ، يقال : دام يدُوم - كقام يقوم - و « دُمت قائماً » بضم الفاء وهذه لغة الحجاز ، وتميم يقولون : دِمْت - بكسرها - وبها قرأ أبو عبد الرحمن وابن وثّابٍ والأعمشُ وطلحة والفياضُ بن غزوان وهذه لغة تميم ، ويجتمعون في المضارع ، فيقولون : يدوم يعني : أن الحجازيين والتميميين اتفقوا على أن المضارع مضمومُ الْعَيْنِ ، وكان قياسُ تميم أن تقول يُدام كخاف يخاف - فيكون وزنها عند الحجازيين فعَل - بفتح العين - وعند التميمين فِعل بكسرها هذا نقل الفراء .
وأما غيره فنقل عن تميم أنهم يقولون : دِمْتُ أدام - كخِفت اخاف - نقل ذلك أبو إسحاق وغيره كالراغب الأصبهاني والزمخشري .
وأصل هذه المادة : الدلالة على الثبوت والسكون ، يقل : دام الماء ، أي سكن . وفي الحديث : « لا يبولن أحدكم في الماء الدائم » وفي بعضه بزيادة : الذي لا يجري ، وهو تفسير له ، وأدَمْت القِدْرَ ، ودومتها سكنت غليانها بالماء ، ومنه : دامَ الشيء ، إذا امتدَّ عليه الزمان ، ودوَّمت الشمس : إذا وقعت في كبد السماء .
قال ذو الرمة : [ البسيط ]
1524- . . ... وَالشَّمْسُ حيْرَى لَهَا في الْجَوِّ تَدْوِيمُ
هكذا أنشد الراغبُ هذا الشطر على هذا المعنى ، وغيره ينشده على معنى أن الدوام يُعَبَّر به عن الاستدارة حول الشيء ، ومنه الدوام ، وهو الدُّوَار الذي يأخذ الإنسان في دماغه ، فيرَى الأشياء دائرة . وأنشد معه - أيضاً - قول علقمة به عَبدَة : [ البسيط ]
1525- تَشْفِي الصُّدَاعَ وَلاَ يُؤْذِيكَ سَالِيهَا ... وَلاَ يُخَالِطُهَا فِي الرَّأْسِ تَدْوِيمُ
ومنها : دوَّم الطائر ، إذا حَلَّق ودار .
قوله : « عَلَيْهِ » متعلق ب « قائِماً » وفي المراد بالقيام - هنا - وجهان :
الأول : الحقيقة ، وهو أن يقوم على رأس غريمه ، ويلازمه بالمطالبة ، وإن أخَّره أنكر .
قال القرطبيُّ : استدل أبو حنيفةَ على مذهبه في ملازمة الغريم بقوله تعالى : { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } وأباه سائر العلماء واستدلَّ بعضهم على حَبْس المِدْيان بقوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } فإذا كان له ملازمته ، ومنعه من التصرف ، جاز حبسه .
وقيل معنى : إلا ما دمت عليه قائماً أي : بوجهك ، فيهابك ، ويستحيي منك ، فإن الحياء في العينين ألا ترى قول ابن عباس رضي الله عنه : لا تطلبوا من الأعمى حاجة فإن الحياء في العينين وإذا طلبتَ من أخيك حاجة فانظر غليه بوجهك ، حتى يستحيي فيقضيها .
الثاني : المجاز .
قال ابن عباس : المرادَ من هذا القيام ، الإلحاح ، والخصومة ، والتقاضي ، والمطالبة ، قال ابن قُتَيْبَة : أصله أن المطالبَ للشيء يقوم فيه ، والتارك له يَبُْد عنه ، بدليل قوله تعالى : { مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } [ آل عمران : 113 ] أي : عاملة بأمر الله ، غير تاركة .
ثم قيل لكل مَنْ واظب على مطالبة أمر : قام به - وإن لم يكن ثَمَّ قيام - وقال : أبو علي الفارسي : القيام - في اللغة - بمعنى الدوام والثبات ، كما ذكرناه في قوله تعالى : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة } [ النمل : 3 ] ومنه قوله : { دِينًا قَيِّمًا } [ الأنعام : 161 ] ، أي : دائماً ثابتاً لا ينسخ فمعنى الآية : دائماً ، ثابتاً في مطالبتك .
فصل
دلَّت الآية على انقسام أهل الكتاب إلى قسمين : أهل أمانة ، وأهل خيانة .
فقيل : اهل الأمانة هم الذين أسلموا ، وأهل الخيانة : هم الذين لم يُسْلِموا .
وقيل : أهل الأمانة هم النصارى وأهل الخيانة : هم اليهود .
وروى الضحاك عن ابن عباس - في هذه الآية { وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } يعني عبد الله بن سلام ، [ أودعه رجل ألفاً ومائتي أوقية من ذهب ، فأداه . { وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } يعني : فنحاص بن عازوراء ] ، استودعه رجل من قريش ديناراً ، فخانه .
فصل
يدخل تحت هذه الآية العَيْنُ والدَّيْنُ؛ لأن الإنسانَ قد يأتمن غيره على الوديعة ، وعلى المبايعة ، وعلى المقارضة ، وليس في الآية ما يدل على التعيين ، ونُقِل عن ابنِ عباس أنه حمله على المبايعة ، فقال ومنهم من تبايعه بثمن القنطار ، فيؤديه إليك ، ومنهم من تبايعه بثمنِ الدينارِ ، فلا يؤديه إليك ونقلنا - أيضاً - أن الآية نزلت في رجل أودعَ مالاً كثيراً عبد الله بن سلام فأدَّاه ، ومالاً قليلاً عند فنحاص بن عازوراء فلم يؤده ، فثبت أن اللفظ محتمل لجميع الأقسام .
قوله : { ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ } ذكروا في السبب الذي لأجله اعتقد اليهود هذا الاستحلال وجوهاً :
أحدها : أنهم يبالغون في التعصُّب لدينهم ، فلذلك يقولون : يحل لنا قتل المخالف ، وأخذ ماله بأي طريق كان ، وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم : « كَذَبَ أعْدَاءُ اللهِ ، مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ إلا وهُو تَحْتَ قدَميَّ ، إلاَّ الأمَانَةَ ، فإنَّهَا مُؤدَّاة إلى البَرِّ والْفَاجِرِ » .
الثاني : أن اليهود قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] والخلق لنا عبيد ، فلا سبيل لأحد علينا ، إذا أكلنا أموال عبيدنا .
الثالث : قال القرطبيُّ : قالت اليهود : إن الأموال كانت كلُّها لنا ، فما في أيدي العرب منها ، فهو لنا؛ ظلمونا وغصبونا ، فلا سبيل علينا في أخذنا إياه منهم .
الرابع : قال الحسنُ وابنُ جريجٍ ومقاتلٍ : إن اليهودَ إنما ذكروا هذا الكلامَ لمن خالفهم من العرب الذين آمنوا بالرسول خاصَّةً ، وليس لكل من خالفهم .
ورُوي أنهم بايعوا رجالاً في الجاهلية ، فلما أسلموا طالبوهم بالأموال ، فقالوا : ليس علينا حَقٌّ؛ لأنكم تركتم دينكم . وادَّعَوْا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم .
قال ابن الخطيبِ : « ومن المحتملِ أنه كان من مذهب اليهود ، أن مَن انتقل من دين باطلٍ إلى دين آخرَ باطلٍ كان في حكم المرتدِّ ، فهم - وإن اعتقدوا أن العرب كُفار ، إلا أنهم لما اعتقدوا في الإسلام أنه كُفر - حكموا على العرب الذي أسلموا بالرِّدَّةِ .
قوله : { لَيْسَ عَلَيْنَا } يجوز أن يكون في » ليس « ضمير الشأنِ - وهو اسمها - وحينئذ يجوز أن يكون » سبيل « مبتدأ ، و » عَلَيْنَا « الخبر ، والجملة خبر ليس . ويجوز أن يكون » عَلَيْنَا « وحده هو الخبر ، و { سَبِيلِ } مرتفع به على الفاعلية . ويجوز أن يكون { سَبِيلِ } اسم » ليس « والخبر أحد الجارين أعني : { عَلَيْنَا } أو { فِي الأميين } .
ويجوز أن يتعلق { فِي الأميين } بالاستقرار الذي تعلق به » عَلَيْنَا « وجوّز بعضهم أن يتعلق بنفس » ليس « نقله أبو البقاء ، وغيرُه ، وفي هذا النقل نظر؛ وذلك أن هذه الأفعال النواقص في عملها في الظروف خلاف ، وَبَنَوُا الخلافَ على الخلاف في دلالتها على الحدث ، فمن قال : تدل على الحدث جوز إعمالها في الظرف وشبهه ، ومن قال : لا تدل على الحدث منعوا إعمالها . واتفقوا على أن » ليس « لا يدل على حدث ألبتة ، فكيف تعمل؟ هذا ما لا يُعْقَل .
ويجوز أن يتعلق { فِي الأميين } ب » سَبيلٌ « ، لأنه استعمل بمعنى الحرجِ ، والضمانِ ، ونحوها . ويجوز أن يكون حالاً منه فيتعلق بمحذوف .
قال : فالأمي منسوب إلى الأم ، وسُمِّي النبي صلى الله عليه وسلم أمياً؛ قيل : لأنه كان لا يكتب ، وذلك لأن الأمَّ : أصل الشيء فمن لا يكتب فقد بَقِي على أصله في أن لا يكتب .
وقيل : نسبة إلى مكة ، وهي أمُّ القُرَى .
قوله : { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكذب } فيه وجوهٌ :
أحدها : هو قولهم : أن جواز الخيانةِ مع المخالف مذكور ف يالتوراة ، وكانوا كاذبين في ذلك ، وعالمين بكونهم كاذبين . [ ومن كان كذلك كانت خيانته أعظمَ ، وجرمُه أفحش ] فيه .
وثانيها : أنهم يعلمون كون الخيانة مُحَرَّمَةٌ .
وثالثها : أنهم يعلمون ما على الخائن من الإثم .
فصل في رد شهادة الكافر
قال القرطبيُّ : » دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ الكافرَ لا يُجعل أهلاً لقبول شهادته؛ لأن الله تعالى وصفه بالكذب ، وفي الآية رَدٌّ على الكَفَرَةِ الذين يُحَلِّلُون ويُحَرِّمون من غير تحليل الله وتحريمه ويجعلون ذلك من الشرع ، قال ابن العربيّ : ومِنْ هذا يخرج الرَّدُّ على مَنْ يحكم بالاستحسان مِن غير دليل ، ولست أعلم أحداً من أهل القبلةِ قاله « .
قوله : { عَلَى اللَّهِ } يجوز أن يتعلق بالكذب - وإن كان مصدراً - لأنه يُتَّسَع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسَع في غيرهما ومَنْ منع علَّقه ب » يَقُولُونَ « متضمِّناً معنى يفترون ، فعُدِّي تعديته . ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من » الْكَذِب « ، وقوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } جملة حالية ، ومفعول العلم محذوف اقتصاراً ، أي : وهم من ذوي العلم ، أو اختصاراً ، أي : وهم يعلمون كذبهم وافتراءهم ، وهو أقبح لهم .

بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
قوله : { بلى } جواب لقولهم : « لَيْسَ » وإيجاب لما نفوه . وتقدم القول في نظيره .
قال ابن الخطيبِ : وعندي الوقف التام على « بلى » ثم استأنف .
وقيل : إن كلمة « بلى » كلمة تُذْكَر ابتداءً لكلام آخرَ يُذكَر بعده؛ لأن قولَهم : ليس علينا فيما نفعل جناحٌ قائمٌ مقام قولهم : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] فذكر - تعالى - أن أهل الوفاءِ بالعهد والتقى هم الذين يحبهم الله تعالى - لا غيرهم - وعلى هذا الوجه ، فلا يَحْسُن الوقف على « بلى » اه .
و « مَنْ » شرطية ، أو موصولة ، والرابط بين الجملة الجزائية ، أو الخبرية هو العموم في { الْمُتَّقِينَ } وعند من يرى الربط بقيام الظاهر مقام المضمر يقول ذلك هنا .
وقيل : الجزاء ، أو الخبر محذوف ، تقديره : يحبه الله ، ودل على هذا المحذوف قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } وفيه تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه .
قال القرطبيُّ : « مَنْ » رفع بالابتداء ، وهو شرط ، و « أوفى » في موضع جزم « واتَّقَى » معطوف عليه ، واتقى الله ، ولم يكذب ، ولم يستحل ما حرم عليه { فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } أي يحب أولئك .
و « بعهده » يجوز أن يكون المصدر مضافاً لفاعله على أن الضمير يعود على « مَنْ » . أو مضافاً إلى مفعوله على أنه يعود على « اللهِ » ويجوز أن يكون المصدر مضافاً للفاعل وإن كان الضمير لله تعالى وإلى المفعول وإن كان الضمير عائداً على « مَنْ » ومعناه واضح عند التَّأمُّلِ .
فإن قيل : بتقدير أن يكون الضميرُ عائداً إلى الفاعل ، وهو « مَنْ » فإنه يدل على أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانةَ ، فإنهم يكتسبونَ محبة اللهِ .
فالجواب أن الأمر كذلك ، فإنهم إذا وفوا بالعهود ، فأول ما يوفون به العهد الأعظم ، وهو ما أخذَ الله عليهم في كتابهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وهو المراد بالعهد في هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم « أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً ، وَمَنْ كَانتْ فيه وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خصلَةٌ مِن النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذا ائتُمِنَ خَانَ ، وَإذَا حدَّث كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإذَا خَاصَم فَجرَ » .

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
مما جاء في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهٌ :
أحدها : أنه - تعالى - لما وصف اليهودَ بالخيانة في أموال النّاس ، فمعلوم أن الخيانَة في الأموال ، لا تكون بالأيمان الكاذبةِ .
وثانيها : أنه - تعالى - حَكَى عنهم أنهم يقولون على الله الكذب ، وهم يعلمون ، ولا شك أن عهد الله - تعالى - على كل مكلَّفٍ أن لا يكذبَ على الله .
وثالثها : أنه - تعالى - ذكر في الآية الأولى خيانَتهم في أموال الناس ، وذكر في هذه الآية خيانتهم في عهد الله وفي تعظيم أسمائِهِ؛ حيث يَحْلِفون بها كاذبين .
وقال بعضهم : إن هذه الآية ابتداء كلام مستقلٍّ في المنع من الأيمان الكاذبةِ؛ لأن اللفظَ عامٌّ ، والروايات الكثيرة دلَّت على أنها نزلت في أقوامٍ أقدموا على الأيمان الكاذبة .
