حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الخميس، 22 سبتمبر 2022

ج3.وج4.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 ج3.وج4.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب

 -------

ج3.وج4.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 

ج3.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وقيل : يعود على الأسماء . ونقل عن ابن عباس ، ويؤيده قراءة أُبيّ « عَرَضَهَا » ، وقراءة ابن مسعود : « عَرَضَهُنَّ » إلا أن في هذا القول جعل ضمير غير العقلاء كضمير العقلاء أو نقول : إنما قال ابن عباس ذلك بناء منه أنه أطلق الأسماء ، وأراد المسميات كما تقدم وهو واضح .
و « عَلَى المَلاَئِكَةِ » متعلّق ب « عَرَضَهُمْ » .
قال ابن مسعود وغيره : عرض الأشخاص ، لقوله تعالى : « عَرَضَهُمْ » وقوله : « أَنْبِئُونِي لأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ » .
وفي الحديث : « إنَّه عَرَضَهُمْ أَمْثَالَ الذَّرِّ » .
وقال ابن عباس وغيره : عرض الأسماء .
فصل في بيان أول من تكلم بالعربية
اختلف في أوَل من تكلم بالعربية .
روى كعب الأحبار : أن أول من وضع الكتاب العربي والسّرياني والكتب كلها ، وتكلم بالألسنة كلها آدم عليه الصلاة والسلام . فإن قيل : روى ثور بن يزيد عن خَالِدِ بن مَعْدَان عن كعب قال : أوّل من تكلّم بالعربية جبريل - عليه الصلاة والسلام - وهو الذي أَلْقَاهَا على لسان نُوحٍ عليه الصلاة والسلام ، وألقاها نوح على لسان ابنه سَام .
وقال صلى الله عليه وسلم : « وَعَلمً آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا حَتَّى القَصْعَة والقُصَيْعَة » وما ذكروه يحتمل أن يكون المراد به أول من تكلّم بالعربية من ولد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - إسماعيل عليه الصلاة والسَّلام ، وكذلك إن صَحّ ما سواه فإنه يكون محمولاً على أن المذكور أول من تكلّم من قبيلته بالعربية .
وكذلك جبريل أول من تكلم بها من الملائكة ، وألقاها على لسان بعد أن علمها الله آدم أو جبريل ، على ما تقدم .
قوله : « أَنْبِئُونِي بأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ » .
« الإِنْبَاء » الإخبار ، وأصل أنبأ أن يتعدّى لاثنين ثانيهما بحرف الجر كهذه الآية ، وقد يحذف حرف الجر ، قال تعالى : { مَنْ أَنبَأَكَ هذا } [ التحريم : 3 ] أي : بهذا ، وقد يتضمّن معنى أعلم اليقينية ، فيتعدّى تعديتها إلى ثلاثة مَفَاعيل ، ومثل أنبأ : نبّأ وأخبر ، وخبر وحدث .
و « هؤلاء » في محل خفض بالإضافة ، وهو اسم إشارة ، ورتبته دُنْيَا ، ويُمَدُّ وَيُقْصَرُ؛ كقوله : [ الخفيف ]
369- هَؤُلَى ثُمَّ كُلاًّ اعْطَيْ ... تَ نِعَالاً مَحْذُوَّةً بِمِثَالِ
والمشهورة بناؤه على الكَسْرِ ، وقد يضم ، وقد ينوِّن مكسوراً ، وقد تبدل همزته هاء ، فيقال : هؤُلاَه ، وقد يقال : هَوْلاءِ؛ كقوله : [ الوافر ]
370- تَجَلَّدْ لاَ يَقُلْ هَؤْلاَءِ : هَذَا ... بَكَى لَمَّا بَكَى أَسَفاً عَلَيِكَا
ولامه عند الفارسي همزة فتكون فاؤه ولامه من مادّة واحدة ، وعند المبرد أصلها ياء ، وإنما قلبت همزةً لتطرفها بعد الألف الزَّائدة .
قوله : « إنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ » تقدّم نظيره وجوابه محذوف أي : إنْ كُنتم صادقين ، فأنبئوني . والكوفيين والمبرد يرون أن الجواب هو المتقدم ، وهو مردود بقولهم : « أنت ظالم إن فعلت » لأنه لو كان جواباً لوجبت الفاء معه كما تجب معه متاخراً .
وقال ابن عطية : إن كون الجواب مَحْذوفاً هو رأي المبرد ، وكونه متقدماً هو رأي سيبويه ، وهو وهم؛ لأن المنقول عن المبرد أن التقدير : إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض فأنبئوني . وهذه الآية دالة على فضيلة العلم .
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
« سبحان » : اسم مصدر ، وهو التسبيح ، وقيل : بل هو مصدر؛ أنه سمع له فعلٌ ثلاثيٌّ ، وهو من الأسماء اللاَّزمة للإضافة ، وقد بفرد ، وإذا أفرد ، منع الصَّرف للتعريف ، وزيادة الألف والنون؛ كقوله : [ السريع ]
371- أَقُولُ أَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ ... سُبحَانَ
وَقَدْ جَاءَ مُنَوَّناً كقوله : [ البسيط ]
372- سُبْحَانَهُ ثُمَّ سُبْحَاناً نَعُوذُ بِهِ ... وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجُمُدُ
فقيل : صرف ضرورة .
وقيل : هو بمنزلة « قَبْلُ » و « بعدُ » أن نوي تعريفه بقي على حاله ، وإن نكر اعرب منصرفاً ، وهذا البيت يساعد على كونه مصدراً لا اسم مصدر ، لوروده منصرفاً .
ولقائل القول الأول أن يجيب عنه بأن هذا نكرة لا معرفة ، وهو من الأسماء اللازم النصب على المصدرية ، فلا ينصرف والناصب له فعل مقدر لا يجوز إظْهاره ، وقد روي عن الكَسائِيّ أنه جعله مُنَادَى تقديره : يا سُبْحَانَك ومنعه جمهور النحويين وإضافته - هُنا - إلى المفعول؛ لأن المعنى : نسبحك نحن .
وقيل : بل إضافته للفاعل ، والمعنى تنزّهت وتباعدت من السُّوء .
وسبحانك العامل فيه في مَحَلّ نصب بالقول .
قوله : « لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا » كقوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } و « إلاّ » حرف استثناء ، و « ما » موصولة ، و « علمتنا » صلتها ، وعائدها محذوف ، على أن يكون « علم » بمعنى « معلوم » ، ويجوز أن تكون مصدرية ، وهي في محلّ نصب على الاستثناء ، ولا يجوز أن تكون منصوبةً بالعلم الذي هو اسم « لا » ؛ لأنه إذا عمل كان معرباً .
وقيل : في محلّ رفع على البَدَل من اسم « لا » على الموضع .
وقال ابن عطية : هو بدلٌ من خبر التبرئة كقولهم : « لا إله إلا الله » ، وفيه نظر؛ لأن الاستثناء إنَّمَا هو من المحكوم عليه بقيد الحكم لا من المحكوم به .
ونقل هو عن « الزَهراوي » أن « ما » منصوبةٌ ب « علمتنا » بعدها ، وهذا غير معقول؛ لأنه كيف ينتصب الموصول بصلته وتعمل فيه؟
قال أبو حيان : إلاّ أن يتكلّف له وجه بعيد ، وهو أن يكون استثناء منقطعاً بمعنى لكن ، وتكون « ما » شرطية ، و « علمتنا » ناصب لها ، وهو في محل جزم بها ، والجواب محذوف ، والتقدير : « لكن ما علمتنا علمناه » .
فصل
الضمير يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون تأكيداً لاسم « إنَّ » فيكون منصوب المحل ، وأن يكون مبتدأ ، وخبره ما بعده ، والجملة خبر « إنَّ » ، وأن يكون فصلاً ، وفيه الخلاف المشهور .
وهل له محل من الإعراب أم لا؟
وإذا قيل : إن له محلاًّ ، فهل بإعراب ما قبله كما قال الفراء ، فيكون في محل نصب ، أو بإعراب ما بعده فيكون في محل رفع كقول الكسائي؟
قوله : « الحكيم » خير ثانٍ أو صفة « العليم » ، وهما « فعيل » بمعنى « فاعل » وفيهما من المُبالغة ما ليس فيه .
و « الحكيم » لغة : الإتقان ، والمنع من الخروج عن الإرادة ، ومنه حَكَمَةُ الدابة؛ وقال جَرِيرٌ « : [ الكامل ]
373- أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ ... إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أَغْضَبَا
وقدم » العليم « على » الحكيم « ؛ لأنه هو المتّصل به في قوله : » وعلم « ، وقوله : » وعلم « ، وقوله : » لا عِلْمَ لنا « فناسب اتصاله به؛ ولأن الحِكْمَةَ ناشئةٌ عن العلم وأثر له ، وكثيراً ما تقدّم صفة العلم عليها .
والحكيم صفةٌ ذاتٍ إن فسر بذي الحِكْمَةِ ، وصفة فعل إن فسر بأنه المحكم لصنعته فكأن الملائكة قالت : أنت العالم بكل المعلومات ، فأمكنك تعليم آدم ، وأنت الحكيم في هذا الفعل المصيب فيه .
وعن » ابن عباس « أن مراد الملائكة من » الحكيم « أنه هو الذي حكم بجعل آدم -عليه الصلاة والسلام- خليفةً في الأرض .
فصل
احتج أهل الإسلام بهذه الآية على أنه لا سَبِيْلَ إلى معرفة المغيبات إلا بتعليم الله -تعالى- وأنه لا يمكن التوصُّل إليها بعلم النجوم والكهانة ، ونظيره قوله تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 ] وقوله : { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً } [ الجن : 26 ] .
قوله : » يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بأسْمَائِهِمْ « .
آدم : مبني على الضم؛ لأنه مفرد معرفة ، وكل ما كان كذلك بُني على ما كان يرفع به ، وهو في محل نصب لوقوعه موقع المَفْعول به ، فإن تقديره : ادعوا آدم ، وبني لوقوعه موقع المُضْمَرِ ، والأصل : يا إياك كقولهم : » يَا قَدْ كَفَيْتُكَ « ، و » يا أَنْتَ « ؛ كقوله [ الرجز ]
374- يَا أَبْجَرُ بْنُ أَبْجَرٍ يَا أَنْتَا ... أَنْتَ الَّذِي طَلَّقْتَ عَامَ جُعْتَا
قَدْ أَحْسَنَ اللهُ وَقَدْ أَسَأْتَا ... و » يَا إِيَّاكَ « أقيس من » يا أنت « ؛ لأن الموضع موضع نصب ، ف » إياك « أليق به ، وتحرزت بالمفرد عن المضاف نحو : يا عبد الله ، ومن الشبيه به ، وهو عبارة عما كان الثَّانِي فيه من تمام معنى الأوّل نحو : » يا خيراً من زيد « و » يا ثلاثةً وثلاثين « ، وبالمعرفة من النكرة المقصودة؛ نحو قوله : [ الطويل ]
375- فَيا إِمَّا رَاكِباً إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلَغَنْ ... نَدَامَاي مِنْ نَجْرَانَ أَنْ لاَ تَلاَقيَا
فإن هذه الأنواع الثلاثة معربة نصباً .
» أنبئهم « فعل أمر ، وفاعل ، ومفعول ، والمشهور » أنبئهم « مهموز مضموماً ، وقرئ بكسر الهاء . ويروى عن » ابن عامر « ، كأنه أتبع الهاء لحركة » الباء « ، ولم يعتد ب » الهمزة « ، لأنها ساكنةٌ ، فهي حاجز غير حَصِيْنٍ .
وقرئ بحذف الهمزة ، ورُويت عن « ابن كثير » ، قال « ابن جنّيّ » هذا على إبدال الهمزة ياء ، كما تقول : أنبيت كأعطيت ، قال : وهذا ضعيف في اللّغة؛ لأنه بدلٌ لا تخفيف ، والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر .
وهذا من أبي الفَتْحِ غيرِ مرضٍ ، لأن البدل جاء في سَعَة الكلام ، حكى « الأخفش » في « الأوسط » أنهم يقولون في أَخْطَأَت : أَخْطَيْت ، وفي توضأت : توضيت .
قال : وربما حَرَّكوه إلى « الواو » ، وهذا قليل قالوا : « رَفَوْت » في « رَفَأْت » ، ولم أسمع « رَفَيْت » .
إذا تقرر ذلك ، فللنحويين في صرف العلّة المبدل من الهمزة نظر في أنه هل يجرى مجرى العلّة الأصلي أم ينظر إلى أصله؟ ورتبوا على ذلك أحكاماً ، ومن جملتها : هل يحذف جزماً كالحرف غير المبدل أم لا نظراً إلى أصله؟ واستدل بعضهم على حذفه جزماً بقول زهير : [ الطويل ]
376- جَرِيءٍ مَتَى يُظْلَمُ ... يُعَاقِبْ سَرِيعاً وإلاَّ يُبْدَ بِالظُّلْمِ يَظْلِمِ
لأن أصله : « يبدأ » بالهمزة ، فكذلك هذه الآية أُبدلت الهمزة ياء ، ثم حذفت حملاً للأمر على المجزوم .
وقرئ : « أَنْبِهُمْ » بإثبات « الياء » نظراً إلى « الهمزة » وهل تضم « الهاء » نظراً للأصل أم تكسر نظراً للصورة؟
وجهان منقولان عن حمزة « عند الوقف عليه .
و » بِأَسْمَائِهِمْ « : متعلّق ب » أَنْبِئْهُمْ « ، وهو المفعول الثاني كما تَقَدَّم ، وقد يتعدّى ب » عن « نحو : » أنبأته عن حاله « ، وأما تعديته ب » من « في قوله : { قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ } [ التوبة : 94 ] فسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .
قوله : » فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمواتِ وَالأرْضِ « .
والمراد من هذا الغيب أنه كان عالماًَ بأحوال آدم قبل نطقه ، وهذا يدل على أنه سبحانه يعلم الأشياء قبل حدوثها ، وذلك يدلّ على بطلان مذهب » هشام بن الحكم « في أنه لا يعلم الأشياء إلاَّ عند وقوعها ، فإن قيل : قوله : » الَّذِيْنَ يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ « يدلّ على أنّ العبد قد يعلم الغيب؛ لأن الإيمان بالشَّيء فرع العلم به ، وهذا الآية مشعرة بأن علم الغيب ليس إلا لله تعالى ، وأن كل من سواه فهم خالُونَ عن علم الغيب .
والجواب : ما تقدم في قوله : { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب } [ البقرة : 3 ] .
قوله : » قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ « » قال « جواب » فلما « ، والهمزة للتقرير إذا دخلت على تفي تقرير قررته ، فيصير إثباتاً كقوله : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ } [ الشرح : 1 ] أي : قد شرحنا .
و » لم « حرف جزم ، و » أقل « : مجزوم بها حذفت عينه ، وهي » الواو « لالتقاء الساكنين ، و » لكم « متعلّق به ، و » اللام « للتبليغ ، والجُمْلَة من قوله : » إني أعلم « في محلّ نصب بالقول .
وقد تقدم نظائر هذا التركيب .
قوله : « وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ » كقوله « أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ » من كون « أعلم » فعلاً مضارعاً ، و « أفعل » بمعنى « فاعل » أو « أفعل » تفضيل ، وكون ما في محلّ نصب أو جر ، وقد تقدم .
والظاهر : أن جملة قوله : « وأعلم » معطوفة على قوله : « إنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ » ، فتكون في محلّ نصب بالقول .
وقال « أبو البقاء » : إنه مستأنف ، وليس محكياً بالقول : ثم جوَّز فيه ذلك .
و « تبدون » وزنه : « تفعون » ؛ لأن أصله : تبدوون مِثْل : تخرجون ، فأعلّ بحذف « الواو » بعد سكونها ، و « الإبداء » : الإظهار ، و « الكَتْم » الإخفاء؛ يقال : بَدَا يَبْدُو بَدَاء؛ قال : [ الطويل ]
377- . ... بَدَا فشي تِلْكَ القَلُوصِ بَدَاءُ
وقوله : « وَمَا كُنْتُمْ تَكْتَمونَ » عطف على « ما » الأول بحسب ما تكون عليه من الإعراب .
روي عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وسعيد بن جبير : أن قوله : « ما تُبْدُون » أراد به قولهم : « أَتَجْعَلُ فِيْهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيْهَا » وبقوله : « وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُون » أراد به ما أسر « إبليس » في نفسه من الكبر وألاَّ يسجد .
قال « ابن عطية » : وجاء « تكتمون » للجماعة ، والكاتم واحدٌ في هذا القول على تجوّز العرب واتِّسَاعها ، كما يقال لقوم قد جَنَى مهم واحد : أنتم فعلتم كذا ، أي : منكم فاعله ، وهذا مع قَصْد تعنيف ، ومنه قوله : { إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات } [ الحجرات : 4 ] وإنما ناداه منهم عُيَيْنَةُ .
وقيل : « إنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ » من الأمور الغائبة ، والأسرار الخفية التي يظن في الظاهر أنه لا مصلحة فيها ، ولكن لعلمي بالأسرار المغيبة أعلم أنّ المصلحة في خلقها .
وقيل إنه -تعالى- لما خلق آدم رأت الملائكة خلقاً عجيباً قالوا : ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أكرم عليه منه ، فهذا الذي كَتَمُوا ، ويجوز أن يكون هذا القول سرًّا أسروه بينهم ، فأبداه بعضهم لبعض ، وأسروه عن غيرهم ، فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان .
وقالت طائفة : الإبْدَاء والكَتْم المراد به العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم أجمع ، وهذه الآية تدلّ على فضيلة العلم .
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
العامل في « إذ » محذوف دلّ عليه قوله : « فَسَجَدُوا » تقديره : أطاعوا وانقادوا ، فسجدوا؛ لأن السجود ناشئ عن الانقياد .
وقيل : العامل « اذكر » مقدراً .
وقيل : زائدة وقد تقدّم ضعف هذين القولين .
وقال « ابن عطية » : « وإذ قلنا » معطوف على « إذ » المتقدمة ، ولا يصحّ هذا لاختلاف الوقتين .
وقيل : « إذ » بدل من « إذ » الولى ، ولا يصحّ لما تقدّم ، ولتوسّط حرف العَطْف ، وجملة « قلنا » في محل خَفْضٍ بالظرف ، ومنه التفات من الغيبة إلى التكلُّم للعظمة ، و « اللام » للتَّبليغ كنظائرها .
والشمهور جَرّ تاء « الملائكة » بالحَرْف « ، وقرأ » أبو جعفر « بالضم إتباعاً لضمة » الجيم « ولم يعتد بالسَّاكن ، وغلّطه الزَّجاج وخطأه الفارسي ، وشبهه بعضهم بقوله تعالى : { وَقَالَتِ اخرج } [ يوسف : 31 ] بضم تاء التأنيث ، وليس بصحيح ، لأن تلك حركة التقاء الساكنين ، وهذه حركة إعراب ، فلا يتلاعب بها ، والمقصود هناك يحصل بأي حركة كانت .
وقال الزمخشري : لا يجوز استهلاك الحركة استهلاك الإعرابية إلاّ في لغة ضعيفة كقراءة { الحمد للَّهِ } [ الفاتحة : 2 ] يعني بكسر الدال .
قال الشيخ » شهاب الدين « : وهذا أكثر شذوذاً ، وأضعف من ذاك مع ما في ذاك من الضَّعف المتقدم؛ لأن -هناك- فاصلاً ، وإن كان ساكناً .
وقال » أبو البقاء « : وهي قراءة ضعيفة جدًّا ، وأحسن ما تحمل عليه أن يكون الرَّاوي لم يضبط عن [ القارئ ] أشار إلَى الضَّم تنبيهاً على أنّ الهمزة المحذوفة مضمومةٌ في الابتداء ، فلم يدرك الراوي هذه الإشارة ، وقيل : إنه نَوَى الوَقْفَ على » التَّاء « ساكنة ، ثم حركها بالضم إتباعاً لحركة الجيم ، وهذا من إجراء الوصل مجرى الوَقْفِ .
ومثله ما روي عن امرأة رأت رجلاً مع نساء ، فقالت : » أفي السَّوتَنْتُنَّهْ « -نوت الوقف على » سوءة « ، فسكنت التاء ، ثم ألقت عليها حركة همزة » أنتن « فعلى هذا تكون هذه حركة السَّاكنين ، وحينئذ تكون كقوله : » قَالَتُ : أخْرُجْ « وبابه ، وإنما أكثر الناس توجيه هذه القراءة لجلالة قارئها أبي جعفر يزيد بن القَعْقَاع شيخ نافع شيخ أهل » المدينة « وترجمتها مشهورة .
و » اسجدوا « في محل نصب بالقول ، و » اللام « في » لآدم « الظَّاهر أنها متعلّقة ب » اسجدوا « ، ومعناها التعليل ، أي : لأجله .
وقيل : بمعنى » إلى « أي : إلى [ جهته له ] جعله قبلة لهم ، والسجود لله .
وقيل : بمعنى مع ، لأنه كان إمامهم كذا نقل .
وقيل : اللاَّم للبيان فتتعلّق بمحذوف ، ولا حاجة إلى ذلك .
و » فسجدوا « الفاء للتعقيب ، والتقدير : فسجدوا له ، فحذف الجار للعلم به ، والسُّجود لغة : التذلَّل والخضوع ، وغايته وضع الجَبْهَةِ على الأرض ، وقال » ابن السكيت « : » هو الميل « ، قال : » زيد الخيل « : [ الطويل ]
378- بِجَمْعٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حَجَرَاتِهِ ... تَرَى الأُكْمَ فِيهَا سُجَّداً لِلْحَوَافِرِ
يريد : أن الحوافر تطأ الأرض ، فجعل بأثر الأُكْمِ للحوافر سجوداً؛ وقال آخر : [ المتقارب ]
379- . ... سُجُودَ النَّصَارَى لأَحْبَارِهَا
وفرق بعضهم بين « سجد » ، و « أسجد » ف « سجد » : وضع جبهته ، وأسجد : أَمَال رأسه وَطَأْطَأْ؛ قال الشاعر : [ المتقارب ]
380- فُضُولَ أَزِمَّتِهَا أَسَجَدَتْ ... سُجُودَ النَّصَارَى لأَحْبَارِها
وقال آخر : [ الطويل ]
381 وَقُلْنَ لَهُ أَسْجِدْ لِلَيْلَى فَأَسْجَدَا .. .
يعني أن البعير طَأْطَأَ رأسَه لأجلها .
ودَرَاهِمُ الأسجاد : دَرَاهِمُ عليها صُوَرٌ كانوا يسجدون لها ، قال : [ الكامل ]
382- . ... وَافَى بِهَا كَدَرَاهِمِ الأَسْجَادِ
فصل في تعداد النعم العامة على بني آدم
اعلم أن هذا هو النعمة الرّابعة من النعم العامة على جميع البشر ، وهو أنه خصص آدم بالخلافة أولاً ، ثم خصصه بالعلم ثانياً ، ثم بلوغه في العلم إلَى أن صارت الملائكة عاجزين عن بلوغ درجته في العلم ، ثم ذكر الآن كونه مسجوداً للملائكة .
فإن قيل : الأمر بالسجود حصل قبل أن يسوي الله -تعالى- خلقه آدم بدليل قوله : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ ص : 71- 72 ] ، فظاهر هذه الآية يدلّ على أنه -عليه الصلاة والسلام- لما صار حيًّا صار مسجود الملائكة؛ لأن « الفاء » في قوله : « فَقَعُوا » للتعقيب ، وعلى هذا التقدير يكون تعليم الأسماء ، ومناظرته مع الملائكة في ذلك الوَقْتِ حصل بعد أن صار مسجود الملائكة .
فالجَوابُ : أجمع المسلمون على أن ذلك السُّجود ليس سُجُودَ عِبَادَةٍ ، ثم اختلفوا على ثلاثة أقوال :
الأول : أن ذلك السجود كان لله -تعالى- وآدم -عليه السلام- كان كالقِبْلَةِ ، وطعنوا في هذا القول من وجهين :
الأول : أنه لا يقال : صلّيت للقبلة ، بل يقال : صليت إلى القبلة ، فلو كان -عليه الصّلاة والسلام- قبلة لقيل : اسْجُدوا إلى آدم .
الثاني : أن « إبليس » قال : { أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ } [ الإسراء : 62 ] أي : أن كونه مسجوداً يدلّ على أن أعظم حالاً من السّاجد ، ولو كان قِبْلَةً لما حصلت هذه الدرجة بدليل أن محمداً -عليه الصلاة والسلام- كان يصلِي إلى الكعبة ، ولم تَكُنِ الكعبة أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام .
والجواب عن الأول : أنه كما يجوز أن يقال : صَلَّيْتُ إلَى القبلة ، جاز أن يقال : صَلَّيْتُ للقبلة؛ قال تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء : 78 ] والصّلاة لله لا للِدُّلُوكِ؛ وقال حسان : [ البسيسط ]
383- مَا كُنْتُ أَعْرِفُ أَنَّ الأَمْرَ مُنْصَرِفٌ ... عَنْ هَاشِمٍ ثُمَّ مِنْهَا عَنْ أَبِي حَسَنِ
أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِكُمْ وَأَعْرَفَ النَّاسِ بالقٌرْآنِ وَالسُّنَنِ
والجواب عن الثاني : لا نسلم أن التكرُّم حصل بمجرد ذلك السُّجود ، بل لعله حصل بذلك مع أمور أخر .
والقول الثاني : أن السجدة كان لآدم تعظيماً له وتحيَّةً له كالسَّلام مهم عليه ، وقد كانت الأمم السَّالفة تفعل ذلك .
قال قتادة : قوله : { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَ } [ يوسف : 100 ] كانت تحيّة الناس يومئذ .
الثَّالث : أنَّ السجود في أَصْلِ اللُّغة ، هو الانقياد والخضوع ، ومنه قوله تعالى : { والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 6 ] .
واعلم أن القول الأوّل ضعيف ، لأن المقصود تعظيم آدم عليه الصلاة والسلام ، وجعله مجرّد القِبْلَةِ لا يفيد تعظيم حاله .
والقول الثالث : ضعيف أيضاً؛ لأن السجود في عرف الشرع عبارة عن وضع الجَبْهَةِ على الأرض فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك؛ لأن الأصل عدم التغيير .
فإن قيل : السجود عِبَادَةٌ ، والعبادة لغير الله لا تجوز .
فالجواب : لا نسلم عِبَادَةٌ ، والعبادة لغير الله لا تجوز .
فالجواب : لا نسلم أنه عِبَادَةٌ؛ لأن الفعل قد يصير بالمُواضعة مفيداً كالقول ، كقيام أحدنا للغير يُفِيدُ من الإعظام ما يفيده القول ، وما ذاك إلا للعادة ، وإذا ثبت ذلك لم يمتنع أن يكون في بعض الأوقات سقوط الإنسان على الأَرْضِ وإلصاقه الجَبينَ بها مفيداً ضرباً من العظيم ، وإن لم يكن ذلك عِبَادَة ، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يتعبّد الله النلائكة بذلك إظهاراً لرفعته وكرامته .
فصل في بيان أن الأنبياء أفضل من الملائكة
قال أكثر أهل السُّنة : الأنبياء أفضل من الملائكة .
وقالت المعتزلة : الملائكة أَفْضَلُ من الأنبياء ، وهو اختيار القاضي أبي بكر الباقِلاني [ وأبي عبد الله الحليميّ ] .
وحجّة المعتزلة أمور :
أحدها : قوله تعالى : { وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } [ الأنبياء : 19 ] والمراد من هذه العِنْدِيَّة القرب ، والشرف ، وهذا حاصل لهم لا لغيرهم .
ولقائل أن يقول : إنه -تعالى- أثبت هذه الصّفة في الآخرة لآحاد المؤمنين في قوله : { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } [ القمر : 55 ] .
وأما في الدنيا فقال عليه الصَّلاة والسلام يقول الله سبحانه : « أَنا مَعَ المُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ لأَجْلِي » .
وهذا أكثر إشعاراً بالتعظيم؛ لأن كون الله -تعالى- عند العبد أدخل في التعظيم من كون العبد عند الله .
وثانيها : قالوا : عبادات الملائكة أشَقّ من عبادات البشر ، فيكونون أكثر ثواباً من عبادات البشر ، فإن الملائكة سُكّان السماوات ، وهي جَنَّات ، وهم آمنون من المَرضِ والفقر ، ثم إنهم مع استكمال أسباب النّعم لهم خاشعون وجِلُونَ كأنهم مَسْجُونون لا يلتفتون إلى نعيم الجنات ، بل يقبلون على الطَّاعة الشاقة ، ولا يقدر أحد من بني آدم أن يبقى كذلك يوماً واحداً فضلاً عن تلك الأعصار المُتَطَاولة ، ويؤيّده قصّة آدم -عليه الصّلاة والسلام- فإنه أطلق له الأكل في جميع مواضع الجنة ، ثم إنه منع من شجرة واحدة فلم يملك نفسه .
وثالثها : أن انتقال المكلّف من نوع عِبَادَةٍ إلى نوع آخر كالانتقال من بُسْتَان إلى بستان ، أما الإقامة على نَوْعٍ واحدٍ ، فإنها تورث المَشَقّة والمَلاَلَة ، والملائكة كلّ واحد منهم مُوَاظب على عمل واحد لا يعدل عنه إلى غيره ، فكانت عبادتهم أَشَقّ ، فيكون أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام :
« أَفْضَلُ الأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا » أي : أَشَقُّهَا ، وقوله لعائشة : « إنَّمَا أَجْرُكِ على قَدْرِ نَصْبِكِ » .
ولقائل : أن يقول : في الوَجْه الأول لا نسلّم أن عبادة الملائكة أشقّ .
أما قولهم : السماوات جنات .
قلنا : نسلم ، ولم قلتم بأن العبادة في المَوَاضع الطّيبة أشقّ من العبادة في المواضع الرَّديئة؟ أكثر ما في الباب أنه تهيّأ لهم أسباب النعم ، فامتناعه عنها مع تهيئتها له أشق ، ولكنه معارض بما أن أسباب البلاء مجتمعةٌ على البشر ، ومع هذا يرضون بقضاء الله ، ولا تغيرهم تلك المِحَنُ عن المُوَاظبة على عبوديته ، وهذا أعظم في العبودية .
وأما قولهم : المُوَاظبة على نَوْعٍ واحدٍ من العبادة أشقّ .
قلنا : لما اعتادوا نوعاً واحداً صاروا كالمَجْبُورين الذين لا يقدرون على خِلاَفِهِ؛ لأنَّ العادة طبيعة خامسة ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : « أَفْضَلُ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ كان يصوم يوماً ويُفْطر يوماً » .
ورابعها : قالوا : عبادات المَلاَئكة أَدْوَم؛ لأن أَعمارهم أطول ، فكانت أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام : « أَفْضَلُ العُبَّاد من طل عمره ، وحَسُنَ عمله » .
ولقائل أن يقول : إن نوحاً ولقمان والخَضِر -عليهم الصَّلاة والسلام- كانوا أطول عمراً من محمد -عليه الصلاة والسلام- فوجب أن يكونوا أفضل منه ، وذلك باطل بالاتفاق .
وخامسها : أنهم أسبق في كل العِبَادِاتِ فيكونون أفضل لقوله تعالى : { والسابقون السابقون أولئك المقربون } [ الواقعة : 10 ، 11 ] ولقوله عليه الصلاة والسلام : « من سَنَّ سُنَّةٌ حَسَنَة فله أَجْرُهَا وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة » .
ولقائل أن يقول : فهذا يقتضي أن يكون آدم -عليه الصلاة والسلام- أفضل من محمد عليه الصلاة والسّلام؛ لأنه أوّل من سَنّ عبادة الله من البشر وأسبق ، وذلك باطل .
وسادسها : أن الملائكة رُسُل إلى الأنبياء ، والرسول أفضل من الأمة .
فإن قيل : إن السلطان إذا أرسل واحداً إلى جمع عظيم ليكون حاكماً فيهم ، فإنه يكون أشرف منهم ، أمّا إذا أرسل واحداً إلى واحد ، فقد لا يكون الرسول أشرف ، كما إذا أرسل السلطان مَمْلُوكَهُ إلى وزيره في مُهِمَّة [ فإنه لا يلزم أن يكون ذلك العبد أشرف من الوزير ] . قلنا : لكن جبريل -عليه السلام- مبعوث إلى كافة الأنبياء والرسل من البشر ، فعلى هذا يكون جبريل أفضل منهم .
وأيضاً أن الملك قد يكون رسولاً إلى ملك آخر أو إلى أحد من الأنبياء ، وعلى التقديرين الملك رسول ، وأمته رسل ، والرسول الذي كل أمته رسل أفضل من الرسول الذي ليس كذلك ، ولأن إبراهيم -عليه الصّلاة والسلام- كان رسولاً إلى لُوطٍ -عليه السّلام- فكان أفضل منه ، وموسى كان رسولاً إلى الأنبياء الذين كانوا في عَصْرِهِ ، فكان أفضل منهم .
ولقائل أن يقول : الملك إذا أرسل رسولاً إلى بعض النواحي ، فقد يكون ذلك الرسول حاكماً ومتولياً أمورهم ، وقد يكون ليخبرهم عن بعض الأمور مع أنه لا يجعله حاكماً عليهم ، فالقسم الأوّل هم الأنبياء المبعوثون إلى أممهم ، فلا جرم كانوا أفضل من الأنبياء .
وسابعها : قوله : { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملاائكة المقربون } [ النساء : 172 ] فقوله : « ولا الملائكة » خرج مخرج التأكيد للأول ، وهذا التأكيد إنما يكون بذكر الأفضل يقال : هذه الخَشَبة لا يقدر على حملها العَشْرة ، ولا المائة ، ولا يقال : لا يقدر على حملها العشرة ولا الواحد ، ويقال : هذا العالم لا يَسْتَنْكِفُ عن خدمته الوزير ولا الملك ، ولا يقال : ولا يستنكف عن خدمته الوزير ولا البواب .
ولقائل أن يقول : هذه الآية إن دلّت ، فإنما تدلّ على فضل الملائكة المقرّبين على المسيح ، لكن لا يلزم منه فَضْلُ الملائكة المقربين على مَنْ هو أفضل من المسيح ، وهو محمد -عليه أفضل الصلاة والسلام- وموسى وإبراهيم -عليهما الصلاة والسلام- بإجماع المسلمين .
ثم نقول قوله : « ولا المَلاَئكَة » ليس فيه إلا « واو » العطف ، و « الواو » للجمع المُطْلق ، فيدلّ على أنّ المسيح لا يستنكف ، والملائكة لا يستنكفون ، فأما أن يدلّ على أن الملائكة أفضل من المسيح فلا .
قال تعالى : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ الهدي وَلاَ القلاائد } [ المائدة : 2 ] أو نقول : سلمنا أن عيسى دون مَجْمُوعِ الملائكة في الفَضْلِ ، فإن قلتم : دون كل واحد من الملائكة في الفضل؟ فإن قيل : وصف الملائكة بكونهم مقربين يوجب ألاَّ يكون المسيح كذلك .
قلنا : تخصيص الشّيء بالذكر لا يدلُّ على نفيه عما عداه .
وثامنها : قوله : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } [ الأعراف : 20 ] ولو لم يكن متقرراً عند آدم وحواء -عليهما الصلاة والسلام- أن الملك أفضل من البَشَرِ لم يقدر « إبليس » على غرورهما بذلك .
ولقائل أن يقول : هذا قول « إبليس » فلا يكون حُجّة ، ولا يقال : إن آدم اعتقد صحة ذلك ، واعتقاد آدم حُجّة ، لأنا نقول : لعلّ آدم -عليه الصَّلاة والسّلام- ما كان نبياً في ذلك الوقت ، فلم يلزم من فَضْلِ الملك عليه في ذلك الوَقْتِ فضل الملك عليه حال ما صار نبيًّا ، ولأن الزَّلَّة جائزة على الأنبياء .
وأيضاً فهب أن الآية تدلّ على أن الملك أفضل من البَشَرِ في بعض الأمور المرغوبة .
فلم قلتم : إنها تدلّ على فضل الملك على البَشَرِ في باب القدرة والقوة ، والحسن والجمال ، والصفاء والنقاء عن الكُدُورات الحاصلة بسبب التركيبات؟ فإن الملائكة خلقوا من الأنوار وآدم خلق من التراب ، فلعل آدم وإن كان أفضل منهم في كثرة الثواب إلاّ أنه رغب في أن يكون مساوياً لهم في تلك الأمور المعدودة .
وتاسعها : قوله تعالى : { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله ولاا أَعْلَمُ الغيب ولاا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ }
[ الأنعام : 50 ] .
ولقائل أن يقول : يحتمل أن يكون المراد : ولا أقول لكم إني مَلَكٌ في كثرة العلوم ، وشدة القوة ، ويؤيده أن الكفار طالبوه بأمور عظيمة نحو : صعود السَّماء ، ونقل الجِبَالِ ، وإحضار الأموال العظيمة ، وأيضاً قوله : « قل : لا أقول لكم عِنْدِي خَزَائِنُ الله » يدلّ على اعترافه بأنه لا يعلم كلّ المعلومات ، فلذلك لا أدّعي قُدْرَةٌ مِثْلَ قُدْرَةِ الملك ، ولا علماً مثل علمه .
وعاشرها : قوله تعالى : { مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [ يوسف : 31 ] .
فإن قيل : لِمَ لا يجوز أن يكون المراد التشبيه في الجمال؟
قلنا : الأَوْلَى أن يكون هذا التشبيه في السِّيرة لا في الصّورة ، لأن الملك إنما تكون سِيرَتُهُ المرضية لا بمجرد الصورة .
ولقائل : أن يقول : قول المرأة : { فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } [ يوسف : 32 ] كالصريح في أن مراد النِّسَاء بقولهن : { إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [ يوسف : 31 ] تعظيم لحسن يُوسف وجماله لا في السَِّيرة؛ لأن ظهور عُذْرِهَا في شدّة عشقها ، إنما يحصل بسبب فرط يوسف في الجَمَال لا بسبب فرط زُهْده وورعه ، فإن ذلك لا يُنَاسب شدّة عشقها .
سلمنا أن المراد تشبيه يوسف -عليه الصلاة والسلام- بالمَلَكِ في حسن السِّيرة ، فلم قلتم : يجب أن يكون أقل ثواباً من الملائكة؟
الحادي عشر : قوله تعالى : { وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 70 ] ، ومخلوقات الله -تعالى- إما المكلفون ، أو من عداهم ، ولا شك أن المكلفين أفضلُ من غيره ، فالمكلّفون أربعة أنواع : الملائكة ، والإنس ، والجنّ ، والشياطين ، ولا شَكّ أن الإنس أفضل من الجنّ والشياطين ، فلو كان البشر أفضل من الملائكة لزم أن يكون البشر أفضل من كلّ المخلوقات ، وحينئذ لا يبقى لقوله : « وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى جَمِيْعِ مَنْ خَلَقْنَا » ، ولما لم يقل ذلك علمنا أن الملك أفضل من البشر .
ولقائل أن يقول : هذا تمسُّك بدليل الخطاب؛ لأن التصريح بأنهم أفضل من كثيرٍ من المَخْلُوقات لا يدلّ على أنه ليس أَفْضل من الباقي ألا بواسطة دليل الخطاب .
وأيضاً فهب أن جنس الملائكة أفضل من [ جنس بني آدم ، ولكن لا يلزم من كون أحد المجموعين أفضل من ] المجموع الثاني [ أن يكون كُلّ واحد من أفراد المجموع الأول أفضل من أفراد المجموع الثاني ] ، فإنا إذا قدرنا عشرة من العَبيدِ كلّ واحد منهم يساوي مائة دينار ، وعشرة أخرى حصل فيهم عبد يساوي مائتي دينار والتسعة الباقية كل واحد منهم ديناراً ، فالمجموع الأول أفضل من آحاد المجموع الأول فكذا ها هنا .
الثاني عشر : قوله تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ } [ الانفطار : 10 ، 11 ] فيدخل فيه الأنبياء وغيرهم ، وهذا يقتضي كونهم أفضل من البشر لوجهين :
الأوّل : أنه -تعالى- جعلهم حَفَظَةً ، والحافظ للمكلّف عن المعصية يكون أبعد عن الخطأ من المحفوظ ، وذلك يقتضي أن يكون قولهم أولى بالقَبُولِ من قول البشر ، ولو كان البشر أعظم حالاً منهم لكان الأمر بالعكس .
ولقائل أن يقول : أما كون الحافظ أكرم من المحفوظ ، فهذا بعيد ، فإن المَلكَ قد يوكّل بعض عبيده على ولده .
وأما الثاني فقد يكون الشاهد أدون حالاً من المشهود عليه .
الثالث عشر : قوله تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } [ النبأ : 38 ] .
والمقصود من ذكر أحوالهم المُبَالغة في شَرْحِ عظمة الله وجلاله ، ولو كان في الخلق طائفة أخرى قيامهم وتضرعهم أقوى في الإنباء عن عَظَمةِ الله وجلاله وكبريائه من قيامهم لكان ذكرهم أولى .
ولقائل أن يقول : ذلك يدلّ على أنهم أزيد حالاً من البَشَرِ في بعض الأمور ، فلم لا يجوز أن تكون تلك الحالة هي قوتهم وشدّتهم وبطشهم؟ وهذا كما يقال : إن السُّلطان لما جلس وقف حَوْلَ سريره ملوك أطراف العالم خاضعين فإن عظمة السُّلطان إنما تشرح بذلك ، ثم إنَّ هذا لا يدلُّ على أنهم أكرم عند السلطان من ولده ، فكذا ها هنا .
الرابع عشر : قوله : { والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملاائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] فبيّن تعالى أنه لا بدّ في صحّة الإيمان من الإيمان بهذه الأشياء ، فبدأ بنفسه ، وثَنَّى بالملائكة ، وثلّث بالكتب ، وربّع بالرسل ، وكذا في قوله : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم } [ آل عمران : 18 ] ، وقال : { إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي } [ الأحزاب : 56 ] ، والتقديم في الذّكر يدلّ على التقديم في الدرجة؛ لأن تقديم الأدْوَنِ على الأشرف في الذكر قبيح عرفاً ، فوجب أن يكون قبيحاً شرعاً .
ولقائل أن يقول : هذه الحجّة ضعيفة؛ لأن الاعتماد إن كان على « الواو » ف « الواو » لا تفيد الترتيب ، وإِنْ كان على التقديم في الذِّكْرِ ينتقض بتقديم سورة « تَبّت » على سورة { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] .
الخامس عشر : قوله تعالى : « إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ » ، فجعل صلوات الملائكة كالتشريف للنبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك يدلّ على كون الملائكة أشرف من النبي . ولقائل أن يقول : هذا ينتقض بقوله : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً » فأمر المؤمنين بالصلاة على النبي ، ولم يلزم كون المؤمنين أفضل من النبي ، فكذا في الملائكة .
واحتجّ من قال بتفضيل الأَنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- على الملائكة بأمور :
أحدها : أن الله -تعالى- أمر الملائكة بالسجود لآدم ، وثبت أن آدم لم يكن كالقِبْلَةِ ، فوجب أن يكون آدم أفضل منهم؛ لأن السجود نهايَةَ التواضُعِ ، وتكليف الأشرف بنهاية التواضُعِ للأَدْوَنِ مُسْتَقْبَحٌ في العقول .
وثانيها : أن آدم - عليه الصلاة والسلام- خليفةٌ له ، والمراد منه خلافة الولاية لقوله : { ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق } [ ص : 26 ] .
ومعلوم أن أعلى الناس منصباً عند الملك من كان قائماً مَقَامَهُ في الولاية والتصرف ، فهذا يدل على أن آدم -عليه الصلاة والسلام- كان أشرف الخلائق .
فالدنيا خلقت متعةً لبقائه ، والآخرة مملكة لجزائه ، وصارت الشياطين ملعونين بسبب التكبُّر عليه ، والجن رعيته ، والملائكة في طاعته وسجوده ، والتواضع له ، ثم صار بعضهم حافظين له ولذريته ، وبعضهم منزلين لرزقه وبعضهم مستغفرين لزلاَّته .
وثالثها : أن آدم -عليه الصلاة والسلام- كان أعلم ، والأعلم أفضل ، أما أنه أعلم فلأنه -تعالى- لما طلب منهم علم الأسماء { قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ } [ البقرة : 32 ] فعند ذلك قال الله : { يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ } [ البقرة : 33 ] وذلك يدلّ على أن آدم -عليه الصلاة والسلام- كان عالماً بما لم يكونوا عالمين به ، والعالم أَفْضَلُ لقوله تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 9 ] .
ورابعها : قوله تعالى : { إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين } [ آل عمران : 33 ] والعَالَم عبارة عن كل ما سوى الله -تعالى- فمعناه أن الله -تعالى- اصطفاهم على المخلوقات .
فإن قيل : يُشْكل بقوله تعالى : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } [ البقرة : 47 ] .
قلنا : الإشكال مدفوع؛ لأن قوله : « وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمينَ » خطاب مع الأنبياء الذين كانوا أسلاف اليهود ، وحينما كانوا موجودين لم يكن محمد -عليه الصَّلاة والسَّلام- موجوداً في ذلك الزمان ، والمعدوم لا يكون من العالمين؛ لأن اشتقاق العالم من العَلَمِ فكل ما كان عَلَماً على الله ودليلاً عليه فهو عالم ، وإذا كان كذلك لم يلزم اصْطِفاء الله إياهم على العالمين في ذلك الوقت أن يكونوا أفضل من محمد -عليه الصلاة والسلام- والملائكة كانوا موجودين ، فيلزم أن يكون الله -تعالى- قد اصطفى هؤلاء على الملائكة ، وأيضاً فهب أن تلك دَخَلَها التخصيص لقيام الدليل ، وها هنا فلا دليل يوجب ترك الظاهر ، فوجب إجراؤه على ظاهره في العموم .
وخامسها : قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] والملائكة من جملة العالمين ، فكان محمد -عليه الصلاة والسَّلام- رحمة لهم ، فوجب أن يكون أفضل منهم .
وسادسها : أنَّ الآدمي له شهوةٌ تدعوهم إلى المعصية ، وهي شهوة الرئاسة .
قلنا : هَبْ أن الأمر كذلك ، لكن البشر لهم أنواع كثيرة من الشهوات مثل شهوة البَطْنِ والفَرْجِ ، وشهوة الرئاسة والملك ليس إلا شهوة واحدة ، وهي شهوة الرئاسة ، والمبتلى بأنواع كثيرة من الشهوات تكون الطاعة عليه أشقّ من المبتلى بشهوة واحدة . وأيضاً الملائكة لا يعملون إلاَّ بالنَّص لقوله : { لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ } [ البقرة : 32 ] وقوله : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] والبشر لهم قوّة الاسْتنباط والقياس ، والعمل بالاسْتِنْبَاط أشقَ من العمل النص ، وأيضاً فإن الشبهات للبشر أكثر منها للملائكة؛ لأن من جملة الشبهات القوية كون الأفلاك والأنجم السَّيَّارة أسباباً لحوادث هذا العالم ، فالبَشَرُ احتاجوا إلى دفع هذه الشُّبهة ، والملائكة لا يحتاجون إليها ، لأنهم ساكنون في عالم السَّمَاوات ، فيشاهدون كيفية افتقارها إلَى المدبّر الصَّانع ، وأيضاً فإن الشيطان لا سَبِيلَ له إلى وسوسة الملائكة ، وهو مسلّط على البشر في الوَسْوَسَةِ ، وذلك تفاوت عظيم .
إذا ثبت أن طاعتهم أشقّ ، فوجب أن يكونوا أكثر ثواباً للنص والقياس .
فأما النص قوله عليه الصلاة والسلام : « أَفْضَلُ العِبَادَاتِ أَحْمَزُهَا » أي : أشقُّها ، وأما القياس فإن الشيخ الذي ليس له مَيْلٌ إلى النِّسَاء إذا امتنع عن الزِّنَا ليست فضيلته كفضيلة من يمتنع عنه مع النَيْلِ الشّديد ، والشَّوق العظيم .
وسابعها : أن الله -تعالى- خلق للملائكة عقولاً بلا شهوة ، وخلق للبهائم شهوةً بلا عَقْلٍ ، وخلق الآدمي وجمع فيه الأمرين ، فصار الأدمي بسبب العَقْل فوق البهيمة بدرجة ، فوجب أن يصير بسبب الشهوة دون المَلاَئكة ، ثم وجدنا الآدمي هَوَاهُ عقله ، فإنه بصير دون البَهِيْمَةِ على ما قال : « أولئك كَالأَنْعَام بَلْ هُمْ أَضَلُّ » فيجب أن يقال : إذا غلب عقله هواه أن يكون فوق الملائكة اعتباراً لأحد الطرفين بالآخر .
وثامنها : أن الملائكة حَفَظَةٌ ، وبنو آدم محفوظون ، والمحفوظ أشرف من الحافظ ، أجاب القائلون بتفضيل الملك عن الأول ، فقالوا : قد سبق بيان أنّ من الناس من قال : المراد من السُّجود التَّواضع لا وضْع الجَبْهَةِ على الأرض ، وإن سلم أنه وضع الجبهة لكنه قال : السُّجود لله وآدم قبله ، فزال الإِشْكَال ، وإن سلم أن السجود كان لآدم ، فلم قلتم : إن ذلك لا يجوز من الأشرف؟ وذلك لأن الحكمة قد تقتضي إظهار نهاية الانقياد ، والطاعة ، فإن للسلطان أن يجلس عَبْداً من عبيده ، ويأمر الأكابر بخدمتهن ويكون غرضه إظهار كونهم مُطِيْعِين مُنْقَادين له في كلّيات الأمور ، وأيضاً فإن الله -تعالى- يفعل ما يَشَاءُ ، ويحكم ما يريد ، فإن أفعاله غير معلّلة ، ولذلك قلنا : إنه لا اعتراض عليه في خلق الكُفْرِ في الإنسان ، ثم يعذبه عليه أبد الآباد ، وإذا كان كذلك ، فكيف يعترض عليه في ان أمر الأعلى بالسجود لمن هو دونه .
وأما الحجّة الثانية فجوابها أن كون آدم خليفة في الأرض وهذا يقتضي أن يكون آدم -عليه السلام- كان أَشْرَفَ من كل من في الأرض ولا يدلّ على كونه أشرف من ملائكة السماء .
فإن قيل : فَلِمَ لم يجعل واحداً من ملائكة السماء خليفة له في الأرض؟
قلت : لوجوه : منها أن البشر لا يطيقون رُؤْيَةَ الملائكة ، ومنها أن الجنس إلى الجنس أميل .
وأما الحجّة الثالثة : فلا نسلّم أنّ آدم كان أعلم منهم ، وأكثر ما في الباب أن آدم -عليه الصَّلاة والسَّلام- كان عالماً بتلك الُّلغات ، وهم ما علموها ، لكنهم لعلهم كانوا عالمين بسائر الأشياء ، مع أن آدم -عليه السلام- ما كان عالماً بها ويحقق هذا أن محمداً -عليه أفضل الصلاة والسلام- أفضل من آدم -عليه السلام- مع أن محمداً ما كان عالماً بهذه اللُّغات بأسرها ، وأيضاً فإن « إبليس » كان عالماً بأن قرب الشجرة مما يوجب خروج آدم من الجَنّة ، وأن آدم -عليه السلام- ليس كذلك ، والهُدْهُد قال لسليمان صلوات الله وسلامه عليه :
{ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } [ النمل : 22 ] ولم يكن أفضل من سُلَيْمَانَ ، سلمنا أنه كان أعلم منهم ، ولكن لِمَ لَمْ يجز أن يقال : إن طاعنهم أكثر إخلاصاً من طاعة آدم عليه الصلاة والسلام؟ .
وأما الحجة الرابعة : فهي قويّة .
وأما الخامسة : فلا يلزم من كون محمّد -عليه الصّلاة والسلام- رحمة لهم أن يكون أفضل منهم كما في قوله تعالى : { فانظر إلى آثَارِ رَحْمَةِ الله كَيْفَ يُحْيِيِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ } [ الروم : 50 ] ولا يمتنع أن يكون -عليه الصلاة والسلام- رحمةً لهم من وجه ، وهم يكونون رحمة له من وجه آخر .
وأما الحجّة السادسة : وهي أن عبادة البشر أشقّ فهذا ينتقض بما أنا نرى الواحد من الصُّوفية يتحمّل في طريق المُجّاهدة من المَشَاقّ والمتاعب ما يقطع بأنه -عليه الصلاة والسلام- لم يتحمّل مثلها مع أنا نعلم أن محمداً عليه الصلاة والسلام أفضل من الكل .
أما الحُجّة السَّابعة : فهي جمع بين الطَّرفين من غير جامع .
فإن قيل : فإذا لم يكن افضل منهم ، فما الحكمة بالأمر بالسجود له؟
قيل له : إنَّ الملائكة لما استعظموا تَسْبِيْحَهُمْ ، وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريه استغناءه عنهم ، وعن عبادتهم .
وقال بعضهم : عيروا آدم واستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصنع به ، فأمروا بالسجود له تكريماً ، ويحتمل أن يكون إنما أمرهم بالسجود له معاقبة لهم على قولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } [ البقرة : 30 ] .
فإن قيل : فقد استدلّ ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- على فضل البشر بأن الله -تعالى- أقسم بحياة مُحَمَّد عليه الصلاة والسلام فقال : { لَعَمْرُكَ } [ الحجر : 72 ] وأمنه من العذاب لقوله : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] ، وقال للملائكة : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 29 ] .
قيل له : إنما لم يقسم بحياة الملائكة كما لم يقسم بِحَيَاةِ نفسه سبحانه فلم يقل : « لَعَمْري » وأقسم بالسماء والأرض ، ولم يدلّ على أنها أرفع قدراً من العرش ، وأقسم ب « التِّين والزَّيْتُون » .
وأما قوله سبحانه : « وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ » فهو نظير قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ } [ الزمر : 65 ] وهذا آخر الكلام في هذه المسألة .
قوله : « إلاَّ إِبْلِيسَ » « إِلاَّ » حرف استثناء ، و « إبليس » نصب على الاستثناء ، وهل نصبه ب « إلا » وحدها أو بالفعل وحده أو به بوساطة « إلاّ » أو بفعل محذوف أو ب « أن » أقوال؟
وهل هو استثناء متّصل أو منقطع؟ خلاف مشهور .
والأصح أنه متّصل -وأما قوله تعالى : { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن } [ الكهف : 50 ] ، فلا يرد؛ لأن الملائكة قد يسمونه جنًّا لاجْتِنَابِهِمْ ، قال الشاعر في سليمان : [ الطويل ]
384- وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلاَئِكِ تِسْعَةً ... قِيَاماً لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلاَ أَجْرِ
وقال تعالى : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } [ الصافات : 158 ] يعني : الملائكة .
واعلم أن المستثنى على أربعة أقسام :
قسم واجب النّصْب ، وقسم واجب الجَرّ ، وقسم جائز فيه النصب والجر ، وقسم جائز فيه النَّصْب والبَدَل مِمَّا قبله ، والأرجح البدل .
الأول : المُسْتَثْنَى من الموجب والمقدّم ، والمكرر والمنقطع عند « الحجاز » مطلقاً ، والواقع بعد « لا يَكُون » و « لَيْسَ » و « ما خَلاَ » و « ما عَدَا » عند غير الجَرْمِيّ؛ نحو : « قَامَ القَوْمُ إلاَّ زَيْداً » ، و « مَا قَامَ إلاَّ زَيْداً القَوْمُ » ، و « ما قَامَ أحدٌ إلاّ زَيْداً إلا عَمْراً » ، و « قاموا إلاّ حِمَاراً » و « قَامُوا لا يكونُ زيداً » و « مَا خضلاَ ويداً » و « مَا عَدَا زيداً » .
الثاني : المستثنى ب « غَيْر » و « سِوًى » و « سُوًى » و « سَوَاء » .
الثالث : المستثنى ب « عَدَا » و « حَاشَا » و « خَلاَ » .
الرابع : المستثنى من غير الموجب؛ نحو : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ النساء : 66 ] .
و « إبليس » اختلف فيه ، فقيل : إنه اسم أعجمي منح من الصّرف للعلمية والعُجْمة ، وهذا هو الصّحيح ، قاله « الزَّجاج » وغيره؛ وقيل : أنه مشتقٌّ من « الإبْلاَس » وهو اليأس من رحمة الله -تعالى- والبعدُ عنها؛ قال : [ السريع أو الرجز ]
385- ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وَفِي الْوُجُوهِ صُفْرَةٌ وَإِبْلاَسْ
ووزنه عند هؤلاء : « إِفْعِيل » ؛ واعترض عليهم بأنه كان ينبغي أن يكون منصرفاً ، وأجابوا بأنه أِبه الأسماء الأعجميّة لعدم نظيره في الأسماء العربية؛ ورد عليهم بأنه مثله في العربية كثير؛ نحو : « إزْمِيل » و « إكْلِيل » و « إغريض » و « إخْرِيط » .
وقيل : لما لم يقسم به أحدٌ من العرب ، صار كأنه دَخِيلٌ في لسانهم ، فأشبه الأعجمية ، وفيه بُعْدٌ .
فصل في جنس إبليس
اختلفوا في « إبليس »
فقال أكثر المتكلمين والمعتزلة : إنه لم يكن من المَلاَئكة ، وهو مرويّ عن ابن عَبَاس ، وابن زيد ، والحسن ، وقتادة -رضي الله عنهم- قالوا : « إبليس أبو الجِن كما أن آدم أبو البَشَرِ ، ولم يكن ملكاً فأشبه الحرف » .
وقال شهر بن حَوْشَبٍ ، وبعض الأصوليين : « كان من الجن الذين كانوا في الأرض ، وقاتلهم الملائكة فَسَبُوهُ وتعبّد مع الملائكة وخوطب » .
وحكاه الطبري ، وابن مسعود ، وابن جريح ، وابن المسيب ، وقتادة وغيرهم ، وهو اختبار الشيخ أبي الحَسَنِ ، ورجّحه الطبري ، وهو ظاهر الآية أنه من الملائكة .
قال ابن عباس : « وكان اسمه عزَازِيل ، وكان من أشراف الملائكة ، وكان من أُولِي الأَجْنِحَةِ الأَرْبَعَةِ ثم إبليس بعد » .
وروى سليمان بن حَرْب عن عكرمة عن ابن عَبَّاس قال : كان إبْلِيسُ من الملائكة ، فلما عَصَى الله غضب عليه فَلَعَنَهُ ، فصار شيطاناً .
وحكى المَاوَرْدِيّ عن قتادة : أنه كان من أَفْضَلِ صنف من الملائكة يقال لهم الجنّة .
وقال سعيد بن جبير : إن الجنّ سِبْطٌ من الملائكة خُلقوا من نار ، وإبليس منهم ، وخلق معاشر الملائكة من نور .
حجّة القول الأول ، وهو أنه لم بكن من الملائكة وجوه :
أحدها : قوله تعالى : { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن } [ الكهف : 50 ] وإذا كان من الجنّ وجب أن ألاّ يكون من الملائكة لقوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } [ سبأ : 40 ، 41 ] ، وهذا صريح في الفرق بين الجنّ والمَلَكِ .
فإن قيل : لا نسلّم أنه كان من الجنّ ، لأن قوله : { كَانَ مِنَ الجن } [ الكهف : 50 ] يجوز أن يكون المراد كان من الجنّة على ما روي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه كان من الجنّ كان خازن الجنة .
سلمنا ذلك ، لكن لِمَ لاَ يجوز أن يكون قوله : « من الجن » أي : صار من الجن كقوله : { وَكَانَ مِنَ الكافرين } .
سلّمنا ما ذكرتم ، فَلِمَ قلتم : إن كونه من الجنّ ينافي كونه من الملائكة؛ لأن الجن مأخوذ من الاجتنان ، وهو الستر ، ولهذا سمي الجَنين جنيناً لاجتِنَانِه ، ومنه الجُنّة لكونها سائرة ، والجِنّة لكونها مستترة بالأَغْصَان ، ومنه الجُنُون لاستتار العَقْل به ، والملائكة مستترون عن الأعين ، فوجب جواز إطلاق لفظ الجِنّ عليهم بحسب اللُّغة ، يؤيد هذا التأويل قوله تعالى في الآية الأخرى : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } [ الصافات : 158 ] ، وذلك لأن قريشاً قالت : الملائكة بنات الله ، فهذه الآية تدلّ على أن الملائكة تسمى جنًّا .
والجواب : لا يجوز أن يكون المُرَاد من قوله : « كان من الجن » أنه كان خازن الجنّة؛ لأن قوله : { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن } [ الكهف : 50 ] يشعر بتعليل تركه السُّجود بكونه جنياً ، ولا يمكن تعليل ترك السجود بكونه خازن الجنّة ، فبطل ذلك .
{ وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } [ الصافات : 158 ] قلنا : يحتمل أن بعض الكُفّار أثبت ذلك النسب في الجنّ ، كما أثبته في الملائكة ، وأيضاً أن الملك يسمى جنّاً بحسب أصل اللُّغة ، لكن لفظ الجنّ بحسب العرف اختص بالغير ، كما أن لفظ الدَّابة يتناول كل ما دَبّ بحسب اللُّغة الأصلية ، كلغة بحسب العرف اختص ببعض ما يدبّ ، فيحتمل أن تكون هذه الآية على اللغة الأصلية والآية التي ذكرناها على العرف الحادث .
وثانيها : أن « إبليس » له ذريّة لقوله تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ } [ الكهف : 50 ] والملائكة لا ذريّة لها؛ لأن الذريّة إنما تحصل من الذَّكَرِ والأُنْثَى ، والملائكة لا أنثى فيها لقوله : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ }
[ الزخرف : 19 ] أنكر على من حكم عليهم بالأنوثة .
وثالثها : أنّ الملائكة معصومون ، و « إبليس » لم يكن كذلك فوجب ألا يكون من الملائكة .
ورابعها : أن « إبليس » مخلوق من نار لقوله تعالى حكاية عن « إبليس » : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } [ الأعراف : 12 ] .
قال : { والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم } [ الحجر : 27 ] والملائكة مخلوقون من النّور ، لما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « خلقت المَلاَئِكَةُ من نُورٍ وخُلِقَ اجَانّ من مَارِجٍ من نَارٍ » .
حجّة القول الثاني ، وهو أن « إبليس » كان من الملائكة أمران :
الأول : أن الله -تعالى- استثناه من الملائكة ، والاستثناء المنقطع مشهور في كلام العرب ، قال الله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذي فَطَرَنِي } [ الزخرف : 26 ، 27 ] وقال : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } [ الواقعة : 25 ، 26 ] وقال : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً } [ مريم : 62 ] ، وقال : { لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ } [ النساء : 29 ] ، وقال : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً } [ النساء : 92 ] وأيضاً فلأنه كان جنيًّا واحداً بين اللوف من الملائكة ، فغلبوا عليه في قوله : فسجدوا ، ثم استثني هو منهم استثناء واحد منهم؛ لأنا نقول : كل واحد من هَذَيْنِ الوجهين على خلاف الأصل ، وذلك إنما يُصَار إليه عند الضرورة ، والدلائل الذي ذكرتموها في نفي كونه من المَلاَئكة ليس فيها إلاّ الاعتماد على العُمُومَاتِ ، فلو جعلنا من الملائكة لزم تَخْصِيصُ ما عَوَّلْتُمْ عليه من العُمُومَاتِ .
ولو قلنا : إنه ليس من الملائكة لزمنا جعل الاستثناء منقطعاً ، فكان قولنا أولى ، وأيضاً فالاستثناء إنما يتحقّق من الشيء والصرف ، ومعنى الصرف إنما يتحقّق حَيْثُ لولا الصّرف لدخل ، والشيء لا يدخل في غير جنسه ، فيمتنع تحقق معنى الاستثناء منه .
وأما قوله : إنه جني واحد من الملائكة لما كان قوله : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا } متناولاً ، ولا استحال أن يكون تركه السجود إباءً واستكباراً ومعصية ، ولما استحقّ الذم والعقاب ، ولما حصلت هذه الأمور ، علمنا أن ذلك الخطاب يتناوله ، ولن يتناوله ذلك الخطاب إلاّ إذا كان من الملائكة . لا يقال : إنه وإن لم يكن من الملائكة إلا أنه لمّا نشأ منهم ، وطالت خُلْطته بهم والتصق بهم علا ولكن الله تعالى أمر بالسجود بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } [ الأعراف : 12 ] لأنا نقول : أما الأول فجوابه : أن المُخَالطة لا توجب ما ذكرتموه ولهذا قيل في أصول الفقه : خطاب الذكور لا يتناول الإناث وبالعكس مع شدّة المخالطة بين الصنفين ، وأيضاً فشدّة المُخَالطة بين الملائكة ، وبين « إبليس » لما لم يمنع اقتصار اللَّعن على إبليس ، فكيف يمنع اقتصار ذلك التَّكليف على المَلاَئِكَةِ ، لونا كونه أمر بأمر آخر غير محكي في القرآن ، فإن ترتيب الحكم على الوَصْفِ يشعر بالغَلَبَةِ ، فلما ذكر قوله : « أَبَى واسْتَكْبَرَ » عقيب قوله : « وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ : اسْجُدُوا لآدَمَ » ، أشعر هذا التعقيب بأن هذا الإباء إنما حصل بسبب مُخَالفة هذا الأمر ، لا بسبب مُخَالطة أمر آخر ، وطريق الجمع بين الدليلين ما ذكرنا عن ابن عباس أن « إبليس » كان من الملائكة ، فلما عَصَى الله غضب عليه ، فَصَار شيطاناً .
وقول سعيد بن جبير إن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نَارٍ ، وإبليس منهم وليس في خلقه من نَارٍ ، ولا في تركيب الشَّهْوَةِ حيث غضب عليه ما يدفع أنه من المَلاَئِكَةِ ، وحكى الثعلبي عن ابن عباس : « أنّ إبْلِيسَ كان من حَيّ من أحياء الملائكة يقال لهم : الجِنّ خلقوا من نارِ السَّمُوم ، وخلقت الملائكة من نُورٍ ، وكان اسمه بالسّريانية عَزَازيل ، وبالعربية الحَارِث ، وكان من خزّان الجنّة ، وكان رئيس ملائكة السماء الدنيا ، وكان من سُلْطَانها ، وسلطان الأرض ، وكان من أشدّ الملائكة اجتهاداً ، وأكثرهم علماً ، وكان يَسُوسُ ما بين السَّماء والأرض ، فرأى لنفسه بذلك شرفاً وعظمةً ، فذلك الذي دعاه إلى الكُفْرِ ، فعصى الله ، فمسخه شيطاناً رجيماً » .
قوله تعالى : « أَبَى واسْتَكْبَرَ » .
الظاهر أن هاتين الجملتين استئنافيتان لمن قال : فما فعل؟
والوقف على قوله : « إلاَّ إِبْلِيسَ » تام .
وقال أبو البقاء : « في موضع نصب على الحال من » إبليس « تقديره : ترك السجود كارهاً له ومستكبراً عنه » .
فالوقف عنده على « واستكبر » ، وجوز في قوله : « وَكَانَ مِنَ الكَافِرينَ » أن يكون مستأنفاً ، وأن يكون حالاً أيضاً ، و « الإباء » : الامتناع؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
386- وَإِمَّا أنْ يَقُولُوا قَدْ أَبَيْنَا ... وَشَرُّ مَوَاطِنِ الحَسَبِ الإبَاءُ
وهو من الأفعال المفيدة للنفي ، ولذلك وقع بعده الاستثناء المفرّغ قال تعالى : { ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } [ التوبة : 32 ] .
والمشهور « أَبِيَ -يَأْبَى » بكسرها في الماضي ، وفتحها في المضارعن وهذا قياس ، فيحتمل أن يكون من قال : « أَبَى -يَأْبَى » بالفتح فيهما استغنى بمُضَارع من قال « أَبِيَ » بالكسر ويكون من التداخل نحو : « رَكَنَ -يَرْكَنُ » وبابه .
واستكبر بمعنى : تَكَبَّرَ ، وإنما قدم الإباء عليه ، وإن كان متأخراً عنه في الترتيب؛ لأنه من الأفعال الظَّاهرة؛ بخلاف الاستكبار؛ فإنه من أفعال القلوب .
قوله : « وَكَانَ » بل : هي هنا بمعنى « صَارَ » ؛ كقوله : [ الطويل ]
387- بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كَأَنَّهَا ... قَطَا الحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا
أي : قد صارت . ورد هذا ابن فورك وقال : « تردّه الأصول ، والأظهر أنها على بابها والمعنى : كان من القوم الكافرين الَّذين كانوا في الأَرْضِ قبل خَلْقِ آدم على ما روي ، وكان في علم الله » .
فصل في بيان بطلان قول أهل الجبر
قال القاضي : هذه الاية تدلُّ على بطلان قول أهل الجبر من وجوه :
أحدها : أنهم يزعمون أنه لما لم يسجد لم يقدر على السُّجود؛ لأن عندهم القُدْرَة على الفعل شرط ، فإن من لا يقدر على الشيء لا يقال : إنه أباه .
وثانيها : أن من لا يَقْدِرُ على الفعل لا يقال : استكبر بأن لم يفعل ، فإنما يوصف بالاستكبار إذا لم يفعل مع أنه لو أراد الفعل لأمكنه .
وثالثها : قال : « وكَانَ مَنَ الكَافِرِينَ » ولا يجوز أن يكون كافراً بأن لم يفعل ما لا يقدر عليه .
ورابعها : أن استكباره ، وامتناعه خلق من الله فيه ، فهو بأن يكون معذوراً أولى من أن يكون مذموماً قال : ومن اعتقد مذهباً يقيم العذر لإبليس فهو خاسر الصَّفقة .
والجواب : يقال له : صدور ذلك عن « إبليس » لا يخلو ، إما أن يكون عن قَصْدٍ ودَاعٍ أو لا .
فإن وقع لا عن فاعل ، فكيف يثبت الصّانع ، وإن وقع العبد فوقوع ذلك القصد عنه إن كان عن قصد آخر فيلزم التسلسل .
وإن كان لا عن قَصْدٍ فقد وقع الفعل لا عن قَصْد .
[ أما إن قلت وقع ذلك الفعل عنه لا عن قصد ] وداعٍ ، قد ترجّح الممكن من غير مرجّح ، وهو يسد باب إثبات الصانع ، وأيضاً فإن كان كذلك كان وقوع ذلك الفعل اتفاقياً ، والاتفاقي لا يكون في وسعه واختياره ، فكيف يؤمر به وينهى عنه ، وإن وقع عن فاعل هو الله ، فحينئذ يلزمك كل ما أوردته علينا .
فإن قيل : هذا منقوض بأفعال الله -سبحانه وتعالى- فإن التقسيم وارد فيها ليس اتفاقية ولا خبراً؟
قلنا : الله -تعالى- واجب الوجود لذاته ، وإذا كان كذلك كان واجب الوجود أيضاً في صفاته ، وإذا كان كذلك فهو مُسْتَغْنٍ في فاعليته عن المؤثرات والمرجّحات ، إذ لو افتقر لكان محتاجاً .
فصل في بيان حال إبليس
قال قوم : كان « إبليس » منافقاً منذ كان .
وقال آخرون : كان كافراً ، واستدلوا بقوله : « وضكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ » ؛ لأن كلمة « من » للتبعيض ، والحكم عليه بأنه بعض الكافرين يقتضي وجود قوم آخرين من الكفار حتى يكون هو بعضاً منهم ، ويؤكده ما روي عن أبي هُرَيْرَةَ قال : إن الله خلق خلقاً من الملائكة ، ثم قال لهم : إني خالق بشراً من طين؛ فإذا سوّيته ، ونفخت فيه من روحي فَقَعُوا له سَاجِدِينَ . فقال : لا تفعل ذلك ، فبعث الله عليهم ناراً ، فأحرقتهم ، وكان « إبليس » من أولئك الذين أَبْوا .
وقال آخرون : إنّ « كان » ها هنا بمعنى « صار » فيكن معنى الآية صار من الذين وقعوا في الكُفْرِ بعد ذلك ، وأنه كان من قبل ذلك مؤمناً ، وهذا قول « الأصَمّ » ، وذكر في مثاله قوله تعالى :
{ المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } [ التوبة : 67 ] فأضاف بعضهم إلى بعض بسبب المُوَافقة في الدين ، وأيضاً فإن هذه إضافة لفرد من أفراد الماهية إلى تلك الماهية ، وصحّة هذه الإضافة لا تقتضي وجود تلك المَاهِيّة ، كما أن الحيوان الذي خلقه الله تَعَالَى أولاً يصح أن يقال : إنه فرد من أفراد الحيوان ، لا بمعنى أنه وَاحِدٌ من الحيوانات الموجودة خارج الذهن ، بل بمعنى أنهة فرد من أفراد هذه الماهية . واعلم أنه بتفرع على هَذَا أن « إبليس » هل كان أول من كفر بالله؟ والذي عليه الأكثرون أنه أول من كفر بالله .
فصل في بيان أن الأمر كان للملائكة كلهم
قال الأكثرون : إن جميع الملائكة كانوا مأمورين بالسُّجُودِ لآدم ، واحتجوا عليه بوجهين :
الأول : أن لفظ المَلاَئكة صيغة جمع ، وهي تفيد العموم ، لا سيما وقد أكدت بأكمل وجوه التوكيد في قوله : « كلّهم أَجْمَعُونَ » .
الثاني : أن استثناء « إبليس » منهم ، واستثناء الشخص الواحد منهم يدلّ على أن من عدا ذلك الشخص يكون داخلاً في ذلك الحكم ، ومن الناس من أنكر ذلك ، وقال : المأمور بهذا السُّجود هم ملائكة الأرض ، واستعظم أن يكون أكابر الملائكة مأمورين بذلك .
وأما الحُكّمّاء فإنهم يحملون المَلاَئكة على الجَوَاهر الرُّوْحَانية ، وقالوا : يستحيل أن تكون الأرواح السَّمَاوية مُنْقَادة للنفوس الناطقة ، والكلام في هذه المسألة مذكور في العقليات .
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
الجملة من قوله : { وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة } معطوفة على جملة « إذ قُلْنَا » لا على « قلنا » وحده لا خلاف زمنيهما .
و « أنت » توكيد للضمير المستكن في « أسكن » ليصح العطف عليه « وزوجك » عطف عليه ، هذا هو مذهب البَصْرِيين ، أعني اشتراط الفعل بين المُتَعَاطفين إذا كان المعطوف عليه ضميراً مرفوعاً متصلاً ، ولا يشترط أن يكون الفاصل توكيداً؛ بل أي فصل كان ، نحو : { مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] .
وأما الكوفيون فيجيزون ذلك من غير فاصل؛ وأنشدوا : [ الخفيف ]
388- قُلْتُ إذْ أَقْبَلَتْ وَزُهْرٌ تَهَادَى ... كَنِعَاجِ الفَلاَ تَعَسَّفْنَ رَمْلا
وهذا عند البصريين ضرورة لا يقاس عليه ، وقد منع بعضهم أن يكون « زوجك » عطفاً على الضمير المستكن في « أسكن » ، وجعله من عطف الجُمَلِ ، بمعنى أن يكون « زوجك » مرفوعاً بفعل محذوف ، أي : وَلْتَسْكُنْ زَوْجُكَ « فحذف لدلالة » اسكن « عليه ، ونظيره قوله : { لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ } [ طه : 58 ] وزعم أنه مذهب سيبويه ، وكان شبهته في ذلك أن من حَقّ المعطوف حلوله محل المعطوف عليه ، ولا يصح هنا حلول » زوجك « محلّ الضمير لأنّ فاعل فعل الأمر الواحد المذكور نحو : قُمْ واسْكُن » لا يكون إلا ضميراً مستتراً وكذلك فاعل يفعل ، فكيف يصح وقوع الظاهر المضمر الذي قبله؟ وهذا الذي يزعم ليس بشيء؛ لأنَّ مذهب سيبويه بنصّه يخالفه؛ ولأنه لا خلاف في صحّة : تقوم هند وزيد « ولا يصحّ مُبَاشرةُ » زيد « لا تقوم » لتأنيه .
و « السُّكُون » و « السُّكَنى » : الاستقرار ، ومنه « المِسْكِينُ » لعدم حركته وتصرّفه ، والسّكين لأنها تقطع حركة المَذْبوح ، والسَّكينة لأن بها يذهب القَلَقُ .
وسكّان السفينة عربي لأنه يسكنها عن الاضطراب ، والسّكن : النار .
قال الشاعر : [ مشطور السريع ]
389- . ... قَدْ قُوِّمَتْ بِسَكَنٍ وَأَدْهَانْ
و « الجَنّ » : مفعول به لا ظرف ، نحو : « سكنت الدَّار » .
وقيل : هي ظَرْف على الاتساع ، وكان الأصل تعديته إليها ب « في » لكونها ظرف مكان مختصّ ، وما بعد القول منصوب به .
فصل في بيان هل الأمر في الآية للإباحة أو لغير ذلك
اختلفوا في قوله : « اسكن » هل هو أمر أو إباحة؟
فروي عن قتادة : أن الله ابتلى آدم بإسكان الجنة كما ابْتَلَى الملائكة بالسُّجود ، وذلك لأن كلفه بأن يكون في الجنّة يأكل منها حيث شاء ، ونهاه عن شجرة واحدة .
وقال آخرون : إن ذلك إباحة .
والصحيح أن ذلك الإسكان مشتمل على إباحة ، وهي الانتفاع بجميع نعم الجنة وعلى تكليف ، وهو النهي عن أَكْلِ الشجرة .
قال بعضهم : قوله : « اسكن » تنبيه عن الخُرُوج؛ لأن السُّكْنَى لا تكون ملكاً؛ لأن من اسكن رجلاً مَسْكَنَاً له فإنه لا يملكه بالسُّكْنى ، وأن له يخرجُه منه إذا انقضت مدة الإسكان ، وكان « الشَّعْبِيّ » يقول : إذا قال الرجل : داري لك سُكْنَى حتى تموت ، فهي له حياته وموته ، وإذا قال : داري هذه اسْكُنْهَا حتى تموت ، فإنها ترجع إلى صاحبها إذا مَاتَ ، ونحو السُّكْنَى العُمْرَى ، إلا أن الخلاف في العُمْرَى أقوى منه في السُّكْنَى .
قال « الحربي » : سمعت « ابن الأعرابي » يقول : لم يختلف العَرَبُ في أن هذه الأشياء على ملك أربابها ، ومنافعها لمن جعلت له العُمْرَى والرُّقْبَى والإفقار والإخْبَال والمِنْحَة والعَرِيّة والسُّكْنَى والإطْراق .
فصل في وقت خلق حواء
اختلفوا في الوَقْتِ الذي خلقت زوجته فيه ، فذكر « السّدي » عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وناس من الصَّحابة رضي الله عنهم : أن الله - تعالى - لما أخرج « إبليس » من الجنة ، وأسكن آدم بقي فيها وَحْدَهُ ما كان معه من يَسْتَأنس به ، فألقى الله - تعالى - عليه النَّوم ، ثم أخذ ضلعاً من أضلاعه من شِقِّهِ الأيسر ، ووضع مكانه لحماً ، وخلق حواء منه ، فلما استيقظ وَجَدَ عند رأسه امرأةً قاعدةً فسألها ما أنت؟ قال : امرأة . قيل : ولم سميت امرأة؟ قال : لأنها من المراء أخذت ، فقالوا له : ما اسمها؟ قال : حَوّاء ، قالوا : ولم سميت حواء؟ قال : لأنها خلقت من حََيّ .
وعن « ابن عباس » رضي الله عنهما قال : « بعث الله جنداً من الملائكة ، فحملوا آدم وحَوّاء - عليهما السلام - على سَرِيْرٍ من ذهب كما يحمل الملوك ، ولباسهما النور حتى أدخلا الجنّة » .
فهذا الخبر يدلّ على أن حواء خلقت قبل إدخالهما الجنة .
روى الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « إنَّ المرأة خلقت من ضِلع الرَّجُل ، فإذا أردت تَقْوِيمَهَا كَسَرْتَها ، وإن تركتها انْتَفَعْتَ بها واسْتَقَامَتْ » ، وهذا القول منقول « عن أبي بن كعب ، وابن عباس ووهب بن منبه ، وسفيان بن عُيَيْنَةَ » .
واختاره ابن قتيبة في « المَغَازي » ، [ والقاضي منذر بن سعيد البلوطي ] وحكاه عن « أبي حنيفة » وأصحابه ، وهو نصّ التوراة التي بأيدي أهل الكتاب .
وفي رواية : « وإنْ أَعْوَجَ شَيءٍ في الضِّلْعِ أَعْلاَهُ؛ لن تستقيم لك على طَرِيقَةٍ واحدة ، فإن اسْتَمْتََعْتَ بها ، استمتعت وبها عِوَجٌ ، وإن ذهبت تُقِيمُها كَسْرَتَهَا ، وكَسْرُهَا طَلاَقُهَا » ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
390- هِيَ الضَّلَعُ العَوْجَاءُ لَسْتَ تُقِيمُها ... أَلاَ إِنَّ تَقْوِيمَ الضُّلُوعِ انِكِسَارُهَا
أَتَجْمَعُ ضَعْفَاً وَاقْتِداراً عَلَى الفَتَى ... أَلَيْسَ عَجِيباً ضَعْفُهَا وَاقْتِدَارُهَا
فصل في بيان خلافهم في الجنة المقصودة
اختلفوا في هذه الجنة هل كانت في الأرض أو في السماء؟ وبتقدير أنها كانت في السَّمَاء ، فهل هي دار ثواب او جنّة الخُلْدِ؟
فقال أبو القاسم البَلْخِيّ ، وأبو مسلم الأصفهاني : هذه الجنة كانت في الأرض وحملا الإهباط على الانتقال من بُقْعَةٍ إلى بُقْعَةٍ كما في قوله : { اهبطوا مِصْراً } [ البقرة : 61 ] واحتجّا عليه بوجوه :
أحدها : أن هذه الجنة لو كانت هي دار الثواب لكانت جنة الخلد ، ولو كان آدم في جنة الخلد لما لحقه الغُرُورُ من إبليس ولما صحّ قوله : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين } [ الأعراف : 20 ] .
وثانيهما : أن من دخل هذه الجَنَّة لا يخرج منها لقوله تعالى : { وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } [ الحجر : 48 ] .
وثالثهما : أن إبليس لما امتنع عن السجود لعن فما كان يقدر مع غضب الله أن يصل إلى جنة الخلد .
ورابعها : أن جنة الخلد لا يفنى نعيمها لقوله : { وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا } [ هود : 108 ] إلى أن قال : { عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108 ] أي : غير مقطوع .
وخامسها : لا نزاع في أن الله - تعالى - خلق آدم في الأَرْضِ ، ولم يذكر في هذه القصّة أنه نقله إلى السماء ، ولو كان - تعالى - قد نقله إلى السَّماء لكان أولى بالذكر؛ لأن نقله من الأرض إلى السماء من أعظم النعم ، فدلّ على أن ذلك لم يحصل ، وذلك يوجب أن هذه الجنّة غير جنّة الخلد .
وقال « الجُبَّائي » : أن تلك الجَنّة كانت في السَّمَاء السَّابعة ، والدليل عليه قوله : « اهْبِطُوا مِنْهَا » ثم إنّ الاهباط الأول كان من السَّماء السَّابعة إلى السماء الأولى ، والإهباط الثاني كان مِنَ السماء غلى الأرض .
وقال أكثر العلماء : إنها دَارُ الثواب؛ لأنَّ الألف واللام في لفظ الجَنَّةِ لا يفيدان العموم؛ لأن سكون جميع الجِنَان مُحَال ، فلا بد من صرفها إلى المَعْهُود السَّابق ، وجنّة الخلد هي المعهودة بين المسلمين ، فوجب صرف اللفظ إليها .
وقال بعضهم : الكُلّ ممكن ، والأدلّة النقلية ضعيفة ومتعارضة ، فوجب التوقٌّف وترك القطع ، والله أعلم .
فصل في إعراب الآية
قوله : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً } هذه الجملة عطف على « اسْكُنْ » ، فهي في محلّ نصب بالقول ، وأصل « اؤكل » بهمزتين : الأولى هزة وصل ، والثانية فاء الكلمة ، فلو جاءت هذه الكلمة على الأصل لقيل : أوكلُ بإبدال الثانية حرفاً مجانساً لحركة ما قبلها ، إلاّ أن العرب حذفت فاءه في الأمر تخفيفاً ، فاستغنت حينئذ عن همزة الوَصْلِ ، فوزنه إلاّ أن العرب حذفت فاءه في المر تخفيفاً ، فاستغنت حينئذ عن همزة الوَصْلِ ، فوزنه « عُلْ » ومثله : « خُذْ » و « مُرْ » ، ولا يقاس على هذه الأفعال غيرها ، في تقول : من « أَجَرَ - جُر » ولا تَرَدُّ العرب هذه الفاء في العَطْفِ ، بل تقول : « قم وخذ وكل » إلاَّ « مُرْ » ، فإن الكثير رَدّ فاءه بعد الواو والفاء ، قال تعالى :
{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ } [ طه : 132 ] ، وعدم الرد قليل .
وحكى سيبويه « اؤكل » على الأصل ، وهو شاذّ .
وقال « ابن عطية » : حذفت النون من « كُلا » للأمر .
وهذه العِبَارَةُ موهمةٌ لمذهب الكوفيين من أنّ الأمر عندهم معرب على التدريج ، وهو عند البصريين محمول على المجزوم ، فإن سكن المجزوم سكن المر منه ، وإن حذف منه حرف حذف من الأمر .
و « منها » متعلّق به ، و « من » للتبعيض ، ولا بُدّ من حذف مضاف أي : من ثمارها ويجوز أن تكون « من » لابتداء الغاية ، وهو حسن .
فإن قيل : ما الحكمة في عطفه هنا « وَكُلاّ » بالوا ، وفي « العراف » بالفاء؟
والجواب : كلّ فعل عطف عليه شيء ، وكان الفعل بمنزلة الشَّرط ، وذلك الشَّيء بمنزلة الجزاء ، عطف الثَّاني على الأوَّل بالفاء دون الواو ، كقوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ مِنْهَا } [ البقرة : 58 ] فعطف « كلوا » على « ادخلوا » بالفاء لما كان وجود الأكل منها متعلقاً بدخولها فكأنه قال : إن دخلتموها أكلتم منها ، فالدُّخول موصل إلى الأَكْل ، والكل متعلّق وجوده بوجوده يبين ذلك قوله في سورة « الأعراف » : { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه القرية وَكُلُواْ } [ الأعراف : 161 ] فعطف « كلوا » على قوله : « اسكنوا » بالواو دون الفاء؛ لأن « اسكنوا » من السُّكْنَى ، وهو المقام مع طول اللّبْث والكل لا يختص وجوده بوجوده؛ لأن من دخل بستاناً قد يأكل منه ، وإن كان مجتازاً ، فلما لم يتعلّق الثاني بالأول تعلّق الجزاء بالشرط وجب العطف بالواو دون الفاء . إذا ثبت هذا فقوله : « اسكن » يقال لمن أراد منه ، الزم المَكَان الذي دخلته ، فلا تنفك عنه ، ويقال أيضاً لمن لم يدخله : اسكن هذا المكان يعني : ادخله واسكن فيه ، فقوله في سورة البقرة : { اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة وَكُلاَ } إنما ورد بعد أن كان آدم في الجنّة ، فكان المُرَادُ منه اللُّبث والاستقرار ، وقد بَيَّنَّا أن الأكل لا يتعلّق به ، فلهذا ورد بلفظ الواو ، وفي سورة « الأعراف » هذا الأمر إنما ورد قبل دخول الجَنّة ، فكان المراد منه دخول الجنة ، وقد بينا أن الأَكْلَ متعلّق به ، فلهذا ورد بلفظ الفاء ، والله اعلم .
و « رَغَداً » نعت لمصدر مَحْذوف ، وقد تقدم أن مذهب سيبويه في هذا ونحوه أن ينتصب حالاً .
وقيل : هو مصدرٌ في موضع الحال أي : كُلاَ طَيِّبَيْنِ مُهَنَّأَيْنِ .
وقرأ النَّخْعي : وابن وَثّاب : « رَغْداً » بسكون الغَيْنِ ، وهي لغة « تميم » .
وهذا فيه نظر ، بل المنقول أن « فَعْلاً » بسكون العين إذا كانت عينه حَلْقِية لا يجوز فتحها عند البصريين؛ إلاّ أن يسمع فيقتصر عليه ، ويكون ذلك على لُغِتِيْن؛ لأن إحداهُما مأخوذة من الأخرى .
وأما الكوفيون فبعض هذا عندهم ذو لُغَتِيْنِ ، وبعضه أصله السّكون ، ويجوز فتحه قياساً ، أما أن « فَعَلاً » المفتوح العين الحَلْقِيها يجوز فيه التسكين ، فيجوز في السَّحر : السَّحْر ، فهذا لا يجيزه أحد .
و « الرَّغد » الواسع الهنيء؛ قال امرؤ القيس : [ الرمل ]
391- بَيْنَمَا المَرْءُ تَرَاهُ نَاعِمَاً ... يَأْمَنُ الأَحْدَاثُ في عِيْشٍ رَغْدٍ
ويقال : رَغُدَ عيشهم - بضم الغَيْن وبكسرها - وأرغد القوم : صاروا في رَغَدٍ .
« حَيْثُ شِئْتُمَا » حيث : ظرف مكان ، والمشهور بناؤها على الضم لشبهها بالحرف في الافتقار إلى جملة ، وكانت حركتها ضمة تشبيهاً ب « قَبْلَ وَبَعْدَ » .
ونقل « الكسائي » إعرابها عن « قيس » وفيها لغات : « حَيْث » بتثليث الثاء ، و « حَوْث » بتثليثها أيضاً ، ونقل : « حَاثَ » بالألف .
وهي لازمة الظرفية لا تتصرف ، وقد تجر ب « من » كقوله تعالى : { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } [ البقرة : 222 ] { مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 182 ] وهي لازمة للإضافة إلى جملة مطلقاً ، ولا تضاف إلى المفرد إلا نادراً؛ قالوا : [ الرجز ]
392- أَمَا تَرَى حَيْثُ سُهِيْلٍ طَالِعَا ... وقال آخر : [ الطويل ]
393- وَنَطْعَنُهُمْ تَحْتَ الحُبَى بَعْدَ ضَرْبِهِمْ ... بِبيضِ المَوَاصْي حَيْثُ لَيَّ العَمَائِمِ
وقد تزداد عليها « ما » فتجزم فعلين شرطاً وجزاءً ك « إن » ، ولا يجزم بها دون « ما » خلافاً لقوم ، وقد تُشْرَبُ معنى التعليل ، وزعم الأخفش أنها تكون ظرف زمان ، وأنشد : [ المديد ]
394- لِلْفِتَى عَقْلٌ يَعِيشُ بِهِ ... حَيْثُ تَهْدِي سَاقَهُ قَدَمُهْ
ولا دليل فيه ، لأنها على بابها . والعامل فيها هنا « كُلاَ » أي : كلا أي مكان شئتما « توسعه عليهما .
وأجاز » أبو البقاءِ « أن تكون بدلاً من » الجنة « قال : » لأنّ الجنة مفعول بهما ، فيكون حيث مفعولاً به « وفيه نظر؛ لأنها لا تتصرّف كما تقدّم إلا بالجر ب » من « .
و » شئتما « الجملة في محلّ خفض بإضافة الظرف إليه . وهل الكسرة التي على لاشين أصل كقولك : جئتما وخفتما ، أو محوّلة من فتحة لتدلّ على ذوات الياء نحو : يعتمد؟
قولان مبنيان على وزن شاء ما هو؟ فمذهب المبرد أنه : » فَعَل « بفتح العين ، ومذهب سيبويه » فَعِل « بكسرها ، ولا يخفى تصريفهما .
قوله : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } » لا « ناهية و » تَقْرَبَا : مجزوم بها حذفت نونه .
وقرئ : « تِقْرَبَا » بكسر حرف المُضَارعة ، و « الألف » فاعل ، وتقول : « قَرِبْتُ » الأمر « أَقْرَبَهُ » - بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع أي : التسبب به .
وقال « الجَوْهَرِيّ » « قَرُبَ » - بالضم - « يَقْرُبُ » - « قُرْباً » أي دنا . وَ « قَرْبِتُه » - بالكسر - « قِرْبَاناً » دنوت منه .
وَقَرَبت - أَقْرَبُ - قِرَابَةً - مثل : كَتَبت - أَكْتُبُ- كِتَابَةً - إذا سِرْتَ إلى الماء وبينك وبينه ليلة . وقيل : إذا قيل : لا تَقْرَب - بفتح الرَّاء كان معناه - لا تلتبس بالفِعْلِ ، وإذا قيل : لا تَقْرَب - بالضَّم - لا تَدْنُ منه .
و « هذه » مفعول به اسم إشارة للمؤنث ، وفيها لُغات : هَذِيِ وَهَذِهِ وهَذِهِ بِكسر الهاء بإشباع [ ودونه ] « وَهَذِه » بسكونها و « هذِهْ » بكسر الذال فقط ، والهاء بدل من الياء لقربها منها في الخفاء .
قال « ابن عطية » ونقل أيضاً عن النَّحاس وليس في الكلام هاء تأنيث مكسور ما قبلها غير « هذه » ، وفيه نظر؛ لأن تلك الهاء التي تدلُّ على التأنيث ليست هذه؛ لأن « تيك » بدل من تاء التأنيث في الوقف ، وأما هذه الهاء فلا دلالة لها على التأنيث ، بل الدَّال عليه مجموع الكلمة كما لا يقال : الياء في « هذي » للتأنيث ، وحكمها في القرب والبعد والتوسُّط ، ودخول هاء التنبيه وكاف الخطاب حكم « ذا » وقد تقدم .
ويقال فيها أيضاً : « تيكَ » و « تيلك » و « تَالِكَ؛ قال : [ الوافر ]
395- تَعَلَّمْ أَنَّ بَعْدَ الغَيِّ رُشْدَاً ... وأَنَّ لِتَالِكَ العُمْرِ انْكِسَاراً
قال هشام : ويقال : » تَا فَعَلَتْ « ؛ وأنشد [ الطويل ]
396- خَلِيلِيِّ لَوْلاَ سَاكِنُ الدَّارِ لَمْ أقِمْ ... بِتَا الدَّارِ إِلاَّ عَابِرَ ابْنِ سَبِيلِ
و » الشجرة « بدل من » هذه « .
وقيل : نعت لها لتأويلها بمشتقِّ ، أي : بهذه الحاضرة من الشجر . والمشهور أنَّ اسم الإشارة إذا وقع بعده مشتقّ كان نعتاً له ، وإن كان جامداً كان بدلاً منه .
و » الشجرة « واحدة » الشجر « : اسم جنس ، وهو ما كان على ساقٍ ، وله أغصان ، وقيل : لا حاجة إلى ذلك لقوله تعالى : { وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ } مع أنها كالزرع والبِطِّيخ ، فلم يخرجه ذهابه على وجه الأرض من أن يكون شجراً .
قال المبرد : » وأحسب كلّ ما تفرعت له عِيدان وأغصان ، فالعرب تسميه شجراُ في وقت تشعبه « .
وأصل هذا أنه كلما تشجر ، أي : أخذ يَمْنَةٍ ويسره ، يقال : رأيت فلاناً قد شجرته الرّماح ، قال تعالى : { حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [ النساء : 65 ] وتَشَاجَرَ الرجُلاَنِ في أمر كذا .
وقرئ : » الشَّجَرة « بكسر الشين والجيم ، وبإبدالها ياءً مع فتح الشِّين ، وكسرها؛ لقربها منها مخرجاً؛ كما أبدلت الجيم منها في قوله : [ الرجز ]
397- يَارَبِّ لإِنْ كُنْتَ قَبِلْتَ حَجَّتجْ ... فَلاَ يَزالُ شَاححٌ يَأْتِيكَ بِخْ
يريد : حجّتي وبي .
وقال الراجز أيضاً : [ الرجز ]
398- خَالِي عُوَيْفٌ وَاَبُو عَلِجْ ... أَلمُطْعِمَانِ اللَّحْمِ بالعِشِجّ
يريد : أبو عَلِيّ ، وبالْعَشِيّ .
وقال الشاعر في » شيَرَة « : [ الطويل ]
399- إذَا لَمْ يَكُنْ فِيكُنَّ ظِلٌّ وَلاَ جَنَى ... فَأَبْعَدَكُنَّ اللهُ مِنْ شِيرَاتِ
وقال أبو عمرو : « إنما يقرأ بها برابر مكة وسودانها ، وجمعت » الشَّجَرَةِ « على » شَجْرَاء « ، ولم يأت جمع على هذه الزِّنَةِ إلا قَصَبة وقَصْبَاء ، وطَرَفَة وطَرْفَاء ، وحَلَفَة وحَلْفَاء .
وكان الأصمعي يقول : » حَلِفَة - بكسر اللام « وعند سيبويه أن هذه الألفاظ واحدة وجمع .
و » المشجرة « : موضع الأشجار ، وأرض مشجرة ، وهذه الأرض أشجر من هذه أي أكثر شجراً ، قاله الجوهري .
فصل في جنس الشجرة المذكورة
اختلف العلماء في هذه الشجرة المنهي عنها ، فروي عن بعض العلماء أنه نهى عن جنس من الشجر .
وقال آخرون : إنما نهى عن شَجَرِ بعينه ، واختلفوا في تلك الشجرة .
روى السُّدى عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وجَعْدَة بن هُبَيْرَةَ هي الكَرْمُ ، ولذلك حرمت علينا الخَمْرُ .
وقال ابن عباس أيضاً : وأبو مالك وقتادة ، ورواه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم هي السُّنْبُلة ، والحَبَّة منها كشكل البقر ، أحلى من العَسَلِ ، وألين من الزّبد ، قاله وهب بن منبّه .
ونقل ابن جريج عن بعض الصحابة أنها التين ، وهو مروي أيضاً عن مجاهد وقتادة ، ولذلك تعتبر في الرُّؤيا بالندامة لآكلها ، ذكره السهيلي .
وروي عن قتادة أيضاً هي شجرة العلم ، وفيها من كل شيء .
وقال عَلِيّ : شجرة الكافور .
فصل في الإشعار بأن سكنى آدم لا تدوم .
قال بعض أرباب المعاني في قوله : » ولا تقربا « إشعار بالوقوع في الخَطِيئَةِ ، والخروج من الجنة ، وانَّ سُكْنَاهُ فيها لا يدوم ، لأن المخلد لا يخطر عليه شيء ، والدليل على هذا قوله تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] فدلّ على خروجه منها .
فصل في المراد بالنهي عن الكل من الشجرة
هذا النهي نهي تحريم ، أو تنزيه؟ فيه خلاف .
قال قوم : هذا نهي تَنْزيه؛ لأن هذه الصِّيغة وردت في التنزيه والتحريم ، والأصل عدم الاشتراك فلا بُدّ من جعل اللفظ حقيقةً في القَدْرِ المشترك بين القسمين ، وما ذلك إلاَّ أن يجعل حقيقة في ترجيح جانب الترك على جانب الفعل ، من غير أن يكون فيه دلالة على المنع من الفعل ، أو الإطلاق فيه كان ثابتاً بحكم الأصل ، عدم الاشتراك فلا بُدّ من جعل اللفظ حقيقةً في القَدْرِ المشترك بين القسمين ، وما ذلك إلاَّ أن يجعل حقيقة في ترجيح جانب الترك على جانب الفعل ، من غير أن يكون فيه دلالة على المنع من الفعل ، أو الإطلاق فيه كان ثابتاً بحكم الأصل ، فإن الأصل في المَنَافِع الإباحة ، فإذا ضممنا مَدْلَولَ اللفظ إلى هذا الأصل صار المجموع دليلاً على التنزيه ، قالوا : وهذا هو الأولى بهذا المَقَام؛ لأنّ على هذا التقدير يرجع حاصل معصية آدم - عليه الصلاة والسَّلام - إلى ترك الأولى ، ومعلوم أن كل مذهب أفضى إلى عِصْمَةِ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كان أولى .
وقال آخرون : بل هذا نهي تحريم ، واحتجوا عليه بأمور :
أحدها : أن قوله : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } كقوله : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } [ البقرة : 222 ] وقوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم } [ الإسراء : 34 ] فكما أن هذا للتحريم فكذا الأول .
وثانيهما : قوله : { فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } أي : إن أكلتما منهما ظلمتما أنفسكما ألا ترى لما أكلا { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] .
وثالثهما : لو كان للتنزيه لما استحقّ آدم بفعله الإخراج من الجنة ، ولما وجبت التوبة عليه .
قال ابن الخطيب : الجواب عن الأول : أن النهي وإن كان في الأَصْلِ للتنزيه ، لكنه قد يحمل على التحريم بدليل منفصل .
وعن الثاني : أن قوله تعالى : { فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } أي : فتظلما أنفسكما بفعل ما الأولى بكما تركه؛ لأنكما إذا فعلتما ذلك أخرجتما من الجنّة التي لا تظمآن فيها ، ولا تَضْحَيَان ولا تَجُوعان ولا تَقْرُبَان إلى موضع ليس فيه شيء من هذا .
وعن الثالث : أنا لا نسلم أن الإخراج من الجنّة كان لهذا السبب .
فصل في فحوى الآية
قال قوم قوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } يفيد بِفَحْوَاهُ النهي عن الأكل؛ وفيه نظر لأن النهي عن القُربان لا يستلزم النهي عن الأَكْلِ؛ إذ ربما كان الصلاح في ترك قربها مع انه لو حمل إليه لجاز له أكله ، بل الظاهر [ إنما ] يتناول النهي عن القرب .
وأما النهي عن الكل ، فإنما عرف بدلائل أخرى وهي قوله تعالى : { فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } [ الأعراف : 22 ] ولأنه حدث الكلام بالأكل فقال : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا } فصار ذلك كالدّلاَلَةِ على أنه تعالى نَهَاهُمَا عن أكل ثمرة الشَّجرة ، لكن النهي بهذا القول يعم الكل ، وسائر الانتفاعات ، ولو كان نصّ على الأكل ما كان يعمّ ذلك ، ففيه مزيد فائدة .
قوله : { فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } فتكونا : فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون مجزوماً عطفاً على « تَقْرَبا » ؛ كقوله : [ الطويل ]
400- فَقُلْتُ لَهُ : صَوِّبْ وَلاَ تَجْهَدَنَّهُ ... فِيُدْرِكُ مِنْ أَعْلَى القَطَاةِ فَتَزْلَقِ
والثَّاني : أنه منصوب على جواب النَّهْي لقوله تعالى : { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ } [ طه : 81 ] والنصب بإضمار « أن » عند البَصْريين ، وبالفَاءِ نفسها عند الجرمي ، وبالخلاف عند الكوفيين . وهكذا كل ما يأتي مثل هذا .
و « الظَّالِمِينَ » خبر « كان » .
و « الظلم » : وضْع الشَّيْ في غَيْرَ موضعه ، ومنه قيل للأرض الَّتي لم تستحقَّ الحَفْر ، فتحفر : مَظْلُومة ، قال النابغة : [ البسيط ]
401- إِلاَّ الأَوَارِيَّ لأْياً مَا أُبَيِّنُهَا ... وَالنُّؤْيُ كَالحَوْضِ بَالمَظْلُومَةِ الجَلَدِ
وقيل : سميت مظلومةً؛ لأنَّ المَطَر لم يأتها ، قال عَمْرُو بْنُ قَمِيئَةَ : [ الكامل ]
402- ظَلَمَ البِطَاحَ بِهَا انْهِلاَلُ حَرِيصَةٍ ... فَصَفَا النِّطافُ بِهَا بُعَيْدَ المُقْلِعِ
وقالوا : « مَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ » ؛ قال : [ الرجز ]
403- بِأَبِهِ اقْتَدَى عَدِيُّ في الكَرَمْ ... وَمَنْ يُشَابِهُ أَبَهُ فَمَا ظَلَمْ
والمراد من الآية هو أنكما إن أكلتما منها فقد ظلمتما أنفسكما؛ لأن الأكل من الشجرة لا يقتضي ظُلْمَ الغير ، وقد يكون ظالماً بأن يظلم نفسه ، وبأن يظلم غيره ، فظلم النفس اعم وأعظم . والظلم على وجوه :
الأول : ظلم الظَّالم لنفسه بالمعصية كهذه الآية أي : فتكونا من العاصين .
الثاني : الظَّالمون المشركون ، قال تعالى : { أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } [ هود : 18 ] يعني : المشركين .
الثالث : الظلم : الضرر ، قال تعالى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 118 ] ، أي : ما ضررناهم ، ولكن كانوا أنفسهم يضرون .
الرابع : الظلم : الجحود ، قال تعالى : { وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } [ الأعراف : 51 ] ومثله : « فَظَلَمُوا بِهَا » أي : فجحدوا بها .
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
المفعول في قوله : « فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطََانِ » واجب التقديم ، لأنه ضمير متّصل ، والفاعل ظاهر ، وكل ما كان كذا فهذا حكمه .
وقرأ « حمزة » : « فأَزَالَهُمَا » والقراءتان يحتمل أن تكونا بمعنى واحد ، وذلك أن قراءة الجماعة « أزلهما » يجوز أن تكون من « زَلَّ عَنِ المَكَانِ » : إذا تنحى عنه ، فتكون من الزوال كقراءة « حمزة » ، ويدل عليه قول امرئ القيس : [ الطويل ]
404- كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِ ... كَمَا زَلَّتْ الصَّفْوَاءُ بِالمُتَنَزِّلِ
وقال أيضاً : [ الطويل ]
405- يَزِلُّ الغُلاَمُ الخِفُّ عَنْ صَهَوَاتِهِ ... وِيُلْوِي بِأَثْوَابِ العَنِيفِ المُثَقَّلِ
فرددنا قراءة الجماعة إلى قراءة « حمزة » ، أو نرد قراءة « حمزة » إلى قراءة الجماعة بأن نقول : معنى أزالهما : أي صرفهما عن طاعة الله ، فأوقعهما في الزِّلةِ؛ لأن إغواءه وإيقاعه لهما في الزِّلة سبب للزوال ، ويحتمل أن تفيد كل قراءة معنى مستقلاً ، فقراءة الجماعة تؤذن بإيقاعها في الزِّلةِ ، فيكون « زلّ » بمعنى : استزلّ ، وقراءة : حمزة « تؤذن بتنحيتهما عن مكانهما ، ولا بُدَّ من المجاز في كِلْتَا القراءتين ، لأن الزَّلَلَ أصله من زلّة القدم ، فاستعمل هنا في زلّة الرأي والتنحية لا يقدر عليها الشَّيطان ، وإنما يقدر على الوسوسة التي هي سبب التنحية .
و » عنها « متعلّق بالفعل قبله ، ومعنى » عن « هنا السَّببية إن أعدنا الضمير على » الشجرة « أي : أوقعهما في الزِّلة بسبب الشجرة .
قال » الزَّمخشري « لفظة » عن « في هذه الآية كما في قوله : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } [ الكهف : 82 ] .
ويجوز أن تكون على بابها من المُجاوزة إن عاد الضمير على » الجنّة « ، وهو الأظهر ، لتقدّم ذكرها ، وتجيء عليه قراءة » حمزة « واضحة ، ولا تظهر قراءته كلّ الظُهور على كون الضمير ل » الشجرة « .
قال » ابن عطيّة « فأما من قرأ » أزالهما « فإنه يعود على » الجنة « فقط .
وقيل : الضَّمير للطاعة ، أو للحالة ، أو للسماء ، وإن لم يجر لهما ذكر لدلالة السياق عليهما . وهذا بعيد جدَّا .
فإن قيل : إن الله - تعالى - قد أضاف الإزْلاَل إلى » إبليس « فلم عاتبهما على ذلك الفعل؟
والجواب : أن قوله : » فأزلهما « أنهما عند وَسْوَسَتِهِ أتيا بذلك الفعل ، وأضيف ذلك إلى » إبليس « كما في قوله : { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً } [ نوح : 6 ] قال تعالى حاكياً عن إبليس : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي } [ إبراهيم : 22 ] ، هذا قول المعتزلة ، والتحقيق في هذه الإضافة ما ذكرناه ، وهو أن القادر على الفعل والترك مع التَّسَاوي يستحيل أن يكون موجداً لأحد هذين الأمرين إلا عند انضمام الدَّاعي إليه ، والدَّاعي في حَقّ العبد عبارة عن علم أو ظن ، أو اعتقاد بكون الفعل مشتملاً على مصلحةٍ ، فإذا حصل ذلك العلم أو الظن بسبب منبّه نبه عليه كان الفعل مضافاً إلى ذلك المنبّه؛ لأنه هو الفاعل لما لأجله صار الفَاعِلُ بالقوة فاعلاً بالفعل ، فهكذا المَعْنَى انضاف - ها هنا - إلى الوسوسة .
فإن قيل : كيف كانت الوَسْوَسَةُ؟
فالجواب : هي التي حكى الله عنها في قوله : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين } [ الأعراف : 20 ] فلم يقبلا ذلك منه ، فلما أيس عدل إلى اليمين على ما قال تعالى : { وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 21 ] فلم يصدقاه .
والظاهر أنه بعد ذلك عَدَلَ إلى شيء آخر ، وهو أنه شغلهما باستيفاء اللاَّت المُبَاحَة حتى صارا مستغرقين فيها ، فَحَصَلَ بسبب استغراقهما فيها نِسْيَان النهي ، فعند ذلك حصل ما حصل ، والله اعلم .
فصل في بيان كيف وسوس إبليس لآدم
اختلفوا في أنه كيف تمكّن إبليس من وَسْوَسَةِ آدم عليه الصلاة والسلام مع أن إبليس كان خارج الجنّة ، وآدم عليه الصَّلاة والسَّلام داخل الجنّة؟ وذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : ما روي عن وهب بن منبّه والسدي عن ابن عباس وغيره : أن إبليس أراد دخول الجنة ، فمنعته الخزنة ، فأتى الحية بعد ما عرض نفسه على سائر الحيوانات فما قبله واحد من الحيوانات ، فابتلعته الحية وأدخلته الجَنَّة خفية من الخَزَنَةِ ، فلما دخلت الحَيّة الجنة خرج إبليس من فيها واشتغل بالوَسْوَسَةِ ، فلا جرم لعنت الحَيّةِ ، وسقطت قوائمها ، وصارت تمشي على بطنها ، وجعل رزقها في التراب ، وصارت عدواً بني آدم ، وأمرنا بقتلها في الحِلّ والحَرَمِ .
قال ابن الخطيب : وهذا وأمثاله يجب ألا يلتفت إليه؛ لأن إبليس لو قدر على الدخول في فَمِ الحيّة فلم يقدر على أن يجعل نَفسه حَيّة ثم يدخل الجَنَة؟ ولأن الحية لو فعلت ذلك ، فلم عوقبت مع أنها ليست بعاقلة ولا مكلفة؟ وأيضاً فلما خرج من بطنها صارت في الجنة كانت الملائكة والخزنة يرونه .
وثانيها : أن « إبليس » دخل الجَنَّة في صورة دَابّة ، وهذا القول أقلّ فساداً من الأول .
وثالثها : قال بعض أَهْلِ الأصول : لعلّ آدم وحَوّاء - عليهما السلام - كانا يخرجان إلى باب الجنة ، وإبليس كان بقرب الماء يُوَسْوِسُ لهما .
ورابعها : قال الحسن : كان إبليس في الأرض ، وأوصل الوَسْوَسَةَ إليهما في الجنَة .
قال بعضهم : هذا بعيد؛ لأن الوسوسة كلام خفيّ ، والكلام الخفيّ لا يمكن إيصاله من الأرض إلى السَّماء .
واختلفوا في أن « إبليس » باشر خطابهما ، أو أوصل الوسوسة إليهما على لسان بعض أتباعه .
حجّة الأول : قوله تعالى : { وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 21 ] { فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ } [ الأعراف : 22 ] . وحجّة الثاني : أن آدَمَ وحواء - عليهما الصَّلاة والسَّلام - كان يعرفانه ، ويعرفان ما عنده من العداوة والحَسَد ، فيستحيل في العادة أن يقبلا قوله ، فلا بد وأن يكون المباشر للوسوسة بعض أتباع إبليس .
وقد يُجَاب عن هذا بأن إبليس لما خالف أمر ربّه ولعن لعلّه انتقل من تلك الصورة التي يُعْرَفُ بها إلى صورة أخرى ، ولعلّ إبليس تشكّل لهما في صورة لا يعرفانها ، فإن له قدرة التشكل ، والله أعلم .
فصل في بيان أن آدم عصى ربه ناسياً
اختلفوا في صدور ذلك الفعل عن آدم - عليه الصلاة والسلام - بعد النبوة ، هل فعله ناسياً أو ذاكراً؟
قال طائفة من المتكلَمين : فعله ناسياً ، واحتجوا بقوله تعالى : { فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] ومثلوه بالصَّائم إذا أكل ناسياً ، وهذا باطل من وجهين :
الأول : قوله تعالى : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } [ الأعراف : 20 ] .
وقوله : { وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 21 ] يدلّ على أنه ما نسي النهي حال الإقدام .
الثاني : أنه لو كان ناسياً لما عوتب على ذلك الفعل .
أما من حيث العقل فلأن الناسي غير قادر على الفعل فلا يكون مكلفاً به لقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَ } [ البقرة : 286 ] .
وأما من حيث النقل فلقوله عليه الصلاة والسلام : « رُفعَ عَنْ أمّتي الخَطَأُ والنِّسْيَانُ » .
وقد يجاب عن الأول بأنا لا نسلّم أن آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - قَبَلاَ من إبليس ذلك الكلام وصَدّقاه؛ لأنهما لو صدقاه لكانت معصيتهما في ذلك التصديق أعظم من أكل الشَّجرة؛ لأن إبليس لما قال لهما : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } [ الأعراف : 20 ] الآية فقد ألقى إليهما سوء الظَّن بالله - تعالى - ودعاهما إلى ترك التَّسْلِيم لأمره ، والرضا بحكمه ، وان يعتقدوا فيه كون إبليس ناصحاً لهما ، وأن الرب - تَعَالَى - قد غضهما ولا شك أن هذه الأشياء أعظم من أكل الشجرة ، فوجب أن تكون المُعَاتَبَةِ في ذلك أشد ، وأيضاً آدم - عليه الصلاة والسلام - كان عالماً بتمرد « إبليس » ، وكونه مبغضاً له وحاسداً له ، فكيف يجوز من العاقل أن يقبل قول عدوّه مع هذه القرائن ، وليس في الآية أنهما أقدما على ذلك الفعل عند ذلك الكلام .
وأما الجواب الثاني : فهو أن العتاب إنما حصل على قلّة التحفُّظ من سباب النسيان ، وهذا الضرب من السَّهو موضوع عن المسلمين ، وقد كان يجوز أن يؤاخذوا به ، وليس بموضوع عن الأنبياء لعظم خَطَرِهِمْ ومثّلوه بقوله : { يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء } [ الأحزاب : 32 ] ، ثم قال : { مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] .
وقال عليه الصلاة والسلام : « أَشَدُّ النَّاس بَلاَءً الأنبياءُ ثم الأوْلِيَاءُ ثم الأَمْثَلُ فالأَمْثَلُ » ، ولقد كان على النبي صلى الله عليه وسلم من التَّشْديدات في التَّكليف ما لم يَكُنْ على غيره .
وذكر بعض المفسّرين أن حوّاء سقته الخَمْرَ ، فسكر وزفي أثناء السّكر فعل ذلك قالوا وهذا ليس ببعيد؛ عليه الصَّلاة والسَّلام - كان مأذوناً له في تناول كل الأشياء سوى تلك الشجرة ، فكان مأذوناً له في تناول الخمر ، ولقائل أن يقول : إن خمر الجَنَّة لا يسكر لقوله تعالى في صفة خمر الجنة : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } [ الصافات : 47 ] .
القول الثاني : أن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - فعله عامداً؛ فها هنا قولان :
أحدهما : أن ذلك النهي نهي تَنْزِيِهِ ، لا نهي تحريم ، وقد تقدم .
الثاني : أنه تعمّد وأقدم على الكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه ، وذلك لا يقتضي كون الذَّنْبِ كبيرة ، وهذا اختيار أكثر المعتزلة .
وبيان خطأ الاجتهاد أنه لما قيل له : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } [ الأعراف : 19 ] فلفظ « هذه » يشار به إلى الشَّخص ، وقد يشار به إلى النوع ، كما روي أنه - عليه الصلاة والسلام - اخذ حريراً وذهباً بيده وقال : « هَذَانِ حَلاَلٌ لإنَاثِ أمّتِي حَرَامٌ على ذُكُرِهَا » وأراد به توعهما ، وتوضأ مرة وقال : « هذا وُضُوءٌ لا يقبل الله الصَّلاةَ إلاَّ به » وأراد نوعه ، فلما سمع آدم - عليه الصلاة والسلام - قوله : « ولا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ » ظنّ أن النهي إنما يتناول تلك الشجرة المعينة ، فتركها وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع ، فكان مخطئاً في ذلك الاجتهاد؛ لأن مراد الله - تعالى - النهي عن النوع لا عن الشخص .
والاجتهاد في الفروع إذا كان خطأً لا يوجب استحقاق العقاب لاحتمال كونه صغيرةً مغفورة كما في شرعنا .
فغن قيل : الكلام على هذا القول من وجوه :
أحدها : أن كلمة « هذا » في أصل اللغة للإشارة إلى الشَّيء الحاضر ، وهو لا يكون إلا شيئاً معيناً ، فإن أشير بها إلى النوع ، فذاك على خلاف الأصل ، وأيضاً فأنه - تعالى - لا تجوز الإشارة عليه ، فوجب ان يكون أمر بعض الملائكة بالإشَارَةِ إلى ذلك الشَّخص ، فكان ما عداه خارجاً عن النهي لا مَحَالة ، وإذا ثبت هذا فالمجتهد مكلف يحمل اللفظ على حقيقته ، فأدم - عليه الصلاة والسلام - لما حمل لفظ « هذه » على المُعَيّن كان قد فعل الواجب ، ولا يجوز له حمله على النوع ، وهذا متأيد بأمرين :
أحدهما : أن قوله : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا } [ البقرة : 35 ] أفاد الإذْنَ في تناول كل ما في الجنّة إلا ما خصه الدليل .
والثاني : أن العقل يقتضي حلّ الانتفاع بجميع المَنَافِع إلاَّ ما خصّه الدليل ، والدليل المخصص لم يدلّ على ذلك المعيّن ، وإذا ثبت هذا امتنع أن يستحقّ بسبب تناول غيره وغن كان من ذلك النوع المنهي عنه عتاباً ، فوجب على هذا أن يكون مصيباً لا مخطئاً .
الاعتراض الثاني : هب أن لفظة « هذه » مترددة بين الشخص والنوع ، ولكن هل قرن الله بهذا اللَّفْظ ما يدلّ على أن المراد منه النوع دون الشخص أو لا؟
فإن قرن به ، فإما أن يقال : إن آدم - عليه الصلاة والسلام - قصر في معرفة ذلك البيان ، فحينئذ يكون قد أتى بالذَّنب وإن لم يقصر بل عرفه ، فحينئذ يكون إِقْدَامه على التَّناول من شَجَرَة من ذلك النوع إقداماً على الذنب قصداً .
الاعتراض الثالث : أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لا يجوز لهم الاجْتِهَادُ؛ لأن الاجتهاد إقدام على العمل بالظنّ وذلك إنما يجوز في حَقّ من لا يتمكن من تحصيل العلم ، أمّا الأنبياء فإنهم قادرون على تَحْصِيلِ اليقين ، فوجب ألا يجوز لهم الاجتهاد؛ لأن الاكتفاء بالظن مع القدرة على تحصيل اليقين غير جائز عقلاً وشرعاً ، وذا ثبت ذلك ثبت أن افقدام على الاجتهاد معصية .
الاعتراض الرابع : هذه المسألة إما أن تكون من المَسَائل القَطْعِية او الظنية ، فإن كانت من القطيعات كان الخطأ فيها كبيراً ، وحينئذ يعود الإشكال ، وإن كانت من الظَّنيات فإن قلنا : إن كل مجتهد مصيب فلا يتحقّق الخطأ فيها أصلاً .
وإن قلنا : المصيب فيها واحد ، والمخطيء فيها معذور بالاتفاق ، فكيف صار هذا القدر من الخطأ سبباً لإخراج آدم - عليه الصلاة والسلام - من الجنة؟
والجواب عن الأوّل : أن لفظة « هذا » وإن كان في الأصل إشارة إلى الشَّخص ، لكنه قد يستعمل في الإشارة إلى النوع كما تقدم بيانه .
والجواب عن الثاني : أن الله - سبحانه وتعالى - كان قد قرن به ما دلّ على أنّ المراد هو النوع ، لكن لعلّ آدم - عليه الصلاة والسلام - قصر في معرفة ذلك الدَّليل؛ لأنه ظنّ أنه لا يلزمه ذلك في الحال .
أو يقال : إنه عرف ذلك الدليل في وقت ما نهاه الله - تعالى - عن عين الشَّجرة ، فلما طالت المدة غفل عنه ، لأن في الخبر أن آدم - عليه الصلاة والسلام - بقي في الجَنّة الدهر الطويل ، ثم اخرج .
والجواب عن الثالث : أنه لا حاجة ها هنا إلى إثبات أن الأنبياء تمسَّكوا بالاجتهاد ، فإنَّا بيَّنَّا أن آدم - عليه الصلاة والسلام - قصّر في معرفة تلك الدّلالة ، وإن كان قد عرفها ، لكنه قد نسيها ، وهو المراد من قوله تعالى : { فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] .
والجواب عن الرَّابع : يمكن أن يقال [ كانت ] الدلالة قطيعة [ إلا أنه ] - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما نسيها صار النِّسْيان عذراً في ألاّ يصير الذنب كبيراً ، أو يقال : كانت ظنيةً إلاَّ أنه ترتَّب عليه من التَّشديدات ما لم يترتّب على خطأ سائر المجتهدين؛ لأن ذلك يجوز أن يختلف باختلاف الأشخاص ، وكما أن الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - مخصوص بأمور كثيرة في باب التَّشديدات بما لا يثبت في حق المة فكذا ها هنا .
واعلم أنه يمكن أن يقال في المسألة وجه آخر ، وهو أنه - تعالى - لما قال : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } [ الأعراف : 19 ] فهم آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - من هذا النهي أنهما إنما نُهِيَا حال اجتماعهما؛ لأن قوله : « وَلاَ تَقْرَبَا » نهي لهما عن الجمع ، ولا يلزم من حصول النهي حال الاجتماع حصوله حال الاجتماع حال الانفراد ، فلعل الخطأ في الاجتهاد إنما وقع من هذا الوجه .
قوله : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ }
« الفاء » - هنا - فاء السببية .
وقال المَهْدَويّ : إذا جعل « فأزلهما » بمعنى زلَّ عن المضكَان كان قوله : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } توكيداً ، إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر ، وزهذا الذي قال المَهْدَوِيّ أشبه شيء بالتأسيس لا التأكيد ، لإفادته معنى جديداً .
قال « ابن عطية » : وهنا محذوف يدلّ عليه الظاهر تقديره : فأكلا من الشَّجرة ، يعني بذلك أن المحذوف [ يقدر ] قبل قوله : « فَأَزَلَّهُمَا » .
و « مَمَّا كَانَا » متعلّق ب « اخرج » ، و « ما » يجوز أن تكون موصولة اسمية ، وأن تكون نكرة موصوفة ، أي : من المكان أو النعيم الَّذِي كانا فيه ، أو من مكان ، أو نعيم كانا فيه ، فالجملة من « كان » واسمها وخبرها لا مضحَلّ لها على الأوّل ومحلّها الجَرّ على الثاني ، و « من » لابتداء الغابة .
فصل في قصة الإغواء
روي عن ابن عبّاس ، وقتادة قال الله تعالى لآدم : أَلَمْ يك فيما أبحتك الجَنّة مَنْدُوحَة عن الشَّجَرة ، قال : بلى يا رَبّ وعزّتك ، ولكن ما ظننت أن احداً يحلف بك كاذباً قال : فبعزّتي لأهبطنّك إلى الأرض ، ثم لا تَنَالُ العيش إلا كدّاً ، فأهبطا من الجنة ، فكانا يأكلان فيها رغداً فعلم [ صنعة ] الحديد ، وامر بالحَرْثِ فحرث وزرع وسقى ، حتى إذا بلغ حصد ، ثم دَاسَهُ ، ثم ذَرَاه ، ثم طحنه ، ثم خبزه ، ثم أكله ، فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله تعالى . ويروي أن « إبليس » أخذ من الشجرة التي نهى آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - عنها فجاء بها إلى حَوّاء فقال : انظري إلى هذه الشَّجرة ما أطيب ريحها ، وأطيب طعمها ، وأحسن لَوْنَهَا ، فلم يزل يغويها حتى أخذتها فأكلتها وقالت لآدم : كُلْ فإني قد أكلت فلم تضرني ، فأكل منها فبدت لهما سَوْآتهما ، [ وبقيا ] عرايا ، فطلبا ما يستتران به ، فتباعدت الأشجار عنهما ، وبكّتوه بالمعصية ، فرحمته شجرة التين ، فأخذ من وَرقها ، فاسْتَتَرُوا به فَبُلِيَ بالعُرْيِ دون الشجر .
وقيل لحواء : كما أدميت الشجرة ، فذلك يصيبك الدّم كلّ شهر ، وتََحْمِلين وتَضَعِيِن كرهاً ، وتُشْرفين [ به ] على المضوْتِ ، وزاد الطبري والنَّقاش ، وتكونين سفيهةً وقد كنت حليمةً [ ولعنت ] الحية وردّت قوائمها في جَوْفِهَا ، وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم ، ولذلك أمرنا بِقِتْلِهَا .
قوله : { اهبطوا } جملة أمرية في محلّ نصب بالقول قبلها ، وحذفت الألف من « اهبِطُوا » في اللفظ؛ لأنها ألف وصل ، وحذفت الألف من « قلنا » في اللفظ؛ لسكونها وسكون الهاء بعدها .
وقرئ : « اهْبُطُوا » بضم الباء ، وهو كثير في غير المتعدّي .
وأما الماضي ف « هَبَطَ » بالفتح فقط ، وجاء في مضارعه اللّغتان ، والمصدر « الهبوط » بالضم ، وهو النزول .
وقيل : الانتقال مطلقاً .
وقال المفضل : الهبوط : الخروج من البلد ، وهو - أيضاً - الدخول .
وفيه نظر : لأن « إبليس » حين أَبَى عن السُّجود أخرج من الجنة لقوله تعالى : { فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا } [ الأعراف : 13 ] وقوله : { فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } [ الحجر : 34 ] وزلة آدم وحَوّاء إنما وقعت بعد ذلك بمدّة طوسلة ، فكيف يكون متناولاً له فيها وهو من الأضداد؟
والضمير في « اهبطوا » الظاهر أنه لجماعة ، فقيل : لآدم وحواء والحيّة وإبليس .
وقيل : لهما وللحيّة . وفيه بعد؛ لأنّ المكلفين بالإجماع هم المَلاَئكة والجنّ والإنس .
وقيل : لهما وللوسوسة . وفيه بعد .
وقيل : لبني آدم وبني إبْلِيِسَ ، وهذا وإن كان نقل عن « مُجَاهد والحَسَن » لا ينبغي أن يقال؛ لأنهما لم يولد لهما في الجنة بالاتفاق . وقال الزَّمَخْشَرِيّ : إنه يعود لآدم وحواء ، والمراد هما وذرّيتهما؛ لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعّبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم ، ويدلّ عليه : { قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً } [ طه : 123 ] . وهذا ضعيف؛ لأن الذّرية ما كانوا موجودين في ذلك الوَقْتِ ، فكيف يتناولهم الخطاب؟ أما من زعم ان أقل الجمع اثنان ، فلا يرد عليه شيء من هذا .
قوله : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } هذه جملة من مبتدأ وخبر ، وفيها قولان :
أصحهما : أنها في محل نصب على الحال ، أي اهبطوا متعادين .
والثاني : أنها لا محل لها؛ لأنها استئناف إخبار بالعداوة .
وأفرد لفظ « عدو » وإن كان المراد به جمعاً لأحد وجهين :
إما اعتباراً بلفظة « بعض » فإنه مفرد ، وإمّا لأن « عدوَّا » أشبه بالمَصادر في الوزن ك « القَبُول » ونحوه .
وقد صرح « أبو البقاء » بأن بعضهم جعل « عدوّا » مصدراً ، قال : وقيل : « عدو » مصدر ك « القبول والولوع » ، فلذلك لم يجمع .
وعبارة « مكي » قريبة من هذا . فإنه قال : وإنما وحد وقبله جمع؛ لأنه بمعنى المصدر ، تقديره : « ذوي عداوة » ونحوه : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي } [ الشعراء : 77 ] و { هُمُ العدو فاحذرهم } [ المنافقون : 4 ] .
واشتقاق العدو من « عدا » - « يعدو » : إذا ظلم .
وقيل : من « عَدَا » - « يَعْدُو » : إذا جاوز الحق ، وهما متقاربان .
وقيل : من عَدْوَتَي الجبل ، وهما طَرَفَاه ، فاعتبروا بعد ما بينهما .
ويقال : عدْوَة ، وقد يجمع على « اعداء » .
فأما حصول العداوة بين آدم ولإبليس فلقوله تعالى : { ياآدم إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ } [ طه : 117 ] ، وقوله : { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً } [ فاطر : 6 ] .
وأما عداوة الحَيّة فلما نقله أهل التفسير من إدخاله إبليس في فِيِها ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « اقتلوا الحَيَّات صَغِيرَهَا وكَبِيرَهَا وأَبْيَضَهَا وأَسْوَدَهَا ، فإن من قتلها كانت له فِدَاءً من النار ومن قَتَلَتْهُ كان شهيداً » .
وما كان من الحيات في البيوت فلا يُقْتَل حتى يؤذن ثلاثة أيام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « إن بالمَدِينَةِ جِنَّا قد أسلموا ، فإذا رَأَيْتُمْ منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام ، فإن بَدَا لكم بعد ذلك فَاقْتُلُوه فإنما هو شَيْطَان » .
وفي رواية : « إنَّ لهذه البيوت عَوَامِرَ فإذا رَأَيْتُمْ شيئاً منها فَحَرَّجُوا عليها ثلاثاً ، فإن ذهب وإلا فَاقْتُلُوهُ فإنه كافر » .
وصفة الإنذار أن يقول : أنذرتكم بالعَهْدِ الذي أخذه عليكم سليمان - عليه الصَّلاة والسَّلام - أن تخرجوا .
واما كون الجنّ حيات فلقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « الجنّ على ثَلاَثَةِ أثْلاثِ فثُلُثٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يِطِيرُونَ في الهَوَاءِ ، وثُلث حَيَّت وكِلاَب ، وثُلُث يَحلُّونَ وَيَظْعَنُونَ » .
واللاَّم في « لِبَعْضٍ » متعلقة ب « عدو » ، فلما قدم عليه انتصب حالاً ، فتتعلق اللام حينئذٍ بمحذوف ، وهذه الجملة الحالية لا حاجة إلى ادّعاء حذف « واو » الحال منها؛ لأن الرَّبْطَ حصل بالضمير ، وإن كان الكثر في الجمل الاسمية الواقعة حالاً أن تقترن بالواو .
و « البعض » في الأصل مصدر بَعضَ الشيء يَبْغَضُهُ ، إذا قطعه فأطلق على القطعة من النَّاس؛ لأنها قطعة منه ، وهو مقابل « كلاًّ » ، وحكمه حكمه في لزوم الإضَافَةِ معنى ، وأنه معرفة بنيّة الإضافة فلا تدخل عليه « أل » وينتصب عنه الحال؛ تقول : « مررت ببعض جالساً » وله لفظ ومعنى ، وقد تقدم تقرير ذلك .
تنبيه
من قال : إن جنّة آدم كانت في السماء فسّر الهبوط بالنزول من العُلُو إلى أسفل ، ومن قال : إنها كانت في الأرض فسره بالتحوّل من مكان إلى آخر كقوله : { اهبطوا مِصْراً } [ البقرة : 61 ] .
هذه الجملة يجوز فيها الوجهان المتقدّمان في الجملة قبلها من الحالية ، والاستئناف كأنه قيل : اهبطوا مثَُعَادين ، ومستحقين الاستقرار .
و « لكم » خبر مقدم . و « في الأرض » متعلّق بما تعلّق به الخبر من الاستقرار .
وتعلقه به على وجهين :
أحدهما : أنه حال .
والثاني : أنه غير حال ، بل كسائر الظروف ، ويجوز أن يكون « في الأرض » هو الخبر ، و « لكم » متعلّق بما يتعلّق به هو من الاستقرار ، لكن على أنه غير حال؛ لئلا يلزم تقديم الحال على عاملها المعنوي ، على أن بعض النحويين أجاز ذلك إذا كانت الحال نفسها ظرفاً ، أو حرف كهذه الآية ، فيكون في « لكم » أيضاً الوجهان ، قال بعضهم : ولا يجوز أن يكون « في الأَرْض » متعلّقاً ب « مستقر » ، سواء جعل مكاناً أو مصدراً؛ اما كونه مكاناً فلأن أسماء الأمكنة لا تعمل ، وأما كونه مصدراً فلأن المَصْدَرَ الموصول لا يجوز تقديم معمول عليه .
ولقائل ان يقول : هو متعلّق به على أنه مصدر ، لكنه غير مؤول بحرف مَصْدَرِيّ ، بل بمنزلة المصدر في قولهم : « لَهُ ذَكَاءُ الحُكَمَاءِ » وقد اعتذر صاحب هذا القَوْلِ بهذا العذر نفسه في موضع آخر مثل هذا . و « إلى حِينَ » الظَّاهر أنه متعلّق ب « متاع » ، وأن المسألة من باب الإعمال؛ لأن كل واحد من قوله : « مستقر ومَتَاع » يطلب قوله : « إلى حِين » من جهة المعنى . وجاء الإعمال هُنضا على مختار البَصْريين ، وهو إعمال الثَّاني وإهمال الأول ، فلذلك حذف منه ، والتقدير : ولكم في الأرض مستقرّ إليه ، ومتاع إلى حين ، ولو جاء على إعمال الأول لأضمر في الثاني .
فإن قيل : من شرط الإعمال أن يصحّ تسلّط كل من العاملين على المعمول ، و « مستقر » لا يصحّ تسلّطه عليه لئلاّ يلزم الفصل بين المَصْدَر ومعموله ، والمصدر بتقدير الموصول .
فالجواب : أن المحذور في المصدر الذي يُرَاد به الحدث ، وهذا لم يرد به حَدَث ، فلا يؤول بموصول ، وأيضاً فإنّ الظرف وشبهه فيه رَوَائِح الفعل حتى الأعلام؛ كقوله : [ الرجز ]
406- أَنَا ابْنُ مَاوِيَّةَ إذْ جَدَّ النَّقُرْ ... و « مستقر » يجوز ان يكون اسم مكان ، وأن يكون اسم مصدر ، « مستفعل » من القَرَار ، وهو اللَّبْثُ؛ ولذلك سميت الأرض قراراً؛ قال : [ الكامل ]
407- .. فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرَارِةِ كَالدِّرْهَمِ
ويقال : استقر وَقَرَّ بمعنى واحد .
قال قوم : « المُسْتَقَرّ » : حالتا الحياة والموت ، وروى السّدي عن ابن عباس أن المُسْتَقَرّ هو القبر ، والأول أولى؛ لأنه - تعالى - قرن به المَتَاع من الأكل والشرب وغيره ، وذلك لا يليق إلا بِحَالِ الحَيَاة؛ ولأنه خاطبهم بذلك عند الإهباط ، وذلك يقتضي الحياة والمَتَاع . :
واختار أبو البَقَاء أن يكون « إلى حين » في مَحَلّ رفع صفة ل « متاع » .
و « المتاع » : البُلْغَة مأخوذة من متع النهار ، أي : ارتفع .
وقال أبو العباس المقرئ : و « المتاع » على ثلاثة أوجه :
الأول : بمعنى « العيش » كهذه الآية .
الثاني : بمعنى : « المَنْفَعَة » قال تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ } [ المائدة : 96 ] أي : منفعة لكم ولأنعامكم .
الثالث : بمعنى « قليل » قال تعالى : { وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ مَتَاعٌ } [ الرعد : 26 ] أي : قليل .
و « الحين » : القطعة من الزمان طويلةً كانت او قصيرةً ، وهذا هو المشهور .
وقيل : الوقت البعيد ويقال : عاملته مُحَايَنَةً ، من الحِينِ ، وَأَحْنَيْتُ بِالمَكَانِ : إِذا أقمت بهِ حيناً . وحان حين كذا ، أي : قرب؛ قالت بُثَيْنَةُ : [ الطويل ]
408- وإِنَّ سُلوِّي عَنْ جَمِيلٍ لسَاعَةٌ ... مِنَ الدَّهْرِ مَا حَانَتْ وَلاَ حَانَ حِينُها
وقال بعضهم : تزاد عيه التاء فيقال : « تَحِينَ قُمْتَ » ، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى ، وأنشد على زيادة التاء قوله : [ الكامل ]
409- أَلعَاطِفُونَ تَحِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ ... والمُطْعِمُونَ زَمَانَ أَيْنَ المُطْعِمُ
فصل في المراد بالحين
واختلفوا في « الحِيْنِ » على أقوال فقالت فرقة : إلى الموت .
وقيل : إلى قيام السَّاعة ، فالأوّل قول من يقول : المستقرّ هو البَقَاء في الدُّنيا .
والثَّاني قول من يقول : المستقر هو في القبور .
وقيل : الحين : الأَجَلْ ، والحين ، المدّة ، قال تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ } [ الإنسان : 1 ] .
والحين : الساعة ، قال تعالى : { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب } [ الزمر : 58 ] والحِينُ ستة أشهر ، قال تعالى : { تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } [ إبراهيم : 25 ]
وقيل : الحين : اسم كالوقت يصح لجميع الأزمان كلّها طالت أم قصرت .
فصل في هبوط آدم ومن معه
يروي أن آدم أهبط ب « سرنديب في الهند » بجبل يقال له « نود » ، ومعه ريح الجنة فعلق بشجرها ، وأوديتها ، فامتلأ ما هنالك طيباً ، فمن ثم يؤتى بالطّيب من ريح آدم عليه الصلاة والسلام .
وكان السَّحَاب بمسح رَأْسَهُ فأصلع ، فأورث ولده الصلع .
روى البُخَارِي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « خَلَقَ اللهُ آدَمَ وطولِهِ سِتُّونَ ذِراعاً » .
وأهبطت حواء ب « جدّة » وإبليس ب « الأبلة » و « الأبلة » موضع من « البصرة » على أميال ، والحية ب « بيسان » .
وقيل : ب « سجستان » ، وقيل : ب « أصفهان » ، ولولا أن العِرْبدِّ يأكلها ويغني كثيراً منها لخلت « سجستان » من أجل الحيات . [ ذكره أبو الحسن المسعودي ] .
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
الفاء في قوله : « فتلقى » عاطفة لهذه الجملة على ما قبلها ، و « تلقى » « تفعل » من اللِّقاء بمعنى المجرد .
وله معانٍ أخر : مطاوعة « فعل » نحو : « كسرته فتكسر » .
والتكلّف نحو « تحلّم .
والصيرورة : تَأَلَّمْ .
واتخاذُ : نحو : تَبَنَّيْتُ الصبي ، أي : اتخذته ابناً .
ومُواصَلَةِ العمل في مُهْلَة نحو ، تجرّع وتفهم .
ومُوافقة استفعل نحو : تكبر .
والتوقُّع نحو : تخوّف .
والطَّلب نحو : تنجزّ حاجته .
والتكثير نحو : تغطَّيت بالثياب .
والتلبُّس بالمُسَمَّى المُشْتَقْ منه نحو : تقمّص ، أو العمل فيه نحو : تسخّر .
والختل : نحو : تغفلته .
وزعم بعضهم أن أصل » تَلَّقَّى « : » تَلَقَّنَ « بالنون فأبدلت النون الفاً ، وهذا غلط؛ لأن ذلك إنما ورد في المضعّف نحو » قَصَصْتَ « و » تَظَنَّنْتُ « ، و » أمْلَلْتُ « فأحد الحرفين إنما يقلب ياء إذا تجانسا .
قال القَفَّال : أصل التلقّي هو التعرُّض للقاء ، ثم وضع في موضع الاستقبال للمتلقِّي ، ثم يوضع القبول والأخذ ، قال تعالى : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } [ النمل : 6 ] ويقال : خرجنا نتلقى [ الحاجَّ ] ، أي : نستقبلهم ، وكان - عليه الصَّلاة والسَّلام - يتلقَّى الوحي ، أي : يستقبله ويأخذه .
وإذا كان هذا أصل الكلمة ، وكان من تلقى رجلاً فتلاقيا لقي كل واحد صاحبه ، فأضيف الاجتماع إليهما معاً صلح أن يشتركا في الوَصْفِ بذلك ، تلقَّى آدمَ بالنَّصب على معنى جاءته عن الله - تعالى - كلمات ، و » من ربه « متعلّق ب » تلقى « ، و » من « لابتداء الغاية مجازاً .
وأجاز أبو البَقَاءَ أن يكون في الأصل صفة ل » كلمات « فلما قدم انتصب حالاً ، فتصبح نسبة الفعل إلى كلّ واحد .
وقيل : لما كانت الكلمات سبباً في توبته جعلت فاعلة ، ولم يؤنث أنَ مَنْ تلقَّاك فقد تلقيته ، فتصبح نسبة الفعل إلى كلّ واحد .
وقيل : لما كانت الكلمات سبباً في توبته جعلت فاعلة ، ولم يؤنث الفعل على هذه القراءة وإن كان الفاعل مؤنثاً؛ لأنه غير حقيقي ، وللفصل أيضاً ، وهذا سبيل كل فعلٍ فصل بينه وبين فاعله المؤنثّ بشيء ، أو كان الفاعل مؤنثاً مجازياً .
فصل في الكلمات التي دعا بها آدم ربه
اختلفوا في تلك الكلمات ما هي؟
فروى » سعيد بن جبير « رضي الله أن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال : يا ربّ ألم تخلقني بِيَدِكَ بلا وَاسِطَةٍ؟ قال : بلى ، قال : يا رب أَلَمْ تنفخ فِيَّ من رُوحِكَ؟ قال : بلى . قال : ألم تُسْكِني جنتك؟ قال : بلى . قال : يا ربّ ألم تسبق رحمتك غَضَبَكَ؟ قال : بلى . قال يا رب إن تُبْتُ وأصلحت تردّني إلى الجنة؟ قال : بلى . فهو قوله : { فتلقى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } .
وزاد السّدى فيه : يا ربّ هل كنت كتبت علي ذنباً؟ قال : نعم .
وقال النَّخعي : أتيت ابن عباس فقلت : ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال : علّم الله آدم أمر الحجّ فحجا ، وهي الكلمات التي تقال في الحجّ ، فلما فرغا الحجّ أوحى الله - تعالى - إليهما قبلت توبتكما .
وروي عن ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، ومجاهد ، وقتادة في قوله تعالى : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } [ الأعراف : 23 ] ، وعن مجاهد أيضاً : « سبحانك اللَّهم لا إله إلاَّ أنت ظلمتني فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم » .
وقالت طائفة : رأي مكتوباً على ساق العرش : محمد رسول الله ، فشفّع بذلك .
وعن ابن عباس ، ووهب بن منبّه أن الكلمات سبحانك اللَّهم وبحمدك ، لا إله إلا أنت علمت سوءاً ، وظلمت نفسي [ فاغفر لي إنك خير الغافرين ، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءاً ، وظلمت نفسي ] فتب عليّ إنك أنت التَّوَّاب الرحيم « .
قالت عائشة رضي الله عنها : لما أراد الله أن يتوبَ على آدم ، وطاف بالبيت سبعاً - والبيت حينئذ ربوة حمراء - فلما صلّى ركعتين استقبل البيت ، وقال : » اللَّهم إنك تعلم سرِّي وعلانيتي ، فأقبل مَعْذِرَتِي ، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي ، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي ، اللَّهُمّ إني أسألك إيماناً يُبَاشِرُ قلبي ، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلاَّ ما كتبت لي ورضِّني بما قسمت لي « فأوحى الله - تعالى - إلىَ آدم يا آدم قد غفرت لك ذنوبك ، ولن يأتي أحد من ذريّتك فيدعوني بمثل الذي دعوتني إلاَّ غفرت ذنبه ، وكشفت هُمُومه وغمومه ، ونزعت الفَقْرَ من عينيه ، وجاءته الدُّنيا وهو لا يريدها » .
قوله : { فَتَابَ عَلَيْهِ } عطف على ما قبله ، ولا بُدَّ من تقدير جملة قبلها أي : فقالها . و « الكلمات » جمع « كلمة » وهي : اللَّفظ الدَّالُ على معنى مفرد ، وتطلق على الجمل المفيدة مجازاً تسمية للكلّ باسم الجزء كقوله تعالى : { إلى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ } [ آل عمران : 64 ] ثم فسرها بقوله : { أَلاَّ نَعْبُدَ } [ آل عمران : 64 ] إلى آخر الآية ، وقال : { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ } [ المؤمنون : 100 ] يريد قوله : { رَبِّ ارجعون } [ المؤمنون : 99 ] إلى آخره ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أَصْدَقُ كلمةٍ قالها شَاعِرٌ كلمة لَبِيِد » وهو قوله : [ الطويل ]
410- أَلاَ كُلَّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلُ ... وَكُلَُ نَعِيمٍ لاَ مَحَالَةَ زَائِلُ
فسمى هذا البيت كلمةً ، والتوبة : الرجوع ، ومعنى وصف الله - تعالى - بذلك أنه عبارةٌ عن العَطْفِ على عباده ، وإنقاذهم من العذاب .
وقيل : قبول توبته .
وقيل : خلقه الإنابة والرجوع في قلب المسمى ، وآخر الطَّاعات على جَوَارحه ، ووصف عن العَطْفِ على عباده ، وإنقاذهم من العذاب .
وقيل : قبول توبته .
وقيل : خلقه الإنابة والرجوع في قلب المسمى ، وآخر الطَّاعات على جَوَارِحِه ، ووصف العَبْدِ بها ظاهر؛ لأنه يرجع عن المعصية إلى الطاعة .
و « التواب الرحيم » صفتا مُبَالغة ، ولا يختصَّان بالباري تعالى .
قال تعالى : { يُحِبُّ التوابين } [ البقرة : 222 ] ، ولا يطلق عليه « تائب » ، وإن صرح بفعله مسند إليه تعالى . وقدم « التواب » على « الرحيم » لمناسبة « فتاب عليه » ، ولأنه مناسب لختم الفواصل بالرحيم .
وقوله : { إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم } نظير قوله تعالى : { إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم } [ البقرة : 32 ] .
وأدغم أبو عمرو هاء « إنَّه » في هاء « هُوَ » ، واعترض على هذا بأنّ بين المثلين ما يمنع من الإدغام وهو « الواو » ؛ واجيب : بأن « الواو » وُصْلَةٌ زائدةٌ لا يعتدّ بها؛ بدليل سقوطها في قوله : [ الوافر ]
411- لَهُ زَجلٌ كأَنَّهُ صَوْتُ حَادٍ ... إذَا طَلَبَ الوَسِيقَةَ أَوْ زِميرُ
وقوله : [ البسيط ]
412- أوْ مُعْبَرُ الظَّهْرِ يُبْنِي عَنْ وَلِيَّتِهِ ... مَا حَجَّ رَبَّهُ في الدُّنْيَا وَلاَ اعْتَمَرَا
والمشهور قراءة « إنه » بكسر « إن » ، وقرئ بفتحها على تقدير لام العلّة ، وقرأ الأعمش : « آدَم مِّنْ رَبِّهِ » مدغماً .
فصل في نظم الآية
قوله : « فتاب عليه » أي : قبل توبته ، أو وفقه للتوبة ، وكان ذلك في يوم عاشوراء في يوم الجُمُعَة .
فإن قيل : لم قال « عليه » ولم يقل : « عليهما » ، وحواء مُشَاركة له في الذنب .
فالجواب : انها كانت تبعاً له كما طوى حكم النِّسَاء في القرآن والسُّنة .
وقيل : لأنه خصّه بالذكر في أوّل القصّة بقوله : { اسكن } [ البقرة : 35 ] ، فكذلك خصّه بالذكر في التلقّي .
وقيل : لأن المرأة حرمة ومستورةٌ ، فأراد الله السّتر بها ، ولذلك لم يذكرها في القصّة في قوله : { وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى } [ طه : 121 ] .
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
كرر قوله : « قلنا : اهبطوا » ؛ لأن الهبوطين مختلفان باعتبار تعلّقهما ، فالهبوط الأوّل علّق به العداوة ، والثاني علّق به إتيان الهدى .
وقيل : لأن الهبوط الأول من الجنّة إلى السماء ، والثاني من السماء إلى الأرض . واستبعده بعضهم لوجهين :
الأول : لقوله : { وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ } [ البقرة : 36 ] وذكر هذا في الهبوط الثَّاني أولى . وهذا ضعيف؛ لأنه يجوز أن يراد : ولكم في الأرض مستقرّ بعد ذلك .
وثانيهما : أنه قال في الهُبُوط الثَّاني : « اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً » ، والضمير في « منها » عائد إلى « الجنّة » وذلك يقتضي كون الهُبُوط الثاني من الجنّة .
قال « ابن عطية » وحكى « النَّقَّاش » أن الهبوط الثَّاني إنما هو من الجنّة إلى السّماء ، والأولى في ترتيب الآية إنما هو إلى الأرض ، وهو الآخر في الوقوع .
وقيل : كرّر على سبيل التاكيد نحو قولك : « قم قم » .
والضَّمير في « منها » يعود على الجنّة ، أو السَّماء .
قال « ابن الخطيب » : وعندي فيه وجه ثَالثٌ ، وهو أن آدم لما أتيا بالزِّلَّة أمرا بالهبوط ، فتابا بعد الأمر بالهبوط ، فأعاد الله الأمر بالهبوط مَرّةً ثانيةً ليعلما أن الأمر بالهبوط ما كان جزاء على ارتكاب الزِّلَّة حتى يزول بزوالها ، بل الأمر بالهبوط باق بعد التوبة؛ لأن الأمر به كان تحقيقاً للوَعْدِ المتقدّم في قوله : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] .
قوله : « جميعاً » حال من فاعل « اهْبِطُوا » أي : مجتمعين : إما في زمان واحدٍ ، أو في أزمنة متفرقة؛ لأن المُرَاد الاشتراك في أصل الفعل ، وهذا هو الفرق بين « جاءوا جميعاً » ، و « جاءوا معاً » ، فإن قوك : « معاً » يستلزم مجيئهم جميعاً في زمن واحد ، لما دلّت عليه « مع » من الاصْطِحَاب بخلاف « جميعاً » فإنها لا تفيد إلا أنه لم يتخلّف أحد منهم عن المجيء من غير تعرُّض لاتحاد الزمان .
و « جميع » في الأَصْلِ من ألفاظ التَّوكيد ، نحو : « كل » ، وبعضهم عدها معها .
وقال : « ابن عطية » : و « جميعاً » حال من الضمير في « اهبطوا » ، وليس بمصدر ولا اسم فاعل ، ولكنه عوض منهما دالّ عليهما ، كأنه قال : هبوطاً جميعاً أو هابطين جميعاً ، كأنه يعني ان الحال في الحقيقة محذوف ، وأن « جميعاً » تأكيد له ، إلاَّ أن تقديره بالمصدر ينفي جعله حالاً إلا بتأويل لا حَاجَةَ إليه .
وقال بعضهم : التَّقْدِير : قلنا : اهبطوا مجتمعين ، فهبطوا جميعاً ، فحذف الحال من الأول لدلالة الثَّني عليه ، وحذف العامل من الثاني لدلالة الول عليه ، وهذا تكلّف لم تدع إليه الضرورة .
قوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ } الفاء مرتبة معقبة . و « إمّا » أصلها : أن الشرطية زيدت عليها « ما » تأكيداً ، و « يأتينكم » في مَحَلّ جزم بالشَّرْط؛ لأنه بني لاتصاله بنون التوكيد .
وقيل : بل هو معرب مطلقاً .
وقيل : مبني مطلقاً .
والصّحيح : التفصيل : إن باشرته كهذه الآية بني ، وإلا أعرب ، نحو : هل يَقُومَانِ؟ وبني على الفَتْحِ طلباً للخفّة ، وقيل : بل بني على السُّكون ، وحرك بالفتح لالتقاء السَّاكنين .
وذهل الزجاج والمبرد إلى أن الفعل الواقع بعد « إن » الشَّرطية المؤكِّدة ب « ما » يجب تأكيده بالنون ، قالا : ولذلك لم يأت التَّنْزيل إلاّ عليه ، وذهب سيبويه إلى أنَّه جائز لا واجب؛ لكثرة ما جاء به منه في الشعر غير مؤكَّد ، فكثرة مجيئه غير مؤكَّد يدلُّ على عدو الوجوب؛ فمن ذلك قوله : [ الطويل ]
413- فَإِمَّا تَرَيْنِني كَابْنِةِ الرَّمْلِ ضَاحِياً ... عَلَى رِقَّةٍ أخْفَىَ وَلاَ أَتَنَعَّلُ
وقولُ الآخر : [ البسيط ]
414- يَا صَاحِ إمَّا تَجِدْنِي غَيْرَ دِي جِدةٍ ... فَمَا التَّخَلِّي عَنِ الخُلاَّنِ مِنْ شِيَمِي
وقول الآخر : [ المتقارب ]
415- فَإِمَّا تَرَيْنِي وَلِي لِمَّةٌ ... فَإنَّ الحَوادِثَ أوْدَى بِهَا
وقول الآخر : [ الكامل ]
416- زَعَمَتْ تُمَاضِرُ أنَّنِي إمَّا أَمُتْ ... يَسْدُدْ أُبَيْنُوهَا الأَصَاغِرُ خَلَّتِي
وقال المهدوي : « إما » هي « إن » التي للشرط زيدت عليها « ما » ليصحّ دخول « النّون » للتوكيد في الفعل ، ولو سقطت « ما » لم تدخل النّون ، و « ما » تؤكّدا أول الكلام ، والنون نؤكد آخره ، وتبعه ابن عطية .
وقال بعضهم : هذا الذي ذهبا إليه من أن النّون لازمة لفعل الشرط إذا وصلت « إن » ب « ما » هو مذهب المُبَرّد والزَّجَّاج ، وليس في كلامهما ما يدلُّ على لزوم « النُّون » كما ترى ، غاية ما فيه أنهما اشترطا في صحّة تأكيده بالنون زيادة « ما » على « إن » ، أما كون التوكيد لازماً ، وغير لازم ، فلم يتعرضا له ، وقد جاء تأكيد الشرط بغير « إن » ؛ كقوله : [ الكامل ]
417- مَنْ يُثْقَفَنْ مِنْهُمْ فَلَيْسَ بِآئِبِ ... أبَداً وَقَتَلُ بَنِي قُتَيْبَةَ شَافِي
و « مني » متعلق ب « يأتين » وهي لابتداء الغاية مجازاً ، ويجوز أن تكون في محل حال من « هدى » لأنه في الأصل صفة نكرة قدم عليها ، وهو نظير ما تقدم في قوله : { مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } [ البقرة : 37 ] . و « هدى » فاعل ، والفاء مع ما بعدها من قوله : { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } جواب الشرط الأول ، والفاء في قوله : { فَلاَ خَوْفٌ } جواب الثَّاني . وقد وقع الشَّرْط الثاني وجوابه جواب الأول ، ونقل عن « الكسائي » أن قوله : « فَلاَ خَوْفٌ » جواب الشَّرطين معاً . قال : ابن عطية « بعد نقله عن » الكِسَائي « ذلك : هكذا حكي ، وفيه نظر ، ولا يتوجّه أن يخالف سيبويه هنا ، وإنما الخِلاَفُ في نحو قوله :
{ فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ } [ الواقعة : 88 ، 89 ] فيقول سيبويه : جواب أحد الشرطين محذوف ، لدلالة قوله : « فروح » عليه .
ويقول الكوفيون : « فروح » جواب الشرطين ، وأما في هذه الآية ، فالمعنى يمنع أن يكون « فلا خوف » جواباً للشرطين .
وقيل : جواب الشرط الأوّل محذوف تقديره : « فإمّا يأتينكم منّي هُدىً فاتبعوه » وقوله : « فمن تبع » جملة مستقلة [ وهو بعيد أيضاً ] .
فصل في المراد بالهدى
اختلف في « الهُدَى » فقال « السّدي » : كتاب الله ، وقال قوم : الهدى الرّسل ، وهذا إنما يتم لو كان المُخَاطب بهذا الكلام آدم وبنيه ، فالرُّسل إلى آدم من الملائكة ، وإلى بنيه من البشر .
وقيل : المراد من الهُدَى كل دلالة وبيان .
وقيل : التوفيق للهداية . وفي قوله : « مني هُدىً » إشارة إلى أن أفعال العباد خلق الله تعالى .
و « من » يجوز أن تكون شرطية ، وهو الظاهر ، ويجوز أن تكون موصولة ، ودخلت الفاء في خبرها تشبيهاً لها بالشرط ، ولا حاجة إلى هذا ، فإن كانت شرطية كان « تبع » في محل جزم ، وكذا « فلا خوف » لكونهما شرطاً وجزاء ، وإن كانت موصولةً فلا مَحَلّ ل « تبع » ، وإذا قيل بأنها شرطية فهي مبتدأ أيضا ، وفي خبرها خلاف مشهور .
والأصح أنه فعل الشرط ، بدليل أنه يلزم عود ضمير من فعل الشرط اسم الشرط ، ولا يلزم ذلك في الجواب ، تقول : « من يقم أكرم زيداً » ، فليس في « أكرم زيداً » ضمير يعود على « من » ولو كان خبراً للوم فيه ضمير .
ولو قلي : « من يقم زيداً أكرمه » وأنت تعيد الهاء على « من » لم يجز ، لخلوّ فعل الشرط من الضمير .
وقيل : الخبر الجواب ، ويلزم هؤلاء أن يأتوا فيه بعائد على اسم الشرط ، فلا يجوز عندهم : « من يقم أكرم زيداً » ولكنه جائز ، هذا ما أورده أبو البقاء .
وسيأتي تحقيق القول في لزوم عود الضَّمِيِر من الجواب إلى اسم الشَّرْط عند قوله : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] .
وقيل : مجموع الشرط والجزاء هو الخبر ، لأن الفائدة إنما تحصل بهما .
وقيل : ما كان فيه ضمير عائد على المبتدأ ، فهو الخبر والمشهور « هُدَايَ » ، وقرئ : « هُدَيَّ » بقلب الألف ياء ، وإدغامها في ياء المتكلم ، وهي لغة « هُذَيْل » ، يقولون في عَصَاي : عَصَيَّ ، وقال شاعرهم : [ الكامل ]
418- سَبَقُوا هَوَيَّ وأَعنَقوا لِهَواهُمُ ... فَتُخُرِّمُوا وَلِكُلِّ جَنْبٍ مَصرَعُ
كأنهم لما لم يصلوا إلى ما تستحقه ياء المتكلّم من كسر ما قبلها لكونه ألفاً أتوا بما يجانس الكسرة ، فقلبوا الألف ياء .
نقل « النحاس » هذه العلّة عن الخليل وسيبويه وهذه لغة مطّردة عندهم إلاّ أن تكون الألف للتثنية ، فإنهم يثبتونها : نحو : « جاء مسلماي ، وغلاماي » .
قوله : { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } قد تقدّم أنه يجوز أن يكون جواباً للشرط ، فيكون في محلّ جزم ، وأن يكون خبراً ل « من » إذا قيل بأنها موصولة ، وهو أولى لمقابلته بالمَوْصُول في قوله : { والذين كَفَرواْ } [ البقرة : 39 ] ، فيكون في محل رفع ، و « لا » يجوز أن تكون عاملة عمل « ليس » فيكون « خوف » اسمها ، و « عليهم » في محلّ نصب خبرها ، ويجوز أن تكون غير عاملة ، فيكون « خوف » مبتدأ « ، و » عليهم « في محلّ رفع خبره ، وهذا أولى مما قبله لوجهين :
أحدهما : أن عملها عمل » ليس « قليل ، ولم يثبت إلاّ شيء محتمل ، وهو قوله : [ الطويل ]
420- وَحَلَّتْ سَوَادَ القَلْبِ لا أَنَا بَاغِيَا ... سِوَاهَا وَلاَ في حُبِّهَا مُتَرَاخِيَا
ف » أَنَا « اسمها و » بَاغِيَا « خبرها .
قيل : ولا حجّة فيه؛ لأن » بَاغِيَا « حال عاملها محذوف هو الخَبَرُ في الحقيقة تقديره : وَلاَ أَنَا أَرَى بَاغِياً ، أو يكون التقدير : ولا أَرَى باغِيا ، فلما حذف الفعل انفصل الضمير .
وقرئ : » فَلاَ خَوْفٌ « بالرفع من غير تنوين ، والأحسن فيه أن تكون الإضافة مقدّرة ، أي : خوف شيء .
وقيل : أنه على نِيَّةِ الألف واللام .
وقيل : حذف التنوين تخفيفاً ، وقرأ الزهري ، والحسن وعيسى بن عمر ، وابن أبي إسحاق ، ويعقوب : » فَلاَ خَوْفَ « مبنياً على الفتح؛ لأنها » لا « التبرئة ، وهي أبلغ في النَّفي ، ولكن الناس رجَّحوا قراءة الرفع .
قال » أبو البقاء « : لوجهين :
أحدهما : أنه عطف عليه ما لا يجوز فيه إلاَّ الرفع ، وهو قوله : » ولا هم « لأنه معرفة ، و » لا « لا تعمل في المَعَارِف ، فالأولى أن يجعل المعطوف عليه كذلك لِتَتَشَاكل الجملتان ، ثم نظره بقولهم : » قام زيد وعمراً كلّمته « يعني في تَرْجيح النَّصْب في جملة الاشتغال للتشاكل .
ثم قال : والوجه الثاني : من جهة المعنى ، وذلك أن البناء يدلّ على نفي الخوف عنهم بالكلية ، وليس المراد ذلك ، بل المراد نفيه عنهم في الآخرة .
فإن قيل : لم لا يكون وجه الرفع أن هذا الكلام مذكور في جزاء من اتبع الهُدَى ، ولا يليق أن ينفى عنهم الخوف اليسير ، ويتوهّم بثبوت الخوف الكثير .
قيل : الرفع يجوز أن يضمر معه نفي الكثير ، تقديره : ولا خوف كثير عليهم ، فيتوهّم ثبوت القليل ، وهو عكس ما قدر في السُّؤال ، فبان أن الوجه في الرفع ما ذكرنا .
قوله : » ولا هم يحزنون « تقدّم أنه جملة منفية ، وأن الصَّحيح أنها غير عاملةٍ . و » يحزنون « في محلّ رفع خبر للمبتدأ ، وعلى ذلك القَوْل الضَّعيف يكون في محلّ نصب و » الخوف « : الذُّعر والفَزَع ، يقال : خاف يَخَاف خوفاً ، فهو خائف ، والأصل : خوف بوزن » علم « ويتعدّى بالهمزة والتضعيف ، قال تعالى :
{ وَنُخَوِّفُهُمْ } [ الإسراء : 60 ] ولا يكون إلا في الأمر المستقبل .
والحُزْن : ضد السرور ، وهو مأخوذ من « الحَزْن » ، وهو ما غلظ من الأرض ، فكأنه ما غلظ من الهَمّ ، ولا يكون إلا في الأمر الماضي ، يقال : حَزِنَ يَحْزَنُ حُزْناً وَحَزَناً ، ويتعدّى بالهمزة نحو : أَحْزَنْتُهُ ، وحَزّنته بمعناه ، فيكون « فعّل » و « أَفْعَل » بمعنى . وقيل : أَحْزَنَهُ حَصَّل له حزناً .
وقيل : الفتحة مُعَدِّية للفعل : نحو : شترَتْ عينه وشَتَرها الله ، وهذا يدل علة قول من يرى أن الحركة تعدّي الفعل ، وقد قرئ باللغتين : « حَزَنَهُ وأَحْزنه » ، وسيأتي تحقيقهما إن شاء الله تعالى .
فَصْلٌ في لغات « حزن »
قال ابن الخطيب : قال اليزيدي : حَزَنَه لغة « قريش » ، وأَحْزَنَهُ لغة « تميم » ، وَحَزِنَ الرجل -بالكسر- فهو حَزِنٌ وحَزِينٌ ، وأُحْزِنَ فهو مَحْزُونٌ ، واحتَزَنَ وتَحَزَّنَ بمعنى . وهذه الجُمْلة مع اختصارها تجمع شيئاً كثيراً من المعاني؛ لأن قوله تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } دخل فيه الإنعام بجميع الأدلّة العقليّة ، والشرعية الواردات للبيان ، وجميع ما لا يتمّ ذلك إلاّ به من العقل ، ووجوه التمكُّن ، وجميع قوله : { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } تأمل الأدلّة بنصّها والنظر فيها ، واستنتاج المعارف منها ، والعمل بها وجميع قوله : { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } جميع ما أعدَّ الله -تعالى- لأوليائه؛ لأن زوال الخوف يتضمّن السَّلامة من جميع الآفات ، وزوال الحزن يقتضي الوصول إلى كل اللَّذَّات والمرادات ، وقدم على الخَوْف على عدم الحزن؛ لأن زوال ما لا ينبغي مقدّم على طَلَبِ ما ينبغي وهذا يدلّ على أن المكلّف الذي أطاع الله -تَعَالَى- لا يلحقه خوف في القَبْرِ ، ولا عند البَعْثِ ، ولا عند حضور المَوْقِف ، ولا عند تَطَايُرِ الكُتب ، ولا عند نَصْب الموازين ، ولا عند الصراط كما قال : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [ الأنبياء : 103 ] وقال قوم من المتكلّمين : إن أهوال القيامة كما تصل إلى الكُفّار والفسّاق تصل إلى المؤمنين لقوله تعالى : { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ } [ الحج : 2 ] فإذا انكشفت تلك الأهوال ، وصاروا إلى الجنّة والرضوان صار ما تقدّم كأن لم يكن ، بل ربما كان زائداً في الالتذاذ بما يجده من النعيم ، وهذا ضعيف؛ لأن قوله : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] أخص من قوله : { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ } [ الحج : 2 ] والخاص مقدّم على العام .
فإن قيل : هذا يقتضي نَفْيَ الخَوْفِ والحُزْن مطلقاً في الدنيا والآخرة ، وليس الأمر كذلك؛ لأنهما حصلا في الدنيا للمؤمنين أكثر من حصولهما لغير المؤمنين قال عليه الصَّلاة والسَّلام : « خُصَّ البَلاَءُ بالأَنْبِيَاءِ ، ثم الأَوْلِيَاءِ ثُمّ الأَمْثَل فالأمْثَل » .
وأيضاً فالمؤمن لا يمكنه القطع بأنه أتى بالعَبَادات كما ينبغي ، فخوف التقصير حاصلٌ وأيضاً فخوف سوء العاقبة حاصل .
قلنا : قَرَائِنُ الكلام تدلّ على أنّ المراد نفيهما في الآخرة لا في الدنيا ، ولذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا حين دخلوا الجنة : { الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن } [ فاطر : 34 ] .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
لما وعد الله من اتبع الهدى بالأَمْنِ من العَذَاب والحزن عقبه بذكر كمن أعدّ له العَذَاب مثال الذين كفروا . و « الذين » مبتدأ وما بعدها صلة وعائد ، و « بآياتنا » متعلّق ب « كذبوا » ، ويجوز أن تكون أن تكون الآية من باب الأعمال؛ لأن « كفروا » يطلبها ، ويكون من إعمال الثَّاني للحذف من الأوّل ، والتَّقدير : والذين كفروا بنا وكذّبوا بآياتنا .
و « أولئك » مبتدأ ثان ، و « أصحاب » خبره ، والجملة خبر الأول ، ويجوز أن يكون « أولئك » بدلاً من الموصول ، أو عطف بيان له ، و « أصحاب » خبر المبتدأ الموصول . وقوله : « هم فيها خالدون » جملة اسمية في محلّ نصب على الحال للتَّصريح بذلك في مواضع قال تعالى : « أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدينَ » .
وأجاز « أبو البقاء » : أن تكون حالاً من « النار » قال : لأن فيها ضميراً يعود عليها ، ويكون العامل فيها معنى الإضافة ، أو اللاَّم المقدرة .
وقد عرف ما في ذلك ، ويجوز أن تكون في محل رفع خبر ل « أولئك » أيضاً ، فيكون قد أخبر عنه بخبرين :
أحدهما : مفرد وهو « أصحاب » .
والثاني : جملة ، وقد عرف ما فيه من الخلاف .
و « فيها » متعلّق ب « خالدون » قالوا : وقد حذف من الكلام الأوّل ما أثبت في الثاني ، ومن الثاني ما أثبت في الأول ، والتقدير : فمن تبع هُدَاي فلا خوف ولا حُزْن يلحقه ، وهو صاحب الجَنَّة ، ومن كفر وكذب لحقه الخَوْفُ والحزن ، وهو صاحب النار؛ لأنّ التقسيم يقتضي ذلك ، ونظروه بقول الشَّاعر : [ الطويل ]
421- وَإِنِّي لتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ العُصْفُورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ
« والآية » لغة : العلامة؛ قال النَابغَةُ : [ الطويل ]
422- تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا للعَامُ سَابِعُ
وسميت آية القرآن [ آية ] ؛ لأنه علامة لانفصال ما قبلها عما بعدها ، وقيل : سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنها تجمع حروفاً من القرآن ، فيكون من قولهم ، « خَرَجَ بنُو فلاَنٍ بآيتِهِمْ » أي : بجماعتهم؛ قال : [ الطويل ]
423- خَرَجْنَا مَنَ النَّقْبَيْنِ لاَ حَيَّ مِثْلُنَا ... بِآيَاتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ المَطَافِلاَ
واختلف النحويون في وزنها : فمذهب « سيبويه والخليل » أنها « فَعَلَة » والأصل : « أَيَيَة » -بفتح العين- تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت الفاً ، وهو شاذّ؛ لأنه إذا اجتمع حرفا عِلّة أعلّ الأخير؛ لأنه محلّ التغيير نحو : هوى وحوى ، ومثلها في الشّذوذ : « غَايَة ، وطَايَة ، وَرَايَة » .
ومذهب « الكِسَائِيّ » أن أصلها : « آيِيَة » على وزن « فَاعِلَة » ، فكان القياس أن يدغم فيقال : آية ك « دابّة » ، إلاّ أنه ترك ذلك تخفيفاً ، فحذوفوا عينها ، كما خففوا « كَيْنُونة » والأصل : « كيّنونة » بتشديد الياء ، وضعفوا هذا بأن « كيّنونة » أثقل فَنَاسب التَّخفيف بخلاف هذه .
ومذهب « الفَرَّاء » أنها فَعْلَة « بسكون العين ، واختاره أبو » البَقَاء « قال : لأنها من تايَّا القوم ، إذا اجتمعوا ، وقالوا في الجمع : آياء ، فظهرت الياء الأولى ، والهمزة الأخير بدل من ياء ، ووزنه » أفعال « والألف الثانية بدل من همزة هي فاء الكلمة ، ولو كانت عينها » واو « لقالوا في الجمع : » آواء « ثم إنهم قلبوا » الياء « الساكنة » ألفاً « على غير قياس .
يعني : أن حرف العلّة لا يقلب حتى يتحرّك وينفتح ما قبله .
وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنها » آيِيَة « بكسر العَيْنِ مثل » نَبِقَة « فَأُعِلّ ، وهو في الشّذوذ كمذهب » سيبويه والخَليل « .
وقيل : وزنها » فَعُلَة « بضم العَيْن ، وقيل : أصلها : أَيَاة » بإعلال الثاني ، فقلبت : بأن قدمت الازم ، وأخرت العين ، وهو ضعيف . فهذه ستة مذاهب لا يسلم واحد منها من شذوذ .
فصل في معنى « الصحبة »
الصّحبة : الاقتران بالشيء في حالة ما ، في زمان ما ، فإن كانت الملازمة والخُلْطة فهي كمال الصُّحبة .
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
[ اعلم ] أنه لما أقام دلائل التوحيد ، والنبوة ، والمعاد أولاً ، ثم عقبها بذكر الإنعامات العّامة لكل البشر عقبها بذكر الإنعامات الخاصّة على أسلاف اليَهُودِ استمالةٌ لقلوبهم ، وتنبيهاً على ما يدلّ على نبوة « محمّد عليه الصَّلاة والسَّلام » من حيث كونها إخباراً عن الغيب ، موافقاً لما كان موجوداً في التَّوْراة والإنجيل من غير تعلّم ، ولا تتلمُذِ . قوله : « يَابَنِي » منادى منصوب وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكّر سالم ، وحذفت نونه للإضافة ، وهو شبيه بجمع التَّكسير لتغير مفرده ، ولذلك عاملته العرب ببعض معاملة جمع التكسير ، فألحقوا في فعله المسند إليه تاء التأنيث ، نحو : « قالت بنو فلان » ، وقال الشاعر : [ البسيط ]
424-قَالَتْ بَنُو عَامرٍ خَالُوا بَنِي أَسَدٍ ... يَابُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضَرَّاراً لأَقْوَامِ
وأعربوه بالحركات أيضاً إلحاقاً له به ، قال الشاعر : [ الوافر ]
425-وَكَانَ لَنَا أبُو حَسَنٍ عَليٌّ ... أَباً بَرًّا وَنَحْنُ لَهُ بَنِينُ
[ فقد روي بَنِينُ ] برفع النون ، وهل لامه ياء؛ لأنه مشتقّ من البناء؛ لأن الابن من فرع الأب ، ومبنيٌّ عليه ، أو واو؛ لقولهم : البُنُوًَّة كالأُبُوَّة والأُخُوَّة؛ قولان . الصَّحيح الأول ، وأما البُنّوة فلا دلالة فيها؛ لأنهم قد قالوا : الفُتُوَّة ولا خلاف أنها من ذوات « اليَاءِ » . إلا أن « الأخفش » رجّح الثاني بأن حذف الواو أكثر . واختلف في وزنه فقيل : « بَنَيٌ » بفتح العين ، وقيل : بَنْيٌ _ بسكونها ، وقد تقدم أنه أحد الأسماء العَشْرة التي سكنت فاؤها وعوض من لامها همزة الوَصْل . و « إسرائيل » خفض بالإضافة ، ولا ينصرف للعملية والعُجْمة ، وهو مركّب تركيب الإضافة مثل : « عبدالله » فإن « إِسْرَا » هو العبد بلغتهم ، و « إيل » هو الله تعالى . وقيل : « إسْرا » هو مشتقّ من الأسْر ، وهو القوّة ، فكان معناه الذي قَوَّاه الله . وقيل « إسْرَا » هو صفوة الله ، و « إيل » هو الله . وقال القَفّال : قيل : إن « إسرا » بالعبرانية في معنى إنسان ، فكأنه قيل : رجل الله ، فكأنه خطاب مع اليَهُودِ الذين كانوا بالمدينة . وقيل : إنه أسرى بالليل مهاجراً إلى الله . وقيل : لأنه أَسَرَ جِنِّنًّا كان يطفىء سِرَاجَ بَيْتِ المَقْدِسِ . قال بعضهم : فعلى هذا يكون بعض الاسم عربيّاً ، وبعضه أعجميّاً ، وقد تصرفت فيه العرب بلغات كثيرة أفصحها لغة القرآن ، وهي قراءة الجمهور . وقرأ « أبو جعفر والأعمش » : « إسْرَايِل » بياء بعد الألف من غير همزة ، وروي عن « وَرْش » « إسْرَائِل » بهمزة بعد الألف دون ياء ، و « إسْرَأَل » بهمزة مفتوحة ، و « إسْرَئِل » بهمزة مكسورة بين الراء واللام ، و « إسْرَال » بألف محضة بين الراء واللام؛ قال : [ الخفيف ]
426- لاَ أَرَى مَنْ يُعِينُنِي في حَيَاتِي ... غَيْرَ نَفْسِي إلاَّ بَنِي إسْرَالِ
وروي قراءة غير نافع قرأ عن نافع . و « إسْرائيل » هذه مهموزة مختلسة حكاها شنبوذ ، عن ورش ، و « إسْرَايل » من غير همز ولا مَدّ و « إسْرَائِين » أبدلوا من اللام نوناً ك « أُصَيْلاَن » في « أُُصَيْلاَل » ؛ قال : [ الرجز ]
427- يَقُولُ أَهْلُ السُّوءِ لَمَّا جِينَا ... هَذَا وَرَبِّ البَيْتِ إِسْرائِينَا
وقال آخر : [ الرجز ]
428- قَالَتْ وَكُنْتُ رَجُلاً فَطِينَا ... هَذَا لعَمْرُ الله إٍسْرَائِينَا
ويجمع على « أَسَارِيل » . وأجاز الكوفيون « أَسَارِلَة » و « أَسَارل » ، كأنهم يجيزون التعويض بالياء وعدمه ، نحو : « فَرَازِنة » و « فَرَازين » . قال الصَّفار : لا نعلم أحداً يجيز حذف الهمزة من أوله . قال ابن الجوزي : ليس في الأنبياء من له اسمان غيره إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنَّ له أسماء كثيرة . وقد قيل في المسيح إنه اسم علم لعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام غير مشتقّ ، وقد سمَّاه الله تَعَالَى روحاً والمسيح ، وإسرائيل ويعقوب ، ويونس وذو النُّون ، وإلياس وذو الكِفْل ، صولات الله وسلامه عليهم أجمعين . قول : { اذكروا نِعْمَتِيَ } . « اذكرو » فعل وفاعل ، و « نعمتي » مفعول . وقال « ابن الأنباري » : لا بدّ له من حذف مضاف تقديره : شكر نِعْمتي . و « الذكر » بضم الذال وكسرها بمعنى واحد ، ويكونان باللِّسان والجِنَان . وقال « الكسائي » : هو بكسر اللسان ، وبالضّّم للقَلْب ضدّه النسيان ، والذي محلّه اللسان ضده الصَّمت ، سواء قيل : إنهما بمعنى واحد أم لا . و « الذَّكَر » بالفتح خلاف الأُنْثَى ، و « الذِّكر » أيضاً الشرف ومنه قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] . فصل في النعمة النعمة اسم لما ينعم به ، وهي شبيهة ب « فِعْل » بمعنى « مفعول » نحو : ذبح ورعي ، والمراد الجمع؛ لأنها اسم جنس ، قال الله تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ } [ النحل : 18 ] . قال « أبو العباس المقرىء » : « النَّعْمَة » بالكسر هي الإسلام ، قال تعالى : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } [ آل عمران : 103 ] . وقال : { فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً والله } [ الحجرات : 8 ] يعني الإسلام . وقال : { رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ } [ النمل : 19 ] . وقوله : { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ } [ آل عمران : 171 ] أي : الإسلام . فصل في حد النعمة قال ابن الخطيب : حَدّ النعمة أنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير . وقيل : الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ، قالوا : وإنما زدنا هذا؛ لأن النعمة إن كانت حسنة يستحق بها الشكر ، وإن كانت قبيحة لم يستحق بها الشكر .
قال : والحقّ أن هذا القيد غير معتبر؛ لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان ، وإن كان فعله محظوراً؛ لأن جهة استحقاق الشكر غير جِهَةِ استحقاق الذَّم والعقاب ، فأي امتناع في اجتماعهما؟ ألا ترى أن الفاسق يستحقّ الشكر بإنعامه والذّم بمعصيته ، فلم لا يجوز هاهنا أن يكون الأمر كذلك؟ واعلم أن نعم الله على العَبْدِ لا تتناهى ، ولا تحصى كما قال تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] . فإن قيل : فإذا كانت النعم غير مُتَنَاهية ، وما لا يتناهى لا يحصل به العلم في حق العبد ، فكيف أمر بتذكرها في قوله : { اذكروا نِعْمَتِيَ } ؟ والجواب : أنها غير مُتَنَاهية بحسب الأشخاص والأنواع ، إلاّ أنها متناهية بحسب الأجناس ، وذلك يكفي في التذكّر الذي يفيد العلم بوجود الصَّانع الحكيم . فصل في بيان هل لله نعمة على الكافر في الدنيا اختلفوا في أنه هل لله نعمة على الكافر في الدنيا؟ فمنهم من قال : هذه النعم القليلة في الدنيا لما كانت مؤدّية إلى الضرر في الآخرة لم تكن نعمة ، فإن من جعل السّم في الحلوى لم يعد النفع الحاصل من أكل الحلوى نعمة لما كان ذلك سَبيِلاً إلى الضرر العظيم ، ولهذا قال تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ آل عمران : 178 ] . ومنهم من قال : إنه تعالى وإن لم ينعم على الكافر بنعمة الدِّين ، فلقد أنعم عليه بنعمة الدنيا [ وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمه الله ] . قال ابن الخطيب : وهذا القول أصوب ويدلّ عليه وجوه : أحدها : قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ } [ البقرة : 21 ] الآيات فأمر الكُلّ بطاعته لمكان هذه النعم وهي نعمة الخلق والرزق . وثانيها : قوله تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً } [ البقرة : 28 ] وذكره في معرض الامتنان ، وشرح النعم ، ولو لم يصل إليهم من الله تعالى شَيْءٌ من النعم لما صَحّ ذلك . وثالثها : قوله : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } وهذا نصّ صريح؛ لأنه خطاب لأهل الكتاب ، وكانوا من الكفار ، وكذا قوله تعالى : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 47 ] إلى قوله : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } [ البقرة : 49 ] . ورابعها : قوله تعالى : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض } إلى قوله : { وَأَرْسَلْنَا السمآء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً } [ الأنعام : 6 ] . وخامسها : قوله تعالى : { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر } [ الأنعام : 63 ] إلى قوله : { ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 64 ] . وسادسها : قوله تعالى { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [ الأعراف : 10 ] وقال في قصة « إبليس » : { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف : 17 ] . وسابعها : قوله : { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض } [ الأعراف : 74 ] وقال : { قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين } [ الأعراف : 140 ] . وثامنها : قوله : { ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ }
[ الأنفال : 53 ] . وتاسعها : قوله : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق } [ يونس : 5 ] . وعاشرها : قوله : { هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك } [ يونس : 22 ] إلى قوله : { يَبْغُونَ فِي الأرض } [ يونس : 23 ] . واعلم أن الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لأنه لا نِزَاعَ في أن الحياة والعقل والسمع والبصر ، وأنواع الرزق ، والمنافع من الله تعالى إنما الخِلاَفُ في أن أمثال هذه المنافع إذا حصل عقيبها تلك المَضَارّ الأبدية ، هل يطلق عليها في العرف اسم النعمة أم لا؟ ومعلوم أن ذلك نِزَاعٌ في مجرّد عبارة . فَصْلٌ في النعم المخصوصة ببني إسرائي وهي كثيرة منها : استنقذهم من فرعون وقومه ، وخلّصهم من العبودية وأولادهم من القَتْلِ ونساءهم من الاستحياء ، وخلصهم من البلاء ، ومكنهم في الأرض ، وجعلهم ملوكاً ، وجعلهم الوَارِثين بعد أن كانوا عبيداً للقبط ، وأهلك أعداءهم وأورثهم أرضهم وديارهم ، وأموالهم ، وأنزل عليهم [ الكتب العظيمة ، وجعل فيهم أنبياء ، وآتاهم ما لم يُؤْت أحداً من العَالَمينَ ، وظَلَّل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم ] المّنّ والسَّلْوَى ، وأعطاهم الحجر ليسقيهم ما شَاءُوا من الماء متى أرادوا ، فإذا استغنوا عن الماء رفعوها فاحتبس الماء عنهم ، وأعطاهم عموداً من النور يضيء لهم بالليل ، وكانت رؤوسهم لا تتشعّث وثيابهم لا تَبْلَى . رواه « ابن عباس » . فصل في سبب تذكيرهم بهذه النعم قال ابن الخطيب : إنما ذكرهم بهذه النعم لوجوه : أحدها : أن جملة النعم ما يشهد بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وهي التوراة ، والإنجيل ، والزَّبُور . وثانيها : أن كثرة النعم توجب عظم المعصية ، فذكرهم تلك النعم لكي يحذروا مُخَالفة ما دعوا إليها من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن . وثالثها : أن تذكّر النعم الكثيرة يفيد الحَيَاءَ عن إظهار المخالفة . ورابعها : أن تذكر النعم الكثيرة يفيد أن المُنْعِمَ خصّهم من بين سائر الناس بها ، ومن خص أحداً بنعم كثيرة ، فالظاهر أن تذكر تلك النعم يطمع في النِّعَمِ الآيتة ، وذلك الطمع مانعٌ من إظهار المخالفة والمخاصمة . فإن قيل : إن هذه النِّعم إنما كانت على المُخَاطبين وأسْلافهم ، فكيف تكون نعمة عليهم؟ فالجواب : لَوْلاَ هذه النعم على آبائهم لما بقوا ، فصارت النعم على الآباء نعمة على الأبناء ، وأيضاً فالانتساب إلى الآباء المخصوصين بنعم الدِّين والدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد ، وأيضاً فإنّ الأولاد متى سمعوا أن الله تعالى خصّ آباءهم بهذه النِّعَم لطاعتهم وإعراضهم عن الكفر رغب الولد في هذه الطريقة؛ لأنَّ الولد مجبول على الاقتداء بالأب في أفعال الخير ، فيصير هذا التذكر داعياً إلى الاشْتِغَال بالخيرات . قوله : { التي أَنْعَمْتُ } . « التي » صفة « النعمة » والعائد محذوف . فإن قيل : من شرط [ حذف ] عائد الموصول إذا كان مجروراً أن يجرّ الموصول بمثل ذلك الحرف ، وأن يتّحد متعلقهما ، وهنا قد فقد الشَّرطان ، فإن الأصل : التي أنعمت بها .
فالجواب : إنما حذف بعد أن صار منصوباً بحذف حرف الجرّ اتساعاً فبقي « أنعمتها » وهو نظير : { كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] في أحد الأوجه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى . و « عليكم » متعلّق به ، وأتى ب « على » دلالة على شمول النعمة لهم . قوله : { وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } . هذه جملة أمرية عطف على الأمكرية قبلها . ويقال : « أَوْفَى » ، و « وَفَى » مشدداً ومخففاً ثلاث لغاتٍ بمعنى؛ قال الشاعر : [ البسط ]
429 أَمَّا ابْنُ [ طُوْقٍ ] فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ ... كَمَا وَفَى بِقِلاَصِ النَّجْمِ حَادِيها
فجمع بين اللغتين . وقيل : يقال : أوفيت ووفيت بالعهد ، وأوفيت الكَيْلَ لا غير ، وعن بعضهم : أن اللغات الثلاث واردة في القرآن . أما « أوفى » فكهذه الآية . وأما « وَفَّى » بالتشديد فكقوله : { وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } [ النجم : 37 ] . وأما « وَفَى » بالتخفيف ، فلم يصرح به ، وإنما أخذ من قوله تعالى : { أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله } [ التوبة : 111 ] وذلك أن « أَفْعَل » التفضيل لا يبنى إلاّ من الثلاثي كالتعجُّب هذا هو المشهور ، وإن كان في المسألة كلام كثير ويحكى أن المستنبط لذلك أبو القاسم الشَّاطبي . ويجيء « أَوْفَى » بمعنى : ارتفع؛ قال : [ المديد ]
430 رُبَّمَا أَوْفَيْتُ في عَلَمٍ ... تَرْفَعَنْ ثَوْبِي شَمَالاتُ
و « بعهدي » متعلّق ب « أوفوا » ، و « العَهْد » مصدر ، ويحتمل إضافته للفاعل أو المفعول . والمعنى : بما عاهدتكم عليه من قَبُولِ الطَّاعة ، ونحوه : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ } [ يس : 60 ] أو بما عاهدتموني عليه ، ونحوه : { وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله } [ الفتح : 10 ] ، { صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 23 ] . و « أُوفِ » مجزوم على جواب الأمر ، وهل الجازم الجملة الطَّلبية نفسها لما تضمّنته من معنى الشرط ، أو حرف شرط مقدر تقديره : إن توفوا بعهدي أوف؟ قولان .
وهكذا كل ما جزم في جواب طلب يجري فيه هذا الخلاف .
وقرأ الزّهري : « أَوَفِّ » بفتح الواو وتشديد الفاء للتَّكثير .
و « بِعَهْدِكُمْ » متعلّق به [ وهذا ] محتمل للإضافة إلى الفاعل ، أو المفعول على ما تقدّم .
فصل في المراد بالعهد المأمور بوفائه
في العَهْدِ المأمور بوفائه قولان :
أحدهما : أنه جميع ما أمر الله به من غير تخصيص ، وقوله : { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } أراد به الثواب والمغفرة .
وقال « الحسن » : هو قوله : { وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمْ الزكاة } إلى قوله : { الأنهار } [ المائدة : 12 ] .
وحكى « الضحاك » عن ابن عباس أوفوا بما أمرتكم به من الطَّاعات ، ونهيتكم عنه من المعاصي ، وهو قول جمهور المفسرين .
وقيل : هو ما أثبته في الكتب المتقدّمة في صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه سيبعثه على ما قال في سورة المائدة :
{ وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ } إلى قوله : { لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ المائدة : 12 ] .
وقال في سورة الأعراف : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] إلى قوله { والإنجيل } [ الأعراف : 157 ] وأما عهد الله معهم ، فهو أن يضع عنهم إصْرَهُمْ والأغلال ، لقوله : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } [ آل عمران : 81 ] الآية وقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يابني إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ } [ الصف : 6 ] .