فصل
قال عكرمةُ : نزلت في أحبار اليهود ، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتبوا بأيديهم غيرَها ، وحلفوا أنها من عند الله؛ لئلا تفوتَهم الرِّشاء التي كانت من أبناء عمهم .
وقيل : نزلت في ادِّعائهم أنه { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ } [ آل عمران : 75 ] كتبوا ذلك بأيديهم ، وحَلَفُوا أنه من عند الله قاله الحسنُ .
وقال ابن جُرَيْجٍ : نزلت في الأشعث بن قيس وخَصْمٍ له ، اختصما في أرض إلى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال : أقم بيِّنتك ، فقال : ليس لي بينة ، فقال لليهودي : احلِفْ ، قال : إذاً يحلف ، فيذهب بمالي ، فأنزل الله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ } فنكل الأشعث .
قال مجاهدٌ : نزلت في رجل حلف يميناً فاجرةً في تنفيق سلعته ، عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ . قَالَ : وقرأها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، فقال أبو ذر : خابوا ، وخسروا مَنْ هم يا رسولَ اللهِ؟ قال : المُسْبِلُ إزَارَهُ ، والمَنَّانُ ، والمُنْفِقُ سلعَتَهُ بالحَلِف الْكَاذِبِ » .
وروى أبو هريرة عن النبي : « ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ : رَجُلٌ حَلَفَ يَمِيناً عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ ، فاقتطعه ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ أنَّهُ أعْطِي بِسِلْعَتِهِ أكْثَرَ مِمَّا أعْطي وَهُوَ كَاذِبٌ - وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ ماءٍ ، فَإن اللهَ - تَعَالَى - يَقولُ : الْيَوم أمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ » .
وقيل : جاء رجل من حضرموت ورجل من كِنْدةَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرميُّ : يا رسولَ اللهِ ، إن هذا قد غلبني على أرض لي - كانت لأبي - فقال الكنديّ : هي أرضي في يدي ، أزرعها ، ليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحَضْرَمِيّ :
« ألك بيِّنةٌ؟ قال لا ، قَالَ : فَلَكَ يمينُهُ قال : يا رسولَ اللهِ ، إن الرجل فاجِرٌ لا يبالي على ما حلف عليه ، قال ليس لك منه إلا ذلك ، فانطلق ليحلف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر » أما لئن حَلَفَ علَى ما لَيْسَ لَهُ لِيَأكُلَهُ ظُلماً لَيَلْقَيَنَّ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ « .
قال علقمة : أما الكنديّ فهو عمرو بن القيس بن عابس الكنديّ ، وخصمه ربيعة بن عبدان الحضرميّ ، روى أبو أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » مَن اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِم - بِيَمِينِهِ - حَرَّم اللهُ عَلَيْه الْجَنَّة وَأوْجَبَ لَهُ النَّارَ ، قَالُوا : وإن كان شيئاً يسيراً يا رسولَ الله؟ قَالَ : وَإنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أرَاكٍ « قالها ثلاث مراتٍ .
قوله : { أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة } أي : لا نصيبَ لهم في الآخرةِ وتعيمها ، وهذا مشروطٌ بالإجماع بعد التوبة ، فإذا تاب عنها سقط الوعيدُ - بالإجماع - وشرط بعضهم عدم العفو؛ لقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] ، { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ } أي : كلاماً ينفعهم ، ويسرهم .
وقيل : لمعنى الغضب ، كما يقول الرجل : إني لا أكلم فلاناً - إذا كان قد غضب عليه - قاله القفالُ .
ثم قال : { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة } أي : لا يرحمهم ، ولا يُحْسِن إليهم ، ولا يُنِيلُهم خيراً ، وليس المقصود منه النظر بتقليب الحَدَقَةِ إلى المَرْئِيّ - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - { وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } أي : لا يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة .
وقيل : لا يُثْنِي عليهم كما يُثْنِي على أوليائه - كثناء المزكِّي للشاهد والتزكية من الله قد تكون على ألسنة الملائكة ، كقوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23-24 ] وقد تكون من غير واسطة ، أما في الدنيا فكقوله : { التائبون العابدون } [ التوبة : 112 ] . وأما في الآخرة فكقوله : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] . ثم قال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في هذه اللام قولان :
أحدهما : أنها بمعنى الاستحقاق ، أي : يستحقُّون العذاب الأليم .
الثاني : كما تقول : المال لزيد ، فتكون لام التمليك ، فذكر ملك العذاب لهم ، تهكُّماً بهم .

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
هذه الآية تدل على أن التي قبلها نزلت في اليهود .
وقوله : يَلْوُونَ « صفة ل » فريقاً « فهي في محل نصبٍ ، وجمع الضمير اعتباراً بالمعنى؛ لأنه اسم جمع - كالقوم والرهط- .
قال أبو البقاء : » ولو أفرد على اللفظ لجاز « وفيه نظرٌ؛ إذ لا يجوز : القوم جاءني ، والعامة على { يَلْوُونَ } بفتح الياء ، وسكون اللام ، وبعدها واو مضمومة ، ثم أخْرَى ساكنة مضارع لوى أي : فتل .
وقرأ أبو جعفر وشيبة بن نِصاح وأبو حاتم - عن نافع - » يُلَوُّون « بضم الياء ، وفتح اللام ، وتشديد الأولى - من لَوَّى » مضعَّفاً ، والتضعيف فيه للتكثير والمبالغة ، لا للتعدية؛ إذ لو كان لها لتعدى لآخرَ؛ لأنه مُتَعَدٍّ لواحد قبل ذلك ، ونسبها الزمخشريُّ لأهل المدينةِ ، وهو كما قال ، فإن هؤلاء رؤساء قُرَّاء المدينةز
وقرأ حُمَيْد « يَلُون » - بفتح الياء ، وضم اللام ، بعدها واو مفردة ساكنة - ونسبها الزمخشريُّ لمجاهدٍ وابنِ كثيرٍ ، ووجَّهَهَا هو بأن الأصل { يَلْوُونَ } - كقراءة العامة - ثم أبدِلَت الواو المضمومة همزة ، وهو بدلٌ قباسيٌّ - كأجوه وأقِّتَتْ . ثم خُفِّفَت الهمزةُ بإلقاء حركتها على الساكن قبلها وهو اللام - وحُذِفَت الهمزةُ ، فبقي وزن « يَلُون » يَفُون - بحذْف اللام والعين - وذلك لأن اللام - وهي الياء - حُذِفت لالتقاء الساكنين؛ لأن الأصل « يلويون » كيضربون ، فاستُثْقِلَت الضمة على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان - الياء وواو الضمير - فحُذِفت الياء لالتقائهما ، ثم حُذِفت الواو التي هي عين الكلمة .
و { أَلْسِنَتَهُمْ } جمع لسانٍ ، وهذا على لغة من ذكَّره ، وأما على لغة من يُؤنثه - فيقول : هذه لسانٌ - فإنه يجمع على « ألْسُن » - نحو ذِراع وأذرُع وكراع وأكرِع .
وقال الفرّاء : لم نسمعْه من العرب إلا مذكَّراً . ويُعَبَّر باللسان عن الكلام؛ لأنه ينشأ منه ، وفيه - والمراد به ذلك - التذكير والتأنيث- ، والليّ : الفتل ، يقال : لَويْت الثوب ، ولويت عنقه - أي فتلته - والليُّ : المطل ، لواه دَيْنَه ، يلويه لَيًّا ، وليَّاناً : مطله . والمصدر : اللَّيّ واللّيان .
قال الشاعرُ : [ الرجز ]
1526- قَدْ كُنْتُ دَايَنْتُ بِهَا حَسَّانا ... مَخَافَةَ إلافْلاسِ وَاللَّيانا
والأصل لوْيٌ ، ولَوْيَان ، فأعِلَّ بما تقدم في « مَيِّت » وبابه ثم يُطْلَق اللَّيُّ على الإراغة والمراوغة في الحجج والخصومة؛ تشبيهاً للمعاني بالأجرام . وفي الحديث : « لَيُّ الْوَاحِدِ ظُلْمٌ » .
وقال بعضهم : اللَّيّ عبارة عن عَطْف الشيء ، وردّه عن الاستقامة إلى الاعوجاج يقال : لَوَيْت يده والتوى الشيءُ - إذا انحرف - والتوى فلان عليَّ إذا غيَّر أخلاقه عن الاستواء إلى ضده . ولوى لسانه عن كذا - إذا غيره - ولوى فلانٌ فلاناً عن رأيه - إذا أماله عنه - و { بالكتاب } متعلق ب { يَلْوُونَ } ، وجعله أبو البقاء حالاً من الألسنة ، قال : وتقديره : ملتبسة بالكتاب ، أو ناطقة بالكتاب .
والضمير في { لِتَحْسَبُوهُ } يجوز أن يعود على ما تقدَّم مما دل عليه ذِكْر اللَّيّ والتحريف ، أي : لتحسبوا المحرف من التوراة . ويجوز أن يعود على مضاف محذوفٍ ، دل عليه المعنى ، والأصل : يلوون ألسنتهم بشِبْهِ الكتاب؛ لتحسبوا شِبْهَ الكتاب الذي حرفوه من الكتاب ، ويكون كقوله : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ } [ النور : 40 ] ثم قال : { يَغْشَاهُ } [ النور : 40 ] يعود على « ذِي » المحذوفة . و « من الكتاب » هو المفعول الثاني للحُسْبان . وقُرئ « ليحسبوه » - بياء الغيبة - والمراد بهم المسلمون - أيضاً - كما أريد بالمخاطبين في قراءة العامة ، والمعنى : ليحسب المسلمون أن المحرَّف من التوراة .
قال ابن الخطيبِ : « لَيُّ اللسان شبيه بالتشدُّقِ والتنطُّع والتكلُّف - وذلك مذموم - فعبَّر الله عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بلَيِّ اللسان؛ ذمًّا لهم ، ولم يُعَبِّر عنها بالقراءة . والعرب تفرِّق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد ، فيقولون - في المدح- : خطيب مِصْقَع ، وفي الذم : مِكْثَارٌ ، ثَرْثَارٌ فالمراد بقوله : { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب } أي : بقراءة ذلك الكتاب الباطل » .
فصل
قال القفَّالُ : معنى قوله : { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ } أن يعمدوا إلى اللفظة ، فيحرفونها عن حركات الإعراب تحريفاً يتغيَّر به المعنى ، وهذا كثيرٌ في لسان العرب ، فلا يبعد مثله في العبرانية ، فكانوا يفعلون ذلك في الآياتِ الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة .
وروي عن ابنِ عباسٍ قال : إن النفر الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، كتبوا كتاباً شوَّشوا فيه نعتَ محمد صلى الله عليه وسلم وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم ثم قالوا : هذا من عند الله .
فصل
قال جمهور المفسّرين : هذا النفر هم : كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، وحيي بن أخطب ، وأبو ياسر ، وشعبة بن عمرو الشاعر . { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ } يعطفونها بالتحريف والتغيير ، وهو ما غيّروا من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وآية الرجم ، وغير ذلك . { لِتَحْسَبُوهُ } أي : لتظنوا ما حرفوا { مِنَ الكتاب } الذي أنزله الله - عز وجل - { وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنَّهم الكاذبون .
وروى الضحاكُ عن ابن عباسٍ أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعاً ، وذلك أنهم حرَّفوا التوراة والإنجيلَ ، وألحقوا بكتاب الله ما ليس منه .
فإن قيل : كيف يمكن إدخالُ التحريف في التوراة ، مع شُهْرتها العظيمة؟
فالجوابُ : لعله صدر هذا العمل عن نفر قليلٍ ، يجوز تواطؤهم على التحريف ، ثم إنهم عرضوا ذلك المحرَّف على بعض العوامِّ ، وعلى هذا التقدير يكون هذا التحريف ممكناً .
قال ابن الخطيب : « والأصوب - عندي - في الآية أن الآياتِ الدَّالَّةِ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كان يُحتاج فيها إلى تدقيق النظرِ والتأمُّل ، والقوم كانوا يُورِدون عليها الأسئلة المشوشة ، والاعتراضات المظلمة ، فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهةً على السَّامِعِينَ ، واليهود كانو يقولون : مراد اللهِ من هذه الآياتِ ما ذكرناهُ - لا ما ذكرتم - فكان هذا هو المراد بالتحريف وَلَيِّ الألسنةِ ، كما أن المُحِقَّ - في زمننا - إذا استدل بآيةٍ فالمُبْطِل يورد عليه الأسئلةَ والشبهاتِ ، ويقول : لَيْسَ مُرَادُ اللهِ - تعالى - ما ذكرت ، بل ما ذكرناه ، فكذا هنا ، والله أعلمُ » .
فإن قيل : ما الفرق بين قوله : { لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } وبين قوله : { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله } ؟
فالجوابُ : أن المغايرة حاصلة؛ لأنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله تعالى؛ فإن الحكم الشرعيَّ قد ثبت تارةً بالكتاب ، وتارةً بالسنَّةِ ، وتارة بالإجماع ، وثارةً بالقياس ، والكل من عند الله تعالى - فقوله : { لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } هذا نفيٌ خاصٌّ ، ثم عطف النفي العام فقال : { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله } فلا يكون تكراراً .
وأيضاً يجوز أن يكون المراد من الكتاب التوراة ، ويكون المراد من قولهم : { هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ } أنه موجود في كتاب سائر الأنبياء عليهم السلام مثل شعيب وأرميا؛ وذلك لأن القومَ في نسبة ذلك التحريفِ إلى الله تعالى كانوا متحيرين فإن وجدوا قوماً من الأغمار والبُلْه الجاهلين بالتوراة نسبوا ذلك المحرَّف إلى أنه من عنده ، وإن من وجدوا قوماً عُقَلاَء أذكياء زعموا أنه موجودٌ في كتب سائر الأنبياءِ ، الذين جاءوا بعد موسى عليه السَّلاَمُ .

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
قال مقاتل والضَّحّاكُ { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } يعني عيسى - عليه السلام - وذلك أن نصارَى نجرانَ كانوا يقولون : إن عيسى أمرهم أن [ يتخذوه ] ربًّا ، فأنزل الله هذه الآية .
وقال ابن عباس وعطاء : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب } أي : القرآن وذلك أن أبا رافع القُرظِي - من اليهود ، والرئيس - من نصارى نَجْران ، قالا : يا محمد ، أتريد أن نعبدَك ونتخذك رباً؟ قَالَ : « مَعَاذَ اللهِ أنْ نَأمُرَ بِعبَادَةِ غَيْرِ اللهِ ، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي اللهُ ، وَلاَ بِذَلِكَ أمَرَنِي اللهُ » فأنزل الله هذه الآية .