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : [ إن الله تعالى ] كان عهد إلى بني إسرائيل في التَّوْرَاة أني باعث من بني إسماعيل نبيَّا أمياً ، فمن تبعه وصدّق بالنور الذي يأتي به أي القرآن [ أغفر له ذنبه ، وأدخله ] الجَنَّة ، وجعلت له أجرين؛ أجراً باتباع ما جاء به موسى وجاءت به أنبياء بني إسرائيل ، وأجراً [ باتباع ] ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم [ النبي الأمي ] من ولد إسماعيل ، وتصديق هذا القُرْآن في قوله تعالى : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } [ القصص : 52 ] إلى قوله { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } [ القصص : 54 ] .
وتصديقه أيضاً بما روى أبو مسوى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ثلاثة يُؤْتَوْنَ أجرهم مَرَّتَيْنِ بما صبروا : رَجُل من أهْل الكتاب آمن بِعِيسَى ، ثم آمَنَ بمحمّد صلى الله عليه وسلم [ فله أَجْرَانِ ] ، ورجل أدّب أَمَتَهُ فأحسن تَأدِيبَهَا ، وعلّمها فأحسن تعليمها ، ثم أَعْتَقَهَا فتزوَّجَهَا ، فله أَجْرَان ، وعبد أَطَاعَ الله ، وأطاع سَيّدَهُ فله أَجْرَان » .
فإن قيل : إنْ كان الأمر هكذا ، فكيف يجوز جَحْدَهُ من جماتهم؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أنّ هذا العلم كان حاصلاً عند العلماء في كتبهم ، لكن لم يكن منهم عَدَدٌ كثير ، فجاز منهم كِتْمَانُ ذلك .
الثاني : أن ذلك النصّ كان خفيًّا لا جليًّا ، فجاز وقوع الشَّكَ فيه .
فإن قيل : الشخص الموعود به في هذه الكتب ، أما أن يكون قد ذكر فيه هذه الكتب وَقْت خروجه ، ومكان خروجه ، وسائر التَّفَاصيل المتعلّقة بذلك ، أو لم يذكر شيء من ذلك .
فإن كان الأول كان [ ذلك ] النص نصًّا جليًّا وارداً في كتب مَنْقُولة إلى أهل العلم بالتواتر ، فيمتنع قدرتهم على الكِتْمَانِ ، ويلزم أن يكون ذلك معلوماً بالضرورة من دين الأنبياء المتقدمين .
وإن كان الثاني لم [ يدلّ ] ذلك النَّص على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لاحتمال أن يقولوا : إن ذلك المبشّر به سيجيء بعد ذلك على ما هو معتقد جمهور اليهود .
والجواب : قال بن الخطيب : « لم يكن منصوصاً عليه نصًّا جليًّا يعرفه كل أحد ، بل كان منصوصاً عليه نصًّا خفيًّا ، فلا جَرمَ لم يلزم أن يعلم ذلك بالضَّرورة من دين الأنبياء المتقدّمين » .
قوله : { وَإِيَّايَ فارهبون } .
« إياي » ضمير منصوب منفصل ، وقد عرف ما فيه في « الفاتحة ، ونصبه بفعل محذوف يفسره الظاهر بعده ، والتقديرط » وإيايَ ارْهَبُوا فارْهَبُون « وإنما قدرته متأخراً فيهح لأن تقديره متقدماً عليه لايحسن لانفصاله ، وإن كان بعضهم قدره كذلك .
والفاء في » فارهبون « فيها قولان للنحويين :
أحدهما : أنها جواب أمر مقدر تقديره : تنبّهُوا فارهبونن وهو نظير قولهم : » زيداً فاضرب « أي : تنبيه فاضرب زيداً ، ثم حذف » تنبه « ، فصار : فاضرب زيداً ، ثم قدم المفعول إصلاحاً للفظ؛ لئلا تفع الفاء صدراً ، وإنما دخلت الفاء لتربط هاتين الجملتين .
والقول الثاني في هذه » الفاء « : أنها زائدة .
وقال » أبو حيان « بعد أن حكى القول الأول : فتحمل الآية وجهين :
أحدهما : أن يكون التدقير : » وإيّاي ارهبوا تنبهوا فارهبون « ، فتكون » الفاء « حصلت في جواب الأمر ، وليست مؤخّرة من تقديم .
والوجه الثاني : أن يكون التقدير : وتنبّهوا فارهبون ، ثم قدّم المفعول فانفصل ، وأتى بالفاء حين قدّم المفعول ، وفعل الأمر الذي هو » تنبهوا « محذوف ، فالتقى بعد حذفه الواو والفاء ، يعني : فصار التقدير : » وفإياي ارهبوا « ، فقدم المفعول على الفاء إصلاحاً للفظ ، فصار : » وإيّاي فارهبوا « ، ثم أعيد المفعول على سبيل التَّأكيدن ولتكمل الفاصلة ، وعلى هذا في » إياي « منصوب بما بعده لا بفعل محذوف ، ولا يبعد تأكيد المنفصل بالمتّصل ، كما لا يمتنع تأكيد المتصل بالمنفصل .
و » الرَّهَبُ « و » الرَّهْب « ، و » الرَّهْبَة « : الخوف ، مأخوذ من الرّهَابة ، وهي عظم في الصدر يؤثر فيه الخوف ، وسقطت » الياء « بعد » النون « ؛ لأنها رأس فاصلة .
وقرأ ابن أبي إسحاق : » فأرْهَبُوني « بالياء ، وكذا : { فاتقون } [ البقرة : 41 ] على الأصل .
ويجوز في الكلام » وأنا فارهبون « على الابتداء والخير .
وكون » فارهبون « الخبر على تقدير الحذف كان المعنى : » وأنا ربكم فارهبون « .
ذكره القُرْطبي .
وفي الآية دليلٌ على أنّ المرء يجب عليه ألا يخاف أحداً إلا الله تعالى ، ولما وجب ذلك في الخوف ، فكذا في الرجاء فيها دلالة على أنه يجب على المكلف أن يأتي بالطاعات للخوف والرجاء ، وأن ذلك لا بد منه .
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
قوله : « ما » يجوز أن تكون بمعنى « الذي » ، والعائد محذوف ، أي : بالذي أنزلته ، ويجوز أن تكون مصدرية ، والمصدر واقع موقع المفعول أيك [ بالمنزل ] .
و « مصدقاً » نصب على الحال ، وصاحبها العائد المَحْذُوف .
وقيل : صحابها « ما » والعامل فيها « آمنوا » ، وأجاز بعضهم أن تكون « ما » مصدرية من غير جعله المصدر واقعاً موقع الفعل به ، وجعل « لما معكم » من تمامه ، أي : بإنزالي لما معكم ، وجعل « مصدقاً » حالاً من « ما » المجرورة باللاَّم قدمت عليها ، وإن كان صاحبها مجروراً؛ لأن الصَّحيح جواز تقديم حال المجرور بحرف الجر عليه؛ كقوله [ الطويل ]
431 فَإِنْ يَكُ أُصِبْنَ وَنِسْوَةٌ ... فَلَن تّذْهَبُوا فِرْغاً بِقَتْلِ حِبَالِ
« فِرْغاً » حال من « بِقَتْل » ، وأيضاً فهذه « اللام » زائدة ، فهي في حكم المطرح ، و « مصدقاً » حل مؤكّدة؛ لأنه لا تكون إلا كذلك .
والظاهر أن « ما » بمعنى « الذي » وأن « مصدقاً » حال من عائد الموصول ، وأن اللاّم في « لما » مقوية لتعدية « مصدقاً » ل « ما » الموصولة بالظَّرْفِ .
فصل في بيان المخاطبين في الآية
اعلم أن المخاطبين بقوله : « وآمنوا » هم بنو إسرائيل لتعطفه على قوله : « اذْكُرُوا نِعْمَتِي » ، ولقوله : « مُصَدّقاً لِمَا مَعَكُمْ » .
وقوله : « بِمَا أَنْزَلت » فيه قولان :
أحدهما : أنه القرآن؛ لأنه وصفه بكونه منزلاً ، وبكونه مصدقاً لما معهم .
والثاني : قال قَتَادَةُ : بما أنزلت من كتاب ورسول تجدونه مكتوباً في التَّوراة ، والإنجيل .
ومن جعل « ما » مصدرية قدّرها ب « إنزالي لما معكم » يعني : التوراة .
وقوله { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } فيه تفسيران :
أحدهما : أن في القرآن أنَّ موسى وعيسى حَقّ ، والتوراة والإنديل حَقّ ، فالإيمان بالقرآن مؤكّد للإيمان بالتوارة والإنجيل .
والثاني : أنه حصلت البِشَارَةُ بمحمد عليه الصَّلاة والسَّلام وبالقرآن في التوراة والإنجيل ، فكان الإيمان بالقرآن ، وبمحمد تصديقاً للتوراة والإنجيل ، وتكذيب محمد والقرآن تكذيبٌ للتوراة والإنجيل .
قال ابن الخطيب : وهذا يدلّ على نبوة محمد عليه الصَّلاة والسَّلام من وجهين :
الأول : أن شهادة كتب الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام لا تكون إلا حقًّا .
والثاني : أنه عليه الصلاة السَّلام لم يقرأ كتبهم ، ولم يكن له معرفة بذلك إلاَّ من قبل الوحي .
قوله : « وَلاَ تكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ » .
« أول » خبر كان ، وفيه أربعة أقوال :
أحدهما وهو مذهب سيبويه : أنه « أفعل » ، وأن فاءه وعينه واو ، وتأنيثه « أُوْلَى » ، وأصلها : « وُوْلَى » ، فأبدلت الواو همزة وجوباً ، وليست مثل « وُورِي » في عدم قلبها لسكون الواو بعدها ، لأن واو « أُوْلَى » تحركت في الجمع في قولهم « أوْل » ، فحمل المفرد على الجمع في ذلك ، ولم يتصرف من « أول » فعل لاستثقاله .
وقيل : هو من « وأل » إذا نجا ، ففاؤه واو ، وعينه همزة ، وأصله : « أوأل » فخففت بأن قلبت الهمزة واواً ، وأدغمت الواو الأولى فيها فصار : « أول » ، وهذا ليس بقياس تخفيفه ، بل قياسه أن تلقى حركة الهمزة على « الواو » الساكنة ، وتحذف الهمزة ، ولكنهم شبهوه ب « خَطِية وبَرِية » وهو ضعيف ، والجمع : « أوَائِل » و « أَوَالي » أيضاً على القلب .
وقيل : هو من « آلَ يَئُولُ » إذا رجع ، وأصله : « أَأْوَل » بهمزتين ، الأولى زائدة والثانية فاؤه ، ثم قلبت فأخرت الفاء بعد العين فصار : « أَوْأَل » بوزن « أَعْفَل » ، ثم فعل به ما فعل في الوجه الذي قبله من القلب والإدْغَام ، وهو أضعف منه .
وقيل : هو « وَوّل » بوزن « فَوْعَل » ، فأبدلت الواو الأولى همزة ، وهذا القول أضعفها؛ لأنه كان ينبغي أن ينصرف ، والجمع « أوائل » والأصل : « وواول » فقلبت الاولى همزة لما تقدم ، والثالثة أيضاً لوقوعها بعد ألف الجمع ، وإنما لم يجمع لعى « أواول » لاستثقالهم اجتماع واوين بينهما ألف الجمع .
واعلم أن « أوّل » « أفعل » تفضيل ، و « أفعل » التفضيل إذا أضيف إلى نكرة كان مفرداً مذكراً مطلقاً ، ثم النكرة المضاف إليها « أفعل » ، إما أن تكون جامدةً أو مشتقةً ، فإن كانت جامدة طابقت ما قبلها نحو : الزّيدان أفضلُ رجلين ، الزيدون أفضلُ رجال ، الهندات أفضلُ نسوة .
وأجاز المبرد إفرادها مطلقاً .
وإن كانت مشتقة ، فالجمهور أيضاً على وجوب المطابقة ، نحو : « الزيدون أفضلُ ذاهبين وأكرمُ قادمين » ، وأجاز بعضهم المُطَابقة وعدمها؛ أنشد الفراء : [ الكامل ]
432 وَإِذَا هُمُ طَعِمُوا فَأَلأَمُ طَاعِمٍ ... وَإِذَا هُمْ جَاعُوا فَشَرٌّ جِيَاع
فأفرد في الأول ، وطابق في الثاني ، ومنه عندهم : { وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } [ البقرة : 41 ] .
إذا تقرر هذا ، فكان ينبغي على قوله الجمهور أن يجمع « كافر » ، فأجابوا عن ذلك بأوجه :
أجودها : أن « أفْعَل » في الآية ، وفي البيت مُضَاف لاسم مفرد مفهم للجمع حذف ، وبقيت صفته قائمةً مقامه ، فجاءت النكرة المضاف إليها « أفعل » مفردة اعتباراً بذلك الموصوف المحذوف ، والتقدير : ولا تكونوا أوّل فريق أو فَوْجٍ كافر ، وكذا « فألأم فرق طاعم » ، وقيل : لأنه في تأويل : « أول من كفر به » .
وقيل : لأنه في معنى : لا يكن كل واحد منكم أول كافر ، كقولك : كَسَانَا حُلّة أي : كل واحد منَّا ، ولا مفهوم لهذه الصفة هنا فلا يراد : ولا تكونوا أول كافر ، بل آخر كافر؛ لأن ذكر الشّيء ليس فيه دلالة على أن ما عداه بخلافه .
وأيضاً فقوله : { وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } دليل على أن كفرهم أولاً وآخراً محظور ، وأيضاً قوله : { رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } [ الرعد : 2 ] لا يدلّ على وجود عَمَدٍ لا يرونها ، وقوله : { وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ } [ آل عمران : 181 ] لا يدلّ على وقوع قتل الأنبياء بحق .
وقوله بعد هذه الآية : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 41 ] لا يدلّ على إبَاحَةِ ذلك بالثّمنِ الكثير ، فكذا هاهنا ، ولما اعتقد بعضهم أن لها مفهوماً احتاج إلى تأويل جعل « أول » زائداً ، قال تقديره : ولا تكونوا كافرين به ، وهذا ليس بِشَيْءٍن وقدّره بعضهم بأن ثَمَّ معطوفاً محذوفاً تقديره : ولا تكونوا أوّل كافر به ، ولا آخر كافر ، ونصّ على الأول؛ لأنه أفحش للابتداء به؛ وهو نظير قوله : [ الرممت ]
433 مِنْ أُنَاسِ لَيْسَ في أَخْلاَقِهِمْ ... عَاجِلُ الفُحْشِ وَلاَ سُوءُ الجَزَعْ
لا يريد أن فيهم فحشاً آجلاً ، بل يريد لا فحش عندهم لا عاجلاً ولا آجلاً . والهاء في « ب » تعود على « ما أنزلت » .
وقيل : على الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن التنزيل يستدعي منزلاً إليه .
وقيل : على النعمة ذهاباً بها إلى معنى الإحسان .
فإن قيل : كيف جعلوا أوّل من كفر به ، وقد سبقهم إلى الكُفْرِ به مشركو العرب؟
فالجواب : من وجوه :
أحدها : أن هذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أوّل من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته؛ لأنهم كانوا هم المبشّرين بزمان محمد عليه الصَّلاة والسَّلام والمُسْتفتحين على الذين كفروا به ، فلّما بعث كان أمرهم على العكس لقوله تعالى : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [ البقرة : 89 ] .
وثانيها : المُرَاد : ولا تكونوا مثل أو كافر به ، يعني : من أشرك من أهل « مكة » ، أي أنتم تعرفونه مذكوراً في التوراة والإنجيل ، فلا تكونوا مثل من لم يعرفه ، وهو مشرك لا كتاب له .
وثالثها : ولا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب؛ لأن هؤلاء كانوا أول من كفر بالقرآن من بني إسرائيل ، وإن كانت قريش كَفَرَتْ به قبل ذلك .
ورابعها : ولا تكونوا أو كافر به ، يعني بكتابكم يقول ذلك لعلمائهم ، أي : ولا تكونوا أول أحد من أمتكم كذب كتابكم؛ لأن تكذيبكم بمحمد صلى الله عليه وسلم بموجب تَكْذِيبَكُمْ بكتابكم .
وخامسها : ولا تكونوا أوّل كافر به عند سَمَاعكم بذكره ، بل تثبَّتوا فيه ، وراجعوا عقولكم فيه .
قوله : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } .
« بآياتي » متعلّق بالاشتراء وضمن الاشتراء معنى الاستبدال ، فلذلك دخلت الباء على الآيات ، وكان القياس دخولها على ما هو ثَمَن؛ لأن الثمن في البيع حقيقته أن يشتري به ، لا أن يشترى ، لكن لما دخل الكلام معنى الاستبدال جاز ذلك؛ لأن معنى الاستبدال أن يكون المنصوب فيه حاصلاً والمجرور بالباء زائلاً .
وقد ظنّ بعضهم أن قولك : « بدلت الدِّرْهَمَ بالدينار » وكذا : « أبدلت » أيضاً أن الدينار هو الحاصل ، والدرهم هو الزَّائل ، وهو وهم؛ ومن مجيء « اشترى » بمعنى « استبدل » قوله : [ الجز ]
434 كَمَا اشْتَرَى المُسْلِمُ إذْ تَنَصَّرَا ... وقول الآخر : [ الطويل ]
435 فَإِنْ تَزْعُمِيني كُنْتُ أَجْهَلُ فيكُمُ ... فَإِنِّي شَرَيْتُ الحِلْمَ بَعْدَكِ بِالجَهْلِ
وقال المهدوي : دخول « الباء » على « الآيات » كدخولها على « الثَّمن » ، وكذلك كل ما لا عَيْنَ فيه ، وإذا كان في الكلام دَرَاهم أو دنانير دخلت الباء على الثمن ، قاله الفرّاء ، يعني أنه إذا لم يكن في الكلام دِرْهَمٌ ولا دينار صحّ أن يكون كلّ من العوضين ثمناً ، ومثمناً ، لكن يختلف ذلك بالنسبة إلى المُتَعَاقدين ، فمن نسب الشراء إلى نفسه أدخل الباء على ما خرج منه ، وزال عنه ، ونصب ما حصل له ، فتقول « اشتريت هذا الثَّوْبَ بهذا العبد » .
وأما إذا كان ثَمّ دراهم أو دنانير كان ثمناً ليس إلا ، نحو « اشتريت الثوب بالدرهم » ، ولا تقول : « اشتريت الدِّرْهَمَ بالثوب » .
وقدر بعضهم مضافاً فقال : بتعليم آياتي؛ لأن الآيات نفسها لا يُشْتَرَى بها ، ولا حَاجَةَ إلى ذلكح لأن معناه الاستبدال كما تقدم .
و « ثمناً » مفعول به ، و « قليلاً » صفته .
و « إيَّايَ فَاتَّقُونِ » كقوله : { وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة : 40 ] .
وقال هنا : « فَاتَّقُونِ » وهناك : « فَارْهَبُونِ » لأن ترك المأمور به هناك معصية ، وهي ترك ذكر النعمة والإيفاء بالعَهءد ، وهنا ترك الإيمان بالمنزل والاشتراء به ثمناً قليلاً كفر ، فناسب ذكر الرهب هناكح لأنه أخف يجوز العفو عنه لكونه معصية ، وذكر التقوى هنا؛ لأنه كفر لايجوز العفو عنه؛ لأن التقوى اتخاذ الوقاية لما هو كائن لا بُدْ منه .
فصل في الباعث على كفر زعماء اليهود
قال ابن عباس : إن رؤساء اليهود مثل كَعْب بن الأَشْرَشف وحُيَي بن أَخْطَبَ وأمثالهما كانوا يأخذون من فقراء اليهود الهَدَايا ، وعلموا أنهم لو ابتعوا محمداً لانقعطت عنه تلك الهدايا ، فأصروا على الكفر لئلا ينقطع عنهم ذلك القَدْرُ المحتقر .
قال القرطبي : في تفسيره : هذه الآية وإن كانت خاصّة ببني إسرائيل ، فهي تتناول من فعل فعلهم ، فمن أخذ رِشْوَةً على تغيير حق ، أو إبطاله ، أو امتنع من تعليم ما وجب عليه ، أو أداء ما علمه ، وقد تعيّن عليه حتى يأخذ عليه أجراً ، فقد دخل في مقتضى الآية .
وروى أبو داود عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« من تَعَلَّم علماً مما يبتغي به وَجْه الله لا يتعلَّمُهُ إلا لِيُصِيبَ به غرضاً من الدنيا لم يَجِدْ عرفَ الجَنَّةِ يوم القِيَامَةِ » يعني : ريحَهَا .
وقد اختلف العلماء في أخذ الأُجْرة على تعليم القرآن والعلم ، فمنع ذلك الزّهري ، وأصحاب الرأي وقالوا : لا يجوز أخذ الأُجْرة على تعليم القُرْآن؛ لأن تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نِيَّةِ التقرب ، فلا يؤخذ عليها أجره كالصَّلاة والصيام .
واستدلوا بالآية وروى أبو هريرة قال : قلت : يارسول الله ما تقول في المُعَلِّمِينَ؟ قال : « درهمهم حَرَام ، وشربهم سُحْتٌ وكلامهم رِيَاءٌ » .
وروى عبادة بن الصامت قال : علمت ناساً من أهل الصفّة القرآن والكتابة ، فأهدى إليّ رجل مهم قَوْساً ، فقلت : ليست بمال [ وأرمي ] عنها في سبيل الله ، فسألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « إنْ سَرَّكَ أن تُطَوَّقَ بها طَوْقاً من نارٍ فاقْبَلْهَا » .
وأجاز أخذ الأُجْرَةِ على تعليم القرآن مالكُ ، والشَّافعي ، وأحمد ، وأبو ثور ، وأكثر العلماء ، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الرُّقية :
« إنَّ أَحَقّ ما أَخَذْتُمْ عليه أجراً كِتَابُ الله » أخرجه البُخَاري ، وهو نصّ [ برفع الخلاف ، فينبغي أن يُعَوْل عليه ] .
وأما حُجّة [ المخالفين ] فقياسهم في مقابلة النَّص ، وهو قادر ، ويمكن الفرق ، وهو أن الصَّلاة والصَّوم عبادات مُخْتَصَّة بالفاعل ، وتعليم القرآن عبادة متعدّية لغير المعلم ، فيجوز الأجرة على مُحَاولته النقل كتعليم كتابة القرآن .
قال ابن المنذر ، وأبو حنيفة : يُكْره تعليم القرآن بأجرة ، ويجوز أن يستأجر الرجل يكتب له لوحاً أو شعراً أو غناء معلوماً بأجر معلوم ، فيجوز الإجارة فيما هو مَعْصية ، ويبطلها فيما هو طَاعَةٌ .
وأما الآية فهي خَاصَّة ببني إسرائيل ، وشرع من قبلنا هل هو شرعٌ لنا؟ فيه خلاف ، وهو لا يقول به ، ويمكن أن تكون الآية فيمن تعيّن عليه التَّعْليم ، فأبى حتى يأخذ عليه أجراً .
فأما إذا لم يتعيّن فيجوز له أخذ الأُجرة بدليل السُّنّة في ذلك ، وقد يتعيّن عليه إلاّ أنه ليس عنده ما ينفقه على نفسه ، ولا على عِيَالِهِ ، فلا يجب عليه التَّعليم ، وله أن يقبل على صِنْعَتِهِ وحِرْفَتِهِ . [ وأما أحاديثهم فلا يصح منها شيء في الدليل ] .
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
أمر بترك الإغواء والإضلال وإضلال الغير له طريقان :
أحدهما : أن يكون لغير قد سمع دَلاَئِلَ الحق ، فإضلاله لا يمكن إلا بتشويش دلائل الحقّ عليه بالشبهات .
والثاني : أن تخفي تلك الدَّلائل عنه ، وتمنعه من الوصول إليها فقوله : { وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل } إشارة إلى الأول ، وقولهك { وَتَكْتُمُواْ الحق } إشارة إلى الثاني .
والباء في قوله : « بالباطل » للإلصاق كقولك : « خلطت المَاءَ باللَّبَنِ » ، أي : لا تخلطوا الحقّ بالباطل ، فلا يتميز .
وقال « الزمخشري » : إن كانت صلةً مثلها في قولك : ليست الشيء بالشَّيء ، وخلطته به كان المعنى : ولا تَكْتُبُوا في التوراة ما ليس فيها فَيَخْتَلِطَ الحق المنزّل بالباطل الذي كتبتم .
وإن كانت « باء » الاستعانة كالتي في قولك : « كتبت بالقَلَمِ » كان المعنى : و لا تجعلوا الحقَّ مشتبهاً بباطلكم الذي تكتبونه .
فأجاز فيها وجهين كما ترى ، ولا يريد بقوله « صِلَة : انها زائدة ، بل يريد أنها موصلة للفعل كا تقدم .
وقال » أبو حيان « : » وفي جعله إياها للاستعانة بُعْد ، وصرف عن الظاهر من غير ضرورة « ، ولا أدري ما هذا الاستبعاد مع وضوح هذا المعنى الحق؟
وقال ابن الخطيب : [ إنها » باء « الاستعانة ] . والمعنى : ولا تلبسوا الحَقّ بسبب الشبهات التي تُورِدُونَهَا على السَّامعين ، وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد كانت نصوصاً خفيةً يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال ، ثم إنهم كاناو يُجَادلون فيها ، ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بإلقاء الشبهات ، فهذا هو المراد بقوله : { وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل } ، فهو المذكور في قوله : { وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق } [ غافر : 5 ] .
و » اللَّبْسُ « : الخَلْط والمَزْج؛ لقوله : لَبَسْتُ عليه الأمر أَلْبِسُهُ خَلَطْتُ بَيِّنَهُ بمُشْكِلِهِ؛ ومنه قوله الخَنْسَاءِ : [ البسيط ] .
436 تَرَى الجَلِيسَ يَقُولُ الحَقَّ تَحْسَبُهُ ... رُشْداً وَهَيْهَاتَ فَانْكُرْ مَا بِهِ الْتَبَسَا
صَدِّقْ مَقَالَتَهُ وَاحْذَرْ عَدَاوَتَه ... وَالْبِسْ عَلَيْهِ أُمُوراً مِثْلَ مَا لَبَسَا
وقال العَجَّاج : [ الرجز ]
437 [ لَمَّا لَبَسْنَ الحَقَّ بِالتَّجَنِّي ... غَنِينَ وَاسْتَبْدَلْنَ زَيْداً مِنِّي ]
ومنه أيضاً : [ البسيط ]
438 وَقَدْ لَبَسْتُ لِهَذَا الأَمْرِ أَعْصُرَهُ ... حَتَّى تَجَلَّلَ رَأْسِي الشَّيْبُ فَاشْتَعَلا
وفي فلان مَلْبَسٌ ، أي مستمتع؛ قال : [ الطويل ]
439 أَلاَ إِنَّ بَعْدَ العُدْمِ لِلْمَرْءِ قُنْوَةً ... وَبَعْدَ المَشِيبِ طُولَ عُمْرٍ وَمَلْبَسَا
وقول الفَرَّاء وغيره : [ الكامل ]
440 وَكتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِبَةٍ ... حَتَّى إِذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي
يحتمل أن يكون منه ، وأن يكون من » اللِّبَاس « ، والآية الكريمة تحتمل المعنيين ، أي : لا تغطّوا الحق بالباطل .
ولبس الهَوْدَج والكعبة : ما عليهما من » لِبَاس « بكسر اللام ولِبَاسُ الرجل زوجته ، وزوجها لِبَاسُهَا . قال تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } [ البقرة : 187 ] وقال النابغة : [ المتقارب ]
441 إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا ... تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكَانَنْ لِبَاسَا
و « اللَّبُوس » : كل ما يُلْبَس من ثياب ودرع؛ قال تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ } [ الأنبياء : 80 ] ولاَبَسْتُ فلاناً حتى عرفت باطنه .
و « الباطل » : ضد الحق ، وهو الزائل؛ كقول لَبِيدٍ : [ الطويل ]
442 أَلاَ كُلٌّ شَيْءٍ مَا خَلاَ الله بَاطِلُ ... ويقال : بَطَلَ الشيءُ يَبْطُلُ بُطُولاً وبُطْلاً وبُطْلانَاً .
و « البَطَل » : الشّجاع ، سمي بذلك؛ لأنه يبطل شجاعة غيره .
وقيل : لأنه يبطل دمه فهو « فَعَل » بمعنى « مفعول » .
وقيل : لأنه يبطل دم غيره فهو بمعنى « فاعل » . وقد بَطُلَ بالضَّم يَبْطُلُ بُطُولاً وبَطَالَةً ، أي : صار شجاعاً؛ قال النابغة : [ البسيط ]
443 لَهُمْ لِوَاءُ بِكَفِّيْ مَاجِدٍ بَطَلٍ ... لاَ يَقْطَعُ الخَرْقَ إلاَّ طَرْفُهُ سَامِي
وبَطَل الأجيرُ بالفتح بِطَالة بالكَسْر : إذا تعطَّل ، فهو بَطَّال ، وذهب دمه بُطْلاً بالضم أي : هدراً .
فصل في المراد من قوله تعالى : « الحق بالباطل »
اختلفوا في المراد من قوله : « الحَقّ بِالبَاطِلِ » فروي عن « ابن عباس » وغيره : لا تخلطوا ما عندكم من الحَقّ في الكتاب بالباطل ، وهو التغيير والتبديل .
وقال « أبو العالية » : قالت اليَهُود : محمد بمعوثٌ ولكن إلى غيرنا ، فإقرارهم ببعثته حق ، وجحدهم أه بعث اليهم باطل .
وقال « مجاهد » : لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام .
قوله : « وَتَكْتمُوا الحَقّ » فيه وجهان :
أحدهما ، وهو الأظهر : أنه مجزوم بالعَطْفِ على الفعل قبله ، نَهَاهم عن كل فعل على حِدَتِهِ ، أي : لا تفعلوا هذا ولا هذا .
والثاني : أنه منصوب بإضمار « أن » في جواب النهي بعد « الواو » التي تقتضي المعية ، أي : لا تجمعوا بين لَبْسِ الحق بالباطل وكِتْمَانه ، ومنه : [ الكامل ]
444 لا تَنْهَ عَنْ خُلُقِ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
و « أن » مع ما في حيّزها في تأويل مصدر ، فلا بد من تأويل الفعل الذي قبلها بمصدر أيضاً ليصبح عطف [ الاسم ] على مثله ، والتقدير : لا يكن منكم لَبْس الحق بالباطل وكتمانه ، وكذا سائر نظائره .
وقال « الكوفيون » : منصوب ب « واو » الصرف ، وقد تقدم معناه ، والوجه الأول أحسن؛ لأنه نهي عن كل فعل على حِدَتِهِ ، وأما الوجه الثاني فإنه نهي عن الجمع ، ولا يلزم من النَّهْي عن الجمع بين الشَّيئين النهي عن كل واحد حِدَتِهِ إلا بدليل خارجي .
فصل في المراد بالكتمان
قال « ابن عبَّاس » : يعني كتمانهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه .
وقال « محمد بن سِيرِينَ » : نزل عصابة من ولد هَارُونَ ب « يثرب » لما أصاب بني إسرائيل ما أصابهم من ظهور العَدُوْ عليهم ، وتلك العصابة هم حَمَلَةُ التوراة يومئذ ، فأقاموا ب « يثرب » يرجون أن يخرج محمد صلى الله عليه وسلم بين ظَهْرَانيهم ، وهم مؤمنون مصدقون بنبوته ، فمضى أولئك الآباء ، وهم مؤمنون ، وخلف الأبناء وأبناء الأبناء ، فأدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم فكفروا به وهم يعرفون ، وهو معنى قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [ البقرة : 89 ] .
قوله : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جملة من مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحَالِ ، وعاملها : إما « تلبسوا » أو « تكتموا » إلاّ أن عمل « تكتموا » أولى لوجهين :
أحدهما : أنه أقرب .
والثاني : أن كتمان الحَقّ مع العلم به أبلغ ذمّاً ، وفيه نوع مقابلة .
ولا يجوز أن تكون المسألة من باب الإعمال؛ لأنه يستدعي الإضمار ، ولا يجوز إضمار الحال؛ لأنه لا يكون إلا نكرةّ ، ولذلك منعوا الإخبار عنه ب « الذي » .
فإن قيل : تكون المسألة من باب الإعمال على معنى أنا حذفنا من الأوّل ما أثبتناه في الثاني من غير إضمار ، حتى لا يلزم المَحْظور المذكور ، والتتقدير : ولا تلبسوا الحق بالباطل وأنتم تعلمون ، ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمون .
فالجواب : أن هذا لايقال : فيه إعمال ، لأن الإعمال يستدعي أن يضمر في المهمل ، ثم يحذف .
وأجاز « ابن عطيَّة » ألا تكون هذه الجملة حالاً ، فإنه قال : « ويحتمل أن تكمون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد عليه الصلاة والسلام ، ولم يشهد لهم بالعلم على الإطلاق ، فعلى هذا لا تكون الجُمْلة في موقع الحال » . وفيما قاله نظر .
وقرىء شاذاً : « وَتَكْتُمُونَ » بالرفع ، وخرجوها على أنها حَالٌ ، وهذا غير صحيح؛ لأنه مضارع مثبت فمن حقه ألا يقترن بالواو ، وما ورد من ذلك ، فهو مؤول بإضمار متبدأ قبله ، نحو : « قُمْتُ وأَصُكُّ عَيْنَهُ » ، وقول الآخر : [ االمتقارب ]
445 فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرَهُمْ ... نَجَوْتُ وأرْهَنُهُمْ مَالِكَا
أي : « وأَنَا أَصُكُّ » ، و « أَنَا أَرْهَنُهُمْ » ، وكذا « وأنتم تكتمون » ، إلا أنه يلزم منه إشكال آخر ، وهو أنهم منهيُّون عن اللّبس مطلقاً ، والحال قيد في الجملة السابقة ، فيكون قد نهوا بقيد ، وليس ذلك مراداً إلاّ أن [ يقال : إنها حال لازمة ، وقد قيّده « الزمخشري » ب « كاتمين » ، فجعله حالاً ، وفيه الإشكال المقتدّم ، إلاّ أنه ] يكون أراد تفسير المعنى لا تفسير الإعرابن قال « ابن الخطيب » : وجواب الإشكال أنه إذا لم يعلم حال الشيء لم يعلم أن ذلك اللبس والكتمان حق أو باطل ، وما لا يعرف كونه حقًّا وباطلاً لا يجوز الإقدام عليه بالنفي ، ولا بالإثبات ، بل يجب التوقّف فيه . وسبب ذكر هذا القيد أن الإقدام على الفعل الضَّار مع العلم بكونه ضارًّا أفحش من الإقدام عليه عند الجَهْلِ بكونه ضارّاً ، فلما كانوا عالمين [ بما ] في التبليس من المفاسد كان إقدامهم عليه أقبح .
ويجوز أن تكون جلمة خبرية عطفت على جملة طلبية ، كأنه تعالى نَعَى عليهم كتمهم الحقّ مع علمهم أنه حق .
[ ومفعول ] العلم غير مُرَاد؛ لأن المعنى : وأنتم من ذوي العلم .
وقيل : حذف للعلم به ، والتقدير : تعلمون الحقّ من الباطل .
وقدره « الزمخشري » : « وأنتم تعلمون في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون » ، فجعل المفعول اللَّبْس والكَتْم المفهومين من الفعلين السابقين . وهو حسن .
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
أمرهم بالإيمان ، ثم نهاهم عن لَبْس الحق الباطلن وكِتْمَان دلائل النُّبوة ، ثم ذكر بعد ذلك بيان ما لزمهم من الشّرائع ، وذكر من جملته ما هو كالأصل فيها ، وهو الصَّلاة التي هي أعظم العبادات البدنية ، والزكاة التي هي أعظم العبادات المالية .
قوله : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } هذه الجُمْلَة وما بعدها عطف على الجملة قبلها عطف أمر على نهي .
وأصل « أقيموا » : « أقْوِمُوا » ، ففعل به ما فعل ب { وَيُقِيمُونَ } [ البقرة : 3 ] وقد تقدحم الكلام عليها وعلى « الصًّلاة » ، وأصل « آتوا » « ائْتِيُوا » بهمزتين مثل « أكْرِمُوا » ، فقلبت الثانية ألفاً لسكونها بعد همزة مفتوحة ، واستثقلت الضمة على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان « الياء والواو » ، فحذفت الياء؛ لأنها أول وحركت التاء بحركتها .
وقيل : بل ضمت تبعاً للواو ، كما ضم آخر « اضربوا » ونحوه ، ووزنه : « افعوا » بحذف اللام .
وألف « الزكاة » منقلبة عن واو ، لقولهم : زَكَوَات ، وزَكَا يَزْكُو ، وهي النحو .
وقيل : الطهارة .
وقيل : أصلها الثَّنَاء الجميل ، ومنه : زكى القاضي الشُّهود ، والزَّكَا : الزوج صار زوجاً بزيادة فرد آخر عليه ، والخَسَا : الفرد ، قال : [ البسيط ]
446 كَانُوا خَساً أَوْ زَكاً مِنْ دُونِ أْرْبَعَةٍ ... لَمْ يَخْلَقُوا وَجُدُودُ النَّاسِ تعْتَلِجُ
قوله : { مَعَ الراكعين } منصوب ب « ارْكَعُوا » .
و « الركوع » : الطّمأنينة والانْحِنَاء ، ومنه قوله : [ الطويل ]
447 أُخَبِّرُ أْخْبَارَ القُرُونِ الَّتِي مَضَتْ ... أَدِبُّ كَأَنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ
وقيل : الخضوع والذِّلَّة؛ ومنه : [ المسرح ]
448 وَلاَ تُهِينَ الفَقِيرَ عَلَّكَ أنْ ... تَرْكَعَ يَوْماً والدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ
فصل في عدم تأخير البيان عن الحاجة
قال ابن الخطيب : القائلون بأنه لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب ، قالوا : إنما جاء في قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } بعد أن كان النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام وصف لهم أركان الصَّلاة وشرائطها ، فكأنه تعالى قال : وأقيموا الصلاة التي عرفتموها ، والقائلون بجواز التأخير قالوا : يجوز أن يراد الأمر بالصَّلاة ، وإن كانوا لا يعرفون أن الصَّلاة ما هي؟ ويكون المقصود أن يوطن السَّامع نفسه على الامتثال ، وإن كان لا يعلم أن المأمور به ، ما هو؟ كما يقول السيد لعبده : إني آمرك غداً بشيء فلا بد وأن تفعله ، ويكون غرضه مه بأن يعزم العَبْدُ في الحال على أدائه في الوقت الثاني .
فصل في أن الكفار مخاطبون بفروع الشرع
قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة } خطاب مع اليهود ، وذلك يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام . فإن قيل : قوله : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } أمر بالصَّلاة ، وقوله : { واركعوا مَعَ الراكعين } أمر بالصّلاة أيضاً ، فيكون تكراراً .
فالجواب : أن قوله : { واركعوا مَعَ الراكعين } أي : صَلُّوا مع المصلِّين ، ففي الأوّل أمر بإقامة الصَّلاة ، وفي الثاني أمر بفعلها في الجماعة فلا تكْرار
وقيل : إن اليهود لا ركوع في صلواتهم ، فخصّ الركوع بالذكر تحريضاً لهم على الإتيان بصلاة المسلمين .
وقيل : الركوع : الخضوع ، فيكون نهياً عن الاستكبار المذموم .
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
الهمزة في « أتأمرون » للإنكار والتَّوبيخ ، أو للتعجُّب من حالهم .
و « أمر » يتعدى لاثنين : أحدهما بنفسه ، والآخر بحرف الجر ، وقد يحذف ، وقد جمع الشاعرُ بين الأمرين في قوله : [ البسيط ]
449 أَمْرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ ... فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبِ
و « الناس » مفعول أول ، و « بالبر » مفعول ثانٍ ، و « البر » سَعَةُ الخير من الصّلة والطاعة ، ومنه : « البرّ » و « البَرِيَة » لسعتهان والفعل منه : « بَرَّ يَبَرُّ » ، على وزن « فَعِلَ يَفْعَلَ » ك « عَلِمَ يَعْلَمُ » ؛ قال : [ الرجز ]
450 لاهُمَّ رَبِّ إنَّ بَكْراً دُونَكَا ... يَبَرُّكَ النَّاسُ وَيَفْجُرُونَكَا
أي : يطيعونك .
و « البِرّ » أيضاً : ولد الثَّعْلب ، وسوق الغَنَم ، ومنه قولهم : « لا يعرفُ الهِرَّ مِنَ البِرِّ » ، أي لا يعرف دُعَاءها من سوقها .
و « البِرّ » أيضاً : الفؤادُ ، قال : [ الطويل ]
451 أَكُونُ مَكَانَ البِرِّ مِنْهُ ودُونَهُ ... وَأَجْعَلُ مَا لِي دُونَهُ وأُوَامِرُهْ
و « البَرّ » بالفتح الإجْلاَل والتعظيم ، ومنه : ولد بَرّ بوالديه ، أي يعظمهما ، والله تعالى بَرّ لِسَعَعِ خيره على خَلْقِهِ ، وقد يكون بمعنى الصدقِ كما يقال : بَرّ في يمينه أي : صدق ولم يَحْنَثْ ويقال : صَدَقْتُ وَبَرَرْتُ .
قوله : { وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } داخل في حَيّز الإنكار ، وأصل « تنسون » : تَنْسَيُون « فأُعلّ بحذف الياء بعد سكونها ، وقد تقدّم في { اشتروا } [ البقرة : 16 ] فوزنه » تَفْعُون « والنسيان : ضد الذِّكْرن وهو السَّهو الحاصل بعد حصول لعلم ، وقد يطلق على التَّرك ، ومنه : » نَسُوا اللهِ فَنَسِيَهُمْ « ، وقد يدحخله التعليق حملاً على نقيضه ، قال : [ الطويل ]
452 وَمَنْ أَنْتُمُ إِنَّا نَسِينَا مَنَ أَنْتُمُ ... وَرِيحُكُمْ مِنْ أَيِّ رِيحِ الأَعَاصِرِ
ويقال : رجل » نَسْيَان « [ بفتح النون كثير النِّسْيَان ونسيت الشيء نِسْيَاناً ، ولا يقال : » نَسَيَاناً « ] بالتحريك ، لأن النَّسَيَان تثنية نَسَا العِرْق .
و » الأَنْفُس « : جمع نَفْس .
فإن قيل : النّسيان عبارة عن السّهو الحادث بعد حصول العلم ، والنَّاسي غير مكلّف ومن لا يكون مكلفاً لا يجوز أن يذمّه الله تعالى على ما صدر منه ، فالمراد بقوله : { وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أنكم تغلفون عن حق أنفسكم ، وتعدلون عما لها فيه من النَّفْعِ .
قوله : { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب } مبتدأ وخبر في محلّ نصب على حال ، العامل فها » تنسون « .
و » التّلاوة « : التتابع ، ومنه تولاة القرآنح لأن القارىء يتبع كلماته بَعْضَها ببعض ، ومنه : { والقمر إِذَا تَلاَهَا } [ الشمس : 2 ] واصل » تتلوون « بواوين فاستثقلت الضمة على الواو الأولى فحذفتن فالتقى ساكنان ، فحذفت الأولى فوزنه » تفعون « .
ويقال : تلوته إذا تبعته تلواً ، وتلوت القرآن تِلاَوَةَ . وتلوت الرجل تلواً إذا خذلته . والتَّلِيَّة والتُّلاوة : البقية ، يقال : تليت لي من حقّي تلاوةً وتليةً أي بقيت .
وأتليت : أبقيت .
وتتليت حقّي إذا تتبعته حتى تستوفيه .
قال « أبو زيد » : « تلي الرجل إذا كان بآخر رمق » .
قوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } الهمزة للإنكار أيضاً ، وهي في نية التأخير عن الفاء؛ لأنها حرف عطف ، وكذا تتقدّم أيضاً على « الواو » و « ثم » نحو : { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 77 ] { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ } [ يونس : 51 ] والنِّيَة بها التأخير ، ما عدا ذلك من حروف العطف فلا تتقدّم عليه ، تقول : « ما قام زيد بل أقعد؟ » هذا مذهب الجُمْهور .
وزعم « الزمَّخشري » أن الهمزة في موضعها غير مَنْوِيّ بها التأخير ، ويقدر قبل « الفاء » و « الواو » و « ثم » فعلاً محذوفاً ، فاعطف عليه ما بعده فيقدر هنا : أتغفلون فلا تعقلون ، وكذا { أَفَلَمْ يَرَوْاْ } [ سبأ : 9 ] أي : أعموا فَلَم يروا؟
وقد خالف هذا الأصل ووافق الجمهور في مواضع يأتي التنبيه عليها إن شاء الله تعالى .
ومفعول « تعقلون » غير مراد؛ لأن لامعنى : أفلا يكون منكم عَقْل ، وقيل تقديره : أفلا تعقلون قُبْحَ ما ارتكبتم من ذلك .
والعَقْل : الإدراك المانع من الخطأ ، وأصله المَنْعن منه العِقَال ، لأنه يمنع البعير عن الحَرَكَةِ ، وَعَقْل الدِّيَةِ ، لأنه يمنع من قَتْلِ الجَانِي ، والعَقْل أيضاً ثُوْب موشَّى؛ قال عقلمة : [ البسيط ]
453 عَقْلاً وَرَقْماً يَظَلُّ الطَّيْرُ يَتْبَعُهُ ... كَأَنَّهُ مِنْ دَمِ الأجْوافِ مَدْمُومُ
قال ابن فارس : « والعَقْل من شِيَاتِ الثيابِ ما كان نقشه طولاً ، ما كانن نقشه مستديراً فهو الرَّقم » . ولا محلّ لهذه الجملة لاستئنافها .
فصل في المراد بالبر في الآية
اختلفوا في المراد بالبرّ في هذا الموضع على وجوه :
أحدها : قال « السُّدّي » إنهم كانوا يأمرون النَّاس بطاعة الله ، وينهونهم عن معصية الله ، وهم يتركون الطّاعةن ويقدمون على المعصية .
وثانيها : قال « ابن جُرَيْجٍ » إنهم كانوا يأمرون النَّاس بالصَّلاة والزكاة ، وهم يتركونها .
وثالثها : كان إذا جاءهم أحد في الخُفْية لاستعلام أمر محمد صلى الله عليه وسلم قالوا : هو صادق فيما يقول ، أمره حقّ فاتبعوه ، وهم كانوا لايتبعونه لطمعهم في الهَدَايا والصّلات التي كانت تصل إليهم من أتباعهم .
ورابعها : أن جماعة من اليهود كانو قبل مَبْعَثِ الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام يخبرون بعث الله محداً صلى الله عليه وسلم حَسَدُوهُ وكفروا به ، فبكّتهم الله تعالى بسبب أنهم كانوا يأمرون باتباعه قبل ظهوره ، فلما ظهر تركوه ، وأعرضوا عن دينه ، وهذا اختيار « أبي مُسْلِم » .
وخاسمها : قال « الزَّجَّاج » : « إنهم كانوا يأمرون الناس ببَذْلِ الصدقة ، وكانوا يشحُّون بها ، لأن الله تعالى وصفهم بقَسَاوَةِ القلوبن وأكل الربا والسُّحت » .
فصل في سبب هذا التعجب
سبب هذا التعجُّب وجوه :
الأوْل : أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغَيْر إلى تحصيل المصلحة ، وتحذيره عما يوقعه في المَفْسَدَةِن والإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير .
الثاني : أنّ من وعظ النَّاس ، وأظهر علمه للخلق ، ثم لم يَتَّعظ صار ذلك الوَعْظُ سبباً لرغبة الناس في المعصية؛ لأن الناس يقولون : إنه مع هذا العلم لولا أنه مُطّلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات ، وإلاّ لما أقدم على المَعْصية ، وإذا كان الوَاعِظ زاجراً عن المعصية ، ويأتي بفعل يوجب الجَرَاءة على المعصية ، فكأنه جمع بين المُتَناقضين ، وذلك لا يليق بالعاقل .
والثالث : أنّ من وعظ ، فلا بد وأن يجتهد في أن يصير وعظه نافذاً في القلوب ، والإقدام على المعصية مما يُنَفّر القلوب عن القبول .
فصيل في دفع شبه المبتدعة في اشتراطهم العدالة في الأمر بالمعروف
قال : « القُرْطبي » : « احتجّت المبتدعة بقوله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } ، وقوله تعالى : { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 3 ] على أنه يشترط فيمن يأمن بالمعروف ، وينهى عن المنكر أني كون عدلاً .
قال : وهذا استدلال سَاقِطٌ؛ لأن الذم هاهنا إنما وقع على ارتكاب ما نهى عنه لا عن نهيه عن المنكر ، ولا شك أن النهى عن المنكر ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه ، وأيضاً فإن العَدَالَة محصورة في القليل من الناس ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس .
وذكر عن » ابن عبدالبر « أنه قال : أجمع المسلمون على أنه لا يَجِبُ على كلّ من قدر على إزالة المنكر أن يغيره إذغ لم يحصل له بتغييره إلا اللَّوم الذي لا يصل إلى الأذى .
فصل في ماهية العقل
قال بعض الفلاسفة : العَقْلُ جَوْهَرٌ لطيف في البَدَنِ ينبثّ شعاعه منه بمنزلة السِّرَاج في البيت ، يفصل بين حَقَائق المعلومات .
ومنهم من قال : إنه جَوْهَرٌ بسيط ، ثم اختلفوا في محلّه .
فقالت طائفة منهمك محلّه الدِّماغ؛ لأن الدماغ محل الحسّ .
ومنهم من قال : محله القلب؛ لأن القلب معدن الحَيَاة ، ومادّة الحواس .
وقالت طائفة : محله القلب وله أشعة إلى الدماغ .
وقال » أبو الحسن الأشعري وأبو إسحاق الإسفراييني « وغيرهما : العقل هو العِلْم .
وقال » القاضي أبو بكر « : العَقْلُ علوم ضرورية بوجوب الواجبات ، وجواز الجائزات ، واستحالة المستحيلات .
واختار » أبو المَعَالي « في » البُرْهان « أنه صفة يتأتى بها دَرْكُ العُلُوم .
وقال » الشافعي « : العَقْلُ غريزةٌ .
وقال » أبو العَبَّاس القلانسي « : العقل قوة التَّمييز .
وحكي عن » المحاسبي « أنه قال : العَقْل أنوار وبصائر .
فصل في خلق أفعال العباد
احتجّت المعتزلة بهذه الآية على أنّ فعل العبد غير مخلوق لله تعالى فقالوا قوله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } إنما يصحّ ، ويحسن لو كان ذلك الفعل منهم ، فأما إذا كان مخلوقاً فيهم على سبيل الاضطرار ، فإن ذلك لا يحسن إذ لا يجوز أن يقال للأسود : لم لا تبيض؟
والجواب : أنّ قدرته لما صلحت للضدين بأن حصل أحد الضدين دون الآخر لا لمرجع كان ذلك مَحْض الاتفاق ، والأمر الاتفاقي لا يمكن التوبيخ عليه ، وإن حصل المرجح فإن كان ذلك المرجح منه عاد البَحْث فيه ، وإن حصل من الله تعالى فعند حصوله يصير ذلك الطرف راجاً ، والآخر مرجوحاً ، والمرجوح ممتنع الوقوع؛ لأنه حال الاستواء لما كان ممتنع الوقوع ، فحال المرجوحية أولى بأن يكون ممتنع الوقوع ، وإذا امتنع أحد النقيضين وجب الآخر ، فيعود عليهم ما أوردوه ، ثم الجواب الحَقِيقي عن الكل : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [ الأنبياء : 23 ] .
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)
قوله : { واستعينوا بالصبر والصلاة } جملة أمرية عطف على ما قبلها من الأوامر ، ولكن اعترض بينهما بهذه الجمل .
وأصل « اسْتَعِنُوا » : « اسْتَعونُوا » ففعل فيه ما فعل في « نَسْتَعِين » وقد تقدم تحقيقه ومعناه . و « بالصبر » متعلّق به ، والياء للاستعانة أو للسّببية ، والمُسْتَعَان عليه محذوف ليعم جميع الأحوال المستعان عليهان واستعان يتعدّى بنفسه نحو : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، ويجوز أن تكون الباء للحال ، أي : مُلْتَبِسِينَ بالصبر .
والظَّاهر أنه يتعدّي بنفسه وبالباء ، تقول : استعنت الهل واستعنت بالله ، وقد تقدم أن السِّين للطلب .
والصّبر : الحبس على المكروه؛ ومنه : « قُتِلَ فُلاَنٌ صَبْراً » ؛ قال : [ الوافر ]
454 فَصَبْراً في مَجَالِ المَوْتِ صَبْراً ... فَمَا نَيْلُ الخُلُودِ بِمُسْتَطَاعِ
و « المَصْبُورة » التي نهي عنها في الحديث هي المَحْبوسة على الموت ، وهي المجثمة . والصبر المأمور به هو الصَّبر على الطَّاعة .
قال النحاسيك « ولا يقال لمن صبر على المصيبة : صابر إنما يقال : صابر على كذا » . ويرده قوله تعالى : { وَبَشِّرِ الصابرين } [ البقرة : 155 ] ثم قال : { الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ } [ البقرة : 156 ] الآية .
فصل في فضل الصلاة
خص الصلاة بالذكر من بين سائر العِبَادات تنويهاً بذكرها .
وكان عليه الصلاة والسَّلام « إذا حَزَبَهُ أمر فَزَعَ إلى الصَّلاة » .
ومنه ما روي عن عبدالله بن عَبَّاسِ أنه نُعي إليه أخوه قثم وقيل بنت له وهو سَفَرٍ فاسْتَرجع وقال : عَوْرَةٌ سَتَرَها الله ، ومُؤْنَةٌ كَفَاها الله ، واجْرٌ ساقه الله ، ثم تَنَحَّى عن الطريق وصَلَّى ، ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ : { واستعينوا بالصبر والصلاة } .
فالصلاة على هذا التأويل هي الشرعية .
وقال قومك هي الدعاء على عرفها في اللُّغة ، فتكون الآية على هذا التأويل مشبهة لقوله تعالى : { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله } [ الأنفال : 45 ] ؛ لأن الثبات هو الصبر ، والذكر هو الدعاء .
وقال مجاهد : الصبر في هذه الآية الصَّوم ، ومنه قيل لرمضان : شهر الصَّبْرِ ، فجاء الصَّوم والصَّلاة على هذا القول في الآية متناسباً في أن الصِّيَام يمنع من الشَّهَوَات ، ويزهد في الدنيا ، والصَّلاة تنهى عن الفَحْشَاء والمُنْكَرِ ، وتخشع ، ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر الآخرة .
وإنما قد الصَّبر على الصلاة؛ لأن تأثير الصَّبر في إزالة ما لا ينبغي ، وتأثير الصَّلاة في حصول ما ينبغي .
وقد وصف الله تعالى نفسه بالصَّبْرِ كما في حديث أبو موسى عن النبي صلى الله عليه سلم قال : « ليس أَحَدٌ أو ليس شيء أَصْبَرَ على أَذَى سمعه من الله تعالى إنهم ليدعون له ولداّ وإنه ليُعَافِيهمْ ويَرْزُقُهُمْ » أخرجه البُخَاري .
قال العلماء : وَصْفُ الله تعالى بالبصبر إنما هو بمعنى الحِلْمِ ، ومعنى وصفه تعالى بالحِلْمِ هو تأخير العقوبة عن مستحقِّيها ، ووصْفُهُ تعالى بالصَّبْرِ لم يرد في التنزيل ، وإنما ودر في حديث أبي موسى وتأوله أهل السُّنة على الحِلْمِ ، قاله « ابن فورك » وغيره .
وجاء في أسمائه « الصبور » للمبالغة في الحِلْمِ عمن عَصَاه .
قوله : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } إن واسمها وخبرها ، والضَّمير في « إ‘نها » قيل : يعود على « الصلاة » ، وإن تقدم شيئان؛ لأنها أغلب منه وأهم ، وهو نظير قوله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] أعاد الضمير على التِّجَارة؛ لأنها أهم وأغلب ، كذا قيل ، وفيه نظر؛ لأن العطف ب « أو » فيجب الإفراد ، لكن المراد أنه ذكر الأهم من الشَّيئين ، فهو نظيرها من هذه الجهة .
وقيل : يعود على الاستعانة المفهومة من الفعل نحو : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] .
وقيل : على العبادة المّدْلُول عليها بالصَّبر والصلاة ، وقيل : هو عائد على الصبر والصَّلاة ، وإن كان بلفظ المفرد ، وهذا ليس بشيء .
وقيل : حذف من الأول لدلالة الثاني عليه؛ وتقديره : وإنه لكبيرٌ؛ نحو قوله [ الخفيف ]
455 إنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ والشَّعَرَ الأَسْوَدَ ... مَالَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونا
ولم يقل : « يُعَاصيا » ردّ إلى الشباب؛ لأن الشعر داخل فيه ، وكذا الصَّبر لما كان داخلاً في الصلاة عاد عليها كما قال : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ، ولم يقل : يرضوهما؛ لأن رضا الرسول داخلٌ في رِضَا الله عَزّ وجلّ .
وقيل : ردّ الكتابة إلى كل واحد منهما ، لكن حذف اختصاراً ، كقوله : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [ المؤمنون : 50 ] ، ولم يقل : آيتين ، وقال الشاعر : [ الطويل ]
456 فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
أراد : « لَغَرِيبَانِ » .
وقيل : على إجابة محمد عليه الصَّلاة والسَّلام ، لأنَّ الصبر والصَّلاة مما كان يدعو إليه ، وقيل : على الكَعْبَةِ؛ لأن الأمر بالصَّلاة إنما هو إليها .
قوله : « لَكَبِيرَةٌ » : لشاقَة ثقيلة من قولك : كَبُرَ هذا عليَّ؛ قال تعالى : { كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } [ الشورى : 13 ] .
و « إلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ » استثناء مُفَرّع ، وجاز ذلك وإن كان الكلام مثبتاً ، لأنه في قوة النفي ، أي لا تسهل ولا تخفّ إلا على هؤلاء .
و « عَلَى الخَاشِعِين » متعلّق ب « كبيرة » نحو : « كَبُرَ عليّ هذا » أيك عظم وشق .
فإن قيل : إن كانت ثقيلةً على هؤلاء سهلةً على الخاشعين ، فوجب أن يكون ثوابهم أكثر ، وثواب الخاشعين أقلّ ، وهذا باطل .
فالجواب : ليس المراد أن الذي يحلقهم من التَّعب أكثر مما يلحق الخاشع ، وكيف يكون ذلك ، والخاشع يستعمل عند صلاته جوارِحَهُ وقَلْبَهُ وسمعه وبصره ، ولا يغفل عن تدبُّر ما يأتي من الذِّكر ، والتذلُّل والخضوع ، وإذا تذكّر الوعيد لم يخل من حَسْرَةٍ وغَمّ ، وإذا ذكر الوَعْدَ فكمثل ذلك ، وإذا كان هذا فعل الخاشع فالثِّقْلُ عليه بفعل صلاته أعظم ، وإنما المراد بقوله هاهنا لثقيلة على من لم يَخْشَعْ من حيث لا يعتقد في فعلها ثواباً ، ولا في تركها عقاباً ، فيصعب عليه فلعها؛ لأن الاشتغال بما لا فائدة فيه يثقل على الطَّبْعِ .
و « الخشوع » ك الخضوع ، وأصله : اللِّينُ والسُّهولة ، ومنه « الخُشْعَةُ » للرَّمْلَةِ ، وقيل : قطعة من الأرض رخوة ، وفي الحديث « كَانَتْ خُشْعَةً على المَاءِ ثم دُحِيَتْ بَعْدُ » أي : كانت الأرض لَيِّنَةً .
وقال النابغة : [ الطويل ]
457 رَمَادٌ كَكُحْلِ العَيْنِ لأْياً أُبَيِّنُهُ ... ونُؤْيٌ كَجِذْمِ الحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ
أي : عليه أثر الذُّل .
وفرق بعضهم بين الخضوع والخشوع ، فقال : الخضوع في البدن خاصّة ، والخشوع في البَدَن والصّوت والبَصَرِ ، فهو أعم منه .
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
« الذين » يحتمل موضعه الحَرَكات الثلاث ، فالجر على أنه تابع لما قبله نعتاً ، وهو الظَّاهر ، والرفع والنَّصْب على القطع ، وقند تقدم معناه .
وأصل الظَّن رجحان أحد الطرفين وأما هذه الآية ففيها أوجه :
أحدهما : وعليه الأكثر أن الظَّن هاهنا بمعنى اليقين؛ ومثله { أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } [ الحاقة : 20 ] ؛ وقال تعالى : { أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ } [ المطففين : 4 ] .
وقال دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّة : [ الطويل ]
458 فَقُلْتُ لَهُمْك ظُنُّوا بأَلْفَي مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمْ في الفَارِسِيِّ المُسَرَّدِ
وقال أبو دُؤَاد : [ الخفيف ]
459 رُبَّ هَمٍّ فَرَّجْتُهُ بِعزيمٍ ... وُغُيُوبِ كَشَّفْتُهَا بِظُنُونِ
فاسْتُعْمِلَ الظَّن استعمال اليَقين [ مجازاً ، كما استعمل العِلْم استعمال الظّن؛ كقوله : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } [ الممتحنة : 10 ] ولكن العرب لا تستعمل الظَّن استعمال اليقين ] إلاّ فيما لم يخرج إلى الحسّ والمشاهدة كالآيتين والبَيْت ، ولا تجدهم يقولون في رجل حاضر : أظنّ هذا إنساناً .
قائلو هذا القول قالوا : إن الظن هنا بمعنى العلم ، قالوا : لأنّ الظن وهو الاعتقاد الذي يقارنه تجويز النقيض يقتضي أن يكون صاحبه غير جازم بيوم القيامة ، وذلك كفر والله تعالى مدح على [ الظّن ] ، والمدح على الكُفْرِ غير جائز ، فوجب أن يكون المراد من الظن هاهنا العلم ، وسبب هذا المجاز أن العلم والظن يشتركان في كون كل واحد منهما اعتقاداً راجحاً ، إلا أن العلم راجحٌ مانعن من النقيض ، والظن راجحُ غير مانع من النقيض ، فلما اشتبها من هذا الوجه صَحّ إطلاق اسم أحدهما على الآخر ، كما في الآية والبَيْت .
والثاني : أن الظّن على بابه وفيه تأويلان :
أحدهما : أن تجعل مُلاَقَاة الرب مجازاً عن الموت؛ لأن مُلاَقاة الرب سبب عن الموت ، فأطلق المسبّب ، وأراد السبب ، وهو مجاز مشهور فإنه يقال لمن مات : إنه لقي رَبَّهُ ، فتقدير الآية : وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو المَوْت في كل لَحْظَةِ ، فإن من كان متوقعاً للموت في كل لحظة ، فإنه لا يفارق قلبه الخشوع .
وثانيها : أنهم يظنون مُلاَقاة ثواب ربهم؛ لأنهم ليسوا قاطعين بالثواب ، دون العِقَاب ، والتقدير : يظنون أنهم ملاقو ثَوَاب ربهم ، ولكن يشكل على هذا عطف { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } فإنه إذا أعدناه على الثَّوَاب المقدر ، فيزول الإشْكَال أو يقال : إنه بالنسبة إلى الأوّل بمعنى الظَّن على بابه ، وبالنِّسْبَة إلى الثَّاني بمعنى اليقين ، ويكون قد جمع في الكلمة الوَاحِدَةِ بين الحقيقة والمجاز ، وهي مسألة خلاف .
وثالثها : قال المَهْدَوِيّ والمَاوَرْدِيّ وغيرهما : أن يضمر في الكلام « بذنوبهم » ، فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين؛ لأن الإنسان الخاشع قد ينسى ظنه بيقينه وبأعماله .
قال « ابن عطية » : « وهذا تعسُّف » .
فصل في أوجه ورود لفظ الظن
قال « أبو العباس المقرىء » : وقد ورد « الظَّن » في القرآن بإزاء خمسة معان :
الأول : بمعنى « اليقين » كهذه الآية ، ومثله :
{ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } ، [ الحاقة : 20 ] ومثله : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله } [ البقرة : 249 ] .
الثاني : بمعنى « الشَّك » قال تعالى : { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } [ الجاثية : 32 ] .
الثالثك بمعنى « حسب » قال تعالى : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } [ الانشقاق : 14 ] أي : حسب ألا يرجع ، ومثله : { ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [ فصلت : 22 ] .
الرابع : بمعنى « الإنكار » قال تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ ص : 27 ] أي : إنكارهم .
والخامس : بمعنى « الجَحْد » قال تعالى : { وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب } [ يونس : 60 ] أي : وما جَحْدُهم .
و « أن » وما في حَيْزها سادّة مسدّ المفعولين عند الجمهور ، ومَسَدّ الأول والثاني محذوف عند « الأخفش » ، وقد تقدّم تحقيقه .
و : مُلاَقُو رَبِّهِمْ « من باب إضافة اسم الفاعل لمعموله إضافة تخفيف؛ لأنه مستقبل ، وحذفت النون للإضافة ، والأصل : » مُلاَقُون ربَهم « والمُفَاعلة هنا بمعنى الثلاثي نحو : عَافَاكَ الله .
قال » المهدوي « : قال » ابن عطية « : وهذا ضعيف؛ لأن » لَقِيَ « يتضمن مَعْنَى » لاَقى « . كأنه يعني أن المادّة لذاتها تقتضي المُشَاركة بخلاف غيرها من » عَاقَبْت وطَارَقْت وعَافَاك « .
وقد تقدم أن في الكلام حذفاً تقديره : ملاقو ثَوَاب ربهم وعقابه .
قال » ابن عطية « : » ويصح أن تكون المُلاَقاة هاهنا بالرؤية التي عليها أهل السُّنة ، وورد بها متواتر الحديث « . فعلى هذا الذي قاله لا يحتاج إلى حَذْفِ مضاف .
و » أَنَّهُمْ إلَيْهِ رَاجِعُونَ « عطف على » أنهم « وما في حَيّزها ، و » إليه « متعلّق ب » راجعون « ، والضمير : إما للرَّبِّ سبحانه ، أو للثواب كما تقدّم ، أو للقاء المفهوم من قولهك » إنهم مُلاَقُوا « .
ويجوز : » وإنهم « بالكسر على القطع .
فصل في رؤية الله تعالى
استدّل بعض العلماء بقوله : » مُلاَقُو رَبِّهِمْ « على جواز رؤية الله تعالى ، قالت المعتزلة : لفظ اللِّقاء لا يفيد الرؤية ، لقوله تعالى : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } [ التوبة : 77 ] ، وقوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً } [ الفرقان : 68 ] ، وقوله : { واتقوا الله واعلموا أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ } [ البقرة : 223 ] وهو يتناول المؤمن والكافر ، والرؤية لا تثبت للكافر ، وقوله عليه الصلاة والسلام : » من حَلَفَ على يَمِينٍ ليقتطع بها مَالَ أمْرىءٍ مسلمٍ لَقِيَ الله وهو عَلَيْه غَضْبان « وليس المراد رؤية الله؛ لأن ذلك وصف لأهل النار ، فعلمنا أ ن اللقاء ليس عبارةً عن الرؤية . وفي العرف قول المسلمين : من مات لَقِيَ الله ، ولا يعنون أنه رأى الله ، وأيضاً فاللقاء يراد به القُرْب ، فإن الأمير إذا أذن للشَّخص في الدخول عليه يقول : لقيته ، وإن كان ضريراً ، وإذا منعه من الدُّخول يقول : ما لقيته ، وإن كان قد رآه ، ويقال : لقي فلان جهداً ، وكل هذا يدلّ على أنّ اللقاء ليس عبارة عن الرُّؤية ، وقال تعالى :
{ فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [ القمر : 12 ] وهذا إنما يصحّ في حقّ الجسمن ولا يصح في [ حق ] الله تعالى .
قال ابن الخطيب : أجاب الأصحاب بأن اللقاء في اللُّغة : عبارة عن وصول أحد الجِسْمَيْن إلى الآخر بحيثُ يماسّه بمسطحه ، يقال : لقي هذا ذاك إذا ماسّه ، واتصل به ، ولما كانت المُلاَقاة بين الجسمين المدركين سبباً لحصول الإدراك بحيث لا يمتنع إجراء اللفظ عليه ، وجب حمله على الإدراك؛ لأن إطلاق لفظ السبب على معنى المسبّب من أقوى وجوه المجاز ، فثبت أنه يجب حمل لفظ اللِّقَاء على الإدراك [ أكثر ما في الباب أنه ترك هذا المعنى في بعض الصُّور بدليل يخصه ، فوجب إجراؤه على الإدراك ] في البواقي .
وعلى هذا التقرير زالت السُّؤالات .
وأما قوله : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً } [ التوبة : 77 ] الآية .
قلنا : لاجل الضرورة؛ لأن المراد : إلى يوم يلقون جزاءه وحكمه ، والإضمار على خلاف الدليل ، فلا يُصَار إليه إلاّ عند الضرورة .
وأما قوله : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } فلا ضرورة في صَرْفِ اللفظ عن ظاهره ، ويمكن أن يقال ملاقاة كل أحد بحسبه ، فالمؤمن من يلقى الله ، وهو عنه راضٍ ، فيثيبه ، وينعم عليه بأنواع النعم : والكافر والحالف الكاذب يلقى الله ، وهو عليه غضبان ، فعيذبه بأنواع العِقَابِ ، كما أن خاصّة الأمير يلقون الأمير ، وهو راضٍ عنهم ، فيعطيعهم وينعم عليهم ، وأما اللّص وقاطع الطريق إذا لقوا الأمير عاقبهم ، وقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم بما استحقوا ، وشَتَان بين اللقاءين .
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
أعاد الكلام توكيداّ للحجّة عليهم ، وتحذيراً من ترك اتباع محمد عليه الصلاة والسلام .
قوله : « وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ » « أن » وما في حَيْزها في محلّ نصب لعطفها على المَنْصُوب في قوله : « اذْكُرُوا نِعْمَتي » أيك اذكروا نِعْمَتِي وتفضيلي أيَّاكم ، والجار متعلّق به ، وهذا من باب عطف الخَاصّ على العام؛ لأن النعمة تشمل التَّفْضِيل .
والفضلك الزيادة في الخير ، واستعماله في الأصل التعدّي ب « على » ، وقد يتعدَّى ب « عَنْ » إمَّا على التضْمِين ، وإما على التجوُّز في الحذف؛ كقوله : [ البسيط ]
460 لاَهِ ابْنُ عَمِّكَ لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ ... عَنِّي وَلاَ أَنْتَ دَيَّانِي فتَخْزُوني
وقد يتعدّى بنفسه؛ كقوله : [ الوافر ]
461 وَجَدْنَا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقَيْماً ... كَفَضْلِ ابْنِ المَخَاضِ عَلَى الفَصِيلِ
فعدّاه بنفسه ، وب « عن » ، وفعله « فَضَل » بالفَتْحِ « يَفْضُل » بالضم ك : « قَتَل يَقْتُل » .
وأما الذي معناه « الفَضْلَة » من الشيء ، وهي : البقيّة فَفِعْلُه أيضاً كما تقدم .
ويقال فيه أيضاً : « فَضِل » بالكسر « يَفْضَلُ » بالفتح ك : « عَلِم يَعْلَم » ، ومنهم من يكسرها في الماضي ، ويضمّها في المضارع ، وهو من التَّدَاخل بين اللغتين .
فإن قيل : قوله : { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } يلزم منه أن يكونوا أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام وذلك باطل .
والجواب من وجوه :
أحدها : قال قوم : العالم عبارةٌ عن الجمع الكثير من النَّاس كقولك : رأيت عالماً من النَّاس ، والمراد منه الكثرة ، [ وهذا ] ضعيف؛ لأن لفظ العالم مشتقّ من العلم وهو الدليل ، فكل ما كان دليلاً على الله تعالى فإنه عالم ، وهذا تحقيق قول المتكلمين : العالم كلّ موجود سوى الله .
وثانيها : المراد فضلتكم على عالمي زمانكم ، فإن الشَّخص الذي لم يوجد بعد ليس من جملة العالمين ، ومحمد عليه الصلاة والسلام ما كان موجوداً في ذلك الوَقْتِ ، فما كان ذلك الوقت من العالمين ، فلا يلزم من كون بني إسرائيل أَفْضَلَ العالمين في ذلك الوَقْت كونهم أفضل من محمد ، وهذا هو الجواب ايضاً عن قوله تعالى : { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين } [ المائدة : 20 ] ، وقال : { وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين } [ الدخان : 32 ] ، أراد به عالمي ذلك الزمان .
وثالثها : قوله : { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } عام في العالمين ، لكنه مطلق في الفضل ، والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة ، فالآية تدلّ على أن بني إسرائيل فضّلوا على كل العالمين في أمرِ ما ، وهذا لايقتضي أن يكونوا أفضل من كلّ العالمين في كل الأمور ، بل لعلهم ، وإن كانوا أفضل من غيرهم في أمر واحد ، فغيرهم يكون أفضل منهم فيما عدا ذلك الأمر ، وعند ذلك يظهر أنه لا يصحّ الاستدلال بقوله تعالى :
{ إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين } [ آل عمران : 33 ] على أن الأنبياء أفضل من الملائكة .
تنبيه
قال : « ابن زَيْدٍ » : أراد به المؤمن منهم؛ لأن عُصَاتهم مُسِخُوا قردةً وخنازير . وقال : { لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ } [ المائدة : 78 ] .
فصل في بيان أن خطاب الله لبني إسرائيل هو كذلك للعرب
جمعي ما خوطب به بنو إسرائيل تنبيه للعرب ، وكذلك أقاصيص الأنبياء تنبيه وإرشاد ، قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب } [ يوسف : 111 ] ، وقال تعالى : { الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [ الزمر : 18 ] .
وروي قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول : قد مضى والله بَنُوا إسرائيل وما يغني ما تَسْمَعُونَ [ عن ] غيركم .
فإن قيل : لما [ خصهم ] بالنعم العظيمة في الدنيا ، فهذا يناسب أن يخصهم أيضاً بالنعم العظيمة في الآخرة ، كما قيل : إتمام المعروف خَيْرٌ من ابتدائه ، فلم أردف ذلك التخويف الشديد في قوله : { واتقوا يَوْماً } [ البقرة : 48 ] .
والجواب : [ أن ] المعصية مع عظيم النِّعمة تكون أقبح وأفحِش ، فلهذا حذرهم عنها .
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
« يوماً » مفعول به ، [ ولا بد من حذف ] مضاف أي : عذاب يوم أو هول يوم ، وأجيز أن يكون منصوباً على الظرف ، والمفعول محذوف تقديره : واتقوا العَذَاب في يومٍ صِفَتثهُ كَيْتَ وَكَيْتَ .
ومنع « أبو البقاء » كونه ظرفاً ، قال : « لأن الأمر بالتقوى لا يقع في يوم القيامة » .
والجواب عما قاله : أن الأمر بالحَذَرِ من الأسباب المؤدّية إلى العقاب في يوم القيامة .
وأصل « اتَّقُوا » : « اوْتَقُوا » ، ففعل به ما تقدم في { تَتَّقُونَ } [ البقرة : 21 ] . قوله : { لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ } .
التنكير في « نفس » و « شيئاً » معناه أن نفساً من الأنفس لا تجزي عن نفس مثلها شيئاً من الأشياء ، وكذلك في « شَفَاعة » و « عَدْل » .
قال الزمخشريك و « شيئاً » مفعول به على أن تجزي بمعنى « تقتضي » ، أي : لا تقضي نفسٌ عن غيرها شيئاً من الحُقُوقن ويجوز أن يكون في موضع مَصْدَر ، أي : قليلاً من الجزاء كقوله : { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } [ مريم : 60 ] ، أي : شيئاً من الجزاء؛ لأن الجزاء شيء ، فوضع العام موضع الخاص .
واحْتَزَأْتُ بالشَّيء اجْتِزَاءً : اكْتَفَيْتُ ، قال الشاعر : [ الوافر ]
462 بأَنَّ الغَدْرَ في الأَقْوَامِ عَارٌ ... وَأَنَّ الحُرَّ يَجْزَأُ بِالكُرَاعِ
أي : يجتزىء به .
والجملة في محلّ نصب صفة ل « يوماً » والعائد محذوف ، والتقدير : لا تَجْزِي فيه ، ثم حذف الجار والمجرور ، لأن الظروف يتّسع فيها ما لا يتّسع في غيرها ، وهذا مذهب « سيبويه » .
وقيل : بل حذف بعد حذف حَرْفِ الجَرّ ، ووصول الفعل إليه فصار : لا تجزية؛ كقوله : [ الطويل ]
463 وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وَعَامِراً ... قَلِيلٍ سِوَى الطَّعْنِ النَّهَالِ نَوَافِلُهْ
ويُعْزَى للأخفش ، إلاّ أن « المهدوي » نقل أن أن الوجهين المتقدّمين جائزان عند الأخفش وسيبويه والزجاج؛ ويدلّ على حذف عائد الموصوف إذا كان منصوباً قوله : [ الوافر ]
464 فَمَا أَدْرِي أَغَيَّرَهُمٍ قَنَاءٍ ... وَطُولُ الدَّهْرِ أَمْ مَالٌ أَصَابُوا؟
أي : أصابوه ، ويجوز عند الكوفيين أن يكون التقدير : يوماً يوم لا تَجْزي نفسٌ ، فيصير كقوله تعالى : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ } [ الانفطار : 19 ] ، ويكون « اليوم » الثاني بدلاً من يوماً الأول ، ثم حذف المُضَاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، كقوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] ، وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير عائدٍ؛ لأن الظرف متى أضيف إلى الجملة بعده لم يؤت له فيها بضمير ، إلاّ في ضرورة شعر؛ كقوله : [ الوافر ]
465 مَضَتْ مائَةٌ لِعَامَ وُلِدْتُ فِيهِ ... وَسَبْعٌ بَعْدَ ذَاكَ وَحِجَّتَانِ
و « عن نفس » متعلّق ب « تجزي » ، فهو في محلّ نصب به .
قال « أبو البَقَاء » : يجوز أن يكون نصباً على الحال .
و « الجزاء » : القضاء والمكافأة؛ قال : [ الرجز ]
466 يَجْزِيهِ رَبُّ العَرْشِ عَنِّي إِذْ جَزَى ... جَنَّاتِ عَدْنٍ في العَلاَلِيِّ العُلا
و « الإجزاء » : الإغناء والكِفَايَة ، أجزأئي كذا : كفاني ، قال : [ الطويل ]
467 وأَجْزَأْتَ أَمْرَ العَالَمِينَ وَلَمْ يَكُنْ ... لِيَجْزَأَ إلاَّ كَامِلٌ وَايْنُ كَامِلِ
وأجْزَأْتُ وجَزَأْتُ متقاربانِ .
وقيل : إن الإِجْزَاء والجَزَاء بمعنَى ، تقول فيه : جَزَيْتُهُ وأَجْزَيْتُهُ .
وقد قرىء : « تُجْزِىء » بضم حرف المُضَارعة من « أجزأ » .
قوله : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } هذه الجملة عطف على ما قبلها ، فهو صفة أيضاً ل « يوماً » والعائد « منها » عليه محذوف كما تقدم ، ولا يقبل منها فيه شفاعة .
و « شفاعة » مفعول لم يُسَمّ فاعله ، فلذلك رُفِعَتْ .
وقرىء : « يُقْبَل » بالتذكير والتأنيث ، فالتأنيث للفظ ، والتذكير لأنه مؤنّث مجازي ، وحسنه الفصل .
وقرىء : « ولا يَقْبَلُ » مبنياً للفاعل وهو « الله » تعالى . و « شَفَاعةٌ » نصبا مفعولاً به . « وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ » صفة أيضاً ، والكلام فيه واضح .
و « منها » متعلّق ب « يُقْبَل » و « يُؤْخَذ » .
وأجاز أبو البقاء : أن يكون نصباً على الحال؛ لأنه في الأصل صف ل « شفاعة » و « عَدْل » ، فلما قدم عليهما نصب على الحَالِ ، ويتعلّق حينئذ بمحذوف ، وهذا غير وَاضِحٍ ، فإنّ المعنى منصب على تعلقه بالفعل ، والضمير في « منها » يعود على « نفس » الثانية؛ لأنها أقرب مذكور ، ويجوز أن يعود الضَّمير الأول على الأولى ، وهي النفس الجازية ، والثاني يعود على الثَّانية ، وهي المجزيّ عنها ، وهذا مُنَاسب .
و « الشَّفَاعة » مشتقة من الشَّفْع ، وهو الزوج ، ومنه « الشُّفْعَة » ؛ لأنها ضَمَ ملك إلى غيره ، والشافع والمشفوع له؛ لأن كلاًّ منهما يزوج نفسه بالآخرن ونَاقَةٌ شَفُوعٌ يجمع بين مَحْلَبَيْنِ في حَلْبَةٍ واحدة ، وناقة شَافِعٌ : إذا اجتمع لها حَمْلٌ وَوَلَدٌ يَتْبَعُهَا .
وَالعَدْل بالفتح الفِدَاء وبالكَسْرِ : المِثْل ، يقال : عَدْل وعَدِيل .
وقيل : عَدْل بالفتح المساوي للشيء قيمةً وقدراً ، وإن لم يكن من جنسه ، وبالكَسْرِ : المساوي له في جنسه وجِرْمِهِ .
وحكى الطبري : « أن من العرب من يكسر الذي بمعنى الفِدَاء ، وأما عِدْل واحد الأعدال فهو بالكسر لاغيره » . وعَدْل واحد الشهود [ فبالفتح لا غير ، وأما قوله عليه السلام : « لَمْ يَقْبَلِ الله مِنْهُ صَرْفاً وَعَدْلاً » ] فهو بالفتح أيضاً . وقيل : المراد ب « الصَّرْف » : النَّافلة ، وب « العَدْل » : الفريضة .
وقيل : الصَّرف : التوبة ، والعَدْل : الفِدْيَة .
قوله : { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } جملة من مبتدا وخبر معطوفة على ما قلها ، وإنما أتى هنا بالجملة مصدّرة بالمبتدأ مخبراً عنه بالمُضَارع تنبيهاً على المُبَالغة والتأكيد في عدم النصرة .
والضمير في قوله « وَلاَهُمْ » يعود على « النَّفس » ؛ لأن المراد بها جنسُ الأنفس ، وإنما عاد الضمير مذكراً ، وإن كانت النفس مؤنثةً؛ لأنّ المراد بها العباد والأَنَاسِيّ .
قال الزمخشري : « كما تقول : ثلاثة أنفس » . يعني : إذا قصد به الذُّكُور؛ كقوله : [ الوافر ]
468 ثَلاَثةُ أَنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذوْدٍ .. . .
ولكن النُّحَاة نَصُّوا على أنه ضرورةٌ ، فالأَوْلَى أن يعود على الكفار الذين اختصتهم الآية؛ كما قال « ابن عطية » .
و « النَّصْر » : العون : ، والأَنْصَار : الأَعْوَان ، ومنه { مَنْ أنصاري إِلَى الله } [ آل عمران : 52 ] والنّصر أيضاً الانتقام ، انتصر زيد : انتقم ، والنصر : الإتْيَان نَصَرْتُ أَرْضَ بني فلانِ : أتيتها؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
469 إذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الحَرَامُ فَوَدِّعِي ... بِلاَدَ تَمِيمٍ وانْصُرِي أَرْضَ عَامِرِ
والنَّصْر : المطر ، يقال : نصرت الأرض : مطرت .
قال « القَفّال » : تقول العرب : أرض مَنْصورَة أي ممطورة ، والغَيْثُ ينصر البلاد : إذا أنبتها ، ف : انه أغاث أَهْلَهَا .
وقيل في قوله : { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله } [ الحج : 15 ] أي : لن يرزقه الله ، كما يرزق الغَيْثُ البِلادَ .
والنَّصْر : العَطَاءُ؛ قال : [ الرجز ]
470 إِنِّي وَأَسْطَارٍ سُطِرْنَ سَطْرَا ... لَقَائِلٌ : يَا نَصْرٌ نَصْرٌ نَصْرَا
ويتعدّى ب « على » قال تعالى : { فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } [ البقرة : 286 ] وأما قوله : { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم } [ الأنبياء : 77 ] فيحتمل التعدّي ب « من » ويحتمل أن يكون من التضمين . أي : نصرناه بالانتقام له منهم .
فإن قيل : قوله : { لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } تفيد ما أفاده { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } فما المقصود من هذا التكرار؟
فالجواب : أن قوله : { لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ } أي : لا تتحمّل عنه غيره ما يلزمه من الجَزَاء .
وأما النُّصْرَة فهو أن يحاول تخليصه من حكم المعاقب ، فإن قيل : قدم في هذه الآية قَبُول الشفاعة على أخذ الفدية ، وفي الآية التي قيل قوله { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ } [ البقرة : 124 ] قدم قبول الفدية على ذكر الشَّفاعة فما [ الحكم؟ قال ابن الخطيب : ]
فالجواب : أن من كان مَيْله إلى حبّ المال أشدّ من ميله إلى عُلُوّ النفس فإنه يقدّم [ التمسُّك ] بالشافعين على إعطاء الفدية ، ومن كان بالعَكْسِ يقدّم الفدية على الشفاعة ، ففائدة تغيير الترتيب الإشارة إلى هذين الصنفين .
فصلل في سبب نزول الآية
ذكروا أن سبب هذه الآية أن بني إسرائيل قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] وأبناء أنبيائه ، وسيشفع لنا آباؤنا ، فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة أنه لا تُقْبَلُ فيه الشفاعات ، ولا يؤخذ فيه فدية .
وإنما خصّ الشّفاعة والفدية والنصر بالذِّكْرِ ، لأنها هي المعاني التي اعتادها بَنُو آدم ف يالدنيا ، فإنّ الواقع في الشِّدَّة لا يتخلَّص إلا بأن يشفع له ، أو يفتدى ، أو ينصر .
فصل في الشفاعة
أجمعت الأمّة على أنّ الشفاعة في الآخرة لمحمد صلى الله عليه وسلم ثم [ اختلفوا في ] أن شفاعته عليه الصلاة والسلام [ لمن ] تكون أي للمؤمنين المستحقّين للثواب أم لأهل الكبائر المستحقين للعقاب؟
فذهب المعتزلة إلى أنها للمستحقّين للثواب ، وتأثير الشفاعة زيادة المَنَافع على ما استحقّوه .
وقال أصحابنا : تأثيرها في إسقاط العقاب عن المستحقّين العقاب بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلوا النار ، فإن دخلوا النار ، فشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنة .
واتفقوا على أنها ليست للكفار .
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
« إذا » في موضع نصب عطفاً على « نعْمَتي » وكذلك الظُّروف التي عبده نحو : { وَإِذْ وَاعَدْنَا } [ البقرة : 51 ] ، { وَإِذْ قُلْتُمْ } [ البقرة : 55 ] . وقرىء : [ أَنْجَيْتُكُمْ ] على التوحيد .
وهذا الخطاب للموجودين في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام ولا بُدّ من حذف مضاف ، أي : أنجينا آباءكم ، نحو : { حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية } [ الحاقة : 11 ] ؛ لأن إنجاء الآباء سبب في وجود الأبناء ، وأصل الإنْجَاء والنَّجَاة : الإلقاء على نَجْوَةِ من الأرض ، وهي المرتفع منها ليسلم من الآفات ، ثم أطلق الإنْجاء على كل فَائِزٍ وخارج من ضِيْقٍ إلى سَعَةٍ ، وإن لم يُلْقِ على نَجْوَةٍ .
و « من آل » متعلّق به ، و « من » لابتداء الغاية .
و « آل » اختلف فيه على ثلاثة أقوال : فقال « سيبويه » [ وأتباعه ] : إن أصله « أهل » فأبدلت الهاء همزة لقربها منها [ كما قالوا : ماء ، وأصله ماه ] ، ثم أبلدت الهمزة ألفاً ، لسكونها بعد همزة مفتوحة نحو : « آمن وآدم » ولذلك إذا صُغِّرَ رجع إلى أصله فتقول : « أُهَيْل » .
قال أبو البقاء : وقال بعضهم : « أويل » ، فأبدلت الألف واواً ] .
ولم يرده إلى أصله ، كما لم يردوا « عُبَيْداً » إلى أصله في التصغير يعني فلم يقولوا : « عُوَيْداً » لأنه من « عَادَ يَعُود » ، قالوا : لئلا يلتبس بِعُودِ الخَشَبِ . وفي هذا نظر؛ لأن النحاة قالوا : من اعتقد كونه من « أهل » صغره على « أُهَيْل » ، من اعتقد كونه من « آل يَئُول » أي : رجع صَغّره على « أُوَيل » .
وذهب « النحاس » إلى أن أصله « أَهْل » أيضاً ، إلا أنه قلب الهاء ألفاً منغير أن يقلبها أولاً همزة ، وتصغيره عنده على « أُهَيْلٍ » .
وقال الكسَائِيٌّ : « أُوَيْل » وقد تقدّم ما فيه .
ومنهم من قال أصله : « أَوَلَ » مشتق من « آل يَئُول » ، أي : رجع؛ لأنّ الإنسان يرجع إلى آله ، فتحركت الواو ، وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً ، وتصغيره على « أُوَيْل » نحو : « مَال » و « مُوَيْل » و « بَاب » و « بُوَيْب » ويعزى هذا الكسَائِيِّ .
وجمعه : « آلُون » و « آلين » وهذا شاذٌّ ك « أَهْلِين » ؛ لأنه ليس بصفة ولا عَلَمٍ .
قال ابن كَيْسَان : إذا جمعتَ « آلا » قُلْتَ : « آلُونَ » ، فإن جمعت « آلا » الذي هو [ السَّراب ] قلت : « آوَال » ليس إلاّ؛ مثل : « مَال وأَمْوَال » .
واختلف فيه فقيل : « آل » الرجل قرابته كأهله .
وقيلك من كان من شيعته ، وإن لم يكن قريباً منه؛ قال : [ الطويل ]
471 فَلاَ تَبْكِ مَيْتاً بَعْدَ مَيْتٍ أَجَنَّهُ ... عَلِيٌّ وَعَبَّاسٌ وَآلُ أبِي بَكْرِ
ولهذا قيل : آل النبي من آمن به إلى آخر الدَّهْرِ ، ومن لمؤ يؤمن به فليس بآله ، وإن كان نسيباً له ، كأبي لَهَبٍ وأبي طالب ، ونقل بعضهم أن « الرَّاغب » ذكر في « المفردات أن » الآل « يطلق على الرَّجل نفسه .
واختلف فيه النُّحَاة : هل يضاف إلى الضمير أم لا؟
فذهب الكسائي ، وأبو بكر الزبيدي ، والنحاس إلى أن ذلك لا يجوز ، فلا يجوز اللَّهم صَلِّ على محمَّد وآله ، بل وعلى آل محمد ، وذهب جَمَاعة ، منهم ابن السِّيدِ إلى جوازه؛ واستدلُّوا بقوله عليه الصلاة والسلام لما سئل فقيل : يا رسول الله من آلُكَ؟ فقال : » آلِي كُلُّ تَقِيٍّ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ « ؛ وأنشدوا قول [ عبدالمطلب ] : [ الكامل ]
472 لاَهُمَّ إنَّ العَبْدَ يَمْنَعُ ... رَحْلَهُ فَامْنَعْ حَلاَلَكْ
وانْصُرْ عَلَى آل الصَّلِيبِ ... وَعَابِدِيهِ اليَوْمَ آلَكْ
[ وقول نُدْبَة : [ الطويل ]
473 أَنَا الفَارِسُ الحَامِي حَقِيقَةَ وَالِدِي ... وَآلِي كَمَا تَحْمِي حَقِيقَةَ آلِكَا ]
واختلفوا أيضاً فيه : هل يُضَاف إلى غير العُقَلاَء فيقال : آل » المدينة « وآل » مكة « ؟
فمنعه الجمهور ، وقال » الأخفش « : قد سمعناه في البُلْدَان ، قالوا : أهل » المدينة « وآل » المدينة « ولا يضاف إلاَ إلى مَنْ له قَدْرٌ وخَطرٌ ، فلا يقال : آل الإسْكَاف ولا آل الحَجّام ، وهو من الأسماء اللازمة للإضافة معنّى ولفظاً ، وقد عرفت ما اختص به من الأحكام دون أصله الذي هو » أهل « هذا كلّه في » آل « مراداً به لأهل ، أما » آل « الذي هو السَّراب فليس مما نحن فيه في شيء ، وتصغيره » أُوَيْل « نحو : » مَال وَمُوَيْل « وتقدم جمعه .
قوله : { فِرْعَوْنَ } خفض بالإضافة ، ولكنه لا ينصرف للعُجْمَةِ والتعريف .
واختلف فيه : هل هو علم شخص ، أو علم جنس؛ فإنه يقال لكلّ [ من ] ملك القِبْط و » مِصْر « : فرعون ، مثل كِسْرَى لكل من ملك الفرس ، وقَيْصَر [ وهرقل ] لكل من ملك الروم ، ويقال لكل من ملك » الهند « : نهمز ، وقيل : يَعْفُورن ويقال لمن ملك الصَّابئة : نمْرُوذ ، ولمن ملك البربر : جَالُوت ، [ ولمن ملك اليهود فيطون ، والمعروف شالخ ولمن ملك فَرْغَانَة الإخشيد ] ، ولمن ملك العرب من قبل العَجم النُّعْمَان؛ ولمن ملك » الصين « يعفو ، وهِرَقْل لكل من ملك الروم ، والقَيْل لكل من ملك » حِمْير « ، والنَّجاشي لكل من ملك » الحبشة « وبَطْلَيْمُوس لكل من ملك » اليونان « وتُبَّع لمن ملك » اليمن « ، وخَاقَان لمن ملك التُّرك .
وقال » الزمخشري « : وفرعون علم لمن ملك العَمَالقة كقيصر للروم ، ولعُتُوّ الفراعنة اشتقوا منه تَفَرْعَنَ فلانٌ ، إذا عَتَا وتَجَبَّرَ؛ وفي مُلَحِ بعضهم : [ الكامل ]
474 قد جَاءَهُ الموسَى [ الكَلُومُ ] فَزَادَ في ... أَقْصَى تَفَرْعُنِهِ وَفَرْطِ عُرَامِهِ
وقال « المَسْعُودي » : « لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية » .
وظاهر كلام « الجوهري » أنه مشتق من معنى العتو ، فإنه قال : « والعُتَاة : الفَرَاعنة ، وقد تَفَرْعَنَ ، وهو ذو فَرْعَنَةٍ ، أي دهاء ومكر » .
وفي الحديث : « أخذنا فِرْعَون هذه الأُمّة » إلا أن [ يريد ] معنى ما قاله الزمخشري المتقدم .
واسم فرعون موسى : قَابُوس في قول أهل الكتاب ، نقله وهب بن منبه وقال ابن إسحاق وَوَهْب : « اسمه الوليد بن مصعب بن الريان ، ويكنى أبا مُرَّة » . وحكى ابن جريج « أن » اسمه مصعب بن رَيّان ، وهو من بني عمْلِيق بن ولاد بن إرم بن سام بن نوح عليه الصلاة والسلام .
وذكر ابن الخطيب أن [ ابن ] وهب قال : إن فرعون يوسف عليه الصَّلاة والسَّلام ه فرعون موسى ، لقول موسى عليه الصَّلاة والسلام . { وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات } [ غافر : 34 ] وقال : هذا غير صحيح ، إذ كان بين دخول يوسف « مصر » ، وبين أن دخلها موسى أكثر من أربعمائة سنة .
وذكر النووي أن فرعون موسى عمر أكثر من أربعمائة سنة ، فمشى قول ابن وهب .
وقال محمد بن إسحاق : « هو غير فرعون يوسف إن فرعون يوسف كان اسمه الريان بن الوليد » .
قوله : { يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب } هذه الجملة في محل نصب على الحال من « آل » أي : حال كونهم سَائِمِين ، ويجوز أن تكون مستأنفة لمجرد الإخبار بذلك ، وتكون حكاية حال ماضية ، قال بمعناه ابن عطية ، وليس بظاهر .
وقيل : هو خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هم يسومونكم ، ولا حَاجَةَ إليه أيضاً .
و « كم » مفعول أول ، و « سوء » مفعول ثان؛ لأن « سَامَ » يعتدّى لاثنين ك « أعْطَى » ، ومعناه أَوْلاَهُ كذا ، وألزمه إياه؛ ومنه قول عمرو بن كُلْثُومٍ : [ الوافر ]
475 إِذَا مَا المَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفاً ... أَبَيْنَا أن نُقِرَّ الخَسْفَ فينا
قال الزمخشري : « وأصله من سَامَ السّلعة إذا طلبها ، كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب ، ويزيدونكم عليه » .
وقيل أصل السَّوم : الدوام ، ومنه سَائِمَةُ الغَنَمِ لمداومتها الرعي . والمعنى : يديمون تعذيبكم .
وسوء العذاب : أشدّه وأقطعه ، وإن كان كله سيّئاً ، كأنه أقبحه بالإضافة إلى سائره .
والسوء : كل ما يعم الإنسان من أمْرٍ دنيوي وأخروي ، وهو في الأصل مصدر ، ويؤنث بالألف ، قال تعالى : { أَسَاءُواْ السواءى } [ الروم : 10 ] .
[ وأجاز بعضهم أن يكون « سوء » نعتاً لمصدر محذوف تقديره : يسومونكم سوماً سيئاً ، كذا قدره .
وقال أيضاً : ] « ويجوز أن يكون بمعنى سوم العذاب » ، كأنه يريد بذلك أنه منصوب على نوع المصدر نحو : « قعد جلوساً » ؛ لأن سوء العذاب نوع من السوم .
قال أبو العباس المُقْرىء : ورد لفظ « السّوء » على خمسة عشر وجهاً :
الأول : بمعنى « الشدة » كهذه الآية ، أي : شدة العذاب .
الثاني : بمعنى « العَقْر » قال تعالى : { وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء } [ هود : 64 ] .
الثالث : « الزِّنا : قال تعالى : { مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء } [ يوسف : 51 ] .
الرابع : » المَرَض « قال تعالى : { تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء } [ طه : 22 ] .
الخامس : » اللّعْنة « قال تعالى : { إِنَّ الخزي اليوم والسواء عَلَى الكافرين } [ النحل : 27 ] .
السادس : » العَذَاب « قال تعالى : { لاَ يَمَسُّهُمُ السواء } [ الزمر : 61 ] .
السابع : » الشِّرْك « قال تعالى : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء } [ النحل : 28 ] .
الثامن : » العِصْيَان « قال تعالى : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء بِجَهَالَةٍ } [ النحل : 119 ] .
التاسع : » الشَّتْم « قال تعالى : { ويبسطوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسواء } [ الممتحنة : 2 ] أي : بالشَّتم ، ومثله : { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول } [ النساء : 148 ] أي : الشَّتْم .
العاشر : » الجُنُون « قال تعالى : { إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء } [ هود : 54 ] أي بجنون .
الحادي عشر : » اليأس « قال تعالى : { وَلَهُمْ سواء الدار } [ الرعد : 25 ] أي : يأس الدار .
الثاني عشر : » المرض « قال تعالى : { وَيَكْشِفُ السواء } [ النمل : 62 ] يعني المرض .
الثالث عشر : » الفَقْر « قال تعالى : { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير وَمَا مَسَّنِيَ السواء } [ الأعراف : 188 ] أي : الفقر .
الرابع عشر : » الهَزِيمة « قال تعالى : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } [ آل عمران : 174 ] أي : هزيمة .
الخامس عشر : » السوء « : الصيد ، قال تعالى : { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء } [ الأعراف : 165 ] أي : الصيد .
فصل في السوء الذي ضرب على بني إسرائيل
قال » محمد بن إسحاق « : جعلهم خولاً وخدماً له ، وصنفهم في [ أعماله ] فصنف يَبْنُون ، وصنف يَحْرُثُون ، وصنف يَزْرَعُون ، وصنف يخدمونه ، ومن لم يكن في فرع من أعماله ، فإنه يضع عليه جزيةّ يؤديها .
وقال » السُّدي « : جعلهم في الأعمال الصَّعبة الشديدة مثل : كنس المَبْرزن وعمل الطِّين ، ونحت الجِبَال .
قوله : { يُذَبِّحُونَ } هذه الجملة يُحْتَمَلُ أن تكون مفسّرة للجملة قبلها ، وتفسيرها لها على وجهين :
أحدهما : أن تكون مستأنفةً ، فلا محلّ لها حيئنذ من الإعراب ، كأنه قيل : كيف كان سومهم العذاب؟ فقيل يذبحون .
الثاني : أن تكون بدلاً منها؛ كقوله : [ الطويل ]
476 مَتَى تأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا في دِيَارنَا ..
{ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً 0 يُضَاعَفْ لَهُ العذاب } [ الفرقان : 68-69 ] ، ولذلك ترك العاطف ، ويحتمل أن تكون حالاً ثانية ، لا على أنها بدل من الأول .
وذلك على رأي من يجوز تعدد الحال وقد منع » أبو البقاء « هذا الوجه محتجاً بأن الحال تشبه المفعول بهن ولا يعمل العامل في مفعولين على هذا الوصف ، وهذا بناء منه على أحد القولين ، ويحتمل أن تكون حالاً من فاعل : » يسومونكم « .
وقرىء : « يَذْبَحُونَ » بالتخفيف ، والأولى قراءة الجماعة؛ لأن الذبح متكرر .
فإن قيل : لِمَ لم يؤت هُنَا بواو العطف كما أُتِيَ بها في إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟
فالجواب : أنه أريد هنا التَّفسير كما تقدَّم ، وفي سورة إبراهيم معناه : يعذِّبُونَكُم بالذَّبْح وبغير الذَّبْح .
وقيل : يجوز أن تكون « الواو » زائدةً ، فتكون كآية « البقرة » ؛ واستدلَّ هذا القائل على زيادة الواو بقوله : [ الطويل ]
477 فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وانْتَحَى ..
يريد : انتحى . وقوله : [ المتقارب ]
478 إلَى المَلِكَ القَزْمِ وَابْنِ الهُمَامِ .. . .
والجواب الأول أصح .
قل ابن الخطيب : المقصود من ذكر العطف في سورة « إبراهيم » عليه الصلاة والسلام أنه تعالى قال قبل هذه الآية : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } [ إبراهيم : 5 ] والتذكير بأيام الله لا يصحل إلا [ بتعدد ] النعم ، فوجب أن يكون المراد من قوله : { يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب } نوعاً من العذاب ، والمارد من قوله : { يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } نوعاً آخر ، فتحصل منهما نوعان من النعمة ، فلهذا وجب ذكر حرف العَطْف ، وأما هذه الآية لم يرد الأمر إلاَّ بتذكر جنس النعمة ، وهي قوله : { اذكروا نِعْمَتِي } [ البقرة : 47 ] ، فسواء كان المراد من سوء العذاب هو الذّبح أو غيره ، فإنَّ التذكير لجنس النعمة حاصل .
« والذّبح » أصله الشَّقّ ، منه المَذَابح لأَخَادِيد السُّيول في الأرض .
والذَّبحك المذبوح « والذُّبَاح » : تشقق في [ أصول ] الأصابع . والمَذَابح أيضاً : المحاريب .
وأما « أبناء » جمع « ابن » ، رجع به إلى أصله ، فَزُدَّت لامه ، إما الواو أو الياء حسبما تقدم .
والأصل : « أبناو » أو « أبناي » ، فأبدل حرف العلة همزة لتطرفه بعد ألف زائدة ، والمراد بهم : الأطفال عند أكثر المفسرين .
وقيل : الرجال ، وعبر عنهم بالأبناء باعتبار ما كانوا؛ لأنه ذكرهم في مُقَابلة النساء . و « النِّسَاء » أسم للبَالِغَات ، فكذا المُرَاد من الأبناء الرِّجَال البالغون .
قالوا : إنه كان يأمر بقَتْلِ الرجال الذين يخافون منهم الخُرُوج عليهم والتجمُّع لإفساد أمره .
والأول أولى لحمل لفظ الأبناء على ظاهره ، ولأنه كان متعذّر قتل جميع الرِّجَال على كثرتهم ، وأيضاً فكانوا مُحْتَاجين إليهم في استعمالهم في الأعمال الشَّاقة ، ولو كان كذلك لم يكن لإلقاء موسى عليه الصلاة والسلام في التَّابوت حال صغره معنى .
وأما قولهم : لأنه ذكرهم في مقابلة النساء ففيه جوابان :
الأول : أن الأبناء لما قتلوا حَالَ الطفولة لم يصيروا رجالاً ، لم يجز إطلاق اسم الرجال عليهم .
أما البنات لما لم يُقْتَلْنَ ، بل وصلن إلى حَدّ النساء جاز الإطلاق اسم النساء عليهن اعتباراً بالمآل .
الثانيك قال بعضهم : المراد بقوله : { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } أي يُفَتِّشُون حيء المرأة أي : فَرْجَهَا هل بها حمل أم لا؟
فصل في السبب الباعث على تقتيل الأبناء
ذكروا في سبب قَتْلِ الأبناء وجوهاً :
أحدها : قال ابن عباس : وقع إلى فرعون وطبقته ما كان الله وعد به إبراهيم أنيجعل في ذرّيته أنبياء وملوكاً فخافوا ذلك ، واتفقت كلمتهم على إعدد رِجَالٍ يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذَبَحُوهُ فلما رأوا أكابرهم يموتون ، وصغارهم يذبحون خافوا الفَنَاءَ فلا يجدون من يُبَاشر الأعمال الشّاقة ، فصاروا يقتلون عاماً دون عام .
وثانيها : قال السُّدي : إن فرعون رأى ناراً أقبلت من بيت المَقْدِسِ حتى اشتملت على بيوت « مصر » ، فأحرقت القبط ، وتركت بني إسرائيل فدعا فرعون الكَهَنَةَ ، وسألهم عن ذلك؟ فقالوا : يخرج من بيت المقدس من يكون هلاك القِبْطِ على يديه .
وثالثها : أن المنجّمين أخبروا فرعون بذلك .
قال ابن الخطيب : والأقرب هو الأول؛ لأن الذي يُسْتَفَاد من علم التعبير ، وعلم النجوم لا يكون أمراً مفصلاً ، وإلا قدح ذلك في كون الإخبار عن الغَيْبِ معجزاً ، بل يكون أمراً مجملاً ، والظاهر من حال العاقل ألاَّ يقدم على مثل هذا الأمر العظيم بسببه .
فإن قيل : إنَّ فرعون كان كافراً بالله فبأن يكون كافراً بالرسل أولى ، وإذا كان كذلك فكيف يمكن أن يقدم على هذا الأمر العظيم بسبب إخبار إبْرَاهِيمَ عليه الصَّلاة والسلام عنه؟
فالجواب : لعلّ فرعون كان عارفاً بالله ، وبصدق الأنبياء إلاَّ أنه كان كافراً كفر عِنَادٍ أو يقال : إنه كان شاكًّا متحيراً في دينه ، وكان يجوِّز صدق إبراهيم عليه الصلاة والسلام فأقدم على ذلك الفعل احتياطاً .
قوله : « وَيَسْتَحْيُونَ » عطف على ما قبله ، واصله : « يَسْتَحييُون » ، فأعلّ بحذف الياء بعد حذف حركتها ، وقد تقدم بيانه فوزنهك « يَسْتَفعُون » .
والمراد بالنِّسَاء : الأطفال ، وإنما عبر عنهم بالنساء ، لمآلهن إلى ذلك .
وقيل : المراد غير الأطفال كما قيل في الأبناء . ولام « النساء » الظاهر أنها من واو لظهورها في مرادفه وهوك نِسْوَان ونِسْوَة .
وهل « نساء » جمع « نسوة » أو جمع « امرأة » من حيث المعنى؟ قولان ، ويحتمل أن تكون ياءً اشتقاقاً من النّسْيَان .
قوله : { وَفِي ذَلِكُمْ بلااء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } الجار والمجرور خبر مقدم ، و « بَلاَء » مبتدأ . ولامه واو لظهورها في الفعل نحوك بَلَوْتُه { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } [ البقرة : 155 ] ، فأبدلت همزة . والبلاء يكون في الخير والشر ، قال تعالى : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] ؛ لأن الابتلاء امتحان ، فيمتحن الله عباده بالخير ليشكروا ، وبالشر ليصبروا .
وقال ابن كيسن : « أَبْلاَه وبَلاَه في الخير والشر » ؛ وأَنْشَدَ : [ الطويل ]
479 جَزَى الله بِالخَيْرَاتِ ما فعلاَ بِكُمْ ... وَأَبْلاَهُمَا خَيْرَ البَلاَءِ الَّذِي يَبْلُو
فجمع بين اللغتين .
وقيل : الأكثر في الخير أَبْلَيْتُهُ ، وفي الشر بَلَوْتُهُ ، وفي الاختبار ابْتَلَيْتُهُ وبَلَوْتُهُ .
قال النحاس : فاسم الإشارة من قوله : « وفي ذلكم » يجوز أن يكون إشارة إلى الإنْجَاءِ وهو خير محبوب ، ويجوز أن يكون إشارة إلى الذّبح ، وهو شر مكروه .
وقال الزمخشري : والبلاء : المِحْنة إن أشير ب « ذلكم » إلى صنيع فِرْعَونَ ، والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء ، وهو حسن .
وقال ابن عطية : « ذلكم » إشارة إلى جملة الأمر ، إذ هو خير فهو كفرد حاضر ، كأنه يريد أن يشير به إلى مجموع الأمرين من الإنْجَاءِ ، والذبحن ولهذا قال بعده : « يكون البلاء في الخير والشر » ، وهذا غير بعدي؛ ومثله : [ الرمل ]
480 إنَّ لِلْخَيْرِ ولِلشَّرِّ مَدًى .. . .
وكل ذلك وجه .
وقيل : و « من ربكم » متعلّق ب « بلاء » ، و « من » لابتداء الغاية مجازاً .
وقال أبو البقاء : هو في موضع رفع صفة ل « بلاء » ، فيتعلّق بمحذوف . وفي هذها نظر ، من حيث إنه إذا إجتمع صفتان ، إحْدَاهما صريحة ، والأخرى مؤولة ، قُدِّمت الصريحة ، حتى إن بعض الناس يجعل ما سواه ضرورةً ، و « عظيم » صفة ل « بلاء » وقد تقدم معناه مستوفى [ في أول السورة ] .
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
« إذْ » في موضع نصب ، و « الفَرْق » [ والفَلْق ] واحد ، وهو الفصل والتمييز ، ومنه : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ } [ الإسراء : 106 ] أيى : فَصّلناه ومَيَّزْنَاه بالقرآن والبيان .
والقرآن فُرقان لتمييزه بين الحق والباطل .
وقرأ الزُّهْرِي : « فَرَّقْنَا » بتشديد الراء . أي : جعلناه فرقاً .
قوله : « بكم » الظاهر أن الباء على بابها من كونها داخلة على الآلة ، فكأنه فرق بهم كما يفرق بين الشَّيئين بما توسط بينهما .
وقال أبو البقاء : ويجوز أن تكون المعدية كقولك : « ذهبت بزيد » ، فيكون التقدير : أفرقناكم البَحْر ، ويكون بمعنى : { وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ البحر } [ الأعراف : 138 ] . وهذا أقرب من الأول .
ويجوز أن تكن الباء للسببية أي : بسببكم ، ويجوز أن تكون للحال من « البحر » أيك فرقناه ملتبساً بكم ، ونظره الزمخشري بقوله : [ الوافر ]
481 . ... تَدُوسُ بِنَا [ الجَمَاجِمَ ] والتَّرِيبَا
أي : تَدُوسُهاَ ونحن راكبوها .
قال أبو البقاء : أي : فرقنا البحر وأنتم به ، فيكون إما حالاً مقدرة أو مقارنة ، ولا حاجة إلى ذلك؛ لأنه لم يكن مفروقاً إلا بهم حال كونهم سالكين فيه .
وقال أيضاً : و « بكم » في موضع نصب مفعول ثانٍ ل « فَرَقْنَا » و « البحر » مفعول أول ، والباء هنا في معنى اللام .
وفيه نظر؛ لأنه على تقدير تسليم كون الباء بمعنى اللامن فتكون لام العلّة ، والمجرور بلام العلة لا يقال : إنه مفعول ثانٍ ، لو قلت : ضربت زيداً لأجلك ، لا يقول النحوي : « ضرب » يتعدّى لاثنين إلى أحدهما بنفسه ، وللآخر بحرف الجر .
و « البَحْر » اصله : الشِّق الواسع ، ومنه « البَحِيْرة » لِشَقِّ أذنهان وفيه الخلاف المتقدّم في « النهر » في كونه حقيقة في الماء ، أو في الأّخْدُود؟
ويقال : فرس بَحْر أي : واسع الجَرْي ، ويقال : أبْحَرَ الماء : ملح؛ قال نُصَيْب : [ الطويل ]
482 وَقَدْ عَادَ مَاءُ الأَرْضِ بَحْراً فَزَادَنِي ... إلَى مَرَضِي أنْ أبْحَرَ المَشْرَبُ العَذْبُ
والبَحْر يكنى إياه ، وقد يطلق على العَذْب بحراً ، وهو مختص بالماء المَلْح وفيه خلاف . و « البَحْر » : البلدة ، يقال : هذه بَحْرتنا ، أي : بلدتنا .
و « البحر » ك السُّلال يصيب الإنسان . ويقولون : لقيته صَحْرَةٌ بَحْرَةٌ ، أي : بارزاً مكشوفاً .
قوله : « فأنجيناكم » أي : أخرجنانكم منه ، يقال : نجوت من كذا نِجَاءً ، ممدوداً ، ونَجَاةً ، مقصوراً ، والصدق مَنْجَاة ، وأَنْجَيْت غيري ونَجَّيته ، وقرىء بهما : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم } [ البقرة : 49 ] « فأنجيناكم » .
قوله : { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ } .
« الغَرَق » : الرسول في الماء ، يقال : غَرِقَ في الماء غَرَقاً ، فهو غَرِقٌ وغَارِقٌ أيضاً ، وأَغْرَقَ غَيْرَهُ وغَرَّقَهُ ، فهو مُغَرَّقٌ وغَرِيقُ؛ قال أبو النَّجْمِ : [ الرجز ]
483 مِنْ بَيْن مَقْتُولٍ وطَافٍ غَارِقٍ ... ويطلق على القتل بأي نوع كان؛ قال الأعشى : [ الطويل ]
484 .. ألاّ لَيْتَ قَيْساً غَرَّقَتْهُ القَوابِلُ
وذلك إن القَابِلَةَ كانت تغرق المولود في دم السَّلَى عام القَحْطِن ذكراً كان أو أنثى حتى يموت ، فهذا الأصل ، ثم جعل كل قتل تغريقاً ، ومنه قول ذي الرمة : [ الطويل ]
485 إذَا غَرَّقَتْ أرْبَاظُهَا ثِنْيَ بَكْرةٍ ... بِتَيْهَاءَ لَمْ تُصْبِحْ رَءُوماً سَلُوبُهَا
والأَرْبَاض : الحِبَال . والبَكْرَة : النَّاقة . وثِنْيُهَا : بطنها الثَّاني ، وإنما لم تعطف على ولدها لما لحقها من التعب .
قوله : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من « آل فرعون » أي : وأنتم تنظرون إغْرَاقَكُم ، والعامل « أغرقنا » ، ويجوز أن يكون حالاً من مفعول « أنجيناكم » .
والنَّظر يحتمل أن يكون بالبَصَرِ؛ لأنهم كانوا يبصرون بعضهم بعضاً لقربهم؛ وقيل : إن آل فرعون طغوا على الماء ، فنظروا إليهم . وأن يكون بالبصيرة والاعتبار .
وقيل المعنى : وأنتم بحال من ينظر لو نظرتم ، ولذلك لم يُذْكر له مفعول .
فصل في البحر الذي أغرق فيه فرعون وقومه
قال بعض المفسرين : والبَحْرُ الذي أغرق الله فيه فرعون وقومه هو « نيل مصر » ، وقيل : بحر « قلزم » طرف من بحر « فارس » ؟
وقال قتادة : بحر من وراء « مصر » يقال له « إسَافَة » واختلفوا هل تفرق البحر عرضاً أو طولاً؟
فقيل : إنه [ تفرق ] عرضاً وأن بني إسرائيل خرجوا إلى البَرِّ الذي كانوا فيه أولاً . وهذا هو الظاهر وفيه جمع بين القولين ، فإنهم دخلوا فيه أولاً عرضاً ، ثم مشوا فيه طولاً ، وخرجوا من بَرْ الطول ، وتبعهم فرعون فالْتَطَم عليه البحر ، فغرق هو وجنوده ، وصار بنو إسرائيل في بَرْ الطول ، وإلا فأي من يقابل بر « القلزم » خرجوا إليه حتى ذهبوا إلى « الطُّور » .
ومن قال : إن البحر هو النيل فلا إشْكال؛ لأنهم كانوا في « مصر القديمة » ، وجاءوا إلى شاطىء النيل ، فانفرق لهم ، وخرجوا إلى بَرّ الشرق ، وذهبوا إلى « برية الطور » .
فصل في نعم الله على موسى وقومه في تلك الواقعة
اعلم أن هذه الواقعة تضمّنت نعماً كثيرة في الدنيا والدين في حَقّ موسى عليه الصلاة والسلام وبني إسرائيل .
أما نعم الدنيا فهي أنهم لما وقعوا إلى ذلك المَضِيقِ ، ومن ورائهم فرعون وجنوده ، وقُدَّامهم البحر ، فإن توقّفوا أدركهم فرعون وأهلكهم ، وإن ساروا أغرقوا ، فلا خوف أعظم من ذلك ، ثم إن الله تعالى نَجّاهم بغرق البحر ، فلا نِعْمَةَ أعظم من ذلك ، وإيضاً فإنهم شاهدوا هَلاَكَ أعدائهم ، وأورثهم أرضهم وديارهم ، وأموالهم ، وخلّصهم من أيديهمنولو أنه تعالى خلّص موسى وقومه من تلك الحالة ، وما أهلك فرعون لكان الخوف باقياً؛ لأنه رُبّما اجتمعوا واحتالوا على من أذاهم بحيلة ، ولكن الله تعالى حَسَمَ عنهم مادة الخوف .
وأما نعم الدِّين فهي أن قوم موسى لما شَاهَدُوا تلك المُعْجزة الباهرة زالت عن قلوبهم الشُّكُوك والشُّبُهَات ، فإنّ دلالة مثل هذا المعجز على وجود الصَّانع الحكيم ، وعلى صدق موسى تُقَرِّب من العلم الضروري ، فكأنه تعالى رفع عنهم تحمُّل النظر الدقيق ، والاستدلال ، وأيضاً لما عاينوا ذلك صار داعياً لقوم فرعون إلى ترك تكذيب موسى ، والإقدام على تكذيب فرعون ، وايضاً أنهم عرفوا أن الأمور بيد الله ، وأنه لم يكن في الدنيا أكمل ما كان لفرعون ، ولا شدّة أكثر مما كانت لبني إسرائيل ، ثم إنّ الله تعالى في لحظة واحدة جعل العزيز ذليلاً ، والذليل عزيزاً ، وذلك يوجب انقطاع القَلْب عن عَلاَئق الدُّنيا ، والإقبال بالكليّة على خدمة الخالق ، والتوكُّل عليه في كل الأمور .
فإن قيل : إن فرعون لما شاهد فَلْقَ البحر وكان عاقلاً فلا بد وأن يعلم أن ذلك من فعل قادرٍ عالمٍ مخالفٍ لسائر القادرين ، فكيف بقي على الفكر؟
والجواب : لعلّه اعتقد أن ذلك أيضاً السحر ، كما قال حين ألقى موسى عصاه ، وأخرج يده .
يروى أن فرعون كان راكباً حصاناً ، فلما أراد العُبُور في البحر خلف بني إسرائيل جَفل الحصان ، فجاء جبريل على فَرَسٍ أنثى فتقدّمهم فتبعه الحصان ، فلمّا اقتحموا البحر ، وميكائيل خلفهم يَسوقهم حتى لم يَبْقَ منهم أحد ، وخرج جبريل وهم أولهم بالخروج أمر الله البحر فالْتَطَمَ عليهم .
واعلم أن هنا لطائف :
أولها : أن كل نبي لأمّته نصيب مما أعطي نبيهم ، فموسى عليه الصَّلاة السلام لما نُجِّي من الغَرَقِ حين ألقي في اليَمِّ ، كذلك [ نُجّيت ] أمته من الغَرَقِ .
ثانيها : أن فرعون ادَّعى العلو والربوبية ، فأغرق ونزل إلى الدَّرْك الأسفل .
ثالثها : أنه لما ذبح أبناءهم ، والذبح هو إنْهَار الدم ، أغرقه الله في النَّهر .
فصل في فضل يوم عاشوراء
روى مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم « المدينة » ، فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا هَذا اليوم الذي تَصُومُونَهُ » فقالوا : هذا يوم عَظِيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكراً فنحن نصومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فنحن أَحَقّ وأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ » ، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه . وأخرجه البخاري أيضاً عن ابن عباس ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : « أَنْتُمْ أَحَقّ بموسى منهم فَصُومُوا » .
فظاهر هذا أنه صلى الله عليه وسلم إنما صامه اقتداءً بموسى عليه السَّلام على ما أخبره اليَهُود ، وليس كذلك ، لما روته عائشة قالت : « كان يوم عَاشُورَاء تصومه قُرَيْشٌ في الجاهلية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية ، فلما قدم » المدينة « صامه وأمر بصيامه ، فلما فرض رمضان ترك صِيَامَ يوم عَاشُورَاء ، فمن شاء صامه ، ومن شاء تَرَكَه » .
مُتَّفَقٌ عليه .
فإن قيل : يحتمل أن تكون قريش إنما صامته؛ لأن اليهود أخبروهم ، وكانوا عندهم أصحاب عِلْمٍ ، فصامه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك في الجاهلية ، أيى ب « بمكة » ، فلما قدم « المدينة » ، ووجد اليهود يصومونه قال : « نَحْنُ أَحَقّ وأولى بموسى منكم » ، فصامه اتِّبَاعاً لموسى .
فالجوابك أن هذا مبني على أنه عليه الصلاة والسَّلام كان متعبداً بشريعة موسى عليه الصلاة والسلام ، وليس كذلك .
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
قرأ أبو عمرو ويعقوب : « وَعَدْنَا » هنا ، وما كان مِثْلَه ثلاثاً ، وقرأ الباقون : « وَاعَدْنَا » بالألفن واختار أبو عبيدة قراءة أبي عمرو ، ورجّحها بأن المُوَاعدة إنما تكون من البَشَرِ ، وأمَا الله عز وجل فهو المنفرد بالوَعْدِ والوَعِيدِ ، على هذا وجدنا القرآن نحو : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ } [ المائدة : 9 ] ، { وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق } [ إبراهيم : 22 ] ، { وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله } [ الأنفال : 7 ] .
ورجحه مكّي فقال : وأيضاً فإن ظاهر اللفظ فيه « وعد » من الله تعالى لموسى ، وليس فيه « وَعْد » من موسى ، فوجب حمله على الواحد ، بظاهر النص
ثم ذكر جماعة جلّة من القراء عليها كالحَسَنِ ، وإبي رجاء ، وأبي جعفر ، وشيبة ، وعيسى بن عمر ، وقتادة ، وابن إسحاق ، ورجّحه أبو حاتم أيضاً بأن قراءة العامة عندنا « وَعَدْنَا » بغير ألف؛ لأن المُوَاعدة أكثر ما تكون بين المَخْلُوقين والمُتَكَافئين .
وقد أجاب الناس عن قول أبي عبيد ، وأبي حاتم ، ومكي بأن « المُفَاعلة » هنا صحيحة ، بمعنى أن موسى نزل قبوله لالتزام الوفاء بمنزلة الوعد منه ، أو أنه وعد أن يفي بما كلفه ربه .
وقال القفال : « ولا يبعد أن يكون الآدمي يعد الله تعالى ويكون معناه يعاهد الله تعالى » ، ومنه قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله } [ التوبة : 75 ] إلى أن قال : { بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ } [ الأنفال : 77 ] .
وقال مكّي : المُوَاعدة أصلاً من اثنين ، وقد تأتي بمعنى « فعل » نحو : « طَارَقْتُ النَّعْل » فجعل القراءتين بمعنى واحدٍ .
وقال الكسائي : ليس قوله الله : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ } [ النور : 55 ] من هذا الباب في شيء؛ لأن « واعدنا موسى » إنما هو من باب المُوَافاة ، وليس من الوعد في شيء ، وإنما هو من قولك : « موعدك يوم كذا » ، و « موضع كذا » .
والفصيح في هذا أن يقال : « واعدته » ، قال تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه قال : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } [ طه : 59 ] .
وقال الزجاج : « وَاعَدْنَا » بالألف جَيّد؛ لأن الطَّاعة في القبول بمنزلة المُوَاعد ، فمن الله وَعْد ، ومن موسى قَبُول واتباع ، فجرى مجرى المواعدة .
وقال مكّي أيضاً : « والاختيار » واعدنا « بالألف؛ لأنه بمعنى » وعدنا « في أحد معنييه؛ ولأنه لا بُدَّ لموسى من وَعْد أو قَبُول يم مقام الوَعْدِ فتصحّ المُفَاعلة » .
قال ابن الخَطِيب : الأقوى أن الله تعالى وعد الوَحْي ، وهو وعد الله المجيء للميقات .
قال الجوهري : « المِيعَادُ : المُوَاعدة والوقت والموضع » ؟
ووعد يتعدّى لاثنين ، ف « موسى » مفعول أول ، و « أربعين » مفعول ثانٍ ، ولا بد من حذف مضاف ، أي : تمام أربعين ، ولا يجوز أن يتنصب على الظَّرف ، لفساد المعنى ، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جار مجرى جمع المذكر السَّالم ، وهو في الأصل مفرد اسم جمع ، سمي به هذا العَقْد من العدد ، ولذلك أعربه بعضهم بالحركات؛ ومنه في أحد القولين : [ الوافر ]
486 وَمَاذَا يَبْتَغِي الشُّعَرَاءُ مِنِّي ... وَقَدْ جَاوَزْتُ حَدَّ الأَرْبَعِينِ
بكسر النون .
و « ليلة » نصب على التَّمييزن والعقود التي هي من عشرين إلى تِسْعِين ، وأحد عشر إلى تسعة عشر كلها تميز بواحد منصوب .
و « موسى » هو موسى بن عِمْران بن يصهر بن قاهت بن لاوي ين يَغْقُوب بن إسْحَاق ابن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، اسم أعجمي غير منصرف ، وهو في الأصل على ما يقال مركّب والأصلأ : مُوشَى بالشين لأن « ماء » بلغتهم يقال له : « مو » والشّجر يقال له : « شَا » فعربته العرب فقالوا : موسى .
قالوا : إما سمي به؛ لأن أمه جعلته في التَّابوت حين خافت عليه من فِرْعون ، وألقته في البحر ، فدفعته أمواج البحر حتى أدختله بين أشْجَار عند بيت فرعون ، فخرجت جَوَاري آسيَةَ امرأة فرعون يَغْسِلْنَ فوجدن التَّابوت ، فأخذنه فسمي عليه الصلاة والسلام باسم المكان الَّذِي أصيب فيه وهو الماء والشجر ، وليس لموسى اسم النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام اشتقاق؛ لأنه أعجمي؛ لأن بني إسرائيل والقْبط ما كانوا يتكلّمون بلغة العرب .
ومنهم من قال : إنه مشتق ، واختلفوا في اشتقاقه ، فقيل : هو « مفعل » من أوْسَيْت رأسه : إذا حلقته فهو مُوسى ، ك « أعطيته فهو مُعْطَى » ن فمن جعل اسمه عليه مشتقاً قال : إنما سمي بذلك لِصَلَعِهِ .
وقيل : مشتق من « مَاسَ يَمِيسُ » أي : يَتَبَخْتَرُ في مشيته ويتحركن فهو « فعلى » وكان عليه الصلاة والسلام كذلك ، فقلبت الياء واواً لانظمام ما قبلها ك « مُوقِن » من « اليَقين » .
والصحيح الأول ، وهذا الاشتقاق إنما هو في مُوسى آلة الحَلْق .
فصل في قصة موسى بعد نجاة قومه
ذكر المفسرون أن موسى عليه الصلاة والسَّلام قال لبني إسرائيل : إن خرجنا من البحر سالمين آتيكم بكتاب من عند الله يبيّن لكم فيه ما يجب عليكم من الفِعْل والتَّرْكِ ، فلما جاوز البحر ، وأغرق الله فرعون قالوا : يا موسى ائتنا بذلك الكتاب الموعود ، فخرج إلى الطُّور في سَبْعين من [ أخيار ] بني إسرائيل ، وصعدوا الجبل ، وواعدهم إلى تمام أربعين ليلةً ، فعدوا فيما ذكر المفسرون وعشرين يوماً وعشرين ليلة ، وقالوا : قد [ أخلفنا ] موعده . فاتّخذوا العجل .
وقال أبو العالية : « بلغنا أنه لم يحدث حدثاً في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور » .
فإن قيل : لم خصّ الليالي بالذِّكْر دون الأيَام؟
قيل : لأن الليلة أسبق من اليوم فهي قَبْلَهُ في الرتبة وقع بها التاريخ ، فاللَّيَالي أول الشهور ، والأيام تَبَعٌ لها ، وأيضاً فليس المراد انقضاء أي أربعين كان ، بل أربعين معيناً وقيل : لأن الظلمة سابقة على النُّور ، فهي الأصل يؤيده قوله تعالى :
{ وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } [ يس : 37 ] .
فصل في معنى أربعين ليلة
قوله : { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } معناه : واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلةً كقولهم : « اليوم أربعين يوماً منذ خروج فلان » أي : تمام الأربعين ، والحاصل أنه حذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه كقوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] وأيضاً فليس المراد انقضاء أي أربعين كان ، بل أربعين معيناً ، وهو الثلاثون من ذي القِعْدَة ، والعشر الأول من ذي الحجّة؛ لأن موسى عليه السَّلام كان عالماً بأن المراد هو هذه الأربعون ، وكان ذلك بعد أن جاوز البحر .
قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون المراد أنه وعد قَبْلَ هذه الأربعين أن يجيء إلى الجَبَل بعد انقضاء هذه الأربعين .
قال : وهذا الاحتمال هو المؤيّد بالأخبار . فإن قيل : قوله هاهنا : « أربعين ليلة » يفيد أن المواعدة كانت من أول الأمر على الأربعين .
وقوله في الأعراف : { وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } [ الأعراف : 142 ] يفيد أن المُوَاعدة كانت في أول الأمر على الثلاثين ، فكيف التوفيق بينهما؟ أجاب الحَسَن البَصْري فقال : ليس المراد أن وعده كان ثلاثين ليلة ، ثم بعد ذلك وعده بعشر ، لكنه وعده أربعين ليلة جميعاً ، وهو كقوله : { ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } [ البقرة : 196 ] .
قوله : { ثُمَّ اتخذتم العجل } « اتَّخَذَ » يتعدّى لاثنين ، والمفعول الثاني محذوف أي : اتخذتم العِجْلَ إلهاً ، وقد يتعدّى لمفعول واحد إذا كان معناه « عمل » و « جعل » نحو : { وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً } [ البقرة : 116 ] .
وقال بعضهم : « تَخِذَ » و « اتَّخَذَ » يتعدّيان لاثنين ما لم يفهما كسباً ، فيتعديان لواحد ، واختلف في « اتَّخَذَ » فقيل : هو « افتعل » من الأّخْذِ ، والأصل : « ائْتَخَذَ » الأولى همزة وصل ، والثانية فاء الكلمة ، فاجتمع همزتان ثانيتهما ساكنة بعد أخرى ، فوجب قلبها ياء ك « إيمان » فوقعت الياء فاء قبل تاء الافتعال ، فأبدلت تاء ، وأدغمت في تاء الافتعال ك « اتَّسَرَ » من اليُسْرِ « ، إلا أن هذا قليل في باب الهمز؛ نحو : » اتَّكَلَ « من » الأَكْل « ، و » اتَّزَر « من » الإزَار « ؛ وقال أبو عليٍّ : هو » افْتَعَل « من تَخِذَ يَتْخَذُ؛ وأنشد : [ الطويل ]
487 وَقَدْ تَخِذَتْ رِجْلِي إلَى جَنْبِ غَرْزِهَا ... نَسِيفاً كَأُفْحُوصٍ القطَاةِ المُطَوِّقِ
وقال تعالى : { لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } [ الكهف : 77 ] وهذا أسهل القولين .
والقُرّاءُ على إدغام الذَّال في التاء لقرب مخرجهما ، وابن كثير ، وعاصم في رواية حَفْص بالإظهار ، وهذا الخلاف جارٍ في المفرد نحو : » اتَّخَذْتُ « ، والجمع نحو : » اتَّخَذْتُم « ، وأتى في هذه الجملة ب » ثم « دلالة على أن الإتِّخَاذ كان بعد المُوَاعدة بمهلة .
وقال ابن الخطيب : لما أنعم عليهم بهذه النِّعْمَة ، وأتوا عَقِيْبَ ذلك بأقبح أنواع الجهل الكُفْر ، كان ذلك في حل التعجُّبن فهو كمن يقول : إني أحسنت إليك ، وفعلت كذا وكذا ، ثم إنك تقصدني بالسُّوء والإيذاء منه ، و مثله : { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] ، { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } [ الأنعام : 2 ] ؛ { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك } [ البقرة : 74 ] ، { ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً } [ الجاثية : 8 ] ، { ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 85 ] .
قوله : « مِنْ بعْدِهِ » متعلّق ب « اتَّخَذَتُمْ » ، و « مِنْ » لابتداء الغاية والضمير بعود على مُوسى ، ولا بُدّ من حذف مضافٍ ، إي : من بعد انطلاقه أو مُضِيّه .
وقل ابن عطية : « يعود على موسى » .
وقيل : « على انطلاقه للمتكلّم » .
ويل : عرى الوَعْدِ ، وفي كلامه بعض مُنَاقشة ، فإن قوله : « وقيل يعود على انطلاقه » يقتضي عوده على موسى من غير تقدير مضاف ، وذلك غير مُتَصَوَّر .
قوله : « وَأَنْتُم ضَالِمُونَ » جملة حالية من فاعل « اتَّخَذْتُمْ » .
و « العِجْل » ولد البقرةن والعُجُول مثله ، والجمع عَجَاجِيْل ، والأنثى « عِجْلة » ، عن أبي الحسن ، وسمي العجل عِجْلاً لاستعجالهم عبادته ، ذكره القُرْطبي ، وفيه نظر؛ لأن العِجْلَ ولد البقرة كان موجوداً قبل أن يتخذ بنو إسرائيل العِجْل .
فصل
قال أهل التَّفسير : لما ذهب موسى إلى الطُّور ، وقال لأخيه هارون : اخلفني في قَوْمي ، وكان قد بقي مع بني إسرائيل الثياب والحُلِيّ الذي استعاروه من القِبْطِ قال لهم هارون : إن هذه الثياب والحُلِيّ لا تحلّ لكم ، وكان السَّامِرِيُّ من مسيره مع موسسى عليه السلام إلى البحر ينظر إلى حافر دَابّة جبريل حين تقدم على فرعون في دخول البحر .
قال بعض المفسرين : كان لكما نقل حافره يخضرّ مكانه نَبْتاً ، فلهذا سمي فرس الحياة ، ولا يصيب شيئاً إلا حَيي ، فقال السّامريُّ : « إن لهذا النبت نَبَتأً ، فقبض منه قَبْضَةَ ، وقيل : قبض من تراب حَافِرِهِ ، فذلك قوله : { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول } [ طه : 96 ] ، ثم إن السَّامري أخذ ما كان معهم من الذَّهب ، فصوَّر منه عِجْلاً وألقى فيه تلك القَبْضة ، فخرج له صوت كالخُوَارِ ، فقال القوم : » هذا إلَهُكُمْ وإله موسى «
قال ابن عبّاس : » لأنه كان مُنَافقاً يظهر الإسلام ، وكان يعبد البقر ، وكان اسمه موسى بن ظفر « .
وقيل : متَّى .
وقيل : هارون ، وإنهم عبدا العجل بعد مُجاوزة النَّهر لقوله تعالى : { وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ البحر فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] .
فإن قيل : كل عاقل يعلم ببديهة عقله أن الصنم الذي لا يتحرّك ، ولا يحسّ ، ولا يعقل مستحيل أن يكون له إله السموات والأرض ، وَهَبْ أنه ظهر من خُوَار ، ولكن هذا القَدْر لا يصلح أن يكون شُبْهة في قَلْب أحد من العقلاء في كونه إلهاً ، وأيضاً فإن القوم قد شاهدوا قبل ذلك من المعجزات الظاهرة التي تكون قريبةً من حَدّ الإلجاء من الدلالة على الصانع وصدق موسى عليه السَّلام فمع قوة هذه الدلالة وبلوغها إلى حَدّ الضرورة ، لا يكون صدور الخُوَارِ من ذلك العِجْلِ يقتضي شبهة في كون ذلك الجسم المصوت إلهاً .
قال ابن الخطيب : والجواب أنّ هذه الواقعة لا يمكن تصحيحها إلاّ على وجه واحدٍ ، وهو أن السَّامري ألقى إلى القوم أن موسى عليه السَّلام إنما قدر على ما أتى به؛ لأنه كان يتّخذ طلسمَات على قوى ملكية ، وكان يقدر بواسطها على هذه المُعجِزَاتِ فقال السَّامري للقوم : « وأنا أتخذ لكم طلسمات مثل طلسمته ، وروّج عليهم ذلك بأن جعله بحيث خرج منه صَوْتٌ عجيب ، فأطمعهم في أن يصيروا مثل مُوسَى عليه السَّلام في الإتيان بالخوارق ، أو لعلَ القوم كانوا مجسّمة وحُلُولية ، فجوزوا حلول الإله في بعض الأجْسَام ، فلذلك وقعوا في تلك الشبهة .
فصل في فوائد من قصة بني إسرائيل
في هذه القصة فوائد :
أحدها : أنها تدلّ على أن أمّة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم؛ لأن أولئك اليهود مع مُشَاهدتهم تلك البَرَاهين البَاهِرَة اغْتَرُّوا بهذه الشبهة الرَّكيكة ، وأمّا أمة محمد عليه السلام فإنهم مع أنهم محتاجون في ثبوت كون القُرْآن معجزاً إلى الدَّلائل الدقيقة لم يَغْتَرُّوا بالشُّبُهَات العظيمة ، وذلك يدلُّ على أنهم أكمل عَقْلاً ، وأدعى خاطراً من اليهود .
وثانيها : فيه تحذير عظيم من التقليد والجَهْل بالدلائل ، فإن هؤلاء الأقوام لو عرفوا الله بالدَّليل معرفة تامّة لما وقعوا في شبهة السامري .
وثالثها : تسلية النبي صلى الله علي وسلم عما كان شَاهَدَ من مشركي العرب ، واليهود ، والنَّصارى من الخلاف ، فكأنه تعالى أمره بالصَّبْرِ على ذلك كما صَبَرَ مُوسَى عليه السلام في هذه الواقعة المنكرة ، فإنهم بعد أن خلّصهم الله تعالى من فرعون ، وأراهم المعجزات العجيبة من أوّل ظهور مُوسَى إلى ذلك الوقت ، اغْتَرُّوا بتلك الشبهة الرّكيكة ، وأن موسى عليه السلام صبر على ذلك ، فَلأَنْ يصبر محمد عليه السلام على أّذِيَّةِ قومه أولى .
ورابعها : أن اشدّ الناس مجادلةّ وعداوة مع الرسول هم اليهود ، فكأنه تعالى قال : إن هؤلاء يفتخرون بأسلافهم ، ثم إن أسلافهم كاانوا في البَلاَدَةِ ، والجهالة ، والغباوة إلى هذا الحد بحيث إن أشدّ الأشياء بَلاَدَة ، وجهالة ، وغباوة ، هم البقر ، فجعلوه إلهاً ، فكيف هؤلاء الأخلاف .
فصل
في تفسير الظّلم وجهان :
الأول : قال فيه أبو مسلم الظُّلم في أصل اللغة من النقص قال تعالى :
{ كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً } [ الكهف : 33 ] .
والمعنى : أنهم تكروا عبادة الخلاّق المحيي المميت ، واشتغلوا بعبادة العِجْلِ ، فقد صاروا ناقصين في خيرين : الدين والدنيا .
والثّاني : أن الظلم في العرف عبارة عن الضرر الخالي عن نفع يزيد عليه ، ودفع مضرّة أعظم منه ، والاسْتِحْقَاقُ غير العرفي علمه أو ظنّه ، فإذا كان بهذه الصفة كان فاعلاً ظلماً ، ثم إن الرجل إذا فعل ما يؤدّيه إلى العقاب والنار ، قيل : « إنه ظالم لنفسه » ، وإن كان في الحال نفعاً ولذّة كما قال : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
وقال : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } [ فاطر : 32 ] ولمّا كانت عبادتهم لغير الله ظُلماً ومؤدّياً إلى عذاب النار سُمّي ظلماً .
فصل في ردّ شبهة للمعتزلة
استدّلت المعتزلة بهذه الآية على أنّ المعاصي ليست بخلق الله من وجوه :
أحدها : أنه تعالى ذمَّهم عليها ، ولو كانت مخلوقةً له لكانوا مطيعين بفعلها؛ لأن الطَّاعة عبارة عن فعل المراد .
وثانيها : لون كان العصيان مخلوق لله تعالى لكان الذَّم بسببه يجري مجرى الذم بسبب كونه أَسْوَدَ ، وأبيض ، وطويلاً .
قال ابن الخطيب : وهذا تمسّك بفعل المدح والذم ، وهو معارض بمسألتي الداعي والعلم ، وقد تقدّم .
قوله : « ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ » .
و « العفو » المَحْوُن منه : « عَفَا الله عَنْكُمْ » أيك محا ذنوبكم ، والعافية : لأنها تمحو السّقم ، وعَفَتِ الريح الأَثَر؛ قال : [ الطويل ]
488 فَتُوضِحَ فَالمِقْراةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا ... لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ
وقيل : عَفَا كذا أي : كَثُرَ ، ومنه « وأَعْفُوا اللِّحَى » فيكون من الأضداد .
وقال ابن عطية : « العَفْوُ تَغطية الأثر ، وإذهاب الحال الأوّل من الذَّنْب أو غيره ، ولا يستعمل العَفْوُ بمعنى الصَّفح إلا في الذنب » . وهذا الذي قاله قريب من تَفْسِيْرِ الغُفْرَان؛ لأن الغفر التغطية والسَّتر ، ومنه : المغفر ، ولكن قد فُرِّق بينهما بأن العفو يجوز أن يكون بعد العقوبة ، فيجتمع معها ، وأمّا الغُفْرَانُ فلا يكون مع عقوبة .
وقال الرَّاغب : « العَفُو » : القصد لتناول الشَّيء ، يقال : عَفَاه واعْتَفَاهُ أي : قصده مُتَناولاً ما عنده ، وعَفَتِ الريحُ التُّرابَ قصدتها متناولةً آثارها ، وعَفَتِ الديار كأنها قصدت نحو البِلَى وعفا النَّبْت والشَّعْرُ قصد تناولَ الزِّيادة ، وعفوتُ عنك كأنه قصد إِزَالَةَ ذَنْبِهِ صارفاً عنه ، وأعْفَيْتُ كذا ، أي : تركته يعفو ويكثر ، ومنه « أعْفُوا اللِّحَى » فجعل القصد قدراً مشتركاً في العَفْوِ ، وهذا ينفي كونه نم الأَضْدَادِن وهو كلام حسن؛ وقال الشاعر [ الطويل ]
489 . . ... إِذَا رَدَّ عَافِي الْقِدْر مَنْ يَسْتَعِيرُهَا
معناه : أن العَافِي هنا ما يبقى في القَدْرِ من المَرَقِ ونحوه ، فإذا أراد أحد أن يستعير القِدْرَ يُعَلِّلُ صاحبها بالعَافي الذي فيها ، فالعَافِي فاعل ، ومن يستعيرها مَفْعُول ، وهو من الإسناد المجازي؛ لأن الرَّاد في الحقيقة صاحب القِدْرِ بسبب العافي .
فصل في تفسير المعتزلة للعفو في الآية
قالت المعتزلة : « المراد ثم عفونان عنكم بسبب إتيانكم بالتَّوْبَة ، وهي قتل بعضكم بَعْضاً » .
قالت بن الخطيب : وهذا ضعيف من وجهين :
الأول : أن قبول التوبة وَاجبٌ عَقْلاً ، ولو كان المُرَاد ذلك لما جاز عدُّه في معرض الإنعام ، لأن أداء الواجب لا يُعَدّ من باب الإنعام ، والمقصود من هذه الآيات تَعْدِيْدُ نِعَمِ الله تعالى عليهم .
الثاني : أن العَفْوَ اسم لإسقاط العقاب المستحقّ؛ وأمّا إسقاط ما يجب إسقاطه ، وذلك لا يُسمَّى عَفْواً ، ألا ترى أن الظالم لما لم يجز له تعذيب المظلوم ، فإذا ترك عذابه لم يكن الترك عفواً ، فكذلك هاهنا .
إذا ثبت هذا فنقول : لا شَكّ في حصول التوبة في هذه الصورة لقوله تعالى : { فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 54 ] وإذا كان كذلك دَلَّت الآية على أن قَبُولَ التوبة غير واجب عَقْلاً ، وإذا ثبت ذلك ثبت أيضاً أنه تعالى أسقط عُقُوبَةَ من يجوز عقابه عقلاً ، وشرعاً ، وذلك أيضاً خلاف قول المعتزلة ، وإذا ثبت أنه عفا عن كفّار قوم موسى ، فلأن يعفوا عن فُسّاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم مع أنهم خير أمة أُخرجت للنَّاس كان أولى .
قوله : « لَعَلَّكُمْ تِشْكُرُونَ » .
« تَشْكُرُونَ » في محل رفع خبر « لعلّ » ، وقد تقدّم تفسير الشكر عند ذكر الحمد . وقال الراغب : هو تصور النعمة وإظهارها .
وقيل : هو مقلوب عن الكَشْر أي : الكَشْف ، وهو ضدّ الكفر ، فإنه تَغْطِيَةُ النعمة وقيل : أصله من « عَيْن شَكْرى » أي : ممتلئة ، فهو على هذا الامتلاء من ذكر المنعم عليه .
و « شَكَر » من الأفعال المتعدّية بنفسها تارةً ، وبحرف الجرِّ أُخْرَى ، وليس أحدهما أصلاً للآخَرِ على الصحيحن فمن المتعدِّي بنفسه قوله عَمْرِو بْنِ لُحَيِّ : [ الطويل ]
490 هُمُ جَمَعُوا بُؤْسَى ونُعْمَى عَلَيْكُمُ ... فَهَلاَّ شَكَرْتَ الْقَوْمَ إِذْ لَمْ تُقَاتِلِ
ومن المتعدِّي بحرف الجر قوله تعالى : { واشكروا لِي } [ البقرة : 152 ] ، وسيأتي هنا تحقيقُهُ .
فصل في الرد على المعتزلة
قالت المعتزلة : إنه تعالى بَيَّن أنه عفا عنهم ، ولم يؤاخذهم لكي يشركوا ، وذلك يدلّ على أنه تعالى لم يرد منهم إلا الشكر .
والجواب : لو أراد الله تعالى منهم الشكر لأراد ذلك ، أنما شرط أن يحصل للشَّاكر داعية للشكر أولاً بهذا الشرط ، والأول باطل؛ إذ لو أراد ذلك بهذا الشِّرط ، فإن كان هذا الشرط من العَمْدِ لزم افتقار الدَّاعية إلى داعية أخرى ، وإن كان من الله بحيث خلق الله الدَّاعي حصل الشكر لا محالة ، وحيث لم يخلق الدَّاعي استحال حُصُول الشكر ، وذلك ضد قول المعتزلة ، وإن أراد حصول الشُّكر منه من غير هذه الداعية ، فقد أراد منه المُحَال؛ لأن الفِعْلَ بدون الدواعي مُحَال . فثبت أن الإشكال ورادٌ عليهم .
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
« الكتاب » و « الفُرْقان » مفعول ثان ل « آتيْنَا » .
وهل المراد بالكتاب والفرقان شيء واحد ، وهو التوراة؟
كأنه قيل : الجامع بين كونه كتاباً مُنَزَّلاً ، وفرقاناً يفرِّق بَيْن الْحَقِّ والْبَاطل ، نحو : رَأَيْتُ الغَيْثَ واللَّيْثَ ، وهو مِنْ باب قوله : [ المتقارب ]
491 إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الهُمَامِ .. .
أو لأنهم لمَّا اختلف اللفظ ، جاز ذلك؛ كقوله : [ الوافر ]
492 فَقَدَّمَتِ الأَدِيمَ لِرَاهِشَيْه ... وَأَلْقَى قَوْلَهَا كَذِباً وَمَيْنَا
وقوله : [ الطويل ]
493 ... وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ
وقوله عنترة : [ الكامل ]
494 ... أَقْوَى وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الْهَيْثَمِ
قال النحاس : « هذا إنما يجوز في الشِّعر ، فالأحسن أن يراد بالفُرْقَانِ ما علَّمه الله موسَى من الفَرْقِ بين الحقِّ والباطل » .
وقيل : « الواو زائدة » ، و « الفرقان » نعت للكتاب أو « الكتابُ » التوراةُ ، و « الفرقان » ما فرٌّ به بين الكُفْرِ والإيمان ، كالآيات من نحو : العَصَا واليَدِ أو ما فرّق به بين الحلال والحرام من الشرائع .
و « الفُرْقَان » في الأَصل مصدر مثل الغُفْرَان .
وقد تقدّم معناه في { فَرَقْنَا بِكُمُ البحر } [ البقرة : 50 ] .
وقيل : « الفُرقَانُ » هنا اسم للقرآن ، قالوا : والتقدير : ولقد آتينا موسى الكتاب ، ومحمّداً الفرقان .
قال النحاس : هذا خطأ في الإعراب والمعنى ، أمّا الإعراب فلأن المعطوف على الشيء مثله ، وهذا يخالفه ، وأمّا المعنى فلقوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان } [ الأنبياء : 48 ] . وقال قُطْرب وزيد : « الفُرْقَانُ انْفِرَاقُ البَحْرِ له » .
فإن قلت : هذا مذكور في قوله : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر } [ البقرة : 50 ] وأيضاً قوله بعد ذلك : « لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ » لا يليق إلاّ بالكتاب؛ لأن ذلك لا يذكر إلا عقيب الهدى ، فالجواب عن الأولى أنه تعالى لم يبين في قوله : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر } أن ذلك كان لأجل موسى عليه السلام ، وفي هذه الآية بَيّن ذلك بالتنصيص .
وعن الثاني : أن فَرْقَ البحر كان من الدّلائل فلعلّ المُرَاد : آتينا موسى الكتاب ليستدلُّوا بذلك على وجود الصانع ، وصدق موسى عليه السَّلام ، وذلك هو الهِدَايَةُ ، وأيضاً فالهدى قد يُرَادُ به الفَوْزُ والنَّجَاة ولم يُرَدْ به الدلالة ، فكأنه تعالى بيّن أنه أتاهم الكتاب نعمةً من الدين والفرقان الذي جعل به نجاتهم من الخَصْمِ نعمةً عاجلةً .
وقيل : الفرقان : الفَرَجُ من الكَرْب؛ لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط ، { إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } [ الأنفال : 29 ] أي : فَرَجاً ومَخْرَجاً وقيل : الحجّة والبَيَان ، قاله ابن بحر .
وقيل : الفُرْقَان الفَرْقُ بينهم وبين قوم فرعون ، أنجى هؤلاء ، وغرق أولئك ، ونظيره يوم الفُرْقَان ، فقيل يعني به يوم بدر .
فصل في الرد على المعتزلة
استدلت المعتزلة بقوله : « لعلكْم تهتدون » على أن الله أراد الاهتداء من الكُلّ ، وذلك يبطل قول من يقول : أراد لكُفْرَ من الكافر . وأيضاً إذا كان هداهم أنه تعالى لم يخلق الاهتداء ممن يهتدي ، والضلال ممن يضل ، فما الفائدة في إنزال لكتاب والفرقان ، ولقوله : « لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ » ومعلوم أن الاهتداء إذا كان يخلقه ، فلا تأثير لإنزال الكتب فيه لو كان الاهتداء [ ولا كتاب لحصل ] الاهتداء ولو أنزل الكتاب ، ولم يخلق الاهتداء فيهم لما حصل الاهتداء ، فيكف يجوز أن يقول : أنزلت [ الكتاب ] لكي تهتدوا؟ وقد تقدّم مثل [ هذا ] الكلام .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
« يا قوم » أعْلَمْ أن في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم ستَّ لُغَات .
أفصحها : حذفها مجتزئاً عنها بالكَسْرَةِ ، وهي لغة القرآن .
والثانية : ثبوت الياء ساكنة .
الثالثة : ثبوتها مفتوحة .
الرابعة : قلبها ألفاً .
الخامسة : حذف هذه الألف ، والاجتزاء عنها بالفتحة؛ كقوله : [ الوافر ]
495 وَلَسْتُ بِرَاجِعِ مَا فَاتَ مَنِّي ... بِلَهْفَ وَلاَ بِلَيْتَ وَلاَ لَوَ أنِّي
أي يقول : يا لَهْفَا .
السَّادِسَةُ : بناء المضاف إليها على الضَّمّ تشبيهاً بالمفرد ، نحو قراءة من قرأ : { قَالَ رَبِّ احكم بالحق } [ الأنبياء : 112 ] .
قال بعضهم : لأن « ياقوم » في تقدير : يا أيها القوم والقوم : سم جمع؛ لأنه دالّ على أكثر من اثنين ، وليس له واحد من لفظه ، ولا هو على صيغة مختصّة بالتكسير ، ومُفْردُهُ « رَجُل » ، واشتقاقه من « قَامَ بالأَمرْرِ يقومُ به » ، قال تعالى : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء } [ النساء : 34 ] والأصل في إطلاقه على الرجال؛ ولذلك قوبل بالنِّسَاء في قوله تعالى : { لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ } [ الحجرات : 11 ] .
وقول زهير : [ الوافر ]
496 وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ جِصْنٍ أمْ نِسَاءَ
وأما قوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين } [ الشعراء : 105 ] و { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ } [ الشعراء : 106 ] والمكذبون رجال ونساء فإنما ذلك من باب التَّغْلِيب ، ولا يجوز أن يطلق على النِّساء وحدهن آلبتة ، وإن كانت عبادة بعضهم توهم ذلك .
فصل في نظم الآية
في قوله : « يا قوم » لطيفة ، وهي أنه أضاف القوم إلى نفسه ، وأضاف نفسه إليهم إضافة اختلاط ، وامتزاج ، فكأنه منهم [ وهم ] منه فَصَارَا كالجَسَدِ الواحد فهو مقيد لهم ما يريد لنفسه ، وإنما يضرهم ما يضره وما ينفعهم ينفعه كقول القائل لغيره إذا نصحه : ما أُحِبُّ لك إلا ما أُحِبُّ لنفسي وذلك إشارة إلى اسْتِمَالَةِ قلوبهم إلى قَبُولِ دعواه ، وطاعتهم له فيما أمرهم به ، ونَهَاهُمْ عنه .
قوله تعالى : { باتخاذكم العجل } الباء للسببية ، متعلّقة ب « ظلمتم » ، وقد تقدم الخلاف في مثل هذه لمادة .
و « العِجْل » مفعول أوّل ، والثَّاني محذوف أي : إلهاً كما تقدم ، والمصدر هُنَا مضاف للفاعل ، وهو أحسن الوجهين ، فإن المصدر إذا اجتمع فاعله ومفعوله فالأولى إضافته إلى الفاعل؛ لأنه رتبته التقديم ، وهذا من الصور التي يجب فيها تقديم الفاعل .
وأما { قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ } [ الأنعام : 137 ] فسيأتي إن شاء الله تعالى . وتقدّم الكلام في « العِجْل » .
قوله : { إلى بَارِئِكُمْ } متعلّق ب « توبوا » ، والمشهور كسر الهمزة؛ لأنها حركة إعراب . وروي عن أبي عمرو ثلاثة أوجه أخر :
الاخْتِلاَس : وهو الإتيان بحركة خفية ، والسكون المحض ، وهذه قد طعن فيها جماعة من النحاة ، ونسبوا راويها إلى الغَلَطِ على أبي عَمْرو .
وقال سيبويه : « إنما اختلس أبو عمرو فظنَّه الراوي سَكَّن ولم يضبط » .
وقال المبرِّد : « لا يجوز التسكين مع تَوَالِي الحركات في حرف الإعراب في كلام ولا شِعْرِ ، وقراءة أبي عمرو لحن » .
وهذه جرأة من المبرد ، وجهل بأشعار العرب ، فإن السُّكُونَ في حركات الإعراب قد ورد في الشعر كثيراً؛ منه قول امرء القيس : [ السريع ]
497 فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُنْتَحْقِبٍ ... إِنْماً مِنَ الله وَلاَ وَاغِلِ
فَسكَّن « أَشْرَبْ » ، وقال جَرِير : [ البسيط ]
498 . . ... وَنَهْرُ تِيرَى فَلاَ تَعْرِفْكُمُ العَرَبُ
وقال آخر : [ السريع ]
499 رُحْتِ وفي رِجْلَيْكِ مَا فِيهِمَا ... وَقَدْ بَدَا هَنْكِ مِنَ المِئْزَرِ
يريد : « هَنُك وتَعْرِفُكُكم » فهذه حركات إعراب ، وقد سُكّنت ، وقد أنشد ابن عطية وغيره رَدَّا عليه قوله : [ الرجز ]
500 قَالَتْ سُلَيْمَى : اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا ... وقول آخر : [ الرجز ]
501 إِذَا اعْوَجَجْنَ قُلْتُ : صَاحِبْ قَوِّمِ ... وقول الآخر : [ الرمل ]
502 إِنَّما شِعْريَ شَهْدٌ ... قَدْ خُلِطْ بِجْلْحُلانِ
ولا يحسن ذلك؛ لأنها حركات بناء ، وإما منع هو ذلك من حركات الإعراب ، وقراءة أبي عمرو صحيحةٌ ، وذلك أن الهمزة حرف ثقيلٌ ، ولذلك اجتزء عليها بجميع أنواع التخفيف ، فاستثقلت عليها الحركة فقدِّرتن وهذه القراءة تشبه قراءة حمزة رحمه الله في قوله تعالى : { وَمَكْرَ السيىء وَلاَ } فإنه سكن همزة « السّيِّىء » وصلاً ، والكلام عليهما واحد ، والذي حسنه هنا أنّ قبل كسرةِ الهمزةِ راءٌ مكسورةٌ ، والراء حرف تكرير ، فكأنه توالى ثلاث كسرات فحسن التَّسْكين ، وليت المبرِّد اقتدى بسيبويه في الاعْتِذَار عن أبي عمرو . وجميع رواية أبي عمرو دائرة على التَّخْفيف ، وذلك يدغم المثلين ، والمتقاربين ، ويُسَهِّل الهمزة ، ويسكن نحو : { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] و { يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] و { بِأَعْلَمَ بالشاكرين } [ الأنعام : 53 ] علكى تفصيل معروف عند القُرَّاء ، وروي عنه إبدالُ هذه الهمزة السَّاكنة ياءً ، كأنه لم يعتدّ بالحركة المقدرة ، وبعضهم ينكر ذلك عنه ، فهذه أربع قراءات لأبي عمرو .
وروى ابن عطية عن الزهري : « بَارِيكُمْ » بكسر الياء من غير همزة قال : « ورويت عن نافع » .
قلتك من حق هذا القارىء أن يكسن الياء؛ لأن الكسرة ثقيلةٌ عليها ، ولا يجوز ظهورها إلاّ في ضرورة شعر؛ كقول أبي طالب : [ الطويل ]
503 كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ الله نُبْزِي مُحَمَّداً ... وَلَمْ تَخْتَضِبْ سُمْرُ العَوَالِي بالدَّمِ
وقرأ قتادة : « فَاقْتَالُوا » وقال : هي من الاستِقَالة .
قال ابن جنِّي : اقْتَالَ : افتعل ، ويحتمل أن تكون عينها واواً ك « اقْتَادُوا » أوياء ك « اقْتَاسَ » ، والتصريف يضعف أن تكون من الاستقالة .
ولكن قتادة ينبغي أن يُحْسَنَ الظنُّ به في أنه لم يورد ذلك إلا بحجّة عنده .
وقرىء أيضاً : « فَأَقِيلُوا أنفسكم » بالياء المُثَنَّاة التحتية ، وهي موافقة للرسم أيضاً .
« والبارىء » : الخالق ، برأ الله الخلق أيك خلقهم ، وقد فرق بعضهم بين الخَالِقِ والبارىء ، بأن البَارِىءَ هو المبدع والمُحْدِث ، والخالق هو المقدر النَّاقل من حال إلى حال ، وأصل هذه المادّة يدلّ على الانفصال والتميز ، ومنه : برأ المريض بُرْءاً وبَرْءاً وبَرَاءَةً ، وبرئت أيضاً من الدَّيْن براءةً ، والبَرِيّة : الخلق؛ لأنهم انفصلوا من العَدَمِ إلى الوجود ، إلاّ أنه لا يهمز .
وقيل : أصله من البَرَى وهو التراب . وسيأتي تحقيق القولين إن شاء الله تعالى .
قوله : { فاقتلوا أَنفُسَكُمْ } .
قال بعض المفسرين : هذه الآية وما بعدها منقطعمةٌ عما تقدم من التذكير بالنعم؛ لأنها أمر بالقَتْلِ ، والقتل لايكون نعمة ، وهذا ضعيف لوجوه .
أحدها : أن الله تعالى نبَّههم على عظم ذنبهم ، ثم نبّههم على ما به يتخلّصون عن ذلك الذنب العظيم ، وذلك من أعظم النعم في الدين ، وإذا عدّد الله عليهم النعم الدنيوية ، فتعديد النعم الدينية أولى ، ثم إنّ هذه النعمة ، وهي كيفية التَّوبة لما لم يكن وصفها إلا بمقدّمة ذكر المعصية كان ذكرها أيضاً مع تمام النّعمة ، فصار كل ما تضمّنته هذه الآية معدوداً في نعم الله تعالى ، فجاز التذكير بها .
وثانيها : أنه تعالى لما أمرهم بالقَتْلِ رفع ذلك الأمر عنهم قيل فَنَائِهِمْ بالكلية ، فكان ذلك نعمة في حَقِّ الباقين والموجودين في زمن محمد صلى الله عليه وسلم لأنه رفع القَتْلَ عن آبائهم ، فكان نعمة في حقهم .
وثالثها : أنه تعالى لما بين أنّ توبة أولئك ما تمّت إلا بالقَتْلِ مع أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يقول لهم : لا حَاجَةَ بكم الآن في التوبة إلى الَقَتْلِ ، بل إن رجعتم عن كفركم ، وآمنتم قَبِلَ الله إيمانكم فكان بيان التَّشديد في تلك التوبة تنبيهاً على أن توبة الحاضرين نعمة عظيمة لكونها سهلةٌ هيّنةٌ .
ورابعها : أن فيه ترغيباً شديداً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في التوبة ، فإن أمة موسى عليه الصَّلاة والسَّلام لما رغبوا في تلك التَّوْبة مع [ غاية ] مشقْتها على النفس ، فلأن نرغب نحن في التوبة التي هي مُجَرّد الندم أولى .
فصل في كيفية قتل أنفسهم
أجمعوا على أنه لم يؤمر كلّ واحد من عبدة العِجْلِ بأن يقتل نفسه بِيَدِهِ ، قال الزُّهرِي : لما قيل لهم : « فَتُوبُوا إلى بَارِئَكُمْ » قاموا صَفّين ، وقتل بعضهم بعضاً ، حتى قيل لهم : كفُّوا ، كفان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحَيّ .
وقيل : أرسل الله عليهم ظلاماً ففعلوا ذلك .
وقيل : قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقتلوا ، إذ لم يعبدوا العِجْل . وقيل : إن يُوشَعَ بن نُون خرج عليهم وهم مُحْتَبُونَ فقال : ملعون من حلّ حَبْوَتَهُ أم مَدّ طرفه إلى قاتله ، أو اتَّقَاهُ بِيَدٍ أو رِجْلٍ . فلم يَحلّ أحد منهم حبْوَتَه حتى قتل منهم من قتل . ذكره النحاس وغيره . وإنما عوقب الذين لم يبعدوا العِجْلَ بقتل أنفسهم على القول الأول لأنهم لم يغيروا المنكر ، وإنما اعتزلوا ، وكان الواجب عليهم أن يُقَاتلوا من عبده .
وهذه سُنّة الله في عبادة ، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : « ما من قَوْمٍ يُعمل فيهم بالمَعَاصِي هم أعزُّ منهم وأمنع لا يُغَيِّرُون إلا عَمَّهُمُ الله بِعِقَابٍ » .
فإن قيل : التوبة لا تكون إلا للباري فما الفائدة في ذكره؟
والجواب : كأنه قال : لما أذنبتم إلى الله وجب أن تتوبوا إلى الله .
فإن قيل : كيف استحقُّوا القتل ، وهم تابوا من الردَّة ، والتائب من الردة لا يقتل؟
والجواب : أن ذلك مما يختلف [ بالشرائع ] .
قوله : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } .
قال بعضهم : « ذلكم » مفرد وقاع مقوع « ذانكم » المُثَنَّى؛ لأنه قد تقدّم اثنان : التوبة ، والقَتْل .
قال أبو البقاء : « وهذا ليس بشيء؛ لأن قوله : » فاقتلوا « تفسير للتوبة فهو واحد » .
و « خير » « أفعل » تفضيل ، و~أصله : أَخْيَر ، وإنما حذفت همزته تخفيفاً ، ولا ترجع هذه الهمزة إلا في ضرورة؛ قال : [ الرجز ]
504 بِلاَلٌ خَيْرٌ النَّاسِ وَابْنُ الأخْيَرِ ... ومثله : « شَرّ » لا يجوز « أَشَرّ » إلا في ندور ، وقد قرىء : { مَّنِ الكذاب الأشر } [ القمر : 26 ] وإذا بني من هذه المادة فعل تعجّب على « أفْعَل » ، فلا تحذف همزته إلا في ندور ، كقولهم : « ما خَي } ر اللبن للصحيح ، وما شَرّه للمبطون » ف « خَيْر وشَرّ » قد خرجا عن نظائرهما في باب التَّفضيل والتعجُّب .
و « خَيْر » أيضاً مخفف من « خَيْر » على « فَيْعل » ولا يكون من هذا الباب ، ومنه : { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [ الرحمن : 70 ] .
قال بعضهم : مخفف من « خَيِّرات » . والمفضّل عليه محذوف للعلم به ، أي : خير لكم من عدم التوبة . ول « أفعل » التفضيل أحكام كثيرة ، وباقي منها ما يضطر إليه .
قوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } في الكلام حّذْفٌ ، وهو : ففعلتم ما أمرتم به من القتل فتاب عليكم ، والفاء الأولى في قوله : « فَتُوبُوا » للسببية؛ لأن الظلم سَبَبُ التوبة .
والثانية للتعقيب؛ لأن المعنى : فاعزموا على التَّوْبةن فاقتلوا أنفسكم .
والثَّالثة متعلقة بمحذوف ولا يخلو : إما أن ينتظم في قول مُوسَى لهم فيتعلّق بشرط محذوف ، كأنه قال : وإن فعلتم فقد تاب عليكم ، وإما أن يكون خطاباً من الله لهم على طريقة الالْتِفَاتِ ، فيكون التقدير : ففعلتم ما أمركم به موسى ، فتاب عليكم بارئكم . قاله الزمخشري .
وقوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } ، أي فتجاوز عن الباقين منكم . إنه هو التواب الرحيم .
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
قوله : { لَن نُّؤْمِنَ } إنما تعّدى ب « اللام » دون « الباء » لأحد وجهين :
إمّا أن يكون التقدير : لن نؤمن لأجل قولك .
وإما أن يضمن معنى الإقرار ، أي : لن نقر لك بما ادعيته .
وقرأ أبو عمرو بإدغام النون في اللام ، لتقاربهما .
وفرق بعضهم بين قوله : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } وجعل الإيمان به بما جاء به ، والإيمان له هو الاستسلام والانقياد .
قوله : { جَهْرَةً } فيها قولان :
أحدهما : أنها مصدر ، وفيها حيئنذ قولان :
أحدهما : أن ناصبها محذوف ، وهو من لفظها تقديره : جهرتم جهرة ، نقله « أبو البقاء » .
والثاني : أنها مصدر من نوع الفعل ، فتنتصب انتصاب « القرفصاء » من قولك ، « قعد القُرْفُصَاء » فإنها نوع من الرؤية ، وبه بدأ « الزمخشري » .
والثَّاني : أنها مصدر واقع الحال ، وفيها حينئذ أربعة أقوال :
أحدها : أنه حَالٌ من فاعل « نرى » ، أي : ذوي جَهْرَة ، قاله « الزمخشري » .
والثاني : أنها حال من فاعل « قُلْتم » ، أي : قلتم ذلك مُجَاهرين ، قاله « أبو البقاء » . وقال بعضهم : فيكون في الكلام تقديم وتأخير أي : قلتم جَهْرَةً : لن نؤمن لك ، ومثل هذا لا يقال فيه تقديم وتأخير ، بل أتي بمقول القول ، ثم بالحال من فاعله ، فهو نظير : « ضربت هنداً قائماً » .
والثالث : أنها حال من اسم الله تعالى أي : نراه ظاهراً غير مستور .
والرابع : أنها حال من فاعل « نؤمن » ، نقله « ابن عطية » ، ولا معنى له . والصحيح من هذه الأقوال هو الثاني .
وقرأ « ابن عَبَّاس » : جَهَرَةً بفتح الهاء ، وفيها قولان :
أحدهما : أنها لغة في « جَهْرَة » .
قال « ابن عطية » : « وهي لغة » مسموعة « عند البصريين فيما كفيه حرف الحَلْق ساكن قد انفتح ما قبله ، والكُوفيون يُجِيزُونَ فيه الفتح ، وإن لم يسمعوه » وقد تقدم تحريره .
والثاني : أنها جمع « جَاهِر » نحك « خَادِم وخَدَمَ » ، والمعنى : حتى نرى الله كَاشِفِينَ هذا الأمر ، وهي تؤيد كون « جَهرة » حالاً من فاعل « نرى » .
و « الجَهْر » : ضد السِّرّ ، وهو الكشف والظهور ، ومنه : جَهَرَ بالقراءة أي : أظهرها .
قال الزمخشري : « كأن الَّذِي يرى بالعين جاهر بالرُّؤية ، والذي يرى بالقلب مخافت بها » .
قوله : { فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة } قرأ عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم « الصَّعْقة » بغير ألف ، وقرأ الباقون بالألف ، وهما لغتان .
فصل في زمان هذه الواقعة
قال محمد بن إسحاق : هذه الواقعة قَبْلَ تكليفهم بالقَتْلِ لما رجع موسى عليه الصلاة والسلام من الطُّور ، فرأى ما همم عليه من عِبَادَةِ العِجْلِ ، وقال لأخيه والسامري ما قال ، وحرق العجل ، وألقاه في البَحْرِ ، واختار من قومه سبعين رجلاً ، فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى : [ أرنا ربك حتى ] يسمعنا كلامه ، فسأل موسى عليه الصلاة والسلام فأجاب الله إليه ، ولما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغَمَامِ ، وتغشّى الجبل كله ، ودنا من موسى الغَمَام ، فدخل فيه فقال للقوم : ادخلوا وادعوا ، وكان موسى عليه الصلاة والسلام متى كلمه ربه أوقع على جبهته نوراً ساطعاً لا يستطيع أحد من بني آدم النظر إليه ، وسمع القوم كلام الله تعالى مع موسى يقول له : افْعَلْ و لاتَفْعَلْ ، فلما تم الكلام انكشف عن موسى الغَمَام الذي دخل فيه ، فقال القوم بعد ذلك : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة } فماتوا جميعاً ، وقام موسى رافعاً يديه إلى السماء يدعو ، ويقول : يا إلهي اخترت بني إسرائيل سبعين رجلاً ليكونوا شهودي بقبول توبتهم ، فأرجع إليهم ، وليس معي منهم واحد ، فما الذي يقولون لي؟ فلم يزل موسى مشتغلاً بالدعاء حتى ردّ الله عليه أرواحهم ، وطلب تَوْبَةَ بني إسرائيل من عبادة العجل فقال : « لا ، إلا أن يقتلوا أنفسهم » .
وقال « السُّدي » : لما تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل بأن قتلوا أنفسهم أمر الله تعالى أن يأتيهم موسى في ناسٍ من بني إسرائيل يعتذرون من عبادتهم العِجْلَ ، فاختار موسى سبعين رجلاً ، فلما أتوا الطور قالوا : لن نؤمن لك حَتَّى نرى الله جهرةٌ ، فأخذتهم الصاعقة ، وماتوا ، فقام موسى يبكي ويقول : يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل ، فإ‘ني أمرتهم بالقَتْلِ ، ثم اخترت من أنفسهم هؤلاء ، فإذا رجعت إليهم ، وليس معي منهم أحد فماذا أقول لهم؟ فأحياهم الله تعالى فقاموا ، ونظر كل واحد منهم إلى الآخر [ كيف يحييه الله تعالى ] .
فصل
في « الصَّاعقة » قولان :
الأول : قال « الحَسَن وقتادة » : هي الموت ، لقوله تعالى : { فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله } [ الزمر : 68 ] وهذا ضعيف لوجوه :
أحدها : قوله تعالى : { فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } ، ولو كانت الصاعقة هي الموت لا متنع كونه ناظرين إلى الصَّاعقة .
وثانيها : قوله تعالى : { وَخَرَّ موسى صَعِقاً } [ الأعراف : 143 ] أثبت الصَّاعقة في حقه مع أنه لم يكن ميتاً؛ لأنه قال : أَفَاقَ ، والإفاقة لا تكون عن الموت .
وثالثها : أن الصَّاعقة وهي التي تصعق ، وذلك إشارة إلى سبب الموت .
والقول الثاني : الصَّاعقة هي سبب الموت ، واختلفوا فيها .
فقيل : هي نار وقعت من السماء فأحرقتهم .
وقيل : صحية جاءت من السماء .
وقيل : أرسل الله جنوداً ، فلما سمعوا حسّها خروا صَعِقِيْنَ ميتين يوماً وليلةً .
قوله : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } جلمة حالية ، والمعنى : وأنتم تنظرون موت بعضكم خلف بعض ، أوك تنظرون إلى ما حَلّ بكم ، أو : أنتم أعيتكم صَيْحَةٌ وتفكّر .
قوله : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ } [ أحييناكم من بعد موتكم ] .
قال قتادة : ماتوا وذهبت أرواحهم ، ثم ردوا لاستيفاء آجالهم .
قال النحاس : : « وهذا احتجاج على من لم يؤمن بالبَعْثِ من قريش ، واحتجاج على أهل الكتاب إذ خبروا بهذا » .
قوله : { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ما فعل بكم من البعث بعد الموت .
وقيل : ماتوا موت هُمُودٍ يعتبر به الغير ، ثم أرسلوا .
وأصل البَعْث الإرسال .
وقيل : بل أصله إثارة الشيء من محلِّه ، يقال : بعثت الناقة : أثرتها ، أي حركتها؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
505 وَفِتْيَانِ صِدْقٍ قَدْ بَعَثْتُ بِسُحْرَةٍ ... فَقَامُوا جَمِيعاً بَيْنَ عَاثٍ وَنشْوَانِ
وقال غيره : [ الكامل ]
506 وَصَحَابَةٍ شُمٍّ الأُنُوفِ بَعَثْتُهُمْ ... لَيْلاً وَقَدْ مَالَ الكَرَى بِطُلاَهَا
وقيل : { بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } علَّمناكم من بعد جهلكم .
فصل في اختلافهم في تكليف من بعث بعد موته
قال المَاوَرْدِيّ : اختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته ، ومُعَاينة الأحوال المضطرة إلى المعرفة على قولين :
أحدهما : بقاء تكليفهم لئلا يَخْلُو عاقل من تعبد .
الثاني : سقوط تكليفهم معتبراً بالاستدلال دون الاضطرار .
والأول أَصَحّ ، لقوله تعالى { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، ولفظ : الشكر يتناول جميع الطاعات ، لقوله تعالى : { اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً } [ سبأ : 13 ] .
فإن قيل : كيف يجوز أن يكلفهم وقد أماتهم ، ولو جاز ذلك جاز تكليف أهل الآخرة بعد البعث؟
فالجواب : أنّ الذي منع من تكليف أهْل الآخرة ليس هو الإماتة ثم الإحْياء ، وإنما المانع كونه اضطرهم يوم القِيَامةَةِ إلى معرفته لَذَات الجَنّة ، وآلام النَّار ، وبعد العلم الضروري لا تكليف ، وإذا كان كذلك ، فيكون مَوْتُ هؤلاء بمنزلة النَّومَ والإغماء .
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
هذا هو الإنعام السابع المذكور في سورة « الأعراف » ، وظاهر هذه الآية يدلّ على أن هذا الإضلال كان بعد البعث ، لأنه تعالى قال : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ البقرة : 56 ] ، { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام } أي : وجعلنا الغَمَام يظلكمن وذلك في التِّيْهِ سخر الله تعالى لهم السحاب يظلّهم من الشمس ، ونزل عليهم المَنّ وهو « التَّرنْجِبِين » بالتاء والراء من طلوع الفجر إلى إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع .
وقال « مجاهد » : هو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار طَعْمُهُ كالشَهد .
وقال « وهب » : خبز الرقاق . وقال « السدي » : عَسَل كان يقع على الشجر من الليل .
وقال « الزجاج » : « المَنّ : ما يمنّ الله عز وجل به مما لا تَعَبَ فيه ولا نصب » .
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الكَمَأةُ من المَنّ وماؤها شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ » .
« والسَّلْوَى » قال « ابن عباس » وأكثر المفسرين : هو طَائِرٌ يشبه السّماني .
وقال أبو العالية ومقاتل : هو السّماني .
وقال « عكرمة » : طير « الهِنْدِ » أ : بر من العصفور .
وقيل : السَّلوى : العسل نقله المؤرّج ، وأنشد قول الهذليِّ : [ الطويل ]
507 وَقَسَمَها بِالله جَهْداً لأَنْتُمُ ... أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا
وغله « ابن عطية » وادّعى الإجماع على أن السَّلْوَى : طائرن وهذا غير مُرْضٍ ، فإ‘ن « المؤرج » من أئمة اللغة والتفسير ، واستدلّ ببيت الهذلي ، وذكر أنه بلغة « كنانة » . وقال « الراغب » : « السَّلْوَى مصدر ، أي : لهم بذلك التَّسلِّي » .
قوله : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام } تقديرهك وجعلنا الغمام يُظَلِّلُكُمْ .
قال : « ابو البقاء » : ولا يكون كقولك : « ظَلَّلْتُ زيداً يُظَلُّ » ؛ لأن ذلك يقتضي أن يكون الغمام مستوراً بظل آخر .
وقيل التقدير : بالغمام ، وهذا تفسير معنى لا إعراب ، لأن حذف الجر لا يَنْقَاس .
فصل في اشتقاق الغمام
الغمام : السَّحَاب ، لأنه يغم وَجْه السماء ، أي : يَسْتُرُهَا ، وكل مستور مغموم أي مغطى .
وقيل : الغمام : السَّحاب الأبيض خاصّة ، ومثله : الغَيْمُ والغَيْن بالميم والنون وفي الحديث : « إنه لَيُغَانُ عَلىَ قَلْبِي » .
وواحدته « غَمَامَةٌ » فهو اسم جنس . و « المَنّ » تقدم تفسيره ، ولا واحد له من لفظه .
والمَنّ أيضاً مقدار يوزن به ، وهذا يجوز إبدال نونه الأخيرة حرف علّة ، فيقال : مَناً مثل : عَصاً ، وتثنيته : مَنَوَان ، وجمعه : أمْنَاء . والسَّلْوَى تقدمت أيضاً ، واحدتها : سَلْوَاةٌ؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
507 وَإنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ سَلْوَةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ السَّلْوَاةُ مِنْ بَلَلِ القَطرِ
فيكون من باب « قَمْح وقَمْحَة » .
وقيل : سَلْوَى مفرد وجمعها : سَلاَوى ك « فَتْوَى وَفَتَاوَى » قاله « الكسائي » .
وقيل : سلوى يستعمل للواحد والجمع ك : دِفْلَى . و « السُّلْوَانَةُ » بالضم خَرَزَةٌ كانوا يقولون : إذا صُبَّ عليها ماء المَطَرِ فشربه العاشق سَلاَ؛ [ قال : [ الطويل ]
509 شَرِبْتُ عَلَى سُلْوَانَةٍ مَاءً مُزْنَةٍ ... فَلاَ وَجَدِيدِ العَيْشِ يَا مَيُّ مَا أَسْلُو ]
واسم ذلك الماء « السُّلْون » .
وقال بعضهم : « السُّلْوَان » دواء يُسْقَاه الحزين فَيَسْلُو ، والأطباء يسمونه المُفَرِّح . يقال : سَلَيْتُ وسَلَوْت ، لُغَتَان . وهو في سُلْوة من العيش ، قاله « أبو زيد » .
و « السَّلوى » عطف على « المَنّ » لم يظهر فيه الإعراب ، لأنه مقصور ، وهذا في المقصور كلّه؛ لأنه لا يخلو من أن يكون في آخره ألف .
قال الخليل : « والألف حرف هَوَائِيّ لا مُسْتَقَرّ له ، فأشبه الحركة ، فاستحالت حركته » .
وقال « الفراء » : « لو حركت الألف صارت همزة » .
فصل في سبب تقديم المن على السلوى
فإن قيل : المعهود تقديم الأهم [ فالأهم ] والمأكول مقدّم على الفاكهة والحلوى؛ لأن به قيام البِنْيَةِ ، فالإنسان أول ما يأكل الغذاء ، ثم بعد الشِّبع يتحلّى ويأكل الفاكهة وهاهنا قدم المَنّ وهو الحلوى على الغذاء وهو السلوى فما فائدته؟
فالجواب : أن نزول الحَلْوَى من السماء آمر مخالف للعادة ، فقدم لاستطعامه بخلاف الطيور المأكولة ، فإنها ليست مخالفةً للعادة ، فإنها مألوفةٌ الأكل .
« كلوا » هذا على إضمار القول ، أي : وقلنا لهم : كلوا ، وإضمار القول كثير ، ومنه قوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ } [ الرعد : 23 ] أي : يقولون سلام ، { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ } [ الزمر : 3 ] أي : يقولونك ما نعبدهم إلاّ . { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ } [ آل عمران : 106 ] أي : فيقال لهم : أكفرتم ، وتقدم الكلام في كل تصريفه .
قوله : « مِنْ طَيِّبَات » منك لابتداء الغاية ، أو للتبعيض .
وقال : « أبو البقاء » : أو لبيان الجِنْسِ . والمفعول محذوف ، أي : كلوا شيئاً من طيبات . وهذا ضعيف؛ لأنه كيف يبين شيء ثم يحذف .
قولهك « مَا رَزَقْنَاكُم » يجوز في « ما » أن تكون بمعنى الَّذي ، وما بعدها حاصلة لها ، والعائد محذوف ، أي : رَزَقْنَاكُمُوهُ ، وأن تكون نكرة موصوفة .
فالجملة لا محلّ لها على الأول ، ومحلّها الجر على الثَّاني ، والكلام في العَائِد كما تقدّم ، وأن تكون مصدريةٌ ، والجملة صلتها ، ولم تَحْتَجْ إلى عائدٍ على ما عرف قبل ذلك ، ويكون هذا المصدر واقعاً موقع المفعول ، أي : من طيبات مرزوقنا .
قوله : « أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » .
« أنفسهم » مفعول مقدم ، و « يظلمون » في محل نصب خبر « كانوا » وقدّم المفعول إيذاناً باختصاص الظُّلم بهم ، وأنه لا يتعّداهم .
والاستدراك في « لكن » واضح ، ولا بُدّ من حذف جملة قبل قوله : « وَمَا ظَلَمُونَا » ، فقدره ابن عطية : فعصوا ، ولم يقابلوا النعم بالشكر .
وقال الزمخشري « : تقديره فظلمونا بأن كفروا هذه النعم ، وما ظلمونا ، فاختصر الكلام بحذفه لدلالة » وَمَا ظَلَمُونَا « عليه .
فإن قيل : قوله : » وَمَا ظَلَمُونَا « جلمة خبرية ، فكيف عطفت على قوله : » كلوا « ، وهي جملة أمرية؟ .
فالجواب من وجهين :
الأول : أن هذه جملة مستأنفة لا تعلُّق لها بما قبلها .
والثاني : أَنَّهَا معطوفة على الجملة القولية المحذوفة أي : وقيل لهم : كلوا من طيبات ما رزقناكم ، وما ظلمونا ، فيكون قد عطف جملة خبرية على خَبَرِيّة .
و » الظلم « : وضع الشيء في غير موضعه .
وقوله : » كانوا « وكانت هذه عادتهم كقولكك » كان حاتم كريماً « .
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
هذا هو الإنعام الثَّامن ، وحذفت الألف من « قلنا » لسكونها ، وسكون الدال بعدها ، والألف التي يبتدأ بها قبل الدّال ألف وصل؛ لأنه من يدخل .
قوله : « هَذِهِ الْقَرْيَةَ » .
هذه منصوبة عند سيبويه على الظرف ، وعند الأخفش على المفعول به ، وذلك أنّ كل ظرف مكان مختصّ لا يتعدّى إليه الفعل إلاّ ب « في » ، تقول : صلّيت في البيت ولا تقول : صلّيت البيت إلاّ ما استثني .
ومن جملة ما استثني « دخل » مع كل مكان مختصّ ، « دخلت البيت والسُّوق » ، وهذا مذهب سيبويه وقال الأخفش : الواقع بعد « دَخَلت » مفعول به كالواقع بعد « هَدَمت » كقولك : « هَدَمت البيت » فول جاء « دَخَلْت » مع الظرف تعدّى ب « في » نحو : « دخلت في الأمر » ولا تقول : « دَخَلْت الأمر » ، وكذا لو جاء الظرف المختصّ مع غير « دخل » تعدّى ب « في » إلا ما شَذَّ؛ كقوله : [ الطويل ]
510 جَزَ الله [ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ] ... رَفِيقَيْنِ قَالاَ خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ
و « القرية » « المدينة » ، وهي نعت ل « هذه » ، أو عطف بَيَان كما تقدم ، والقرية مشتَقّة من قَرَيْتُ أي : جمعت ، تقول : قَرَيْتُ المَاءَ في الحَوْض ، أي : جَمَعْتُهُ ، واسم ذلك الماء قِرى بكسر القاف و « المِقْرَاة » للحوض ، وجمعها « مَقَارٍ » ، قال : [ الطويل ]
511 عِظَام الْمَقَارِي ضَيْفُهُمْ لاَ يُفَزَّعُ .. . . .
و « القَرْيَان » اسم لمجتمع الماء ، و « القَرْيَةُ » في الأصل اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم ، وقد يطلق عليهم مجازاً ، وقوله تعالى { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] يحتمل الوجهين .
وقال الراغب : « إنها اسم للموضع وللناس جميعاً ، ويُسْتَعْمَل في كل واحد منهما » و « القِرْية » بكسر القاف في لغة « اليمن » ، واختلف في تعيينها .
فقال الجمهور : هي بيت المقدس .
وقال ابن عباس : « أَرِيْحا » وهي قرية الجَبَّارين ، وكان فيها قوم من بَقِيَّةِ عَادٍ يقال لهم : العَمَالقة ، ورئيسهم عوج بن علق .
وقال « ابن كيسان » : « الشّام » .
وقال الضحاك : « الرَّمْلَة » و « الأردنُّ » ، و « فلسطين » و « تَدْمُرُ » .
وقال مقاتلك « إيليا » .
وقيل : بلقاء .
وقيل : « مصر » . والصحيح الأول ، لقوله من المائدة : { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ } [ المائدة : 21 ] .
قوله : « وَكُلوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً » تقدّم الكلام على هذه المادة .
قوله : « الْبَابَ سُجَّداً » حال من فاعل « ادْخُلُوا » وهو جمع « سَاجِد » .
==============
ج4. ج4.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
قال أبو البقاءك « وهو أبلغ من السجود » ، يعنيك أن جمعه على « فُعَّل » فيه من المُبَالغة ما ليس في جمعه على « فُعُول » .
وأصل باب : بَوَبٌ ، لقولهم : أَبْوَاب ، وقد يجمع على « أَبْوِبة » ؛ لازدواج الكلام؛ قال : [ البسيط ]
512 هَتَّاك أَخْبِيَةٍ وَلاَّجُ أَبْوِبَةٍ ... يَخْلِطُ بِالْجِدِّ مِنْهُ الْبِرَّ واللِّينا
ورواه الجَوهريُّ : [ البسيط ]
513 ... يَخْلِطُ بالْبِرِّ مِنْهُ الْجِدَّ وَاللِّيْنَا
ولو أفرده لم يجزن ومثله قوله عليه الصلاة والسلام : « مرحباً بالقَوْمِ أو بالوفد غير خَزَايَا ولا نَدامَى » .
وتَبَوَّبْتُ بَوَّاباً اتخذته . وأبواب مُبَوَّبة ، كقولهم : أصناف مصنّفة ، وهذا شيء من بابتك ، أي : يصلح لك وتقدّم معنى السجود .
قوله : « وَقُولُوا » قال [ ابن كثير ] الواو هنا حالية لا عاطفة ، أي : ادخلوا سُجَّداً في حال قولكم حطّة .