قال ابن عباسٍ : لما قالت اليهودُ : عُزَيْر ابنُ الله وقالت النصارى : المسيح ابنُ اللهِ نزلت هذه الآية .
والبشر جميع بني آدم ، لا واحد له من لفظه - كالقوم والجيش - ويوضع موضع الواحدِ ، والجمع ، قال القرطبي : « لأنه بمنزلة المصدر » .
قوله : { أَن يُؤْتِيهُ } اسم « كَانَ » و « الْبَشَر » خبرها . وقوله : { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } عطف على « يُؤتيهُ » ، وهذا العطفُ لازم من حيث المعنى؛ إذ لو سكت عنه لم يصحّ المعنى؛ لأن الله - تعالى - قد آتى كثيراً من البشر الكتابَ والحُكْمَ والنبوةَ ، وهذا كما يقولون - في بعض الأحوال والمفاعيل- : إنها لازمة فلا غرو - أيضاً - في لزوم المعطوف .
وإنما بينا هذا؛ لأجل قراءة تأتي - إن شاء اله تعالى - ومعنى مجيء هذا النَّفي في كلام العرب ، نحو : « ما كان لزيد أن يفعل » ، كقوله تعالى : { مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا } [ النور : 16 ] . وقوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } [ النساء : 92 ] وقوله : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] أي : ما ينبغي لنا ، ونحوه بنفي الكون والمراد نفي خبره ، وهو على قسمين :
قسم يكون النفي فيه من جهة العقل؛ ويُعَبَّر عنه بالنفي التام - كهذه الآية - لأن الله - تعالى - لا يُعْطي الكتاب بالحكم والنبوة لمن يقول هذه المقالة الشنعاء ، ونحوه : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } [ النمل : 60 ] وقوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ آل عمران : 145 ] .
وقسم يكون النفي فيه على سبيل الانتفاء ، كقول أبي بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم فيصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُعْرَف القسمان من السياق .
وقرأ العامة « يَقُولَ » - بالنصب - نسقاً على « يؤتيه » والتقدير : لا يجتمع النبوة وهذا القول . والعامل فيه « أن » وهو معطوف عليه بمعنى : ثم أن يقول .
والمراد بالحكم : الفَهْم والعلم . وقيل : إمضاء الحكم عن الله - عز وجل- .
و { الكتاب } القرآن .
وقرأ ابن كثير - في رواية شبل بن عباد - وأبو عمرو - في رواية محبوب- : « يقولُ » - بالرفع - وخرَّجوها على القطع والاستئناف ، وهو مُشْكِلٌ؛ لما تقدم من أن المعنى على لزوم ذكر هذا المعطوف؛ إذْ لا يستقلّ ما قبله؛ لفساد المعنى ، فكيف يقولون : على القطع والاستئناف .
قوله : { عِبَادًا } حكى الواحديُّ - عن ابن عباسٍ - أنه قال في قوله تعالى : { كُونُواْ عِبَاداً لِّي } أنه لغة مزينة ويقولون للعبيد : عباد .
قال ابنُ عطِية : ومن جموعه : عَبِيد وعِبِدَّى .
قال بعض اللغويين : هذه الجموع كلُّها بمعنًى .
وقال بعضهم : العبادُ للهِ ، والعبيدُ والعِبِدَّى للبشر .
وقال بعضهم : العِبِدَّى إنما تقال في العبد من العَبيد ، كأنه مبالغة تقتضي الإغراق في العبودية ، والذي استقرأت في لفظ « العباد » أنه جَمْع عَبْد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفُّع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير ، وتصغير الشأن ، وانظر قوله : { والله رَؤُوفٌ بالعباد } { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 ] وقوله : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } [ المائدة : 118 ] ، وأما العبيد ، فتستعمل في تحقيره .
ومنه قول امرئ القيس :
1527- قُولاَ لِدُودَانَ عَبِيدِ العَصَا ... مَا غَرَّكُمْ بِالأسَدِ الْبَاسِلِ
وقال حمزة بن عبد المطلب : « وَهَلْ أنْتُمْ إلاَّ عَبِيدٌ لأبِي » ؟ ومنه قوله : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة أنصارهم ومقدرتهم ، وأنه - تعالى - ليس بظلامٍ لهم مع ذلك . ولما كانت « العباد » تقتضي الطاعة لم تقع هنا ، ولذلك أتى بها في قوله تعالى : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] فهذا النوع من النظر يسلك به سبيل العجائب في فصاحة القرآن على الطريقة العربية .
قال أبو حيّان : « وفيه بعض مناقشة ، أما قوله : ومن جموعه عَبِيد وعِبِدَّى ، فأما عبيد ، فالأصح أنه جمع ، وقيل اسم جمع . وأما عِبِدَّى فإنه اسم جمع ، وألفه للتأنيث » .
قال شهابُ الدّينِ : « لا مناقشة ، فإنه إنما يعني جَمْعاً معنويًّا ، ولا شك أن اسمَ الجمع جَمْعٌ معنويٌّ » .
قال : وأما ما استقرأه من أن « عِباداً » يساق في [ مضمار ] الترفُّع والدلالة على الطاعة ، دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير ، وإيراده ألفاظاً في القرآن بلفظ « العباد » وأما قوله : وأما العبيد ، فيستعمل في تحقيره - وأنشد بيت امرئ القيس ، وقول حمزة : « وهل أنتم إلا عبيد أبي » ، وقوله تعالى : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] فاستقراء ليس بصحيح ، إنما كثر استعمال « عباد » دون « عبيد » لأن « فعالاً » في جمع « فَعْل » غير الياء والعين قياس مُطَّردٌ ، وجمع فَعْل على « فعيل » لا يطَّرد .
قال سيبويه : « وربما جاء » فعيلاً « وهو قليل - نحو الكليب والعبيد » . فلما كان « فِعَال » مقيساً في جمع « عبد » جاء « عباد » كثيراً ، وأما { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] فحسَّنَ مجيئه هنا - وإن لم يكن مقيساً - أنه جحاء لتواخي الفواصل ، ألا ترى أن قبله : { أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] وبعده { قالوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } [ فصلت : 47 ] فحَسَّنَ مجيئه بلفظ العبيد مؤاخاة هاتين الفاصلتين . ونظير هذا - في سورة ق - { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] لأن قبله : { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد } [ ق : 28 ] . وبعده : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] وأما مدلوله فمدلول « عباد » سواء ، وأما بيت امرئ القيس فلم يُفْهَم التحقير من لفظ « عبيد » إنما فُهم من إضافتهم إلى العصا ، ومن مجموع البيت . وكذلك قول حمزةَ : هل أنتم إلا عبيد؟ إنما فهم التحقير من قرينة الحال التي كان عليها ، وأتى في البيت وفي قول حمزة على أحد الجائزين .
وقال شهابُ الدينِ : « رده عليه استقراءه من غير إثباته ما يجرِّم الاستقراء مردود ، وأما ادِّعاؤه أن التحقير مفهوم من السياق - دون لفظ - » عبيد « - ممنوع؛ لأنه إذا دار إحالة الحكم بين اللفظ وغيره ، فالإحالة على اللفظ أوْلَى » .
قوله : « لي » صفة ل « عباد » . و { مِن دُونِ الله } متعلق بلفظ « عِبَاداً لما فيه من معنى الفعل ، ويجوز أن يكون صفة ثانية ، وأن يكون حالاً؛ لتخصُّص النكرة بالوصف .
قوله : { ولكن كُونُواْ } أي : ولكن يقول : كونوا ، فلا بد من إضمار القول هنا ، ومذهب العرب جواز الإضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه ، كقوله تعالى : { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [ آل عمران : 106 ] أي : يقال لهم ذلك .
والربانيون : جمع رَبَّانِيّ ، وفيه قولان :
أحدهما : قال سيبَوَيْهِ : إنه منسوب إلى الرَّبّ ، يعني كونه عالماً به ، ومواظباً على طاعته ، كما يُقال : رجل إلهيّ إذا كان مقبلاً على معرفة الإلهِ وطاعتِهِ ، والألف والنونُ فيه زائدتان في النسبِ ، دلالةٌ على المبالغة كرقباني وشَعراني ، ولِحْيَاني - للغليظِ الرقبةِ ، والكثيرِ الشعرِ ، والطويلِ اللحيةِ - ولا تُفرد هذه الزيادة عن النسب أما إذا نسبوا إلى الرقبة والشعر واللحية - من غير مبالغة : قالوا : رَقَبيّ وشَعْرِيّ ولحويّ .
الثاني : قال المُبَرِّدُ : الربانيون : أرباب العلم ، منسوب إلى رَبَّان ، والربان : هو المُعَلِّم للخير ، ومَن يوسوس للناس ويعرِّفُهم أمرَ دينهم ، فالألف والنون والتاء على زيادة الوصف ، كهي في عطشان وريان وجوعان ووسنان ، ثم ضمت إليه ياء النسب - كما قيل : لحيانيّ ورقبانيّ - وتكون النسبة - على هذا - في الوصف نحو أحمري ، قال : [ الرجز ]
1528- أطَرَباً وَأنتَ قِنَّسْرِيُّ ... وَالدَّهْرُ بِالإنْسَانِ دَوَّارِيُّ
وقال سيبويه : زادوا ألفاً ونوناً ف يالربانيّ؛ لأنهم أرادوا تخصيصاً بعلم الرَّبِّ دون غيره من العلوم ، وهذا كما يقال : شعرانيّ ولحيانيّ ورقبانيّ .
قال الواحديُّ : فعلى قول سيبويه الرباني منسوب إلى الربِّ مأخوذٌ من التربية .
وفي التفسير : كونوا فقهاء ، علماء ، عاملين . قاله عليٌّ وابن عباس والحسنُ .
وقال قتادةُ : حكماء ، علماء وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : فقهاء ، معلمين .
وقل عطاءٌ : علماء ، حكماء ، نصحاء لله في خلقه .
وقيل : الرَّبَّانِيّ : الذي يُربِّي الناسَ بصغار العلم قَبل كِباره .
وقال سعيد بن جُبَيرٍ : الرباني : العالم الذي يعمل بعلمه .
وقيل : الربانيون فوق الأحبار ، والأحبارُ : العلماء ، والربانيون : الذين جمعوا مع العلم البصارة لسياسة الناس ، ولما مات ابنُ عبَّاسٍ قال محمدُ بنُ الحنفيةَ : اليوم مات رَبَّانِيُّ هذه الأمة .
وقال ابنُ زيدٍ : الربانيُّ : هو الذي يربُّ النَّاسَ ، والربانيون هم : ولاة الأمة والعلماء ، وذكروا هذا - أيضاً - في قوله تعالى : { لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار } [ المائدة : 63 ] أي : الولاة والعلماء ، وهما الفريقان اللذان يطاعان .
ومعنى الآية - على هذا التقدير - لا أدعوكم إلى أن تكونوا عباداً لي ، ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكاً وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى ، ومواظبتكم على طاعته .
قال القفال : يحتمل أن يكون الوالي ، سُمِّي ربانيًّا؛ لأنه يُطاع كالربِّ ، فنسب إليه .
قال أبو عبيدة : أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربيةٍ ، إنما هي عبرانية ، أو سريانية ، وسواء كانت عبرانية ، أو سريانية ، أو عربية فهي تدل على الإنسان الذي عَلِمَ وعَمِلَ بما عَلِم ، ثم اشتغل بتعليم الخيرِ .
قوله : { بِمَا كُنْتُمْ } الباء سببية ، أي : كونوا علماء بسبب كَوْنِكُمْ ، وفي متعلق هذه الباء ثلاثة أقوالٍ :
أحدها : أنها متعلقة ب « كُونُوا » ذكره أبو البقاء ، والخلاف مشهورٌ .
الثاني : أن تتعلق ب « رَبَّانِيِّينَ » لأن فيه معنى الفعل .
الثالث : أن تتعلق بمحذوف على أنها صفة ل « رَبَّانِيِّينَ » ذكره أبو البقاء ، وليس بواضح المعنى ، و « ما » مصدرية ، فتكون مع الفعل بتأويل المصدر ، أي : بسبب كونكم عالمينَ ، نظيره قوله : { اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ } [ الجاثية : 34 ] . وظاهر كلام أبي حيان أنه يجوز أن تكون غير ذلك؛ فإنه قال : و « ما » الظاهر أنها مصدرية ، فهذا يوم تجويز غير ذلك - وفي جوازه بُعْد - وهو أن تكون موصولة ، وحينئذ تحتاج إلى عائد وهو مقدر ، أي بسبب الذي تعلمون به الكتاب ، وقد نقص شرطٌ ، وهو اتحاد المتعلَّق ، فلذلك لم يظهر جعلها غير مصدرية . و « كُنْتُمْ » معناه « أنتم » كقوله : { مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً } [ مريم : 29 ] أي مَنْ هو في المهد .
قوله : { تَعْلَمُونَ } قرأ نافعٌ وابنُ كثير وأبو عمرو « تَعْلَمُونَ » مفتوح حرف المضارعة ، ساكن العين مفتوح اللام من عَلِم يَعْلَم ، أي : تعرفون ، فيتعدى لواحدٍ ، وباقي السبعة بضم حرف المضارعة ، وفتح العين وتشديد اللام مكسورةً ، فيتعدى لاثنين ، أولهما محذوف ، تقديره : تُعَلِّمُونَ الناسَ والطالبين الكتاب .
ويجوزُ أن لا يُراد مفعول ، أي : كنتم من أهل التعليم ، وهو نظير : أطعم الخبزَ ، المقصود الأهم إطعام الخُبْز من غير نظرٍ إلى مَنْ يُطْعمُه ، فالتضعيف فيه للتعدية .
وقد رجح جماعة هذه القراءة على قراءة نافع ، بأنها أبلغ؛ وذلك أن كل مُعَلِّم عالم ، وليس كُلُّ عالمٍ معلماً ، فالوصْف بالتعليم أبلغ ، وبأن قبله ذِكْرَ الربانيين ، والرباني يقتضي أن يَعْلَم ، ويُعَلَّمَ غيرَه ، لا أن يقتصر بالعلم على نفسه .
ورجح بعضُهم الأولى بأنه لم يُذْكَر إلا مفعول واحدٌ ، والأصل عدم الحذف - والتخفيف مُسوَّغ لذلك ، بخلاف التشديد ، فإنه لا بدّ من تقدير مفعول . وأيضاً فهو أوفق لِ « تَدْرُسُونَ » . والقراءتان متواترتان ، فلا ينبغي ترجيحُ إحداهما على الأخْرى .
وقرأ الحسن ومجاهدٌ « تَعَلَّمُونَ » - بفتح التاء والعين ، واللام مشددة - من تعلم ، والأصل تتعلمون - بتاءين - فحُذِفَتْ إحداهما .
قوله : { وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } كالذي قبله ، والعامة على « تَدْرُسُونَ بفتح التاء ، وضم الراء - من الدرس ، وهو مناسب » تَعْلَمُونَ « من علم - ثلاثياً .
قال بعضهم : كان حق من يقرأ » تُعَلِّمون « - بالتشديد - أن يقرأ » تُدَرِّسُونَ « - بالتشديد وليس بلازمٍ؛ إذ المعنى : صرتم تُعَلِّمون غيرَكم ، ثم تُدَرِّسُونَ ، وبما كنتم تدرسون عليهم - أي : تتلونه عليهم ، كقوله : { لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس } [ الإسراء : 6 ] .
قال أبو حَيْوَةَ - في إحدى الرواتين عنه - » تَدْرِسُونَ « - بكسر الراء - وهي لغة ضعيفة ، يقال : دَرَس العلم يدرسه - بكسر العين في المضارع - وهما لغتان في مضارع » درس « وقرأ هو - أيضاً - في رواية » تُدَرِّسُونَ « من درَّس - بالتشديد - وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون التضعيف فيه للتكثير موافقاً لقراءة » تَعْلَمُونَ « بالتخفيف .
الثاني : أن التضعيف للتعدية ، ويكون المفعولان محذوفين؛ لغهم المعنى ، والتقدير : تُدَرِّسُونَ غيركم العلم ، أي : تحملونهم على الدرس . وقُرِئَ » تُدْرِسُونَ « من أدرس - كيكرمون من أكرم - على أن أفعل بمعنى فعل - بالتشديد - فأدرس ودرّس واحد كأكرم وكرّم ، وأنزل ونزّل .
والدرس : التكرار والإدمان على الشيء . ومنه : درس زيد الكتاب والقرآن ، يدرُسه ويدرِسه ، أي : كرر عليه ، ويقال درست الكتاب ، أي : تناولت أثره بالحفظ ، ولما كان ذلك بمداومة القرآن عبر عن إدامة القرآن بالدرس . ودَرَس المنزلُ : ذهب أثرُه ، وطلَلٌ عافٍ ودارس بمعنًى .
قوله : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بنصب يَأمُرَكُمْ » والباقون بالرفع وأبو عمرو على أصله من جواز تسكين الراء والاختلاس ، وهي قراءة واضحة ، سهلة التخريج ، والمعنى ، وذلك أنها على القطع والاستئناف .
أخبر تعالى - بأن ذلك الأمر لا يقع ، والفاعل فيه احتمالان :
أحدهما : هو ضمير الله - تعالى - .
الثاني : هو ضمير الموصوف المتقدم .
والمعنى : ولا يأمركم الله ، وقال ابن جريج وجماعة : ولا يأمركم محمد أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً وقيل : لا يأمركم عيسى .
وقيل : لا يأمركم الأنبياء أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرْباباً ، كفعل قريش والصابئين - حيث قالوا في المسيح هو العزير .
والمعنى على عوده على « بَشَر » أنه لا يقع من بشر موصوفٍ بما وُصِفَ به أن يَجْعَل نفسه ربًّا ، فيُعْبَدَ ، ولا يأمر - أيضاً - أن تُعْبَد الملائكةُ والنبيون من دون الله ، فانتفى أن يدعوَ الناسَ إلى عبادة نفسه ، وإلى عبادة غيره - والمعنى - على عَوْده على الله - تعالى - أنه تعالى أخْبَر أنه لم يَأمُرْ بذلك ، فانتفى أمر الله وأمر أنبيائه بعبادة غيره تعالى .
وأما قراءة النصب ففيها وجوهٌ :
أحدها : قول أبي علي وغيره ، وهو أن يكون المعنى : دلالة أن يأمركم ، فقدروا « أن » مضمرة بعده وتكون « لا » مؤكِّدة لمعنى النفي السابق ، كما تقول : ما كان من زيد إتيان ولا قيام وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد ، ف « لا » للتوكيد لمعنى النفي السابق ، وبقي معنى الكلام : ما كان من زيد إتيان ، ولا منه قيام .
الثاني : أن يكون نصبه لنَسَقه على { أَن يُؤْتِيهُ } قال سيبويه : والمعنى : وما كان لبَشَرٍ أن يأمركم أن تتخِذُوا الملائكة .
قال الواحديُّ : ويُقوي هذا الوجهَ ما ذكرنا من أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أتريد يا محمدُ أن نتخذَك رَبًّا؟ فنزلت .
الثالث : أن يكون معطوفاً على « يَقُولُ في قراءة العامة - قاله الطَّبَريُّ .
قال ابن عطيةَ : » وهذا خَطأ لا يلتئم به المعنى « ، ولم يبين أبو مُحَمدٍ وَجْهَ الخَطَأ » ولا عدم التآم المعنى .
قال أبو حيّان : « وجه الخطأ أنه إذا كان معطوفاً على » يَقُولَ « وجعل » لا للنفي - على سبيل التأسيس لا على سبيل التأكيد - فلا يمكن أن يُقَدَّر الناصب - وهو « أن » - إلا قبل « لا » النافية ، وإذا قدرها قبلها انسبك منها ومن الفعل المنفي ب « لا » مصدر منفي ، فيصير المعنى : ما كان لبشر موصوف بما وُصِفَ به انتفاء أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً - وإذا لم يكن له انتفاء الأمر بذلك كان له ثبوت الأمر بذلك ، وهو خَطَأ بيِّن .
أما إذا جعل « لا » لتأكيد النفي لا لتأسيسه فلا يلزم خَطَأ ، ولا عدم التئام المعنى؛ وذلك أنه يصير النفي مستحباً على المصدرين المقدَّرِ ثبوتهما ، فينتفي قوله : { كُونُواْ عِبَاداً لِّي } وينتفي أيضاً أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً . ويوضِّح هذا المعنى وَضْعُ « غير » موضع « لا » فإذا قلتَ : ما لزيد فقهٌ ولا نحوٌ .
كانت « لا » لتأكيد النفي ، وانتفى عنه الوَصْفان ، ولو جعلت « لا » لتأسيس النفي كانت بمعنى « غير » فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه ، وثبوت النحو له؛ إذ لو قلت : ما لزيد فقه غير نحو ، ك ان في ذلك إثبات النحو له ، كأنك قلتَ : ما له غير نحو ، ألا ترى أنك إذا قلت : جئت بلا زادٍ ، كان المعنى : جئت بغير زاد وإذا قلت : ما جئت بغير زادٍ ، معناه أنك جئت بزاد؛ لأن « لا » هنا لتأسيس النفي ، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدم التئامِ المعنى إنما يكون على أحد التقديرين ، وهو أن يكون « لا » لتأسيس النفي لا لتأكيده ، وأن يكون من عطف المنفي ب « لا » على المثبت الداخل عليه النفي نحو : ما أريد أن تجهل وألا تتعلم ، تريد : ما أريد أن لا تتعلم « .
وتابع الزمخشريُّ الطبريَّ في عطف » يَأمُرَكُم « على » يَقُولَ « وجوَّزَ في طلا » الداخلة عليه وجهين :
أحدهما : أن يكون لتأسيس النفي .
الثاني : أنها مزيدة لتأكيده ، فقال : وقُرِئ { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } بالنصب؛ عطفاً على « ثُمَّ يَقُولَ » وفيه وجهان :
أحدهما : أن تجعل « لا » مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } . والمعنى : ما كان لبشر أن يستنبئه الله تعالى ، ويُنَصِّبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد ، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عباداً لهم ، ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً ، كقولك : ما كان لزيد أن أكرمه ، ثم يهينني ولا يستخف بي .
والثاني : أن يُجْعَل « لا » غير مزيدة ، والمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهَى قُرَيشاً عن عبادة الملائكة واليهود والنصارى عن عبادةِ عُزَيْرٍ والمسيح ، فلما قالوا له : أنتخذك ربًّا؟ قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادته ، وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء .
قال شهاب الدينِ : « وكلام الزمخشري صحيحٌ ، ومعناه واضح على كلا تقديري كون » لا « لتأسيس النفي وتأكيده فكيف يَجْعَل الشيخُ كلامَ الطبريِّ فاسداً على أحد التقديرين - وهو كونها لتأسيس النفي فقد ظهر صحةُ كلام الطبريِّ بكلام الزمخشريِّ ، وظهر أن رَدَّ ابنِ عطيةَ عليه مردودٌ » .
وقد رجح الناس قراءةَ الرفعِ على النصبِ .
قال سيبويه : ولا يأمركم منقطعة مما قبلها؛ لأن المعنى ولا يأمركم الله .
قال الواحدي : ومما يدل على انقطاعها من النسق ، وأنها مُسْتأنفة ، فلما وقعت « لا » موقع « لن » رفعت كما قال تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم } [ البقرة : 119 ] وفي قراءة ، عبد الله : ولن تُسْأل .
قال الزمخشريُّ : والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر ، ويعضدُهَا قراءةُ عبد الله : « ولَنْ يَأمُرَكم » وقد تقدم أن الضمير في « يَأمُركُمْ » يجوز أن يعود على « الله » وأن يعود على البشر الموصوف بما تقدم والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم أو أعم من ذلك .
وسواء قرئ برفع { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } و بنصبه إذا جعلناه معطوفاً على « يَقُولَ » فإن الضمير يعود على « بشر » لا غير ، [ ويؤيد هذا قولُ بعضهم : ووجه القراءة بالنصب أن يكون معطوفاً على الفعل المنصوب قبله ، فيكون الضمير المرفوع لِ « بشر » لا غير يعني بما قبله « ثُمَّ يَقُولَ » .
ولما ذكر سيبويه قراءة الرفع جعل الضمير عائداً على « الله » تعالى ولم يذكر غير ذلك ، فيحتمل أن يكون هو الأظهر عنده ، ويُحْتَمَل أنه لا يجوز غيرُه ، والأول أوْلَى .
قال بعضهم : وفي الضمير المنصوب في « يَأمُرُكُمْ » - على كلتا القراءتين - خروج من الغيبة إلى الخطاب على طريق الالتفات ، فكأنه توهم أنه لما تقدم في قوله ذكر النافي - في قوله : { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } كان ينبغي أن يكون النظم ولا يأمرهم؛ جرياً على ما تقدم ، وليس كذلك ، بل هذا ابتداء خطابٍ ، لا التفات فيه .
قوله : { أَيَأْمُرُكُم بالكفر } الهمزة للاستفهام بمعنى الإنكار ، يعني أنه لا يفعل ذلك .
قوله : { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } « بَعْدَ » متعلق ب « يَأمُرُكُمْ » وبعد ظرف زمان مضاف لظرف زمان ماضٍ وقد تقدّم أنه لا يضافُ إليه إلا الزمان ، نحو حينئذٍ ويومئذٍ . و { أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } في محل خفض بالإضافة؛ لأن « إذْ » تضاف إلى الجملة مطلقاً .
قال الزمخشريُّ : « بَعْدَ إذ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ » دليلٌ على أن المخاطبين كانوا مسلمين ، وهم الذين استأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يَسْجُدُوا له .

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
العامل في « إذْ » وجوه :
أحدها : « اذكر » إن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : « اذكروا » إن كان الخطاب لأهل الكتابِ .
الثالث : اصطفى ، فيكون معطوفاً على « إذْ » المتقدمة قبلها ، وفيه بُعْدٌ؛ بل امتناع؛ لبُعْده .
الرابع : أن العامل فيه « قَالَ » في قوله : { قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ } وهو واضح .
وميثاق ، يجوز أن يكون مضافاً لفاعله ، أو لمفعوله ، وفي مصحف أبيّ وعبد الله وقراءتهما : { مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } [ آل عمران : 187 ] . وعن مجاهد ، وقال : أخطأ الكاتب .
قال شهابُ الدين : « وهذا خطأٌ من قائله - كائناً مَنْ كان - ولا أظنه عن مجاهد؛ فإنه قرأ عليه مثل ابن كثير وأبي عمرو بن العلاء ، ولم يَنْقُلْ عنه واحدٌ منهما شيئاً مِنْ ذلك » .
والمعنى على القراءة الشهيرة صحيح ، وقد ذكروا فيها أوجهاً :
أحدها : أن الكلام على ظاهرهِ ، وأن الله تعالى - أخذ على الأنبياء مواثيق أنهم يُصَدِّقون بعضهم بعضاً وينصر بعضُهم بعضاً ، بمعنى : أنه يوصي قومه أن ينصروا ذلك النبي الذي يأتي بعده ، ولا يخذلوه وهذا قول سعيد بن جبيرٍ والحسن وطاووس .
وقيل هذا الميثاقُ مختص بمحمد صلى الله عليه وسلم وهذا مرويٌّ عن عليٍّ وابن عباس وقتادةَ والسدي ، واحتج القائلون بهذا بقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين } [ آل عمران : 81 ] وهذا يدل على أن الآخذ [ هو الله - تعالى - والمأخوذ منهم هم النبيون ، وليس في الآية ذكر الأمة ، فلم يحسن صرف الميثاق إلى الأمة ] .
وأجيب بأن على الوجه الذي قلتم يكون الميثاقُ مضافاً إلى الموثَقِ عليه . وعلى قولنا إضافته [ إليهم إضافة الفعل إلى الفاعل - وهو الموثق - وإضافة الفعلِ إلى الفاعل أقوى من إضافته ] إلى المفعول؛ فإن لم يكن فلا أقل من المساواة ، وهو كما يقال : ميثاقُ اللهِ وعهجه ، فيكون التقدير : وإذ أخذ اللهُ الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أمَمِهم .
ويمكن أن يُراد ميثاق أولاد النبيين - وهم بنو إسرائيلَ - على حذف مضافٍ [ وهو كما يقال : « فعل بكر بن وائل كذا » ، و « فعل معد بن عدنان كذا » ، والمراد أولادهم وقومهم ، فكذا ههنا ] .
ويحتمل أن يكون المراد من لفظ « النَّبِيِّينَ » أهل الكتاب ، فأطلق لفظ « النَّبِيِّينَ » عليهم؛ تهكُّماً بهم على زعمهم؛ لأنهم كانوا يقولون : نحن أولى بالنبوة من محمد صلى الله عليه وسلم لأنا أهل الكتاب ، ومنا النبيون ، قاله الزمخشريُّ .
ويمكن أنه ذكر النبي والمراد أمته كقوله : { ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ } [ الطلاق : 1 ] .
واحتجوا - أيضاً - بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةٌ ، أمَا وَاللهِ لَوْ كَانَ مُوسَى بْنُ عمْرانَ حَيًّا لَمَا وَسعهُ إلاَّ اتِّبَاعِي » .