وأما قوله : « حطّة » قرىء بالرّفع والنصب ، فالرفع على أنه خبر متبدأ محذوف ، أي : مسألتنا حطّة ، أو أمرك حطة .
قال : « الزمخشري » : والأصل النصب بمعنى : حُطّ عنا ذنوبنا حطّة ، وإنما رفعت لتعطي مَعْنَى الثبات كقوله : [ الرجز ]
514 يَشْكُو إِليَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى ... صَبْرٌ جَميلٌ فكِلانَا مُبْتَلى
والأصل : صبراً عَلَيَّ ، أصْبِرْ صبراً ، فجعله من باب { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 24 ] وتكن الجملة في محلّ نصب بالقول .
وقال « ابن عطية » وقيل : أمروا أن يقولوها مرفوعة على هذا اللفظ .
يعني : على الحكاية ، فعلى هذا تكون هي وحَدْهَا من غير تقدير شيء في محلّ نصب بالقول وإنما منع [ النصب ] حركة الحكاية .
وقال أيضاً : وقال عكرمة : أُمِرُوا أن يقولوا : لا إله إلا الله ، لِتحطَّ بها ذنوبهم وحَكَى قَوْلَيْن آخرين بمعناه ، ثم قال : « فعلى هذه الأقوال تقتضي النَّصب » ، يعني أنه إذا كان المَعْنَى على أنّ المأمور به لا يتعيّن أن يكون بهذا اللَّفظ الخاً ، بل بأيّ شيء يقتضي حطّ الخطيئة ، فكان ينبغي أن ينتصب ما بعد القول مفعولاً به نحك قيل لزيد خيراً ، المعنى : قل له ما هو من جنس الْخُيُور . وقال النَّحَاسك الرفع أولى ، لما حكي عن العرب في معنى « بَدَّل » .
قال أحمد بن يحيى : بَدّلته أي غيرته ، ولم أزل عينه ، وأبْدَلْتُه أَزَلْتُ عينه وشَخْصَهُ؛ كقوله : [ الرجز ]
515 عَزْلَ الأَمِيْرِ لِلأَمِير المُبْدَلِ ... وقال تعالى : { ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ } [ يونس : 15 ] .
وبحديث ابن مسعود قالوا : حطّةٌ تغيؤر على الرَّفع يعني : أن الله تعالى قال : فبدَّل الذي يقتضي التَّغيير لا زَوَالَ العين ، قال : وهذا المعنى يقتضي الرَّفع لا النصب .
وقرأ بان أبي عبلة : حطَّةً بالنصب وفيها وجهان :
أحدهما : أنها مصدر نائب عن الفعل ، نحو : ضرباً زيداً .
والثاني : أن تكون منصوبة بالقول ، أي : قولوا هذا اللَّفظ بعينه ، كما تقدم في وجه الرَّفع ، فهي على الأوّل منصوبةٌ بالفعل المقدر ، وذلك الفعل المقدر ومنصوبه في محل نصب بالقول ، ورجح الزمخشري هذا الوجه .
و « الحطّة » اسم الهَيْئَةِ من الْحَطِّ ك « الجِلْسَة » و « الْقِعْدَة » .
وقيل : هي لفظة أمروا بها ، ولا ندري معناها .
وقيل : هي التَّوْبة ، وأنشد : [ الخفيف ]
516 فَازَ بِالْحِطَّةِ الَّتِي جَعَل الله ... بِهَا ذَنْبَ عَبدِهِ مَغْفُورَا
فصل في المراد بالباب
اختلفوا في « الباب » قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضّحاك ، وقتادة : إنه باب يدعى باب الحطّة من بيت المقدس ، وحكى الأَصَمّ عن بعضهم أنه عنى بالباب جِهَةً من جهات القرية ، ومدخلاً إليها .
واختلفوا في « السُّجود » ، فقال الحسن : أراد به نفس السُّجود ، إي : إلصاق الوجه بالأرض ، وهذا بعيد ، لأن الظَّاهر يقتضي وجوب الدُّخول حال السجود ، فلو حملنا السجود على ظاهره لامتنع ذلك .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس : أنَّ المُراد به الركوع ، لأنّ الباب كان صغيراً يحتاج الدَّاخل فيه إلى الانحناء .
قال ابن الخَطِيْبِ : وهذا بعيد؛ لأنه لو كان ضيقاً لكانوا مضطرين إلى دخوله ركّعاً ، فلا حاجة فيه إلى الامر .
وأجيب بأنه روي عن ابن عَبَّاس : أنهم دخلوا يزحفون على أَسْتاههمْ .
وقيل : المراد بالسجود : الخضوع . وهو الأقرب؛ لأنه لما تعذّر حمله على السجود الحقيقي وجب حمله على التواضع؛ لأن التَّائب عن الذنب لا بُدّ وأن يكون خاضعاً .
فصل في تفسير « الحطة »
وأما تفسير « الحطّة » فقال « القاضي » : إنه تعالى لما أمرهم بدخول الباب خاضعين أمرهم بأن يقولوا ما يَدُلّ على التوبة؛ لأن التوبة صفةُ القلب ، فلا يطلع الغير عليها ، فإذا اشتهر واحدٌ بذنب ، أو بمذهب خطأ ، ثم تاب عن الذنب ، أو أظهر له الحق ، فإنه يلزم أن يعرف إخوانه الَّذِين عرفوا منه ذلك الذنب ، أو ذلك المذهب ، فتزول عنه التُّهْمَة في الثبات على الباطل ، ويعودوا إلى مُوَالاته ، فالحاصل أنه أمر القوم أن يدخلوا البا ب على وَجْهِ الخضوع ، وأن يذكروا بلسانهم الْتِمَاسَ حَطّ الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب ، وخضوع الجوارح ، والاستغفار باللِّسان .
وقال « الأصَمّ » : هذه اللَّفظة من ألفاظ أهل الكتاب التي لا يعرف معناها في العربية .
وقال أبو مسلم الأَصْفَهَاني : معناه : أمرنا حطّة ، أي : أن نحطّ في هذه القرية ، ونستقر فيها ، ورد القاضي ذلك ، وقال : لو كان المراد ذلك لم يكن غفران خَطَايَاهُمْ متعلقاً به ، ولكن قوله : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } يدلّ على أن غفران الخَطَايا كان لأجل قولهم حطّةن ويمكن أن يجاب عنه بأنهم لما حطُّوا ف يتلك القرية حتى يدخلوا سجدًّا مع التَّوَاضُع كان الغفران متعلقاً به .
وقال معناه : اللَّهم حط عنا ذنوبنا ، فإنّا إنما انحططنا لوجهك ، وإرادة التذلل لك ، فحطّ عنا ذنوبنا .
فصل في بيان التلفظ بالحطة أو بمعناها
اختلفوا هل كلّفوا بهذه اللفظة بعينها ، أو بما يؤدي معناها؟
روي عن ابن عباس : أنهم أمروزا بهذه اللفظة بعينها ، وفيه نظر؛ لأن هذه اللفظة عربية ، ولم يكونوا يتكلمون بالعربية ، وأيضاً فإنما أمروا بأن يقولوا قولاً دالاً على التوبة والندم؛ فلو قالوا : اللّهم إنا نستغفرك ونتوب إليك لكان المقصود حاصلاً .
قولهك « نَغْفِرْ » هو مجزوم ف يجواب الأمر ، وقد تقدم الخلاف ، هل الجازم نفس الجملة ، أو شرط مقدر؟ أي : يقولوا نغفر .
وقرىء : « نَغْفِرْ » بالنون وهو جار على ما قبله [ من قوله : ] « وإذ قلنا » و « تُغْفَر » بالتاء بالياء مبنيّاً للمفعول .
و « خطاياكم » معفول لم يسم فاعله ، فالتَّاء لتأنيث الخَطَايا ، والياء؛ لأن تأنيثها غير حقيقين وللفصل أيضاً ب « لكم » .
وقرىء : « يغفر » مبنياً للفاعل ، وهو الله تعالى وهو في معنى القراءة الأولى ، إلاّ أن فيه التفاتاً .
و « لكم » متعلّق ب « نغفر » .
وأدغم « أبو عمرو » الراء في اللاّم ، والنحاة يستضعفونها ، قالوا : لأن الرَّاء حرف تكرير فهي أقوى من اللام ، والقاعدة أن الأضعف يدغم في الأقوى من غير عَكْسٍ ، وليس فيها ضعف ، لأن انحراف اللاّم يقاوم تكرير الراء . وقد بَيَّن « أبو البَقَاءِ » ضعفه ،
وتقدم جوابه .
قوله : « خطاياكم » : إما منصوب بالفعل قبله ، أو مرفوع حسب ما تقدّم من القراءات ، وفيها [ أربعة ] أقوال :
أحدها : قول الخليل [ أنّ ] أصلها « خَطَايىء » بيا ء بعد الألف ، ثم همزة؛ لأنها جمع « خطيئة » مثل : « صَحِيْفة وصَحَايف » ، فلو تركت على حالها لوجب قَلْبُ الياء همزة؛ لأن مدة « فَعَايل » يفعل بها كذا ، على ما تقرر في التصريف ، فضر من ذلك ، لئلا تجتمع همزتان ، بأن قلب فقام اللام ، وأخّر عنها المدّة فصارت : « خَطَائي » ، فاستثقلت الكسرة على حرف ثقيل في نفسه ، وبعده ياء من جنس الكَسْرَةِ فقلبوا الكسرة فتحة ، فتحرك حرف العّلة ، وانفتح ما قبله فقلبت ألفاً ، فصارت : « خَطَاءا » بهمز بين ألفين ، فاستثقلوا ذلك ، فإنّ الهمزة تشبه الألف ، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات ، فقلبوا الهمزة ياء؛ لأنها واقعة موقعها قبل القَلْبِ ، فصارت « خَطَايَا » على وزن « فَعَالَى » ففيها أربعة أعمال : قلب ، وإبدال لكسرة فتحة ، و قلب الياء ألفاًن وإبدال الهمزة ياء ، هكذا ذكر التصريفيون ، وهو مذهب الخليل .
الثاني : وعزاه « أبو البقاء » إليه أيضاً أنه : « خطائيء » يهمزتين : الأولى منهما مكسورة وهي المنقلبة عن الياء الزائدة في « خَطِيْئة » فهو مثل « صَحِيْفة » و « صَحَائف » ، فاستثقلوا الجمع بين الهمزتين ، فنقلوا الهمزة الأولى إلى موضع الثانية ، فصار وزنه « فَعَلى » ، وإنما فَعَلوا ذلك ، لتصير المكسورة ظرفاً ، فتنقلب ياء ، فتصير « فعالىْ » ، ثم أبدلوا من كسرة الهمزة الأولى فتحة ، فانقلبت الياء بعدا ألفاً كما قالوا في : يا لَهْفى « » ويا أَسَفى « ، فصارت الهمزة بين ألفين ، فأبْدِل منها يا ، لأن الهمزة قريبة من الألف ، فاستنكروا اجتماع ثلاث ألفات .
فعلى هذا فيها خمسة تغييرات : تقديم اللام ، وإبدال الكسرة فتحة ، وإبدال الهمزة الأخيرة ياء ، ثم إبدالها ألفاً ، ثم إبدال الهمزة التي هي لام ياء . والقول الأول أَوْلَى ، لقلّة العمل ، فيكون للخليل في المسألة قولان .
الثالث : قول سيبويه أن أصلها عنده : « خَطَايىء » كما تقدم ، فأبدل الياء الزائدة همزة ، فاجتمع همزتان ، فأبدل الثانية منهما « ياء » لزوماً ، ثم عمل العمل المتقدّمن ووزنها عند « فَعَائل » مثل : « صَحَائف » ، وفيها على قوله خمسة تغييرات : إبدال الياء المزيدة همزة وإبدال الهمزة الأصلية ياء ، وقلب الكسرة فتحة ، وقلب الياء الاصلية ألفاً ، وقلب الهمزة المزيدة ياء .
الرابع : قول « الفَرَّاء » ، هو أن « خَطَايا » عنده ليس جمعاً ل « خطيئة » بالهمز ، إنما هو جمع ل « خَطِيّة » ك « هَدِيَة وهَدَايا » و « رَكيّة ورَكَايَا » .
قال الفراء : ولو جمعت « خَطيئة » مهمزة لقلت : « خَطَاءا » يعني : فلم تقلب الهمزة ياء ، بل تبقيها على حالها ، ولم يعتد باجتماع ثلاث ألفات .
ولكنه لم يقله العرب ، فدلّ ذلك عنده أنه ليس جمعاً للمهموز .
وقال « الكسائي » : ولو جمعت مهموزة أدغمت الهمزة في الهمزة مثل : « دواب » .
وقرىء : « يَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيْئَاتِكُمْ » و « خَطِيْئَتَكُمْ » بالجمع والتوحيد ، وبالياء والتاء على مالم يُسَمَّ فاعله ، و « خَطَايَاكُمْ » بهمز الألف الأولى دون الثانية ، وبالعكس . والمعنى في هذه القراءات واحد؛ لأن الخطيئة إذا غفرها الله تعالى فقد غفرت ، وإذا غفرت فإنما يغفرها الله .
والفعل إذا تقدّم الاسم المؤنث ، وحال بينه وبين الفاعل حَائِلٌ جاز التذكير والتّأنيث كقوله تعالى : { وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة } [ هود : 67 ] . و { وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ } [ هود : 94 ] .
وقرأ الجحدري : « خَطِيئتكم » بمدة وهمزة وتاء مرفوعة بعد الهمزة .
وقرأ ابن كثير : « خَطَايأكم » بهمزة قبل اكاف .
وقرأ الكسائي : بكسر الطاء والتاء ، والباقون بإمالة الياء .
و « الغَفْر » : السّتر ، ومنه المِغْفَر : لِسُتْرة الرأسن وغفران الذُّنوبح لأنها تغطيها ، وتقد تقدّم الفرق بينه وبين العَفُوا .
و « الغِفارَة » : خِرْقَةٌ تستر الْخِمَار أن يَمَسَّه دهن الرأس .
و « الخَطِيئة » من الخَطَأ ، وأصله : العدول عن الجهة ، وهو أنواع :
أحدها : إرادة غير ما تحسن إرادته ، فيفعله ، وهذا هو الأصل [ التام ] يقال منه : « خَطِىءَ يَخْطَأ خِطْأً وخِطْأةً » .
والثاني : أن يريد ما يحسن فعله ، ولكن يقع بخلافه ، يقال منه : أَخْطَأ إِخْطَاء ، فهو مخطىء ، وجملة الأمر أنَّ من أراد شيئاً ، فاتفق منه غيره يقال : « أخطأ » ، وإن وقع كما أراد ، يقال : « أصَاب » ، وقد يقال لمن فعل فعلاً لا يحسن أو أراد إرادة لا تجمل : إنه أخطأ ولهذا يقال : أَصَابَ الخَطَأ ، وأَخْطَأَ الصَّوابَ ، وأصاب الصواب ، وأخطأ الخطأ .
قوله : « وَسَنَزِيدُ المُحْسِنينَ » أي نزيدهم إحساناً على الإحْسَان المتقدم عندهم ، وهو اسم فاعل من « أحسن » ، والمُحْسِنُ من صحّح عقد توحيده ، وأحسن سياسَةَ نفسهن وأقبل على أداء فرائضه ، وكفى المسلمين شره .
وقال بعض المفسرين : معناه : من كان محسناً جازيناه بالإحسان إحساناً ، أو زيادة كما جعل للحسنة عشراً وأكثر .
وقيل : من كان محسناً بهذه الطاعة والتوبة ، فإنا نغفر خَطَاياه ، ونزيده على غُفْران الذنوب إعطاءَ الثواب الجزيل ، وفيه وجه آخر أن المعنى من كان خاطئاً غفرنا له ذنبه بهذا الفعل ، ومن لم يكن خاطئاً ، بل كان محسناً زدنا في إحسانه .
قوله : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ } .
لا بُدّ في هذا الكلام من تأويل؛ إذ الذّم إنما يتوجه عليهم إذا بدّلوا القول الذي قيل لهم ، لا إذا بدَّلوا قولاً غيره .
فقيل : تقديره : فبدل الذين ظلموا بالذي قيل لهم قولاً غير الذي قيل لهم ف « بدّل » يتعدّى لمفعول واحد بنفسه ، وإلى آخر بالباء ، والمجرور بها هو المتروك ، والمنصوب هو الموجود ، كقول أبي النجم : [ الرجز ]
517 وَبُدِّلَتْ والدَّهْرُ ذُو تَبَدُّلِ ... هَيْفاً دَبُوراً بِالصَّبَا وَالشَّمْأَلِ
فالمتطوع عنها الصَّبا ، والحاصل لها الهَيْفُ .
قاله أبو البقاء وقال يجوز أن يكون « بدل » محمولاً على المعنى ، تقديره : فقال الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم؛ لأن تبديل القول كان بقول « فَنَصْبُ » غير عنده في هذين القولين على النِّعت ل « قولاً » .
وقيل : تقديره : فبدل الذين قولاً بغير الذي ، فحذف الحرفن فانتصب « غير » .
ومعنى التَّبْديل : التغيير كأنه قيل : فغيروا قولاً بغيره ، إي جَاءُوا بقول آخر ، فكان القول الذي أمروا به ، كما يروا في القصّة أنهم قالوا : بدل حطّة حِنْطَة .
والإبْدَال والتبديل والاستبدال : جعل الشيء مكان آخر ، وقد يقال : التبديل : التغيير ، وإن لم يأت ببدله .
وقد تقدم الفرق بين بدل وأَبْدَلَ ، وهو أن بدّل بمعنى غيّر من غَيْر إزالة العين ، وأبدل تقتضي إزالة العين ، إلا أنه قرىء : { عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا } [ القلم : 32 ] { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا } [ الكهف : 81 ] بالوجهين ، وهذا يقتضي اتِّحَادهما معنى لا اختلافهما والبديل والبدل بمعنى واحد ، وبدله غيره .
ويقال : بِدْل وَبَدل كَشِبْه وَشَبَه ، وَمِثْل وَمَثَل ، وَنِكْل وَنَكَل [ قال أبو عُبَيْدة : لم يسمع في فِعْل وفَعَل غي رهذه الأربعة أحرف ] .
فصل في بيان التبديل
قال أبو مُسلمك قوله : « فبدّل » يدلّ على أنهم لم يفلعوا ما أمروا به لأجل أنهم أتوا له ببدل ، ويدلّ عليه أن تبديل القول قد يستعمل في المُخَالفة ، قال تعالى : « سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ » إلى قوله : { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله } [ الفتح : 15 ] ولم يكن تبديلهم الخلاف في الفعل لا في القول ، فكذا هاهنا لما أمروا بالتواضع ، وسؤال المغفرة لم يمتثلوا أمر الله .
وقال جمهور المفسرين : إنَّ المراد بالتبديل أنهم أتوا ببدل له؛ لأن التبديل مشتقّ من البدل ، فلا بُدّ من حصول البدل ، كما يقال : بدّل دِيْنَهُ أي : انتقل من دِيْنٍ إلى دين ، ويؤيده قوله تعالى : « قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ » .
فصل في الباعث على تبديلهم
وقوله : « الَّذِيْنَ ظَلَمُوا » تنبيه على أن الباعث لهم على التبديل هو الظلم ، واختلفوا هل هو مُطْلق الظلم ، فيكونون كلهم بدلوا ، أو الظالمون منهم هم الذين بدلوانوهم الرؤساء والأشراف ، وهذا هو الظاهر ، لقوله في سورة « الأعراف » : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 162 ] واختلفوا هل التقوا كلهم على الأشياء التي بَدّلوهان أو بدّل كلّ أناس منهم شيئاًن أو بدّلوا في كل وقت شيئاً؟
فإن قيل : إنّهم قد بدّلوا القول والفعلن فلم خصّ القول بالتبديل؟
فالجواب : أن ذكر تبديلهم القول يدلّ على تبديل الفعل كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] أي : والبرد ، فكأنه قالك بدّلوا القول والفعل ، وأيضاً فقد يكون المراد بالقول المبدل هو الأمر ، والأمر يشتمل القول المأمور به والفعل .
واختلفوا في ذلك القول :
فروي عن ابن عَبّاس : أنّهم لم يدخلوا الباب سجداً ، ولم يقولوا حطّة ، بل دخلوا زَاحِفِيْنَ على اسْتَاههم قائلين جِنْطة .
وقال ابن زيد : استهزؤوا بموسى وقالوا ما شاء موسى أن يلعب بنا لا لعب بنا حطة أي شيء حطة .
وقال « مجاهد » : طؤطىء لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم ، ويركعوا ، فدخلوا زَاحِفِيْنَ . وقيل لهم : قولوا حطة فقالوا : حطًّا شمقاً ما يعني حطة حمراء استخفافاً بأمر الله .
قوله : { فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ } أي : أضروا بأنفهسم ، وأوسعوا في نقصان خيراتهم في الدين والدنيا .
و « الرجز » : هو العذاب .
فصل في لغات الرجز
وفيه لُغة أخرى وهي ضمّ الراء ، وقرىء بهما .
وقيل : المضموم اسم صَنَم ، ومنه : { والرجز } [ المدثر : 5 ] . والرِّجْز والرِّجْس بالزاي والسين بِمَعْنَى ك : السُّدْغ والزُّدْغ .
والصحيح أن الرِّجْزَ : الْقَذَر ، والرِّجَز : ما يصيب الإبل ، فترتعش منه ، و منه : بحر الرِّجَز في الشّعر .
قوله : « مِنَ السَّمَاءِ » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون متعلقاً ب « أَنْزَلْنَا » ، و « من » لابتداء الغاية ، أي : من جهة السماء ، وهذا الوجه هو الظاهر .
والثاني : أن يكون صفة ل « رِجْزاً » فيتعلّق بمحذوف ، و « من » أيضاً للابتداء .
وقوله : { عَلَى الذين ظَلَمُواْ } فأعادهم بذكرهم أولاً ، ولم يقل : « عليهم » تنبيهاً على أن ظُلْمهم سبب في عقابهم ، وهو من إيقاع الظاهر موقع المُضْمَر لهذا الغرض ، وإيقاع الظاهر موقع المُضْمَر على ضربين : ضرب يقع بعد تمام الكلام كهذه الآية ، وقول الخنساء : [ المتقارب ]
518 تَعَرَّقَنِي الدَّهْرُ [ نَهْساً ] وَحَزَّا ... [ وَأَوْجَعَنِي ] الدَّهْرُ قَرْعاً وَغَمْزا
أي : أصابتني نوائبه جُمَعُ .
وضرب يقع في كلام واحد؛ نحو قوله : { الحاقة 0 مَا الحآقة } [ الحاقة : 1 ، 2 ] .
519 لَيْتَ الغُرَابَ غَدَاةَ يَنْعَبُ دَائِباً ... كَانَ الغُرَابُ مُقَطَّعَ الأَوْدَاجِ
وقد جمع عدي بن زيد المعنيين فقال : [ الخفيف ]
520 لاَ أَرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ ... نَغَّصَ المَوْتُ ذَا الغِنَى والفَقِيرَا
قوله : « بَمَا كَانُوا » متعلِّق ب « أنْزَلْنَا » و « الباء » للسببية ، و « ما » يجوز أن تكون مصدرية وهوالظّاهر أي : بسبب فِسْقِهِمْ ، وأن تكون موصولة اسمية ، والعائد محذوف على التدريج المذكور في غير موضع ، والأصل : يفسقونه ، ولا يقوى جعلها نكرة موصولة .
وقرأ « ابن وَثّاب » : « يَفْسِقُون » بكسر السين ، وتقدم أنهما لُغَتَان .
فصل في تفسير الظلم
قال أبو مسلم : هذا الفِسْقُ هو الظلم المذكور في قوله : { عَلَى الذين ظَلَمُواْ } وفائدة التكرار التأكيد .
قال ابن الخطيب : والحق أنه غيره؛ لأن الظلم قد يكون من الصَّغائر ، ولذلك قال بعض الأنبياء : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] وقد يكون من الكَبَائر ، قال تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، والفِسْق لا بُدّ وأن يكون من الكبائر ، ويمكن أن يجاب عنه : بأن أبا مُسْلِم لم يقل بأن الفسق مطلق الظلم ، وإنما خصّه بظلم معين ، وهو الذي وصفوا به في أوَّول الآية ، ويحتمل أنهم استحقُّوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل ، فنزل الرِّجْزُ عليهم بالفِسْقِ الذي كانوا يفعلوه قيل التبديل ، فيزول التكرار .
احتجّ بعضهم بقوله : « فَبَدَّل الَّذِينَ ظَلَمُوا » على أنَّ ما ورود من الأذكار لا يجوز تبديله بغيره ، وعلى هذا لا يجوز تحريم الصَّلاة بفلظ التَّعْظيمن لا يجوز القراءة بالفارسية .
وأجاب أبو الرَّازِي : « بأنهم إنما استحقُّوا الذَّم لتبديلهم القول إلى قول يُضَاد معناه معنى الأول ، فلهذا استوجبوا الذم ، فأما تغيير اللفظ مع بقاء المعنى فليس كذلك » .
قال ابن الخطيب : « والظَّاهر أن هذا بتناول كل من بدّل قولاً يقول آخر سواء اتَّفَقَا أو لم يتفقا » .
فإن قيل : قال هنا : « وإذ قلنا » ، وفي « الأعراف » : { وَإِذْ قِيلَ } [ الأعراف : 161 ] .
قيل : لأن سورة « الأعراف » مكية ، و « البقرة » مدنية فأبهم القائل في الأولى وهي « الأعراف » ليكون لهم وَقْع في القلب ، ثم بَيَّنَهُ في هذه السورة المدنية ، كأنه قال : ذلك القائل هناك هو هذا .
وقال هنا : « ادْخُلُوا » وفي « الأعراف » : « اسْكُنُوا » .
قال ابن الخطيب : « لأنّ الدخول مقدّم على السُّكْنَى » .
وهذا يرد عليه ، فإن « الأعراف » قبل « البقرة » ؛ لأنها مكية .
وقال [ هنا ] « فَكُلُوا » بالفاء ، وفي « الأعراف » « وَكُلُوا » بالواو .
والجواب ها هنا هو الذي ذكرناه في قوله تعالى في سورة البقرة : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً } ، وفي الأعراف { فَكُلاَ } . [ ولم ذكر قوله : « رغداً » في « البقرة » ، وحذفه في « الأعراف » ؟ لأنه اسند الفعل إلى نفسه لا جرم ذكر معه الإنْعَام الأعظم وهو أن يأكلوا رغداً ] ، وفي « الأعراف » لما لم يسند الفعل إلى نفسه [ لا جرم ] لم يذكر الإنعام الأعظم .
وقال هنا : { وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ } ، وفي « الأعرافش » قدّم المؤخر؛ لأن الواو للجمع المطلق ، وأيضاً يحمتل أن يكون بعضهم مذنباً ، وبعضهم ليس بمذنب ، المُذْنِب يكون اشتغاله أولاً بالتوبة ، ثم بالعبادة فكلفوا أن يقولوا أولاً « حطة » ثم يدخلوا الباب سُجَّداً ، وأما الذي ليس بمذنب ، فالأولى به أن يشتغل بالعبادة أولاً ، ثم [ يذكروا ] التوبة ثانياً على سبيل هَضْم النفس ، وإزالة العجب في فعل تلك العبادة فكلفوا أن يدخلوا الباب سجداً أولاً ، ثم يقولوا « حطة » ، فذكر حكم كل قسم في سورة قاله ابن الخطيب .
وفيه نظر؛ لأن هذا القول إنما كان مَرّة واحدة .
قال هنا : { وَسَنَزِيدُ المحسنين } بالواو ، وفي « الأعراف » بغير واو .
وقال ابن الخطيب : لأنه ذكر في « الأعراف » أمرين : قول الحطة ، وهو إشارة إلى التوبة ، ودخول الباب سجداً ، وهو إشارة العبادة ، ثم ذكرجزاءين : قوله تعالى : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } ، وهو واقع في مقابلة قول الحطّة ، وقوله : { وَسَنَزِيدُ المحسنين } ، وهو واقع في مُقَابلة دخول الباب سجداً ، [ فترك ] الواو يفيد توزيع كل واحد مِنَ الجَزَاءين على كل من الشرطين .
وأما في « البقرة » فيفيد كون مجموع المغفرة والزيادة جزاءً واحداً لمجموع الفعلين .
وقال هنا : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً } ، وفي « الأعراف » زاد كلمة « منهم » .
قال ابن الخطيب : لأنه تعالى قال : { وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ } ، فذكر أن منهم من يفعل ذلك ، ثم عدّد صنوف إنعامه عليهم ، وأوامره لهم فلما انتهت القصّة قال : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } [ فذكر لفظة « مِنْهُمْ » في آخر القصّة كما ذكرها في أول القصة ] ليكون آخر الكلام مطابقاً لأوله ، وأما هنا فلم يذكر الآيات التي قيل قوله : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ } تمييزا وتخصيصاً حتى يلزم في آخر القصة ذكر ذلك التخصيص .
وقال هنا : { فَأَنزَلْنَا } وفي [ سورة ] « الأعراف » { فَأَرْسَلْنَا } ، وأتى بالمضمر دون الظاهر؛ لأنه تعالى عدّد عليم في هذه السُّورة نعماً جسيمة كثيرة ، فكان توجيه الذّمن عليهم ، وتوبيخهم بكفرانها أَبْلَغ من حيث إنه لم يعدّد عليهم هناك ما عَدّد هنا .
فلفظ « الإنزال » للعذاب أبلغ من لفظ « الإرسال » .
وقال هنا : { يَفْسُقُونَ } ، وفي « الأعراف » : { يَظْلِمُونَ } تنبيها على أنهم جامعون بين هذين الوصفين القبيحين .
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
كسرت الذّال من « إذ » لالتقاء الساكنين ، والسين للطلب على وجه الدعاء أي : سأل لهم السُّقْيَا ، وألف « إسْتَسْقَى » منقلبة عن ياء؛ لأنه من « السَّقْي » ، وتقدَّم معنى « اسْتَفْعَلَ » ، ويقال : « سَقَيْتُه » و « أَسْقَيْتُهُ » ، بِمَعْنّى؛ وأنشد : [ الوافر ]
521 سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وَأَسْقَى ... نُمَيْراً وَالقَبَائِلَ مِنْ هِلاَلِ
وقيل : « سقيته » : أعطيته ما يشرب ، « وأسقيته » : جعلت ذلك له يتناوله كيف شاء . و « الإسْقاء » أبلغ من « السَّقْي » على هذا .
وقيل : أسقيته : دَلَلْتُه على الماء ، وسيأتي عند قوله : { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [ النحل : 66 ] وسقى وأسقى متعدّيان لمفعولين ، قال تعالى : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [ الإنسان : 21 ] وقال : { وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً } [ المرسلات : 27 ] .
و « لِقَوْمِهِ » متعلّق بالفعل ، واللام للعلّة ، أي : لأجل ، أو تكمون للبيان لما كان المراد به الدعاء كالتي في قولهم : « سُقْياً لَكَ » فتتعلّق بمحذوف كنظيرتها .
قوله : { اضرب بِّعَصَاكَ الحجر } الإدغام هنا واجبٌ؛ لأنه متى اجتمع مثلان في كلمتين؛ أو كلمة أوّلهما ساكن وجب الإدغام نحو : اضرب بكراً ، وألف « عصاك » منقلبة عن واو؛ لقولهم في النّسب : عَصَوِيٌّ ، وفي التثنية عَصَوَان؛ قال : [ الطويل ]
522 .. عَلَى عَصَوَيْهَا سَابِرِيٌّ مُشَبْرَقُ
والجمع : « عُصِيّ » « وَعِصِيّ » بضم العين وكسرها إتباعاً ، و « أَعْصِ » مثل « زَمَنٍ » « وأَزْمُن » ، والأصل : « عُصُوُو » و « أَعْصُو » ، فأعلّ . وعَصَوْتُه بالعَصَا ، وعَصَيْتُه بالسيف . و « ألقى عَصَاه » يعبر به عن بلوغ المنزل ، قال : [ الطويل ]
523 فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى ... كَمَا قَرَّعَيْنَا بِالإيَابِ المُسَافِرُ
وانشقت العَصَا بين القوم ، أي : وقع الخلاف؛ قال : [ الطويل ]
524 إذَا كَانَتِ الهَيْجَاءُ وَانْشَقَّتِ العَصَا ... فَحَبْسُكَ وَالضَّحَّاحُ سَيْفٌ مُهَنَّدٌ
قال الفَرَّاء : « أوّل لحن سمع ب » العراق « هذه عَصَاتي » ، يعني : بالتاء .
وفي [ المثل ] : « العَصَا من العُصَيَّة » أي : بَعْضُ الأمر من بَعْضٍ .
و « الحَجَر » مفعول . و « أل » فيه للعَهْدِ .
وقيلك للجنس ، وهو معروف ، وقياس جمعه في أدنى العدد « أَحْجَار » وفي التكثير : « حِجَارٌ وحِجَارَةٌ » نادر ، وهو كقلونا : « جَمَل وجِمَالة » ، و « ذَكَر وذِكَارة » قاله ابن فارس والجَوْهري .
وكيف يكون نادراً وفي القرآن : { فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة } [ البقرة : 27 ] ، { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً } [ الإسراء : 50 ] ، { تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ } [ الفيل : 4 ] ، { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً } [ هود : 82 ] .
قوله : { فانفجرت } « الفاء » عاطفة على محذوف لا بُدّ من تقديره : فضرب فانفجرت . قال ابن عصفور : إن هذه « الفاء » الموجودة هي الداخلة على ذلك الفعل المحذوف ، والفاء الداخلة على « انْفَجَرَتْ » محذوفة ، وكأنه يقول : حذف الفعل الأول لدلالة الثاني عليه ، وحذفت « الفاء » الثانية لدلالة الأولى عليها .
ولا حاجة إلى ذلك ، بل يقال : حذفت الفاء ، وما عطفته قبلها .
وجعلها الزمخشري جواب شرط [ مقدر ] قال : [ أو ] فإن ضربت فقد انفجرت ، قال : « وهي على هذا فاء فَصِيحة لا تقع إلا في كلام بليغ » . وكأنه يريد تفسير المعنى لا الإعراب .
و « الانْفِجَار » : الانشقاق والتفتُّح ، ومنه : الفَجْر لانشقاقه بالضَّوء .
وفي « الأعراف » : { فانبجست } [ الأعراف : 160 ] فقيل : هما بمعنى .
وقيل : « الانْبِجَاس » أضيق؛ لأنه يكون أولاً والانفجار ثانياً .
وقيل : انبجس وتبجّس وتفجّر وتفتّق بمعنّى وَاحِدٍ .
قوله : { اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً } فاعل « انْفَجَرَتْ » ، والألف علامة الرفع؛ لأنه محمول على المُثَنّى ، وليس بمثنى حقيقة ، إذ لا واحد له من لفظه ، وكذلك مذكره « اثنان » ، ولا يضاف إلى تمييز ، لاستغنائه بذكر المعدود « مثنى » تقول : « رجلان وامرأتان » ولا تقول : يضاف إلى « اثنا رَجُل ، ولا اثنتا امرأة » إلا ما جاء نادراً فلا يقاس عليه ، قال : [ الرجز ]
525 كَأَنَّ خُصْيَيْهِ مِنَ التَّدَلْدُلِ ... ظَرْفُ عَجُوزٍ فِيهِ ثِنْتَا حَنْضَلِ
و « ثنتان » مثل « اثنتين » ، وحكم اثنين واثنتين في العدد المركب أن يُعْرَبا بخلاف سائر أخواتهما ، قالوا : لأنه حذف معهما ما يحذف في المعرب عند الإضافة ، وهي النون ، فأشبها المعرب فأعربا كالمثنى بالألف رفعاً والباء نصباً وجرًّا .
وأما « عَشْرة » فمبني لتنزله منزلة تاء التأنيث ، ولها أحكام كثيرة .
و « عَيْناً » تمييز . وقرأ مجاهد وطلحة وعيسى : « عَشِرَة » بكسر الشين ، وهي لغة تميم .
قال النحَّاس : « وهذا عجيب فإن لغة تميم » عشرة « بالكسر ، وسبيلهم التخفيف ، ولغة » عَشْرة « بالسكون ، و سبيلهم التثقيل » .
وقرأ الأعمش : « عَشَرَة » بالفتح .
و « العَيْن » : اسم مشترك بين عَيْنِ الإنسان ، وعَيْنِ الماء ، وعين الرَّكّية ، وعَيْنِ الشمس ، وعَيْنِ الذهب ، وعين الميزان .
والعين : سحابة تقبل من ناحية القبلة . والعين : المَطَر الدائم ستًّا أو خمساً . والعين : الثقب في المَزَادة ، وبلد قليل العين ، أي : قليل النَّاس . [ وبها عين ، محركة الياء ] .
فإن قيل : إذا كانت العين لفظاً مشتركاً بين حقائق ، فكيف وقعت هنا تمييزاً؟
فالجواب : أن قوله : « وَإذِ اسْتَسْقَى » ، وقوله : « فَانْفَجَرَتْ » ، وقوله : « مَشْرَبَهُمْ » دليل على إرادة عين الماء ، فاللفظ مع القرينة مميز ، والعَيْن من الماء شبيهة بالعين من الحيوان لخروج الماء منها ، كخروج الدَّمع من عين الحيوان .
وقيل : لما كان عين الحيوان اشرف ما فيه شبّهت به عين الماء؛ لأنها أشرف ما في الأرض .
قوله : { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ }
[ الأعراف : 82 ] قد تقدّم الكلام على أنّ « أناس » أصل « النّاس » .
وقال الزمخشري في سورة « الأعراف » : « إنه اسم جمع غير تكسير » ، ثم قال : « ويجوز أن يكون الأصل الكسر ، والتكسير ، والضمة بدل من الكسرة ، كما أبدلت في سُكَارى » من الفتحة وسيأتي البحث معه إن شاء الله تعالى .
قوله : { مَّشْرَبَهُمْ } مفعول ل « علم » بمعنى « عرف » ، و « المَشْرَب » هنا موضع الشُّرْب؛ لأنه روي أنه كان لكل سِبْطٍ عَيْنٌ من اثنتي عشرة عيناً ، لا يشاركه فيها سبط غيره .
وقيلك هو نفس المشروب ، فيكون مصدراً واقعاً موقع المفعول به ، وضمير الجمع في قوله : « مشربهم » يعود على معنى « كُلُّ أُنَاسِ » .
فصل في بيان أن الاستسقاء كان في التِّيه
قال جمهور المفسرين : هذا الاستسقاء كان في التِّيْهِ؛ لأن الله تعالى لما ظَلَّلَ عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المَنّ والسَّلْوَى ، وجعل ثيابهم بحيث لا تَبْلَى ، ولا تَتَّسِخ خافوا العَطَش ، فأعطاهم الله الماء من ذلك الحَجَرِ ، وأنكر أبو مسلم ذلك وقال : بل هو كلام مفرد بِذَاتِهِ ، ومعنى الاسْتِسْقَاء طلب السُّقْيَا من المطر على عادة الناس إذا [ أقحطوا ] ، ويكون ما فعله الله من تَفْجِيِر الحجر بالماء فوق الإجابة بالسُّقيا ، [ وإنزال الغيث ] .
[ وقال ابن الخطيب : ] وليس في الآية ما يدلّ على أحد القولين ، وإن كان الأقرب أن ذلك وقع في التِّيْهِ؛ لأن المعتاد في البلاد الاستغناء عن طلب الماء إلا في النَّادر ، وأيضاً روي أنهم كانوا يحملون الحَجَر معهم؛ لأنه صار معدًّا لذلك ، [ فكما كان ] المَنّ والسّلوى ينزلا من كل غَدَاة ، فكذلك الماء يتفجّر لهم في كل وقت ، وذلك لا يليق إلا بأيّامهم في التّيْهِ .
فصل في جنس الشجرة
اختلفوا في العَصَا ، فقال الحسن : كانت عَصَا أخذها من بعض الأشجار وقيل : كانت من آس الجَنّة طولها عشرة أَذْرُع على طول موسى ، ولها شُعْبَتَان تَتَّقِدَان في الظلمة ، واسمه عليق ، وكان آدم عليه الصلاة والسلام حمله معه من الجَنّة إلى الأرض ، فتوارثه صَاغراً عن كَابِرٍ حتى وصل إلى شُعَيْب عليه الصلاة والسلام فأعطاه لموسى عليه الصلاة والسلام .
والذي ينبغي أن يقال : إنها كانت بمقدار يصحّ أن يتوكّأ عليها ، وأن تنقلب حَيَّةً عظيمة ، وما زاد على ذلك لا دليل عليه .
قال ابن الخطيب : « والسُّكوت عن هذه المباحث واجب؛ لأنه ليس فيها نَصّ متواتر ، ولا يتعلّق بها عمل حتى يكتفى فيها بالظَّن المستفاد من أخبار الآحاد » .
فصل في المراد بالحجر
إن قلنا : الألف واللام في « الحَجَرِ » للعَهْد ، فالإشارة إلى حَجَرٍ معلوم ، روي أنه حجر طُوري مربّع قدر رأس الشَّاة يلقى في كسر جوالق ويرحل به ، ينبع من كل وَجْه ثلاثة أعين لكل سِبْط عين تسيل في جدول إلى ذلك السّبط فإذا نزلوا وضع في وسط محلّتهم .
وقيل : بل كانوا يجدونه في كل مَرْحَلة في منزلته من المرحلة الأولى ، وهذا من [ أعظم ] الإعجاز .
وقال سعيد بن جُبَيْرٍ : هو الحَجَرُ الذي وضع عليه موسى ثَوْبَهُ حين اغتسل ، فضربه حتى بَرَّأَهُ الله مما رموه به من الأُدْرَة ، فقال له جبريل : فيقول الله تعالى لك : أرفع هذا الحَجَرَ ، فإن لي فيه قدرة ، ولك فيه مُعْجزة ، فحمله في مخْلاَتِهِ . قال أبو روق : كان من [ الكدّان ] ، وقيل : من الرُّخَام .
[ فإن قلت ] : الألف واللام للجنس ، فمعناه : [ اضرب ] أي حجر كان .
قال الحسن : لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه ، قال : وهذا أظهر في الحُجّة . وروي أنه كان يضره ضربةً واحدة ، فيظهر فيه اثنتا عشر عيناً كل عين مثل ثَدْي المرأة فيعرق ، وهو الانْبِجَاس ، ثم ينفجر بالأنهار .
قال عطاء : ثم يضربه ضربةً واحدة فَيَيْبَسُ .
وقال عبد العزيز بن يحيى الكتاني : كان يضربه اثنتا عشرة ضربةً لكل عين ضربة .
قال القرطبي : ما أوتي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام من نَبْعِ الماء وانفجاره من بين أصابعه أعظم في المُعْجزة ، فإنا نشاهد الماء يتفجّر من الأحجار ، ومعجزة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام يخرج الماء من بين لَحْمِ ودَمٍ!
وروى الأئمة الثقات عن عبدالله قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم مجد ماءً فأتي بِتَوْرٍ فأدخل يده فيه ، فلقد رأيت الماء يتفجّر من بين أصابعه ، ويقول : « حي على الطّهور » .
قال الأعمش : حدثني سالم بن أبي الجَعْدن قال : قلت لجابر : كم كنتم يومئذ؟
قال : ألفاً وخمسمائة . لفظ النَّسَائي .
فصل في وجوه الإعجاز في انفجار الحجر
والحكمة في جَعْلِ الماء اثنتي عشرة عيناً قطع التنازع والتَّشَاجر بينهم ، وهذا الانفجار يدلّ على الإعجاز من وجوه .
أحدها : أن نفس ظهور الماء معجزة .
وثانيها : خروج الماء العظيم من الحجر الصغير .
وثالثها : خروج الماء بِقَدْر حاجتهم .
ورابعها : خروج الماء عند الضَّرْب بالعصا .
وخامسها : خروج الماء بالضَّرب بعصا معينة .
وسادسها : انقطاع الماء عند الاستغناء عنه ، فهذه الوجوه لا يمكن تحصيلها إلا بِقُدْرَةٍ تامة في كل الممكنات ، وعلم نافذ في جميع المعلومات .
قوله : { كُلُواْ واشربوا } هاتان الجمليتان في محلّ نصب بقول مضمر تقديره : وقلنا لهم : كلوا واشربوا . وقد تقدّم تصريف « كُلْ » وما حذف منه .
قوله : { مِن رِّزْقِ الله } هذه من باب الإعمال؛ لأن كلّ واحد من الفعلين يصحّ تسلّطه عليه ، وهو من باب إعمال الثاني للحذف من الأول . والتقدير : كلوا منه .
و « مِنْ » يجوز أن تكون لابتداء الغاية ، وأن تكون للتبعيض ، ويجوز أن يكون مفعول الأكل محذوفاً ، وكذلك مفعول الشرب؛ للدلالة [ عليهما ] ، والتقدير : كلوا المَنّ والسَّلوى لتقدمهما في قوله :
{ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } [ البقرة : 57 ] ، واشربوا ماء العيون المتفجّرة . وعلى هذا فالجار والمجرور يحتمل تعلّقه بالفعل قبله ، ويحتمل أن يكون حالاً من ذلك المفعول المحذوف ، فيتعلّق بمحذوفة .
وقيل : المراد بالرِّزْقِ الماء وحدهن ونسب الأكل إليه لما كان سبباً في نَمَاءِ ما يؤكل وحَيَاته ، فهو رزق يؤكل منه ويشرب . والمُرَاد بالزرق المرزوق ، وهو يحتمل أن يكون من باب « ذِبْح ورِعْي » ، وأن يكون من باب « درهم ضرب الأمير » وقد تقدم بيانه .
فإن قيل : قوله : { مِن رِّزْقِ الله } يفهم منه أن ثَمَّ رزقاً ليس لله ، وذلك باطل .
فالجواب : من [ وجوه ] :
[ أحدها : أن هذا مفهوم لقب؛ فلا يدل ]
الثاني : أن هذا رِزْقٌ لم تعمل فيه أيديهم بِحَرْثٍ ولا غيره ، فهو خالص أرسله الله إليهم .
الثالث : أن إضافته إلى الله تعالى إضافة تشريف لكونه أشرف ما يؤكل ، وما يشرب؛ لأنه تسبّب عن معجزٍ خارقٍ للعادة .
فصل في كلام المعتزلة
واحتجّت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلاق قالوا : لأن أقل درجات قوله : كلوا واشربوا الإباحة ، فهذا يقتضي كون الرزق مباحاً ، فلو وجد رزق حرام لكان ذلك الرزق مباحاً وحراماً وإنه غير جائز .
قوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } .
أصل « تعثوا » : « تَعْثَيُوا » ، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان فحذف الأول منهما وهو الياء ، أو لما تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً فالتقى ساكنان ، فحذفت الألف ، وبقيت الفتحة تدل عليها . وهذا أولى ، فوزنه « تفعون » .
و « العِثِيّ » و « العَيْث » : أشد الفساد وهما متقاربان .
وقال بعضهمك « إلا أنّ العَيْثَ أكثر ما يقال فيما يدرك حسّه ، والعِثِيّ فيما يدرك حكماً ، يقال : عَثِيَ يَعْثَى عِثِيًّا ، وهي لغة القرآن ، وَعَثَا يَعْثُو عُثُوًّا ، وعَاثَ يَعيثُ عَيْثاً » .
وليس « عاث » مقلوباً من « عَثِيَ » ك « جَبَذَ وجَذَبَ » لتفاوت معنييهما كما تقدم .
ويحتمل ذلك ، ثم اختصّ كل واحد بنوع ، ويقال : عَثِي يَعْثَى عِثِيًّا ومَعَاثاً ، وليس « عَثِيَ » أصله « عَثِوَ » فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، ك « رضي » من الرِّضْوَان ، لثبوت العِثِيِّ ، وإن تَوَهَّم بعضهم ذلك .
ويقال : عَثَّ يَعُيُّ مضافاً أي : فسد ، قال ابن الرِّقَاع : [ الكامل ]
526 لَوْلاَ الحَيَاءُ وَأَنَّ رَأَسِيَ قَدْ عَثَا ... فِيهِ المَشِيبُ لَزُرْتُ أُمَّ القَاسِمِ
ومنه : العُثَّة : [ سوسة ] تفسد الصُّوف .
وأما « عَتَا » بالتاء المُثَنّاة من فوق فهو قريب من معناه ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى .
و « مُفْسِدِينَ » حال من فاعل « تَعْثُوا » وهي حال مؤكدة؛ لأن معناها قد فهم من عاملها ، و حسن ذلك اختلاف اللفظين ، ومثله : { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [ التوبة : 25 ] ، هكذا قالوا . ويحتمل أن تكون حالاً مبينة؛ لأن الفساد أعم ، والمعنى أخص ، ولهذا قال الزمخشري : فقيل لهم لا تَتَمَادّوْا في الفساد في حال فسادكم؛ لأنهم كانوا متمادين فيه . فغاير بينهما كما ترى .
و « في الأرض » يحتملم أن يتعلّق ب « تعثوا » وهو الظاهر ، وأن يتعلّق ب « مفسدين » . والمراد بالأرض : عموم الأرض [ لا ] أرض التِّيْهِ .
والمراد بالفساد هاهنا هو قوله في سورة طه : { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ } [ طه : 81 ] .
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
« لن نَصْبِرَ » ناصب منصوب ، والجملة في محلّ نصب بالقول ، وتقدم الكلام على « لن » .
قوله : { طَعَامٍ وَاحِدٍ } ، وإنما كان طعامين هما : المَنّ والسَّلْوَى؛ لأن المراد بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدّل ، فأريد بالوحدة نفي التبديل لا الاختلاف ، أو لأنهما ضرب واحد؛ لأ ، هما من طعام أهل التلذُّذ والترف ، ونحن أهل زِرَاعات لا نريد إلا ما ألفناه من الأشياء المتفاوتة ، أو لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر ، أو لأنهما كانا يؤكلان في وقت واحد .
وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم : كانوا يعجنون المَنَّ والسّلوى ، فيصير طعاماً واحداً .
وقيل : لأن العرب تعبّر عن الاثنين بلفظ الواحد ، وبلفظ الواحد عن الواحد ، كقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] ، وإنما يخرجان من المِلْحِ دون العَذْب .
قال ابن الخطيب : ليس المراد أنه واحد في النوع ، بل إنه واحد في المَهْجِ ، كما يقال : إن طعام فلان على مائدة طعام واحداً إذا كان لا يتغيّر عن نهجه .
وقيل : كنوا بذلك عن الغنى ، فكأنهم قالوا : لن نرضى أن نكون كلنا مشتركين في شيء واحد فلا يخدم بعضنا بعضاً ، وكذلك كانوا أول من اتخذ الخدم والعبيد . و « الطعام » : اسم لكل ما يطعم من مأكول ومشروب ، ومنه : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } [ البقرة : 249 ] ، وقد يختص ببعض المأكولات كاختصاصه بالبُرّ والتَّمْرِ في حديث الصًّدَقة ، أو صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير . والطَّعم بفتح الطاء المصدر أو ما يشتهى من الطعام أو ما يؤديه الذوق ، تقول : طَعْمُهُ حُلْو وطَعْمُهُ مُرّ ، وبضمها الشيء المطعوم كالأُكْلِ والأَكْل؛ قال أبو خِرَاشٍ : [ الطويل ]
527 أَرُدُّ شُجَاعَ البَطْنِ لَوْ تَعْلَمِينَهُ ... وأُوثِرُ غَيْرِي مِنْ عِيَالِكِ بالطُّعْمِ
وأَغْتَبِقُ المَاءَ القَرَاحَ فَأَنْتَهِي ... إذَا الزَّادُ أَمْسَى للْمُزَلَّجِ ذَا طَعْمِ
أراد بالأول المطعوم ، وبالثاني ما يُشْتَهَى منه ، وقد يعبَّر به عن الإعطاء؛ قال عليه السلام : « إِذا استَطْعَمَكُمُ الإمام فَأَطْعِمُوهُ » أي : إذا استفتح ، فافتحوا عليه ، وفلان ما يَطْعَمُ النومَ إلاَّ قائماً؛ قال : [ المتقارب ]
528 نَعَاماً بِوَجْرَةَ صُفْرَ الْخُدُودِ ... مَا تَطعَمُ النَّوْمَ إِلاَّ صِيَامَا
قوله : « فادع » اللّغة الفصيحة « ادْعُ » .
بضم العين من « دَعَا يدعو » .
ولغة بني عامر « فَادْعِ » بكسر العين قال أبو البقاء : « لالتقاء السَّاكنَيْنِ؛ يُجْرُونَ المعتلَّ مُجْرَى الصَّحيح ، ولا يراعون المحذُوفَ » يعني أن العَيْنَ ساكنةٌ ، لأجل الأمر ، والدَّالُ قبلها ساكنةٌ ، فكسرت العين ، وفيه نظرٌ ، لأن القاعدة في هذا ونحوه أن يُكْسَر الأوَّو من الساكنين ، لا الثاني ، فيجوزُ أنْ يكُون من لُغتِهِمْ « دَعَا يَدْعِي » مثل « رَمَى يَرْمي » ، والدُّعَاء هنا السُّؤال ، ويكون هنا بمعنَى التَّسْمية؛ كقوله : [ الطويل ]
529 دَعَتْنِي أَخَاهَا أُمُّ عَمْرٍ و . . . .
وقد تقدم ، و « لنا » متعلّق به ، واللام للعلة .
قوله : « يُخْرِجْ » مجزوم في جواب الأمر .
وقال بعضهم : مجوزم بلا الأمر مقدرة ، أي « ليخرج » ، وضعفه الزجاج وسيأتي الكلام على حذف لام الأمر إن شاء الله تعالى .
والقراءة المشهورة « يُخْرِجْ » بضم « الياء » وكسر « الراء » و « تُنْبِت » بضم « التاء » وكسر « الباء » وقرأ زيد بن علي « يَخْرُج » بفتح « الياء » وضم « الراء » و « تَنْبُت » بفتح « التاء » وضم « الباء » .
قوله : « مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ » مفعول « يخرج » محذوف عن سيبويه تقديره : مأكولاً مما ، أو شيئاً ممّا تنبت الأرض . والجار يجوز أن يتعلّق بالفعل قبله ، ويكومن « مِنْ الابتداء الغاية ، وأن تكون صفةً لذلك المفعول المحذوف ، فيتعلّق بمضمر ، أي : مأكولاً كائناً مما تنبته الأرض .
و » مِنْ « للتبعيض ، ومذهب الأخفش : أن » من « زائدة في المفعول ، والتقدير : يخرج ما تُنْبِتُهُ الأرض؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئاً .
قال النَّحاس : وإنما دعى الحسن إلى زيادتها؛ لأنه لم يجد مفعولاً ل » يخرج « فأراد أن يجعل » ما « مفعولاً و » ما « يجوز أن تكون موصولة اسمية أو نكرة موصوفة ، والعائد محذوف ، أي من الذي تُنْبته ، أو من شيء تُنْبته ، ولا يجوز جعلها مصدريّة؛ لأن المفعول المحذوف لا يُوصَف بالإنبات؛ لأن الإنبات مصدر ، [ والمُخْرج ] جوهر ، وكذلك على مذهب الأخفش؛ لأن المخرج جوهر لا إنبات .
قوله : » مِنْ بَقْلِهَا « يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون بدلاً من » ما « بإعادة العامل ، و » من معناها : بيان الجِنْس .
والثاني : أن يكون في محلّ نصب على الحال من الضمير المحذوف العائد على « ما » أي : مما تُنْبته الأرض في حال كونه من بقلها ، و « من » أيضاً للبيان .
و « البَقْل » : كل ما تنبته الأرض من النَّجم ، أي : ما لا سَاقَ له ، وجمعهه « بُقُول » .
و « القِثَّاء » معروف . الواحدة : قِثَّاءة ، فهو من باب قَمْح وقَمْحة ، وفيها لغتان : المشهورة كسر القاف وهي قراءة العامة ، وقرأ يحيى بن وَثّاب ، وطلحة بن مصرّفن والأشهب العُقَيْلِيُّ بضم القاف وهي لغة « تميم » .
و « القِثَّاء » مُفْرَدُهُ وَجَمْعُهُ ممدود ، تقول : « قِثَاء » و « قِثَّاءة » وَ « دِبَّاءَ » وَ « دِبَّاءة » ، وَ « دَاء » وَ « دَوَاء » والهمزة أصلٌ بنفسها في قولهم : « أَقْثَأَتِ الأرض » ، أي : كثر قِثَّاؤها .
ووزنها « فِعَّال » ، ويقال في جمعها : « قَثَائِي » ، مثل : « عِلْبَاء » و « عَلاَبِي » .
قال بعضهم : إلا أن « قِثَاء » من ذوات الواو ، تقول « أَقْثَأْتُ القَوْمَ » ، أي : أطمعتهم ذلك ، وَقَثأْتُ القِدْرَ سَكَّنْتُ غليانَهَا بالماء .
قال الجعدي : [ الطويل ]
530 تَفُورُ عَلَيْنَا قِدْرُهُمْ فَنُدِيمُهَا ... وَنَقْثَؤُهَا عَنَّا إِذَا حَمْيُهَا غَلاَ
وهذا وهم فاحش؛ لأنه لما جعلها من ذوات الواو كيف يستدلّ عليه بقولهم : « أقْثأت القوم » بالهمز ، بل كان ينبغي أن يقال : « أَقْثَيْثُ » والأصل « أٌقْثوْتُ » لكن لما وقعت الواو في بناء الأربعة قلبت ياء ، ك « أَغْزَيْتُ » من الغَزْوِ ، ولكان ينبغي أن يقال : قَثَوْتُ القِدْرَ « بالواون ولقال الشاغر : [ نَقْثُهَا ] بالواو .
وَ » الْمَقْثَأة « و » الْمَقْثُؤَة « بفتح الثاء وضمها : موضع » القِثَّاء « .
و » الفُوم « : الثُوم وروي عن علقمة وابن مسعود أنه قرأ : » وثُومها « ، وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنهما وفي مصحف عبدالله . والفاء تبدل من الثاء كما قالوا : » جدث وجدف « و » عَاثُور وعَافُور « و » مَغَافير ومَغَاثير « ، ولكنه غير قياس .
وعن ابن عباس الفُوم : الخُبْز ، تقول العرب : فَوِّمُوا لنا : أي : أختَبزُوا » .
وقال ابن عباس أيضاً وعطاء أبو مالك : هو الحِنْطَة وهي لغة قديمة ، وأنشد ابن عباس لمن سأله عن « الفُومِ » : [ الكامل ]
531 قدْ كُنْتَ أَحْسِبُنِي كَأَغْنَى وَاحِدٍ ... [ نَزَلَ ] الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعةِ فُومِ
وقال ابن دُرَيْدٍ « » الفُومَةُ السُّنْبُلَةُ « ، وأنْشَد : [ الوافر ]
532 وَقَالَ رَبيئُهُمْ لَمَّ أَتَانَا ... بِكَفِّهِ فُومَةٌ أَوُ فُومَتَانِ
وقال القتيبي : » هو الحبوبُ كلها « .
قال الكلبي والنضر بن شُمَيْل والكسَائي والمؤرجك الصّحيح أنه الثُّوم ، لقراءة ابن عباس ، ولكونه في مُصْحِف عبدالله بن مسعود وثُومها؛ ولأنه لو كان المراد الحِنْطة لما جاز أن يقال لهم : أَتَسْتَبْدِلُون الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ لأن الحِنْطة أشرف الأطعمة ، ولأنَّ الثوم أوفق للعَدَس والبَصَل من الحِنْطة وأنشد المؤرج لحسان : [ المتقارب ]
533 وَأَنْتُمْ أُنَاسٌ لِئَامُ الأُصُولِ ... طَعَامُكُمُ الْفُومُ وَالْحَوْقَلُ
يعني : الثوم والبصل؛ وأنشد النضر لأمية بن أبي الصَّلْت : [ البسيط ]
534 كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ إِذْ ذَاكَ ظاهِرَةً ... فِيْها الْفَرَادِيسُ وَالْفُومَانُ وَالْبَصَلُ
الفَرَادِيس : واحدها فِرْدِيسُ . وَكَوْمٌ مُفَرْدَسٌ ، أي : مُعَرَّش .
وقال بعضهم : » الفُوم : الحِمَّص لغة شامِيّة « .
قوله : » وَعَدَسِهَا « العَدَس معروف ، والعَدَسَة : بَثْرَةٌ تخرج بالإنسانن وربما قَتَلَتْ وعَدَسْ زجر للبِغَال؛ قال : [ الطويل ]
535 عَدَسْ مَا لِعَبَّادِ عَليْكِ إِمَارَةٌ ... نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
والعدس : شدة الوَطْء ، والكَدح أيضاً ، يقال : عدسه . وعدس في الأرض ذهب فيها ، وعدست إليه المَنِيّة أي : سارت؛ قال الكميت : [ الطويل ]
536 أُكَلِّفُهَا هَوْلَ الظَّلاَمِ وَلَمْ أَزْلْ ... أَخَا اللَّيْلِ مَعْدُوساً إِلَيَّ وَعَادِسَا
أي : يسار إليّ بالليل . وعدس لغة في حدس ، قاله الجوهري . وعن لعي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عليكم بالعَدَس فإنه مُبَارك مُقَدّس ، وإنه يرقق القَلْب ويكثر الدَّمْعَة فإنه بارك فيه سبعون نبياً آخرهم عِيْسَى ابن مريم » .
اختلف العلماء في أكل البصل والثّوم [ والكراث ] وما له رائحة كريهة من البُقُول .
فذهب الجمهور إلى الإبَاحَةِ ، للأحاديث الثابتة في ذلك .
وذهبت طائفة من أهل الظاهر القائلين بوجوب صلاة الفرض في الجَمَاعة إلى المَنْعِ؛ لان النبي عليه الصَّلاة والسَّلام سمّاها خبيثةً .
وقال تعالى : { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث } [ الأعراف : 175 ] والصحيح الأول؛ لقوله عليه الصَّلاة والسَّلام لبعض أصحابه : « كُلْ فِإنِّي أُنَاجي من لا تُنَاجي » .
فصل في لفظ أدنى
قوله : « أَتَسْتَبْدِلُون » ؛ وفي مصحف أُبي « أَتُبَدِّلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى » ، وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها : وهو الظاهر قول الزجاج أن أصله : « أَدْنَوْ » من الدنو ، وهو القرب ، فقلبت الواو ألفاً لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، ومعنى الدُّنُوِّ في ذلك فيه وجهان :
أحدهما : أنه أقرب لقلّة قيمته وخَسَاسته .
والثاني : أانه أقرب لكم؛ لأنه في الدنيا بخلاف الذي هو خير ، فإنه بالصبر عليه يحصل نفعه في الآخرة .
والثاني : قول علي بن سليمان الأَخْفَش أن أصله : « أَدْنَأُ » مَهْمُوزاً من دَنَأَ بَدْنَأُ دَنَاءَة ، وهي الشيء الخَسِيْس ، إلا أنه خفّف همزته؛ كقوله : [ الكامل ]
537 . ... فَارْعَيْ فَزَارَةُ لاَ هَنَاكِ الْمَرْتَعُ
ويدل عليه قراءة زهير [ القرقبي ] الكسائي : « أدنأ » بالهمز .
الثالث : أن أصله : أّدْوَن من الشيء الدّون ، أي : الرَّدِيء ، فقلب بأن أخرت العين إلى موضع اللام ، فصار : أَدْنُوُ ، فأعلّ كما تقدم . ووزنه « أفلع » ، وقد تقدم معنى الاستبدال .
و « أدنى » خبر عن « هو » ، والجملة صلة وعائد ، وكذلك : « هو خير » صلة وعائد أيضاً .
فصل في معنى الآية
ومعنى الآية : أتستبدلون البقل والقثّاء والفوم والعدس والبصل الذي هو أدنى بالمَنْ والسَّلوى الذي هو خير؟ من وجوه :
الأول : أنّ البقول لا خطر لها بالنسبة إلى المَنّ والسلوىن لأنهما طعام مَنّ الله به عليهم ، وأمرهم بأكله ، فكان في استدامته شكر نعمة الله ، وذلك أَجْر وذُخْر في الآخرة ، والذي طلبوه عَارٍ من هذه الخصال ، فكان أدنى .
وأيضاً لما كان المَنَّ والسَّلوى ألذّ من الذي سألوه ، وأطيب كان أدنى ، وأيضاً لما كان ما أعطوه لا كُلْفة فيه ، ولا تعب ، وكان الذي طلبوه لا يجيء إلا بالحَرْثِ والتعب كان [ أيضاً ] أدنى .
وأيضاً لما كان ما ينزل عليهم لا مِرْيَة في حلّة وخُلُوصه لنزوله من عند الله ، والحبوب والأرض يتخلّلها البيوع والغُضُوب وتدخلها الشُّبه ، كانت أدنى من هذا الوجه .
وأفرد في قوله : { الذي هُوَ أدنى } وإن كان ما طلبوه أنواعاً حملاً على قوله : « ما » في قوله : { مِمَّا تُنْبِتُ الأرض } ، أو على الطعام المفهوم من قوله : { لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } .
قوله : { اهبطوا مِصْراً } القراءة المعروفة « أهْبِطُوا » بكسر الياء ، وقرىء بضمها . و « مصراً » قرأ الجمهور منوناً ، وهو خطّ المصحف .
فقيل : إنهم أمروا بهبوط مِصْرٍ من الأمطار فلذلك صرف .
وقيل : أمروا بِمْصرٍ بعينه ، وإنما صرف لخفّته ، لسكون وسطه ك « هِنْد ودَعْد » ؛ وأنشد : [ المنسرح ]
538 لَمْ تَتَلفَّعْ بِفَضْلِ مِئْزَرِهَا ... دَعْدٌ وَلَمْ تُسْقَ دَعدُ في العُلَبِ
فجمع بين الأمرين .
أو صرفه ذهاباً به إلى المكان .
وقرأ الحسن : « مِصْرَ » بغير تنوين ، وقال : الألف زائدة من الكاتب ، وكذلك في بعض مصاحف عُثْمان ، ومصحف أُبيّ ، وابن مَسْعُودن كأنهم عَنَوْا مكاناً بعينه ، وهو بلد فرعون وهو مروي عن أبي العالية
وقال الزمخشري : « ‘نه معرّب من لسان العَجَمِ ، فإن أصله مِصْرائيمن فعرب » ، وعلى هذا إذا قيل بأنه علم لمكان بعينه ، فلا ينبغي أن يصرف ألبتة لانضمام العُجْمة إليه ، فهو نظير « ماه وَجور وحِمْص » ، ولذلك أجمع الجمهور على منعه في قوله : { ادخلوا مِصْرَ } [ يوسف : 99 ] . والمِصْر في أصل اللغة : الحَدّ الفاصل بين الشيئين ، وحكي عن أهل « هَجَر » أنهم إذا كتبوا بيع دار قالوا : « اشترى فلانٌ الدَّارَ بِمُصُورِهَا » أي : حُدُودها؛ وأنشد : [ البسيط ]
539 وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْراً لا خَفَاءَ بِهِ ... بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلاَ
قوله : { مَّا سَأَلْتُمْ } « ما » في محلّ نصب اسماً ل « إن » ، والخبر في « لكم » ، و « ما » بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي : الَّذي سألتموه .
قال أبو البَقَاءك « ويضعف أن تكون نكرة موصوفة » . يعني : أنَّ الذي سألوه شيءٌ معيَّنٌ ، فلا يحسُنُ أن يُجَابُوا بشيء مُبهَمٍ .
وقرىء : « سِلْتُمْ » مثل : بِعْتُمْ ، وهي مأخوذةٌ من « سَالَ » بالألف قال حَسَّان رضي الله عنه : [ البسيط ]
540 سَالَت هُذَيْلٌ رَسُولَ الله فَاحِشَةً ... ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بِمَا سَالَتْ وَلَمْ تُصِبِ
وهل هذه الألف منقلبة عن ياء أو واو لقولهم : يَتَساوَلاَنِ ، أو عن همزة؟ ثلاثة أقوال يأتي بيانها في سورة « المعارج » إن شاء الله تعالى .
فصل في بيان أنه هل عصوا بذلك السؤال
أكثر المفسرين زعموا أن ذلك السؤال كان معصية .
قال ابن الخطيب : وعندنا ليس الأمر كذلك ، والدليل عليه أن قوله : « كلوا واشربوا » عند إنزال المَنّ والسّلوى ليس بإيجاب ، بل هو إباحةٌ ، وإذا كان كذلك لم يكن قولهم : { لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ } معصية؛ لأن من أُبيح له ضرب الطعام محسن منه أن يسأل غير ذلك ، إما بنفسه أو على لسان الرسول ، فلما كان عندهم أن سؤال موسى أقرب إلى الإجابة جاز لهم أن يسألوه ذلك ، ولم يكن فيه معصية .
واعلم أن سؤال النَّوع الآخر من الطعام يحتمل أن يكون لأغراض منها : أنهم لما تناولوا ذلك النوع الواحد أربعين مَلّوه سنةً ، فاشْتَهَوْا غيره .
ومنها : لعلّهم ما تعودوا ذلك النوع ، وإما تعودوا سائر الأنواعن ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان خسيساً فوق رَغْبته فيما لم يَعْتَدْهُ وإن كان شريفاً .
ومنها : لعلهم ملوا البقاء في التِّيْه ، فسألوه هذه الأطعمة التي لا توجد إلاَّ في البلاد ، وغرضهم الوصول إلى البلاد لا نفس الأطعمة .
ومنها : أن المُوَاظبة على نوع واحد سببٌ لنقصان الشهوة ، وضعف الهَضْم ، وقلّة الرغبة والاستكثار من الأنواع بضد ذلكن فثبت أن تبديل طعام بغيره يصلح أن يكون مقصود العقلاء ، وليس في القرآن ما يدلّ على منعهم ، فثبت أن هذا القَدْرَ لا يجوز أن يكون معصية ، ومما يؤكد ذلك أن قوله : { اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } كالإجابة لما طلبوا ، ولو كانوا عاصين في ذلك السُّؤال لكانت الإجابة إليه معصية ، وهي غير جائزة على الأنبياء ، لا يقال : إنهم لما أبوا شيئاً اختاره الله لهم أعطاهم عاجل ما سألوه كما قال : { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ الشورى : 20 ] لأن هذا خلاف الظاهر .
واحتجوا على أن ذلك السؤال معصية بوجوه :
الأول : قولهم : لن نصبر على طعامٍ واحدٍ يدلّ على أنهم كرهوا إنزال المَنَ والسلوى ، فتلك الكراهة معصية .
الثاني : أن قول موسى عليه الصلاة والسلامك { أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ } استفهام على سبيل الإنكار ، وذلك يدلّ على كونه معصية .
الثال : أن موسى عليه الصلاة والسلام وصف ما سألوه بأنه أدنى ، ما كانوا عليه بأنه خير ، وذلك يدلّ على ما قلناه .
والجواب عن الأول : أن قولهم : { لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } ليس فيه دليل على أنهم كرهوه ، بل اشتهوا شيئاً آخر؛ لأن قلهم : لن صبر إشارةٌ إلى المستقبلح لأن « لن » لنفي المستقبل ، فلا يدلّ على أنهم سخطوا الواقع .
وعن الثاني : بأن الاستفهام على سبيل الإنكار قد يكون لما فيه من تفويت الأ نفع في الدنيا ، وقد يكون لما فيه من تَفْويت الأنفع في الآخرة .
وعن الثالث : بأن الشيء قد يوصف بأنه خير من حيث إن الانتفاع به حاضر متيقّن ، ومن حيث إنه حصل بِلاَ كَدّ و لا تَعَب ، فكما يقال ذلك في الحاضر ، فقد يقال في الغائب المشكوك فيه : إنه أدنى من حيث إنه لا يتيقّن من حيث لا يوصل إليه إلا بالكَدّ ، فلا يمتنع أن يكون مراده عليه الصلاة والسلام هذا المعنى ، أو بعضه ، فثبت أن ذلك السؤال لم يكن معصية ، بل كان سؤالاً مباحاً ، وإذا كان كذلك فقوله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله } ، لا يجوز أن يكون لما تقدم؛ بل لما ذكره الله تعالى بعد ذلك وهو قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله } إلى آخره .
فهذا هو الموجب للغَضَبِ والعقاب لا كونهم سألوه ذلك .
فصل في المراد ب « مصر »
قال : قوم : المراد من « مصر » البلد الذي كانوا فيه مع فرعون؛ لقوله تعالى : { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ } [ المائدة : 21 ] فأوجب دخول تلك الأرض ، وذلك يقتضي المنع من دخول غيرها ، وأيضاً قوله : { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يقتضي دوامهم فيه؛ وقوله : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ } [ المائدة : 21 ] صريح في المَنْعِ من الرجوع عن بيت المقدس ، وأيضاً فإنه تعالى ، بعد الأمر بدخول الأرض المقدّسة ، قال : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض } [ المائدة : 26 ] .
فلما بيّن تعالى أنهم ممنوعون من دخولها هذه المُدّة ، فعند زوال تلك المُدْة يجب أن يلزمهم دخولها ، وإذا كان كذلك لم يجز أ ، يكون المراد من مِصْر سواها .
فإن قيل : هذه الوجوه ضعيفة .
أما الأول : فلأن قوله : { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَة } [ المائدة : 21 ] أمر ندب فلعلّهم ندبوا إلى دخول الأرض المقدسة ، مع أنهم ما منعوا من دخول مصر ، وأما قوله : { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فذلك يدل على دوام تلك الأرض المقدسة .
وأما قوله : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ } فلا نسلّم أنّ معناه : ولا ترجعوا إلى مصر ، بل يحتمل أن يكون معناه : ولا تعصوا فيما أمرتكم؛ لأن العرب تقول لمن عصى الأمر : أرتَدّ على عقبة ، فالمراد من هذا العصيان كونهم أنكروا أن يكون دخول الأرض المقدسة أولى .
ويحتمل أن يكون ذلك النهي مخصوصاً بِوَقْتٍ معين .
والجوابك أنه ثبت في الأصول أن ظاهر الأمر للوجوب ، وإن سلّمنا أنه للندب ، ولكن الإذن في تركه يكون إذناً في ترك المندوب ، وهو لا يليق بالأنبياء .
وأما قوله : لا نسلّم أن المراد من قوله : « و لا ترتدوا » : ولا ترجعوا .
قلنا : الدليل عليه أن أمره بدخول الأرض المقدّسةن ثم قوله بعده : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ } يتبادر إلى الفَهْم أن النهي يرجع إلى ما تعلّق به ذلك الأمر .
وقوله : « تخصيص النهي بوقت معين » .
قلنا : التخصيص خلاف الظاهر .
قال أبو مسلم الأصفهاني : يجوز أن يكون المراد « مِصْر فرعون » لوجهين :
الأول : من قرأ « مِصْرَ » بغير تنوين كان عَلَماً للبلد المُعَيّن ، وليس في العالم بلدة ملقبة بهذا اللقب سواها ، فحمل اللفظ عليه ، ولأن اللفظ إذا دَارَ بين كونه علماً ، وبين كونه صفة فحمله على العلم أولى .
ومن قرأه منوناً فإما أن تجعله اسم عَلَم ، وتقول : إنما نون لسكون وسطه ، فيكون القريب أيضاً ما تقدم ، وإن جعلناه اسم جنس فقوله : { اهبطوا مِصْراً } يقتضي التخيير ، كما إذا قال : أَعْتِقْ رَقَبَةً .
الوجه الثاني : أن الله تعالى ورث بن إسرائيل أرض « مصر » لقوله : { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 59 ] وإذا موروثةً لهم امتنع أن يحرم عليهم دخولها .
فإن قيل : قد يكون الرجل مالكاً للدَّار وإن كان ممنوعاً من دخولها كمن أوجب على نفسه اعتكافَ أيام المسجد ، فإنه يحرم عليه دخول دَارِهِ ، وإن كانت مملوكةً له ، فلم لا يجوز أن يقال : إن الله تعالى وَرَّثهم « مصر » بمعنى الولاية ، والتصرف فيها ، ثم إنه تعالى حرم عليهم دخولها بإيجابه عليهم سُكْنى الأرض المقدسة؟
قلنا : الأصل أن الملك مطلق للتصرف والمنع من التصرف خلاف الدليل .
وأجاب الفرق الأول عن حجّتي أبي مسلم .
أما قوله « إن القراءة المشهورة بالتنوين يقتضي التخيير » .
قلنا : نعم ، لكنا نخصّص العموم في حقّ هذه البلدة المعينة بما ذكرنا من الدليل .
وأما الثاني : فإنّا لا ننازع في أن الملك لمطلق التصرف لكن قد يترك هذه الأصل لعارض كالمرهون والمستأجر ، فنحن تركنا هذا الأصل لما قدمنا من الدّلائل .
قوله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة } أيك جُعِلَتِ الذِّلَّة محيطً بهم ، مشتملةً عليهم؛ كمن يكون في القُبَّة المَضْرُوبَةِ؛ قال الفرزدقُ لجرير : [ الكامل ]
541 ضَرَبَتْ عَلَيْكَ العَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا ... وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الكِتَابُ المُنْزَلُ
أو ألصفت بهم حتى لزمتهم كما يضرب الطِّين على الحائط فيلزمه .
ومن قال : إنها الجزية فبعيد؛ لأن الجزية لم تكن مضروبةً حينئذ .
وقال بعضهم : هذا من باب المُعْجِزَات؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أخبر عن ضرب الذِّلّة والمَسْكَنة عليهم ، ووقع الأمر كذلك ، فكان معجزة . و « الذِّلّة » : الصَّغَار .
والذُّلّ بالضم : ما كان عن قَهْرٍ ، وبالكسر : ما كان بعد شماس من غير قهر . قاله الراغب .
و « المَسْكَنَةُ » : مَفْعَلَة من السُّكون ، لأن المسكين قليل الحركة والنهوض ، لما به من الفَقْرِ ، و « المسكين : مُفْعِيْل منه ، إلاّ أن هذه الميم قد ثبتت في اشتقاق هذه الكلمة ، قالوا : تمسكن يتمسكن فهو متمسكن ، وذلك كما تثبت ميم » تَمْنَدل وتَمَدْرَعَ « من » النَّدْلِ « و » الدَّرعِ « وذلك لا يدلّ على أصالتها؛ لأن الاشتقاق قضى عليها بالزِّيَادة .
وقال الراغب : قوله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة } : فالميم في ذلك زائدة في أصحّ القولين .
وإيراد هذا الخلاف يؤذن بأن النون زائدة ، وأنه من » مسك « و » ضربت « مبني للمفعول و » الذّلة « مقام الفاعل .
قول : { وَبَآءُوا } ألف » بَاءَ بكذا « منقلبة عن واو؛ لقوله : » بَاءَ يَبُوءُ « مثل : » قَالَ يَقُولْ « قال عليه الصَّلاة والسَّلام : » أَبُوءُ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ « ، المصدر » البَوَاء « ؟
وبَاءَ معناه : رَجَع؛ وأنشد بعضهم هذا : [ الوافر ]
542 فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّابَايَا ... وأُبْنَا بِالمُلُوكِ مُصَفَّدينَا
وهذا وَهَمٌ؛ لأن هذا البيت من مادة : « آبَ يَئوب » فمادته من همزة ، وواو ، وبَاءٍ ، و « بَاءَ » مادته من باء ، وواو ، وهمزة ، وادعاء القلب به بعيدٌ؛ لأنه لم يُعْهَد تقدُّم العين واللام معاً على الفاء في مقلوب ، وهذا من ذلك .
والبَوَاءك الردوع بالقَوَدِ ، وهُمْ في هذا الأمر بَوَاء ، أي : سَوَاء؛ قال : [ الطويل ]
543 أَلاَ تَنْتَهي عَنَّا [ مُلُوكٌ ] وتَتَّقِي ... مَحَارِمَنَا لاَ يَبُؤِ الدَّمُ بِالدَّمِ
أي : لا يرجعُ الدم بالدم في القَوَدِ .
وبَاءَ بكذا : أقرَّ أيضاً ، ومنه الحديث المتقدِّم أي : أُقِرُّ بها ، وأُلْزِمُهَا نَفْسِي ، وقال : [ الكامل ]
544 أَنْكَرْتُ بَاطِلَها وَبُؤْتُ بِحَقِّهَا ..
وقال الراغبك « أصل البَواء مُسَاوَاةٌ الأَجْزَاءِ في المكان خلاف النَّبْوَة الذي هو مُنَافاة الأجزاء » .
وقوله : « وَبَاءوا بِغَضَبٍ » أي : حلُّوا مَبْوَأً ومعه غَضَب ، واستعمال « بَاءَ » تنبيه على أن مكانه الموافق ييلزمه فيه غضب الله فكيف بغيره من الأمكنة ، وذلك نحو : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] .
ثم قال : وقول من قال : بؤت بحقها ، أي : أقررت فليس تفسيره بحسب مقتضى اللفظ .
وقولهم : « حَيّاك الله وبَيّاك » أصله : بَوّأك ، وإنما غير للمُشَاكلة ، قاله خلف الأحمر .
وقيل : باءوا : استحقوا ، ومنه قوله تعالى : { إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } [ المائدة : 29 ] أي : يستحق لإثم جمعياً ، ومن قال : إنه الرجوع فلا يقال : باء إلا بِشَرّ .
قوله : « بغضب » في موضع الحال من فاعل « باءوا » أي : رجعوا مغضوباً عليهم ، وليس مفعولاً به ك « مررت بزيد » .
وقال الزمخشري : هو من قولك : باء فلان بفلان إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمُسَاواته له ومكافأته ، أي صاروا أحقاء بغضبه . وعلى هذا التفسير ينبغي كون الباء للحال .
قوله : { مِّنَ الله } الظاهر أنه محلّ جر صفة ب « غضب » ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : بغضب كائن من الله .
و « من » لابتداء الغاية مجازاً .
وقيل : هو متعلّق بالفعل نفسه أي : رجعوا من الله بِغَضَبٍ . وليس ، بقوي .
قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } .
« ذلك » مبتدأ أشير به إلى ما تقدّم من ضرب الذِّلّة والمسكنة [ والخلافة ] بالغضب .
و « بأنهم » الخبر ، والباء للسببية ، أي : ذلك مستحقّ بسبب كفرهم .
وقال المهدوي : الباء بمعنى اللام أي : لأنهم ، ولا حاجة إلى هذا ، فإن باء السببية تفيد التَّعطيل بنفسها .
و « يكفرون » في محلّ نصب خبراً ل « كان » ، و « كان » وما في حَيّزها في حل رفع خبراً للمبتدأ كما تقدم .
قوله : { بِآيَاتِ الله } متعلّق ب « يكفرون » والباء للتعدية .
قوله : { وَيَقْتُلُونَ } في محلّ نصب عطفاً على خبر « كان » ، وقرىء : « تقتلون » بالخطاب التفاتاً إلى الخطاب الأول بعد الغيبة . و « يُقَتَّلونُ » بالتشديد للتكثير .
قوله : { النبيين } مفعول به جمع « نبي » .
والقراءة على ترك الهمزة في النُّبوة ، وما تصرف منها ، ونافع المدني على الهمز في الجميع إلاّ موضعين : في سورة « الأحزاب » : { لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ } [ الأحزاب : 50 ] ، { بُيُوتَ النبي إِلاَّ } [ الأحزاب : 53 ] ، فإن قالون حكى عنه في الوَصْلِ كالجماعة وسيأتي . وما من همز فإنه جعله مشتقاً من « النبأ » وهو الخبر ، فالنَّبِيُّ « فعيل » بمعنى « فاعل » أي : مُنَبِّىءٌ عن الله برسالته ، ويجوز أن يكون بمعنى « مفعول » ، أي : أنه مُنَبَّأٌ من الله بأوامره ونواهيه ، واستدلُّوا على ذلك بجمعه على « نُبَآء » ك « طَرِيف وظُرَفَاء » قال العَبَّاسُ بنُ مِرْدَاسٍ : [ الكامل ]
545يا خَاتَمَ النُّبَآءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ ... بِالحَقِّ كُلُّ هُدَى الإلَهِ هُدَاكَا
فظهور الهمزتين يدلُّ على كونه من « النَّبَأ » ، واستضعف بعض النحويين هذه القراءة ، قال أبو علي : « قال سيبويه » : بلغنا أن قوماً من أهل التحقيق يحققون « نبيئاً وبريئة » قال : وهو رَدِيء ، وإنما استردأه؛ لأن الغالب في استعماله التخفيف . وقال أبو عبيدة الجمهور الأعظم من القراء والعَوَامّ على إسقاط الهمز من النَّبِي والأَنْبِيَاء ، وكذلك أكثر العرب مع حديث رويناه ، فذكر أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « يا نَبِيءَ الله » فهمز ، فقال : « لَسْتُ بِنَبِيءِ الله » فهمز ولَكِنِّي نَبِيُّ اللهِ ، ولم يهمز ، فأ ، كر عليه الهمز .
قال : وقال لي أبو عبيدة : العرب تبدل الهمزة في ثلاثة أحرف : « النبيّ والبَرية والخَابِية » وأصلهن الهَمْز .
قال أبو عبيدة : ومنها حرف رابع : « الذُّرِّيَّة » من ذَرأَ يَذْرَأ ، ويدلّ عل أن الأصل الهمز قال سيبويه : [ إنهم ] كلّهم يقولون : تنبأ مُسَيْلمة فيهمزون .
وبهذا لا ينبغي أن ترد به قراءة هذا الإمام الكبير ، أما الحديث فقد ضعفوه .
قال ابن عطيةك ومما يقوي ضعفه أنه لما أنشده العَبَّاس : [ الكامل ]
546 يَا خَاتضمَ النُّبَآءِ . .. . . .
لم ينكره ، ولا فرق بين الجمع والواحد ، ولكن هذا الحديث قد ذكره الحاكمك في « المستدرك » وقال : هو صحيح على شرط الشَّيخين ، ولم يخرجاه .
فإذا كان كذلك فليلتمس للحديث تخريجٌ يكون جواباً عن قراءة نافع ، على أنّ الَطْعِيٌ لا يُعَارَضُ بالظني ، وإنما يذكر زيادة فائدة .
والجواب عن الحديث : أنّ أبا زيد حكى : نَبَأْتُ من أرض كذا إلى أرض كذا ، أي : خرجت منها إليها فقوله : « يا نبيء الله » بالهمز يوهم يا طَرِيدَ الله الذي أخرجه من بلده إلى غيره ، فَنَهَاه عن ذلك لإيهامه ما ذكرنا ، لا لسبب يتعلّق بالقراءة .
ونظر ذلك نهيه المؤمنين عن قولهم : { رَاعِنَا } [ البقرة : 104 ] لما وجدت اليهود بذلك طريقاً إلى السَّب به في لغتهم ، أو يكون حضَّا منه عليه الصلاة والسلام على تَحَرِّي أفصح اللغات في القرآن وغيره ، وأما من لم يهمز ، فإنه يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه من المهموز ، ولكن [ خفف ] ، وهذا أولى ليُوافق القراءتين ، ولظهور الهمز في قولهم : تنبأ مسليمة : « يا خاتم النُّبَآء . » .
والثاني : أنه أصل آخر بنفسه مشتقّ من « نَبَا يَنْبُو » : إذا ظهر وارتفع ، ولا شَكَ أن رتبة النبي عليه الصلاة والسلام مرتفعة ، ومنزلته ظاهرة بخلاف غيره من الخَلْقِ ، والأصل : « نبيو وأنبواء » ، فاجتمع الياء ولواو : وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء في الياء ك « ميت » في « ميوت » ، وانكسر ما قبل الواو في الجمع فقلبت ياء ، فصار : أنبياء .
والواو في « النبوة » بدل من الهمزة على الأول ، وأصل بنفسها على الثّاني ، فهو « فعيل » بمعنى « فاعل » ، أي : ظاهر مرتفع ، أو بمعنى مفعول أي : رفعه الله على خَلْقِهِ ، أو يكون مأخوذاً من النبي الذي هو الطريق ، وذلك أن النبي طريق الله إلى خلقه ، به يتوصّلون إلى معرفة خالقهم؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
547لَمَّا وَرَدْنَ نُبَيِّا وَاسْتَتَبَّ بِنَا ... مُسْحَنْفِرٌ كَخُطُوطِ النَّسْجِ مُنْسَحِلُ
وقال الشاعر : [ المتقارب ]
548 لأَصْبَحَ رَتْاً دُقَاقَ الحَصَى ... مَكَانَ النَّبِيِّ مِنَ الكَاثِبِ
« الرَّتْم » بالتاء المثناة والمثلثة جمعياً : الكسر .
و « الكَاثِب » بالمثلثة : اسم جَبَل ، وقالوا في تحقير نُبُوّة مسيلمة : نَبِيئة .
وقالوا : جمعه أبيناء قياس مُطّرد في « فعيل » المعتل نحو : « وَلِيّ وأولياء ، وصَفِيّ وأصفياء » .
وأما قَالُون فإنما ترك الهمز في الموضعين المذكورين لمَدْرَكٍ آخر ، هو أنه من أصله في اجتماع الهمزتين من كلمتين إذا كانتا مكسورتين أن تسهل الأولى ، إلا أن يقع قبلها حرف مدّ ، فتبدل وتدغم ، فلزمه أن يفعل هنا ما فعل في : { بالسواء إِلاَّ } [ يوسف : 53 ] من الإبدال والإدغام ، إلاّ أنه روي عنه خلاف في : { بالسواء إِلاَّ } ولم يُرْو عنه [ هنا ] خلافٌ كأنه التزم البدل لكثرة الاستعمال في هذه اللَّفظة وبابها ، ففي التحقيق لم يترك همزة « النَّبيّ » ن بل همزه ولما همزه أدّاه قياس تخفيفه إلى ذلك ، ويدلّ على هذا الاعتبار أنه إنما يَفْعَل ذلك حيث يَصِل ، أمّا إذا وقف فإنه يهمزه في الموضعين ، لزوال السَّبب المذكور ، فهو تارك للهمز لفظاً آتٍ به تقديراً .
فإن قيل : قوله : « يَكْفُرُونَ » دخل تحته قتل الأنبياء ، فَلِمَ أعاد ذكره؟
فالجواب : إن المذكور هنا هو الكفر بآيات الله ، وهو الجهل والجَحْد بآياته ، فلا يدخل تحته قتل الأنبياء .
قوله : { بِغَيْرِ الحق } في محلّ نصب على الحال من فاعل « يقتلون » تقديره : يقتلونهم مبطلين ، ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف تقديره : قتلاً كائناً بغير الحَقِّ ، فيتعلّق بمحذوف .
قال الزمخشري : قتل الأنبياء لا يكون إلاَّ بغير الحَقّ ، فما فائدة ذكره؟
وأجاب : بأن معناه أنهم قتلوهم بغير الحَقّ عندهم؛ لأنهم لم يقتلوا والا أفسدوا في الأرض حتى يقتلوا ، فو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجهاً يستحقّون به القتل عندهم .
وقيل : إنما خرج وصفهم بذلك مخرج الصّفة لقتلهم بأنه ظلم في حقهم لا حقٌ ، وهو أبلغ في الشناعة والتعظيم لذنوبهم .
وقيل : هذا التكرير للتأكيد ، كقوله تعالى : { وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } [ المؤمنون : 117 ] ، ويستحيل أن يكون لمدعي الإله الثاني بُرْهَان .
وقيل : إن الله تعالى [ لو ذمّهم على مجرد القتل قالوا : أليس أنّ الله يقتلهم ، فكأنه تعالى قال : القَتْلُ الصادر من الله تعالى ] قَتْلٌ بحقِّ ، ومن غير الله قَتْلٌ بغير حق .
فإن قيل : كيف جاز أن يخلّي بين الكافرين [ وقتل ] الأنبياء؟
قيل : ذلك كرامة لهم ، وزيادة في منازلهم كمن يقتل في سبيل الله من المؤمنين ، وليس ذلك بِخُذْلان لهم .
قال ابن عباس والحسن رضي الله عنهم : لم يقتل قَطّ نبي من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكل من أمر بقتال نصر .
فصل في أوجه ورود لفظ الحق
وقد ورد « الحَقّ » على أحد عشر وجهاً :
الأول : بمعنى « الجَزْ » لقوله تعالى : { وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ } [ آل عمران : 112 ] أي : بغير جَزْمٍ كهذه الآية .
الثاني : بمعنى « الصّفة » قال تعالى : { الآن جِئْتَ بالحق } [ البقرة : 71 ] أي : بالصفة التي نعرفها .
الثالث : بمعنى « الصّدق » قال تعالى : { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين } [ الروم : 47 ] ، ومثله { ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق } [ مريم : 47 ] أي : قول الصدق .
الرابع : بمعنى : « وجب » قال تعالى : { ولكن حَقَّ القول مِنِّي } [ السجدة : 13 ] أي : وجب ، ومثله : { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } [ غافر : 6 ] أي : وجبت .
الخامس : بمعنى : « الولد » قال تعالى : { بَشَّرْنَاكَ بالحق } [ الحجر : 55 ] أي : بالولد .
السادس : الحقّ : الحُجّة قال تعالى : { فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قالوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } [ يونس : 76 ] أي : جاءتهم الحجّة ، وهي اليَدُ والعَصَاة .
السابع : بمعنى « القَضَاء » قال تعالى : { قَالَ رَبِّ احكم بالحق } [ الأنبياء : 115 ] أي : اقض ، ومثله : { وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يأتوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } [ النور : 49 ] .
الثامن : بمعنى : « التوحيد » قال تعالى : { بَلْ جَآءَ بالحق } [ الصافات : 37 ] أي بالتوحيد .
التاسع : الحَقّ : الإسلام قال تعالى : { وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل } [ الإسراء : 81 ] أي : جاء الإسلام ، وذهب الكفر ، ومثله : { أَفَمَن يهدي إِلَى الحق } [ يونس : 35 ] أي : إلى الإسلام ، ومثله : { إِنَّكَ عَلَى الحق المبين } [ النمل : 79 ] .
العاشر : بمعنى القرآن ، قال تعالى : { بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ } [ ق : 5 ] أي : بالقرآن .
الحادي عشر : الحَقّ : هو الله تعالى ، قال تعالى : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ } [ المؤمنون : 71 ] أي : في إيجاد الولد ، ومثله :
{ وَتَوَاصَوْاْ بالحق } [ العصر : 3 ] أي : بالله .
قوله : « ذَلِكَ بَمَا عَصَوا » مثل ما تقدم .
وفي تكرير اسم الإشاره قولان :
أحدهما : أمه مُشَار به إلى ما أشير بالأول إليه على سبيل التأكيل .
والثاني : ما قاله الزمخشري : وهو أن يشار به إلى الكُفْرِ ، وقَتْلِ الأنبياء ، على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم ، واعتدائهم؛ لأنهم انهمكوا فيها .
و « ما » مصدرية ، و « الباء » للسببية ، أي بسبب عصيانهم ، فلا محلّ ل « عصوا » لوقوعه صلةً ، وأصل « عَصَوْا » : « عَصَيُوا » تحركت الياء وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفاً ، فالتقى سكنان [ الياء ] والواو ، فحذفت الياء لكونها أوّل السّاكنين ، وبقيت الفتحة تدلّ عليها ، فوزنه « فَعَوْا » .