وبما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : « إن الله - تعالى - ما بعث آدم وَمَنْ بعده من الأنبياء عليهم السلام إلا أخذ العهد عليه لئن بُعِث محمدٌ وهو حَيٌّ ليؤمننَّ به ، ولينصرنه » .
القول الثاني : أن الميثاق مضاف لفاعله ، والموثق عليه غير مذكور؛ لفهم المعنى ، والتقدير : ميثاق النبيِّين على أممهم ، ويؤيده قراءة أبَيّ وعبد الله ، ويؤيده - أيضاً - قوله : { فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك } [ آل عمران : 82 ] والمراد من الآية أن الأنبياء كانوا يأخذون الميثاق من أمهم بأنه إذا بُعِث محمدٌ صلى الله عليه وسلم أن يُؤمِنوا به وينصروه وهو قول مجاهدٍ والربيع ، واحتجوا بقوله : { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } [ آل عمران : 81 ] وإنما كان محمد صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى أهل الكتابِ دون النبيين .
وقال أبو مسلم : ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ اللهُ الميثاق منهم ، يجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مبعثه وكل الأنبياءِ يكونون عند مبعثه عليه السَّلامُ من زمرة الأموات والميت لا يكون مكلفاً ، فعلمنا أن المأخوذ عليهم الميثاق ليسوا هم النبيين بل أممهم ، ويؤكِّد هذا أنه - تعالى - حكم على مَنْ أخِذ عليهم الميثاقُ أنهم لو تولوا كانوا فاسقين ، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء ، وإنما يليق بالأمم .
قال القفال عن هذا الاستدلال بأنه لا يجوز أن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بل يكون هذا كقوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] وقد علم الله تعالى أنه لا يُشرك قط ، ولكن خرج هذا على سبيل الفَرْض والتقدير ، وكقوله : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } [ الحاقة : 44-46 ] وكقوله في صفة الملائكة : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين } [ الأنبياء : 29 ] وكل ذلك على سبيل الفرض والتقدير - فكذا هنا - وقوله : إنه سماهم فاسقين فهو على تقدير التولي ، واسم الشرك أقبح من اسم الفسق - وقد ذكره - تعالى - على سبيل الفرض في قوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] .
واحتجوا - أيضاً - بأن المقصود من الآية أن يؤمن الذين كانوا في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا كان الميثاق مأخوذاً عليهم كان ذلك أبلغ في تحصيل هذا المقصود من أن يكون مأخوذاً على الأنبياء وأجيب عن ذلك بأن درجاتِ الأنبياء أعلى وأشرف من درجات الأمم ، فإذا دلت الآيةُ على أن اللهَ أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لو كانوا أحياءً - وأنهم لو تركوا ذلك لصاروا من زمرة الفاسقين ، فلأن يكون الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واجباً على أممهم كان أولى .
واحتجوا أيضاً بما روي عن ابن عباس قال : إنما أخذ الله ميثاقَ النَّبِيِّين على قومهم . وبقوله تعالى : { اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ] وبقوله : { وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } [ آل عمران : 187 ] .
وقال بعض أصحاب القول الأول : المعنى : أن الله أخذ ميثاق النبيين أن يأخذوا الميثاق على أممهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وينصروه ، ويصدقوه - إن أدركوه .
قال بعضهم : إن الله أخذ الميثاق على النبيين وأممِهم - جميعاً - في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فاكتفى بذكر الأنبياء؛ لأن العهد مع المتبوع عَهْد مع التابع ، وهذا معنى قول ابن عباسٍ .
قرأ العامَّة : « لما آتيتكم » بفتح لام « لما » وتخفيف الميم ، وحمزة - وحده - على كسر اللام . وقرأ الحسن وسعيد بن جبير « لَمَّا » بالفتح والتشديد .
فأما قراءة العامة ففيها خمسة أوجه :
أحدها : أن تكون « ما » موصولة بمعنى الذي ، وهي مفعولة بفعل محذوف ، ذلك الفعل هو جواب القسم والتقدير : واللهِ لَتُبَلِّغُنَّ ما آتيناكم من كتاب . قال هذا القائلُ : لأن لامَ القسَم إنما تقع على الفعل فلما دلت هذه اللام على الفعل حُذِف . ثم قال تعالى : { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم قال : وعلى هذا التقدير يستقيم النَّظْمُ .
وقال شهاب الدينِ : وهذا الوجه لا ينبغي أن يجوز ألبتة؛ إذ يمتنع أن تقول في نظيره من الكلام : « والله لزيداً » تريد : والله لنضربن زيداً .
الوجه الثاني : وهو قول أبي علي وغيره : أن تكون اللام - في « لَمَا » - جواب قوله : { مِيثَاقَ النبيين } لأنه جارٍ مَجْرَى القسم ، فهي بمنزلة قولك : لزيدٌ أفضل من عمرو ، فهي لام الابتداء المتلَقَّى بها القسم وتسمى اللام المتلقية للقسم . و « ما » مبتدأة موصولة و « آتيتكم » صلتها ، والعائد محذوف ، تقديره : آتيناكموه فحذف لاستكمال شرطه . و { مِّن كِتَابٍ } حال - إما من الموصول ، وإما من عائده - وقوله : { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ } عطف على الصلة ، وحينئذٍ فلا بد من رابط يربط هذه الجملةَ بما قبلها؛ فإن المعطوفَ على الصلة صِلة .
واختلفوا في ذلك ، فذهب بعضهم إلى أنه محذوف ، تقديره : جاءكم رسول به ، فحذف « به » لطول الكلام ودلالة المعنى عليه . وهذا لا يجوز؛ لأنه متى جُرَّ العائدُ لم يُحْذَف إلا بشروط ، وهي مفقودةٌ هنا ، [ وزعم هؤلاء أن هذا مذهب سيبويه ، وفيه ما قد عرفت ، ومنهم من ] قال : الربط حصل - هنا - بالظاهر ، لأن الظاهر - وهو قوله « لما معكم » صادق على قوله : « لما آتيناكم » فهو نظير : أبو سعيد الذي رويت عن الخدري ، والحجاج الذي رأيت أبو يوسف .
وقال : [ الطويل ]
1529- فَيَا رَبَّ لَيْلَى أنْتَ في كُلِّ مَوْطِنٍ ... وَأنْتَ الَّذِي فِي رَحْمةِ اللهِ أطْمَعُ
يريد رويت عنه ، ورأيته ، وفي رحمته . فأقام الظاهر مقام المضمر ، وقد وقع ذلك في المبتدأ والخبر ، نحو قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [ الكهف : 30 ] ولم يقل : إنا لا نضيع ، وقال تعالى : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } [ يوسف : 90 ] ولم يقل : لا يضيع أجره وهذا رأي أبي الحسن والأخفش . وقد تقدم البحث فيه .
ومنهم من قال : إن العائد يكون ضمير الاستقرار العامل في « مَعَ » و « لتؤمنن به » جوابُ قسمٍ مقدرٍ ، وهذا القَسَم المقدَّر وجوابه خبر للمبتدأ الذي هو « لما آتيناكم » والهاء - في « بِهِ » - تعود على المبتدأ ، ولا تعود على « رَسُولٌ » لئلاَّ يلزم خلُوّ الجملة الواقعة خبراً من رابط يربطها بالمبتدأ .
الوجه الثالث : كما تقدم ، إلا أن اللام في « لَمَا » لام التوطئة؛ لأن اخذ الميثاق في معنى الاستخلاف . وفي « لتؤمنن » لام جواب القسم ، هذا كلام الزمخشريِّ . ثم قال : و « ما » تحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط ، و « لَتُؤمِنُنَّ » سادّ مَسَدّ جواب القَسَم والشرط جميعاً ، وأن تكون بمعنى الذي . وهذا الذي قاله فيه نظرٌ؛ من حيثُ إن لام التوطئة تكون مع أدوات الشرط ، وتأتي - غالباً - مع « إن » أما مع الموصول فلا يجوزُ في اللام أن تكون موطئةً وأن تكون للابتداء . ثم ذكر في « ما » الوجهين ، لحملنا كل واحد على ما يليق به .
الوجه الرابع : أن اللام هي الموطئة ، و « ما » بعدها شرطية ، ومحلها النصب على المفعول به بالفعل الذي بعدها - وهو « آتيْنَاكُمْ » ، وهذا الفعل مستقبل معنًى؛ لكونه في جزاء الشرط ، ومحله الجزم ، والتقدير : واللهِ لأي شيء آتيتكم من كذا وكذا ليكونن كذا ، وقوله : { مِّن كِتَابٍ } ، كقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 106 ] وقد تقدم تقريره . وقوله : { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ } عطف على الفعل قبله ، فيلزم أن يكون فيه رابط يربطه بما عُطِف عليه ، و « لَتُؤمِنُنَّ » جواب لقوله : { أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين } وجواب الشرط محذوف ، سَدَّ جوابُ القسم مَسَدَّه ، والضمير في « بِهِ » عائد على « رَسُولٌ » ، كذا قال أبو حيّان .
قال شهاب الدين : « وفيه نظر؛ لأنه يمكن عودُه على اسم الشرط ، ويُستغنَى - حينئذٍ - عن تقديره رابطاً » .
وهذا كما تقدم في الوجه الثاني ونظير هذا من الكلام أن نقول : أحلف بالله لأيهمْ رأيت ، ثم ذهب إليه رجل قرشي لأحسنن إليه - تريد إلى الرجل - وهذا الوجه هو مذهب الكسائي .
وقد سأل سيبويه الخليل عن هذه الآية ، فأجاب بأن « ما » بمنزلة الذي ، ودخلت اللام على « ما » كما دخلت على « إن » حين قلت : والله لئن فعلت لأفعلن ، فاللام التي في « ما » كهذه التي في « إن » واللام التي في الفعل كهذه اللام التي في الفعل هنا . هذا نصُّ الخليلِ .
قال أبو علي : لم يرد الخليل بقوله : إنما بمنزلة الذي كونها موصولة ، بل إنها اسم كما أن « الذي » اسم وإما أن تكون حرفاً كما جاءت حرفاً في قوله : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ } [ هود : 111 ] وقوله : { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا } [ الزخرف : 35 ] .
وقال سيبويه : ومثل ذلك { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ } [ الأعراف : 18 ] إنما دخلت اللام على نية اليمين . وإلى كونها شرطية ذهب جماعة كالمازني والزجَّاج والفارسيّ والزمخشري .
قال أبو حيّان : « وفيه خدش لطيف جدًّا » وحاصل ما ذكر : أنهم إن أرادوا تفسير المعنى فيمكن أن يقال ، وإن أرادوا تفسير الإعراب فلا يصح؛ لأن كلاَّ منهما - أعني : الشرط والقسم - بطلب جواباً على حدة ، ولا يمكن أن يكون هذا محمولاً عليهما؛ لأن الشرط يقتضيه على جهة العمل ، فيكون في موضع جزمٍ ، والقسم يطلبه على جهة التعلُّق المعنويّ به من غير عملٍ ، فلا موضع له من الإعراب ، ومحال أن يكون الشيءُ له موضع من الإعراب ولا موضع له من الإعراب . [ وتقدم هذا الإشكال وجوابه ] .
الوجه الخامس : أن أصلها « لَمّا » - بالتشديد - فخُفِّفَتْ ، وهذا قول أبي إسحاق وسيأتي في قراءة التشديد ، وقرأ حمزة لما - بكسر اللام ، خفيفة الميم - أيضاً - وفيها أربعة أوجه :
أحدها : وهو أغربها - أن تكون اللام بمعنى « بَعْد » .
كقول النابغة : [ الطويل ]
1530- تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لها فعَرفْتُهَا ... لِسِتّةِ أعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
يريد : فعرفتها بعد ستة أعوام ، وهذا منقول عن صاحب النَّظْم .
قال شهاب الدين : « ولا أدري ما حمله على ذلك؟ وكيف ينتظم هذا كلاماً؟ إْ يصير تقديره : وإذْ أخذ الله ميثاق النبيين بعدما آتيتكم ، ومَن المخاطب بذلك؟ » .
الثاني : أن اللام للتعليل - وهذا الذي ينبغي أن لا يُحَاد عنه - وهي متعلِّقة ب « لتؤمنن » و « ما » حينئذٍ - مصدرية .
قال الزمخشري : « ومعناه : لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم لمجيء رسول مصدق لتؤمنن به على أن » ما « مصدرية ، والفعلان معها - أعني : » آتيناكم « و » جاءكم « - في معنى المصدرين ، واللام داخلة للتعليل ، والمعنى : أخذ اللهُ ميثاقهم ليؤمنن بالرسول ، ولينصرنه ، لأجل أن آتيتكم الكتابَ والحكمةَ ، وأن الرسول الذي آمركم بالإيمان به ونُصْرَتِهِ موافق لكم ، غير مخالف لكم » .
قال أبو حيّان : وظاهر هذا التعليل الذي ذكره ، والتقدير الذي قدره أنه تعليلٌ للفعل المقسَم فإن عنى هذا الظاهر ، فهو مخالفٌ لظاهر الآية؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون تعليلاً لأخْذ الميثاق ، لا لمتعلِّقه - وهو الإيمان - فاللام متعلقة ب « أخَذَ » وعلى ظاهر تقدير الزمخشريِّ تكون متعلقة بقوله : { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ } ويمتنع ذلك من حيث إن اللام المتلَقَّى بها القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها تقول : والله لأضربن زيداً ، ولا يجوز : والله زيداً لأضربن ، فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق اللام في « لَمَا » بقوله : « لتؤمنن » .
وأجاز بعض النحويين في معمول الجواب - إذا كان ظرفاً أو مجروراً - تَقَدُّمَه ، وجعل من ذلك قوله : { عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } [ المؤمنون : 40 ] .
وقوله : [ الطويل ]
1531- . . ... بِأسْحَم دَاجٍ عَوْضُ لا نتفَرَّقُ
فعلى هذا يجوز أن يتعلق بقوله : { لَتُؤْمِنُنَّ } .
قال شهاب الدين « أما تعلُّق اللام ب { لَتُؤْمِنُنَّ } - من حيث المعنى - فإنه أظهر من تعلُّقِها ب » أخذ « فلم يَبْقَ إلا ما ذكر من منع تقديم معمول الجواب المقترن بالام عليه ، وقد يكون الزمخشريُّ ممن يرى جوازه » .
والثالث : أن تتعلق اللام ب « أخَذَ » ، أي لأجل إيتائي إياكم كيت وكيت ، أخذت عليكم الميثاقَ ، وفي الكلام حذفُ مضاف ، تقديره : رعاية ما آتيتكم .
الرابع : أن تتعلق ب « المِيثاق » ، لأنه مصدر ، أي : توثقنا عليهم لذلك .
هذه الأوجه بالنسبة إلى اللام ، وأما « ما » ففيها ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون مصدرية كما تقدم عن الزمخشريِّ .
والثاني : أنها موصولة بمعنى « الذي » وعائدها محذوف ، و { ثُمَّ جَآءَكُمْ } ، عطف على الصلة ، والرابط بالموصول إما محذوف ، تقديره : به ، وإما قيام الظاهر مقام المضمر ، وهو رأي الأخفشِ ، وإما ضمير الاستقرار الذي تضمنه « مَعَكُمْ » .
والثالث : أنها نكرة موصوفة ، والجملة بعدها صفتها ، وعائدها محذوف ، { ثُمَّ جَآءَكُمْ } عطف على الصفة ، والكلام في الرابط كما تقدم فيها وهي صلة ، إلا أن إقامة الظاهر مُقَامه في الصفة ممتنع ، لو قلت : مررت برجل قام أبو عبد الله - على أن يكون قام أبو عبد الله صفة لرجل ، والرابط أبو عبد الله ، إذ هو الرجلُ في المعنى - لم يجز ذلك ، وإن جاز في الصلة والخبر - عند من يرى ذلك - فيتعين عود ضمير محذوف وجواب قوله : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ } قوله : { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ } والضمير في « بِهِ » عائد على « رَسُولٌ » ويجوز الفصل بين القسم والمقسم عليه بمثل هذا الجار والمجرور ، فلو قلت أقسمت لَلْخَبر الذي بلغني عن عمرو لأحْسِنَنَّ إليه ، جاز .
وقوله : { مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } إما حالٌ من الموصول ، أو من عائده ، وإمّا بيانٌ له فامتنع في قراءة حمزة أن تكون « ما » شرطية ، كما امتنع - في قراءة الجمهورِ - أن تكون مصدرية .
وأما قراءة التشديد ففيها أوجهٌ :
أحدها : أن « لَمَّا » هنا - ظرفية ، بمعنى « حين » ثم القائل بظرفيتها اختلف تقديره في جوابها ، فذهب الزمخشري إلى أن الجواب مقدَّر من جنس جواب القسم ، فقال : « لَمَّا » - بالتشديد - بمعنى « حين » أي حين آتيتكم الكتاب والحكمة ، ثم جاءكم رسول ، وجب عليكم الإيمان به ، ونُصْرَتُه .
وقال ابن عطية : ويظهر أن « لَمَّا » هذه هي الظرفية ، أي : لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأمثالهم أخذ عليكم الميثاق؛ إذ على القادة يُؤخَذ ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزةَ فقدر ابن عطية جوابها من جنس ما سبقها ، وهذا الذي ذهب إليه مذهبٌ مرجوحٌ ، قال به الفارسيُّ والجمهور وسيبويه وأتباعه والجمهور .
وقال الزجَّاجُ : أي : لما ىتاكم الكتاب والحكمة ، أي : أخذ عليكم الميثاق وتكون لما يؤول إلى الجزاء ، كما تقول : لما جئتني أكرمتك .
وهذه العبارة لا يؤخذ منها كون « لما » ظرفية ، ولا غير ذلك ، إلا أن فيها عاضداً لتقدير ابن عطية جوابها من جنس ما تقدمها ، بخلاف تقدير الزمخشريِّ .
الثاني : أن « لَمَّا » حرف وجوب لوجوب ، وهو مذهب سيبويه ، وجوابها كما تقدم من تقديري ابن عطيةَ والزمخشري ، وفي قول ابن عطيةَ : فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزةَ - نظر؛ إذ قراءة حمزة فيها تعليل ، وهذه القراءة لا تعليل فيها ، اللهم إلا أن يقال : لما كانت « لَمَّا » تحتاج إلى جواب أشبه ذلك العلة ومعمولها؛ لأنك إذا قلت : لما جئتني أكرمتك؛ في قوة : أكرمتك لأجل مجيئي إليه ، فهي من هذه الجهة كقراءة حمزة .
والثالث : أن الأصل : لمن ما ، فأدغمت النون في الميم ، لأنها تقاربها ، والإدغام - هنا - واجبٌ ، ولما اجتمع ثلاث ميمات : ميم « من » وميم « ما » والميم التي انقلبت من نون - من أجل الإدغام - فحصل ثقل في اللفظ ، قال الزمخشريُّ : « فحذفوا إحداها » .
قال أبو حيّان : وفيه إبهام ، وقد عيَّنها ابنُ جني بأن المحذوف هي الأولى ، وفيه نظرٌ؛ لأن الثقل إنما حصل بما بعد الأولى ، ولذلك كان الصحيحُ في نظائره إنما هو حذف الثاني ، في نحو { تَنَزَّلُ الملائكة } [ القدر : 4 ] وقد ذكر أبو البقاء أن المحذوفة هي النافية ، قال : « لضعفها بكونها بدلاً ، وحصول التكرير بها » و « مِنْ » هذه التي في لمن ما زائدة في الواجب على رأي الأخفشِ - وهذا تخريج أبي الفتح ، وفيه نظر بالنسبة إلى ادِّعائه زيادة « من » ، فإن التركيب يقلق على ذلك ، ويبقى المعنى غير ظاهر .
الرابع : أن الأصل - أيضاً - لِمَنْ ما ، ففُعِل به ما تقدم من القلبِ والإدغامِ ، ثم الحذف ، إلا أن « من » ليست زائدة ، بل هي تعليلية ، قال الزمخشريُّ : « ومعناه : لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به ، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى » .
وهذا الوجه أوجه مما تقدمه؛ لسلامته من ادِّعاء زيادة « من » ولوضوح معناه .
وقرأ نافع « آتيناكم » بضمير المعظم نفسه ، كقوله : { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [ الإسراء : 55 ] وقوله : { وَآتَيْنَاهُ الحكم } [ مريم : 12 ] ، والباقون : « آتيتكم » - بضمير المتكلم وحده - وهو موافق لما قبله وما بعده من صيغة الإفراد في قوله : { وَإِذْ أَخَذَ الله } و { جَآءَكُمْ } و { إِصْرِي } .
وفي قوله : « آتيتكم » و « آتيناكم » على كلتا القراءتين - التفاتان :
الأول : الخروج من الغيبة إلى التكلم في قوله : « آتينا » أو « آتيت » لأن قبله ذكر الجلالة المعظمة في قوله : { وَإِذْ أَخَذَ الله } .
والثاني : الخروج من الغيبة إلى الخطاب في قوله : « آتيناكم » لأنه قد تقدمه اسم ظاهر ، وهو { النبيين } إذ لو جرى على مقتضي تقدُّم الجلالة والنبيين لكان الترتيب : وإذْ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتاهم من كتاب . كذا قال بعضهم ، وفيه نظرٌ؛ لأن مثل هذا لا يُسَمَّى التفاتاً في اصطلاحهم ، وإنما يسمى حكاية الحال ، ونظيره قولك : حلف زيد ليفعلن ، ولأفعلن ، فالغيبة مراعاة لتقدم الاسم الظاهر ، والتكلُّم حكاية لكلام الحالف . والآية الكريمة من هذا . وأصل : { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } ، لَتُؤمِنُونَنَّ به ولتنصرونن ، فالنون الأولى علامة الرفع ، و المشدَّدة بعدها للتوكيد ، فاستثقل توالي ثلاثة أمثالٍ ، فحذفوا نون الرفع؛ لأنها ليست في القوة كالتي للتوكيد ، فالتقى - بحذفها - ساكنان ، فحذفت الواو ، لالتقاء الساكنين .
وقرأ عبد الله « مُصَدِّقاً » نصب على الحال من النكرة ، وقد قاسَه سيبويه ، وإن كان املشهور عنه خلافه ، وَحَسَّنَ ذلك هنا كونُ النكرة في قوة المعرفةِ من حيث إنَّها أريد بها شخص معين - وهو محمد صلى الله عليه وسلم واللام في « لَمَا » - زائدة؛ لأن العامل فرع - وهو « مصدِّق » - والأصل مصدق ما معكم .
فصل
قال بعضُ العلماءِ : في الآية إضمار آخرَ ، وأراح نفسه من تلك التكلُّفات المتقدمة ، فقال : تقدير الآية : وإذ أخذ اللهُ ميثاق النبيين لتُبَلِّغُنَّ الناسَ ما آتيتكم من كتاب وحكمة إلا أنه حذف « لتبلغن » لدلالة الكلام عليه؛ لأن لام القسم إنما تقع على الفعل ، فلما دَلَّت هذه اللام على هذا الفعل جاز حذفه اختصاراً ، ثم قال بعده : { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } وعلى هذا التقدير يستقيم النظم ، ولا يحتاج إلى تكلُّف ، وإذا كان لا بد من التزام الإضمار ، فهذا الإضمار الذي ينتظم به الكلام نظما ًجلياً أولى .
فصل
والمراد من الكتاب هو المنزَّل ، المقروء ، والحكمة هي الوحيُ الوارد بالتكليف المفصَّلة التي لم يشتمل الكتاب عليها .
وكلمة « مِنْ » - في قوله : { مِّن كِتَابٍ } تبيين ل « ما » كقولك : ما عندي من الوَرِقِ دانقان .
وقيل : هذا الخطابُ إما أن يكون مع الأنبياء ، فجميع الأنبياءِ ، ما أوتوا الكتاب ، وإنما أوتي بعضُهم ، وإن كان مع الأمم فالإشكال أظهر .
والجواب من وجهين :
الأول : أن جميع الأنبياء أوتوا الكتاب بمعنى كونه مهتدياً به ، داعياً إلى العمل به ، وإن لم ينزل عليه .
الثاني : أشرف الأنبياء هم الذين أوتوا الكتاب ، فوصف الكل بوصف أشرفهم .
فإن قيل : ما وَجْه قوله : { ثُمَّ جَآءَكُمْ } والرسول لا يجيء إلى النبيين ، وإنما يجيء إلى الأمم؟
فالجواب : أما إن حَمَلْنا قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين } على أخذ ميثاق أممهم ، فالسؤال قد زال ، وإن حملناه على أخذ ميثاق النبيين من أنفسهم ، كان قوله : { ثُمَّ جَآءَكُمْ } أي : ثم جاءكم في زمانكم .
فإن قيل : كيف يكون محمد صلى الله عليه وسلم مُصَدقاً لما معهم - مع مخالفة شرعه لشرعهم -؟
فالجواب : أن المراد به حصول الموافقة في التوحيد والنبوات وأصول الشرائعِ ، أما تفاصيلها فإن وقع خلاف فيها فذاك في الحقيقة ليس بخلاف؛ لأن جميع الأنبياءِ متفقون على أن الحق في زمان موسى ليس إلا شرعه ، وأنّ الحقَّ في زمان محمد صلى الله عليه وسلم ليس إلا شرعه ، فهذا وإن كان يوهم الخلاف فهو في الحقيقة وفاق .
وأيضاً فالمراد بقوله : { مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ } هو أن محمداً صلى الله عليه وسلم مصدقٌ لما معهم من صفته ، وأحواله المذكورة في التوراة والإنجيل ، فلما ظهر على أحوال مطابقةٍ لما ذكر في تلك الكتب كان نفس مجيئه تصديقاً لما معهم .
والميثاق يحتمل وجهين :
أحدهما : هو أن يكون ما قُرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقيادَ لأمر اللهِ واجبٌ ، فإذا جاء الرسول فهو إنما يكون رسولاً عند ظهور المعجزاتِ الدَّالَّةِ على صدقه ، فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا - عند ذلك - وجوبه ، فتقرير هذا الدليل في عقولهم هو المراد من الميثاق .
ويحتمل أن المراد بأخذ الميثاق أنه - تعالى - شرح صفاتِه في كتب الأنبياء المتقدِّمين ، وإذا صارت مطابقة لما في كتبهم المتقدمة ، وجب الانقياد له ، فقوله تعالى : { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ } يدل على هذين الوجهين ، أما على الأول فقوله : « رسولٌ » ، وأما على الثاني فقوله { مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ } .
قوله : { قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ } فاعل « قَالَ » يجوز أن يكون ضمير الله - تعالى - وهو الظاهر - وأن يكون ضمير النبي الذي هو واحد النبيين ، خاطب بذلك أمَّته ، ومتعلَّق الإقرار محذوف ، أي : أقررتم بذلك كله؟ والاستفهام - على الأول - مجاز؛ إذ المراد به التقرير والتوكيد عليهم؛ لاستحالته في حق الباري تعالى ، وعلى الثاني : هو استفهام حقيقة .
و « إصري » على الأول - الياء لله - تعالى - وعلى الثاني للنبيّ صلى الله عليه وسلم .
وقرأ الامة « إصري » بكسر الهمزة ، وهي الفصحى ، وقرأ أبو بكر عن عاصم - في رواية - « أُصْرِي » بضمها ثم المضموم الهمزة يحتمل أن يكون لغة في المكسور - وهو الظاهرُ - ويحتمل أن يكون جمع إصار ومثله أزُر في جميع إزار ، والإصر : الثقل الذي يلحق الإنسان؛ لأجل ما يلزمه من عَمَلٍ ، قال الزمخشري : « سُمِّي العهدُ إصْراً؛ لأنه مما يؤصر ، أي : يُشَدّ ، ويُعْقَد ، ومنه الإصار الذي يُعْقَد به » وتقدم الكلام عليه في آخر البقرة .
فصل
إذا قلنا : إن اللهَ - تعالى - هو الذي أخذ الميثاق على النبيين كان قوله { أَأَقْرَرْتُمْ } معناه : أأقررتم بالإيمان به ، والنَّصْرِ له .
وذلك حين استخرج الذرية من صلب آدَمَ والأنبياء فيهم كالمصابيح - وأخذ عليهم الميثاق في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال : { أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي } ؟ أي قبلتم على ذلك عهدي .
والإصر : العهد الثقيل؛ والإقرار في اللغة منقول بالألف من قَرَّ الشيء يَقِرُّ إذا ثبت ولزم مكانه ، وأقره غيره ، والمقرُّ بالشيء ، يُقِرُّه على نفسه ، أي : يثبته .
والأخذ بمعنى القبول كثير في كلامهم ، قال تعالى : { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [ البقرة : 48 ] أي : لا تُقْبَل فِدْيَةٌ .
وقال : { وَيَأْخُذُ الصدقات } [ التوبة : 104 ] أي : يقبلها .
وقوله : { أَقْرَرْنَا } أي : بالإيمان به ، وبنصرته ، وفي الكلام حذف جملة ، حُذِفَت لدلالة ما تقدم عليها؛ إذ التقدير : قالوا : أقررنا ، وأخذنا إصرك على ذلك كلِّه .