وأصل « العصيان » : الشدة . واعتصمت النَّوَاة : إذا اشتدت .
قوله : { وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } المراد منه الظُّلم ، أو تجاوز الحَقّ إلى الباطل .
وأصل : « الاعتداء » : المُجَاوزة من « عَدَا » « يعْدُوا » ، فهو « افْتِعَال » منه ، ولم يذكر متعلّق العصيان والاعتداء ، ليعم كل ما يُعْصى ويعتدى فيه .
وأصل « يَعْتَدُون » : « يَعْتَدِيُون » ، ففعل به ما فعل ب { تَتَّقُونَ } [ البقرة : 21 ] من الحذف والإعلال ، وقد تقدم ، فوزنه : « يَفْتَعُون » .
والواو من « عصوا » واجبة الإدغام في الواو بعدها ، لانفتاح ما قبلهان وليس فيها [ مدٌّ ] يمنع من الإدغام ، ومثله : { فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ } [ آل عمران : 20 ] وهذا بخلاف ما إذا انظم ما قبل الواو ، فإن المَدّ يقوم مقام الحاجز بين المثلين : فجيب الإظهار ، نحو : { آمَنُواْ وَعَمِلُواْ } [ البقرة : 25 ] ومثله : { الذى يُوَسْوِسُ } [ الناس : 5 ] .
فإن قيل : ما الفرق بين ذكره « الحَقّ » هاهنا معرفاً ، وبين ذكره في « آل عمران » منكراً في قوله { وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ } [ آل عمران : 112 ] ؟
والجواب : أن الحَقّ المعلوم الذي يوجب القتل فيما بين الناس هو قوله عليه الصلاة والسلام : « لا يَحِلّ دَمُ امرىءٍ مسلم إلا بإحْدَى ثَلاَثٍ ، كُفْر بعد [ إيمان ] ، وزِنّى بعد [ إحْصَان ] ، وقَتْل نفس بغير حق » .
فالمعرّف إشارة إلى هذا ، والمنكّر المراد به تأكيد العموم ، أي : لم يكن هناك حقّ ألبتّة لا لهذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره .
فإن قيل : ما الفائدة في جمعه « الأنبياء » هنا جمع سَلاَمة ، وفي « آل عمران » جمع تكسير؟
فالجواب : [ ذلك لموافقة ما بعده من جمعي السَّلامة ، وهو « النَّبِيِّين » « الصَّابِئِين » بخلاف الأنبياء ] . .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
قال ابن عباس : والمراد ب « الذين آمنوا » هم الذين آموا قبل [ مبعث ] محمد بعيسى عليه الصلاة والسلام مع البراءة عن أباطيل اليهود مثل قَسّ بن سَاعِدة ، وبحيرى الراهب ، وحبيب النَّجَّار ، وزيد بن عمرو بن نُفَيل ، وَورقَة بن نَوْفَل وسلمان الفَارِسي ، وأبو ذر الغفاري ، وخَطَر بن مَالِك ، ووَفْد النجاشي ، فكأنه قال : إن الذين آمنوا قبل مبعث محمد ، والذين كانوا على الأديان الباطلة كلّ من آمن منهم بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم بالله واليوم الآخر ومحمد ، فلهم أجرهم .
وقال سفيان الثوري : المراد من قوله : « الذين آمنوا » هم المنافقون؛ لأنهم يؤمنون باللّسَان دون القَلْبِ ، ثم اليهود والنصارى والصَّائبون ، فكأنه قال : هؤلاء المُبطلون كل من آمن منهم بالإيمان الحقيقي ، فلهم أجرهم .
وقال المتكلمون : المراد أنَّ الذين آمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام في الحقيقة ، وهو عائد إلى الماضي ، ثم قوله : « من آمن بالله » يقتضي المستقبل ، فكأنه قال : إن الذين آمنوا في الماضي ، وثبتوا عليه في المستقبل .
و « هَادُوا » في ألفه قولان :
أحدهما : أنه من واو ، والأصل « هَادَ يَهُود » أي : تاب؛ قال الشاعر [ السريع ]
549 ... إنِّي امْرُؤٌ مِنْ حُبِّهِ هَائِدُ
أي : تائب ، منه سمي اليَهُود ، لأنهم تابوا عن عبادة العِجْلِ ، وقالوا : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] أي : تُبْنَا ورجعنا .
[ قاله ] ابن عباس .
وقيل : هو من التهويد ، وهو النطق في سكون ووَقَارٍ؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
550 وَخُودٌ مِنَ اللاَّئِي تَسَمَّعْنَ بِالضُّحَى ... قَرِيضَ الرُّدَافَى بِالغِنَاءِ المُهَوِّدِ
وقيل : من « الهَوَادَة » ، وهي الخضوع .
الثاني : أنها من ياء ، والأصل : « هَادَ يَهِيد » ، أي : تَحَرَّك ، ومنه سمي اليهود؛ لتحركهم في دراستهم ، قاله أبو عمرو بن العلاء .
وقيل : سموا يهوداً نسبة ليَهُوذَا بالذال المعجمة وهو ابن يَعْقُوب عليه الصلاة والسلام ، فغيَّرته العرب بالدّال المهملة ، جرياً على عادتها في التلاعب بالأسماء الأعجمية ، فعرب ونسب الواحد إليه ، فقيل يَهُودِيّ ، ثم حذف الياء في الجمع ، فقيل يَهُود .
وكل جمع منسوب إلى جنس ، فهو بإسقاط ياء النسب؛ كقولهم في « زِنْجِيّ » : زَنْجٌ ، وفي « رُومِيّ » : رُوم أيضاً . وهيادا : إذا دخل في اليهودية ، وتهوَّد إذا [ نسبه إليهم ] وهوّد إذا دعا إلى اليهودية .
والنَّصَارى جمع واحده « نَصْرَان » ، و « نَصْرَانة » ك : « نَدْمَان ونَدمانة ونَدَامَى » ، قاله سيبويه؛ وأنشد : [ الطويل ]
551 فَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأَسْجَدَ رَأْسُهَا ... كَمَا أَسْجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ
وقال عليه الصلاة والسلام : « فَابواه يُهَوِّدَانِهِ » وقرأ أبو السمال ومجاهد : « هادَوْا » بفتح الدال ، وإسكان الواو كأنهما من المفاعلة ، والأصل : هادَيُوا فأعلّ كنظائره .
وقيل : سُمُّوا يهوداً ليملهم عن دين الإسلام ، وعن دين موسى ، فعلى هذا إنما سموا يهوداً بعد أنبيائهم .
وقال ابن الأعرابي : يقال : هَادَ : إذا رجع من خير إلى شَرّ ، ومن شَرّ إلى خير ، وسمي اليهود بذلك لتخليطهم ، وكثرة انتقالهم من مذاهبهم ، نقله النووي في « التهذيب » عن الوَاحِديّ .
وأنشد الطبري على « نَصْران » [ قول الشاعر ] : [ الطويل ]
552 يَضَلُّ إذَا دَارَ العِشَا مُتَحَفِّناً ... وَيُضْحِي لَدَيْهِ وَهْوَ نَصْرانُ شَامِسُ
قال سيبويه : إلا أنه لم يستعمل في الكلام إلا بياء النَّسَب .
وقال الخليل : « واحد النصارى نَصْرِيّ ، كمَهْرِيٍّ ومَهَارَى » .
وقال الزمخشريُّ : الياء في « نَصْرانِيّ » للمبالغة كالتي في « أحَمَرِيّ » و « نَصَارَى » نكرةٌ ، ولذلك دخلت عليه آل ، ووصف بالنكرة في قول الشاعر : [ البسيط ]
553صَدَّتْ كَمَا صَدَّ عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَهُ ... سَاقِي نَصَارى قُبَيْلَ الفِصْحِ صُوَّامِ
وقال جاءت جموع على غير ما يستعمل واحدهان وقياسه النَّصَارنيون . وسموا بذلك نسبة إلى قرية يقال لها : « نَاصِرة » كان ينزلها عيسى عليه الصلاة والسلام ، قاله ابن عباس ، وقَتَادة ، وابن جُرَيْج . فنسب عيسى إليها ، فقيل : عيسى الناصري ، فلما نسب أصحابه إليه قيل : النَّصَارَى .
قال الجوهري : و « نَصْران » قررية ب « الشَّام » ينسب إليها النصارَى . أو لأنهم كانوا يتناصرون؛ قال الشاعر : [ الرجز ]
554لَمَّا رَأَيْتُ نَبَاطاً أَنْصَارَا ... شَمَّرْتُ عَنْ رُكْبَتي الإِزَارَا
كُنْتُ لَهُمْ من النَّصَارَى جَارَا ... وقيل : لأن عيسى عليه الصلاة والسلام قال للحواريين : { مَنْ أنصاري إِلَى الله } [ آل عمران : 52 ] .
و « الصَّابئين » الجمهور على همزة ، وقرأه نافع وشيبة والزهري بياء ساكنة غير مهموزة ، وعن أبي جعفر بياءين خَالِصَتَيْنِ بدل الهمزة ، فمن همزه جعله من صَبَأَ نابُ البعير أي : خرج ، وصبأت النجوم : طلعت .
وقال أبو علي : صَبَأَتُ على القوم إذا طَرَأْتُ عليهم . فالصَّابىء : التَّارك لدينه ، كالصَّابىء الطارىء على القوم ، فإنه تارك لأرضهن ومنتقل عنها .
ومن لم يهمز فإنه يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مأخوذا من المهموز فَأَبْدَلَ من الهمزة حرف علّة إما ياء أو واواً ، فصار من باب المنقوص مثل : « قاض أو غازٍ » ، والأصل : صاب ، ثم جمع كما يجمع القاضي أو الغازي ، إلا أن سيبويه لا يرى قلب هذه الهمزة إلاَّ في الشعر ، والأخفش وأبو زيد يريان ذلك مطلقاً .
الثَّاني : أنه من باب « صَبَا . . يَصْبُو » إذا مال ، ولذلك كانت العرب يسمون النبي صلى الله عليه وسلم صابئاً؛ لأنه أظهر ديناً خلاف أديانهم ، فالصَّابي كالغازي أصله : « صَابِوُا » فأعلّ كإعلال غازٍ ، وأسند أبو عبيد إلى ابن عباس : « ما الصَّابون إنا هي الصابئون ، والخَاطُون إنما هي الخاطئون » . فقد اجتمع في قراءة نافع همز « النبيين » ، وترك همز « الصابئين » .
[ وقد عُلم أنّ العكس فيهما أفصح ] .
فصل في تفسير الصابئين
[ وللمفسرين في تفسير « الصَّابئين » أقوال ] :
فقال مُجَاهد والحسن : هم طائفة بين اليَهُود والمجوس لا تؤكل ذبائحهم ، ولا تنكح نساؤهم .
وقال السّدي : هم فرقة من أهل الكتاب [ وقاله إسحاق بن راهوية . قال ابن المنذر ] :
وقال إسْحَاق : لا بأس بذبائح الصابئين؛ لأنهم طائفة من أهل الكتاب .
وقال أبو حنيفة : لا بأس بذبائحهم ، ومناكحة نسائهم .
وقال الخليل : هم قوم يشبه دينهم دين النَّصَارى ، إلاَّ أن قبلتهم نحو مهبّ الجنوب ، يزعمون أنهم على دين نوح عليه الصَّلاة والسَّلام . [ نقله ] القرطبي .
وقال قَتَادَةٌ : قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون إلى الشمس كل يوم خمس صلوات .
وقال أيضاً : الأديان خمسة أربعة للشَّيطان ، وواحد للرحمن ، وهم : الصابئون وهم يعبدون الملائكة ، والمَجُوس يعبدون النَّار ، والذين أشركوا يعبدون الأوثان ، واليهود والنَّصَارى ، وقال : قبيلة نحو « الشام » بين اليهود والنَّصَارى ، والمجوس لا دين لهم ، وكان مجاهد لا يراهم من أهل الكِتَابِ ، وهو منقول عن أبي حنيفة .
وقال قتادة ومُقَاتل : هم قوم يقرون بالله عز وجل ، ويعبدون الملائكة ، ويقرون بالزَّبُور ، ويصلون إلى الكعبة أخذوا من كلّ دين شيئاً .
وقال [ الكلبي ] : « هم قوم بين اليهود والنَّصارى يحلقون أوساط رؤوسهم ، ويجبُّون مذاكيرهم » . وقال عبدالعزيز بن يحيى : درجوا وانقرضوا .
وقيل : هم الكلدانيون الذين جاءهم إبراهيم علي الصَّلاة والسَّلام ردًّا عليهم ومبطلاً لقولهم ، وكانوا يعبدون الكواكب .
قال ابن الخطيب : وهو الأقرب ، ثم لهم قولان :
أحدهما : أنَّ الله خلق هذا العالم ، وأمر بتعظيم هذه الكواكب واتخاذها قِبْلَةَ الصلاة ، والدعاء والتعظيم .
والثاني : أن الله سبحانه وتعالى خلق الأفلاك والكواكب ، وجعل الكواكب مدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر ، والصحة والمرض ، فيجب على البشر تعظيمها؛ لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم .
قوله : { مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً } آمن : صدق . و « من » في قوله : « مَنْ آمَنَ » في موضع نصب بدل من « الَّذِينَ آمَنُوا » . والفاء في قوله : « فَلَهُمْ » داخلة بسبب الإبهام الذي في « مَنْ » .
وقيل : ف يموضع رفع بالابتداء ، ومعناها الشرط ، و « آمن » في موضع جزم بالشرط ، و « الفاء » جواب و « لَهُمْ أَجْرُهُمْ » خير « من » والجملة كلها خبر « إن » ، والعائد على « الذين » محذوف تقديره : من آمن منهم بالله ، وحمل الضمير على لفظ « مَنْ » فأفرد ، وعلى المعنى في قوله : « فَلَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ » فجمع؛ كقوله : [ الطويل ]
555أَلِمَّا بِسَلْمَى عَنْكُمَا إنْ عَرَضْتُمَا ... وقُولاَ لَهَا : عُوجِي عَلَى مَنْ تَخَلَّفُوا
وقال الفرزدق : [ الطويل ]
556تَعَالَ فِإنْ عَاهَدْتَنِي لاَ تَخْونُنِي ... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ
[ فراعى المعنى ] وقد تقدم تحقيق ذلك [ عند ) قوله : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا } [ البقرة : 8 ] والأجر في الأصل مصدر يقال : أجره الله يَأْجُرُه أَجْراً ، وقد يعبر به عن نفس الشيء المُجَازَى به ، والآية الكريمة تحتمل المعنيين .
والمارد بهذه العِنْدِيَّةِ أن أجرهم متيقّن جارٍ مجرى الحاصل عندهم .
قوله : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فقيل : أراد زوال الخوف [ عنهم ] في الدنيا .
وقيل : الآخرة وهو أصح؛ لأنه عامّ في النفي ، وكذا قوله : « وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ » ، وهذه لا تحصل في الدنيا؛ لأنّ المكلف في الدنيا لا ينفك من خوف وحزن ، إما في أسباب الدنيا ، أو في أمور الآخرة ، فكأنه سبحانه وعَدَهُمْ في الآخرة بالأجر ، ثم بين صفة ذلك الأجر أن يكون خالياً من الخوف والحزن ، وذلك يوجب أن يكون نعيمهم دائماً؛ لأنهم لو جوّزوا كونه منقطعاً لاعتراهم الخوف العظيم .
فإن قيل : فما الحكمة في قوله تعالى هاهنا : « الصَّابئين » منصوبة ، وفي « المائدة » : { والصابئون } [ المائدة : 69 ] مرفوعة . وقال في الحج : { والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا } [ الحج : 17 ] فقدم « الصَّابئين » على « النصارى » في آية ، وأخَّر « الصَّائبين » في الأخرى ، فهل في ذلك حكمة ظاهرة .
قال ابن الخَطيب : إن أدركنا تلك الحكم فقد فُزْنَا بالكمال ، وإن عجزنا أحلنا القصور على أفهامنا لا على كلام الحكيم .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
هذا هو الإنعام العاشر .
والميثاق إنما يكون بفعل الأمور التي توجب الانقياد والطاعة .
واختلفوا في ذلك الميثاق .
قال الأصَمّ : [ ما وعده الله القوم ] من الدَّلائل الدَّالة على صدق أنبيائه ورسله ، وهذا النوع من المواثيق أقوى المواثيق والعُهُود ، لأنها لا تحتمل الخلف والكذب والتبديل بوجه ألبتة . وقال أبو مسلم : هو ما روى عبدالرَّحمن بن زيد بن أسلم أن موسى عليه الصَّلا والسَّلام لما رجع إلى قومه بالألواحن قال لهم : « إن فيها كتاب الله تعالى » فقالوا : لن نأخذ بقولك حتى نرى الله جَهْرَةً فيقول : هذا كتابي فخذوه فأخذتهم الصَّاعقة ، فَمَاتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ، ثم قال لهم بعد ذلك : خذوا كتاب الله ، فأبوا فرفع الطور وقيل لهم : خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم ، [ فأخذوه ] فرفع الطور هو الميثاق؛ لأنه آية [ باهرة ] عجيبةُ تبْهِرُ العقول ، وتردّ المكذبَ إلى التصديق ، والشَّاكَّ إلى اليقين ، وأكدوا ذلك ، وعرفوا أنه من قبله تعالى وأظهروا التوبة ، وأعطوا العهد والميثاق ألاَّ يعودوا إلى ما كان منهم ، وأن يقوموا بالتوراة ، فكان هذا عهداً موثقاً . وري عن عبدالله بن عباس : أن لله مِثَاقَيْنِ .
الأول : حين أخرجهم من صلب آدم ، وأشهدهم على أنفسهم .
والثاني : أنه ألزم النَّاس متابعة الأنبياء ، وهو المراد من هذا العَهْدِ .
قال ابن الخَطِيبِ : « وهذا ضعيف » .
فإن قيل : لهم قال : « ميثاقكم » ولم يقل : « مواثيقكم » ؟
قال القَفَّال : لوجهين :
أحدهما : أراد به الدلالة على أنّ كلّ واحد منهم قد أخذ ذلك كما قال : { يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [ غافر : 67 ] أي : كل واحد منهم أخذ عليه ما أخذ على غيره ، فلا جرم كان كله ميثاقاً واحداً .
والثاني : أنه لو قال : مواثيقكم لأبهم أن يكون هُنَاك مواثيق أخذت عليم لا ميقاق واحد .
قوله : { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور } نظيره : { وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } [ الأعراف : 171 ] . و « الواو » في قوله : { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ } واو عطف على تفسير ابن عباس ، والمعنى : أن أخذ الميثاق كان متقدماً فلما نقضوه بالامتناع عن قَبُول الكتاب رفعنا عليهم الجبل .
وعلى تفسير أبي مسلم ليست واو عطف ولكنها واو الحال ، كما يقال : « فعلت ذلك والزمان زمان » فكأنه قال : وإذ أخذنا ميثاقكم عند رفعنا الطُّور فوقكم .
وفوقكم ظرف مكان ناصبه « رفعنا » ، وحكم « فوق » مثل حكم « تحت » ، وقد تقدم الكلام عليه .
قال أبو البقاء : ويَضْعُفُ أن يكون حالاً من « الطور » ؛ لأن التقدير يصير : ورفعنا الطور عالياً ، وقد استفيد من « رفعنا » . وفي هذا نظر؛ لأن المراد به علو خاص ، وهو كونه عالياً عليم لا مُطْلَقَ العلو حتى يصير : رفعناه عالياً كما قدره .
قال : « لأن الجبل لم يكن فوقهم وقت الرفع ، وإنما صار فوقهم بالرفع » .
ولقائل أن يقول : لم لا تكون حالاً مقدرة ، وقد قال هو في قوله : { بِقُوَّةٍ } إنها حال مقدرة كما سيأتي .
و « الطور » اسم [ لكلّ ] جبل ، وقيل : [ لما ] أَنْبَتَ منها خاصة دون ما لم ينبت ، وهل هو عربي أو سُرْيَانيّ قولان .
وقيل : سمي بطور بن إسماعيل عليه الصلاة والسلام؛ وقال العَجَّاج : [ الرجز ]
557 دَانَى جَنَاحَيْهِ مِنَ الطُّورِ فَمَرّ ... تَقَضِّيَ البَازِي إذا البَازِي كَسَرْ
وقال الخليل : الطُّور اسم جبل معلوم؛ لأن التعريف تقتضي حلمه على جبل معهود مسمى بهذا الاسم ، وهو جبل المُنَاجاة . وقد يجوز أن ينقله الله إلى حيث هم ، فيجعله فوقهم وإن كان بعيداً منهم .
وقال ابن عباس : أمر الله جبلاًُ من جبال « فلسطين » ، فانقلع من أصله حتى قام فوقهم كالظُّلة ، وبعث ناراً من قبل وجوههم ، وأتاهم البحر الملح من خلفهم ، وقيل لهم : خذوا ما آتيناكم ، أي : اقبلوا ما أعطيناكم وإلاَّ رضختكم بهذا الجبل ، وغرقتكم في هذا البحر ، وأحرقتكم بهذه النار فلما رأوا أن لا مهرب منه قلوا ذلك ، وسجدوا خوفاً ، وجعلوا يلاحظون الجبل ، وهم سجود ، فصارتْ سُنّة في اليهود لا يسجدون إلاَّ على أنصاف وجوههم .
قوله : « خذوا » في محل نصب بقول مضمر ، أي : وقلنا لهم : خذوا ، وهذا القول مضمر يجوز أن يكون في محل نصب على الحال من فاعل « رفعنا » والتدقير : ورفعنا الطور قائلين لكم خذوا . وقد تقدّم أن خذ محذوف الفاء أن الأصل : اؤخذ ، عند قوله : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً } [ البقرة : 35 ] .
قوله : { مَآ آتَيْنَاكُم } مفعول « خذوا » ، و « ما » موصولة بمعنى الذي لا نكرة موصوفة ، والعائد محذوف أي : ما آتيناكموه .
قوله : « بقوة » في محل نَصْبٍ على الحال ، وفي صاحبها قولان :
أحدهما : إنه فاعل « خذوا » وتكون حالاً مقدرة ، والمعنى : خذوا الذي آتيناكموه حال كونكم عازمين على الجدّ في العمل به .
والثاني : أنه ذلك العائد المحذوف ، والتقدير : خذوا الذي آتيناكموه في حال كونه مشدداً فيه أي : في العمل به ، والاجتهاد في معرفته .
قوله : « ما فيه » الضمير يعود على « ما آتيناكم » أي : أذكروا ما في الكتاب ، واحفظوه وادرسوه ، ولا تغفلوا عنه ، ولا يحمل على الذكر الذي هو ضدّ النسيان؛ لأنه ليس من فعل العبد ، فلا يجوز الأمر به ، وفي حرف « أُبَيِّ » « واَّكِرُوا » بذال مشددة وكسر الكاف ، وفي حرف عبد الله « وتَذَكَّروا مَا فِيهِ » [ ومعناه ] : اتّعظوا به .
قوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي : لكي تتقوا فتنجوا من الهلاك في الدنيا ، والعذاب في العقبى .
قوله : { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } التولّي تفعل من الوَلْي ، وأصله : الإعراض والإدبار عن الشَّيء بالجسم ، ثم استعمل في الإعراض عن الأوامر والمعتقدات اتساعاً ومجازاً وذلك إشارة إلى ما تقدم من رفع الطُّور ، وايتاء التوراة .
قال القَفَّال رحمه الله : « إنهم بعد قبول التوراة ، ورفع الطور تولّوا عن التَّوْراة بأمور كثيرة ، فحرّفوا التوراة وتركوا العمل بها ، وقتلوا الأنبياء ، وكفروا بها وعصوا أمرهم ولعلّ فيها اختصّ به بعضهم دون البعض ، ومنها ما علمه أوائلهم ، ومنها ما فعله متأخروهم ، ولم يزالوا في التِّيهِ مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلاً ونهاراً يخالفون موسى ، ويعرضون عنه ، ويلقونه بكلّ أذى ، ويجاهرون بالمعاصي حتى لقد خسف ببعضهم ، وأحرقت النار بعضهم ، وعوقبوا بالطاعون ، وكلّ هذا مذكور في تراجم التوراة ، ثم فعل متأخروهم ما لا خَفَاءَ به من تخريب » بيت المقدس « ، وكفروا بالمسيح وهمّوا بقتله . والقرآن وإن لم يكن فيه بَيَانُ ما تولوا به عن التوراة ، فالجملة معروفة من إخبار الله تعالى عن عِنَادِ أسلافهم ، فلا عَجَبَ في إنكارهم ما جاء به محمد عليه الصَّلاة والسَّلام من الكتاب والنبوة » .
قوله : { فَلَوْلاَ فَضْلُ الله } « لولا » هذه حرف امتناع لوجود ، والظَّاهر أنها بسيطة وقال أبو البَقَاءِ : هي مركّبة من « لو » ، و « لا » و « لو » قبل التركيب يمتنع بها الشيء لامتناع غيره ، و « لا » للنفي ، والامتناع نفي في المعنى ، وقد دخل النفي ب « لا » على أحد امتناعي « لو » والامتناع نفي في المعنى ، والنَّفي إذا دخل على النَّفي صار إيجاباً ، فمن [ ثمَّ ] صار معنى « لولا » هذه يمتنع بها الشيء لوجود غيره وهذا تكلْف ما لا فائدة فيه ، وتكون « لولا » أيضاً حرف تحضيض فتختص بالأفعال ، وسيأتي الكلام علهيا إن شاء الله تعالى .
و « لولا » هذه تختص بالمبتدأ ، ولا يجوز أن يليها الأفعال ، فإن ورد ما ظَاهِرُهُ ذلك أُوِّل؛ كقوله : [ الوافر ]
558وَلَوْلاَ يَحْسِبُونَ الحِلْمَ عَجْزاً ... لَمَا عَدِمَ المُسِيئُونَ احْتِمَالي
وتأويله أن الأصل : « ولولا أن تحسبوا » فلما حذفت أن ارتفع الفعل؛ كقوله : [ الطويل ]
559 أَلاّ أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الوَغَى .. . .
أي : « أَنْ أَحْضُرَ » .
والمرفوع بعدها مبتدأ خلافاً للكسائي حيث رفعه بفعل مضمر ، وللفراء حيث قال : « مرفوع بنفس لولا » . وخيره واجب الحذف للدلالة عليه وسد شيء مسده وهو جوابها والتقدير : ولولا فَضْل الله كائن أو حاصل ، ولا يجوز أن يثبت إلا في ضرورة شعر ، ولذلك لُحِّنَ المعرِّيُّ في قوله : [ الوافر ]
560 يُذِيبُ الرُّعْبُ مِنْهُ كُلَّ عَضْبٍ ... فَلَوْلاَ الغِمْدُ يُمْسِكُهُ لَسَالاَ
حيث أثبت خبرها بعدها ، هكذا أطلقوا ، وبعضهم فَصَّل فقال : إن كان خبر ما بعدها كونناً مطلقاً ، فالحذف واجب ، وعليه جاء التنزيل وأكثر الكلام ، وإن كان كوناً مقيداً فلا يخلو إما أن يدلّ عليه دليل أوْ لا ، فإن لم يدلِّ عليه دليل ، وجب ذكره؛ نحو قوله عليه الصَّلاة والسَّلام :
« لَوْلاَ قَوْمُكِ حَديثُو عَهْدٍ بِكُفْرٍ » ، وقول الآخر : [ الطويل ]
561 فَلَوْلاَ بَنُوهَا حَوْلَهَا لَخَبَطْتُهَا ..
وإن دلّ عليه دليل جاز الذِّكر والحذف نحو : « لولا زيد لَغُلِبْنَا » : شجاع ، وعليه بيت المعرّي المتقدم .
وقال أبو البَقَاءِ : ولزم حذف الخبر للعلم به ، وطول الكَلاَم فإن وقعت « أن » بعدها ظهر الخبر كقوله : { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين } [ الصافات : 143 ] فالخبر في اللّفظ ل « أن » ، وهذا الَّذِي قاله موهم ، ولا تعلّق لخبر « أن » بالخبر المحذوف ، ولا يغني عنه ألبتة فهو كغيره سواء ، والتقدير : فلولا كونه مسبحاً حَاضِرٌ أو موجودٌ . فأي فائدة في ذكره لهذا؟ [ والخبر ] يجب حذفه في صور أخرى تأتي مفصّلة إن شاء الله تعالى في مواضعها ، وقد تقدم عنى الفضل عند قوله : { فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } [ البقرة : 47 ] .
قوله : { لَكُنْتُم مِّنَ الخاسرين } اللاَّ جواب « لولا » والعم أن جوابها إن كان مثبتاً ، فالكثير دخول اللام كهذه الآية ونظائرها ، ويقلّ حذفها؛ قال : [ البسيط ]
562 لَوْلاَ الحَيَاءُ وَلَوْلاَ الذِّينُ عِبْتُكُمَا ... بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إذْ عِبْتُمَا عَوَرِي
وإن كان منفيًّا فلا يخلو : إما أن يكون حرف النَّفي « ما » أو غيرها ، إن كان غيرها فترك اللام واجب نحو : « لولا زيد لم أقم ، ولن أقوم » ، لئلا يتوالى لامان ، وإن كان ب « ما » فالكثير الحَذْف ، ويقلّ الإتيان بها ، وهكذا حكم جواب « لو » الامتناعية ، وقد تقدم عند قوله : { وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } [ البقرة : 20 ] ، ولا محلّ لجوابها من الإعراب . و « من الخاسرينَ » في محلّ نصب خبر « كان » ، و « من » للتبعيض .
فصل في تفسير فضل الله عليهم
ذكر القَفَّال في تفسيره وجهين :
الأول : لولا تفضل الله عليكم من إمهالكم ، وتأخير العذاب عنكم لكنتم من الخاسرين ، أي من الهالكين [ الذين باعوا أنفسهم بنار جهنم ] ، ومنه قوله تعالى : { خَسِرَ الدنيا والآخرة } [ الحج : 11 ] .
والثاني : أن يكون الخبر قد انتهى عند قوله : { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذلك } ، ثم قال : { فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } رجوعاً بالكلام إلى أوله ، أي : لولا لطف الله تعالى بكم برفع الجبل فوقكم لَدُمْتُمْ على ردّكم الكتاب ولكنه تفضل عليكم ورحمكم ولولا ذلك لكنتم من الخاسرين ببقائكم على تلك الحالة حتى يتم .
فإن قيل : كلمة « لولا » تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره ، فهذا يقتضي أن انْتِفَاء الخسران من لوازم حُصُول فضل الله تعالى بحيث حصل الخُسْران وجب أن يحصل هناك لطف الله تعالى .
وهذا يقتضي أن الله تعالى لم يفعل بالكافر شيئاً من الألطاف الدينية ، وذلك خلاف قوله المعتزلة .
أجاب الكعبي بأنه تعالى سَوّى بين الكُلّ في الفضل ، لكن بعضهم انتفع دون بعض ، فصح أن يقال ذلك كما يقول القائل لرجل وقد سوى بين أولاده في العطية فانتفع بعضهم لولا أن أباك [ فضّلك ] لكنت فقيراً ، هذا ضعيف؛ لأن أهل اللّغة نصوا على أن « لولا » تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره ، وإذا ثبت هذا فكلام الكَعْبِي ساقط .
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
لما عدّد وجوه إنعامه عليهم شرح [ إليهم ] ما وجه إليهم من التشديدات .
و « اللام » في [ لقد ] جواب قسم محذوف تقديرهك والله لَقَد ، وكذلك نظائرها .
قال بعض المتأخرين لها نحو أريين معنى ، قال : وجميع أقسام « اللام » التي هي حرف معنى يرجع عند التَّحقيق إلى قسمين : عاملة ، وغير عاملة ،
فالعاملة قسمان : جارّة ، وجازمة ، وزاد الكوفيون النَّاصبة للفعل .
وغير العاملة خمسة أقسام : لام ابتداء ، ولام فارقة ، ولام الجواب ، ولام موطّئة ، ولام التعريف عند من جعل حرف التعريف أحادياً .
أما الجارة فلها ثلاثون قسماً مذكورة في كتب النحو .
وأمّا الجازمة فلام الأمر ، والدعاء والالْتِمَاس . وحركة هذه اللام الكسر .
ونقل ابن مالك عن الفرّاء أن فتحها لغة ، ويجوز إسكانها بعد الواو والفاء ، وهو الأكثر .
وفي حذف لام الطلب وإبقاء عملها أقوال :
وأما اللام [ هنا فهي لام « كي » ] عند الكوفيين ، وعند البصريين لام جَرّ .
ولام الجحود نحو : ما كان زيد لِيَذْهَبَ ، ولام الصَّيرورة ، وتسمى لام التَّعَاقُب ، ولام المآل واللام الزائدة كقوله : { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [ النساء : 26 ] واللام بمعنى الفاء كقوله : { رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } [ يونس : 88 ] أي : فيضلوا . والكلام على هذه اللاَّمات ليس هذا موضعه ، وإنما نبّهنا عليه ، فيطلب من مكانه .
و « قد » حرف تحقيق وتوقّع ، وتنفيذ في المضارع التقليلّ إلاّ في أفعالِ الله تعالى فإنها للتحقيق ، وقد تخرج المضارع إلى المُضِيِّ كقوله : [ البسيط ]
563 قَدْ أَتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرَّا أَنامِلُهُ ... كَانَ أُثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفِرْصَادِ
وهي أداة مختصّة بالفعل ، وتدخل على الماضي والمضارع ، وتحدث في الماضي التقريب من الحال .
وفي عبارة بعضهم : « قد » حرف يصحب الأفعال ، ويُقَّرب الماضي من الحال ، ويحدث تقليلاً في الاستقبال .
والحاصل أنها تفيد مع الماضي أحد ثلاثة مَعَانٍ : التوقّع ، في التقريب ، والتحقيق ، ومع المضارع أحد أربعة معانٍ : التوقّع ، والتقليل ، والتكثير ، والتحقيق . قال ابن مالك : « والدَّالة على التقليل تصرف المضارع » ، وكذلك الدّالة على التكثير . وأما الدالة على التحقيق ، فقد تصرفه إلى المُضِيِّ ، ولا يلزم فيها ذلك ، وهي مع الفعل كجزء منه ، فلا يفصل بينهما بغير القسمح كقوله : [ الطويل ]
564 أخَالِدُ قَدْ والله أوْطَأْتَ عَشْوَةً ... وَمَا العَاشِقُ المَظْلُومُ فِينَا بِسَارِقِ
وإذا دخلت على الماضي ، فيشترط أن يكون متصرفاً ، وإذا دخلت على المضارع ، فيشترط تجرّدهُ من جازم وناصب ، وحرف تنفيس ، وتكون اسماً بمعنى « حَسْب » ؛ نحو : « قَدْنِي دِرْهَمٌ » ، أي : حَسْبِي ، وتتّصل بها نون الوقاية مع ياء المتكلم غالباً ، وقد جمع الشاعر بين الأمرين ، قال : [ الرجز ]
565 قَدْنِي مِنْ نَصْرِ الخُبْيبَيْنِ قَدِي ... والياء المتّصلة ب « قدني » في موضع نصب إن كان « قَدْني » اسم فعل ، وفي موضع جرّ إن كانت بمعنى « حَسْب » .
والياء في « قدي » تحتمل أن تكون بمعنى « حسبي » ، ولم يأت بنون الوقاية على أحد الوجهين ، وتحتمل أن تكون اسم فعل ، وحذفت النون للضرورة ، وتحتمل أن تكون اسم فعل ، والياء للإطلاق .
وإن كانت حرفاً جاز حذف الفعل بعدها ، كقوله : [ الكامل ]
566 أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنَا ... لَمّا تَزُلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ
أي : قد زالت .
وللقسم وجوابه أحكام تأتي إن شاء الله تعالى [ مفصلة ] .
و « عَلِمْتُم » بمعنى : عرفتم ، فيتعدّى لواحد فقط .
والفرق بين العِلْمِ والمَعْرفة أن العلم يستدعي معرفة الذات ، وماهي عليه من الأحوال نحو : « علمت زَيداً قائماً أو ضاحكاً » ، والمعرفة تستدعي معرفة الذَّات .
وقيل : لأن المعرفة يسبقها جهل ، والعلم قد لايسبقه جهل ، ولذلك لا يجوز إطلاق المعرفة عليه سبحانه وتعالى .
و « الَّذِينَ اعْتَدَوا » الموصول وصِلَتُهُ في محصل نصب مفعول به ، ولا حاجة إلى حذف مضاف كما قدره بعضهم ، أي : أحكام الذين اعتدوا؛ لأن المعنى عرفتم أشخاصهم وأعيانهم .
وأصل « اعْتَدَوْا » : « اعْتَدَيُوا » ، فأعلّ بالحذف ، ووزنه « افْتَعَوْا » ، وقد عرف تصريفه ومعناه .
و « منكم » في محلّ نصب على الحال من الضمير في « اعتدوا » ، ويجوز أن يكون من « الذين » . أي من المعتدين كائنين منكم .
و « من » للتبعيض .
و « السَّبْتِ » متعلّق ب « اعتدوا » ، والمعنى : في حكم السبت .
وقال أبو البقاء : وقد قالوا : « اليوم السَّبت » ، فجعلوا « اليوم » خبراً عن « السبت » ، كما يقال : « اليوم القتيال » ، فعلى ما ذكرنا يكون في الكلام حذف ، تقديره : في يوم السَّبْت ، فالسَبت في الأصل مصدر « سَبَتَ » أي : قطع العمل .
وقال ابن عطية : والسَّبْت : إما مأخوذ من « السُّبُوت » الذي هو الراحة والدَّعَة ، وإما من « السَّبْت » وهو القطْع؛ لأن الأشياء فيه سبتت ، وتمت خِلْقَتُهَا .
ومنه قولهم : سبت رأسه أي : حلقه .
وقال الزمخشري : « والسّبت مصدر [ سبتت ] اليهود : إذا عظمت يوم السبت » . وفيه نظر ، فإنّ هذا اللفظ موجود ، واشتقاقه مذكور في لسان العرب قبل فعل اليَهُود ذلك ، اللّهم إلا [ أن ] يريد هذا السبت الخاصَّ المذكور في هذه الآية .
والأصل فيه المصدر كما ذكرت ، ثم سمي به هذا اليوم من الأسبوع ، لاتفاق وقوعه فيه كما تقدم أن خلق الأشياء تَمّ وانقطع ، وقد يقال : يوم السبت فكيون مصدراً .
وإذا ذكر معه « اليوم » ، أو مع ما أشبهه من أسماء الأزمنة مما يتضمّن عملاً وحدثاً جاز نصب « اليوم » ، ورفعه ، نحو : « اليوم الجمعة » ، « اليوم العيد » كما يقال : « اليوم الاجتماع والعَوْد » .
فإن ذكر مع « الأحد » وأخوته وجب الرفع على المشهور ، وتحقيقها مذكور في [ كتب ] النحو .
فصل في قصة عدوانهم بالصيد
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال : هؤلاء القوم كانوا في زمان دَاوُدَ عليه الصلاة والسلام ب « أيلة » على ساحل البحر بين « المدينة » و « الشام » وهو مكان يجتمع إليه الحيتان من كل أرض في شهر من السّنة حتى لا يرعى الماء لكثرتها ، وفي غير ذلك الشهر في كل سَبْت يجتمعون هناك حتى يخرجن بخراطيمهن من لماء لأمنها ، فإذا مَضَى السَّبت تفرقن ، ولزمن قَعْرَ البحر فذلك قوله : { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } [ الأعراف : 163 ] فعمد رجال فحفروا حِيَاضاً عند البحر ، وشرعوا إليها الجَدَاول ، فإذا كانت عشية يوم الجمعة فَتَحُوا تلك الجداول ، فكانت الحيتان تدخل إلى الحِيَاض ، فلا تطيق الخروج منها لبعد عُمْقِها ، وقلّة الماء ، فيأخذونها يوم الأحد .
وقيل : كانوا ينصبون الحَبَائل والشّصُوص يوم الجمعة ، ويخرجونها يوم الأحد ، وذلك هو اعتداؤهم ، ففعلوا ذلك زماناً واشتغلوا وهم خائفون من العقوبة ، فلما طال العَهْدُ ، و لم تنزل عقوبة قَسَتْ قلوبهم [ وتجرءوا ] على الذنب فاسْتَنّ الأبناء بِسُنَّة الآباء ، واتخذوا الأموال ، وقالوا : ما نرى السبت إلاّ وقد أحل لنان فمشى إليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد في السبت ، ونهرهم عن ذلك فلم ينتهوا ، وقالوا : نحن في هذا العمل منذ زمان ، فما زادنا الله به إلا عِزًّا فقيل لهم : لا تفتروا فربما نزل بكم العَذَابُ ، فانقسموا ثلاثة أصناف : صنف أَمْسَكَ وانتهى ، وصنف ما أمسك ولم يَنْتَهِ ، وصنف انتهكوا الحرمة فلما أبوا قَبُولَ النصح قال الناهون : والله لا ننساكم فقسموا القرية بجدار ، ومكثوا على ذلك سنين ، فلعنهم داود عليه الصلاة والسلام وغضب الله عز وجل عليهم لإصرارهم على المعصية ، فخرج النَّاهون ذات يوم من بابهم ، والمجرمون لم يفتحوا بابهم ، ولم يخرج منهم أحد فلما أبطئوا تَسَوروا عليهم الحائط ، فإذا هم جميعاً قدرة خاسئين .
فإن قيل : إذا كانوا قد نهوا عن الاصْطِيَاد يوم السَّبت ، فما الحكمة في أن أكثر الحيتان يوم السَّبت دون سائر الأيام؟
فالجواب : أما على مذهب أهل السُّنة فإرادة الإضلال جائزة من لله تعالى .
وأما على مذهب المعتزلة ، فالتشديد في التكاليف حسن لغرض ازياد الثواب .
و « قِردَةً خَاسِئِيْنَ » يجوز فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن يكونا خبرين ، قال الزَّمخشري : « أي : كونوا جامعين بين القِردَيّة والخسوء » .
وهذا التقدير منه بناء على أن الخبر لا يتعدّد ، فلذلك قدرهما بمعنى خبر واحد من باب : « هذا حُلْو حَامض » وقد تقدّم القول فيه .
والثَاني : إن يكون « خاسئين » نعتاً ل « قردة » قاله أبو البقاء . وفيه نظر من حيث إنّ القردة غير عقلاء ، وهذا جمع العقلاء .
فإن قيل : المخاطبون عقلاء؟ فالجواب : أنّ ذلك لا يفيد؛ لأن التقدير عندكم حينئذ : كونوا مثل قدرة من صفتهم الخُسوء ، ولا تعلّق للمخاطبين بذلك ، إلا أنه يمكن أن يقال : إنهم مشبَّهُون بالعقلاء كقوله : { لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] و { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] .
والثالث : أن يكون حالاً من اسم « كونوا » ، والعامل فيه « كونوا » ، وهذا عند من يجيز ل « كان » أن تعمل في الظروف [ والأحوال ] وفيه خلاف سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى عند قوله : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً } [ يونس : 2 ] .
الرابع : وهو الأجود أن يكون حالاً من الضمير المُسْتكنّ في « قردة » ؛ لأنه في معنى المشتق أي : كونوا ممسوخين في هذه الحال .
وجمع « فِعْل » على « فِعَلَة » قليل لا يَنْقَاس .
ومادة « القرد » تدلّ على اللُّصوق والسكون ، تقول : قَرَد بمكان كذا : لصق به وسكن ، ومنه : الصُّوف « الْقَرَد » أي : المتداخل ، ومنه أيضاً : « القُرَادُ » هذا الحيوان المعروف ويقال : « خسأته فخَسَاً ، فالمتعدي والقاصر سواء نحو : زاد وغاض وقيل : خسأته فخسىء وانسخاً ، والمصدر » الخسوء « و » الْخَسْء « .
وقال الكسائي : » خسأت الرجل خسأ ، وخسأ هو خسوءاً « ، ففرق بين المصدرين .
والخسوء : الذّلة والصَّغار والطرد والبعد ، ومنه : خسأت الكلب قال مجاهد وقتادة والربيع : وهي لغة » كنانة « .
وقال أبو روق : يعني خرساً لقوله تعالى : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] والمراد من هذا الأمر سرعة التكوين لا نفس الأمر . روي عن مجاهد رضي الله عنه أن الله تعالى مسخ قلوبهم يعني : بالطَّبع والخَتْم ، إلا أنه مَسَخَ صورهم لقوله { كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [ الجمعة : 5 ] وهذا مَجَاز ظاهر [ مشهور ] .
فصل في المقصود من ذكر هذه القصة
والمقصود من ذكر هذه القصّة أمران :
الأول : إظهار معجزة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كالخطاب لليهود الذي كانوا في زمانه ، أخبرهم عليه الصَّلاة والسَّلام عن هذه الواقعة مع أنه كان أمياً لم يقرأ ولم يكتب ، ولم يخالط القوم دلّ على أنه إنما عرفه بالوحي .
والثاني : أنه تعالى لما أخبرهم بما عاجل به أصحاب السَبت ، فكأنه يقول لهم : لا تتمردوا و لاتغتروا بالإمهالن فينزل بكم ما نزل بهم ، ونظيره قوله تعالى { يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ } [ النساء : 47 ] الآية .
فإن قيل : إنهم بعد أن صاروا قدرةً لا يبقى لهم فَهْم ، ولا عَقْل ، ولا علم ، فلا يعلمون ما نزل بهم من العذاب ، ووجود القرديّة غير مؤلم .
فالجواب : لم لا يجوز أن يقال : إنّ الذي كان إنساناً عاقلاً فاهماً كان ثابتاً لم يتغير ، وإنما تغيرت الصورة فلم يقدر على النّطق والأفعال الإنسانية ، لكنها كانت تعرف ما نالها من تغير الخِلْقة بسبب المعصية ، فكانت في نهاية الخوف والخَجَل ، وربما كانت متألمة بسبب تغير تلك الأعضاء؟ .
فإن قيل : أولئك القردة بقوا أو هلكوا ، فإن قوا فالقردة الموجودون في زماننا هل يجوز أن يكونوا من نَسْلِهمْ أم لا؟
فالجواب : الكل جائز ، إلاّ أن الرواية عن ابن عباس أنهم مكثوا ثلاثة أيام ، ثم هلكوا ولم يأكلوا ولم يشربوا ، ولم ينسلوا .
قال ابن عطية : وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « إن المَمْسوخ لا يَنْسِلُ ، ولا يَأْكل ، ولا يَشْرَب ، ولا يَعيْش أكثر من ثَلاَثَة أيام » قاله القُرْطبي . وهذا هو الصحيح .
واحتج ابن العَرَبيّ وغيره على أن المَمْسُوخَ يَعيش ، ويَنسل ، لقوله عليه الصلاة واللام : « إنّ امة من بَنِي إسْرَائِيْلَ لا يُدْرى ما فعلت ولا أراها إلا الفَأْر ألا ترونها إذا وضع لها أَلْبَان الإِبِلِ لم تَشْرَبْهُ وإذا وضع لها أَلْبَان الشَّاة تشربها » .
ويقول جابر رضي الله عنه : أُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم بِضَبٍّ فأَبى أن يأكل منه وقال : « لا أَدْرى لعلّه من القُرُون التي مُسِخَتْ » .
وروى البخاري عن عمر بن ميمن أنه قال : « رأيت في الجاهلية قدرةً قد زَنَتْ فرجموها فرجمتها معهم » .
قال ابن العربيك فإن قيل : كيف تعرف البَهَائم الشرائع حتى ورثوها خَلْفاً عن خَلْفٍ إلى زمان عمر؟
قلنا : نعم! كان ذلك؛ لأن اليهود غَيَّرُوا الرَّجم ، فأراد الله أن يقيمه في مسوخهم حتى يكون أبلغ في قيام الحُجَّة على ما أنكروا وغيّروه ، حتى تشهد عليم كتبهم ، وأَخْبارهم ، ومسوخهم ، حتى يعلموا أنّ الله يعلم ما يُسِرُّون وما يعلنون .
قال القرطبي : ولا حُجَّة في شيء من ذلك ، أما حديث الفأر والضَّبّ فكان هذا حَدْساً منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه أنّ الممسوخ لا يعيش ولا يَنْسل .
وأما حديث القدرة ففي بعض الروايات لم يذكروا فيها أنها زنت إنما ذكر الرَّجم فقط ، وإنما أخرجه البخاري دلالة على أن [ عمر بن ميمون أدرك الجاهلية ، ولم يُبَالِ بظنه الذي ظنه في الجاهلية ، وذكر ابن عبد البر أن ] عمرو بن ميمون من كبار التابعين من لكوفيين ، هو الذي رأى الرجم في الجاهلية من القردة .
« فَجَعَلْنَاهَا » فعل وفاعل ومفعول .
« نَكَالاً » مفعول ثانٍ ل « جعل » التي بمعنى « صبر » والأول هو الضمير ، وفيه أقوال : أحدها : يعود على المَسْخَة .
وقيل : على القرية ، لأن الكلام يقتضيها كقوله : { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } [ العاديات : 4 ] أي : بالمكان .
وقيل : على العقوبة .
وقيل : على الأمة .
« النكال » المنع ، ومنه : النّكل ، والنِّكلْك اسم للقيد من الحديد ، واللِّجَام؛ لأنه يُمنع به ، وسمي العقاب نَكَالاً؛ لأنه يُمنْع به غير المعاقب أن يفعل فِعْلَه ، ويمنع المعاقب أن يعود إلى فَعله الأول .
و « التنكيل » : إصابة الغير بالنِّكَال لِيُردَعَ غيره ، ونَكَلَ عن كذا يَنْكلُ نُكُولاً : امتنع ، وفي الحديث : « إنّ الله يحب الرُّجُلَ النِّكل » أي : القوي على الغرس .
« والْمَنْكَل » : مَا يُنكَّلُ به الإنسان ، قال : [ الرجز ]
567 فَارْمِ عَلَى أَقفَائِهِمْ بِمَنْكَلِ ... والمعنى : أنا جعلنا ما جرى على هؤلاء عقوبة رادعة لغيرهم .
والضمير في « يَدَيْهَا » و « خلفها » كالضمير في « جَعَلْنَاهَا » .
قال ابن الخطيب : لما قبلها وما معها وما بعدها من الأمم والقرون ، لأن مَسْخَهُمْ ذكر في كتب الأولين ، فاعتبروا بها ، « ما يحضرها من [ القرون ] والأمم . وما خَلْفَهَا من بعدهم .
وقال الحَسَنُك عقوبة لجميع ما ارتكبوه من هذا الفعْلِ ، وما بعده .
و » مَوْعِظَةً « عطف على » نَكَالاً « وهي » مَفعِلَةٌ « ، من الوَعْظ وهو التخويف .
وقال الخليل : » التذكير بالخير فيما يرق له القلب « .
والاسم : » العظة « ك » العِدَة « و » الزِّنَة « و » لِلْمُتَّقِينَ « متعلّق ب » موعظة « ، واللام للعلّة ، وخصّ المتّقين بالذِّكر وإن كانت موعطةً لجميع العالم البَرّ والفاجر؛ لأن المنتفع بها هم المتقون دون غيرهم ، ويجوز أن تكون اللام [ مقوية ] ؛ لأن » موعظة « فرع على الفعل في العمل فهو نظير { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ البروج : 16 ] فلا تعلّق لها لزيادتها ، ويجوز أن تكون متعلّقة بمحذوف؛ لأنها صفة ل » موعظة « .
أي : موعظة كائنة للمتّقين ، أي : يعظ المتقون بعضهم بعضاً .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
في مناسبة هذه القصة لما قبلها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه تعالى لما عدد النعم المتقدمة على بني إسرائيل كإنزال المَنّ والسَّلْوَى ، ورفع الطُّور ، وغير ذلك ذكر بعده هذه النعم الت بها بيّن البريء من غيره وذلك من أعظم النعم .
الثاني : أنه تعالى لما حكى عنهم التَّشْديدات والتعنُّت كقوله : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] وقولهم : { لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } [ البقرة : 61 ] ، وغير ذلك من التعنُّت ذكر بعده تعنتاً آخر ، وهو تعنتهم في صفة البقرة .
الثالث : ذكرها معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر بهذه القصّة من غير تعلّم وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب .
وهذه الآية متأخرة في المعنى دون التلاوة عن قوله : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً } [ البقرة : 72 ] وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى .
والجمهور على ضم الرَّاء في « يَأْمُرُكم » ؛ لأنه مضارع معرب مُجَرّد عن ناصب وجازم ، وروي عن أبي عمرو سكونها سكوناً محضاً ، واختلاس الحركة ، وذلك لتوالي الحركات ، لأن الراء حرف تكرير ، فكأنها حرفان ، وحركتها حركتان .
وقيل : شبَّهها ب « عَضْد » فَسُكِّن أوسطه إجراء للمنفصل مجرى المتصلن وهذا كما تقدم في قراءة { بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] وقد تقدم ذكر من استضعفها من النُّحَاة ، وتقدّم ذكر الأجوبة عنه .
ويجوز إبدال همزة « يَأمُرُكمْ » ألفاً ، وهذا مطرد .
و « يأمركم » هذه الجُمْلة في محلّ رفع خبر ل « إن » ، و « إن » وما في حيّزها في محلّ نصب مفعولاً بالقول ، والقول وما في حيّزه في محلّ جرّ بإضافة الظرف إليه ، والظرف معمول لفعل محذوف أيك اذكر .
قوله : { أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } أن وما حيّزها مفعول ثانِ ل « يأمركم » ، فموضعها يجوز أن يكون نصباً ، وأن يكون جرَّا على ما مضى من الخلاف ، لأن الأصل على إسقاط حرف الجر أي بأن تَذْبَحُوا ، يجوز أن يوافق الخليل هنا على أن موضعها نصب؛ لأن هذا الفعل يجوز حذف الباء معه ، ولو لم تكن الباء في « أن » نحو : « أمرتكم الخير » .
و « البقرة » واحدة البقر ، تقع على الذّكر والأنثى نحو : « حَمَامة » ، والصِّفة تميز الذّكر من الأنثى ، تقول : بقرة ذكر ، وبقرة أنثى .
وقيل : بقرة اسم للأنثى خاصّة من هذا الجنس مقابل الثور ، نحو : نَاقَة وجَمَل ، وأَتَان وحِمَار .
وسمي هذا الجنس بذلك ، لأنه يَبْقُر الأرض ، أي : يشقّها بالحرث ، ومنه : بَقَرَ بطنه ، والباقر أبو جعفر ، لشقِّه العلم ، والجمع « بَقَر وَبَاقِر وَبَيْقُور وَبَقِير » .
و « البَقِيرة » : ثوب يشقّ فتلقيه المرأة في عنقها من غير كُمَّين .
فصل في قصة القتيل
روي عن ابن عباس وسائر المفسرين : أن رجلاً من بني إسرائيل قتل قريباً له ليرثه ، وقيل : لينكح زوجته ، وقيل : إن ابن أخيه قتله ليتزوج ابنته ، وكان امتنع من تزويجها له ، فقتله ثم رماه في مجمع الطريق ، ثم شكا ذلك إلى موسى عليه الصلاة والسلام فاجتهد موسى في أن يعرف القاتل ، فلما لم يظهر قالوا : قل لربك « بَيِّنْه » فأوحى الله إليه أن يأمرهم بأن يذبحوا بقرة [ فعجبوا ] من ذلك ، ثم شددوا على أنفسهم بالاستفهما حالاً بعد حال ، واستقصوا في طلب الوصف ، فلما تعينت لم يجدوها بذلك النَّعت إلاَّ عند إنسان معيّن ولم يبعها إلاَّ بأضعاف ثمنها فاشتروها وذبحوها ، وأمرهم موسى عليه الصَّلاة والسَّلام أن يأخذوا عُضْواً منها ، فيضربوا به القتيل ، ففعلوا فأحيا الله القتيل ، وسمى لهم قاتلهم ، وهو الذي ابتدأ بالشّكاية فقتلوه [ فوراً ] .
قوله : « أَتتَّخِذُنَا هُزواً » المفعول الثاني ل « أتتخذنا » هو « هُزواً » ، وفي وقوع « هزواً » مفعولاً ثانياً ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه على حَذْف مضاف ، أي : ذوي هزء .
الثاني : أنه مصدر واقع المفعول به ، أي مهزوءاً بنا .
الثالث : أنهم جعلوا نفس الهزء مُبَالغة . وهذا أولى .
وقال الزمخشري : وبدأ ب « أَتَجْعَلُنَا » مكان هُزْءٍ ، وهو قريب من هذا . وفي « هزواً » ستّ قراءات ، المشهور منها ثلاث : « هُزُؤًا » بضمتين مع الهمز ، و « هُزْءًا » بسكون الزَّاي مع الهمز وصلاً ، وهي قراءة حمزة رحمه الله ، فإذا وقف أبدلها واواً ، وليس قياس تخفيفها ، وإنما قياسه إلقاء حركتها على الساكن قبلها .
وإنما اتبع رسْمَ المصحف ، فإنها رسمت فيه « واو » ، ولذلك لم يُبْدِلها في « جزءاً » واواً وقفاً لأنها لم تُرْسَم فيه واواً كما سيأتين وقراءته أصلها الضم كقراءة الجماعة إلاّ أنه خُفِّفَ كقولهم في عنق : عُنْق .
وقيل : بل هي أصل بنفسها ليست مخففةً من ضم .
كى مكّي عن الأخفش عن عيسى بن عمر : « كل اسم ثلاثي أوله مضموم يجوز فيه لغتانك التخفيف والتثقيل » .
و « هُزُواً » بضمتين مع الواو وصلاً ووفقاً ، وهي قراءة حفص عن عاصم ، كأنه أبدل الهمزة واواً تخفيفاً ، وهو قياس مطرد في كل همزة مفتوحة مضموم ما قبلها نحو : جُوَن في جُؤن ، وحكم [ كُفْواً ] في قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] حكم « هزواً » في جميع ما تقدم قراءةً وتوجيهاً .
و « هْزاً » بإلقاء حركة الهمزة على الزاي وحذفها ، وهو أيضاً قياس مطرد .
و « هُزْواً » بسكون العين مع الواو . و « هُزًّا » بتشديد لزاي من غير همزة ، ويروى عن أبي جعفر [ وتقدم معنى « الهزء » في أول سورة ] .
وقال الثعلبي في تفسيره : قرىء : « هُزُؤًّا » و « كُفُؤًّا » مثقلات ومهموزات ، وهي قراءة أبي عمرو وأهل « الشام » و « الحجاز » واختار الكسائي ، وأبو عبيد ، وأبو حاتم « هُوُزًّا » و « كُفُوًّا » مثقلات بغير همز قال : وكلّها لغات صحيحة فصيحة معناها : الاستهزاء .
فصل في الباعث على تعجبهم
القوم إنما قالوا ذلك؛ لأنهم لما طلبوا من موسى عليه الصلاة والسَّلام تعيين القاتل ، فقال موسى عليه الصّلاة والسلام : اذبحوا بقرة فلم يفرقوا ، وبين هذا الجواب وذلك السؤال مناسبة ، فظنوا أنه عليه الصَّلاة والسَّلام يُدَاعبهم؛ لأنه من المحتمل أن يكون عليه الصَّلاة والسَّلام أمرهم بذبح البقرة ، ولم يعلمهم أنهم إذا ذبحوا البقرة ، وضربوا القتيل ببعضها يصير حياً ، فلا جرم وقع هذا القول منهم موقع الهزء ، ويحتمل أنه عليه الصلاة والسلام بيّن لهم كيفية الحال إلاّ أنهم تعجّبوا من [ أن ] القتيل كيف يصير حيًّا بأن يضرب ببعض أجزاء البقرة ، وظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء .
نقل القرطبي عن المَاوَرْدَيّ قال : « وإنما أمروا والله أعلم بذبح بقرة دون غيرها؛ لأنها من جنس ما عبدوه من العِجْل ليُهَوِّن عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه ، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته » .
وهذا المعنى علّة في ذبح البقرة ، وليس بعلّة في جواب السَّائل ، ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حَيّ ، فيكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها .
فصل في بيان هل كفر قوم موسى بسؤالهم ذلك؟
قال بعضهم : إن أولئك الأقوام كفروا بقولهم لموسى عليه الصلاة والسلام : أتتخذنا هزوًا ، لأنهم إن قالوا لموسى ذلك لأنهم شكّوا في قدرة الله تعالى على إحياء الميت فهو كفر ، وإن شكّوا في ذلك أن الذي أمرهم به موسى عليه الصلاة والسلام هل هو بأمر الله ، فقد جَوْزوا الخيانة على موسى عليه الصَّلاة والسِّلام في الوحي ، وذلك أيضاً كفر ، ومن ا لناس من [ قال ] : إنه لا يوجب الكفر لوجهين :
الأول : أن المداعبة على الأنبياء جائزة ، فلعلهم ظنوا أنه عليه الصَّلاة والسَّلام يداعبهم مُدَاعبة حقّه ، وذلك لا يوجب الكفر .
والثاني : أن معنى قوله : « أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً » أي : ما أعجب هذا الجواب ، كأنك تستهزىء بنا لا أنهم حققوا على موسى الاستهزاء .
قوله : « أَعُوذُ بِالله » تقدم إعرابه في الاستعاذة .
وهذا جواب لاستفهامهم في المعنى ، كأنه قال لا أهزأ مستعيذاً بالله من ذلك فإن الهازىء جاهل ، فلم يستعذ موسى عليه الصلاة والسلام من الشَّيء الذي نسبوه إليه ، لكنه استعاذة من السَّبب الموجب له ، كما يقول : أعوذ بالله من عدم العَقْل؛ وغلبة الهَوَى ، والحاصل أنه أطلق اسم السّبب على المسبب مجازاً .
ويحتمل أن يكون المراد « أعوذ بالله أن أكُونَ من الجَاهِلِين » بما في الاستهزاء في أمر الدين من العقاب الشديد ، والوعيد والعظيم ، فإني متى علمت ذلك امتنع إقْدَامي على الاستهزاء .
وقال بعضهم : إن نفس الهزوّ قد يسمى جهلاً وجهالة ، فقد روي عن بعض أهل اللُّغة أن الجَهْل ضدّ الحلم ، كما قال بعضهم : إنه ضدّ العلم .
قوله : « أَنْ أَكُونَ » أي من أن أكون ، فيجيء فيه الخلاف المعروف .
و « مِنَ الْجَاهِلِيْنَ » خبرها ، وهو أبلغ من قولك : أن أكون جاهلاً . فإن المعنى أنّ انتظم في سلك قوم اتصفوا بالجهل .
قوله : « قَالُوا : ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ » ف « يبيّن » مجزوز على جواب الأمر كقوله : { فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا } [ البقرة : 61 ] .
قوله : « مَا هِيَ » ، « ما » استفهامية في محلّ رفع بالابتداء ، تقديره : أي شيء هي؟ وما [ الاستفهامية ] يطلب بها شرح الاسم تارة ، نحو : ما العَنْقَاء؟ وماهية المسمى أخرى ، نحو : ما الحركة؟ .
وقال السكاكي : « يسأل ب » ما « عن الجنس ، تقول : ما عندك » أي : أيّ أجناس الأشياء عندك؟ وجوابه « كتاب » ونحوه ، أو عن الوصف ، تقول : ما زيد؟ وجوابه : « كريم » ، وهذا هو المراد في الآية .
و « هي » ضمير مرفوع منفصل في محلّ رفع خبراً ل « ما » والجلمة في محلّ نصب ب « يبيّن » ؛ لأنه معلّق عن الجلمة بعده ، وجاز ذلك ، لأنه شبيه بأفعال القلوب .
قوله : « لاّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ » لا « نافية » ن و « فارض » صفة ل « بقرة » .
واعترض ب « لا » بين الصفة والموصوف ، نحوك « مررت برجل لا طويل ولا قصير » .
وأجاز أبو البقاء : أن يكون خبر المبتدأ محذوف ، أي : لا هي فَارِضٌ .
وقوله : « ولا بِكْر » مثل ما تقدّم .
وتكررت « لا » لأنها متى وقعت قبل خبر ، أو نعت ، أَو حال وجب تكريرها تقول : « زيد لا قائم ولا قاعد » ، و « مررت به لا ضحاكاً ولا باكياً » .
ولا يجوز عدم التكرار إلا في ضرورة خلاقاً للمبرّد وابن كَيْسَان؛ فمن ذلك : [ الطويل ]
568 وَاَنْتَ امْرُؤٌ مِنَّا خُلِقْتَ لِغَيْرنا ... حَيَاتُكَ لاَ نَفْعُ ومَوْتُكَ فَاجِعُ
وقوله : [ الطويل ]
569 قَهَرْتُ الْعِدَا لاَ مُسْتَعِيناً بِعُصْبَةٍ ... وَلَكِنْ بَأَنْواعِ الْخَدائِعِ وَالمَكْرِ
فلم يكرهها في الخبر ، ولا في الحال .
و « الفارض » : المُسِنّة الهَرِمَة ، قال الزمخشريُّ : كأنها سميْت بذلك؛ لأنها فَرَضَتْ سِنَّها ، أي : قَطَعَتْهَا وبلغت آخرها؛ قال : [ الطويل ]
570 لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْطَيْتَ ضَيْفَكَ فَارِضاً ... تُسَاقُ إِلَيْهِ مَا تَقُومُ عَلَى رِجْلِ
ويقال لكل ما قَدُمَ : فارض؛ قال [ الرجز ]
571 شَيَّبَ أَصْدَاعِيْ فَرَأْسِي أَبْيَضُ ... مَحَامِلٌ فِيهَا رِجَالٌ فُرَّضُ
أي : كبار قدماء .
وقال آخر : [ الرجز ]
572 يَارُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارِضِ ... لَهُ قُرُوءٌ كَقُروءِ الْحَائِضِ
وقال الرَّاغب : سميت فارضاً ، لأنها تقطعه الأرض ، والْفَرْضُ في الأصل القطع ، وقيل : لأنها تحمل الأعمال الشاقة .
وقيل : لأن فريضة البقر تَبِيعٌ ومُسِنَّةٌ ، قال : فعلى هذا تكون الفارض اساً إسلاميّاً .
وقيل : « الفَارِضُ » : التي ولدت بطوناً كثيرة فيتسّع جوفها لذلك؛ لأن معنى الفارض في اللغة الواسع ، نقله القرطبي عن بعض المتأخرين . ويقال : فَرَضَتْ تَفْرِضُ بالفتح فُرُوضاً .
وقيل : فَرُضَتْ بالضم أيضاً .
وقال المفضَّل بن سَلَمَةَ : الفارض : المُسِنَّة . و « البِكْر » : ما لم تحمل .
وقيل : ما ولَدَتْ بطناً واحداً ، وذلك الولد بِكْرٌ أيضاَ . قال : الرجز ]
573 يَا بِكْرَ بَكْرَين وَيَا خِلْبَ الْكَبِدْ ... أَصْبَحْتَ مِنِّي كِذِرَاع مِنْ عَضُدْ
و « البِكْر » من الحيوان : من لم يطرقه فحل ، و « البَكْر » بالفتح الْفَتِيُّ من الإِبل ، والبَكَارة بالفتح المصدر .
وقال المفضَّل بن سلمة : البِكْر : الشابة .
قال القفال رحمه الله تعالى : اشتقاق البكر يدل على الأول ، ومنه الباكورة لأول الثمرة ، ومنه : بُكْرَة النهار ، ويقال : بكرت عليه البارحة ، إذا جاء في أول الليل .
والأظهر أنها هي التي لم تلد؛ لأن المعروف من اسم البكر من إناث بني آدم : ما لم يَنْزُ عليها الفحل .
قوله : عَوَانٌ صفة ل « بقرة » ، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف أي : هي عَوانٌ كما تقدم في { لاَّ فَارِضٌ } [ البقرة : 68 ] والعوان : النَّصَف ، وهو التوسُّط بين الشيئين ، وذلك أقوى ما يكون وأحسنه؛ قال : [ الوافر ]
574 .. نَوَاعِمُ بَيْنَ أَبْكَارٍ وَعُون
وقال الشاعر يصف فرساًك [ الطويل ]
575 كُمَيْتٍ بَهِيمٍ اللَّونِ لَيْسَ بِفَارضٍ ... وَلاَ بِعَوانٍ ذَاتِ لَوْنٍ مُخَصَّفِ
« فرس أخصف » إذا ارتفعَ الْبَلَق من بطنه إلى جنبه ، ويقال للنخلة الطويلة : عوان ، وهي فيما زعموا لغة عَانِيَة ، حكاه القرطبي .
وقيل : هي التي ولدت مرة بعد أخرى منه « الحرب العوان » أي التي جاءت بعد حرب أخرى؛ قال زهير : [ الطويل ]
576 إِذَا لَحِقَتْ حَرْبٌ عَوَانٌ مُضِرَّةٌ ... ضَرُوسٌ تُهِمرُّ النَّاسَ أَنْيَابُهَا عُصْلُ
والعُوْن بسكون الواو الجمع ، وقد يضم ضرورة كقوله : [ السريع ]
577 . . في الأَكُفِّ اللاَّمِعَاتِ سُوُرْ
بضم الواو . ونظيره في الصحيح « قَذَال وقُذُل » و « حِمَار وحُمُر » .
قوله : « بين ذلك » صفة ل عوان « [ فهي ] في محلّ رفع ، ويتعلق بمحذوف ، أي : كائن بين ذلك ، و » بين « إنما تضاف لشيئين فصاعداً ، و جاز أن تضاف هنا إلى مفرد؛ لأنه يشار به إلى المُثَنَّى والمجموع؛ كقوله : [ الرمل ]
578 إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى ... وَكِلاَ ذَلِكَ وَجْهٌ وَقَبَلْ
كأنه قيل : بين ما ذكر من الفارض البكر . قال الزمخشري :
فإن قلت : كيف جاز أن يشار به إلى مؤنثين ، وإنما هو لإشارة المذكر؟
قلت : لأنه في تأويل ما ذكر وما تقدم ، وقال : وقد يجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا ، قال أبو عبيدة : قلت لرؤبة في قوله : [ الرجز ]
579 فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ
إن أردت الخطوط فقل : كأنها ، وإن أردت السواد والبَلَق فقل : كأنهما ، فقال : أردتُ : ذَاكَ وَلِكَ . والذي حسن منه أن أسماء الإشارة تثنيتها ، وجمعها ، وتأنيثهما ليست على الحقيقة ، وكذلك الموصولات ، ولذلك جاء « الذي » بمعنى الجمع واحتج بعض العلماء بقوله : « عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ » على جواز الاجتهاد ، واستعمال غلبة النَّص في الأحكام ، إذ لا يعلم أنها بين الفَارِض والبِكْر إلا من طريق الاجتهاد .
قوله : { مَا تُؤْمَرونَ } « ما » موصولة بمعنى « الذي » ، والعائد محذوف تقديره : تؤمرون به ، فحذفت الباء ، وهو حذف مطرد ، فاتصل الضمير فحذفت « الهاء » ، وليس هو نظير : { كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] فإن الحذف هناك غير مقيس .
ويضعف أن تكون « ما » نكرة موصوفة .
قال أبو البقاء : لأن المعنى على العموم ، وهو ب « الذي » أشبه ، ويجوز أن تكون مصدرية أي : أمركم بمعنى مأموركم ، تسمية للمفعول بالمصدر ك « ضَرْب الأمير » قاله الزمخشري .
و « تؤمرون » مبني للمعفول ، و « الواو » قائم مقام الفاعل ، ولا محلّ لهذه الجملة لوقوعها صلة .
صل في الغاية من وصف البقرة
والمقصود كون البقرة في أكمل أحوالها ، وذلك لأن الصَّغيرة تكون ناقصة؛ لأنها لم تصل إلى حالة الكمال ، والمُسِنّة صارت ناقصةً؛ لتجاوزها حَدّ الكمال ، والمتوسط هو الذي يكون في حال الكمال . قاله الثعلبي .
قوله : { مَا لَوْنُهَا } كقوله : « مَا هِيَ » .
وقرأ الضحاك : « لونها » بالنصب .
وقال أبو البقاء : لو قرىء : لَوْنَهَا « بالنصب لكان له وَجْهٌ ، وهو أن تكون » ما « زائدة كهي في قوله { أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ } [ القصص : 28 ] ويكون التقدير : يبين لنا لَوْنَهَا وهذا تجديد للأمر ، وتأكيد وتنبيه على ترك التعنّتن وهذا يدل على أن الأمر يقتضي الوجوب ، ويدل على أن الأمر على الفور؛ لأنه تعالى ذمهم على التأخير بقوله : { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [ البقرة : 71 ] .
واستدل بعضهم على أن الأمر على التراخي؛ لأنه تعالى لم يعنفهم على التأخير والمُرَاجعة في الخطاب ، قاله القرطبي عن ابن خُوَيْزِمَنْداد .
قال الثعلبي : وقرأ الضحاك : » لونَهَا « بالنصب .
وأما » ما هي « فابتداء وخبر لا غَيْرُ ، إذ لا يمكن جعل » ما « زائدة؛ لأن » هي « لا يصح أن يكون مفعول » يبين « يعني : أنها بصيغة الرفع ، وهذا ليس من مواضع زيادة » ما « فلا حاجة إلى هذا .
واللَّوْن عبارة عن الحُمْرة والسَّوَاد ونحوهما ، واللَّوْن أيضاَ النَّوع ، وهو الدَّقَل نوع من النخل .
قال الأَخْفَشُ : « هو جماعة واحدها لِينَة » وفلان يَتَلَوَّنُ ، أي : لا يثبتُ على حال؛ قال الشاعر : [ الرمل ]
580 كُلَّ يَوْمٍ تَتَلَوَّنْ ... غَيْرُ هَذَا بِكَ أَحْمَلُ
و « صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا » يجوز أن يكون « فاقع » صفة ، و « لونها » فاعل به ، وأن يكون خبراً مقدماً و « لونها » مبتدأ مؤخر ، والجملة صفة ذكرهما أبو البقاء .
وفي الوجه الأول نظر ، وذلك أن بعضهم ذكر أن هذه التوابع للألوان لا تعمل عمل الأفعال .
فإن قيل : يكون العمل ل « صفراء » لا ل « فاقع » كما تقول : « مررت برجل أبيض ناصع لونه » ف « لونه » مرفوع ب « أبيض » لا ب « ناصع » .
فالجواب : أن ذلك هاهنا ممنوع من جهة أخرى ، وهو أن « صفراء » مؤنَث اللفظ ، ولو كان رافعاً ل « لَوْنُها » لقيل : أصفر لونها ، كما تقول : مررت بأمرأة أصفر لونها ، ولا يجوز : صفراء لونها؛ لأن الصفة كالفعل ، إلاَّ أن يقال : إنه لما أضيف إلى مؤنث اكتسب منه التأنيث ، فعومل معاملته كما سيأتي .
ويجوز أن يكون « لونها » مبتدأ و « تَسُرُّ » خبره ، وإنما أنث الفعل لاكتسابه بالإضافة معنى التأنيث؛ كقوله : [ الطويل ]
581 مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ ... أَعَالِيهَا مَرٌّ الرِّياحِ النَّوَاسِمِ
وقول الآخر : [ الطويل ]
582 وَتَشْرَقُ [ بَالقَوْلِ ] الَّذِي قَدْ أَذَعْتَهُ ... كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّم
أنّث فعل المَرِّ والصَّدْرِ لما أَضيفا لمؤنث ، وقرىء : { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } [ يوسف : 10 ] .
وقيل : لأن المراد باللَّون هنا الصُّفرة ، وهي مؤنّثة ، فحمل على المعنى في ذلك ، ويقال : أصفر فاقع ، وأبيض ناصع ، ويَقِقٌ ولَهِقٌ ولِهَاقٌ ، وأخضر ناضر ، وأحمر قانىء ، وأسود حالك وحائك وَحُلْكُوك ، ودَجُوجِيٌّ وغِرْبِيبُ ، وبَهِيم .
وقيل : « البهيم الخالص من كل لون » .
وبهذا يظهر أن « صفراء » على بابها من اللون المعروف لا سَوْدَاء كما قاله بعضهم : فإن الفُقُوع من صفة الأصفر خاصّة ، وأيضاً فإنه مجاز بعدي ، ولا يستعمل ذلك إلا في الإبل لِقُرْبِ سوادها من الصّفرة ، كقوله تعالى : { كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ } [ المرسلات : 33 ] وقال [ الخفيف ]
583تِلْكَ خَيْلِي مِنْهُ وتِلْكَ رِكَابِي ... هُنَّ صُفْرٌ أَوْلاَدُهَا كَالزَّبِيبِ
فإن قيل : هلاّ قيل : صفراء فاقعة؟ وأي فائدة في ذلك اللون؟
فالجواب : فائدته التأكيد؛ لأن اللون اسم للهَيْئَةِ ، وهي الصّفرة ، فكأنه قال : شديدة الصفرة صفرتها فهو من قولك : جدّ جدّه .
وعن وهب : إذا نظرت إليها خُيِّل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جِلْدِهَا ، فمعنى قوله : « تَسُرُّ النَّاظِرينَ » أي : يعجبهم حسنها وصَفَاءُ لونها ، لأن العين تسر بالنظر إلى الشيء الحسن .
قال علي بن أبي طالب رضى الله عنه : من لبس نعلاً صفراء قلْ همه؛ لأن الله تعالى يقول : { صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ الناظرين } .
قال الكسائي؛ يقال : فَقَع لونها يَفْقَعُ فُقُوعاً ، إذا خَلَصَت صفرته ، والإفْقَاع : سوء الحال ، وفَوَاقِعُ الدهر : بَوَائِقُه ، وفَقَّع بأصابعه : إ ذا صوَّت ، ومنه حديث أبن عباس : « نَهَى عن التَّفقيع في الصلاة » ، وهي الفرقعة ، هي غَمْزُ الأصابع حتى تُنْقِض ، قاله القرطبي .
واختلفوا هل كانت جميعها صفراء حتى قُرونها وأظلآفها ، أو الصفرة المعتادة؟ قولان . وفي قوله « فاقع » لطيفة ، وهي أنه وصفها باسم الفاعل الذي هو نعت للدوام والاستمرار . يعني : في الماضي والمستقبل .
وفي قوله : « تَسُرُّ » لطيفةٌ ، وهي أنه أتى بصيغة المضارع وهو يقتضي التجدُّد والحدوث ، بخلاف الماضي .
وفي قوله : « النَّاظرين » آية لطيفة ، وهي أنه أتى بصيغة الجمع المُحَلّى بالألف واللام ، ليعمّ كلّ ناضر منفردين ومجتمعين .
وقيل : المراد بالنظر نظر البصر للمرء والمرأة أو المراد به النظر بعين اليقين ، وهو التفكر في المخلوقات .
قوله : { تَسُرُّ الناظرين } جلمة في محل رفع صفة ل « بقرة » أيضاً ، وقد تقدم أنه يجوز أن تكون خبراً عن « لونها » بالتأويلين المذكورين .
و « السرور » لذّة في القلب عند حصول نفع أو توقّعه ، ومنه [ السرير ] الذي يُجْلس عليه إذا كان لأولي النعمة ، وسرير الميت تشبيهاً به في الصورة وتفاؤلاً بذلك .
قوله : { ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِيَ } تقرير للسؤال عن حالها وصفتها ، واستكشاف زائد ، ليزدادوا بياناً لوصفها ، وفي مصحف عبد الله : « سل لنا ربك يبين لنا ما هي؟ وما صفتها » .
قوله : { إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا } البَقَر : اسم إن ، وهو اسم جنس كما تقدم .
وقرأ محمد ذو الشامة الأموي : « إنّ البَاقِرَ » وهو جمع البَقَر ك « الجَامِل » جماعة الجَمَل؛ قال الشاعر : [ الكامل ]
584 مَالِي رَأَيْتُكَ بَعْدَ عَهْدِكَ مُوحِشاً ... خَلِقاً كَحَوْضِ البَاقِرِ المُتَهَدِّمِ
قال قطرب : « يقال لجمع البقرة : بَقَر وبَاقِر وبَاقُور وبَيْقُور » .
وقال الأَصْمَعِيّ : « الباقر » جمع باقرة ، قال : ويجمع بقر على بَاقُورة ، حكاه النّحاس .
قال القرطبي : والباقر والبقر والبيقور والبقير لُغَات بمعنى واحد والعرب تذكره وتؤنثه ، وإلى ذلك ترجع معاني القراءات في « تشابه » .
و « تشابه » جملة فعلية في محلّ رفع خبر ل « إن » ، وقرىء : « تَشَّابَهُ » مشدَّداً ومخفَّفاً ، وهو مضارع الأصل : « تَتَشَابَهُ » بتاءين ، فَأُدْغِمَ تارةً ، وحذف منه أخرَى ، وكلا الوجهين مقيس .
وقرىء أيضاً : « يَشَّابَهُ » بالياء من تحت ، [ وأصله : يَتَشَابَهُ فأدغم أيضاً ، وتذكير الفعل وتأنيثه جائزات؛ لأن فاعله اسم جنس ] وفيه لغتان : التذكيرُ والتأنيثُ ، قال تعالى :
{ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] فَأَنَّث ، و { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] فذكر ، وقيل : ذكر الفعل لتذكير لفظ « البقرة » ؛ كقوله : { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } .
وقال المبرِّد : سئل سِيبَوَيْهِ عن هذه الآية ، فقال : « كل جمع حروفه أقل من حروف وَاحِده ، فإن العرب تذكره » ؛ واحتج بقول الأعشى : [ البسيط ]
585 وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلْ ... [ وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعاً أيُّهَا الرَّجُلُ ]
ولم يقل : « مرتحلون » .
وفي « تشابه » قراءاتك « تَشَابَهَ » بتخفيف الشين وفتح الباء والهاء ، وهي قراءة العامة . و « تَتَشَابَه » بتاءين على الأصل .
و « تَشَّبَّه » بتشديد الشين والباء من غير ألف ، والأصل : تَتَشَبَّهُ .
و « تَشَابَهَتْ » على وزن « تَفَاعلت » وهو في مصحف أُبَيّ كذلك أَنّثه لتأنيث البقرة .
و « مُتَشَابِهَة » و « مُتَشَبِّهة » على اسم الفاعل من تشابه وتشبّه . وقرىء : « تَشَبَّهَ » ماضياً .
وقرأ ابن أبي إسحاق : « تَشَّابَهَتْ » بتشديد الشين ، قال أبو حاتم : هذا غلط ، لأن التاء في هذا الباب لا تدغم إلاّ في المضارع . . وهو معذور في ذلك .
وقرىء : « تَشَّابَهَ » كذلك ، إلاّ أنه بطرح تاء التأنيث ، ووجهها على إشكالها أن يكون الأصل : إن القرة تشابهت ، فالتاء الأولى من البقرة و [ التاء ] الثانية من الفعل ، فلما اجتمع مثلان أدغم نحو : الشجرة تمايلت ، إلاّ أنه يُشكِل أيضاً في تَشَّابَه من غير تاء؛ لأنه كان يجب ثبوت علامة التأنيث .
وجوابه : أنه مثل : [ المتقارب ]
586 .. وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا
مع أن ابن كيسان لا يلتزم ذلك في السّعَةِ .
وقرأ الحسنك « تَشَابَهُ » بتاء مفتوحة وهاء مضمومة وتخفيف الشين أراد : تتشابه .
وقرأ الأعرج : « تَشَّابَهُ » بفتح التاء وتشديد الشين وضمّ الهاء على معنى : تتشابه .
وقرأ مجاهد : « تَشَّبَّه » كقراءة الأعرج ، إلا أنه بغير ألف . ومعنى الآية : [ التلبيس ] والتشبه .
قيل : إنما قالوا : « إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا » أي : اشتبه أمره علينا ، فلا نهتدي إليه؛ لأن وجوه البقر [ تتشابه ] يريد : أنها يشبه بعضها بعضاً ، ووجوه البقر تتشابه .
قوله : { إِن شَآءَ الله } هذا شرط جوابه محذوف لدلالة « إنْ » ، ما في حيّزها عليه ، والتقدير : إن شاء الله هِدَايتنا للبقرة ، اهتدينا ، ولكنهم أخرجوه في جملة اسمية مؤكدة بحرفي تأكيد مبالغة في طلب الهِدَاية ، واعترضوا بالشرط تيمُّناً بمشيئة الله تعالى . « المهتدون » اللام : لام الابتداء داخلة على خبر « إن » .
وقال أبو البقاء : جواب الشرط « إن » وما عملت فيه عند سيبويه .
وجاز ذلك لما كان الشرط متوسطاً ، وخبر « إنَّ » هو جواب الشرط في المعنى ، وقد وقع بعده ، فصار التقدير : إن شاء الله هدايتنا اهتدينا .
وهذا الذي قاله لا يجوز ، فإنه متى وقع جواب الشرط ما لا يصلح أن يكون شرطاً وجب اقترانه بالفَاءِ ، وهذه الجملة لا تصلح أن تقع شرطاً ، فلو كانت جواباً لزمتها الفاء ، ولا تحذف إلا ضرورة ، ولا جائز أن يريد أبو البقاء أنه دالّ على الجواب ، وسماه جواباً مجازاً؛ لأنه جعل ذلك مذهباً للمبرد مقابلاً لمذهب سيبويه فقال : وقال المبرد : والجواب محذوف دلت عليه الجملة؛ لأن الشرط معترض ، فالنية به التأخير ، فيصير كقولك : أنت ظالم إن فعلت .
وهذا الذي نقله عن المبرد هو المنقول عن سيبويه ، والذي نقله عن سيبويه قريبٌ مما نقل عن الكوفيين وأبي زيد من أنه يجوز تقديم جواب الشَّرْط عليه ، وقد ردّ عليهم البصريون بقول العرب : « أنت ظالم إن فعلت » .
إذ لو كان جواباً لوجب اقترانه بالفاء لما ذكرت ذلك .
وأصل « مُهْتَدُون » : « مُهْتَدِيُون » ، فأعلّ بالحذف ، وهو واضح .
فصل في الاستثناء بالمشيئة
قال الحسن رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وَالَّذِي نَفْسَ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ لَمْ يَقُولُوا : إنْ شَاءَ اللهُ لَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا أَبَداً » .
واعلم أن التلّفظ بهذه الكلمة مندوب إليه في كلّ عمل يراد تحصيله ، قاله تعالى : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً 0 إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الكهف : 23 ، 24 ] .
وفيه استعانة بالله وتفويض الأمور إليه ، والاعتراض بقدرته .
فصل في الإرادة الكونية
احتج أهل السُّنة بهذه الآية على أن الحوادث بأسرها مرادة لله تعالى .
وعند المعتزلة أن الله تعالى لما أمرهم بذلك ، فقد أراد اهتداءهم لا مَحَالَة ، وحينئذ لا يبقى لقولهم : « إنْ شاء الله » فائدة .
قال ابن الخطيب : أما على قول أصحابنا ، فإن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد فحينئذ يبقى لقولهم : « إن شاء الله » فائدة .
فصل في مذهب المعتزلة في المشيئة
احتج المعتزلة بهذه الآية على أن مشيئة الله تعالى محدثة من وجهين :
الأول : أن دخول حرف « إن » يقتضي الحدوث .
الثاني : أنه تعالى علّق حصول الاهتداء على حصول مشيئة الاهتداء ، فلم لم يكن حصول الاهتداء أزليًّا وجب ألاّ تكون مشيئة الاهتداء أزلية .
فصل في تقدير المشيئة
ذكر القفال في تقدير هذه المشيئة وجوهاً :
أحدها : وإنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيل أوصافها المميزة لها عن غيرها .
وثانيها : وإنا إن شاء الله تعريفها إيَّانا بالزيادة لنا في البيان نهتدي إليها .
وثالثها : وإنا إن شاء الله على هدى ، أي : في استقصائنا في السّؤال عن أوصاف البقر ، أي إنّا لسنا على ضلالة فيما نفعل من هذا البحث .
ورابعها : إنا بمشيئة الله نَهْتَدِي للقاتل إذا وصفت لنا هذه البقرة بما تمتاز به عن غيرها .
قال القرطبي : وفي هذا الاستثناء إنابةٌ وانقياد ، ودليل نَدَم على عدم موافقة الأمر . وتقدير الكلام : وإنما لمهتدون إن شاء الله .
فقدم على ذكر الاهتداء اهتماماً به .
قوله : { إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ } المشهور « ذَلُولٌ » بالرفع على أنها صفة ل « بقرة » ، وتوسطت « لا » للنفي كما تقدم في « لاَ فَارِض » ، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : لا هي ذلول ، والجملة من هذا المبتدأ أو الخبر في [ محل ] رفع صفة ل « بقرة » .
وقرىء : « لاَ ذَلُولَ » بفتح اللام على أنها « لا » التي للتَّبرئة والخبر محذوف تقديره : لا ذلولَ ثَمَّ أو ما أشبهه ، وليس المعنى على هذه القراءة ، ولذلك قال الأخفس : « لا ذلول نعت ، ولا يجوز نصبه » .
و « الذَّلول » : التي ذُلِّلَت بالعمل ، يقال : بقرة ذَلُوث بَيِّنَةٌ الذِّل بكسر الذال ، ورجل ذَليل : بين الذُّل بضمّها ، وقدم عند قوله : { الذلة } [ البقرة : 61 ] .
[ قوله ] : { تُثِيرُ الأرض } في هذه الجملة أقوال كثيرة : أظهرها : أنها في محلّ نصب على الحال من الضمير المستكن في « ذلول » تقديره : لا تُذَلُّ حال إثارتها .
وقال ابن عطية : وهي عند قوم جملة في موضع الصفة ل « بقرة » أي : لا ذلولٌ مثيرة .
وقال أيضاً : « ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال ، لأنها نكرة » .
أما قوله : في موضع الصفة فإنه يلزم منه أن البقرة كانت مثيرة للأرض ، وهذا الم يقل به الجمهور ، بل قال به بعضهم ، وسيأتي إن شاء الله .
وأما قوله : لا يجوز أن تكون حالاً يعني من « بقرة » ؛ لأنها نكرة .
فالجواب : أنَّا لا نسلم أنها حال من « بقرة » ، بل من الضمير في « ذلول » كما تقدم ، أو تقول : بل هي حال من النكرة؛ لأن النكرة قد وصفت وتخصصت بقوله : « لا ذَلُول » ، وإذا وصفت النكرة ساغ إتيان الحال منها اتفاقاً .
وقيل : إنها مستأنفة ، [ واستئنافها على وجهين :
أحدهما : أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي تثير .
والثاني : أنها مستأنفة ] بنفسها من غير تقدير مبتدأ ، بل تكون جملة فعلية ابْتُدِىءَ بها لمجرد الإخبار بذلك . وقد منع من القول باستئنافها جماعة منه الأخْفَشُ عليّ بن سليمان ، وعلل ذلك بوجهينك
أحدهماك أن بعده : « وَلاَ تَسْقِي الحَرْثَ » فلو كان مستأنفاً لما صحّ دخول « لا » بينه وبين « الواو » .
والثّانيك إنها لو كانت تثير الأرض لكانت الإثارة قد ذللتها ، والله تعالى نفى عنها ذلك بقوله : « لا ذَلُول » وهذا المعنى هو الذي منع أن يكون « تُثِير » صفة ب « بقرة » ؛ لأن اللازم مشترك ، ولذلك قال أبو البقاء : ويجوز على قول مَنْ أثبت هذا الوجه [ يعني : كونه تثير الأرض ولا تسقي أن تكون « تثير » في موضع رفع صفة ل « بقرة » .
وقد أجاب بعضهم عن الوجه الثاني ] ، فإن إثارة الأرض عبارة عن مَرَحِهَا ونَشَاطِهَا؛ كما قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
587 يُهِيلُ ويُذْرِي تُرْبَهُ وَيُثِيرُهُ ... إِثَارَةَ نَبَّاثِ الهَوَاجِرِ مُخْمِسِ
أي : تثير الأرض مرحاً ونشاطاً لا حَرثاً وعملاً .
وقال أبو البقاء : وقيل : هو مستأنف ، ثم قال : وهو بعيد عن الصّحة لوجهين :
أحدهما : أنه عطف عليه قوله : « وَلاَ تَسْقِي الحَرْثَ » ، فنفى المعطوف ، فيجب أن يكون المعطوف عليه كذلك؛ لأنه في المعنى واحد ، ألا ترى أنك لا تقول : مررت برجل قائم ولا قاعد ، بل تقول : لا قاعد بغير واو ، كذلك يجب أن يكون هذا .
وذكر الوجه الثاني لما تقدم ، وأجاز أيضاً أن يكون « تثير » في محلّ رفع صفة ل « ذلول » ، وقد تقدم خلاف هل يوصف الوصف أم لا؟
فهذه ستة أوجه تلخيصها : أنها حال من الضمير في « ذَلُول » ، أو من « بقرة » ، أو صفة ل « بقرة » ، أو ل « ذلول » ، أو مستأنفة بإضمار مبتدأ ، أو دونه .
قوله : { وَلاَ تَسْقِي الحرث مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا } الكلام فيه هذه كالكلام فيما قبلها من كونها صفة ل « بقرة » ، أو خبر لمبتدأ محذوف .
وقال الزمخشري : و « لا » الأولى للنفي يعني الدَّاخلة على « ذلول » .
والثانية مزيدة لتأكيد الأولى؛ لأن المعنى : لا ذلول تثير [ الأرض ] وتسقي ، على أن الفعلين صفتان ل « ذَلُول » ، كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية .
وقرىء : « تُسْقى » بضم التاء من « أَسْقى » .
وإثارة الأرض : تحريكها وبَحْثُهَا ، ومنه : { وَأَثَارُواْ الأرض } [ الروم : 9 ] أي : بالحَرْث والزراعة ، وفي الحديث : « أَثِيرُوا القُرْآنَ فَإِنَّهُ عِلْمُ الأَوَّلِينَ وَالأَخِرِينَ » .
وفي رواية : « مَنْ أَرَادَ العِلْمَ فَلْيُثوِّرِ القُرْآن » .
وجملة القول أن القرة لا يكون بها نَقْص ، فإن الذلول بالعمل لكونها تثير الأرض ، وتسقي الحرث لابد وأن يظهر بها النقص .
قال القرطبي : قال الحسن : وكانت تلك البقرة وَحْشٍية ، ولهذا وصفها الله تعالى بأنها لا تثير الأرض ، ولا تسقي الحرث .
وقال : الوقف هاهنا حسن .
و « مُسَلَّمة » قيل : من العيوب مطلقاً .
وقيل : من آثار العمل المذكور .
وقيل : مسلمة من الشّبه التي هي خلاف لونها ، أي : خلصت صُفْرتها عن اختلاط سائر الألوان بها ، وهذا ضعيف؛ لأن قوله : « لاَ شِيَةَ فِيهَا » يصير تكراراً .
و « شِيَة » : مصدر وَشَيْتُ الثوب أَشِيه وَشْياً وَشِيَةً ، حذفت فاؤها؛ لوقوعها بين ياء وكيرة في المضارع ، ثم حمل باقي الباب عليه ، ووزنها « عِلَةٌ » ومثلها :
« صِلَةٌ وعِدَةٌ وَزِنَة » .