وقوله : { فاشهدوا } هذه الفاء عاطفة على جملة مقدَّرة ، و التقدير : قال : أأقررتم؟ فاشهدوا ، ونظير ذلك : ألقيت زيداً؟ قال : لقيته ، قال : فأحْسِنْ إليه . التقدير : القيت زيداً ، فأحسن إليه ، فما فيه الفاء بعض المقول ، ولا جائز أن يكون كل المقول؛ لأجل الفاء ، ألا ترى قوله : { قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ } وقوله : { قالوا أَقْرَرْنَا } .
لو كان كلّ المقول لم تدخل الفاء ، قاله أبو حيان .
فصل
في معنى قوله : { فاشهدوا } وجوه :
الأول : فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار ، { وَأَنَاْ مَعَكُمْ } أي : وأنا على إقراركم ، وإشهاد بعضكم بعضاً { مِّنَ الشاهدين } وهذا توكيد وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادةَ الله ، وشهادة بعضهم على بعض .
الثاني : أن هذا خطاب للملائكة بأن يشهدوا عليهم ، قاله سعيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ .
الثالث : أن قولِه : { فاشهدوا } إشهاد على نفسه ، ونظيره قوله :
{ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ } [ الأعراف : 172 ] وهذا باب من المبالغة .
الرابع : فاشهدوا ، أي : بيِّنوا هذا الميثاقَ للخاصّ والعامّ؛ لكي لا يبقى لأحد عذْرٌ في الجَهْل به ، وأصله أن الشاهد يُبَيِّن صِدْقَ الدَّعْوَى .
الخامس : قال ابنُ عَبّاسٍ : { فاشهدوا } أي : فاعلموا ، واستيقِنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق ، وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له .
السادس : إذا قلنا : إنَّ أخْذَ الميثاقِ كان من الأمم ، فقوله : { فاشهدوا } خطاب للأنبياء بأن يكونوا شاهدين عليهم . قوله : { مِّنَ الشاهدين } هذا هو الخبر؛ لأنه محط الفائدة . وأما قوله : { مَعَكُمْ } فيجوز أن يكون حالاً ، أي : وأنا من الشاهدين مصاحباً لكم ، ويجوز أن يكون منصوباً ب « الشَّاهدينَ » ظرفاً له عند مَنْ يرى تجويزَ ذلك - ويمتنع أن يكون هذا هو الخبرُ؛ إذ الفائدة به غير تامةٍ في هذا المقامِ .
والجملة من قوله : { وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين } يجوز ألا يكون لها محل؛ لاستئنافها . ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل { فاشهدوا } والمقصود من هذا الكلام التأكيد ، وتقوية الإلزام . قوله : { فَمَنْ تولى } يجوز أن تكون « مَنْ » شرطية ، فالفاء - في « فَأولَئِكَ » جوابها . والفعل الماضي ينقلب مستقبلاً في الشرط . وأن تكون موصولةً ، ودخلت الفاء لشبه المبتدأ باسم الشرطِ ، فالفعل بعدها على الأول - في محل جزم ، وعلى الثاني لا محل له؛ لكونه صلة ، وأما « فأولئك » ففي محل جزم أيضاً - على الأول ، ورفع الثاني ، لوقوعه خبراً و « هم » يجوز أن يكون فَصْلاً ، وأن يكون مبتدأ .
ومعنى الآية : من أعرض عن الإيمان بهذا الرسولِ ، وبنصرته ، والإقرار له { فأولئك هُمُ الفاسقون } الخارجون عن الإيمان .

أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
الجمهور يجعلون الهمزة مقدَّمةً على الفاء ، للزومها الصدر ، والزمخشري يقرها على حالها ، ويُقدِّر محذوفاً قبلها ، وهنا جوَّز وجهين :
أحدهما : أن تكون الفاء عاطفةً جملة علىجملة ، والمعنى : فأولئك هم الفاسقون ، فغير دين الله يبغون ، ثم توسطت الهمزة بينهما .
والثاني : أن تعطف على محذوف ، تقديره أيتولون ، فغير دين الله يبغون؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال والحوادث ، وهو استفهام استنكار ، وقدم المفعول - الذي هو « غير » - على فعله؛ لأنه أهم من حيث أن الإنكار - الذي هو معنى الهمزة - مُتَوَجِّه إلى المعبود الباطل ، هذا كلام الزمخشريِّ .
قال أبو حيان : « ولا تحقيق فيه؛ لأن الإنكار - الذي هو معنى الهمزة - لا يتوجه إلى الذوات ، وإنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات ، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء ، الذي متعلقه غير دين الله ، وإنما جاء تقديم المفعول من باب الاتساع ، ولشبه » يبغون « بالفاصلة ، فأخَّرَ الفعلُ » .
وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم « يَبْغُونَ » من تحت - نسقاً على قوله : { هُمُ الفاسقون } [ آل عمران : 82 ] والباقون بتاء الخطاب ، التفاتاً لقوله : { لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } [ آل عمران : 81 ] ولقوله : { أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ } [ آل عمران : 81 ] .
وأيضاً فلا يبعد أن يُقال للمسلم والكافر ، ولكل أحد : أفغير دين الله تبغون مع علمكم أنه أسلم له مَنْ في السموات والأرض وأن مَرْجعكم إليه؟ ونظيره قوله : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } [ آل عمران : 101 ] .
قال ابن الخطيب : ذكر المفسّرون في سبب النزولِ أن أهل الكتاب اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فادَّعَى كلّ واحدٍ من الفريقين أنه على دين إبراهيم ، فقال صلى الله عليه وسلم « كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِنْ إبْرَاهِيمَ ، فَغَضِبُوا وقالوا : والله لا نَرْضَى بقضائِك ، ولا نأخذ بِدِينِكَ » ، فنزل قوله : { أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ } .
قال ابن الخطيب : ويبعد عندي حَمْلُ هذه الآيةِ على هذا السبب؛ لأن على هذا التقدير - الآية منقطعة عما قبلها ، والاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلُّقَها بما قبلها ، وإنما الوجه في الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكونراً في كُتُبِهِم ، وهم كانوا عارفين بذلك ، وعالمين بصِدق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ، فلم يبق كفرهم إلا مجردَ عنادٍ وحَسَدٍ وعداوةٍ ، فصاروا كإبليس حين دعاه الحسدُ إلى الكُفر ، فأعلمهم - تعالى - أنهم متى كانوا كذلك كانوا طالبين ديناً غير دين اللهِ - تعالى - ثم بيَّن لهم أن التمرُّدَ على الله ، والإعراضَ عن حكمه مما لا يليق بالعقل ، فقال : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } .
قوله : « وله أسلم من في السموات » جملةٌ حاليةٌ ، أي : كيف يبغون غير دينه ، والحال هذه ، وفي قوله : « طوعاً وكرهاً » وجهان :
أحدهما : أنهما مصدران في موضع الحال ، والتقدير : طائعين وكارهين .
الثاني : أنهما مصدران على غير المصدر ، قال ابو البقاء : « لأن » أسْلَمَ « بمعنى انقاد ، وأطاع » وتابعه أبو حيان على هذا .
وفيه نظرٌ؛ من حيث إن هذا ماشٍ في « طَوْعاً » لموافقته معنى الفعل قبله ، وأما « كَرْهاً » ، كيف يقال فيه ذلك؟ والقول بأنه يُغتفر في التوالي ما لا يُغْتَفَر في الأوائل ، غير نافع هنا .
ويقال يطاع يطوع ، وأطاع يُطيع بمعنى ، قاله ابن السِّكيتِ ، وقول : طاعه يطوعه : انقاد له ، وأطاعه ، أي : رضي لأمره ، وطاوعه ، أي : وافقه .
قرأ الأعمش : « وَكُرْهاً » - بالضم - وسيأتي أنها قراءة الأخوين في سورة النساء .
قال الحسنُ : أسلم من في السموات طوعاً ، وأسلم من في الأرض بعضهم طَوْعاً ، وبعضهم خوفاً من السيف والسِّبْي .
وقال مجاهد : « طوعاً » المؤمن ، و « كرْهاً » ظل الكافر ، بدليل قوله : { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال } [ الرعد : 15 ] .
وقيل هذا يوم الميثاق ، حين قال : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] فقال بعضهم طوعاً ، وبعضهم كرهاً .
قال قتادة : المؤمن أسلم طوعاً فنفعه ، والكافر أسلم كرهاً في وقت اليأس ، فلم ينفعه ، قال تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] .
قال الشعبي : وهو استعاذتهم به عند اضطرارهم ، كقوله : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } [ العنكبوت : 65 ] .
قال الكلبيُّ : « طَوْعاً » الذي وُلِد في الإسلام « وَكَرْهاً » الذين أجْبِروا على الإسلام .
قال ابن الخطيب : كل أحد منقاد - طوعاً أو كرهاً - فالمسلمون منقادون لله طوعاً فيما يتعلق بالدّينِ ، ومنقادون له فيما يخالف طِباعَهم من الفقر والمرض والموت وأشباهه . وأما الكافرون ، فهم منقادون لله كرهاً على كل حال؛ لأنهم لا ينقادون لله فيما يتعلق بالدِّين ، وفي غير ذلك مستسلمون له - سبحانه - كرهاً ، لا يمكنهم دفع قضائه وقدره .
وقيل : كل الخلق منقادون للإلهية طوعاً ، بدليل قوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرهاً .
قوله : { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } يجوز أن تكون هذه الجملةُ مستأنفةً ، فلا محل لها ، وإنما سيقت للإخبار بذلك؛ لتضمنها معنى التهديد العظيم ، والوعيد الشديد . ويجوز أن تكون معطوفة على الجملة من قوله : { وَلَهُ أَسْلَمَ } فتكون حالاً - أيضاً - ويكون المعنى : أنه نَعَى عليهم ابتغاء غير دين من أسلم له جميع من في السموات والأرض - طائعين ومكرهين - ومن مرجعهم إليه .
قرأ حفص - عن عاصم - « يُرْجَعُونَ » بياء الغيبة - ويحتمل ذلك وجوهاً :
أحدها : أن يعود الضمير على { مَنْ أَسْلَمَ } .
الثاني : أن يعود على من عاد عليه الضمير في « يَبْغُونَ » في قراءة من قرأ بالغيبة ، ولا التفات في هذين .
والثالث : أن يعود على من عاد عليه الضمير في « تَبْغُونَ » - في قراءة الخطاب - فيكون التفاتاً حينئذ . وقرأ الباقون - « تبغون » - بالخطاب - وهو واضح ، ومن قرأه بالغيبة كان التفاتاً منه .
ويجوز أن يكون التفاتاً من قوله : { مَن فِي السماوات والأرض } .

قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
وفي هذه الآية احتمالان :
أحدهما : أن يكون المأمور بهذا القول - وهو « آمَنَّا » إلى آخره - هو محمد صلى الله عليه وسلم ثم في ذلك معنيان :
أحدهما : أن يكون هو وأمته مأمورين بذلك ، وإنما حُذِفَ معطوفُه؛ لِفَهْم المعنى ، والتقدير : قل يا محمد أنت وأمتك : آمنا بالله ، كذا قدَّره ابنُ عطية .
والثاني : أن المأمور بذلك نبينا وحده ، وإنما خوطب بلفظ الجمع؛ تعظيماً له .
قال الزمخشري : « ويجوز أن يُؤمَر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك؛ إجلالاً من الله - تعالى - لقدر نبيِّه » .
والاحتمال الثاني : أن يكون المأمور بهذا القول مَنْ تقدم ، والتقدير : قل لهم : قولوا : آمنا ، ف « آمَنَّا » منصوب ب « قُلْ » على الاحتمال الأول ، وب « قُولُوا » المقدَّر على الاحتمال الثاني ، وذلك القول المُضْمر منصوب المحل .
وهذه الآية شبيهة بالتي في البقرة ، إلا أنَّ هنا عَدَّى « أُنْزِلَ » ب « عَلَى » وهناك عدَّاه ب « إلى » .
قال الزمخشري : لوجود المعنيين جميعاً؛ لأن الوحي ينزل من فوق ، وينتهي إلى الرسل ، فجاء تارة بأحد المعنيين ، وأخرى بالآخر .
قال ابن عطيةَ : « الإنزال على نَبِيّ الأمة إنزال عليها » وهذا ليس بطائل بالنسبة إلى طلب الفرق .
قال الراغب : « إنما قال - هنا - » عَلَى « ، لأن ذلك لما كان خطاباً للنبيّ صلى الله عليه وسلم وكان واصلاً إليه من الملأ الأعلى بلا واسطةٍ بشريةٍ ، كان لفظ » عَلَى « المختص بالعُلُوِّ أوْلَى به ، وهناك لما كان خطاباً للأمة ، وقد وصل إليهم بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم كان لفظ » إلَى « المختص بالاتصال أوْلَى .
ويجوز أن يقال : » أنزل عليه « ، إنما يُحْمَل على ما أُمِر المنزَّل عليه أن يُبَلِّغَه غيرَه . وأنزل إليه ، يُحْمَل على ما خُصَّ به في نفسه ، وإليه نهاية الإنزال ، وعلى ذلك قال تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ } [ العنكبوت : 51 ] وقال : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] خص هنا ب » إلى « لماكان مخصوصاً بالذكر الذي هو بيان المنزل ، وهذا كلام في الأولى لا في الوجوب » .
وهذا الذي ذكره الراغب ردَّه الزمخشريُّ ، فقال : « ومن قال : إنما قيل : » عَلَيْنَا « لقوله : » قُلْ « و » إلينا « لقوله : » قُولُوا « ، تفرقة بين الرسول والمؤمنين؛ لأن الرسول يأتيه الوحي عن طريق الاستعلام ، ويأتيهم على وجه الانتهاء ، فقد تعسَّف؛ ألا ترى إلى قوله : { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } [ البقرة : 4 ] وقوله : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب } [ المائدة : 48 ] وقوله : { وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار }
[ آل عمران : 72 ] وفي البقرة : { وَمَا أُوتِيَ النبيون } [ البقرة : 136 ] وهنا : « وَالنَّبِيُّونَ » ، لأن التي في البقرة لفظ الخطابِ فيها عام ، ومن حكم خطاب العام البسط دون الإيجاز ، بخلاف الخطاب هنا ، لأنه خاص ، فلذلك اكتفى فيه بالإيجاز دون الإطناب « .
قال ابن الخطيب : قدَّم الإيمانَ بالله على الإيمان بالأنبياء؛ لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالنبوة ، ثم في المرتبة الثانية قدم ذكر الإيمان بما أنزِل عليه؛ لأن كتب سائر الأنبياء حرَّفوها وبدَّلوها ، فلا سبيلَ إلى معرفة أحوالها إلا بالإيمان بما أُنْزِل على محمَّد صلى الله عليه وسلم فكأن ما أنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم كالأصل لما أُنْزِل على سائر الأنبياء ، فلذا قدَّمه ، وفي المرتبة الثالثة ذكر بعض الأنبياء ، وهم الأنبياء الذين يَعْتَرِفُ أهلُ الكتاب بوجودِهم ، ويختلفون في نبوتِهِمْ ، والأسباط : هم أسباط يعقوبَ الذين ذكر الله - تعالى - أممهم الاثنتي عشرة في سورة الأعراف .
فصل
قوله : { والنبيون } بعد قوله : { وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى } من باب عطف العامِّ على الخاص .
اختلف العلماء في كيفية الإيمان بالأنبياء المتقدِّمين الذين نُسِخَتْ شرائعُهم . وحقيقة الخلاف أن شرعه لما صار منسوخاً ، فهل تصير نُبُوَّتُه منسوخةً؟ فمن قال : إنها تصير منسوخة قال : نُؤْمن بأنهم كانوا أنبساءَ وَرُسُلاً ، ولا نؤمن بأنهم أنبياء ورسل في الحال . ومَنْ قال : إن نسخَ الشريعة لا يقتضي نسخ النبوة ، قال : نؤمن بأنهم أنبياء ورسُل في الحال ، فتنبَّه لهذا الموضع .
فصل
قال ابن الخطيب : اختلفوا في معنى قوله : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } بأن نؤمن ببعضٍ دون بعضٍ - كما فرَّقت اليهود والنصارَى .
وقال أبو مسلم : لا نفرق ما جمعوا ، وهو كقوله تعالى : { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران : 103 ] وذَمَّ قوماً ووصفهم بالتفرُّق ، فقال : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الأنعام : 94 ] .
قوله : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فيه وجوهٌ :
الأول : أن إقرارنا بنبوَّة هؤلاء الأنْبِياء إنما كان لأننا منقادون لله - تعالى - مستسلمون لحُكْمِه ، وفيه تنبيه على أن حاله على خلاف الذين خاطبهم الله بقوله : { أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض } [ آل عمران : 83 ] .
قال أبو مسلم : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي : مستسلمون لأمْره بالرضا ، وترك المخالفة ، وتلك صفة المؤمنين بالله ، وهم أهل السلم ، والكافرون أهل الحربِ ، لقوله تعالى : { إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ } [ المائدة : 33 ] .
قال ابن الخطيب : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } يُفيد الحَصْر ، والتقدير : له أسلمنا لا لغرض آخرَ من سمعة ، ورياء ، وطلب مالٍ ، وهذا تنبيه على أن حالَهم بالضِّدِّ من ذلك .

وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
العامة يظهرون هذين المثلين في { يَبْتَغِ غَيْرَ } لأن بينهُمَا فاصلاً فلم يلتقيا في الحقيقةِ ، وذلك الفاصل هو الياء التي حذفت للجزم .
وروي عن أبي عمرو فيها الوجهان :
الإظهار على الأصل ، ولمراعاة الفاصل الأصْلِيّ .
والإدغام؛ مراعاةً للفظ؛ إذ يَصْدُق أنهما التقيا في الجملة ، ولأن ذلك مستحِقّ الحَذْف لعامل الجَزْم .
وليس هذا مخصوصاً بهذه الآية ، بل كل ما التقى فيه مِثْلاَنِ بسبب حذف حرف لعلةٍ اقتضت ذلك جَرَى فيها الوجهان ، نحو : { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } [ يوسف : 9 ] وقوله : { وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ } [ غافر : 28 ] .
وقد استشكل على هذا نحو { وياقوم مَا لي أَدْعُوكُمْ } [ غافر : 41 ] ونحو : { وياقوم مَن يَنصُرُنِي } [ هود : 30 ] فإنه لم يُرْوَ عن أبي عمرو خلاف في إدغامها ، وكان القياس يقتضي جواز الوجهين ، لأن ياء المتكلم فاصلة تقديراً .
قوله : « دِيناً » فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنه مفعول « يَبْتَغِ » و « غَيْرَ الإسْلاَمِ » حالٌ؛ لأنها في الأصل صفةٌ له ، فلما قُدِّمَتْ نُصِبَت حالاً .
الثاني : أن يكون تمييزاً لِ « غَيْرَ » لإبهامها ، فمُيِّزَتْ كما مُيِّزت « مِثْلُ » و « شِبهُ » وأخواتهما ، وسُمِع من العرب : إن لنا غيرَها إبلاً وشاءً .
والثالث : أن يكون بدلاً من « غَيْرَ » . وعلى هذين الوجهين ف { غَيْرَ الإسلام } هو المفعول به ل « يبتغ » .
وقوله : { وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } يجوز أن لا يكون لهذه الجملة محلٌّ؛ لاستئنافها ، ويجوز أن تكون في محل جَزْم؛ نَسَقاً على جواب الشرط - وهو { فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } - ويكون قد ترتب على ابتغاء غير الإسلام ديناً الخُسران وعدمُ القبول .
فصل
لما تقدم قوله تعالى : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 84 ] بيَّن أن الدينَ ليس إلا الإسلام ، وأن كل دين غيره ليس بمقبولٍ؛ لأن معنى قبول العمل أن يرضى اللهُ ذلك العملَ ، ويثيب فاعله عليه ، قال تعالى { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } [ المائدة : 27 ] وما لم يكن مقبولاً كان صاحبُه من الخاسرين في الآخرة بحرمان الثواب ، وحصول العقاب ، مع الندامة على ما فاته من العمل الصالح ، مع التعب والمشقة في الدنيا في ذلك الدين الباطل .
فصل
قال المفسرون : نزلت هذه الآيةُ في اثني عشر رجلاً ارتدُّوا عن الإسلام ، وخرجوا من المدينة ، وأتوا مكةَ كُفَّاراً منهم الحَرْث بن سُوَيْد الأنصاريُّ ، فنزل قول الله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } والخُسْران في الآخرة يكونُ بحرمانِ الثَّوابِ ، وحصول العقاب ، والتأسُّف على ما فاته في الدنيا من العملِ الصالحِ ، والتحسُّر على ما تحمَّلَه من التعب والمشقة في تقرير دينه الباطلِ .
وظاهر هذه الآية يدل على أن الإيمان هو الإسلام؛ إذْ لو كان غيره لوجب أن لا يكون الإيمان مقبولاً؛ لقوله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } إلا أن ظاهر قوله تعالى : { قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] يقتضي التغاير بينهما ، ووجه التوفيق بينهما أن تُحْمل الآية الأولى على العُرْف الشرعيّ ، والآية الثانية على الموضع اللغويّ .

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
الاستفهام فيه كقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله } [ البقرة : 28 ] .
وقيل : الاستفهام - هنا - معناه النَّفْي كقوله : [ الخفيف ]
1532- كَيْفَ نَوْمي عَلَى الْفِرَاش وَلَمَّا ... تَشمَلِ الشَّامَ غَارَةٌ شَعْوَاءُ؟
وقول الآخر : [ الطويل ]
1533- فَهَذِي سُيُوفٌ يَا صُدَبُّ بْنَ مَالِكٍ ... كَثِيرٌ ، وَلَكِنْ كَيْفَ بِالسَّيْفِ ضَارِبُ؟
يعني : أين بالسيف؟
{ وشهدوا } في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنها معطوفة على « كَفَرُوا » و « كَفَرُوا » في محل نَصْب؛ نعتاً لِ « قوماً » أي : كيف يهدي من جمع بين هذين الأمرين ، وإلى هذا ذهب ابنُ عطيةَ والحَوْفِيُّ وأبو البقاء ، وردَّه مكيّ ، فقال : لا يجوز عطف « شَهِدُوا » على كَفَرُوا « لفساد المعنى . ولم يُبَيِّن جهَةَ الفساد ، فكأنه فهم الترتيب بين الكفر والشهادة ، فلذلك فَسَد المعنى عنده . وهذا غير لازم؛ فإن الواو لا تقتضي ترتيباً ، ولذلك قال ابن عطيةَ : » المعنى مفهوم أن الشهادة قبل الكُفْر ، والواو لا تُرَتِّب « .
الثاني : أنها في محل نصب على الحال من واو » كَفَرُوا « فالعامل فيها الرافع لصاحبها ، و » قد « مضمرة معها على رأي - أي كفروا وقد شهدوا ، وإليه ذهب جماعةٌ كالزمخشريِّ ، وأبي البقاء وغيرهما .
قال أبو البقاء : » ولا يجوز أن يكون العامل « يَهْدِي » ؛ لأنه يهدي من شَهِدَ أن الرسولَ حق « .
يعني أنه لا يجوز أن يكون حالاً من » قَوْماً « والعاملُ في الحالِ » يَهْدِي « لما ذكر من فساد المعنى .
الثالث : أن يكون معطوفاً على » إيمَانِهِمْ « لما تضمَّنه من الانحلال لجملة فعلية؛ إذ التقدير : بعد أن آمنوا وشهدوا ، وإلى هذا ذهب جماعة .
قال الزمخشريُّ : أن يُعْطَف على ما في » إيمانهم « من معنى الفعل؛ لأن معناه : بعد أن آمنوا ، كقوله : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن } [ المنافقون : 10 ] وقول الشاعر : [ الطويل ]
1534- مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً ... وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا
وجه تنظيره ذلك بالآية والبيت يوهم ما يسوِّغ العطف عليه في الجملة ، كذا يقول النحاة : جزم على التوهم أي لسقوط الفاء؛ إذْ لو سقطت لانجزم في جواب التحضيض ، ولذا يقولون : توهَّم وجودَ الباء فَجَرَّ .
وفي العبارة - بالنسبة إلى القرآن - سوء أدبٍ ، ولكنهم لم يقصدوا ذلك .
وكان تنظير الزمخشري بغير ذلك أولى ، كقوله : { إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله قَرْضاً حَسَنا } [ الحديد : 18 ] .
إذ هو في قوة : إن الذين تصدقوا وأقرضوا .
وقال الواحدي : » عطف الفعل على المصدر؛ لأنه أرادَ بالمصدر الفعلَ ، تقديره : كفروا بالله بعد أن آمنوا ، فهو عطف على المعنى ، كقوله : [ الوافر ]
1535- لَلُبْسُ عَبَاءةٍ وَتَقَرُّ عَيْنِي ... أحَبُّ إلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
معناه : لأن ألبس عباءةً وتقرَّ عيني « .
وظاهر عبارة الزمخشري والواحدي أن الأول مؤوَّل لأجل الثاني ، وهذا ليس بظاهر؛ لأنا إنما نحتاج إلى ذلك لكون الموضع يطلب فِعْلاً ، كقوله : { إِنَّ المصدقين } لأن الموصول يطلب جملة فعلية ، فاحتجنا أن نتأول اسم الفاعل بفعله ، وعطفنا عليه و « أقرضُوا » وأما « بعد إيمانهم » وقوله : « للبس عباءة » ، فليس الاسم محتاجاً إلى فِعل ، فالذي ينبغي هو أن نتأوَّل الثاني باسم؛ ليصحَّ عطفه على الاسم الصريح قبله ، وتأويله بأن تأتي معه ب « أن » المصدريَّة مقدَّرةً ، تَقْدِيرُهُ : بعد إيمانهم وأن شهدوا أي وشهادتهم ، ولهذا تأول النحويون قوله : للُبْسُ عباءة وتقرَّ : وأن تَقَرَّ ، إذ التقدير : وقرة عيني ، وإلى هذا ذهب أبو البقاء ، فقال : « التقدير : بعد أن آمنوا وأن شهدوا ، فيكون في موضع جر ، يعني أنه على تأويل مصدر معطوف على المصدر الصحيح المجرور بالظرف » .
وكلام الجرجاني فيه ما يشهد لهذا ، ويشهد لتقدير الزمخشريّ؛ فإنه قال : قوله « وَشَهِدُوا » منسوق على ما يُمْكن في التقدير ، وذلك أن قوله : « بعد إيمانهم » يمكن أن يكون : بعد أن آمنوا ، و « أن » الخفيفة مع الفعل بمنزلة المصدر ، كقوله : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُم } [ البقرة : 184 ] ، أي : والصوم .
ومثله مما حُمِل فيه على المعنى قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِل } [ الشورى : 51 ] فهو عطف على قوله : « إلا وحياً » ويمكن فيه : إلاَّ أن يُوحِيَ إليه ، فلما كان قوله : « إلا وحياً » بمعنى : إلا أن يُوحِي إليه ، حمله على ذلك .
ومثله من الشعر : [ الطويل ]
1536- فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ ... صَفِيفَ شواءٍ أوْ قَدِيرٍ مُعَجَّلِ
خفض قوله : قدير؛ لأنه عطف على ما يمكن في قوله : منضج؛ لأنه أمكن أن يكون مضافاً إلى الصفيف ، فحملَه على ذلك ، فإتيانه بهذا البيت نظير إتيان الزمخشريِّ بهذه الآيةِ الكريمةِ والبيت المتقدميْن؛ لأنه جر « قدير » - هنا - على التوهُّم ، كأنه توهَّم إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله؛ تخفيفاً ، فَجرَّ على التوهُّم كما توهم الآخر وجود الباء في قوله : ليسوا مصلحين؛ لأنها كثيراً ما تزاد في خبر « ليس » .
فإن قيل : إذا كان تقدير الآية : كيف يهدي اللهُ قوماً كفروا بعد الإيمانِ وبعد الشهادةِ بأن الرسول حق ، وبعد أن جاءَهم البيِّنات ، فعطف الشهادة بأن الرسول حَقٌّ يقتضي أنه مغاير للإيمان .
فالجواب : أن الإيمان هو التصديق بالقلب ، والشهادة هي الإقرار باللسان ، فهما متغايران .
وقوله : « أن الرسول » الجمهور على أنه وَصْف بمعنى المُرْسَل ، وقيل : هو بمعنى الرسالةِ ، فيكون مصدراً ، وقد تقدم .
فصل
في سبب النزول أقوالٌ :
الأول : قال ابنُ عباسٍ : نزلت في عشرة رهط ، كانوا آمنوا ، ثم ارتدُّوا ، ولَحِقُوا بمكةَ ، ثم اخذوا يتربصون به ريب المنون ، فأنزل اللهُ فيهم هذه الآيةَ ، وكان منهم مَنْ آمن ، فاستثنى التائبَ منهم بقوله :

قلت المدون الاتي بمشيئة الله  ج17. وج18.   

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...