وهي عبارة عن اللُّمْعَة المخالفة للون ، ومنه : ثوب مَوْشِيٌّ : أي : منسوج بلونين فأكثر ، وثور مَوْشِيٌّ القَوَائِم ، أي : أَبْلَقُهَا؛ قال : [ البسيط ]
588 مِنْ وَحْشِ وَجْرَةً مَوْشِيٍّ أَكَارِعُهُ ... طَاوِي المَصِيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرِدِ
ومنه : الواشي للنَّمَّام؛ لأنه يَشِي حديثه ، أي يزينه ويخلطه بالكذب .
وقال بعضهم : ولا يقال له وَاشٍ حتى يغير كلامه ويزينه .
ويقال : ثور أَشْيَهُ ، وفرس أَبْلَقُ ، وكمَبْش أخْرَجُ ، وتَيْس أَبْرَق ، وغُراب أَبْقَع ، كل ذلك بمعنى البلقة .
و « شية » اسم « لا » ، و « فيها » خبرها .
فصل في ضبط الحيوان بالصفة
دلت هذه الآيات على ضَبْطِ الحيوان بالصفة ، وإذا ضبط بالصفة وحصر بها جاز السَّلَمُ فيه ، وكذلك كل ما ضبط بالصفة .
وقال عليه الصلاة والسلام :
« لاَتَصِفُ المَرْأَةُ المَرْأَةَ لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا » فجعل عليه الصلاة والسلام الصّفة تقدم مقام الرؤية .
قوله : { الآن جِئْتَ } الآن منصوب ب « جئت » ، وهي ظَرْف للزّمان يقتضي الحال ، ويخلص المضارع له عند جمهور النّحاة .
وقال بعضهم : هذا هو الغالب ، وقد جاء حيث لا يمكن أن يكون للحال ، كقوله : { فَمَن يَسْتَمِعِ الآن } [ الجن : 2 ] { فالآن بَاشِرُوهُنَّ } [ البقرة : 187 ] فلو كان يقتضي لحال لما جاء مع فعل الشرط والأمر اللذين هما نصّ في الاستقبال ، وعبر عنه هذا القائل بعبارة تُوافق مذهبه وهي : « الآن » لوقت حصر جميعه أو بعضه يريد بقوله : « أو بعضه » نحو : « فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ » ، وهو مبني .
واختلف في علّة بنائه : فقال الزَّجَّاج : لأنه تضمن معنى الإشارة؛ لأن معنى أفعل الآن ، أي : هذا الوقت .
وقيل : لأنه أشبه الحرف في لزوم لَفْظ واحد ، من حيث إنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمع ولا يصغّر .
وقيل : لأنه تضمّن معنى حرف التعريف ، وهو الألف واللام ك « أمس » ، وهذه الألف واللام زائدة فيه بدليل بنائه ، و لم يُعْهَد مُعرفٌ ب « أل » إلا معرباً ، ولزمت فيه الألف واللام كما لزمت في « الذي والّتي » وبابهما ، ويعزى هذا للفارسي ، وهو مردود بأن التضمين اختصار ، فكيف يختصر الشيء ، ثم يؤتى بمثل لفظه .
وهو لازم للنظر فيه ، ولا يتصرف غالباً ، وقد وقع مبتدأ في قوله عليه الصلاة والسلام : « فَهُوَ يَهْوِي في قَعْرِهَا الآنَ حِينَ انْتَهَى » .
ف « الآن » مبتدأ ، وبني على الفتح لما تقدم ، و « حين » خبره ، بُنِيَ لإضافته إلى غير متمكّن ، ومجروراً في قوله :
589 أَإِلَى الآنِ لاَ يَبِينُ ارْعِوَاءُ .. . .
وادعى بعضهم إعرابه مستدلاً بقوله : [ الطويل ]
590 كَأَنَّهُمَا مِلآنِ لَمْ يَتَغَيَّرا ... وَقَدْ مَرَّ لِلدَّارَيْنِ مِنَ بَعْدِنَا عَصْرُ
يريد : « مِنَ الآنِ » فجره بالكسرة ، وهذا يحتمل أن يكون بني على الكسر ، وزعم الفراء أنه منقول من فعل ماضي ، وأن أصله « آنَ » بمعنى : « حان » فدخلت عليه « أل » زائدة ، واسْتُصْحِب بناؤه على الفَتْح ، وجعله مثل قولهم « ما رأيته من شب إلى دُبَّ » .
وقوله عليه الصلاة والسلام : « وأنْهَاكُمْ عَنْ قِيلٍ وَقَال » .
ورد عليه بأن « أل » لا تدخل على المنقول من فعل ماض ، وبأنه كان ينبغي أن يجوز إعرابه كنظائره .
وعنه قول آخر أن أصله « أوان » فحذفت الألف ، ثم قلبت الواو ألفاً ، فعلى هذا ألفعه عن واو .
وأدخله الرَّاغب في باب « أين » ، فتكون ألفه عن « ياء » . والصواب الأول .
وقرىء : قالوا : ألآن بتحقيق الهمزة من غير نَقْل ، وهي قراءة الجمهور .
و « قَالُ : لأنَ » بنقل حركة الهمزة على اللام قبلها ، وحذف الهمزة ، وهو قياس مطّرد ، وبه قرأ نافع وحمزة باختلاف عنه .
و « قَالُوا : لآنَ » بثبوت « الواو » من « قالوا » ؛ لأنها إنما حذفت لالتقاء السكانين ، وقد تحركت « اللام » لنقل حركة « الهمزة » إليها ، واعتدوا بذلك كما قالوا في الأحمر « مَحْمَر » .
وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى في { عَاداً الأولى } [ النجم : 50 ] ويحكى وجه رابع « قَالُوا : آلآنَ » بقطع همزة الوصل ، وهو بعيد ، و « بِالحَق » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون باء التَّعدية كالهمزة كأنه قيل : « أَجَأْتَ الحق » ، أي : ذكرته .
الثاني : أن يكون في محلّ نصب على الحال من فاعل « جئت » أي : جئت ملتبساً بالحق ، أو « ومعك الحق » .
فصل في تحقيق أنهم لم يكفروا
قال القاضي : قولهم : « الآن جِئْتَ بِالْحَقِّ » كفر من قِبَلِهم لا محالة؛ لأنه يدل على أنهم اعتقدوا فيما تقدم من الأوامر أنها ما كانت حقّة .
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد الآن ظهرت حقيقة ما أمرنا به حتى تميزت من غيرها فلا يكون كفراً .
قوله : « فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ » أي : فذبحوا البقرة . و « كَادُوا » كاد واسمها وخبرها ، والكثير في خبرها تجرده من « أن » .
وشذ قوله : [ الرجز ]
591 قَدْ كَادَ مِنْ طُولٍ الْبِلَى أَنْ يَمْصَحَا ... وهي عكس « عسى » وذكروا ل « كاد » تفسيرين :
أحدهما : قالوا : نفيها إثبات وإثباتها نفي ، فقوله : كاد يفعل كذا ، معناه : قرب من أن يفعل ، لكنه ما فعله .
والثاني : قال عبدالقاهر النحوي : إن « كاد » لمقاربة الفعل ، فقوله : « كاد يفعل » [ معناه ] قرب من فعله .
وقوله : « ما كاد يفعل » معناه : ما قرب منه .
وللأولين أن يحتجوا بهذه الآية؛ لأن قوله : « ومَا كَادُوا » معناه ما قاربوا الفعل ، ونفى المقاربة من الفعل يناقض إثبات وقوع الفعل ، فلو كانت « كاد » للمقاربة لزم وقوع التناقض في الآية ، وقد تقدم الكلام معلى كاد عند قوله : { يَكَادُ البرق } [ البقرة : 20 ] .
فصل في النسخ بالأشقّ
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لو ذبحوا آيّة بقرة أرادوا لأجزأت عنهم؛ لكنه شددوا على أنفسهم ، فشدد الله تعالى عليهم ، فعلى هذا نقول : التكاليف متغيرة فكلفوا في الأول أية بقرة كانت ، فلما لم يفعلوا كلفوا بأن تكون لا فارضاً ولا بكراً ، قيل : عَوَان ، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون صفراء ، فلما لم يفعلوا كُلِّفوا أن تكون مع ذلك لا ذَلُول تثير الأرض ولا تسقي الحرث؛ لأنه قد ثبت أنه لا يجوز تأخير البيان ، فلا بد من كونه تكليفاً بعد تكليف وذلك يدلّ على نسخ الأسهل بالأشقّ على جواز النسخ قبل الفعل ، وعلى وقوع النسخ في شرع موسى عليه الصلاة والسلام وعلى أن الزيادة على النصح نسخ ، وعلى حسن التكليف ثانياً لمن عصى ولم يفعل ما كلف أولاً ، وعلى أن الأمر للوجوب والفور؛ لأنه تعالى ذمَّ التثاقل فيه ، والتكاسل في الاشتغال بمقتضاه ، ولم يوجد في هذه الصورة إلا مجرد الأمر .
قال القاضي : إنما وجب؛ لأن فيه إزالة شرّ وفتنة ، فأمر تعالى بذبح البقرة ، لكي يظهر القاتل ، فيزول الشَّر والفتنة ، فلما كانت المصلحة في هذا الفعل صار واجباً .
وقال بعضهم : إما أمروا بذبح بقرة معيّنة في نفسها ، فلذلك حسن موقع سؤالهم لأن المأمور به إذا كان مجملاً حسن الاستفسار والاستعلام ، وعلى القول الأول لا بُدّ من بيان ما الذي حملهم على [ هذا ] الاستفسار؟
فقيل : إن موسى عليه الصلة والسلام لما أمرهم بذبح بقرة وأن يضربوا القتيل ببعضها فيصير حيًّا تعجبوا من ذلك ، وظنوا أنّ تلك البقرة التي لها هذه الخاصية لا تكون إلا بقرة معينة فلا جرم استقصوا في السؤال عنها كَعَصا موسى المخصوصة من بين سائر العصِيّ بتلك الخواص ، إلاّ أن القوم أخطئوا في ذلك؛ لأن هذه الآية العجيبة ما كانت خاصة للبقرة ، بل كانت معجزة يظهرها الله تعالى على يد موسى عليه الصلاة والسلام .
وقيل : لعلّ القوم أردوا أَيَّ بقرة معينة لا مطلق البقرة ، فلما وقعت المنازعة رجعوا عند ذلك إلى موسى عليه الصلاة والسلام .
قال القُشيريّ في تفسيره : قيل : إن أوّل من راجع موسى عليه الصَّلاة والسلام في البحث عن البقرة القاتل خوف أن يفتضح ، وقد وجدت تلك البقرة عند الشّاب .
وقيل : إن الخطاب الأول للعموم ، إلاَّ أن القوم أرادوا الاحتياط فيه ، فسألوا طلباً لمزيد البيان ، وإزالة سائر الاحتمالات إلاّ أن المصلحة تغيرت ، واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة .
وقيل : كان سؤالهم تقديراً من الله عز وجلّ وحكمة ، ومصلحة لصاحب البقرة ، فإنه يروى أن رجلاً صالحاً من بني إسرائيل كان له ولد بارّ ، وكان له عجلة فأتى بها غَيْضَة وقال : اللّهم إن استودعتكها لابْنِي حتى يكبر ، ثم مات الأب فشبّت ، وكانت من أحسن البقر [ وأتمّها ] وهي البقرة التي وصفها الله لهم فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مَسْكِها ذهباً ، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير .
ذكر مكي : أن هذه البقرة نزلت من السماء ، ولم تكن من بقر الأرض قاله القرطبي . وزاد المارودي : ثم فرق ثمنها على بني إسرائيل ، فأصاب كل فقير دينارين ، وروي أنهم طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة .
فصل في سبب تثاقلهم
اختلفوا في السبب الذي كان لأجله « ما كادوا يفعلون » ، فقيل : لأجل غلاء ثمنها ، وقيل : لخوف الشهوة والفضيحة ، وعلى كلا القولين فالإحْجَام عن المأمور به غير جائز .
أما الأول فلأن ذبح البقرة ما كان يتمّ إلا بالثمن الكثير فوجب؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، إلاّ أن يدل دليل على خلافه .
وأما خوف الفضيحة فلا يدفع التكليف ، فإن القَوَدَ إذا وجب عليه لزمه تسليم النفس من وليّ الدم إذا طالب ، وربما لزمه التعويض ليزول الشر والفتنة ، وإنما لزمه ذلك لتزول التّهمة عن القوم الذين طرحوا القتيل بالقرب منهم ، لأنه الذي عرضهم إليه ، فيلزمهم أزالتها ، فكيف يجوز جعله سبباً للتَّثَاقُلِ في هذا الفعل .
قوله تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا } .
أعلم أن وقوع ذلك القتل كان متقدماً على الأمر بالذبح ، فأما الإخبار عن وقع ذلك القتل ، وعن ضرب القتيل ببعض البقرة ، فلا يجب أن يكون متقدماً في التلاوة في الأول؛ لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأولى في الوجود ، فأما التقدم في الذكر فغير واجب؛ لأنه تارة يتقدّم ذكر السبب على الحكم ، وتارة على العكس ، فكأنه لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم الله تعالى بذبح البقرة فلما ذبحوها قال : وإذا قتلتم نفساً من قبل ، واختلفتم وتنازعتم ، فإني أظهر لكم القاتل الذي [ سترتموه ] بأن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة .
وذلك مستقيم والواو لا تقتضي الترتيب .
قال القرطبي : { حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين } [ هود : 40 ] إلى قوله « إِلاَ قَلِيْلٌ » فذكر أهلاك من هلك منهم ، ثم عطف عليه بقول : { وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [ هود : 41 ] فذكر الركوب متأخراً ، ومعلوم أن ركوبهم كان قبل الهلاك ، ومثله في القرآن كثير ، قال تعالى : { الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا 0 قَيِّماً }
[ الكهف : 1 ، 2 ] أي : أنزل على عبده الكتاب قَيِّماً ولم يجعل له عوجاً فإن قيل [ هب أنه ] لا خلل في هذا النظم [ ولكن النظم ] الآخر كان مستحسناً ، فما فائدة في ترجيح هذا النظم؟
قلنا : إنما قدمت قصة الأمر بالذبح على ذلك القتل؛ لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ، ولو كانت قصة واحدة لذهب الغرض من تثنية التفريع .
فصيل في نسبة القتل إلى جميعهم
« فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا » فعل وفاعل ، والفاء للسببية؛ لأن التَّدَارُؤَ كان مسبباً عن القتل ، ونَسَبض القتل إلى الجميع ، وإن لم يصدر إلا من واحد أو اثنين كما قيل؛ لأنه وُجِد فيهم وهو مجاز شائع .
وأصل « ادّارأتم » : تدارأتم تَفَاعلتم من الدَّرْء هو الدّفع ، فاجتمعت « التاء » مع « الدال » وهي مُقارِبتها ، فأريد الإدغام فقلبت التاء دالاً ، وسكنت لأجل الإدغام ، ولا يمكن الابتداء بساكن ، فاجتلبت همزة الوصل ليبتدأ بها فبقي « ادارأتم » ، والأصل ادْدَارأتم فأدغم ، وهذا مطرد في كل فعل على « تفاعل » أو « تفعّل » فاؤه دال نحو : « تَدَايَنَ وادَّايَنَ ، وتَدَيَّنَ وأدِّيَنَ » أو طاء ، أو ظاء ، أو صاداً ، أو ضاداً نحو : « تطاير واطَّايَر » وتطير واطّير [ وتظاهر واظَّاهر ، وتطهر واطَّهَّر ، والمصدر على التفاعل أو التفعّل نحو : تَدَارُؤ وتَطَهُّر ] نظراً إلى الأصل .
وهذا أصل نافع في جميع الأبواب .
معنى : « ادرأتم » : اختلفتم واختصمتم في شأنها .
وقيل : [ تدافعتم ] أي كل واحد ينفي القتل عن نفسه ويضيفه إلى غيره .
والكناية في قوله : « فيها » للنفس .
وقال القفال : ويحتمل إلى القتلة؛ لأن قوله : « قتلتم » يدل على المصدر .
قوله : « والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ » الله رفع بالابتداء و « مخرج » خبره ، و « ما » موصولة منصوبة المحل باسم الفاعل .
فإن قيل : اسم الفاعل لا يعمل بمعنى الماضي إلا محلّى بالألف واللام ،
فالجواب : أن هذه حكاية حال ماضية ، واسم الفاعل فيها غير ماض وهذا كقوله تعالى : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد } [ الكهف : 18 ] .
والكسائي يُعْمِله مطلقاً ، ويستدل بهذا ونحوه . و « ما » يجوز أن تكون موصولة اسمية ، فلا بد من عائد ، تقديره : مخرج الذي كنتم تكتمونه ، ويجوز أن تكون مصدرية ، والمصدر واقع موضع المفعول به ، أي : مخرج مكتومكم وهذه الجملة لا محلّ لها من الاعراب؛ لأنها معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وهما : « فَادَّارَأْتُمْ » وقوله : « فَقُلْنَا : اضْرِبُوهُ » قاله الزمخشري .
والضمير في : فاضربوه « يعود على » النفس « لتأويلها بمعنى الشخص والإنسان ، أو على القتيل المدلول عليه بقوله : » والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ « والجملة من » اضربوه « في محلّ نصب بالقول .
وفي الكلام محذوف والتقدير : قلنا : اضربوه ببعضها فضربوه ببعضها فحيي ، إلا أنه حذف ذلك لدلالة قوله : » يُحْيِي الله الموتى « عليه ، فهو كقوله :
{ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت } [ البقرة : 60 ] أي فضرب فانفجرت [ وقوله : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ } [ البقرة : 184 ] أي : فأفطر فعدّة ] وقوله : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } [ البقرة : 196 ] أي : فحلق ففدية .
فصل في بيان المضروب به
اختلفوا في البعض الذي ضربوا القتيل به .
فقيل : اللِّسَان ، لأنه آلة الكلام قال الضحاك والحسين بن الفَضْل .
وقال سعيد بن جُبَير : يعجب ذنبها قاله يمان بن رئاب وهو أولى؛ لأنه أساس البدن الذي ركب عليه الخلق ، وهو أول ما يخلف وآخر ما يبلى .
وقال مجاهد : بذنبها .
وقال عكرمة والكَلْبي : بخذها الأيمن .
وقال السَدّي : بالبَضْعة التي بين كتفيها .
وقيل : بأذنها .
وقال ابن عباس : بالعظم الذي يلي الغضروف ، وهو أصل الأذن [ وهو المقتل ] .
والأقرب أنهم كانوا مخيرين في أبعاض البقرة؛ لأنهم أمروا بضرب القتيل ببعض البقرة وأي بعض من أبعاض البقرة ضربوا القتيل به ، فإنهم ممتثلين الأمر ، والإتيان بالمأمور به يدل على الخروج عن العُهْدة .
وليس في القرآن ما يدل على تعيين ذلك البعض ، فإن ورد فيه خبر صحيح قُبِلَ ، وإلا وجب السكوت عنه .
فإن يل : ما الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة مع أن الله تعالى قادر على أن يحييه ابتداء؟
فالجواب : أن الفائدة فيه لتكون الحُجّة أوكد ، وعن الحيلة أبعد ، فقد يجوز في العقل للملحد أن يوهمهم أن موسى عليه الصلاة والسلام إنما أحياه بضرب من السِّحر أو من الحيلة ، فلما حيي بالضرب بقطعة من البقرة المذبوحة فانتفت الشبّهة .
فإن قيل : هلا أمر بذبح غير البقرة؟
فالجواب : أن الكلام في غيرها لو أمروا به كالكلام فيها .
ثم ذكروا فيها فوائد :
أحدهما : التقريب بِالقَرَابِيْن التي كانت العادة بها جارية ، ولأن هذا القُرْبَان كان عندهم أعظم القرابين ، ولما فيه من مزيد الثواب لتحمل الكُلْفة في تحصيل هذه البقرة .
قيل : على غلاء ثمنها ، ولما فيه من حصول المال العظيم لمالك البقرة .
قوله : « كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَى » « كذلك » في محلّ نصب؛ لأنه نعت لمصدر محذوف تقديره : يحيي الله الموتى إحياء مثل ذلك الإحياء ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : إحياء كائناً كذلك الإحياء ، أو لأنه حال من المصدر المعروف ، أي : ويريكم الإراءة حال كمونها مُشَبِهَةً ذلك الإحياء ، وقد تقدم أنه مذهب سيبويه .
و « الموتى » جمع مَيِّت ، وفي هذه الإشارة وجهان :
أحدهما : أنها إشارة إلى نفس ذلك الميت .
والثاني : أنها احتجاج على صحّة الإعادة . قال الأصم : إنه على المشركين؛ لأنه إن ظهر لهم بالتَّوَاتر [ أن هذا الإحياء قد كان على هذه الوجه علموا صحّة الإعادة ، وإنن لم يظهر ذلك بالتواتر ] ، فإنه داعية إلى التفكُّر .
وقال القَفّال : ظاهره يدلّ على أن الله تعالى قال هذا لبني إسرائيل أي : إحياء الله الموتى يكون مثل هذا الذي شاهدتم؛ لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلاَّ أنهم لم يؤمنوا به إلاَّ من طريق الاستدلال ، ولم يشاهدوا شيئاً منه ، فإذا شاهدوه اطمأنت قلوبهم ، وانتفت عنهم الشّبهة ، فأحيا الله القتيلَ عياناً ، ثم قال لهمك كذلك يحيي الله المَوْتَى ، أي : كما أحياها في الدُّنيا يحييها في الآخرة من غير احتياج إلى مادّة ومثال وآلة التي لا يخلو منها المستدل .
قوله : « وَيُريكُمْ آيَاتِهِ » الرؤيا هنا بَصَرية ، فالهمزة للتعدية أكسبت الفعل مفعولاً ثانياً وهو « آياته » ، والمعنى : يجعلكم مُبْصرين آياته .
و « كم » هو المفعول الأول ، وأصل « يريكم » : يُأَرْإيكم ، فحذفت همزة « أفعل » في المضارعة لما تقدم في { يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 3 ] وبابه ، [ فبقي يُرْئيكم ] ، فنقلبت حركة الهمزة على « الراء » ، وحذفت « الهمزة » تخفيفاً ، وهو نقل لازم في مادة « رأى » وبابه دون غيره مما عينه همزة نحو : « نأى ينأى » ولا يجوز عدم النقل في « رأي » وبابه إلا ضرورة كقوله : [ الوافر ]
592 أُرِي عَيْنَيَّ مَالَمْ تَرْأَيَاهُ ... كِلاَنا عَلِمٌ بِالتُّرَّهَاتِ
فصل في نظم الآية
[ القائل أن يقول ] : إن ذلك كان آية واحدة فلم سميت بالآيات؟
فالجواب : أنها تدلّ على وجود الصانع القادر على المقدورات العالم بكلّ المعلومات المختار في الإيجاد والإبداع ، وعلى صدق موسى عليه الصَّلاة والسَّلام ت وعلى براءة من لم يقتل ، وعلى تعيين القاتل ، فهي وإن كانت آية واحدة إلا أنها لَمَّا دلت على [ هذه ] المدلولات الكبيرة لا جرم جرت مجرى الآيات .
قوله : { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } تقدم تفسير العَقْل .
قال الواقديك كل ما في القرآن من قوله : « لَعَلَّكُمْ » فهو بمعنى « لكن » إلاّ التي في الشعراء : { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } [ الشعراء : 129 ] فإنه بمعنى لعلكم تخلدون فلا تموتون .
فإن قيل : القوم كانوا عقلاء قبل عرض هذه الآية عليهم ، وإذا كانوا عقلاء امتنع أن يقال : إني عرضت عليك ا لآية الفلانية لكي تصير عاقلاً [ فالجواب أنه ] لا يمكن إجراء الآية على ظاهرها ، بل لا بد من التأويل ، وهو أن يكون المراد : لعلكم تعلمون لعدم الاختصاص حتى لاينكروا المبعث
فصل في توريث القاتل
ذكر كثير من المتقدمين أن من جملة أحكام هذه الآية أن القاتل هل يرث أم لا؟
قالوا : لا ، لأنه روي عن عَبِيْدَةَ السَّلْمَاني أن الرجل القاتل في هذه [ الواقعة ] حرم الميراث لكونه قاتلاً .
قال القاضي : « لا يجوز جعل هذه المسألة من أحكام هذه الآية؛ لأنه ليس في ظاهر الآية أن القاتل هل كان وارثاً لقتيله أم لا » وبتقدير أن يكون وارثاً فهل حرم الميراث أم لا؟ وليس يجب إذ روي عن عبيدة أن القاتل حرم الميراث لكونه قاتلاً ، أي : بعد ذلك في جملة أحكام القرآن إذا كان لا يدلّ عليه لا مجملاً ولا مفصلاً ، وإذا كان كذلك لم يثبت أن شرعهم كشرعنا ، وأنه [ لا ] يلزم الاقتداء لهم .
واستدل مالك بهذه الآية على صحّة القول بالقَسَامَةِ بقول المقتول : حقّي عند فلان ، أو فلان قتلني .
ومنعه الشافعي وغيره؛ لأن قول القتيل : دمي عند فلان ، أو فلان قتلني خبر يحتمل الصدق والكذب ، ودم المدعى عليه معصوم غير مباح إلا بيقين ، ولا يقين مع الاحتمال ، وأما قتيل بني إسرائيل فكانت معجزة فأخبر تعالى أنه يحييه ، وذكره يتضمن الإخبار بقاتله خبر ما لا يدخله الاحتمال .
قال ابن العربي : المعجزة إنما كانت في إحيائه ، فلما صار حيًّا صار كلامه كسائر كلام الناس .
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
قال القفال : يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب الذين كانوا في زمان محمد عليه الصلاة والسلام ، أي : اشتدت قلوبكم وقَسَت وضلّت من بعد البَيّنات التي جاءت أوائلكم ، والعقاب الذي نزل بمن أَصَرَّ على المعصية منهم ، والآيات التي جاءهم بها أنبياءهم ، فأخبر بذلك عن طُغْيَانهم ، وجَفَائهم على ماعندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب .
قال : لأنه خطاب مُشَافهة فَحَمْله على الحاضرين أولى ، ويحتمل أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمان موسى عليه الصلاة والسلام خصوصاً . وروي أن ذلك القتيل لما عين القاتل كذبه ، وما ترك الإنكار وساعده عليه جمع ، فتكون الإشارة لقوله بعد ذلك إلى ما أظهره الله تعالى من إحياء القتيل بِضَرْبِهِ ببعض البقرة المذبوحة . ويحتمل أن تكون الإشارة إلى جميع ما عدده الله تعالى من النعم العظيمة ، والآيات الباهرة التي آظهرها الله تعالى على يد موسى عليه الصلاة والسلام فإنّ أولئك اليهود بعد أن كثرت مشاهدتها لها ما خلوا من العِنَاد والاعتراض على موسى عليه الصَّلاة والسَّلام .
فإن قيل : لم أتى ب « ثم » التي تقتضى الترتيب والمُهْلة ، فقال : « ثم قست » ، وقال : « مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ » والبَعْدية لا تقتضي التعقيب ، وقلوبهم لم تزل قاسيةً مع رؤية مالآية وبعدها؟
فالجواب : أنه أتى ب « من » التي لابتداء الغاية فقال : من بعد ذلك فجعل ابتداء المقصود عقيب رؤية الآيات ، فنزلت المهلة .
وقال أبو عبيدة : « معنى قَسَتْ : جفت » .
وقال الواقدي : خفت من الشّدة فلم تكن .
وقال المؤرخ : « غلظت » .
وقيل : اسودت .
وقال االزجاج : « القَسْوة ذهاب اللّين والرحمة والخشوع والخضوع » .
قوله : « أَوْ أشَدُّ قَسْوَةً » « أو » هذه ك « أو » التي في قوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ } [ البقرة : 19 ] فكل ما قبل ثمة يمكن القول به هنا ، ولما قال أبو الأسود : [ الوافر ]
593 أُحِبُّ مُحَمَّداً حُبًّا شَديداً ... وَعَبَّاساً وَحَمْزَةَ أَوْ عَلِيًّا
اعترضوا عليه في قوله : « أو » التي تقتضي الشك ، وقالوا له : أشككت؟ فقال : كلا ، واستدل بقوله تعالى : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ } [ سبأ : 24 ] فقال : أو كان شاكًّا من أخبر بهذا؟ وإنما قصد رحمه الله الإبهام على المخاطب .
قال ابن الخطيب : كلمة « أو » للتردد ، وهي لا تليق بعلاَّم الغيوب ، فلا بد من التأويل وهو من وجوه : أحدهما : أنها بمعنى « الواو » كقوله : { إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] وقوله : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ } [ النور : 31 ] وقوله : { أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ }
[ النور : 61 ] ومن نظائره قوله : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] .
وثانيها : أن المراد : فهي كالحجارة ومنها ما هو أشد قسوة من الحجارة .
[ وثالثها : أي : في نظركم واعتقادكم إذا طلعتم على أحوال قلوبهم قلتم : إنها كالحجارة أو أشدّ قسوة من الحجارة ] .
ورابعها : أن « أو » بمعنى « بل » ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
594 فَوَاللهِ مَا أَدْرِي أَسَلْمَى تَقَوَّلَتْ ... أَمِ النَّوْمُ أَو كُلُّ إِلَيَّ حَبِيبُ
وخامسها : أنه على حد قولك : « ما أكل إلا حلواً أو حامضاً » أي : طعامه لا يخرج عن هذين ، وليس الغرض إيقاع التردّد بل نفي غيرهما .
وسادسها : أن « أو » حرف إباحة ، أي : بأي هذين شبّهت قلوبهم كان صدقاً كقولهم : « جالس الحَسَنَ أو ابن سيرين » أي أيهما جالست كنت مصيباً أيضاً . و « أشَدّ » مرفوع لعطفه على محل « كَالحِجَارةِ » أي : فهي مِثْلُ الحجارة أو أشد . والكاف يجوز أن تكون حرفاً فتتعلّق بمحذوف ، وأن كون اسماً فلا تتعلّق بشيء ، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوفاً أي : أو هي أشد .
و « قسوة » منصوب على التمييز؛ لأن الإبْهَامَ حصل في نسبة التفضيل إليهما ، والمفضل عليه محذوف للدلالة عليه ، أي : أشدّ قسوة من الحِجَارَةِ .
وقرىء : « أَشَدْ » بالفتح وَوَجْهُهَا : أنه عطفها على « الحجارة » أي : فهي كالحجارة أو [ كأشد ] منها .
قال الزمخشري موجهاً للرفع : و « أشد » معطوف على الكاف ، إما على معنى : أو مثل أشد ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وتعضده قراءة الأعمش بنصب الدال عطفاً على « الحجارة » ويجوز على ما قاله أن يكون مجروراً بالمضاف المحذوف ترك على حاله ، كقراءة : { والله يُرِيدُ الآخرة } [ الأنفال : 67 ] بجر « الآخرة » أي : ثواب الآخرة ، فيحصل من هذا أن فتحه الدال يُحتمل أن تكون للنصب ، وأن تكون للجر .
وقال الزمخشري أيضاً : فإن قلت : لم قيل : أشدُّ قسوة مما يَخْرُج منه « أفعل » التفضيل وفعل التعجب؟ يعني : أنه [ مستكمل ] للشروط من كونه ثلاثياً تاماً غير لون ولا عاهة متصرفاً غير ملازم للنفي .
ثم قال : قلت : لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة ، ووجهٌ آخر وهو الاّ يقصد معنى الأقسى ، ولكنه [ قصد ] وصف القسوة بالشدة ، كأنه « اشتدت قسوة الحجارة ، وقلوبهم أشد قسوة » .
وهذا الكلام حسن ، إلا أن كون « القسوة » جوز بناء التعجّب منها فيه نظر من حيث إنها من الأمور الخِلْقِية أو من العيوب ، وكلاهما ممنوع منه بناء البابين .
وقرىء : « قاسوة » .
فصل في أوجه شدة القسوة من الحجارة
إنما وصفها بأنها أشد قسوةً من الحجارة لوجوه :
أحدها : أن الحجارة لو كانت عاقلة ، ورأت هذه الآية لقبلتها كما قال : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله }
[ الحشر : 21 ] .
وثانيها : أن الحجارة ليس فيها امتناع لما يحدث فيها من أمر الله فقال : وإن كانت قاسيةً ، بل منصرفة على مراد الله تعالى غير ممتنعة ، وهؤلاء مع ما وصفنا في اتّصَال الآيات عندهم ، وتتابع نِعَمِ الله عليهم يمتنعون من الطاعة ، ولا تلين قلوبهم بمعرفة حق الله .
وثالثها : أن الأحجار ينتفع بها من بعض الوجوه ، أما قلوب هؤلاء فلا نفع منها ألبتة .
فصل في الرد على المعتزلة
قال القاضي : إن كان الدَّوام على الكفر مخلوف فيهم ، فكيف يحسن ذمهم؟ فلو قال : إن الذي خلق الصَّلابة في الحجارة هو الذي خلق في قلوبنا القَسْوة ، والخالق في الأحجار الأنهار هو القادر على أن ينقلنا عما نحن عليه من الكُفر بخلق الإيمان فينا ، فإذا لم يفعل فعذرنا ظاهر لكانت حجّتهم على موسى أَوْكد من حجّته عليهم ، وهذا النمط قد تكرر مراراً .
قوله : { وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار } .
واعلم أنه سبحانه وتعالى فَضَّل الحجارة على قلوبهم بأنه قد يحصل في الحجارة أنواع من المنافع ، ولا يوجد في قلوب هؤلاء شيء من المنافع .
فأولها : قوله : « وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار » واللاّم في « لَمَا » لام الابتداء دخلت على اسم « إن » لتقدم الخبر ، وهو « من الحجارة » ، وهي « ما » التي بمعنى « الذي » في محلّ النصب ، ولو لم يتقدم الخبر لم يَجُزْ دخول اللام على الاسم؛ لئلاَّ يتوالى حَرْفاً تأكيد ، وإن كان الأصل يقتضي ذلك ، والضمير في « منه » يعود على « ما » حملاً على اللفظ .
قال أبو البقاء : ولو كان في غير القرآن لجاز « منها » على المعنى .
وهذا الذي قاله قد قرأ به أُبّي بن كعب والضحاك .
وقرأ مالك بن دينار « يَنْفَجِر » من الانفجار .
وقرأ قتادة : « وَإِنْ مِنَ الْحِجَارَةِ » بتخفيف « إنْ » من الثقيلة ، وأتى باللام فارقة بينها وبين « إن » النافية ، وكذلك : « وَإِنْ منْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ » و « إنْ مِنْهَا لَمَا يَهْبِط » ، وهذه القرءاة تحتمل أن تكون « ما » فيها في محل رفع وهو المشهور ، وأن تكون في محلّ نصب؛ لأن « إنْ » المخففة سمع فيها الإعمال والإهمال ، قال تعالى : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ } [ هود : 111 ] في قراءة من قرأه .
وقال في موضع آخر : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا } [ يس : 32 ] إلا أن المشهور الإهمال .
والتفجير : الفتح بالسّعة والكثرة؛ يقال : انفجرت قرحة فلان أي : انشقت بالمدّة ، ومنه : الفَجْر والفُجُور .
فصل في تولد الأنهار
قالت الحكماء : الأنهار إنما تتولّد عن أَبْخِرَةٍ تجتمع في باطن الأرض ، فإن كان ظاهر الأرض رَخْواً انشقت تلك الأبخرة وانفصلت ، وإن كان ظاهر الأرض صلباً حجريّاً اجتمعت تلك الأَبْخِرَةُ ، ولا يزال يتصل بعضها ببعض حتى تكثر كثرة عظيمة ، فيعرض حينئذ من كثرتها وتواتر مَدِّها أن تنشقّ الأرض ، وتسيل تلك المياه أوديةً وأنهاراً .
قوله : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء } أي : وإنَّ من الحجارة لما يتصدّع ، فينبع الماء منه فيكون عَيْناً لا نهراً جارياً .
و « يَشَّقَّقُ » أصله : يَتَشَقّق ، فأدغم وبالأصل قرأ الأعمش ، وقرأ طلحة بن مصرف : « لَمَّا بتشديد » الميم « في الموضعين قال ابن عطية : » وهي قراءة غير متّجهة « .
وقرأ أيضا : » ينشقّ « بالنون وفاعله ضمير » ما « .
وقال ابو البقاء : ويجوز أن يكون فاعله ضمير » الماء « لأن » يَشَّقَّقُ « يجوز أن يُجْعل ل » الماء « على المعنى ، فيكون معك فِعْلان ، فيعمل الثاني منهما في الماء ، وفاعل الأول مضمر على شريطة التفسير .
وعند الكوفيين يعمل الأول ، فيكون في الثاني ضمير ، يعني : أنه من باب التنازع ، ولا بد من حذف عائد من » يشقق « على » ما « الموصولة دلَّ عليه قوله : » منه « ، والتقدير : وإن من الحجارة لما يشقق الماء منه ، فيخرج الماء منه .
وقال أيضاً : ولو قرىء : » تتفجّر « بالتاء جاز . قال أبو حاتم : يجوز » لما تتفجر « بالتاء؛ لأنه أنثه بتأنيث الأنهار ، وهذا لا يكون في » تشقق « يعني التأنيث .
قال النَّحَّاس : يجوز ما أنكره على المعنى ، لأن المعنى : وإن منها الحجارة تتشقق يعني فيراعى به معنى » لما « ، فإنها واقعة على الحجارة .
قوله : » وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله « .
قال أبو مُسْلم : » الضمير في قوله : « وَإِنَّ مِنْها » راجع إلى « القلوب » ، فإنه يجوز عليهما الخَشْيَة ، والحجارة لا يجوز عليها الخَشْيَة . وقد تقدم ذكر القلوب كما تقدم ذكر الحجارة ، وأقصى ما في الباب أن الحجارة أقرب المذكورين إلاّ أنّ هذا الوصف ألْيَقُ بالقلوب من الحجارة ، فوجب رجوع الضمير إلى « القلوب » دون « الحجارة » ، وفيه بعد لتنافر الضّمائر .
وقال الجمهور المفسرين : الضمير عائد إلى « الحجارة » .
وقالوا : يجوز أن يكون حقيقة على معنى أن الله خلق فيها قَابِليَّةً لذلك ، وأن المراد من ذلك جَبَلُ موسى عليه الصلاة والسلام حين تقطع وتجلّى له ربه ، وذلك لأن الله تعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدْرَاك ، وهذا غير مستعبد في قدرة الله تعالى .
ونظيره قوله تعالى : { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [ فصلت : 21 ] .
فكما جعل الجِلْد ينطق ويسمع ويعقل ، فكذلك الجَبَل وصفه بالخشية .
وقال أيضاً : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله } [ الحشر : 21 ] .
وروي أنه حنّ الجِذْع لصعود رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر ، ولما أتى الوحي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول المبعث ، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله سلمت عليه الحِجَارَةُ فكلها كانت تقول : السَّلام عليك يا رسول الله .
قال مجاهد : ما تَرَدَّى حَجَرٌ من رأس جبل ، ولا تَفَجَّرَ نَهْرٌ من حَجَر ، ولا خرج منه ماء إلاَّ من خشية الله ، نزل بذلك القرآنُ ، مثله عن ابن جُرَيْجِ وثبت عنه عليه الصلاة والسلام قال : « إنَّ حَجَراً كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ فِي الجَاهِلِيَّةِ إنِّي أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُوكَ عَلَى ظَهْري فَيُعَذّبني اللهُ فَنَادَاهُ حِرَاءٌ : » إِلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ « وقوله تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة } [ الأحزاب : 72 ] الآية .
وأنكرت المعتزلة ذلك ، ولا يلتفت إليهم؛ لأنه لا دليل لهم إلا مجرد الاستبعاد .
لو قال بعض المفسِّرين : الضمير عائدٌ إلى » الحجارة « و » الحجارة « لا تعقلُ ، ولا تَفْهَم ، فلا بدَّ من التأويل ، فقال بعضُهُمْ : إسناد الهبوط استعارة؛ كقوله : [ الكامل ]
595 لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَواضَعَتْ ... سُورُ الْمَدِينَةِ والْجِبَالُ الْخُشَّعُ
وقوله : » مِنْ خَشْيَةِ اللهِ « أي : ذلك الهبوط لو وجد من العاقل لكان به خاشياً لله ، وهو كقوله تعالى : { جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } [ الكهف : 77 ] أي جداراً قد ظهر فيه المَيَلاَن ومقاربة السقوط ما لو ظهر مثله في حيّ مختارٍ ، لكان مريداً للانقضاض ، ونحو هذا قوله : [ الطويل ]
596 بَخِيْلٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حَجَرَاتِهِ ... تَرَى الأُكْمَ فِيهِ سُجَّداً لِلْحَوَافِرِ
فجعل ما ظهر في الأكم من أثر الحَوَافر من عدم امتناعها مِنْ دفع ذلك عن نفسها كالسُّجود منها للحوافر .
الوجه الثاني : من التأويل : قوله : » مِنْ خَشْيَةِ اللهِ « : من الحجارة ما ينزل ، وما يشقق ، ويتزايل بعض عن بعض عند الزلازل من أجل ما يريد الله بذلك من خَشْية عباده له وفزعهم إليه بالدعاء والتوبة .
وتحقيقه أنه كان المقصود الأصلي من أهباط الأحجار في الزلازل الشديدة أن تحصل الخشية في القلوب .
الوجه الثالث : قال الجُبَّائي : » الحجارة « البَرَدُ الذي يهبط من السحاب تخويفاً من الله تعالى لعباده لِيَزْجُرَهُمْ به .
قال : وقوله : » مِنْ خَشْيَةِ اللهِ « أي : خشية الله ، أي : ينزل بالتخويف للعباد ، أو بما يوجب الخشية لله ، كما تقول : نزل القرآن بتحريم كذا ، وتحليل كذا ، أي : بإيجاب ذلك على الناس .
قال القاضي : هذا التأويل ترك للظَّاهر من غير ضرورة؛ لأن البَرَد لا يوصف بالحجارة؛ لأنه ماء في الحقيقة .
قوله : » مِنْ خَشْيَةِ اللهِ « منصوب المحلّ متعلق ب » يهبط « ، و » من « للتعليل .
وقال أبو البقاء : » من « في موضع نصب ب » يهبط « ، كما تقول : يهبط بخشية الله ، فجعلها بمعنى » الباء « [ المعدية ] وهذا فيه نظر لا يخفى .
و « خشية » مصدر مضاف للمفعول تقديره : من أن يخشى الله ، وإسناد الهبوط إليها استعارة؛ كقوله : [ الكامل ]
597 لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَواضَعَتْ ... سُورُ الْمَدِينَةِ والْجِبَالُ الْخُشَّعُ
ويجوز أن يكون حقيقة على معنى : أن الله خلق فيها قابليّةً لذلك .
وقيل : الضمير في « منها » يعود على « القلوب » ، وفيه بُعْد لتنافر الضمائر .
قوله : « وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ » قد تقدم في قوله : « وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ » .
قال القرطبي : « بغافل » في موضع نصب على لغة « الحِجَاز » ، وعلى لغة « تميم » في موضع رفع .
قوله : « عَمَّا تَعْمَلُونَ » متعلّق ب « غافل » ، و « ما » موصولة اسمية ، والعائد الضمير ، أي : تعملونه ، أو مصدرية فلا يحتاج إليه أي : عن عملكم ، ويجوز أن يكون واقعاً موقع المفعول به ، ويجوز ألاّ يكون .
وقرىء : يَعْمَلُونَ « بالياء والتاء .
فصل في المقصود بالآية
والمعنى : أن الله بِالْمِرصَاد لهؤلاء القاسية قلوبهم ، وحافظ لأعمالهم مُحْصٍ لهان فهو مجازيهم بها وهو كقوله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } [ مريم : 64 ] وهذا وعيد وتخويف كبير .
فإن قيل : هل يصح أن يوصف الله بأنه ليس بغافل؟
قال القاضي : لا يصح؛ لأنه يوهم جواز الغَفْلة عليه ، وليس الأمر كذلك؛ لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحّتها عليه ، بدليل قوله { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } [ البقرة : 255 ] { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } [ الأنعام : 14 ] .
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
قال القرطبي : هذا استفهما فيه معنى الإنكار ، كأنه أَيْأَسَهُمْ من إيمان هذه الفرقة من اليهود .
ويقال : طَمِع فيه طَمَعاً وطَماعيةً مخفف فهو طَمِعٌ على وزن « فَعِل » وأطمعه فيه غيره .
ويقال في التعجب : طَمُعَ الرُّجل بضم الميم أي : صار كثير الطّمع .
والطمع : رزق الجُنْد ، يقال : أمر لهم الأمير بأَطْمَاعهم ، أي : بأرزاقهم .
وامرأة مِطْمَاع : تُطْمِعُ وَلاّ تُمَكِّن .
فصل في قبائح اليهود
لما ذكر قَبَائح أفعال أَسْلاف اليهود شرع قَبَائح أفعال اليَهود الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام .
قال القَفّال رحمه الله : إن فيما ذكره الله تعالى في [ سورة البقرة ] من أقاصيص بني إسرائيل وجوهاً من المقاصد .
أحدها : الدلالة بها على صحّة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عنها غير تعلّم ، وذلك لا يكون إلا بالوَحْي ، ويشترك في الانتفاع بهذه الدلالة أهل الكتاب والعرب .
أما أهل الكتاب فكانوا يعلمونها ، فلما سمعوها من محمد عليه الصَّلاة والسَّلام من غير تفاوت ، علموا لا محالة أنه ما أخذها إلا من الوَحْي .
وأما العرب فلما [ شاهدوا ] من أن أهل الكتاب يصدقون محمداً في هذه الأخبار ، فلم يكونوا يسمعون هذه الأخبار إلاّ من علماء أهل الكتاب ، فيكون ميلهم إلى الطّاعة أقرب .
وثانيها : تعديد النِّعَم على بني إسرائيل ، وما مَنَّ الله به على أَسْلاَفهم من أنواع النعم ، كالإنْجَاءِ من آل فرعون بعد اسْتِبْعَادهم ، وتَصْيِيْرِ أبنائهم أنبياء وملوكاً ، وتمكينهم في الأرض ، وفَرْق البحر لهم ، وأهلاك عَدُوّهم ، وإنزال التوراة والصَّفْح عن الذنوب التي ارتكبوها من عبادة العَجْل ، ونَقْض المَوَاثيق ، ومسألة النَّظّر إلى الله جَهَرةً ، ثم ما أخرجه لهم في التِّيْهِ من الماء من الحَجَر ، وإنزال المَنّ والسَّلْوَى وتَظْلِيل الغَمَام من حَرّ الشمس ، فذكّرهم بهذه النعم كلها .
وثالثها : إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقديم كُفْرهم وخلافهم ، وتعنّتهم على الأنبياء ، وعِنَادهم ، وبلوغهم في ذلك ما لم يبلغه أحد من الأمم قبلهم ، وذلك لأنهم بعد مُشَاهدتهم الآيات الباهرة عَبَدوا العِجْل بعد مفارقة موسى بمدّة يسيرة ، ولما أمروا بدخول الباب سُجّداً وأن يقولوا حطّة ، ووعدهم أن يغفر لهم خَطَاياهم ، ويزيد في ثواب محسنهم ، فبدلوا القول وفَسَقوا ، وسألوا الفُومَ البَصَلَ بَدَلَ المَنّ والسَّلوى ، وامتنعوا من قَبُول التوراة بعد إيمانهم بموسى عليه الصّلاة والسلام وأخذ منهم المَوَاثيق أن يؤمنوا به حين رفع فوقهم الجَبَل ، ثم استحلّوا الصيد في السّبت واعتدوا ، ثم أمروا بذبح البقرة ، فشافهوا موسى عليه الصلاة والسلام بقولهم : « أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً » .
ثم لما شاهدوا إحْيَاء الموتى ازدادوا قَسْوى ، فكأن الله تعالى يقول : إذا كانت هذه أفعالهم مع نبيهم الذي أعزّهم الله به ، فغير بديع ما يعامل به أخلافهم محمداً عليه الصلاة والسلام ، فَلْيَهُنْ عليكم أيها النبي والمؤمنون ما ترونه من عنادهم ، وإعراضهم عن الحق .
ورابعها : تحذير أَهْل الكِتَاب الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من نزول العذاب علهيم كما نزل بأسلافهم في تلك الوقائع المعدودة .
وخامسها : الاحتجاج على من أنكر الإعادة من مشركي العرب مع إقراره بالابتداء كما في قوله : { كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى } [ البقرة : 73 ] .
فصل في تسلية النبيّ صلى الله عليه وسلم
اعلم أن المراد تسلية رسوله عليه الصلاة والسلام فيما يظهر من أَهْل الكتاب في زمانه من قلّة القبول فقال : « أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ » .
قال الحسن : هو خطاب مع الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين .
قال القاضي : وهذا الأليق بالظاهر ، وإن كان الأصل في الدّعاء ، فقد كان من الصحابة من يدعوهم إلى الإيمان ، ويظهر لهم الدلائل . قال ابن عَبَّاس : إنه خطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام خاصّة؛ لأنه هو الدّاعي ، وهو المقصود بالاستجابة . واللفظة وإن كانت للعموم لكن حملناها على هذا الخصوص لهذن [ القرينة ] .
روي أنه حين دخل « المدينة » ودعا اليهود إلى كتاب الله ، وكذبوه ، فأنزل الله تعالى وسبب هذه الاستعباد ما ذكرناه أي : أتطمعون أن يؤمنوا مع أنهم ما آمنوا بموسى عليه الصَّلاة والسَّلام الذي كان هو السبب في خَلاَصهم من الذّل ، وفضلهم على الكل بظهور المُعْجزات المتوالية على يَدِهِ ، مع ظهور أنواع العذاب على المتمردين ، فأي استبعاد في عدم إيمان هؤلاء .
فصل في إعراب الآية
قوله : « أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ » ناصب ومنصوب ، وعلامة النصب حذف النون والأصل في « أن » وموضعها نصب أو جر على ما عرف ، وعدي « يؤمنوا » باللاّم لتضمّنه معنى أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم قاله الزمخشري .
فإن قيل : ما معنى الإضافة في قوله : « يُؤْمِنُواْ لَكُمْ » والإيمان إنما هو لله؟
فالجواب : أن الإيمان وإن كان الله فهم الدّاعون إليه كما قال تعالى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } [ العنكبوت : 26 ] لما آمن بنبوّته وتصديقه ، ويجوز أن يراد أن يؤمنوا لأجلكم ، ولأجل تشدّدكم في دعائهم . قوله : « وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ » « الواو » : للحال .
قال بعضهم : وعلامتها أن يصلح موضها « إذ » ، والتقدير : أفتطمعون في إيمانهم ، والحال أنهم كاذبون محرفون لكلام الله تعالى .
و « قد » مقربة للماضي من الحال سوّغت وقوعه حالاً .
و « يَسْمَعُون » خبر « كان » .
و « منهم » في محلّ رفع صفة ل « فريق » ، أي : فريق كائن منهم .
قال سيبويه : واعلم أن ناساً من ربيعة يقولون : « مِنْهِم » بكسر الهاء إتباعاً لكسرة الميم .
لم يكن المسكن حاجزاً حصيناً عندهم .
و « الفريق » اسم جمع لا واحد له من لفظه ك « رَهْط وَقَوْم » ، وجمعه في أدنى العدد « أَفْرقه » ، وفي الكثير « أفْرِقَاء » .
و « يَسْمَعُون » نعت ل « فريق » ، وفيه بعد ، و « كان » وما في حَيّزها في محلّ نصب على ما تقدم .
وقرىء : « كَلِمَ اللهِ » وهو اسم جنس واحدة كلمة ، وفرّق النحاة بين الكلام والكلم ، بأن الكلام شرطه الإفادة ، والكلم شرطه التركيب من ثلاث فصاعداً؛ لأنه جمع في المعنى ، وأقلّ الجمع ثلاثة ، فيكون بينهما عموم وخصوص من وجه ، وهل « الكلام » مصدر أو اسم مصدر؟ خلاف .
والمادة تدل على التأثير ، ومنه الكَلْم وهو الجُرْح ، والكَلاَم يؤثر في المخاطب .
قال الشاعر : [ المتقارب ]
598 ... وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ
ويطلق الكلام لغة على الخَطِّ والإشارة؛ كقوله : [ الطويل ]
599 إِذَا كَلَّمَتْنِي بِالعُيُونِ الفَوَاتِرِ ... رَدَدْتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوادِرِ
وعلى النفساني؛ قال الأخطل : [ الكامل ]
600 إِنَّ الْكَلاَمَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنِّمَا ... جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلاً
وقيل : لم يوجد هذا البيت في ديون الأخطل .
وأما عند النحويين [ فيطلق ] على اللّفظ المركب المفيد بالوضع .
و « ثم » للتراخي إما في الزمان أو الرتبة .
و « التحريف » : الإمالة والتحويل ، وأصله من الانحراف عن الشيء ، ويقال : قلم محرّف إذا كان مائلاً .
قوله : « منْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ » متعلق ب « يحرفونه » ، و « ما » يجوز أن تكن موصولة اسمية ، أي : ثم يحرفون الكلام من بعد المعنى الذي فهموه وعرفوه ، ويجوز أن تكون مصدرية .
والضمير في « عقلوه » يعود حينئذ على الكلام أي : من بعد تعقلهم إياه .
قوله : « وَهُمْ يَعْلَمُونَ » جملة حالية ، وفي العامل قولان :
أحدهما : « عقلوه » ، ولكن يلزم منه أن تكون حالاً مؤكدة؛ لأن معناها قد فهم من قوله : « عقلوه » .
والثاني وهو الظاهر : أنه « يحرفونه » ، أي : يحرفونه حال علمهم بذلك .
فصل في تعيين الفريق
قال بعضهم : الفريق مَنْ كان في زمن موسى عليه الصَّلاة والسَّلام؛ لأنه وصفهم بأنهم سمعوا كلام الله ، والذين سمعوا كلام الله هم أهل المِيْقَاتِ .
قال ابن عباس : هذه الآية نزلت في السَبعين المختارين الذين ذهبوا مع موسى عليه الصلاة والسلام إلى المِيْقَات ، سمعوا كلام الله ، وأمره ونهيه ، فلما رجعوا إلى قومهم رجع الناس إلى قولهم ، وأما الصادقون منهم فأدّوا كما سمعوا .
قالت طائفة منهم : سمعنا الله في آخر كلامه يقول : إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا ، وإن شئتم ألاَّ تفعلوا فلا بأس .
قال القرطبي : ومن قال : إنّ السبعين سمعوا كما سمع موسى عليه الصلاة والسلام فقد أخطأ ، وأذهب بفضيلة موسى ، واختصاصه بالتكليم .
وقال السُّدِّي وغيرهك لم يطيقوا سماعه ، واختلطت أذهانهم ، ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعيده لهم ، فلمَّا فرغوا وخرجوا بدلت طائفة منهم ما سمعت من كلام الله على لسان موسى عليه الصلاة والسَّلام ، كما قال تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله } [ التوبة : 6 ] .
ومنهم من قال : المراد بالفريق مَنْ كان في زمن محمد صلى الله عليه وسلم كما غيّروا آية الرجم ، وصفة محمد صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنهم كاذبون ، وهو قول مجاهد وقتادة وعكرمة ووهب والسدي وهذا أقرب؛ لأن الضمير في قوله : « وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ » راجع إلى ما تقدم من قوله : « أَفتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ » والذي تعلّق الطبع بإيمانهم هم الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام .
وقولهم : الذين سمعوا كلام الله هم الذين حضروا المِيْقَات ممنوع؛ لأن من سمع التوراة والقرآن يجوز أن يقال : إنه سمع كلام الله .
فإن قيل : كيف يلزم من إقدام البعض على التَّحْريف حصول اليأس من إيمان الباقين ، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين؟
أجاب القَفّال فقال : يحتمل أن يكون المعنى يؤمن هؤلاء ، وهم إنما يأخذون دينهم ، ويتعلمونه من علمائهم وهم قوم يتعمدون التحريف عناداً ، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وعرفوه .
فصل في كلام القدرية والجبرية
قوله : « أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ » استفهام على سبيل الإنكار ، فكان ذلك جَزماً بأنهم لا يؤمنون ألبتة ، وإيمانُ من أخبر الله تعالى عنهم بأنه لا يؤمن ممتنع ، فحينئذ تعود الوجوه المذكورة للقدرية والجبرية .
قال القاضي : قوله : « أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لكمْ » يدل على أن إيمانهم من قلبهم؛ لأنه لو كان بخلق الله تعالى فيهم لكان لا يتغّير حال الطمع فيهم بصفة الفريق الذي تقدّم ذكرهم ، ولما صحّ كون ذلك تسليةً للرسول وللمؤمنين؛ لأن الإيمان موقوف على خلقه تعالى ذلك ، وزواله موقف على ألا يخلقه فيهم .
وأيضاً إعظامه تعالى لكذبهم في التحريف من حيث فعلوه ، وهم يعلمون صحته .
وإضافته تعالى التحريف إليهم على وجه الذم يدلّ على ذلك ، واعلم أن الكلام عليه قد تقدم جوابه مراراً .
فصل في ذم العالم المعاند
قال أبو بكر الرازي : الآية تدلّ على أن العالم المعاند أبعد من الرّشد ، وأقرب إلى اليأس من الجاهل؛ لأن تعمّده التحريف مع العلم بما فيه من العذاب يكون أشد قسوة ، وأعظم جناية .
فصل في بيان أنهم إنما فعلوا ذلك لأغراض
فإن قيل : إنما فعلوا ذلك لضرب من الأغراض كما قال تعالى :
{ واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [ آل عمران : 187 ] وقال : { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [ البقرة : 146 ] .
قال ابن الخطيب : ويجب أن يكونوا قليلين؛ لأن الجَمْع العظيم لا يجوز عليم كِتْمَان ما يعتقدون؛ لأنا إنْ جوزنا ذلك لم نعلم المحق من المبطل ، إن كثر العدد .
فإن قيل : قوله : « عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ » تكْرار .
أجاب القَفّال رضى الله عنه بوجهين :
أحدهما : « مَنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوا مراد الله تعالى منه » ، فأوّلوه تأويلاً فاسداً يعلمون أنه غير مراد الله تعالى .
والثاني : أنهم عقلوا مراد الله تَعَالى ، وعلموا أن التأويل الفاسد يكسبهم العذاب والعقوبة من الله تعالى .
واعلم أن المقصود من ذلك تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام وتصبيره على عنادهم فكلما كان عنادهم أعظم كان ذلك في التسلية أقوى .
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن منافقي أهل الكتاب كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى عليه وسلم قالوا لهم : آمنا بالذي آمنتم به ، نشهد أنَّ صاحبكم صادق ، وأنَّ قوله حقّ ، ونجده بِنَعْتِهِ وصفته في كتابنا ، ثم إذا خَلاَ بعضهم إلى بعض قال الرؤساء كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، ووهب بن يهودا وغيرهم أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم في كتابه من نَعْتِهِ وصفته ليحاجوكم به .
قال القَفَّال رحمه الله تعالى في قوله تعالى : { فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ } : مأخوذ من قولهم : فتح الله على فلان في علم كذا أي [ رزقه الله ذلك ] وسهل له طلبه .
قال الكَلْبي : بما قضى الله عليكم من كتابكم أن محمداً حق ، وقوله صِدْق ، ومنه قبل للقاضي : الفَتَّاح بلغة « اليَمَن » .
وقال الكِسَائي : ما بَيّنه الله عليكم .
وقال الواقدي : بما أنزل الله عليكم نظيره { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض } [ الأعراف : 96 ] أي : أنزلنا .
وقال أبو عبيدة والأخفش : بما مَنَّ الله عليكم به ، وأعطاكم من نصركم على عدوكم .
وقيل : بما فتح الله عليكم أي : أنزل من العذاب ليعيركم به ، ويقولون فمن أكرم على الله منكم .
وقال مجاهد والقاسم بن أبي بزّة : هذا قول يهود « قُرَيظة » بعضهم لبعض حين سبهم النبي عليه الصلاة والسلام فقال : « يَا إخْوَانَ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ وَعَبَدَ الطَّاغُوتِ » فَقَالُوا : من أخبر محمداً بهذا؟ ما خرج هذا إلاَّ منكم .
وقيل : الإعلام والتبيين بمعنى : أنه بيّن لكم صفة محمد عليه الصلاة والسلام .
فصل في إعراب الآية
قد تقدّم على نظير قوله : « وإذ لَقُوا » في أول السورة وهذه الجملة الشرطية تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون مستأنفة كاشفة عن أحوال اليهود والمنافقين .
والثاني : أن تكون في محلّ نصب على الحال معطوفة على الجملة الحالية قبلها وهي : « وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ » والتقدير : كيف تطمعون في إيمانهم وحالهم كيت وكيت؟
وقرأ ابن السّميفع : « لاَقوا » وهو بمعنى « لقوا » فَاعَل بمعنى فَعِل نحو : « سافر » وطارقت النعل :
وأصل « خلا » : « خَلَو » قلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وتقدم معنى « خلا » و « إلى » في أول السورة .
قوله : { بِمَا فَتَحَ الله } متعلق ب « التحديث » قبله ، و « ما » موصولة بمعنى « الذي » والعائد محذوف ، أي : فتحه .
وأجاز أبو البَقَاءِ أن تكون نكرة موصوفة أو مصدرية ، أي : شيء فتحه ، فالعائد محذوف أيضاً ، أو بِفَتْحِ الله عليكم .
وفي جعلها مصدرية إشكال من حيث إنَّ الضمير في قوله بعد ذلك : « لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ » عائد على « ما » و « ما » المصدرية حرف لا يعود عليها ضمير على المشهورن خلافاً للأخفش ، وأبي بكر بن السراج ، إلاّ أن يُتَكَلّف فيقال : الضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله : « أَتُحَدِّثُونَهُمْ » أو من قوله : « فتح » ، أي : ليحاجُّوكم بالتحديث الذي حدّثتموهم ، أو بالفتح الذي فتحه الله عليكم .
والجملة في قوله : « أَتُحَدِّثُونَهُمْ » في محلّ نصب بالقول ، قال القُرْطبي : ومعنى فتح : حكم .
والفتح عند العرب : القضاء والحكم ، ومنه قوله تعالى : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } [ الأعراف : 89 ] أي : الحاكمين . والفتاح : القاضي بلغة « اليمن » ، يقال : بيني وبينك الفَتّاح ، قيل ذلك لأنه ينصر المظلوم على الظالم .
والفتح : النصر ، ومنه قوله : { يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ } [ البقرة : 89 ] وقوله : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } [ الأنفال : 19 ] .
قوله : « لِيُحَاجُّوكُمْ » أي : ليخاصموكم ، ويحتجوا بقولكم عليكم ، وهذه اللام تسمى لام « كي » بمعنى أنها للتعليل ، كما أن « كي » كذلك لا بمعنى أنها تنصب ما بعدها بإضمار ب « كي » كما سيأتي ، وهي حرف جر ، وإنما دخلت على الفعل؛ لأنه منصوب ب « أن » المصدرية مقدّرة بعدها ، فهو معرب بتأويل المصدر أي : للمُحَاجَّة ، فلم تدخل إلاّ على اسم ، لكنه غير صريح .
والنصب ب « أن » المضمرة كما تقدم لا ب « كي » خلافاً لابن كَيْسَان والسّيرافي ، وإن ظهرت بعدها نحو قوله تعالى : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ } [ الحديد : 23 ] لأن « أن » هي أم الباب ، فادعاء إضمارها أولى من غيرها .
وقال الكوفيون : النَّصْب ب « اللام » نفسها ، وأن ما يظهر بعدها من « كي » ، ومن « أَنْ » إنما هو على سبيل التأكيد ، وللاحتجاج موضعٌ غير هذا .
ويجوز إظهار « أن » وإضمارها بعد هذه « اللام » إلاَّ في صورة واحدة ، وهي إذا وقع بعدها « لا » نحو قوله : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ } [ البقرة : 150 ] وذلك لما يلزم من توالي لاَمَيْنِ ، فَيثْقُل اللفظ .
والمشهور في لغة العرب كسر هذه اللام؛ لأنها حرف جر ، وفيها لغة شاذة وهي الفتح .
قال الأخفش : « لأن الفتح الأصل » .
قال خلف الأحمر : هي لغة بني العَنْبَر . وهذه اللام متعلّقة بقوله : « أَتُحَدِّثُونَهُمْ » .
وذهب بعضهم إلى أنها متعلّقة ب « فتح » وليس بظاهر؛ لأن المُحَاجَّة ليست علّة للفتح ، وإنما هي نشأت عن التحديث ، اللّهم إلا أن يقال : تتعلّق به على أنها لام العاقبة ، وهو قول قيل به ، فصار المعنى أن عاقبة الفتح ومآله صار إلى أن يحاجُّوكم .
أو تقول : إن اللاَّم لام العلة على بابها ، وإنما تعلّقت ب « فتح » ؛ لأنه سبب للتحديث ، والسبب والمسبب في هذا واحد .
والحُجّة : الكلام المستقيم على الإطلاق ، ومن ذلك محجّة الطريق ، وحاججت فلاناً [ فحججته ] أي : غالبته ، ومنه الحديث : « فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى » ، وذلك لأن الحجّة نفي الطَّريق المسلوك الموصّلة للمراد .
والضمير في « به » يعود على « ما » من قوله تعالى : { بِمَا فَتَحَ الله } وقد تقدم أنه يضعف القول بكونها مصدرية ، وأنه يجوز أن يعود على أحد المصدرين المفهومين من « أَتُحَدِّثُونَهُمْ » و « فتح » .
قوله : « عِنْدَ رَبِّكُمْ » ظرف معمول لقوله : « لِيُحَاجُّوكُمْ » بمعنى : ليحاجُوكم يوم القيامة ، فيكون ذلك زائداً في ظهور فضيحتكم على رؤوس الخَلاَئق في الموقف ، فكنى عنه بقوله : « عِنْدَ رَبِّكُمْ » قاله الأصم وغيره .
وقال الحسن : « عند » بمعنى « في » أي : ليحاجُّوكم في ربكم أي : فيكونون أحقّ به منكم .
وقيل : ثم مضاف محذوف أي : عند ذكر ربكم . وقال القَفّال رحمه الله تعالى : يقال : فلان عندي عالم أي : في اعتقادي وحُكْمي ، وهذا عند الشَّافعي حَلاَل ، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى حرام أي : في حكمهما وقوله : « لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ » أي : لتصيروا محجوجين [ عند ربكم ] بتلك الدلائل في حكم الله .
ونظيره تأويل بعض العلماء قوله : { يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون } [ النور : 13 ] اي : في حكم الله وقضائه أن القاذف إذا لم يأت بالشهود لزمه حكم الكاذبين وإن كان في نفسه صادقاً .
وقيل : هو معمول لقوله : « بِمَا فَتَحَ اللهُ » أي : بما فتح الله من عند ربّكم ليحاجّوكم ، وهو نَعْته عليه الصلاة والسلام وأخذ ميثاقهم بتصديقه .
ورجّحه بعضهم وقال : هو الصحيح؛ لأن الاحتجاج عليهم هو بما كان في الدّنيا .
وفي هذا نظر من جهة الصناعة ، وذلك أن « ليُحَاجُّوكُمْ » متعلق بقوله : « أَتُحَدِّثُونَهُمْ » على الأظهر كما تقدم ، فيلزم الفَصْل به بين العامل وهو « فتح » وبين معمول وهو عند ربك وذلك لا يجوز؛ لأنه أجنبي منهما .
قوله : « أَفَلاَ تَعْقِلُونَ » في هذه الجملة قولان :
أحدهما : أنها مندرجة في حَيِّز القول ، أي : إذا خَلاَ بعضهم ببعض قالوا لهم : أتحدثونهم بما يرجع وَبَاله عليكم وصِرْتُم محجوجين به ، أفلا تعقلون أن ذلك لا يليق ، وهذا أظهر لأنه من تمام الحكاية عنهم ، فَعَلَى هذا محلها النصب .
والثاني : أنها من خطاب الله تعالى للمؤمنين ، وكأنه قدح في إيمانهم ، لقوله : { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } [ البقرة : 75 ] قاله الحسن .
فعلى هذا لا محلّ له ، ومفعول « تعقلون » يجوز أن يكون مراداً ، ويجوز ألاّ يكون .
قوله : « أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ » تقدم أن مذهب الجمهور أن النّية بالواو والتقديم على الهمزة؛ لأنها عاطفة ، وإنما أخزت عنها ، لقوة همزة الاستفهام ، وأن مذهب الزمخشري تقدير فعل بعد الهمزة و « لا » للنفي .
و « أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ » في محلّ نصب وفيها حينئذ تقديران :
أحدهما : أنها سادّة مسدّ مفرد إن جعلنا « علم » بمعنى « عرف » .
والثاني : أنها سادّة مسدّ مفعولين إن جعلناها متعدية لاثنين ك « ظننت » ، وقد تقدم أن هذا مذهب سيبويه والجمهور ، وأن الأخفش يدعي أنها سدّت مسدّ الأول ، والثاني محذوف . و « ما » يجوز أن تكون بمعنى « الذي » ، وعائدها محذوف ، اي : ما يسرونه ويعلنونه ، وأن تكون مصدرية ، أي يعلم سرهم وعلانيتهم . [ والسر ] والعلانية يتقابلان .
وقرأ ابن محيصن « تسرون » و « تعلنون » بالتاء على الخطاب .
فصل في أن المراد بالسؤال هو التخويف والزجر
في الآية قولان :
الأول : وهو قول الأكثرين أن اليهود كانوا يعرفون أن الله يعلم السّر والعلانية ، فخوّفهم به .
والثاني : أنهم ما علموا بذلك ، فرغبهم بهذا القول في أن يتفكّروا ، فيعرفوا أن ربهم يعلم سرهم وعلانيتهم ، وأنهم لا يأمنون حلول العِقَابِ بسببِ نِفَاقِهِمْ ، وعلى كلا القولين فهذا الكلام زَجْر لهم عن النفاق ، وعن وصية بعضهم بعضاً بكتمان دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
والأقرب أن اليهود المخاطبين بذلك كانوا عالمين بذلك؛ لأنه لا يكاد يقال على طريق الزجر : أو لا يعلم كيف وكيت ، إلاّ وهو عالم بذلك الشيء ، ويكون ذلك زاجراً له عن ذلك الفعل .
فصل في الاستدلال بالآية على أمور
قال القاضي : الآية تدلّ على أمور منها :
أنه تعالى إن كان هو الخالق لأفعال العباد ، فكيف يصح أن يزجرهم عن تلك الأقوال والأفعال ، ومنها أنها تدلّ على صحّة الحجاج والنظر وأن ذلك قد كان على طريقة الصّحابة والمؤمنين .
ومنها أنها تدلّ على أن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية يكون أعظم جرماً .
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
واعلم أنه تعالى لما وصف اليهود العِنَادِ ، وأزال الطمع عن إيمانهم بين فرقهم ، فالفرقة الأولى هي الضَّالة والمضلّة ، وهم الذين يحرّفون لكلم عن مواضعه .
والفرقة الثانية : المنافقون .
والفرقة الثالثة : الذين يُجَادلون المنافقين .
والفرقة الرابعة : هم المذكورون هنا ، وهم العامة الأمّيون الذين لا يعرفون القراءة ، ولا الكتابة ، وطريقتهم التقليد وقَبُول ما يقال لهم ، فبين الله تعالى أن المُمْتَنِعِينَ عن الإيمان ليس سبب ذلك واحداً ، بل لكل قسم سبب .
وقال بعضهم : هم بعض اليهود والمنافقين .
وقال عكرمة والضَّحاك : « هم نصارى العرب » .
وقيل : « هم قوم من أهل الكتاب رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها ، فصاروا آمنين » . وعن علي رضي الله عنه هم المجوس .
قولهك « مِنْهُمْ » خبر مقدم ، فتعلّق بمحذوف . و « أمّيون » مبتدأ مؤخر ، ويجوز على رأي الأخفش أن يكون فاعلاً بالظرف قبله ، وإن لم يعتمد .
وقد بنيت على ماذا يعتمد فيما تقدم .
و « أُمِّيُّونَ » جمع « أمّي » وهو من لا يَكْتب ولا يَقْرأ .
واختلف في نسبته فقيل : إلى « الأمّ » وفيه معنيان :
أحدهما : أنه بحال أُمّه التي ولدته من عدم معرفة الكتابة ، وليس مثل أبيه؛ لأن النساء ليس من شُغْلهن الكتابة .
والثاني : أنه بحاله التي ولدته أمه عليها لم يتغير عنها ، ولم ينتقل .
وقيل : نسب إلى « الأُمَّة » وهي القَامَة والخِلْقَة ، بمعنى أنه ليس له من النَّاس إلا ذلك .
وقيل : نسب إلى « الأُمَّة » على سَذَاجتها قبل أن يَعْرِف الأشياء ، كقولهم : عامي أي : على عادة العامة .
وعن ابن عَبَّاس : « قيل لهم : أميون؛ لأنهم لم يصدقوا بأم الكتاب » .
وقال أبو عبيدة : « قيل لهم : أُميون ، لإنْزَال الكتاب عليهم ، كأنهم نسبوا لأم الكتاب » .
وقرأ ابن أبي عَبْلة : « أُمِّيُون » بتخفيف الياء كأنه استثقل توالي تضعيفين .
وقيل : الأمي : من لا يُقِرّ بكتاب ولا رسول .
قوله : « لاَ يَعْلَمُونَ » جملة فعلية في محلّ رفع صفة ب « أميون » ، كأنه قيل : أميون غير عالمين .
قوله : « إلاَّ أَمَانِيَّ » هذا استثناء منقطع؛ لأن « الأماني » ليست من جنس « الكتاب » ، ولا مندرجة تحت مدلوله ، وهذا هو المُنْقطع ، ولكن شرطه أن يتوهّم دخوله بوجه ما ، كقوله : { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن } [ النساء : 157 ] وقوله النَّابغة : [ الطويل ]
601 حَلَفْتُ يَمِيناً غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةِ ... وَلاَ عِلْمَ إِلاَّ حُسْنَ ظَنٍّ بِصَاحِبِ
لأن بذكر العلم اسْتُحضِر الظن ، ولهذا لا يجوز : صَهَلَتِ الخيل إلاَّ حماراً .
واعلم أن المنقطع على ضربيين : ضرب يصحّ توجه العامل عليه ، نحو : جاء القوم إلاّ حماراً .
وضرب لا يتوجه نحو ما مثل به النحاة : « ما زاد إلا ما نقص » ، و « ما نفع إلا ما ضر » فالأول فيه لُغتَان : لغة « الحجاز » وجوب نصبه ، ولغة « تميم » أنه كالمتّصل ، فيجوز فيه بعد النفي وشبهه النصب والإتباع .
والآية الكريمة من الضرب الأولن فيحتمل في نصبها وَجْهَان :
أحدهما : على الاستثناء المنقطع .
والثاني : أنه بدل من « الكتاب » .
و « إلاّ » في المنقطع تقدر عند البصريين ب « لَكِنَّ » ، وعند الكونفيين ب « بل » ، وظاهر كلام أبي البقاء أن نصبه على المصدر بفعل مَحْذُوف ، فإنه قال : « إلا أماني » اسثناء منقطع؛ لأن الأماني ليس من جنس العلم ، وتقدير « إلاّ » في مثل هذا ب « لكن » أي : لكن يتمنونه أماني ، فيكون عنده من باب الاستثناء المفرّغ المنقطع ، فيصير نظير : « ماعلمت إلا ظنّاً » . [ وفيه نظر ] .
الأَمَاني مع « أُمْنِيَّة » بتشديد الياء فيها .
وقال ابو البَقَاءِ : « يجوز تخفيفها فيها » .
وقرأ أبو جعفر بتخفيفها ، حَذَفَ إحدى الياءين تخفيفاً .
قال الأخفشك « هذا كما يقال في جمع مفتاح : مفتاح ومفاتيح » .
قال النَّحَّاس : « الحذف في المعتلّ اكثر » ؛ وأنشد قول النابغة : [ الطويل ]
602 وَهَلْ يُرْجِعُ التَّسْلِيمَ أو يَكْشِفُ العَمَى ... ثَلاثُ الأَثافِي والرُّسُومُ البَلاَقِعُ
وقال أبو حَاتِمٍ : « كلّ ما جاء واحده مشدداً من هذا النوع فلك في الجمع الوجهان » . وأصله يرجع إلى ما قال الأخفش .
ووزن « أمنية » : « أُفْعُولَة » من تَمَنَّى يَتَمَنَّى : إذا تلا وقرأ؛ قال : [ الطويل ]
603 تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ آخِرَ لَيْلِهِ ... تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ
وقال كعب بن مالك : [ الطويل ]
604 تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ... وآخِرَهُ لاَقى حِمَامَ المقَادِرِ
وقال تعالى : { إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ } [ الحج : 52 ] أي : قرأ وتلا . والأصل على هذا : « أُمْنُويَة » فأعلت إعلال « ميت » و « سيد » وقد تقدم .
وقيل : الأمنية : الكذب والاختلاق .
قال أعرابي لابن دَأْب في شيء يحدث به : أهذا الشيء رويته أم تمنيته أي : اختلقته .
وقيل : ما يتمّناه الإنسان ويشتهيه .
وقيل : : ما يقدره ويحزره من مَتَّى : إذا كذب ، أو تمنى ، أو قدر؛ كقوله : [ البسيط ]
605 لاَ تَأْمَنَنَّ وَإِنْ أَمْسَيْتَ في حَرَمٍ ... حَتَّى تُلاَقِيَ مَا يَمْنِي لَكَ المَانِي
أي : يقدر لك المقدر .
قال الراغب : والمني : التقدير ، ومنه « المَنَا » الذي يُوزَن به ، ومنه « المنية » وهو الأجل المقدر للحيوان ، « والتَّمَنِّي » : تقدير شيء في النفس وتصويره فيها ، وذلك قد يكون عن ظنّ وتخمين ، وقد يكون بناء على رَوِيَّةٍ وأصل ، لكن لما كان أكثره عن تخمين كان الكذب أملك له ، فأكثر التمني تصوّر ما لاحقيقة له [ والأمنية : الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء ] .
ولما كان الكذب تصوّر ما لا حقيقة له وإيراده باللفظ الدَّال صار التمني كالمبدأ للكذب فعبر عنه .
ومنه قوله عثمان : « ما تغنيت ولا تمنيت منذ أسلمت » .
وقال الزمخشري : والاشتقاق من منَّى : إذا قدَّر؛ لأن المتمني يُقَدِّرُ في نفسه ، ويَحْزر ما يتمناه ، وكذلك المختلق ، والقارىء يقدر أن كلمة كذا بعد كذا ، فجعل بين هذه المعاني قدراً مشتركاً وهو واضح .
وقال أبو مسلم : حَمْله على تمني القلب أولى بقوله تعالى : { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } [ البقرة : 111 ] .
وقال الأكثرون : حمله على القراءة أليق؛ لأنا إذا حَمَلْنَاه على ذلك كان له به تعلّق ، فكأنه قال : لا يعلمون الكتاب إلاَّ بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه ، وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه ، ثم إنَّهُمْ لا يتمكّنون من التدبُّر والتأمل ، وإذا حمل على أن المراد الأحاديث والأكاذيب أو الظن والتقدير وحديث النفس كان الاستثناء فيه نادراً .
قوله : { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } « إن » نافية بمعنى « ما » وإذا كانت نافية المشهور أنها لا تعمل عمل « ما » الحِجَازية .
وأجاز بعضهم ذلك ونسبه لسيبويه ، وأنشد : [ المنسرح ]
606 إنْ هُوَ مُسْتَوْلِياً عَلَى أَحَدٍ ... إلاَّ عَلَى أَضْعَفِ المَجَانِينِ
« هو » اسمها ، و « مستولياً » خبرها .
فقوله : « هم » في محل رفع الابتداء لا سام « إن » لأنها لم تعمل على المشهور ، و « إلا » للأستثناء المفرغ ، ويظنون في محلّ الرفع خبراً لقوله « هم » .
وحذف مفعولي الظَّن للعمل بهما واقتصاراً ، وهي مسألة خلاف .
فصل في بطلان التقليد في الأصول
الآية تدلّ على بطلان التقليد .
قال ابن الخطيب : وهو مشكل؛ لأن التقليد في الفروع جائز عندنا .
قوله : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب } « ويل » مبتدأ ، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة ، لأنه دعاء عليهم ، والدعاء من المسوغات ، سواء كان دعاء له نحو : « سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ » أو دعاء عليه كهذه الآية ، والجار بعده الخبر ، فيتعلّق بمحذوف .
وقال أبو البقاء : ولو نصب لكان له وجه على تقدير : ألزمهم الله ويلاً ، واللام للتبيين؛ لأن الاسم لم يذكر قبل المصدر يعني : أن اللام بعد المنصوب للبيان ، فيتعلّق بمحذوف . وقوله : لأن الاسم لم يذكر قبل ، يعني أنه لو ذكر قبل « ويل » فقلت : « ألزم الله زيداً ويلاً » لم يحتج إلى تبيين بخلاف ما لو تأخر . وعبارة الجرمي توهم وجوب الرفع في المقطوع عن الإضافة؛ ونصّ الأخفش على جواز النّصب ، فإنه قال : ويجوز النصب على إضمار فعل أي : ألزمهم الله ويلاً .
واعلم أن « وَيْلاً » وأخواته وهي : « وَيْح » و « وَيْس » و « وَيْب » و « وَيْه » و « ويك » و « عَوْل » من المصادر المنصوبة بأفعال من غير لفظها ، وتلك الأَفْعَال واجبة الإضمار ، لا يجوز إظهارها ألبتة؛ لأنها جعلت بدلاً من اللفظ بالفعل ، وإذا فصل عن الإضافة فالأحسن فيه الرفع نحوك « ويل له » وإن أضيف نصب على ما تقدم ، وإن كانت عبارة الجرمي توهم وجوب الرفع عند قَطْعه عن الإضافة ، فإنه قال : فإذا أدخلت اللاّم رفعت فقلت : « ويل له » و « ويح له » كأنه يريد على الأكثر ، ولم يستعمل العرب منه فعلاً؛ لاعتلال عنيه وفائه .
وقد حكى ابن عرفة : « تَوَيَّلَ الرجل » إذا دعا بالوَيْلِ . وهذا لا يرد؛ لأنه مثل قولهم : سَوَّفْتَ ولَوْلَيت إذا قلت له : سَوْفَ وَلَوْ .
ومعنى الويل : شدة الشر ، قاله الخليل .
وقال الأَصْمَعِيّ : الويل : التفجُّع ، والويح : الترحم .
وقال سيبويه : وَيْلٌ لمن وقع في الهَلكة ، وويح زجر لمن أشرف على الهلاك .
وقيل : الويل : الحزن .
وهل « ويل وويح وويس وويب » بمعنى واحد أو بينها فرق؟ خلاف فيه ، وقد تقدم ما فرقه به سيبويه في بعضها .
وقال قوم : « ويل » في الدعاء عليه ، و « ويح » وما بعده ترحم عليه .
وزعم الفراء أنّ أَصْل « ويل » : وَيْ ، أي : حزن ، كما تقول : وي لفلان أي حُزْنٌ له ، فوصلته العرب باللاّم ، وقدرت أنها منه فأعربوها ، وهذا غريب جدَّا .
ويقال : وَيْلٌ وَوَيْلَة .
وقال امرؤ القيس [ الطويل ]
607 لَهُ الوَيْلُ إنْ اَمْسَى وَلاَ أُمُّ عَامِرٍ ... لَدَيْه وَلاَ البَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا
وقال أيضاً : [ الطويل ]
608 وَيَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ ... فَقَالَتْ : لَكَ الوَيْلاَتُ إِنَّكَ مُرْجِلِي
ف « وَيْلات » جمع « وَيْلة » لا جمع « وَيْل » كما زعم ابن عطية؛ لأن جمع المذكر بالألف والتاء لا ينقاس .
قال ابن عباس رضي الله عنه : « الويل العذاب الأليم » ، وعن سفيان الثورى أنه قال : « صديد أهل جهنم » . [ وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : « الوَيْلُ وَادٍ في جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفاً قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ »
] . وقال سعيد بن المسيب : « وَادٍ في جهنم لو سيرت فيه جبال الدّنيا لانماعت من شدّة حره » .
وقال ابن يزيد : « جبل من قَبح ودم » .
وقيل : صهريج في جهنم .
وحكى الزهراوي عن آخرين : أنه باب من أبواب جَهَنَّم .
وعن ابن عباس : الويل المشقّة من العذاب .
وقيل : ما تقدم في اللغة .
قوله : « بِأَيْدِيْهِمْ » متعلّق ب « يكتبون » ، ويبعد جعله حالاً من « الكتاب » ، والكتاب هنا بعض المكتوب ، فنصبه على المفعول به ، ويبعد جعله مصدراً على بابه ، وهذا من باب التأكيد ، فإن [ الكتابة ] لا [ تكون ] بغير اليد ، [ ونظيره ] :
{ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } [ آل عمران : 167 ] .
وقيل : فائدة ذكره أنهم باشروا ذلك بأنفسهم ، ولم يأمروا به غيرهم ، فإنّ قولهم : فعل كذا يحتمل أنه أمر بفعله ولم يباشره ، نحو : « بنى الأمير المدينة » فأتى بذلك رفعاً لهذا المجاز .
وقيل : فائدة [ ذكره أنهم باشروا ذلك بأنفسهم ، ولم يأمروا به غيرهم . ففائدته ] بيان جرأتهم ومجاهرتهم ، فإن المُبَاشر للفعل أشدّ مواقعة ممن لم يباشره .
وهذان القولان قريبان من التأكيد ، فإنَّ أصل التأكيد رفع توهّم المجاز .
وقال ابن السراج : ذكر الأيدي كناية عن أنهم اختلقوا ذلك من تِلْقَائهِمْ ، ومن عند أنفسهم ، وهذا الذي قاله لا يلزم .
والأيدي : جمع « يد » ، والأصل : أَيْدُيٌ بضم الدال ك « فلس وأفلس » في القِلّة ، فاستثقلت الضمة قبل الياء ، فقلبت كسرة للتجانُس ، نحو : « بيض » جمع « أبيض » ، والأصل « بُيْض » بضم الباء ك « حمر » جمع « أحمر » ، وهذا رأي سيبويه ، أعني أنه يقر الحرف ويغير الحركة ، ومذهب الأخفش عكسه ، وسيأتي تحقيق مذهبهما عند ذكر « معيشة » إن شاء الله تعالى .
وأصل « يد » : يَدْيٌ بسكون العين .
وقيل : يَدَيٌ بتحريكها فَتحرَّكَ حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفاً ، فصار : يَداً ك « رَحًى » وعليه التثنية : يَدَيَانِ [ وعليه أيضاً قوله : [ الزجز ]
609 يَارُبَّ سَارٍ بَاتَ ما تَوَسَّدَا ... إلاَّ ذِرَاعَ العَنْزِ أَوْ كَفَّ اليَدَا ]
[ والمشهور في تثنيتها عدم ردِّ لامها ، قال تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [ المائدة : 64 ] { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [ المسد : 1 ] وقد شذّ الردُّ في قوله : يَدَيَانِ؛ قال : [ الكامل ]
610 يَدَيَانِ بَيْضَاوَانِ عِنْدَ مُحَلَّمٍ ... قَدْ يَمْنَعَانِكَ أَنْ تُضَامَ وتُقْهَرَا
و « أياد » جمع الجمع ، نحو : كلب وأكلب وأكالب ، ولا بد في قوله : « يَكْتُبُونَ الكِتَابَ » من حذف يصح معه المعنى ، فقدره الزمخشري : « يكتبون لكتاب المحرف » ، وقدره غيره حالاً من الكتاب تقديره : ويكتبون الكتاب محرفاً ، وإنما [ أحوج ] إلى هذا الإضمار؛ لأن الإنكار لا يتوجّه على من كتب اللكتاب بيده إلا إذا حرفه غيره .
قوله : « لِيَشْتَرُوا » اللام : لام كي ، وقد تقدمت ، والضمير في « به » يعود على ما أشاروا إليه بقوله « هذا من عند الله » .
و « ثَمَناً » مفعوله .
وقد تقدّم تحقيق دخول الباء على غير الثمن عند قوله : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 41 ] فليلتفت إليه ، واللاّم متعلقة ب « يقولون » أي : يقولون ذلك لأجل الاشتراء .
وأبعد من جعلها متعلّقة بالاستقرار الذي تضمنه قوله : « مِنْ عِنْد اللهِ » .
قوله : « مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ » متعلّق ب « ويل » أو بالاستقرار في الخبر .
و « من » للتعليل و « ما » موصولة اسمية ، والعائد محذوف ، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة .
والأول أقوى ، والعائد أيضاً محذوف أي : كتبته ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : من كَتْبِهِمْ .
و « وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ » مثل ما تقدم قبله ، وإنما كرر الوَيْل؛ ليفيد أن الهَلَكَة متعلقة بكل واحد من الفعلين على حِدَته لا بمجموع الأمرين ، وإنا قدم قوله : « كَتَبَتْ » على « يَكْسِبُون » ؛ لأن الكتابة مقدمة ، فنتيجتها كَسْب المال ، فالكَتْب سبب والكَسْب مسبب ، فجاء النظم على هذا .
فصل في سبب هذا الوعيد
هذا الوعيد مرتّب على أمرين : على الكتابة الباطلة لقصد الإضلال ، وعلى أن المكتوب من عند الله ، فالجمع بينهما منكر عظيم .
وقوله : « لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً » تنبيه على أمرين :
الأول : أنه يدلّ على نهاية شقاوتهم؛ لأن العاقل لا يرضى بثمن قليل في الدنيا يحرمه الأجر العظيم الأبدي في الآخرة .
والثاني : إنما فعلوا ذلك طلباً للمال والجَاهِ ، وهذا يدلّ على أن أخْذَ المال بالباطل وإن كان بالتّراضي فهو مُحَرّم؛ لأن الذي كانوا يعطونه من المال كان عن محبة ورضا .
وقوله : { فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } دليل علىأخذهم المال عليه ، فلذلك كرر [ ذكر ] الويل .
واختلفوا في قوله : « يَكْسِبُونَ » هل المراد سائر معاصيهم ، أو ما كانوا يأخذون على الكتابة والتحريف؟
والأقرب في نظم الكلام أنه راجعٌ إلى الكَسْب المأخوذ على وجه الكتابة والتحريف ، وإن كان من حيث العموم أنه يشمل الكل .
فصل في الرد على المعتزلة
قال القاضي : دلت الآية على أن كتابتهم ليست خلقاً لله تعالى لأنها لو كانت خلقاً لله تعالى لكانت إضافتها إليه تعالى بقولهم : « هو من عند الله » حقيقة؛ لأنه تعالى إذا خلقها فيهم فَهَبْ أن العبد يكتسب إلا أن نسبة ذلك الفعل إلى الخالق أقوى من انتسابه إلى المكتسب ، فكان إسناد تلك الكتابة إلى الله تعالى أولى من إسنادها إلى العَبْدِ ، فكان يجب أن يستحقوا الحمد على قولهم فيها : إنها من عند الله ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن تلك الكتابة ليست مخلوقة لله تعالى .
والجواب : أنَّ الداعية الموجبة لها من خَلْق الله كما تقدم في مسألة الداعي .
فصل
يروى أن أَحْبار اليهود خافوا ذهاب كَلِمتهم ومآكلهم وزوال رِيَاستهم حين قدم رسول الله صلى لله عليه وسلم « المدينة » فاحْتَالوا في تَعْويق اليهود عن الإيمان ، فعمدوا إلى صفة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة فغيّروها ، وكان صفته فيها حَسَن الوجه ، حَسَن الشعر ، أَكْحَل العينين رَبْعة القامة فغيّروها وكتبوا مكانها طويلاً أَزْرق سَبْطَ الشعر ، فإذا سألهم سَفَلتهم عن محمد صلى الله عليه وسلم قرءوا ما كتبوه عليهم ، فيجدونه مخالفاً لصفته فيكذبونه .
وقال أبو مَالِكٍ : نزلت هذه الآية في الكاتب الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيغير ما يملي عليه .
روى الثعلبي بإسناده عن أنس أن رجلاً كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم وكان قد قرأ « البقرة » و « آل عمران » وكان النبي صلى الله عليه وسلم تلا « غفوراً رحيماً » فكتب « عليماً حكيماً » فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم : « اكْتُبُ كَيْفَ شِئْتَ » قال : فارتد ذلك الرجل عن الإسلام ، ولحق بالمشركين فقال : أنا أعلمكم بمحمد إنِّي كنت أكتب ما شئت ، فمات ذلك الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنَّ الأَرْضَ لاَ تَقْبَلُهُ » قلا : فأخبرني أبو طَلْحَة : أنه أتى الأرض التي مات فيها ، فوجده منبوذاً .
قال أبو طلحة : ما شأن هذا الميت؟ قالوا دفناه مراراً فلم تقبله الأرض .
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
فقوله : « إلاّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً » استثناء مفرّغ ، و « أيَّاماً » منصوب على الظرف بالفعل قبله ، والتدقير : لن تَمّسنا النار أبداً إلاّ أياماً قلائل يَحْصُورُها العَدُّ؛ لأن العد يحصر القليل ، وأصل : « أيّام » : أَيْوَام؛ لأنه جمع يوم ، نحو : « قوم وأقوام » ، فاجتمع الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فوجب قلب الواو ياء ، وإدغام الياء في الياء مثل : « هَيّت وميّت » ؟
فصل
ذكروا في الأيام المعدودة وجهين :
الأول : أن لفظه الأيام [ لا تضاف إلا إلى العشرة فما دونها ، ولا تضاف إلى ما فوقها ، فيقال : أيام خمسة ، وأيام عشرة ، ولا يقال : أيام أحد عشر . إلاَّ أن هذا ] يشكل بقوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } [ البقرة : 183 ] إلى أن قال : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } [ البقرة : 184 ] وهي أيام الشهر كله ، وهي أزيد من العشرة .
قال القاضي : إذا ثبت أن الأيام محمولة على العَشْرة فما دونها ، فالأشبه أن يقال : إنه الأقل أو الأكثر؛ لأن من يقول ثلاثة يقول : أحمله على أقل الحقيقة فله وجه ، ومن يقول : عشرة يقول : أحمله على الأكثر وله وجه .
فأما حمله على أقل من العشرة وأزيد من الثلاثة فلا وجه له؛ لأنه ليس عَدَدٌ أولى من عَدَدٍ ، اللهم إلا إنْ جاءت في تقديرها رواية صحيحة ، فحينئذ يجب القول بها .
روي عن ابن عباس ومجاهد : أن اليهود كانت تقول : « الدنيا سبعة آلاف سنة ، فالله يعذب على كلّ ألف سنة يوماً واحداً » .
وحكى الأصم عن بعض اليهود : أنهم عبدوا العِجْل سبعة أيام .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه : أنه قدر هذه الأيام بالأربعين ، وهو عدد الأيام التي عبد آباؤهم العجل فيها ، وهي مدّة غيبة موسى عليه الصلاة والسلام عنهم .
وقال الحسن وأبو العالية : قالت اليهود : إن ربنا عتب علينا في أمرنا ، فأقسم ليعذّبنا أربعين يوماً ، فلن تمسّنا النار إلاّ أربعين يوماً تحلّة القسم ، فكذبهم الله تعالى بقوله تعالى : « قُلْ : أتخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً » .
وقالت طائفة : إن اليهود قالت في التوراة : إنَّ جهنم مسيرة أربعين سنة ، وأنهم يقطعون في كلّ يوم سنة حتى يكملوها ، وتذهب جهنّم . رواه الضَّحاك عن ابن عباس .
وعن ابن عباس رضي الله عنه زعم اليهود أنه وجدوا في التوراة مكتوباً أن ما بين طرفي جهنّم أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزَّقوم ، فتذهب جهنم وتهلك .
فإن قيل : « وَقَالُوا : لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً » وقال في مكان آخر : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } [ آل عمران : 24 ] والمصروف في المكانين واحد وهو « أيام » .
فالجواب : أن الاسم إن كان مذكراً ، فالأصل في صفة جمعه التاء ، يقال : كُوز وكِيزان مكسورة ، وثياب مَقْطوعة ، وإن كان مؤنثاً كان الأصل في صفة جمعه الألف والتاء يقال : جرّة وجِرَار مكسورات ، وخَابِية وخَوَابي مكسورات ، إلا أنه قد يوجد الجمع بالألف والتاء فيما واحده مذكّر في بعض الصور ، وعلى هذا ورد قوله :
{ في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } [ البقرة : 203 ] ، و { في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } [ الحج : 28 ] .
فصل في مدة الحيض
ذهب الحنفيّة إلى أنّ أقل الحَيْض ثلاثة أيام ، وأكثره عشرة ، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام : « دَعِي الصَّلاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ » فمدّة الحيض تسمى أياماً ، وأقلّ عدد يسمى أياماً ثلاثة ، وأكثره عشرة على ما بَيّنا ، وعليه الإشكال المتقدم .
قوله : « أَتَّخَذْتُمْ » الهمزة للاستفهام ، ومعناها الإنكار والتَّقْريع ، وبها استغني عن همزة الوصل الدّاخلة على « أتخذتم » كقوله : { أفترى عَلَى الله } [ سبأ : 8 ] { أَصْطَفَى } [ الصافات : 153 ] وبابه . وقد تقدم القول في تصريف « أتَّخَذْتُمْ » وخلاف أبي علي فيها .
ويحتمل أن تكون هنا لواحد .
وقال أبو البقاء : وهو بمعنى « جَعَلتم » المتعدية لواحد .
ولا حاجة إلى جعلها بمعنى « جعل » لتعديها لواحد ، بل المعنى : هلأ أخذتم من الله عهداً؟ ويُحتمل أن يتعدّى لاثنين ، الأول « عهد » ، والثاني « عند الله » مقدماً عليه ، فعلى الأول يتعلّق « عند الله » ب « اتَّخَذْتُمْ » .
وعلى الثاني يتعلّق بمحذوف .
ويجوز نقل حركة همزة الاستفهام إلى لام « قل » قبلها ، فتفتح وتحذف الهمزة . وهي لغة مطّردة قرأ بها نافع في رواية وَرْش عنه .
قوله : « فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ » هذا جواب الاستفهام المقتدم في قوله : « أتَّخَذْتُمْ » .
وهل هذا بطريق تضمين الاستفهام معنى الشرط ، أو بطريق إضمار الشَّرط بعد الاستفهام وأخواته؟
قولان [ تقدم تحقيقها ] واختار الزمخشري القول الثاني ، فإنه قال : « فَلَنْ يُخْلِفَ » متعلّق بمحذوف تقديره : إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده .
وقال ابن عطيةك « فلن يخلف الله عَهْده : اعتراض بين أثناء الكلام » كأنه يعني بذلك أن قوله : « أم تقولون » مُعَادل لقوله : « أتخذتم » فوقعت هذه الجملة بين المتعادلين مُعْترضة ، والتقدير أيّ هذين واقع اتخاذكم العهد أم قولكم بغير علم؟ فعلى هذا لا محلّ لها من الإعراب ، وعلى الأول محلها الجزم .
قوله : « أَمْ تَقُولُونَ » « أم » هذه يجوز فيها وجهان :
أحدهماك أن تكون متّصلة ، فتكون للمعادلة بين الشيئين ، أي : أيّ هذين واقع ، وأخرجه مُخْرج المتردّد فيه ، وإن كان قد علم وقوع أحدهما ، وهو قولهم على الله مالا يعلمون للتقرير ، ونظيره : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] علم أيهما على هدى ، وأيهما في ضلال ، وقد عرف شروط المتصلة أول السورة .
ويجوز أن تكون منقطعة ، فتكون غير عاطفة ، وتقدر ب « بل » والهمزة ، والتقدير : بل أتقولون ، ويكون الاستفهام للإنكار؛ لأنه قد وقع القول منهم بذلك ، هذا هو المشهور في « أم » المنقطعة ، وزعم جماعهة أنها تقدر ب « بل » وحدها دون همزة استفهام ، فيعطف ما بعدها [ على ما قبلها ] في الإعراب؛ واستدّل عليه بقولهم : « إن لنا إبلاً أَمْ شَاءً » بنصب « شَاءً » وقول الآخر : [ الطويل ]
611 فَلَيْتَ سُلَيْمَى في الْمَمَاتِ ضَجِيعَتي ... هُنَالِكَ أَمْ فِي جَنَّةٍ أَمْ جَهَنَّمِ
التقدير : بل في جهنَّم ، ولو كانت همزة الاستفهام مقدَّرةً بعدها لوجب الرفع في « شاء » ، و « جهنم » على أنها خبر لمبتدأ محذوف ، وليس لقائل أن يقول : هي في هذين الموضعين مُتَّصلة لما عرف أن من شرطها أن تتقدّمها الهمزة لفظاً أو تقديراً ، ولا يصلح ذلك هنا .
قوله : « مَا لاَ تَعْلَمُونَ » ما منصوبة ب « تقولون » ، وهي موصولة بمعنى « الذي » أو نكرة موصوفة ، والعائد على كلا القولين محذوف ، أي : ما لا تعلمونه ، فالجملة لا محلّ لها على القول الأول ، ومحلّها النصب على الثاني .
فصل في الاستدلال بالآية على أمور
الآية تدلّ على أمور :
أحدها : أن القول بغير دليل باطل .
الثاني : ما جاز وجوده وعدمه عقلاً لم يجز المصير إلى الإثبات أو إلى النفي إلاَّ بدليل سمعي .
الثالث : تمسّك منكرو القياس وخبر الواحد بهذه الآية ، قالوا : لأن القياس وخبر الواحد لا يفيدان العلم ، فهو قول على الله بما لا يعلم .
والواجب : أنه دلت الدلائل على وجوب العمل عند حصول الظّن المستفاد من القياس ، منه خبر الواحد ، فكان وجوب العمل عنده معلوماً ، فكان القول به قولاً بالمعلوم .
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
« بلى » حرف جواب ك « نعم وجير وأَجَلوإي » ، إلا أن « بلى » جواب لنفي متقدم ، سواءً دخله استفهام أم لا فيكون إيجاباً له نحو قول زيد ، فتقول : بلى ، أي : قد قام ، وتقول : أليس زيد قائماً فتقول : بلى أيى هو قائم قال تعالى : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] ويروى عن ابن عَبّاس أنهم لو قالوا نعم لكفروا .
وقال بعضهم : إن « بلى » قد تقع جواباً لنفي متقدّم وقد تقع جواباً لاستفهام إثبات كما قال عليه الصّلاة والسلام للذي سأله عن عطية أولاده : أَتُحِبُّ أَنْ تُسَاوِيَ بَيْنَ أَوْلاَدِكَ في البِرِّ « قال : » بَلَى « .
وقوله عليه الصلاة والسلام لرجل : أَلَسْتَ أَنْتَ الَّذِي لَقِيتُهُ ب » مكة « ؟ قال : » بلى « فأما قوله : [ الوافر ]
612 أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْرٍو ... وَإِيَّانَا ، فَذَاكَ بِنَا تَدَانِي
نَعَمْ وَتَرى الْهِلاَلَ كَمَا أَرَاهُ ... وَيعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلاَنِي
فقيل : ضرورة . وقيل : نظر إلى المعنى؛ لأن الاستفهام إذا دخل على النفي قرره وبهذا يقال : فيكف نقل عن ابن عباس أنهم لو قالوا لكفروا مع أنّ النفي صار إيجاباً . وقيل : قوله : » نعم « ليس جواباً ب » أليس « إنما هو جواب لقوله : » فَذَاكَ بَنَا تَدانِي « فقوله تعالى : » بَلَى « رد لقولهم : » لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ « أي : بلى تمسّكم أبداً ، في مقابلة قولهم : » إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ « وهو تقدير حسن .
والبصريون يقولون : إن » بلى « حرف بَسِيْط ، وزعم الكوفيون أن أصلها » بلى « التي للإضراب زيدت عليها » الباء « ليحسن الوَقْف عليها ، وضمنت الياء معنى الإيجاب قيل : تدّل على رد النفي ، والياء تدلّ على الإيجاب يعنون بالياء الألف . وإنما سموها ياء؛ لأنها حرف عال وتكتب بالياء .
و » مَنْ « يجوز فيها وَجْهَان .
أحدهما : أن تكون موصولة بمعنى » الذي « والخبر قوله : » فأولئك « ، وجاز دخول الفاء في الخبر لاستكمال الشروط ، ويؤيد كونها موصولة ، وذكر قسيمها موصولاً وهو قوله : » وَالَّذِينَ كَفَرُوا « ، ويجوز أن تكون شرطية ، والجواب قولهك » فَأُوْلَئِكَ « ، وعلى كلا القولين فحملّها الرفع بالابتداء ، ولكن إذا قلنا : إنها موصولة كان الخبر : » فأولئك « وما بعدها بلا خلاف ، ولا يكون لقوله : » كَسَبَ سَيِّئَةً « وما عطف عليه محلّ من الإعراب؛ لوقوعة صلة .
وإذا قلنا : إنها شرطية جاء في خبرها الخلاف المشهور ، إما الشرط أو الجزاء ، أو هما حسب ما تقدم ، ويكون قوله : » كَسَبَ « وما عطف عليه في محلّ جزم بالشرط .
« سَيّئة » مفعول به ، وأصلها : « سَيْوِئَة » ؛ لأنها من ساء يسوءُ فوزنها « فَيْعِلَة » فاجتمع الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فأعلت إعلال « سَيِّد ومَيِّت » كما تقدم .
وراعى لفظ « مَن » فأفرد في قوله : « كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ » والمعنى مرة أخرى مجمع في قوله : « فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فيهَا خَالِدُونَ » .
وقرأ نافع وأهل « المدينة » « خَطِيئَاتِه » بجمع السلامة والجمور : « خَطِيْئة » بالإفراد ، ووجه القراءتين ينبني على معرفة السّيئة والخطيئة .
وفيهما أقوال :
أحدها : أنهما عبارتان عن الكُفْر بلفظين مُخْتلفين .
الثاني : أنهما عبارتان عن الكُفْر بلفظين مخْتلفين .
الثالث : [ عكس الثاني ] .
فوجه قراءة الجماعة على الأول والثالث أن المراد بالخطيئة الكفر ، وهو مفرد ، وعلى الوجه الثَّاني أن المراد به جنس الكبيرة ، ووجه قراءة نافع على الوَجْه الأول والثالث أن المراد بالخَطِيئات أنواع الكُفْر المتجددة في كلّ وقت ، وعلى الوجه الثاني أن المراد به الكبائر وهي جماعة .
وقيل المراد بالخطيئة نفس السّيئة المتقدمة ، فسماها بهذين الاسمين تقبيحاً لها كأنه قال : وأحاطت به خطيئهُ تلك أي السيئة ، ويكون المراد بالسّيئة الكُفْر ، أو يراد بهم العُصَاة ، ويكون أراد بالخلود المُكث الطويل ، ثم بعد ذلك يخرجون .
وقوله : « فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ » إلى آخره تقدم نظيره .
وقرى « خطاياه » تكسيراًن وهذه مخالفة لسواد المصحف؛ فإنه رسم « خطيئتهُ » بلفظ التوحيد ، وتقدم القول في تعريف خَطَايا .
فصل في لظفة « بلى »
قال صاحب « الكشاف » : بلى إثبات لما بعد حرف النفي ، وهو قوله : « لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ » أي : بلى تمسكم أبداً بدليل قوله : « هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ » .
أما السيئة فإنها تتناول جميع المعاصي ، قال تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] « مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ » ولما كان من الجائز أن يظن أن كلّ سيئة صغرات أو كبرت ، فحالها سواء في أنّ فاعلها يخلد في النَّار لا جرم بَيَّنَ تعالى أن الذي يستحقّ به الخلود أن يكون سيئة مُحِيْطة به ، ومعلوم أن لفظ الإحاطة حقيقة في إحاطة جسم بجسم آخر كإحاطة السُّور بالبلد والكُوز بالماء ، وذلك هاهنا ممتنع ، فنحمله على ما إذا كانت السيئة كبيرة لوجهين :
أحدهما : أن المحيط يستر المحاط به ، والكبيرة لكونها محيطة لثواب الطاعات كالسَّاترة لتلك الطاعات ، فكانت المُشَابهة حاصلةً من هذه الجهة .
والثانيك أن الكبير إذا أَحْبَطَتْ ثواب الطَّاعات ، فكأنها استولت على تلك الطاعات ، وأحاطت بها كما يحيط العَسْكر بالإنسان بحيث لا يتمكن من التخلص منه فكأنه تعالى قال : بلى من كَسَبَ كبيرة وأحاطت كبيرته بطاعاته ، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
فإن قيل : هذه الآية : وردت في حق اليهود؟
[ فالجواب ] : العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السبب ، هذا وجه استدلال المعتزلة في إثبات الوعيد لأصحاب الكبائر .
وقد اختلف أهل القبلة [ فيه ] فمنهم من قطع بوعيدهم وهم فريقان؛ منهم من أثبت الوعيد المؤبّد ، وهم جمهور المعتزلة والخوارج .
ومنهم من أثبت وعيداً منقطعاً ، وهو قول بشر المريسي .
ومنهم من قطع بأنه لا وعيد لهم ، وهو قول شاذّ ينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر .
والقول الثالث : أنّا نقطع بأنه سبحانه يعفو عن بعض العُصَاة ولكنا نتوقف في حقّ كل أحد على التعيين ، ونقطع بأنه إذا عَذَّبَ أحداً منهم ، فإنه لا يعذبه أبداً ، بل يقطع عذابه ، وهذا قول أكثر الأَصْحَاب والتابعين ، وأهل السنة والجماعة ، وأكثر الإمامية ، فيشتمل هذا البحث على مسألتين .
إحداهما : القطع بالوعيد .
والأخرى : إذا ثبت الوعيد ، فهل يكون ذلك على صفة الدوام أم لا؟ أما المعتزلة فإنهم استدلوا بالعمومات الواردة وهي على قسمين :
أحدهما : صيغة « من » في معرض الشرط .
والثاني : صيغة الجمع . فأما صيغة « من » في الشرط فإنها تفيد العُمُوم على ما ثبت في أصول الفقه ، فكلّ آية وردت في القرآن بصيغة « من » في الوعيد ، فقد استدلّت المعتزلة بها .
قالوا : لأنها تفيد العموم من وجوه :
أحدها : أنها لو لم تكن موضوعة للعموم لكانت إما موضوعة للخصوص ، أو مشتركة بينهما ، والقسمان باطلان ، فوجب كونها موضوعة للعموم .
أما بطلان كونها موضوعة للخُصُوص ، فلأنه لو كان كذلك لما حسن من المتكلّم أن يعطي الجزاء لكلّ من أتى بالشرط؛ لأنّ على هذا التقدير لا يكون ذلك الجزاء مرتباً على ذلك الشّرط لكنهم أجمعوا على أنه إذا قال : من دخل داري أكرمته أنه يحسن أن يكرم كلّ من دخل داره ، فعلمنا أن هذه اللفظة ليست للخصوص .
وأما بطلان كونها موضعة للاشتراك فلأمرين :
الأول : أنَّ الاشتراك خلاف الأصل .
والثاني : أنه لو كان ذلك لما عرف كيفية ترتّب الجزاء على الشرط إلاَّ بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة مثل أنه إذا قال : مَنْ دخل داري أكرمته ، فيقال له : أردت الرجال أو النساء؟ فإذا قال : أردت الرجال يقال له : أردت العرب أم العجم؟ فإذا قال : أردت العرب يقال له : أردت ربيعة أم مضر؟ وهلم جرّاً إلى إن يأتي على جميع التقسيمات المُمْكنة ، لما علمنا بالضرورة من عادة أهل اللسان قُبْحَ ذلك علمنا أن القول بالاشتراك باطل .
الوجه الثاني : صحة الاستثناء منهما ، فإن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل .
الوجه الثالث : أنه لما نزل قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] قال ابن الزبعرى : لأخصمن محمداً صلى الله عليه وسلم ثم قال يا محمد أليس قد عبدت الملائكة؟ أليس قد عبد عيسى ابن مريم ، فتمسك بعموم اللفظ والنبي عليه الصلاة لم ينكر عليه ذلك ، فدل ذلك على أن هذه الصيغة تفيد العموم .
النوع الثاني من دلائل المعتزلة : التمسّك في الوعيد بصيغة الجمع المعرفة بالألف واللام ، قال تعالى : { وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 14 ] فإنها تفيد العموم ، ويدل عليه وجوه :
أحدها : قول أبو بكر رضي الله عنه : « الائمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ » والأنصار سلموا له صحة تلك الحجة . ولما هَمّ بقتال مانعي الزكاة قال له عمر رضي الله عنه : أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم « اُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ » فاحتج عليه بهذا اللفظ بعمومه ، ولم يقل أبو بكر ولا أحد من الصحابة : إن اللفظ لا يفيده ، بل عدل إلى الاستثناء ، فقال إنه عليه الصلاة والسلام قال : « إِلاَّ بحَقِّهَا » .
الثاني : أن هذا الجمع يؤكّد بما يقتضي الاستغراق ، فوجب أن يفيد الاستغراق لقوله تعالى : { فَسَجَدَ الملاائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 30 ] وما كان كذلك فوجب أن يؤكد المؤكد في أصله الاستغراق؛ لأن هذه الألفاظ مسماة بالتأكيد أجماعاً ، والتأكيد هو تقوية الحكم الذي كان ثابتاً في الأصل .
الثالث : صحّة الاستثناء منه .
الرابع : أن المعرف يقتضي الكثرة فوق المنكر؛ لأنه يصح انتزع المنكر من المعرف ولا ينعكس ، ومعلوم أن المنتزع [ منه أكثر من المنتزع ] .
النوع الثاني : صيغ الجموع المقرونة بحرف « الذي كقوله تعالى : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى } [ النساء : 10 ] { الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة } [ النحل : 28 ] { والذين كَسَبُواْ السيئات } [ يونس : 27 ] { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة } [ التوبة : 34 ] { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات } [ النساء : 18 ] فلو لم يكن الفاسق من أهل الوعيد لم يكن له في التوبة حاجة .
النوع الثالث : لفظة » ما « كقوله { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } [ آل عمران : 180 ] .
النوع الرابع : لفظة » كل « كقوله : { وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ } [ يونس : 54 ] .
النوع الخامس : ما يدلّ على أنه سبحانه لا بد وأن يفعل ما توعدهم به وهو قوله : { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد 0 مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ } [ ق : 28 ، 29 ] صريح في أنه تعالى لا بد وأن يفعل ما دلّ اللفظ عليه ، وكذا الكلام في الصّيغ الواردة في الحديث .
والجواب من وجوه :
أحدها : لا نسلم أن صيغة » من « في [ معرض ] الشرط للعموم ، و لانسلّم أن صيغة الجمع إذا كانت معرفة بالألف واللام كانت للعوم ، والذي يدلّ عليه أمور :
الأول : أنه يصحّ إدخال لفظتي الكل والبعض على هاتين اللَّفظتين ، فيقال : كل من دخل داري أكرمته ، وبعض مَنْ دخل داري أكرمته ، ويقال أيضاً : كل الناس كذا ، وبعض الناس كذا ، ولو كانت لفظة » من « في معرض الشرط تفيد العموم لكان إدخال لفظة » كل « عليها تكريراً ، وإدخال لفظة » بعض « عليها نقضاً ، وكذلك في [ فلظ الجمع ] المعرف .
الثاني أن هذه الصيغ جاءت في كتاب الله تارةً للاستغراق ، وأخرى للبعض ، فإن أكثر العمومات مخصوصة ، والمجاز والاشتراك خلاف الأصل ، فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بين العموم والخصوص ، وذلك هو أن يحمل على إفادة الأكثر من غير بيان أن يفيد الاستغراق أو لا يفيد .
الثالث : أن هذه الصيغ لو أفادت العموم إفادة قطعية لاستحال إدخال لفظ التأكيد عليها؛ لأن تحصيل الحاصل مُحَال ، فحيث حسن إدخال هذه الألفاظ عليها علمنا أنها لا تفيد معنى العموم لا مَحَالة ، سلمنا أنها تفيد معنى ولكن إفادة قطعية أو ظنية ، والأول ممنوع وباطل قطعاً؛ لأن من المعلوم بالضرورة أنَّ الناس كثيراً ما يعبرون عن الأكثر بلفظ الكل ، والجمع على سبيل المبالغة كقوله تعالى : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 23 ] وإذا كانت هذه الألفاظ تفيد معنى العموم إفادة ظنية ، وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية ، سلّمنا أنها تفيد معنى العموم إفادة قطعية ، ولكن لا بد من اشتراط أَلاَّ يوجد شيء من المخصصات ، فإنه لا نزاع في جواز تطرق التخصيص إلى العام ، فلم قلتم : إنه لم يوجد شيء من المخصصات؟ أقصى ما في الباب أن يقال : بحثنا فلم نجد شيئاً من المخصصات ، لكن عدم الوِجْدَان لا يدلّ على عدم الوجود .
وإذا كانت إفادة هذه الألفاظ الاستغراق متوقفة على نفي المخصصات ، وهذا الشرط غير معلوم [ كانت الدلالة متوقفة على شرط غير معلوم ] فوجب ألاَّ تحصل الدلالة ، ومما يؤكد هذا قوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] حكم على كل الذين كفروا أنهم لا يؤمنون ، ثم إنا شاهدنا قوماً منهم قد آمنوا ، فعلمنا أنه لا بد من أحد الأمرين :
إما لأن هذه الصيغة ليست موضوعة للشمول ، أو لأنها وإن كانت موضوعة لهذا المعنى ، إلاَّ أنه قد وجدت قرينة في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يعلمون من أجلها أ ، مراد الله تعالى من هذا العموم هو الخصوص ، وأما ما كان هناك فَلِمَ يجوز مثله هاهنا؟ سلمنا أنه لا بد من بيان المخصص لكن آيات العفو مخصصة لها ، والرجحان معنا؛ لأن آيات العفو بالنسبة إلى آيات الوعيد خاصة بالنسبة إلى العام ، والخاصّ مقدم على العام لا محالة ، سلّمنا أنه لا يوجد المخصّص ، ولكن عمومات الوعيد مُعَارضة بعمومات الوعد ، ولا بدّ من الترجيح ، وهو معنى من وجوه :
أحدها : أنَّ الوفاء بالوعد أدخل في الكرم من الوفاء بالوعيد .
الثاني : أنه قد اشتهر في الأخبار أن رحمة الله سابقة على غضبه وغالبة عليه ، فكان ترجيح عمومات الوعد أولى .
الثالث : أن الوعيد حق الله تعالى والوعد حق العبد ، وحق العبد أولى بالتحصيل من حق الله تعالى ، سلّمنا أنه لم يوجد المعارض ، ولكن هذه العمومات نزلت في حق الكُفَّار ، فلا تكون قاطعة في العمومات .
فإن قيل : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبب .
قلنا : هَبْ أنه كذلك ، ولكن لما رأينا كثيراً من الألفاظ العامة وردت في الأسباب الخاصة ، والمراد تلك الأسباب الخاصة فقط علمنا أنّ إفادتها للعموم لا تكون قوية . والله أعلم .
فهذا أصل البَحْث في دلائل الفريقين ، وأما دلائل الفريقين من الكتاب والسُّنة فكثيرة ، فمنها على هذه الأصل حجّة من قال بالعفو في حق العبد ، [ وبعض ] الآيات الدالة على أنه تعالى غفور رحيم غافر غفار ، وهذا لا يحسن إلاّ في حق من يستحق العذاب .
[ فإن قيل ] : لم لا يجوز حمله على تأخير العِقَابِ كقوله في قصة اليهود : { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ } [ البقرة : 52 ] والمراد تأخير العقاب إلى الآخرة ، وكذا قوله : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] وكذا قوله : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } [ الشورى : 34 ] .
فالجواب : العفو أصله الإزالة من عَفَا أمره كما قال تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } [ البقرة : 178 ] وليس المراد منه التأخير إلى وقت معلوم ، بل الإسقاط المطلق ، فإن الغريم إذا أخر المطالبة لا يقال : إنه عفى فيه ، ولو أسقطه يقال : إنه عفى عنه .
الثانية : قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] وهذا يتناول صاحب [ الصغيرة وصاحب الكبيرة ] قبل التوبة؛ لأن الغفران للتائبين وأصحاب الصغائر واجب غير معلّق على المشيئة .
فإن قيل : لا نسلم أن تلك المغفرة تدلّ على أنه تعالى لا يعذب العُصَاة في الآخرة؛ لأن المغفرة إسقاط العقاب ، وهو أعم من إسقاطه دائماً أو لا دائماً واللفظ الموضوع بإزار القَدْرِ المشترك لا إشعار له بكل واحد ، فيجوز أن يكون المراد أن الله تعالى لا يؤخر عقاب الشرك في الدنيا لمن يشاء ، ويؤخر عقاب ما دون ذلك في الدنيا لمن يشاء . فحصل بذلك تخويف كل الفريقين .
سلمنا أنَّ الغفران عبارة عن الإسقاط على الدوام ، فلم لا يمكن حمله على مغفرة التائب ، ومغفرة صاحب الصغيرة؟
وأيضاً لا نسلم أن قوله : « مَا دُونَ ذَلِكَ » يفيد العموم لصحة إدخال لفظ « كل » و « بعض » على البدل ، [ مثل أن ] يقال : ويغفر كل ما دون ذلك ، وهو يمنع العموم .
سلمنا أنه للعموم ، ولكنا نخصصه بصاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة .
فالجواب : أما إذا حملنا المغفرة على التأخير ، وجب أن يكون عقاب المشركين في الدنيا أكثر [ من عقاب المؤمنين ] ، وإلاَّ لم يكن في التفضيل فائدة ، وليس كذلك لقوله تعالى : { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ } [ الزخرف : 33 ] .
قوله : لم قلتم : إن قوله : « مَا دُونَ ذَلِكَ » يفيد العموم؟
قلنا : لأن قوله « ما » تفيد الإشَارَة إلى الماهية الموصوفة بأنها دون الشرك وهذه الماهيّة ما هية واحدة ، وقد حكم قطعاً بأنه يغفرها ، ففي كل صغيرة متحقق فيها هذه الماهية وجب تحقق الغفران .
الثالثة : قال يحيى بن معاذ : إلهي إذا كان توحيد ساعة يَهْدم كفر خسمين سنة فتوحيد خمسين سنة كيف لا يهدم معصية ساعة إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات كان مقتضى العَدْل أن الإيمان لا يضر معه شيء من المعاصي لعمومات الوعد وهي كثيرة ثم نقول : لما وقع التعارض فلا بد من الترجيح وهو معنا من وجوه :
أحدها : أن عمومات الوعد أكثر ، والترجيح بكثرة الأدلة أمر معتبر في الشرع .
وثانيها : قوله تعالى : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } [ هود : 114 ] [ يدلّ على أن الحسنة إنما كانت مذهبة للسيئة لكونها حسنة ، فوجب أن تكون كل حسنة مذهبة لكل سيئة ] ترك العمل به في حسنات الكُفَّار ، [ فإنها لا تذهب سيئاتهم ] فيبقى معمولاً به في الباقي .
وثالثها : تضعف الحسنة ، كما قال تعالى : { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ } [ البقرة : 261 ] ثم زاد فقال : « وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ » وفي جانب السَّيئة قال : { وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا } [ الأنعام : 160 ] .
ورابعها : قال في آية الوعد : { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ الله حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً } [ النساء : 122 ] .
ذكره للتأكيد ولم يقل في شيء من المواضع وعيد الله حقّاً .
وخامسها : أن القرآن مملوء من كونه تعالى غافراً غفوراً رحيماً كريماً عفوّاً رحماناً .
والأخبار في هذا قد بلغت حدّ التواتر ، وكل ذلك يوجب رُجْحَان الوعد ، وليس في القرآن ما يدل على أنه تعالى بعيد عن الرحمة والكرم والعفو ، وكل ذلك يوجب رُجْحَان جانب الوعد .
سادسها : أن الإنسان [ هذا أتى ] بأفضل الخيرات وهو الإيمان ولم يأت بأقبح القبائح وهو الكفر [ بل أتى بالبشر الذي هو في طبقة القبائح ليس في الغاية والسيد إذا أتى عبده من الطاعات ، وأتى بمعصية متوسطة ، فلو تولى بتلك المعصية على الطاعة لعد لئيماً مؤذياً ] .
فصل في الاستدلال بالآية
قد شُرِطَ في هذه الآية شرطان :
أحدهما : اكتساب السّيئة .
والثاني : إحاطة تلك السيئة بالعَبْدِ ، وذلك يدل على أنه لا بُدّ من وجود الشرطين ولا يكفي وجود أحدهما ، وهذا يدل على أن من عقد اليمين على شرطين في طلاق أو أعتاق أنه لا يحنث بوجود أجدهما .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
اعلم أنه سبحانه وتعالى : ما ذكر في القرآن آية وعيد إلا وذكر في جنبها آية وَعْد ، وذلك لفوائد :
أحدها : أن يظهر سبحانه بذلك عدله؛ لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصّرين على الكفر ، وجب أن يحكمم بالنَّعيم الدائم على المصرين على الإيمان .
وثانيهما : أنّ المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه على ما قال عليه الصلاة والسلام : « المؤمن لَوْ وَزِنَ خُوْفُهُ وَرَجَاؤهُ لاَعْتَدَلاَ » وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق .
وثالثها : أن يظهر بوعده كمال رحمته وبوعيده كما حِكْمته ، فيصير ذلك سبباً [ للعرفان ] .
فإن قيل : دلّت الآية على أنْ العمل الصالح خارج عن الإيمان؛ لأنه لو دلّ الإيمان على العمل الصالح لعد الإيمان تكريراً .
أجاب القاضي : بأن الإيمان وإن كان يدخل فيه جميع الأعمال الصالحة إلاّ أن قوله : « آمن » لا يفيد إلا أنه فعل فعلاً واحداً من أفعال الإيمان ، فلهذا حسن أن يقول : « وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ .
والجواب : أن فعل الماضي يدلّ على حصول المصدر في زمان معين والإيمان هو المصدر فلو دلّ ذلك على جميع الأعمال الصالحة لكان قوله : » آمَنَ « دليلاً على صدور تلك الأعمال منه .
فصل في مرتكب الكبيرة
هذه الآية تدلّ على أن صاحب الكبيرة قد يدخل الجنة؛ لأنه أتى بالإيمان والأعمال الصالحات ، ثم أتى بعد ذلك بالكبيرة ، ولم يَتُبْ عنها ، فهذا الشَّخص قبل إتيانه بالكبيرة كان قد صدق عليه أنه آمن ، وعلم الصالحات [ في ذلك الوقت ، ومن صدق عليه ذلك قوله : » أُولَئِكَ أًصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ « .
فإن قيل قوله تعالى : » وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ « لا يصدق عليه إلا إذا أتى بجميع [ الأعمال ] ، ومن جملة الصَّالحات التوبة ، فإذا لم يأت بها لم يكن آتياً بالصالحات ، فلا يندرج تحت [ الآية ] .
قلنا : [ لو سلمنا أنه قبل ] الإتْيَان بالكبيرة [ صدق ] عليه أنه آمن وعمل الصالحات [ لأنه متى صدق المركب يجب صدق المفرد ، بل إنه إذا أتى بالكبيرة لم يصدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات ] في كل الأوقات ، لكن قولنا : آمن وعمل الصالحات أعم من قولنا : إنه كذلك في كل الأوقات ، أو في بعض الأوقات ، والمعتبر في الآية هو القَدْرُ المشترك ، فثبت أنه مندرج تحت حكم الوَعْدِ .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
« إذْ » معطوف على الظرف قبله ، وقد تقدم ما فيه من كونه متصرفاً أو لا .
و « أّخَذْنَا » في محلّ خفض ، أي : واذكر وَقْت أَخْذنا ميثاقهم ، أو نحو ذلك .
« لا تَعْبُدُونَ » قرأ ابن كثير وغيره والكِسائي بالياء ، والباقون بالتاء .
فمن قرأ فلأن الأسماء الظَّاهرة حكمها الغيبة ، ومن قرأ بالخطاب هو الْتِفَات ، وحكمته أنه أدعى لِقَبُول المخاطب الأمر والنهي الواردين عليه .
وجعل أبو البقاء قراءة الخِطَاب على إضمار القول .
قال : يقرأ بالتاء على تقدير : قلنا لهم : لا تعبدون إلا الله وكونه التفاتاً أحسن .
وفي هذه الجملة المنفيّة من الإعراب ثمانية أوجه :
أظهرها : أنها مفسرة لأخذ الميثاق ، وذلك لأنه تعالى لما ذكر أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل كان ذلك في إبْهَام للميثاق ما هو؟ فأتى بهذه الجُمْلة مفسرة له ، ولا محلّ لها حينئذ من الإعراب .
الثاني : أنها في محلّ نصب على الحال من « بَنِي إِسْرَائِيْلَ » وفيها حينئذ وجهان :
أحدهما : أنها حال مقدّرة بمعنى : أخذنا ميثاقهم مقدّرين التوحيد أبداً ما عاشوا .
والثَّاني : أنَّها حال مقارنة بمعنى : أخذنا مِيْثَاقهم ملتزمين الإقامة على التوحيد ، قاله أبو البقاء [ وسبقه إلى ذلك قطرب والمبرد ] .
وفيه نظر من حيث مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذلك على الصحيح ، خلافاً لمن أجاز مجيئها من المُضَاف إليه مطلقاً ، لا يقال : المضاف إليه معمول له في المعنى ل « ميثاق » ؛ لأن ميثاقاً إما مصدر أو في حكمه ، فيكون ما بعده إما فاعلاً أو مفعولاً ، وهو غير جائز « لأن من شرط عمل المصدر غير الواقع موقع الفعل أن ينحل إلى حرف مصدري ، وفعل هذا لا ينحل لهما ، لو قدرت : وإذ أخذنا أن نواثق بني إسرائيل ، أو أن يواثقنا بنو إسرائيل ، لم يصح ألا ترى أنك لو قلت : أخذت علم زيد لم يتقدر بقول : أخذت أن يعلم زيد ، ولذلك منع ابن الطَّراوة في ترجمة سيبويه : » هذا باب علم ما الكلم من العربية « أن يقدر المصدر بحرف مصدري والفعل ، ورده وأنكر على من أجازه .
الثالث : أن يكون جواباً لقسم محذوف دلّ عليه لفظ المِيْثَاق ، أي : استحلفناهم ، أو قلنا لهم : بالله لا تعبدون ، ونسب هذا الوجه لسيبويه ، ووافقه الكسائي والفَرّاء والمبرد .
الرابع : أن يكون على تقدير حذف حرف الجر ، وحذف » أن « ، والتقدير : أخذنا ميثاقهم على ألاَّ تعبدوا ، فَحُذِف حرف الجر؛ لأن حذفه مطرد مع » أنَّ وأنْ « كما تقدم ، ثم حذفت » أن « الناصبة ، فارتفع الفعل بعدها؛ كقول طرفة : [ الطويل ]
613 أَلاّ أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الْوَغَى ... وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ ، هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي
وحكي عن العرب : « مُرْهُ يَحْفِرَهَا » أي : بأن يحفرها ، والتقدير : عن أن يحضر ، أو بأن يحفرها ، وفيه نظر ، فإن [ إضمار ] « أن » لا ينقاس ، إنما يجوز في مواضع عدها النحويون ، وجعلوا ما سواها شاذّاً قليلاً ، وهو الصحيح خلافاً للكوفيين ، وإذا حذفت « أن » ، فالصحيح جواز [ النصب والرفع ] ، وروي « مُرْهُ يَحْفِرهَا » و « أحضر الوَغَى » بالوجهين ، وهذا رأي المبرد والكوفيين خلافاً لأبي الحسن ، حيث التزم رفعه .
وأيد الزمخشري هذا الوجه الرابع بقراءة عبد الله : « لاَ تَعْبُدُوا » على النهي ، قال : إلاَّ أنه جاء على لفظ الخبر لقوله تعالى : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } [ البقرة : 233 ] ، قال : والذي يؤكد كونه نهياً [ قوله : « وأقيموا الصلاة » ] فإنه تنصره قراءة عبد الله وأُبي : « لا تعبدوا » .
الخامس : أن يكون في محلّ نصب بالقول المحذوف ، وذلك القول حال تقديره : قائلين لهم : لا تعبدون إلا الله ، ويكون خبراً في معنى النهي ، ويؤيده قراءة أُبَي المتقدمة ، ولهذا يصح عطف « قُولُوا » عليه ، وبه قال الفَرّاء .
السادس : أَنَّ « أنْ » الناصبة مضمرة كما تقدم ، ولكنها هي وما في حَيّزها في محلّ نصب على أنها بدل من « مِيْثَاق : ، وهذا قريب من القول الأول من حيث إن هذه الجملة مفسرة للميثاق ، وفيه النظر المتقدم أعني حذف أن في غير المواضع المقيسة .
السابع : أن يكون منصوباً بقول محذوف ، وذلك القول ليس حالاً ، بل مجرد أخبار ، والتقدير : وقلنا لهم ذلك ، ويكون خبراً في معنى النهي .
قال الزمخشري : كما تقول : تذهب إلى فلان تقول له : كذا تريد الأمر ، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي؛ لأنه كأنه سُورعَ إلى الامتثال والانتهاء ، فهو يخبر عنه ، وتَنْصره قراءى عبد الله وأُبَيّ : » لاَ تَعْبُدُوا « ولا بد من إرادة القول بهذا .
الثامن : أن يكون التقدير : » ألاَّ تَعْبُدُونَ « وهي » أن « المفسرة؛ لأن في قوله : أخَذْنَا مِيْثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ » إيهاماً كما تقدم ، وفيه معنى القول ، ثم حذف « أن » المفسرة ، ذكره الزَّمخشري .
وفي ادعاء حذف حرف التفسير نظر لا يخفى .
قوله : « إِلاَّ اللهَ » استثناء مفرغ؛ لأن ما قبله مفتقر إليه وقد تقدم تحقيقه أولاً .
وفيه التفات من التكلّم إلى الغيبة ، إذ لو جرى الكَلاَم على نسقه لقيل : لا تعبدون إلاَّ إيانا ، لقوله : « أَخّذْنَا » .
وفي هذا الالتفات من الدّلالة على عظم هذا الاسم والتفرد به ما ليس في المضمر ، وأيضاً الأسماء الواقعة ظاهرة ، فناسب أن يجاوز الظاهرُ الظاهرَ .
فصل في مدلول « الميثاق »
هذا الميثاق يدلّ على تمام ما لا بد منه في الدينن لأنه تعالى لما أمر بعبادته ، ونهى عن عبادة غيره ، وذلك مسبوق بالعِلْمِ بذاته سبحانه ، وجميع ما يجب ويجوز ويستحيل عليه ، وبالعلم بوحدانيته وبراءته عن الأضداد والأنداد ، ومسبوق أيضاً بالعلم بكيفية تلك العبادة الَّتِي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوَحْي والرسالة ، فقوله : « لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ » يتضمّن كلّ ما اشتمل عليه الكلام والفقه والأحكام .
وقال مكّي : « هذه الميثاق هو الذي أخذه عليهم حين أخرجوا من ظهر آدم كالذَّر » و « بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً » فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن تتعلق الباء ب « إحساناً » على أنه مصدر واقع [ موقع } فعل الأمر ، والتقدير وأحسنوا وبالوالدين ، والباء ترادف « إلى » في هذا المعنى ، تقول : أحسنت به وإليه ، بمعنى أن يكون على هذا الوجه ثَمَّ مضافٌ محذوف ، وأحسنوا بر الوالدين بمعنى : أحسنوا إليهما برّهما .
قال ابن عطية : يعترض على هذا القول ، أن يتقدّم على المصدر معمولُهُ ، وهذا الاعتراض لا يتم على مَذْهَب الجمهور ، فإن مذهبهم جواز تقديم معمول المَصْدر النَّائب عن فعل الأمر عليه ، تقول : « ضرباً زيداً » وإن شئتك « زيداً ضرباً » وسواء عندهم إن جعلنا العمل للفعل المقدر ، أم للمصدر النائب عن فعله ، فإن التقديم عندهم جائز ، وإنما بمتنع تقدم معمول المَصْدر المنحل لحرف مصدري والفعل كما تقدم وإنما يتم على مذهب أبي الحسن ، فإنه منع تقديم معمول المصدر النائب عن الفعل ، ويخالف الجمهور في ذلك .
الثاني : أنها متعلّقة بمحذوف وذلك المحذوف يجوز أن يقدر فعل أمر مُرَاعاة لقوله : « لاَ تَعْبُدُونَ » فإنه في معنى النهي كما تقدم ، كأنه قال : لا تبعدوا إلا الله وأحسنوا بالوالدين ، ويجوز أن يقدر خبراً مراعاة لِلَفْظِ « لاَ تَعْبُدُونَ » والتقدير : وتحسنون [ وإن كان معناه الأمر ، وبهذين ] الاحتمالين قدره الزمخشري ، وينتصب « إحساناً » حينئذ على المصدر المؤكّد لذلك الفعل المحذوف .
وفيه نظر من حيث إن حذف عامل المؤكّد منصوصٌ على عدم جوازه ، وفيه بحث ليس هذا موضعه .
الثالث : أن يكون التقدير : واستوصوا بالوالدين ، ف « البَاء » متعلّقة [ بهذا الفعل المقدر ] أيضاً ، وينتصب « إحساناً » حينئذ على أنه مفعول به .
الرابع : تقديره : وَوَصَّيْنَاهُمْ بالوالدين ، فالباء متعلّقة بالمحذوف أيضاً ، وينتصب « إحساناً » [ حينئذ ] على أنه مفعول لأجله ، أي : لأجل إحساننا إلى الموصى بهم من حيث إنّ الإحسان متسبّب عن وصيتنا بهم ، أو الموصى لما يترتب الثواب منّا لهم إذا أحسنوا إليهم .
الخامس : أن تكون الباء وما عملت فيه عطفاً على قوله : « لاَ تَعْبُدُونَ » إذا قيل بأن « أن » المصدرية مقدرة فينسبك منها ومما بعدها مصدر يعطف عليه هذا المجرور ، والتقدير : أخذنا ميثاقهم بإفراد الله بالعبادة وبالوالدين ، أ ي : وببرّ الوالدين ، أو : بإحسان إلى الوالدين ، فتتعلّق « الباء » حينئذ ب « الميثاق » لما فيه من مَعْنَى الفعل ، فإن الظرف وشبهه تعمل فيه رَوَائح الأفعال ، وينتصب « إحساناً » حينئذ على المصدر من ذلك المضاف المحذوف ، وهو « البر » لأنه بمعناه ، أو الإحسان الذي قدرناه .
والظّاهر من هذه الأوجه هو الثَّاني ، لعدم الإضمار اللازم في غيره ، أو لأن ورود المصدر نائباً عن فعل الأمر مطّرد شانع .
وإنما تقدّم المعمول اهتماماً به وتنبيهاً على أنه أولى بالإحسان إليه ممن ذُكِرَ معه .
و « الَوالِدَان » الأب والأم ، يقال لكل واحدٍ منهما : والد؛ قال : [ الطويل ]
614 عَجِبْتُ لمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ ... وَدْي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أِبَوَانِ
وقيل : لا يقال في الأم : والدة بالتاء ، وإنما قيل فيها وفي الأب : والدان تغليباً للذكر .
و « الإحسان » : الإنعام على الغير .
وقيل : بل هو أعم من الإنعام .
وقيل : هو النَّافع لكل شيء .
فصل في وجوه ذكر البر بالوالدين مع عبادة الله
قال ابن الخَطِيْبِ : إنما أراد عبادة الله بالإحْسَان إلى الوالدين لوجوه :
أحدها : أن نعمة الله على العَبْدِ أعظم النعم ، فلا بد من تقديم شكره على شُكْرِ غيره ، ثم بعد نعمة الله فنعمة الوالدين أعظم النّعم؛ لأن الوالدين هما الأصل في وجود الولد ، ومنعمان عليه بالتربية ، فإنعامهما أعظم والإنْعَام بعد إنعام الله تعالى .
وثانيها : أن الله سبحانه وتعالى المؤثر في وجود الإنْسَان في الحقيقة ، والوالدان مؤثران في وجوده بحسب العُرْفِ الظاهر ، فلأنه المؤثر الحقيقي أردفه بذكر المؤثر بحسب العرف الظَّاهر .
وثالثها : أن الله سبحانه وتعالى لا يطلب على إنعامه على العبد عوضاً ألبتَّة ، وإنعام الوالدين كذلك ، فإنهما لا يطلبان على الإنعام على الولد عوضاً .
ورابعها : أن الله لا يملّ من الإنعام على العبد ، ولو أتى العبد بأعظم الجرائم ، فإنه لا يقطع عنه مواد نعمه ، وكذلك الوالدان لا يملاَّن الولد ولا يقعطان عنه موادتهما وإن كان الولد مسيئاً إلى الوالدين .
وخامسها : كما أن الوالد المشفق يتصرّف في مال ولده بالاسْتِرْبَاح ، وطلب الزيادة ويصونه عن البخس والنقصان ، فكذلك الحقّ سبحانه وتعالى يتصرف في طاعة العبد ، فيصونها عن الضياع ويضاعفها كما قال : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ } [ البقرة : 261 ] .
فلما تشابها من هذه الحيثيات كانت نعم الوالدين قليلة بالنسبة إلى نِعَمِ الله تعالى ، [ بل النعم كلها من الله تعالى فلا ] جَرَمَ ذكر الإحسان إلى الوالدين عقب ذكر عبادة الله تعالى .
فصل في وجوب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين
اتفق أكثر العلماء على أنه يجب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين لقوله في هذه الآية : « وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً » بغير تقييد بكونهما مؤمنين أم لا ، وقد ثبت في أصول الفقه أن الحكم المرتب على الوصف يشعر بغلبة الوصف فالأمر بتعظيم الوالدين لمحض كونهما وَالدَيْن ، وذلك يقتضي العموم ، وهكذا الاستدلال بقوله تعالى :
{ فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } [ الإسراء : 23 ] وهذا نهاية المبالغة في المنع من إيذائهما إلى أن قال : { وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [ الإسراء : 24 ] فصرّح ببيان السّبب في وجوب هذا التعظيم ، وكذلك قوله : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] وقوله تعالى : { وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً } [ لقمان : 15 ] صريح في الدّلالة .
و « ذِي الْقُرْبى » وما بعده عطف على المجرور بالباء ، وعلامة الجر فيها الياء؛ لأنها من الأسماء الستة التي ترفع بالواو ، وتنصب بالألف ، وتجر بالياء بشروط مذكورة ، وهل إعرابها بالحروف أو بغيرها؟ عشرة مذاهب للنَّحويين فيها .
وهي من الأسماء اللاَّزمة للإضافة لفظاً ومعنى إلى أسماء الأجناس الظاهرة؛ ليتوصّل بذلك إلى وصف النكرة باسم الجنس؛ نحو : « مَرَرْتُ بِرَجُلٍ ذِي مَالٍ » وإضافته إلى المضمر ممنوعةٌ إلا في ضرورة أو نادر كلام؛ كقوله : [ الوافر ]
615 صَبَحْنَا الْخزرَجِيَّةَ مُرْهَفَاتٍ ... أَبَانَ ذَوِي أَرُومَتِهَا ذَوُوهَا
وأنشد الكسائِيُّ : [ الرمل ]
616 إِنَّما يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ ... في النَّاسِ ذَوُوهُ
وعلى هذا قولهم : « اللهم صَلِّ على محمد وذويه » .
وإضافته إلى العلم قليلة جدًّا ، وهي على ضربين :
واجبة : وذلك إذا اقترنا وضعاً ، نحو : « ذي يزن » و « ذي رعين » .
وجائزة وذلك إذا لم يقترنا وضعاً ، نحو : « ذي قطري » و « ذي عمرو » أي : صاحب هذا الاسم .
وأقل من ذلك إضافتها إلى ضمير المخاطب؛ كقوله : [ الطويل ]
617 وَإِنَّا لَنَرْجُو عَجِلاً مِنْكَ مِثْلَ مَا ... رَجَوْنَاهُ قِدْماً مِنْ ذَوِيكَ الأَفَاضِلِ
وتجيء « ذو » موصولة بمعنى « الَّذِي » وفروعه ، والمشهورُ حينئذ بِنَاؤها وتذكيرها ، ولها أحكام كثيرة .
و « القربى » مضاف إليه ، وألفه للتَّأنيث ، وهو مصدر ك « الرُّجْعَى والعُقْبَى » ، ويطلق على قرابة الصُّلْب والرَّحِم؛ قال طَرَفَةُ : [ الطويل ]
618 وَظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً ... عَلَى الْحُرِّ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ
وقال أيضاً : [ الطويل ]
619 وَقَرَّبْتُ بالْقُرْبَى وَجَدِّكَ إِنَّهُ ... مَتَى يَكُ أَمْرٌ لِلنَّكِيثَةِ أَشْهَدِ
والمادة تدلّ على الدّنو عند البعد .
فصل
اعلم أن حقّ ذوي القُرْبى كالتَّابع لحق الوالدين؛ لأن اتصال الأقارب بواسطة اتِّصَال الوالدين ، فلذلك أَخَّر الله تَعَالى ذكرهم بعد ذكر الوالدين ، والسبب في تأكيد رعاية هذا الحق إلى القرابة؛ لأن القرابة مظنّة الاتِّحَاد والأُلْفَة والرعاية والنصرة ، فهذا وجبت رعاية حُقُوق الأَقَارب .
فصل في أحكام تؤخذ من الآية
قال الشَّافعي رضي الله عنه : لو أوصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث المَحرم ، وغير المَحرَم ، ولا يدخل الأب والابن؛ لأنها لا يعرفان بالقَرابَة ، ويدخل الأحفاد والأجداد .
وقيل : لا يدخل الأصول والفروع .
وقيل : يدخل الكلّ .
قال الشافعي : يرتقي إلى أقرب جدّ ينسب هو إليه ويعرف به ، وإن كان كافراً .
وذكر أصحابه في مثاله : لو أنه أوصى لأقارب الشافعي ، فإنا نصرفه إلى بني شَافعٍ دون بني المطّلب ، وبني عبد مناف ، وإن كانوا أقارب؛ لأنّ الشّافعي ينتسب في المشهور إلى بني شافع دون عبد مَنَاف .
قال الغَزَالي : وهذا في زمان الشَّافعي ، أما في زماننا فلا ينصرف إلاَّ إلى أولاد الشافعي ولا يرتقي إلى بني شافع؛ لأنّه أقرب من يعرف به أقاربه في زماننا ، أما قرابة الأم ، فإنها تدخل في وصيّة العجم ، ولا تدخل في وصيّة العرب الأَظْهر؛ لأنهم لا يعدون ذلك قَرَابةً أما لو قال : لأرحام فلان دخل قَرَابَة الأب والأم .
قوله : « وَاليَتَامَى » وزنه « فَعَالى » ، وألفه للتأنيث ، وهو جمع « يتيم » ك « نديم ونَدَامى » ولا ينقاس هذا الجمع .
وقال ابن الخطيب : جمعه « أَيْتَام ويتامى » واليُتْم : الانفراد ، ومنه اليتيم؛ لانفراده عن أبويه أو أحدهما ، ودرة يتيمة : إذا لم يكن لها نظير .
وقيل : اليَتَيم : الإبطاء ، ومنه : صبي يتيم؛ لأنه يبطىء عنه البرّ وقيل : هو التغافل ، لأن الصبيّ يتغافل عما يصلحه .
قال الأَصْمَعيّ : « اليتيم في الآدميين من فَقَدَ الآباء ، وفي غيرهم من فقد الأمّهات » .
وقال المَاوَرْدِي : إن اليتم أيضاً في الناس من قبل فقد الأمهات .
والأول هو المعروف عند أهل اللغة ، ويسمى يتيماً إلى أن يبلغ ، يقال : يَتِمَ يَيْتَم يَتْماً مثل : سَمِعَ يَسْمعُ سَمْعاً ويَتُمَ يَيْتُم يُتْماً مثل : عَظُمَ يَعْظُم عُظْماً ، فهاتان لُغَتان مشهورتان حكاهما الفرَّاء ، ويقال : أيتمه الله إيتاماً ، أي : فعل به ذلك .
وعلامة الجَرّ في « القربى » و « اليَتَامى » كسرة مقدرة على الألف ، وإن كانت للتأنيث؛ لأنَّ ما لا ينصرف إذا أضيف أو دخلته « أل » انجزّ بالكسرة ، وهل يسمّى حينئذ منجرّاً أو منصرفاً .
ثلاثة أقوال ، يفصل في الثالث بين أن يكون أحدَ سببيه العلمية ، فيسمى منصرفاً نحو : « يَعْمُرُكُمْ » أو لا يسمى منجراً نحو : « بالأحمر » ، و « القربى واليتامى » من هذا الأخير .
فصل في رعاية اليتيم
[ اليتيم كالتالي ] لرعاية حقوق الأقارب؛ لأنه لصغره لا ينتفع به وليتمه وخلوه عمن يقوم به يحتاج إلى من ينفعه ، والإنسان قلّما يرغب في صُحبة مثل هذا ، وإن كان هذا التكليف شاقّاً على الأنفس لا جَرَمَ كانت درجته عظيمةً في الدين .
قال عليه الصلاة والسلام : « أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيْمِ كَهَاتَيْنِ فِي الجَنَّةِ » وأشار بالسَّبَّابة والوسطى . وقال عله الصلاة والسلام : [ « مَا قَعَدَ يَتِيْم مع قَوْم عَلَى قَصْعَتِهِمْ فَيقرب قَصْعَتَهُمُ الشَّيْطَانُ » وقال عليه السلام ] : « مَنْ ضَمَّ يَتِيْماً مِنْ بَيْنِ المُسْلِميْنَ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ حَتَّى يُغْنِيَهُ اللهًُ عَزَّ وَجَلَّ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلاً لاَ يُغْفَرُ » .
قوله : « والمساكين » جمع « مسكين » ، ويسمونه جمعاً لا نظير له من الآحاد ، وجمعاً على صيغة منتهى الجُمُوع ، وهو من العِلَلِ القائمة مقام علّتين ، وسيأتي تحقيقه قريباً إن شاء الله تعالى .
وتقدم القول في اشتقاقه عند ذكر المسكنة .
واختلف فيه : هل هو بمعنى الفقير أو أسوأ حالاً منه كقوله : { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } [ البلد : 16 ] أي : لصق جلده بالتراب ، وهو قول أبي حنيفة وغيره بخلاف القير؛ فإن له شيئاً ما .
قال : [ البسيط ]
620 أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ... وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَم يُتْرَكْ لَهُ سَبدُ
أو أكمل حالاً؛ لأن الله جعل لهم ملكاً ما ، قال : { أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } [ الكهف : 79 ] وهو قول الشافعي وغيره .
فصل
إنما تأخّرت درجتهم عن اليتامى؛ لأن المِسْكين قد ينتفع به في الاستخدامن فكان الميل إلى مُخَالطته أكثر من المَيْل إلى مُخَالطة اليتامى ، وأيضاً المسكين يمكنه الاشتغال بتعهّد نفسه ، ومصالح معيشته ، واليتيم ليس كذلك ، فلا جَرَمَ قدم الله ذكر اليتيم على المسكين .
قال : عليه الصَّلاة والسلام : « السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ والمِسْكِينَ كَالمُجَاهِدِ فِي سَبِيْلِ اللهِ وأحسبه قال وَكَالقَائِمِ لاَ يَفْتُرُ مِنْ صَلاَةٍ وَكَالصَّائم لاَ يُفْطِرُ » .
قال ابن المنذر : كان طاوس يرى السَّعي على الأخواب أفضل من الجهاد في سبيل الله .
قوله : « وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً » هذه الجملة عَطْفٌ على قوله : « لاَ تْعُبُدُونَ » في المعنى ، كأنه قال : لا تعبدوا إلا الله ، وأحسنوا بالوالدين وقولوا ، أو على « أحسنوا » المقدر ، كما تقدم تقريره في قوله تعالى : « وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً » .
وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً لقول محذوف تقديره : وقلنا لهم : قولُوا .
وقرأ حمزة والكسائي : « حَسَناً » بفتحتين ، و « حُسُناً » بضمتين ، و « حُسْنَى » من غير تنوين ك « حُبْلى » و « إِحْسَاناً » من الرباعي .
فأما من قرأ : « حُسْناً » بالضم والإسكان ، فيحتمل أوجهاً :
أحدها وهو الظَّاهر أنه مصدر وقع صفةً لمحذوف تقديره : وقولوا للناس حُسناً أي : ذا حسن .
الثاني : أن يكون وصف به مُبَالغة كأنه جعل القول نفسه حسناً .
الثالث : أنه صفة على وزن « فُعْل » ، وليس أصله المصدر ، بل هو كالحلو والمر ، فيكون بمعنى « حَسَنٍ » بفتحتين ، فيكون فيه لغتان : حُسْن وحَسَن ك « البُخْل والبَخَل ، والحُزْن والحَزَن ، والعُرْب والْعَرب » .
الرابع : أنه منصوب على المَصْدر من المعنى ، فإن المعنى : وَلْيَحْسُنْ قَوْلُكم حُسْناً .
وأما قراءة : « حَسَناً » بفتحتين فصفة لمصدر محذوف تقديره : قولاً حسناً ، كما تقدم في أحد أوجه « حُسْناً » .
وأما « حُسْناً » بضمتين ، فضمة السين لإتباع الحاء ، فهو بمعنى « حُسْناً » بالسكون ، وفيه الأوجه المتقدمة .
وأما « حُسْنَى » بغير تنوين فمصدر ك « البُشْرَى والرُّجْعَى » .
وقال النحاس في هذه القراءة : ولا يجوز هذا في العربية ، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام ، نحو : الكُبْرَى والفُضْلى . هذا قول سيبويه ، وتابعه ابن عطية على هذا ، فإنه قال : ورده سيبويه؛ لأن « أفعل » و « فعلى » لا يجيء إلا معرفة إلاَّ أن يزال عنها معنى التَّفضيل ، ويبقى مصدراً ك « العُقْبى » ، فذلك جائز ، وهو وجه القراءة بها . انتهى وناقشه أبو حيان وقال : في كلامه ارْتباك؛ لأنه قال : لأن « أفعل » و « فعلى » لا يجيء إلا معرفة ، وهذا ليس بصحيح .
أما « أَفْعل » فله ثلاثة استعمالات .
أحدها : أن يكون معها « مِنْ » ظاهرة أو مقدرة ، أو مضافاً إلى نكرة ، ولا يتعرف في هذين بحال .
الثاني : أن تدخل عليه « أل » فيتعرف بها .
الثالث : أن يضاف إلى معرفة فيتعرف على الصحيح .
وأما « فُعْلى » فلها استعمالان :
أحدهما : بالألف واللام .
والثاني : الإضافة لمعرفة ، وفيها الخلاف السابق .
وقوله : « إلا أن يزال عنها معنى التفضيل ، وتبقى مصدراً » ظاهر هذا أن « فُعْلى » أنثى « أفعل » إذا زال عنها معنى التفضيل تبقى مصدراً وليس كذلك ، بل إذا زال عن « فعلى » أنثى « أفعل » معنى التفضيل صارت بمنزلة الصفة التي لا تفضيل فيها؛ ألا ترى إلى تأويلهم « كُبْرى » بمعنى كبيرة ، « وصُغْرى » بمعنى صغيرة ، وأيضاً فإن « فعلى » مصدر لا يَنْقَاسُ ، إنما جاءت منها الألفاظ ك « العُقْبَى والبُشْرَى » ثم أجاب الشيخ عن هذا الثاني بما معناه أن الضمير في قوله : « عنها » عائد إلى « حسنى » لا إلى « فعلى » أنثى « أفعل » ، ويكون استثناء منقطعاً كأنه قال : إلا أن يزال عن « حسنى » التي قرأ بها أُبَيّ معنى التفضيل ، ويصير المعنى : إلا أن يُعْتقد أن « حسنى » مصدر لا أنثى « أفعل » .
وقوله : « وهو وجه القراءة بها » أي والمصدر وجه القراءة بها . وتخريج هذه القراءة على وجهين :
أحدهما : المصدر ك « البُشْرى » وفيه الأوجه المتقدمة في « حسناً » مصدراً ، إلا أنه يحتاج إلى إثبات « حُسْنى » مصدراً من قول العرب : حَسُن حُسْنَى ، كقولهم : رَجَع رُجْعَى ، إذا مجيء « فُعْلى » مصدراً لا يَنْقَاسُ .
والوجه الثاني : أن تكون صفةً لموصوف محذوف ، أي : وقولوا للناس كلمةً حُسْنَى ، أو مقالةً حسنى ، وفي الوصف بها حينئذ وجهان :
أحدهما : أن تكون للتفضيل ، ويكون قد شَذَّ استعمالها غير معرفة ب « ألْ » ، ولا مضافة إلى معرفة ، كما شذَّ قوله : [ البسيط ]
621 وَإِنْ دَعَوتِ إِلَى جُلَّى وَمَكْرُمَةٍ ... يَوْماً سَرَاةَ كِرَامِ النَّاسِ فَادْعِينَا
وقوله : [ الرجز ]
622 في سَعْي دُنْيَا طَالَمَا قَدْ مَدَّتِ ... والوجه الثاني : أن تكون لغير التفضيل ، فيكون معنى حُسْنى : حَسَنة ك « كبرى » في معنى كبيرة ، أي : وقولوا للناس مَقَالة حَسَنة ، كما قال : يوسف أحسن إخوته في معنى حسن إخوته انتهى .
وبهذا يعلم فساد قول النحاس .
وأما من قرأ : « إحساناً » فهو مصدر وقع صفةً لمصدر محذوف ، أي : قولاً إحساناً [ وفيه تأويل مشهور ] ، ف « أحساناً » مصدر من أحسن الذي همزته للصيرورة ، أي : قولاً ذا حُسْن ، كما تقول : أعشبت الأرض ، أي : صارت ذا عُشْب .
فإن قيل : لم خوطبوا ب « قُولوا » بعد الإخبار؟
فالجواب من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه على طريقة اللْتِفَاتِ ، كقوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] .
الثاني : فيه حذف ، أي : قلنا لهم : قولوا .
الثالث : الميثاق لا يكون إلا كلاماً كأنه قيل : قلت : لا تعبدوا وقولوا .
فصل في بيان هل الكفار داخلون في المخاطبة بالحسنى
قال بعضهم : إنما يجب القول الحسن مع المؤمنين ، أما مع الكُفّار والفُسَّاق فلا ، بدليل أنه يجب لعنهم وذمّهم ومحاربتهم ، فكيف يمكن أن يكون القول معهم حسناً ، وأيضاً قوله تعالى : { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [ النساء : 148 ]
والقائلون بهذا القول منهم من زعم أن هذا الأمر صار منسوخاً بآية القِتَالِ .
ومنهم من قال : إنه دخله التَّخصيص .
وزعم أبو جعفر محمد بن علي البَاقِر أن هذا العموم باقٍ على ظاهره ، ولا حاجة إلى التخصيص ، ويدلّ عليه أن موسى وهارون مع عُلوّ منصبهما أُمِرَا بالرِّفْق واللِّين مع فرعون ، وكذا محمد صلى لله عليه وسلم أمر بالرفق وترك الغِلْظَة بقوله : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة } [ النحل : 125 ] .
وال : { وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعام : 108 ] .
وقوله : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] .
وقوله : { وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] .
وأما ما تمسكوا به من أنه يجب لعنهم وذمهم .
قلنا : لا نسلّم أنه يجب لعنهم ، وإن سلّمنا لكن لا نسلّم أن اللّعن ليس قَوْلاً حسناً .
بيانه : أنّ القول الحسن ليس عبارة عن القول الذي يستهوونه ، بل القول الحسن هو الذي يحصل انتفاعهم به ، ونحن إذا لعنَّاهم وذَمَمْنَاهم ليرتدعوا به عن الفعل القبيح كان ذلك نافعاً في حقهم ، فكان قولاً حسناً ، كما أن تغليظ الوالد لولده في القول يكون حسناً ونافعاً من حيث يَرْتَدِعُ به عن الفعل القبيح .
سلمنا أنّ لعنهم ليس قولاً حسناً ، ولكن لا نسلّم أن وجوبه ينافي وجوب القول الحسن .
بيانه : أنه لا مُنَافَاةَ بين كون الشخص مستحقًّا للتعظيم بسبب إحسانه إلينا ، ومستحقًّا للتحقير بسبب كفره ، وإذا كان كذلك ، فلم لا يجوز أن يقال بوجوب القول الحَسَنِ معهم ، وأما تمسّكهم بقوله تعالى :
{ لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [ النساء : 148 ]
فجوابه : لِمَ يجوز أن يكون المراد منه كشف حال الظالم ليحترز الناس عنه [ وهو المراد بقوله عليه السلام « اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس »
] . فصل في أن الإحسان كان واجباً عليهم
ظاهر الآية يدلّ على أن الإحسان إلى ذي القربى واليتامى والمساكين كان واجباً علهيم في دينهم ، وكذا القول الحسن للناس كان واجباً عليهم؛ لأن أخذ الميثاق يدلّ على الوجوب ، وذلك لأن ظاهر الأمر للوجوب ، والأمر في شرعنا أيضاً كذلك من بعض الوجوه ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه : أن الزّكاة نسخت كلّ حق ، وهذا ضعيف؛ لأنه لا خلاف أن من اشتدت به الحاجة ، وشاهدناه بهذه الصفة ، فإنه يلزمنا التصدق عليه ، وإن لم يجب علينا الزكاة حتى أنه إن لم تندفع حاجتهم بالزَّكَاةِ كان هذا التصدّق واجباً ، ولا شك في وجوب مُكَالمة الناس بطريق لا يتضررون منه .
قال ابن عَبَّاس معنى الآية : « قولوا لهم لا إله إلا الله » .
وفسّره ابن جريج : « قولوا للناس حسناً صدقاً في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا يتغيّروا صفته » .
وقال سفيان الثوري : مروهم بالمعروف وأنْهوهم عن المنكر .
وقال أبو العالية : « قولوا لهم الطّيب من القول ، وجاوزهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به » ، وهذا كلّه حضٌّ على مكارم الأخلاق ، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لَيْناً حسناً ، كما قال تعالى لموسى وهارون : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } [ طه : 44 ] .
وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة : « لاَ تَكُوني فَحَّاشَةً فَإِنَّ الفُحْشَ لَوْ كَانَ رَجُلاً لَكَانَ رَجُلَ سُوءٍ » ، ويدخل في هذه الآية المؤمن والكافر .
قوله : « وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وآتُوا الزَّكَاةَ » تقدم نظيره .
وقال ابن عطية : « زكاتهم هي التي كانوا يضعونها ، وتنزل النَّار على ما تقبل منه ، ولم تنزل على ما لم يتقبل ، ولم تكن كزكاتنا .
قال القرطبي : : وهذا يحتاج إلى نَقْل . . . » .
قوله : « ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ » .
قال الزمخشري : « وهذا على طريقة الالتفات » وهذا الذي قاله إنما يجيء على قراءة : « لاَ يَعْبُدُونَ » بالغيبة ، وأما على قراءة الخطاب فلا التفات ألبتَّة ، ويجوز أن يكون أراد بالالتفات الخروج من خطاب بني إسرائيل القدماء إلى خطاء الحاضرين في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم [ وقد قيل ذلك ] ويؤيده قوله تعالى : « إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ » .
قيل : يعني بهم الذين أسلموا في زمانه عليه الصلاة والسلام كعبد الله بن سَلام وأضرابه ، فيكون التفاتاً على القِرَاءتين .
ثم قال ابن الخطيب : الآية تحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون المُرَاد من تقدم من بني إسرائيل ، لأنه تعالى قد سَاقَ الكلام الأول في إظهار النعم بإقامة الحجج ثم بيّن بعد أنهم تولوا إلا قليلاً ، فإنهم بقوا على ما دخلوا فيه ، فإنّ أول الكلام في المتقدمين ، فالظاهر يقتضي أن آخره فيهم ، إلا بدليل يوجب الانصراف عن الظاهر .
وثانيها : أنه خطاب للحاضرين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، يعني : أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أَسْلاَفكم؛ لأنه خطاب مشافهة ، وهو بالحاضرين أليق .
وثالثها : أن يكون المراد بقوله : « ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ » من تقدم؛ لأنه تعالى لما بين أنه تعالى أنعم عليهم بتلك النّعم ثم تولّوا عنها بعد ذلك كان ذلك دالاًّ على نهاية قبح أفعالهم ، ويكون قوله : وأنتم معرضون مختصاً بمن كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أي : انكم بمنزلة المتقدّمين الذين تولّوا بعد أخذ المواثيق ، فإنكم بعد إطّلاعكم على صدق دلائل النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعرضتم عنه ، فكنتم بهذا الإعراض بمثابة أولئك المتقدمين [ الذين تولّوا بعد أخذ المواثيق بذلك الشِّرك ] في ذلك التولي والله أعلم .
و « قليلاً » منصوب على الاستثناء؛ لأنه من موجب .
وقال القرطبي : المستثنى عند سيبويه منصوب؛ لأنه مشبه بالمَفْعُول .
وقال محمد بن يزيد : هو المفعول حقيقة؛ لأن معناه : استثنيت قليلاً .
وروي عن أبي عمرو وغيره : « إلاَّ قَلِيلٌ » بالرفع ، وفيه ستّة أقوال :
أصحها : أن رفعه على الصفة بتأويل « إلاّ » وما بعدها بمعنى « غَيْر » ، وقد عقد سيبويه رحمه الله في كتابه لذلك باباً فقال : « هذا باب ما يكن فيه » إلاَّ « ما بعدها وصفاً بمنزلة غَيْر ومثل » وذكر من أمثلة هذا الباب : « لو كان معنا رجلٌ إلا زيدٌ لغُلِبْنَا » و { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] .
قال الطويل :
623 . . ... قَلِيلٌ بِهَا الأَصْوَاتُ إِلاَّ بُغَامُهَا
وسَوَّى بين هذا وبين قراءة : { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر } [ النساء : 95 ] برفع « غير » وجوز في نحو : « ما قام القومُ إلا زيدٌ » بالرفع البدل والصِّفةن وخرج على ذلك قوله : [ الوافر ]
624 وَكُلّ أخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أبِيكَ إلاَّ الفَرْقَدَانِ
كأنه قيل : « وكلُّ أخٍ غيرُ الفَرْقَدَين مُفَارِقُهُ أخُوهُ » ؛ كما قال الشَّمَّاخ : [ الطويل ]
625 وَكُلُّ خَلِيلٍ غَيْرُ هَاضِمِ نَفْسِهِ ... لِوَصلِ خَلِيلٍ صَارٍمٌ أَو مُعَارِزُ
وأنشد غيره : [ الرمل ]
626 لِدَمٍ ضَائِعٍ تَغَيَّبَ عَنْهُ ... أَقْرَبُوهُ إلاَّ الصَّبَا والجَنُوبُ
وقوله : [ البسيط ]
627 وَبِالصَّرِمَةِ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ خَلَقٌ ... عَافٍ تَغَيَّرَ إلاَّ النُّؤْيُ والوَتِدُ
والفرق بين الوصف « إلاَّ » والوصْفِ بغيرها أنَّ « إلاَّ » توصف بها المعارفُ والنكرات ، والظاهرُ والمضمرُ .
وقال بعضهم : « لا توصف بها إلا النكرة أو المعرفة بلام الجنس ، فإنه في قوة النكرة » .
وقال المبرِّد : « شرطه صلاحية البدلِ في موضعه » .
الثاني : أنه عطف بيان ، قاله ابن عصفور .
وقال : « إنما يعني النحويون بالوصف » إلاَّ « عطف البيان » ، [ وفيه نظرٌ ] .
الثالث : أنه مرفوع بفعل مَحْذُوف ، كأنه قال : امتنع قليل .
الرابع : أن يكون مبتدأ وخبره محذوف ، أي إلاَّ قليل منكم لم يتولّوا ، كما قالوا « مامررت بأحد إلاّ رجلٌ من بني تميم خيرٌ منه » .
الخامس : أنه توكيد للضمير المرفوع ، ذكر هذه الأوجه أبو البقاء .
وقال : سيبويه وأصحابه يسمونه نعتاً ووصفاً يعني التوكيد ، وفي هذه الأوجه التي ذكرها ما لا يخفى ، ولكنها قد قيلت .
السادس : أنه بدلٌ من الضمير « تولّيتم » .
قال ابن عطية : وجاز ذلك مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي؛ لأنَّ « توليتم » معناه النفي كأنه قال : لم تَفُوا بالميثاق إلا قليل ، وهذا الذي ذكره مِنْ جَوَاز البدل منعه النحويون ، فلا يجيزون « قام القوم إلا زيد » على البدل .
قالوا : لأن البدل يَحُلّ محلّ المبدل منه فيؤول إلى قولك : « قام إلا زيد » ، وهو ممتنع .
وأما قوله : إنه في تأويل النفي ، فما من موجب إلاَّ يمكن فيه ذلك ، ألا ترى أن قولك : « قام القوم إلا زيد » في حكم قوله : « لم يجلسوا إلاَّ زيد » ، فكل موجب إذا أخذت نفي نقيضه أو ضده كان كذلك ، ولم تعتبر العرب هذا في كلامها ، وإنما أجاز النحويون :
« قام القوم إلا زيد » بالرفع على الصيغة كما تقدم تقديره .
و « منكم » صفة ل « قَلِيلاً » فيه في محل نصب ، أو رفع على حسب القراءتين ، والظاهر أن القليل مراد بهم الأشخاصُ لوصفه بقوله : « مِنْكُمْ » .
وقال ابن عطية : « ويُحْتَمَل أن تكون القلة في الإيمان ، أي : لم يبق حينَ عَصَو وكمفروا آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إيمان قليل ، إذ لا ينفعهم ، والأول أقوى » انتهى .
وهذا قول بعيد جدّاً أو ممتنع .
« وأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ » جملة من مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال من فاعل « تَوَلَّيْتُمْ » وفيها قولان :
أحدهما : أنها حال مؤكِّدة؛ لأن التولّي والإعراَ مُتَرَادفان ، وقيل مبيِّنة ، فإن التولي باليدين والإعراض بالقلب ، قاله أبو البقاء .
وقال بعده : وقيل : « تَوَلَّيْتُمْ » يعني آباءهم ، و « وأنتم معرضون » يعني أنفسهم ، كما قال : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } [ البقرة : 49 ] أي آباءهم انتهى .
وهذا يؤدّي إلى أن جلمة قوله : « وأنْتُمْ معْرِضُونَ » لا تكون حالاً؛ لأن فاعل التولّي في الحقيقة ليس هو صَاحِبَ الحال والله أعلم .
وكذلك تكون « مبيّنة » إذا اختلف متعلّق التولي والإراض كما قال بعضهم : ثم توليتم عن أخذ ميثاقكم ، وأنتم معرضون عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم .
وقيل : التولّي والإعراض مأخوذان من سلوك الطريق ، وذلك أنه إذا سلك طريقاً ورجع عَوْدَه على بَدْئه سمي ذلك تولياً ، وإن سلك في عُرْض الطريق سمي إعراضاً .
وجاءت الحال جملة اسمية مصدرة ب « أنتم » ؛ لأنه أكد .
وجيء بخبر المبتدأ اسماً ، لأنه أولّ على الثبوت فكأنه قيل : وأنتم عادتكم التولي والإعراض عن الحق .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
هذا الخطاب كله كالذي قبله : وقوله : « لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ » كقوله : « لاَ تَعْبُدُونَ إَلاَّ اللهَ » في الإعراب سواء .
و « تُسْفِكُونَ » من « أَسْفَك » الرّباعي .
وقرأ طلحة بن مصرف ، وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء وهي لغةن وأبو نهيك « تُسَفْكْونَ » بضم التاء ، وفتح السين وتشديد الفاء .
و « وَلاَ تْخْرِجُونَ » معطوف .
فإن قيل : الإنسان ملجاً إلى ألاَّ يقتل نفسه فأي فائدة في النهي عنه؟
فالجواب من أوجه :
أحدها : أن هذا الإلجاء قد تغير كما ثبت في أهل « الهِنْدِ » أنهم يقدرون في قتل النفس التَّخلُّص من عالم الفساد ، واللحوق بعالم النور والصلاح ، أو كثير ممن صعب عليه الزمان ، وثقل عليه أمر من الأمور ، فيقتل نفسه ، فإذا انتفى كون الإنسان ملجاً إلى ترك قتله نفسه صحّ كونه مكلفاً به .
وثانيها : المراد لا يقتل بعضكم بعضاً ، وجعل غير الرجل نفسه إذا اتّصل به نَسَباً وديناً كقوله تعالى : { فاقتلوا أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 54 ] وثالثها أنه إذا قتل غيره ، فكأنما قتل نفسه؛ لأنه يقتصُّ منه بإقامة المسبّب مقام السَّبب ، وهو قريب من قولهم : « القَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ » ؛ وقال : [ الطويل ]
628 سَقَيْنَاهُمُ كَأْساً سَقَوْنَا بِمِثِلْهَا ... وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى المَوْتِ أَصْبَرَا
وقيل : لا تفسكوا بارتكاب أنفسكم ما يوجب سفكها كالارْتِدَاد نحوه وهو قريب مما قبله .
ورابعها : لا تتعرضوا لمُقَاتلة من يقتلكم ، فتكونوا قد قتلتم أنفسكم .
وخامسها : لا تسفكوا دماءكم من قوامكم في مصالح الدنيا ، فتكونوا مهلكين لأنفكسم .
قوله : « وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ » فيه وجهان .
الأول : لا تفعلون ما تستحقّون بسببه أن تخرجوا من دياركم .
الثاني : المراد النهي عن إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم؛ لأن ذلك مما يعظم فيه المحنة .
« مِنْ دِيَارِكُمْ » متعلّق ب « تخرجون » ، و « من » لابتداء الغاية ، و « ديار » جمع دار الاصل : دَوَرَ؛ لأنه من دَارَ يَدُورُ دَوَرَاناً ، فأصل دِيَار : دِوَار ، وإنما قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، واعتلالها في الواحد .
وهذه قاعدة مطّردة [ في كل جمع على « فِعَالٍ » صحيح اللام قد اعتلت عين مفردة ، أو سكنت حرف علة نحو : ] ديار وثياب ، ولذلك صحّ « رِوَاء » لاعتلال لامه ، و « طِوَال » لتحرك عين مفردة ، وهو « طويل » .
فأما « طيال » في « طوال » فَشَاذّ ، وحكم المصدر حكم هذا نحوك قام قياماً ، وصام صياماً ، ولذلك صح « لِوَاذ » لصحة فعله في قولهم : « لاوذ » .
وأما دَيَّار فهو من لفظه الدار ، وأصله : ديوان ، فاجتمع الياء والواو فأعلاً على القاعدة المعروفة فوزنه : « فَيْعَال » لا « فَعَّال » ، إذ لو كان « فَعَّالاً » لقيل : دَوَّار ك « صَوَّام وقَوَّام » والدَّار : مجتمع القوم من الأَبنية .
وقال الخَلِيلُ : كل موضع حَلَّه الناس ، وإن لم يكن أبنية .
[ وقيل : سميت داراً لدورها على سكانها ، كمى سمي الحائط حائطاً لإحاطته على ما يحويه ] .
و « النفس » مأخوذ من النّفَاسة ، فنفس الإنسان أشرف ما فيه .
وقوله : « ثم أقررتم » .
قال أبو البقاء : فيه وجهان :
أحدهما : أن « ثُمّ » على بابها في إفادة العطف والتراخي ، والمعطوف عليه محذوف تقديره : فَقَبِلْتُمْ ، ثم أقررتم .
والثاني : أن تكون « ثم » جاءت لترتيب الخبر لا لترتيب المخبر عنه ، كقوله تعالى : { ثُمَّ الله شَهِيدٌ } [ يونس : 46 ] .
قوله : « وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ » كقوله : { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } [ البقرة : 83 ] وفيها وجوه : أحدها : أقررتم بالمِيثَاق ، ثم اعترفتم على أنفسكم بلزومه ، وأنتم تشهدون عليها ، كقولك : فلان مقرّ على نفسه بكذا ، شاهد عليها .
وثانيها : اعترفتم بقَبُوله ، وشهد بعضكم على بعض بذلك؛ لأنه كان شائعاً بينكم مشهوراً .
وثالثها : وأنتم تشهدون اليوم ما مَعْشَرَ اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق .
ورابعها : أن المراد بهذا الإقرار الذي هو الرِّضا بالأمر والصبر عليه ، كما يقال فلان لا يقر على الضَّيم ، فيكون المعنى أنه تعالى أمركم بذلك ، ورضيتم به ، وأقمتم عليه ، وشهدتم على وجوبه وصحته .
فإن قيل : لم قال « أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ » والمعنى واحد؟
فالجواب من ثلاثة أوجه :
أحدها : أقررتم يعني أسْلافكم ، وأنتم تشهدون الآن على إقرارهم .
الثاني : أقررتم في وقت المِيثَاقِ الذي مضى ، وأنتم بعد ذلك تشهدون [ بقلوبكم ] .
الثالث : أنه للتأكيد .
قوله : « ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ » فيه سبعة أقوال :
أحدها : وهو الظاهر أن « أنتم » في محل رفع بالابتداء ، وهؤلاء خبره و « تقتلون » « حال ، والعامل فيها اسم الإشارة لما فيه من معنى الفِعْل ، وهي حال منه ليتّحد ذُوا الحال وعاملها .
وقد قالت العرب : » ها أنت ذا قائماً « و » ها أنا ذا قائماً « و » ها هوذَا قائماً « فأخبروا باسم الإشارة عن الضَّمير في اللَّفظ والمعنى على الإخبار بالحال ، فكأنه قال : » أنت الحاضر « ، وأنا الحاضر » ، وهو الحاضر « في هذه الحالة .
ويدل على أن الجملة من قوله : » تَقْتُلُونَ « حال وقوع الحال الصريحة موقعها كما تقدم في : » ها أنا ذا قائماً « ونحوه إلى هذا المعنى نَحَا الزمخشري فقال : » ثُمّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ « استبعاد لما أسند إليهم من القتل والإجلاء بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارِهم وشَهَادتِهم ، والمعنى : ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون : يعني أنكم قوم آخرون غيرُ أولئك المقربين ، تنزيلاً لتغير الصّفة منزلة تغير الذَّات كما تقول : رجعت بغير الوجه الذي خرجت به .
وقوله : « تَقْتُلُونَ » بيان لقوله : « ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ » .
واعترضه أبو حَيَّان فقال : الظاهر أن المشار إليهم بقوله : « ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ » هم المخاطبون أولاً ، فليسوا قوماً آخرين ، ألا ترى أن التقدير الذي قَدَّره الزمخشري من تقدير [ تغير الصّفة منزلة ] تغيّر الذات لا يتأتى في نحو : ها أنا ذا قائماً ، ولا في نحو : ها أنتم هؤلاء ، بل المُخَاطب هو المشار إليه من غير تَغَيُّرٍ .
وأجيب بأن هذا الإيراد بعيد غير واضح .
والثاني : أن « أنتم » أيضاً مبتدأ ، و « هؤلاء » خبره ، ولكن بتأويل حذف مضاف تقديره : ثم أنتم مِثْلُ هؤلاء ، و « تقتلون » حال ايضاً ، العامل فيها معنى التشبيه ، إلا أنه يلزم منه الإشَارة إلى غائبين؛ لأن المراد بهم أَسْلاَفهم علىهذا ، وقد يقال : إنه نزل الغائب منزلة الحاضر .
الثالث : ونقله « ابن عطية » عن شيخه « ابن الباذش » أن « أنتم » خبر متقدم ، و « هؤلاء » مبتدأ مؤخر . وهذا فاسد؛ لأن المبتدأ أو الخبر متى استويا تعريضاً وتنكيراً لم يَجُزْ تقدم الخبر ، وإن ورد منه ما يوهم فمتأول .
الرابع : أن « أنتم » مبتدأ و « هؤلاء » مُنَادى حذف منه حرف النِّدَاء ، وتقلتون خبر المبتدأ ، وفصل بالنداء بين المبتدأ وخبره .
وهذا لا يجيزه جمهور البصريين إنما قال به « الفراء » وجماعة؛ أنشدوا : [ البسيط ]
629 إِنَّ الأُولى وَصَفُوا قَوْمِي لَهُمْ فَبِهِمْ ... هَذَا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَنْ عَادَاكَ مَخْذُولاَ
أي : يا هذا ، وهذا لا يجوز عند البصريين ، ولذلك لُحِّنَ المتنبي في قوله : [ الكامل ]
630 هَذِي بَرَزْتِ لَنَا فَهِجْتِ رَسِيَا .. .
وفي البيت كلام طويل .
الخامس : أن « هؤلاء » موصول بمعنى « الذي » ، و « تقتلون » صلته ، وهو خبر عن « أنتم » أي : أنتم الذين تقتلون . وهذا لا يجيزه جمهور البصريين إنما قال به « الفراء » وجماعة؛ أنشدوا : [ البسيط ]
631 .. نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
أي : والذي تحملين ، ومثله : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ } [ طه : 17 ] يعني : وما التي؟
السادس : أنَّ « هؤلاء » منصوب على الاختصاص ، بإضمار « أعني » و « أنتم » مبتدأ ، و « يقتلون » خبره ، اعترض بينهما بجملة الاختصاص ، وإليه ذهب ابن كَيْسَان . وهذا لا يجوز ، لأن النحويين قد نصّوا على أن الاختصاص لا يَكُون بالنكرات ، ولا أسماء الإشارة ، والمستقرأ من لسان العرب أن المنصوب على الاختصاص : إما « أي » نحو : « اللهم اغفر لنا أيتها العِصَابة » أو معرف ب « أل » نحو : نحن العَرَبَ أَقْرَى النَّاس للضيف ، أو بالإضافة نحو : نحن مَعَاشِرَ الأنبياء لا نورّث ، وقد يجيء كقوله : [ الرجز ]
632 بِنَا تَمِيماً يُكْشَفُ الضَّبَابُ ...
وأكثر ما يجيء بعد ضمير تكلُّم كما تقدم ، وقد يجيء مخاطب كقولهم : « بك الله نرجو الفضل » .
السابع : أن يكون « أَنْتُمْ هَؤُلاَء » على ما تقدّم من كونهما مبتدأ أو خبر ، والجُمْلة من « تقتلون » مستأنفة مبينة للجملة قبلها ، يعني : أنتم هؤلاء الأشخاص الحَمْقَى ، وبيان حَمَاقتكم وقلّة عقلوكم أنكم تقتلون أنفسكم ، وتخرجون فريقاً منكم من دِيَارِهِمْ ، وهذا ذكره الزَّمخشري في آل عمران في قوله : { هاأنتم هؤلااء حَاجَجْتُمْ } [ آل عمران : 66 ] ولم يذكر هنا ، وسيأتي بنصه إن شاء الله تعالى .
قوله : « تَظَاهَرُونَ » هذه الجملة في محلّ نصب على الحال من فاعل « تُخْرجون » وفيها خمس قراءات : « تَظَّاهرُون » بتشديد الظَّاء ، والأصل : تتظاهرون فأُدغم لقرب الظاء من التاء .
و « تَظَاهَرُون » مخففاً ، والأصل كما تقدم ، إلا أنه خفّفه بالحذف ، وهل المحذوف الثانية وهو الأَوْلَى؛ لحصول الثقل بها ، ولعدم دلالتها على معنى المُضَارعة ، أو الأُولَى كما زعم هشام؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
633 تَعَاطَسُونَ جَمِيعاً حَوْلَ دَارِكُمُ ... فَكُلُّكُمْ يَابَنِي حَمْدَانِ مَزكُومُ
أراد : تتعاطسون فحذف .
و « تَظَّهَّرُون » بتشديد الظاء والهاء .
و « تَظَاهَرُون » من « تَظَاهر » و « تَتَظَاهَرُونَ » على الأصل من غير حذف ، ولا إدْغَام وكلهم يرجع إلى معنى المعاونة والتَّنَاصُر من المظاهرة ، كأن كل واحد منهم يسند ظَهْرَهُ للآخر ليتقوّى به ، فيكون له كالظَّهر؛ قال : [ الطويل ]
634 تَظَاهَرْتُمُ أَسْتَاهَ بَيْتٍ تَجَمَّعَتْ ... عَلَى وَاحِدٍ لاَ زِلْتُمُ قِرْنَ وَاحِدِ
قال ابن الخطيب : الآية تدلّ على أن الظُّلم كما هو محرم ، فإعانة الظالم على ظلمه محرمة .
فإن قيل : أليس أن الله تعالى لما أقدر الظَّالم على الظّلم ، وأزال العوائق والموانع ، وسلط عليه الشهوة الدّاعية إلى الظلم كمان قد أعانه على الظلم ، فلو كانت إعانة الظالم على ظلمه قبيحةً لوجب ألاَّ يوجد ذلك من الله تعالى؟
والجواب : أنه تعالى وإن مكّن الظَّالم من ذلك فقد زَجَرَهُ عن الظلم بالتَّهْديد والزجر ، بخلاف المعني للظالم على ظلمه ، فإنه يرغبه فيه ، ويحسنه له ويدعوه إليه فظهر الفرق .
و « الإثم » في الأصل : الذنب ، وجمعه « آثام » ، ويطلق على الفعل الذي يستحقّ به صاحبه الذّم واللوم .
وقيلك هو ما تَنْفِرُ منه النفس ، ولا يطمئنّ إليه القَلْب ، فالإثْمُ في الآية يحتمل إن يكون مراداً به [ أحد ] هذه المعاني ويحتمل أن يتجوّز به عما يوجب الإثم من إقامة السَّبب مقام السَّبب مقام المسببح كقوله : [ الوافر ]
635 شَرِبءتُ الإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بِالعُقُولِ
فعبر عن الخمر بالإثم ، لما كان مسبَّباً عنها .
فصل في معنى العدوان واشتقاقه
و « العُدْوَان » : التجاوز في الظلم ، وقد تقدم في { يَعْتَدُونَ } [ البقرة : 61 ] وهو مصدر ك « الكُفْرَان والغُفْرَان » والمشهور ضمّ فائه ، وفيه لغة بالكَسْر .
قوله : « وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ » « إن » شرطية ، و « يأتوكم » مجزوم بها بحذف النون والمخاطب مفعول .
و « أسارى » حال من الفاعل في « يأتوكم » .
وقرأ الجماعة غير حمزة « أُسارى » وقرأ هو : « أَسْرَى » وقرء : : أَسَارَى « بتفح الهمزة ، فقراءة الجماعة تحتمل أربعة أوجه :
أحدها : أنه جُمِعَ جَمْع » كَسْلاَن « لما جمعهما من عدم النَّشَاط والتصرف ، فقالوا : » أسير وأسارى « بضم الهمزة ك » كَسْلاَن وكُسَالَى « و » سَكْرَان وسُكَارى « ، كما أنه قد شبه كَسْلان وسَكْران به فجمعا جمعه الأصلي الذي هو على » فعلى « فقالوا : كسلان وكَسْلى ، وسكران وسَكْرى لقولهم : أسير وأسرى .
قال سيبويه : فقالوا : في جمع كَسْلان كَسْلَى شبّهوه ب » أَسْرَى « . كما قالوا : أُسارى شبَّهوه ب » كَسَالى « ، ووجه الشبه أنَّ الأسْر يدخل على المرء كرهاً كما يدخل الكَسَل .
قال بعضهم : والدَّليل على اعتبار هذا المعنى أنهم جمعوا » مريضاً وميتاً وهالكاً « على » فَعْلَى « فقالوا : » مرضى وموتى وهَلْكَى « لما جمعها المَعْنَى الذي في » قَتْلَى وجَرْحَى « .
الثَّاني : أنَّ » أُسَارى « جمع » أسير « ، وقد وجدنا » فَعِيلاً « يجمع على » فُعَالى « قالوا : شيخ قديم ، وشيوخ قُدَامى . وفيه نظر ، فإن هذا شاذ لا يقاس عليه .
الثالث : أنه جمع » أسير « أيضاً ، وإنما ضموا الهمزة من » أُسَارى « وكان أصلها الفَتْح ك » نديم ونُدَامى « كما ضمت الكاف والسين من » كُسَالى « و » سُكَارى « وكان الأصل فيهما الفتح نحوك » عَطْشَان وعَطَاشى « .
الرابع : أنه جمع » أسرى « الذي هو جمع » أسير « فيكون جمع الجمع .
وأما قراءة حمزة فواضحة؛ لأن » فَعْلَى « ينقاس في » فعيل « نحو : » جريح وجرحى « و » قتيل وقَتْلَى « و » مريض ومرضى « .
وأما » أَسَارَى « بالفتح فقد تقدم أنها أصل أُسَارَى بالضم عند بعضهم ، ولم يَعْرِفْ أهل اللُّغَة فرقاً بين » أُسَارَى « و » أَسْرَى « إلاَّ ما حكاه أبو عُبَيْدَة عن أبي عمرو بن العلاء ، فإنه قال : » ما كان في الوَثَاقِ « فهم الأُسَارَى ، وما كان في اليد ، فهم الأَسْرَى » ونقل بعضهم عنه الفرقَ بمعنًى آخر ، فقال : « ما جاء مستأسراً فهم الأسْرَى ، وما صار في أيديهم ، فهم الأُسَارَى » ، وحكى النقَّاشُ من ثَعْلَبِ؛ أنه لما سمع هذا الفَرْق قال : « هذا كلامُ المَجَانِينِ » ، وهي جُرْآة منه على أبي عمرو ، وحكى عن المبرِّد أنه يقال : « أسِير وأُسَرَاء » ك « شَهِيدٍ وشُهَدَاء » و « الأَسير » : مشتقٌّ من « الإسَارِ » وهو القَيْدُ الذي يُرْبَطُ به من المحمل ، فسمي الأسير أسيراً ، وإن لم يُرْبَط ، والأَسْر : الخلْقُ في قوله :==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...